٩٦إن أول بيت . . . . . {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة} كما أكذبهم في دعواهم قبل : إنما حرم عليهم ما كان محرماً على يعقوب من قبل أن تنزل التوراة ، وأيضاً فإنّ كل فرقة من اليهود والنصارى زعمت أنها على ملة إبراهيم ، ومن شعائر ملته حجَّ الكعبة وهم لا يحجونها ، فأكذبهم اللّه في دعواهم تلك ، والأول هو الفرد السابق غيره . وتقدم الكلام على لفظ أول في قوله : { ولا تكونوا أول كافر به } ووضع جملة في موضع الصفة . واختلف في معنى كونه أول بيت وضع للناس . فقيل : هو أولُ بيت ظهر على وجه الماء حين خلقت السموات والأرض ، خلقه قبل الأرض بألفي عام ، وكان زبدة بيضاء على الماء فدحيت الأرض تحته . وقيل : هو أول بيت بناه آدم في الأرض . وقيل : لما أهبط آدم قالت له الملائكة : طُفْ حول هذا البيت فلقد طفنا قبلك بألفي عام ، وكان في موضعه قبل آدم ببيت يقال له : الضراح ، فرفع في الطوفان إلى السماء الرابعة يطوف به ملائكة السموات . وذكر الشريف أبو البركات أسعد بن علي بن أبي الغنائم الحسيني الجواني النسابة : أن شيث بن آدم هو الذي بنى الكعبة بالطين والحجارة على موضع الخيمة التي كان اللّه وضعها لآدم من الجنة ، فعلى هذه الأقاويل يكون أول بيت وضع للناس على ظاهره ، وروي عن ابن عباس أنه أول بيت حج بعد الطوفان ، فتكون الأولية باعتبار هذا الوصف من الحج إذْ كان قبله بيوت ، وروي عن عليّ أنه سأله رجل : أهو أول بيت ؟ فقال عليّ : لا قد كان قبله بيوت ، ولكنه أول بيت وضع للناس مباركاً فيه الهدى والرحمة والبركة ، فأخذ الأولية بقيد هذه الحال . وقيل : أول من بناه إبراهيم ثم قوم من العرب من جرهم ، ثم هدم فبنته العمالقة ، ثم هدم فبنته قريش . وقال أبو ذر : قلت يا رسول اللّه أي مسجد وضع أول ؟ قال : { المسجد الحرام } قلت ؛ ثم أي ؟ قال : { المسجد الأقصى } قلت : كم كان بينهما ؟ قال : { أربعون سنة } وظاهر هذا الحديث أنه من وضع إبراهيم ، وهو معارض لما ذكر في الأقوال السابقة : إلا إنّ حمل الوضع على التجديد فيمكن الجمع بينهما . وظاهر حديث أبي ذر يضعف قول الزجاج : إنّ بيت المقدس هو من بناء سليمان بن داود عليهما السلام ، بل يظهر منه أنه من وضع إبراهيم ، فكما وضع الكعبة وضع بيت المقدس . وقد بيَّن صلى اللّه عليه وسلم : { أن بين الوضعين أربعين سنة } وأين زمانُ إبراهيم من زمان سليمان ومعنى وضع للناس : أي متعبداً يستوي في التعبد فيه الناس ، إذ غيره من البيوت يختص بأصحابها ، والمشترك فيه الناس هو محل طاعتهم وعبادتهم وقبلتهم . وقرأ الجمهور { وُضع} مبنياً للمفعول . وقرأ عكرمة وابن السميقع وضع مبنياً للفاعل ، فاحتمل أنْ يعود على اللّه ، واحتمل أن يعودَ على إبراهيم ، وهو أقرب في الذكر وأليق وأوفقق لحديث أبي ذر . وللناس متعلق بوضع ، واللام فيه للتعليل ، وللذي ببكة خبر إنّ . والنعنى : للبيت الذي ببكة . وأكدت النسبة بتأكيدين : إنّ واللام . وأخبر هنا عن النكرة وهو أول بيت لتخصصها بالإضافة ، وبالصفة التي هي وضع إمالها ، وإمّا لما أضيفت إليه . إذْ تخصيصه تخصيصٌ لها بالمعرفة وهو للذي ببكة ، لأن المقصود الإخبار عن أول بيت وضع للناس ، ويحسن الإخبار عن النكرة بالمعرفة دخول إنّ . ومن أمثلة سيبويه : أنّ قريباً منك زيد . تخصص قريب بلفظ منك ، فحسن الإخبار عنه . وقد جاء بغير تخصيص وهو جائز في الاختيار قال : وإنّ حراماً أن أسب مجاشعا بآبائي الشم الكرام الخضارم والباء في ببكة ظرفية كقولك : زيد بالبصرة . ويضعفُ أن يكون بكة هي المسجد ، لأنه يلزم أن يكونَ الشيء ظرفاً لنفسه ، وهو لا يصحّ . {مُبَارَكاً وَهِىَ لّلْعَالَمِينَ } أمّا بركته فلما يحصلُ فيه من الثواب وتكفير السيئات لمن حجه واعتمره وطاف به وعكف عنده . وقال القفال : يجوز أن تكون بركته ما ذكر في قوله : { يحيي إليه ثمرات كل شيء} . وقيل : بركتُهُ دوام العبادة فيه ولزومها ، لأنّ البركة لها معنيان : أحدهما : النمو ، والآخر : الثبوت ، ومنه البركة لثبوت الماء فيها . والبرك الصدر لثبوت الحفظ فيه ، والبراكاء الثبوت في القتال ، وتبارك اللّه ثبت ولم يزل . وقيل : بركته تضعيف الثواب فيه . روى ابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : { من طاف بالبيت لم يرفع قدماً ولم يضع أخرى إلا كتب اللّه بها له حسنة ورفع له بها درجة} . وقال الفراء : سمي مباركاً لأنه مغفرة للذنوب . وقال ابن جرير : بركته تطهيره من الذنوب . وقيل : بركته أنَّ مَن دخله أمن حتى الوحش ، فيجتمع فيه الظبي والكلب . وأما كونه هدى فلأنه لما كان مقوماً مصلحاً كان فيه إرشاد . وبولغ بكونه هدىً ، أو هو على حذف مضاف أي : وذا هدى . قيل : ومعنى هدى أي قبلة . وقيل : رحمة . وقيل : صلاح . وقيل : بيان ودلالة على اللّه بما فيه من الآيات التي لا يقدر عليها غيره تعالى . و قال ابن عطية : يحتمل هنا هدى أن يكون بمعنى الدعاء ، أي من حيث دعى العالمون إليه ، وانتصاب مباركاً على الحال . وجوزوا أنْ يكون حالاً من الضمير الذي استكن في وضع ، والعامل فيها وضع أي أنَّ أول بيت مباركاً ، أي في هذه الحال للذي ببكة . وهذا التقدير ليس بجائز ، لأنك فصلت بين العامل في الحال وبين الحال بأجنبي وهو : الخبر ، لأنه معمول لأنَّ خبر لها ، فإنْ أضمرت وضع بعد الخبر أمكن أن يعمل في الحال ، وكان تقديره : للذي ببكة وضع مباركاً . وعلى هذا التقدير ينبغي أن يحمل تفسير علي بن أبي طالب السابق ذكره عند ذكر كون هذا البيت أولاً ، إذ كان قد لاحظ في هذا البيت كونه وضع أولاً بقيد هذه الحال . وجوزوا أيضاً أن يكون العامل في الحال العامل في ببكة ، أي استقر ببكة في حال بركته . وهو وجه ظاهر الجواز ، ولم يذكر الزمخشري غيره . وأما هدى فظاهره أنه معطوف على مباركاً ، والمعطوف على الحال حال . وجوَّز بعضهم أنْ يكون مرفوعاً على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي وهو هدى ، ولا حاجة إلى تكلف هذا الإضمار . |
﴿ ٩٦ ﴾