٧٨وإن منهم لفريقا . . . . . {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا } أي : من اليهود ، قاله الحسن : أو : من أهل الكتابين ، قاله ابن عباس . وعن ابن عباس أيضاً : هم اليهود الذين قدموا على كعب بن الأشرف غيّروا التوراة . وكتبوا كتاباً بدلوا فيه صفة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ثم أخذت قريظة ما كتبوه فخلطوه بالكتاب الذي عندهم . {يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ } أي : يفتلونها بقراءته عن الصحيح إلى المحرف ، قاله الزمخشري و قال ابن عطية : يحرفون ويتحيلون لتبديل المعاني من جهة اشتباه الألفاظ واشتراكها وتشعب التأويلات فيها ، ومثال ذلك قولهم : راعنا ، وأسمع غير مسمع ، ونحو ذلك وليس التبديل المحض . انتهى . والذي يظهر أن الليّ وقع بالكتاب أي : بألفاظه لا بمعانيه وحدها كما يزعم بعض الناس ، بل التحريف والتبديل وقع في الألفاظ ، والمعاني تبع للألفاظ ، ومن طالع التوراة علم يقيناً أن التبديل في الألفاظ والمعاني ، لأنها تضمنت أشياء يجزم العاقل أنها ليست من عند اللّه ، ولا أن ذلك يقع في كتاب إلهي من كثرة التناقض في الإخبار والأعداد ونسبة أشياء إلى اللّه تعالى من الأكل والمصارعة وغير ذلك ، ونسبة أشياء إلى الأنبياء من الكذب والسكر من الخمر والزنا ببناتهم . وغير ذلك من القبائح التي ينزه العاقل نفسه عن أن يتصف بشيء منها ، فضلاً عن منصب النبوة . وقد صنف الشيخ علاء الدين علي بن محمد بن خطاب الباجي ، رحمه اللّه تعالى ، كتاباً في { السؤالات على ألفاظ التوراة ومعانيه} ومن طالع ذلك الكتاب رأى فيه عجائب وغرائب ، وجزم بالتبديل لألفاظ التوراة ومعانيها ، هذا مع خلوها من ذكر : الآخرة ، والبعث ، والحشر ، والنشر ، والعذاب والنعيم الأخرويين ، والتبشير برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وأين هذا من قوله تعالى { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِىَّ الامّىَّ الَّذِى يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِى التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ } وقوله تعالى وقد ذكر رسوله وصحابته .{ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِى التَّوْرَاةِ} وقد نص تعالى في القرآن على ما يقتضي إخفاءهم لكثير من التوراة ، قال تعالى :{ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِى جَاء بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً } وقال تعالى { يَصْنَعُونَ يَأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيّنُ لَكُمْ كَثِيراً مّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ } فدلت هاتان الآيتان على أن الذي أخفوه من الكتاب كثير ، ودل بمفهوم الصفة أن الذي أبدوه من الكتاب قليل . وقرأ الجمهور : يلوون ، مضارع : لوى وقرأ أبو جعفر بن القعقاع ، وشيبة بن نصاح ، وأبو حاتم عن نافع : يلوون بالتشديد ، مضارع : لوّى ، مشدّداً . ونسبها الزمخشري لأهل المدينة ، والتضعيف للمبالغة والتكتير في الفعل لا للتعدية وقرأ حميد : يلون ، بضم اللام ، ونسبها الزمخشري إلى أنها رواية عن مجاهد ، وابن كثير ، ووجهت على أن الأصل : يلوون ، ثم أبدلت الواو همزة ، ثم نقلت حركتها إلى الساكن قبلها ، وحذفت هي . والكتاب : هنا التوراة ، والمخاطب في : لتحسبوه ، المسلمون وقرىء : ليحسبوه ، بالياء وهو يعود على الذين يلوون ألسنتهم لهم ، أي : ليحسبه المسلمون ، والضمير المفعول في : ليحسبوه ، عائد على ما دل عليه ما قبله من المحرف ، أي ليحسبوا المحرف من الكتاب . ويحتمل أن يكون قوله : بالكتاب ، على حذف مضاف أي : يلوون ألسنتهم بشبه الكتاب ، فيعود الضمير على ذلك المضاف المحذوف ، كقوله تعالى : {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِى بَحْرٍ لُّجّىّ يَغْشَاهُ } أي : أو كذي ظلمات ، فأعاد المفعول في : يغشاه ، على : ذي ، المحذوف . {وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ } أي : وما المحرف والمبدل الذي لووه بألسنتهم من التوراة ، فلا تظنوا ذلك أنه من التوراة . {وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللّه} تأكيد لما قصدوه من حسبان المسلمين أنه من الكتاب ، وافتراء عظيم على اللّه ، إذ لم يكتفوا بهذا الفعل القبيح من التبديل والتحريف حتى عضدوا ذلك بالقول ليطابق الفعل القول ، ودل ذلك على أنهم لا يعرضون ، ولا يودّون في ذلك ، بل يصرحون بأنه في التوراة هكذا ، وقد أنزله اللّه على موسى كذلك ، وذلك لفرط جرأتهم على اللّه ويأسهم من الآخرة . {وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّه} رد عليهم في إخبارهم بالكذب ، وهذا تأكيد لقوله { وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ } نفي أولاً أخص ، إذ التعليل كان لأخص ، ونفي هنا أعم ، لأن الدعوى منهم كانت الأعم ، لأن كونه من عند اللّه أعم من أن يكون في التوراة أو غيرها . قال أبو بكر الرازي : هذه الآية فيها دلالة على أن المعاصي ليست من عند اللّه ولا من فعله ، لأنها لو كانت من فعله كانت من عنده وقد نفى اللّه تعالى نفياً عامّاً لكون المعاصي من عنده . انتهى . وهذا مذهب المعتزلة ، وكان الرازي يجنح إلى مذهبهم . وقال ابن عطية { وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّه } نفي أن يكون منزلاً كما ادّعوا ، وهو من عند اللّه بالخلق والاختراع والإيجاد ، ومنهم بالتكسب . ولم تعن الآية إلاَّ معنى التنزيل ، فبطل تعلق القدرية بظاهر قوله :{ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّه} {وَيَقُولُونَ عَلَى اللّه الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } تقدّم تفسير مثل هذا آنفاً . |
﴿ ٧٨ ﴾