٦١

فمن حاجك فيه . . . . .

{فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ } أي : من نازعك وجادلك ، وهو من باب المفاعلة التي تكون بين اثنين ، وكان الأمر كذلك بينه صلى اللّه عليه وسلم وبين وفد نجران .

والضمير في : فيه ، عائد على عيسى ، لأن المنازعة كانت فيه ، ولأن تصدير الآية السابقة في قوله :{ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى } وما بعده جاء من تمام أمره ،

وقيل : يعود على الحق ، وظاهر من العموم في كل من يحاجّ في أمر عيسى .

وقيل : المراد وفد نجران .

و : من ، يصح أن تكون موصولة ، ويصح أن تكون شرطية ، و : العلم هنا : الوحي الذي جاء به جبريل ،

وقيل : الآيات المتقدّمة في أمر عيسى ، الموجبة للعمل . و : ما ، في : ما جاءك ، موصولة بمعنى : الذي ، وفي : جاءك ، ضمير الفاعل يعود عليها . و : من العلم ، متعلق بمحذوف في موضع الحال ، أي : كائناً من العلم . وتكون : من ، تبعيضية . ويجوز أن تكون لبيان الجنس على مذهب من يرى ذلك ، قال بعضهم ، ويخرج على قول الأخفش : أن تكون : ما ، مصدرية ، و : من ، زائدة ، والتقدير : من بعد مجيء العلم إياك .

{فَقُلْ تَعَالَوْاْ } قرأ الجمهور بفتح اللام وهو الأصل والقياس ، إذا التقدير تفاعل ، وألفة منقلبة عن ياء وأصلها واو ، فإذا أمرت الواحد

قلت : تعال ، كما تقول : إخش واسعَ .

وقرأ الحسن ، وأبو واقد ، وأبو السمال : بضم اللام ، ووجههم أن أصله : تعاليوا ، كما تقول : تجادلوا ، نقل الضمة من الياء إلى اللام بعد حذف فتحتها ، فبقيت الياء ساكنة وواو الضمير ساكنة فخذفت الياء لإلتقاء الساكنين ، وهذا تعليل شذوذ .

{نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ } أي : يدعُ كل مني ومنكم أبناءه ونساءه ونفسه إلى المباهلة . وظاهر هذا أن الدعاء والمباهلة بين المخاطب : بقل : وبين من حاجه ، وفسر على هذا الوجه : الأبناء بالحسن والحسين ، و : بنسائه : فاطمة ، و : الأنفس بعلىّ . قال الشعبي : ويدل على أن ذلك مختص بالنبي صلى اللّه عليه وسلم مع حاجة ما ثبت في صحيح مسلم من حديث سعد بن أبي وقاص ، قال : لما نزلت هذه الآية :{ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ } دعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : فاطمة وحسناً وحسيناً ، فقال : { اللّهم هؤلاء أهلي} .

وقال قوم : المباهلة كانت عليه وعلى المسلمين ، بدليل ظاهر قوله ندع أبناءنا وأبناءكم على الجمع ، ولما دعاهم دعا بأهله الذين في حوزته ، ولو عزم نصارى

نجران على المباهلة وجاؤا لها ، لأمر النبي صلى اللّه عليه وسلم المسلمين أن يخرجوا بأهاليهم لمباهلته .

وقيل : المراد : بأنفسنا ، الإخوان ، قاله ابن قتتيبة .

قال تعالى : { وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ } أي : إخوانكم .

وقيل : أهل دينه ، قاله أبو سليمان الدمشقي .

وقيل : الأزواج ،

وقيل : أراد القرابة القريبة ، ذكرهما عليّ بن أحمد النيسابوري .

{ثُمَّ نَبْتَهِلْ } أي : ندع بالالتعان .

وقيل : نتضرّع إلى اللّه ، قاله ابن عباس . وقال مقاتل : نخلص في الدعاء . وقال الكلبي : نجهد في الدعاء .

وقيل : نتداعى بالهلاك .

{فَنَجْعَل لَّعْنَتُ اللّه عَلَى الْكَاذِبِينَ } أي : يقول كل منا : لعن اللّه الكاذب منا في أمر عيسى ، وفي هذا دليل على جواز اللعن لمن أقام على كفره ، وقد لعن صلى اللّه عليه وسلم اليهود . قال أبو بكر الرازي : وفي الآية دليل على أن الحسن والحسين ابنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وقال أبو أحمد بن علان : كانا إذ ذاك مكلفين ، لأن المباهلة عنده لا تصح إلاَّ من مكلف .

وقد طوّل المفسرون بما رووا في قصة المباهلة ، ومضمونها أنه دعاهم إلى المباهلة ، وخرج بالحسن والحسين وفاطمة وعليّ إلى الميعاد ، وأنهم كفوا عن ذلك ، ورضوا بالإقامة على دينهم وأن يؤدّوا الجزية ، وأخبرهم أحبارهم أنهم إن باهلوا عذبوا ، وأخبر هو صلى اللّه عليه وسلم أنهم إن باهلوا عذبوا ، وفي ترك النصارى الملاعنة لعلمهم بنبوّته شاهد عظيم على صحة نبوّته .

قال الزمخشري :

فإن قلت : ما كان دعاؤه إلى المباهلة إلاَّ لتبيين الكاذب منه ومن خصمه ، وذلك أمر يختص به وبمن يكاذبه ، فما معنى ضم الأبناء والنساء ؟ .

قلت : ذلك آكد في الدلالة على ثقته بحاله ، واستيقانه بصدقه ، حيث استجرأ على تعريض نفسه له ، وعلى ثقته بكذب خصمه حتى يهلك خصمه مع أحبته وأعزته هلاك الاستئصال إن تمت المباهلة . وخص الأبناء والنساء لأنهم أعز الأهل ، وألصقهم بالقلوب . وربما فداهم الرجل بنفسه وحارب دونهم حتى يقتل ، ومن ثم كانوا يسوقون مع أنفسهم الظعائن في الحروب لتمنعهم من الهرب ، ويسمون الذادة عنها بأرواحهم حماة الحقائق ، وقدّمهم في الذكر على الأنفس لينبه على لطف مكانهم ، وقرب منزلتهم ، وليؤذن بأنهم مقدّمون على الأنفس يفدون بها ، وفيه دليل لا شيء أقوى منه على فضل أصحاب الكساء عليهم السلام ، وفيه برهان واضح على صحة نبوّة النبي صلى اللّه عليه وسلم ، لأنه لم ير واحد من موافق ولا مخالف أنهم أجابوا إلى ذلك . إنتهى كلامه .

و

قال ابن عطية : وما رواه الرواة من أنهم تركوا الملاعنة لعلمهم بنبوّته أحج لنا على سائر الكفرة ، وأليق بحال محمد صلى اللّه عليه وسلم ، ودعاء النساء والأبناء للملاعنة أهز للنفوس وأدعى لرحمة اللّهأو لغضبه على المبطلين ، وظاهر الأمر أن النبي صلى اللّه عليه وسلم جاءهم بما يخصه ، ولو عزموا استدعى المؤمنين بأبنائهم ونسائهم ، ويحتمل أنه كان يكتفي بنفسه وخاصته فقط . إنتهى .

وفي الآية دليل على المظاهرة بطريق الإعجاز على من يدعي الباطل بعد وضوح البرهان بطريق القياس ، ومن أغرب الاستدلال ما استدلّ به من الآية محمد بن عليّ الحمصي . وكان متكلماً على طريق الإثنى عشرية . على : أن علينا أفضل من جميع الأنبياء سوى محمد صلى اللّه عليه وسلم. قال : وذلك أن قوله تعالى :{ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ } ليس المراد نفس محمد صلى اللّه عليه وسلم ، لأن الإنسان لا يدعو نفسه ، بل المراد غيره . وأجمعوا على أن الذي هو غيره : عليّ ، فدلت الآية على أن نفسه نفس الرسول ، ولا يمكن أن يكون عينها ، فالمراد مثلها ، وذلك يقتضي العموم إلاَّ أنه ترك في حق النبوّة الفضل لقيام الدليل ودل الإجماع على أنه كان صلى اللّه عليه وسلم أفضل من سائر الأنبياء ، فلزم أن يكون عليّ كذلك .

قال : ويؤكد ذلك الحديث المنقول عنه من الموافق والمخالف : { من أراد أن يرى آدم في علمه ، ونوحاً في طاعته ، وإبراهيم في حلمه ، وموسى في قومه ، وعيسى في صفوته فلينظر إلى عليّ بن أبي طالب} . فيدل ذلك على أنه اجتمع فيه ما كان متفرقاً فيهم .

قال : وذلك يدل على أنه أفضل من جميع الأنبياء والصحابة .

وأجاب الرازي : بأن الإجماع منعقد على أن النبي صلى اللّه عليه وسلم أفضل ممن ليس بنبي ، وعليّ لم يكن نبياً ، فلزم القطع بأنه مخصوص في حق جميع الأنبياء .

وقال الرازي : استدلال الحمصي فاسد من وجوه .

منها قوله : إن الإنسان لا يدعو نفسه بل يجوز للإنسان أن يدعو نفسه ، تقول العرب : دعوت نفسي إلى كذا فلم تجبني ، وهذا يسميه أبو علي بالتجريد .

ومنها قوله : وأجمعوا على أن الذي هو غيره هو عليّ ، ليس بصحيح ، بدليل الأقوال التي سيقت في المعنى بقوله : وأنفسنا .

ومنها قوله : فيكون نفسه مثل نفسه ، ولا يلزم من المماثلة أن تكون في جميع الأشياء ، بل تكفي المماثلة في شيء مّا ، هذا الذي عليه أهل اللغة ، لا الذي يقوله المتكلمون : من أن المماثلة تكون في جميع صفات النفس ، هذا اصطلاح منهم لا لغة . فعلى هذا تكفي المماثلة في صفة واحدة ، وهي كونه من بني هاشم ، والعرب تقول : هذا من أنفسنا ، أي : من قبيلتنا .

وأما الحديث الذي استدل به فموضوع لا أصل له . وهذه النزغة التي ذهب إليها هذا الحمصي من كون علي أفضل من الأنبياء عليهم السلام سوى محمد صلى اللّه عليه وسلم ، وتلقفها بعض من ينتحل كلام الصوفية ، ووسع المجال فيها ، فزعم أن الولي أفضل من النبي ، ولم يقصر ذلك على وليّ واحد ، كما قصر ذلك الحمصي ، بل زعم : أن رتبة الولاية التي لا نبوة معها أفضل من رتبة النبوة . قال : لأن الولي يأخذ عن اللّه بغير واسطة ، والنبي يأخذ عن اللّه بواسطة ومن أخذ بلا واسطة أفضل ممن أخذ بواسطة . وهذه المقالة مخالفة لمقالات أهل الإسلام . نعوذ باللّه من ذلك ، ولا أحد أكذب ممن يدعي أن الولي يأخذ عن اللّه بغير واسطة ، لقد يقشعرّ المؤمن من سماع هذا الافتراء

وحكى لي من لا أتهمه عن بعض المنتمين ، إلى أنه من أهل الصلاح ، أنه رؤي في يده كتاب ينظر فيه ، فسئل عنه . فقال : فيه ما أخذته عن رسول اللّه ، وفيه ما أخذته عن اللّه شفاهاً ، أو شافهني به ، الشك من السامع . فانظر إلى جراءة هذا الكاذب على اللّه حيث ادعى مقام من كلمه اللّه : كموسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام وعلى سائر الأنبياء

قيل : وفي هذه الآية ضروب من البلاغة : منها إسناد الفعل إلى غير فاعله ، وهو : { إِذْ قَالَ اللّه ياعِيسَى عِيسَى } واللّه لم يشافهه بذلك ، بل بإخبار جبريل أو غيره من الملائكة . والاستعارة في :{ مُتَوَفّيكَ } وفي :{ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ } والتفصيل لما أجمل في :{ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ } بقوله : فأما ،

وأمّا ، والزيادة لزيادة المعنى في { مّن نَّاصِرِينَ } أو : المثل في قوله { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى} والتجوز بوضع المضارع موضع الماضي في قوله { نَتْلُوهُ } وفي { فَيَكُونُ } وبالجمع بين أداتي تشبيه على قول في { كَمَثَلِ ءادَمَ } وبالتجوز بتسمية الشيء باسم أصله في { خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} وخطاب العين ، والمراد به غيره ، في { فَلاَ تَكُن مّنَ} والعام يراد به الخاص في { تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا } الآية

والتجوز بإقامة ابن العم مقام النفس على أشهر الأقوال ، والحذف في مواضع كثيرة .

﴿ ٦١