٩٧

فيه آيات بينات . . . . .

{فِيهِ ءايَاتٌ بَيّنَاتٌ } أي علامات واضحات منها : مقام إبراهيم ، والحجر الذي قام عليه ، والحجر الأسود وهو : من حجارة الكعبة ، وهو يمين اللّه في الأرض يشهد لمن مسه . والحطيم ، وزمزم ، وأمن الخائف وهيبته وتعظيمه في قلوب الناس ، وأمر الفيل ، ورمى طير اللّه عنه بحجارة السجيل ، وكف الجبابرة عنه على وجه الدهر ، وإذعان نفوس العرب لتوفير هذه البقعة دون ناهٍ ولا زاجر ، وجباية الأرزاق إليه ، وهو { بواد غير ذي زرع} وحمايته من السيول . ودلالةُ عموم المطر إياه من جميع جوانبه على خصب آفاق الأرض ، فإنْ كان المطر من جانب أخصب الأفق الذي يليه . وذكر مكي وغيره : أنّ من آياته كون الطير لا يعلوم عليه .

قال ابن عطية : وهذا ضعيف ، والطير يعاين يعلوه ، وقد علته العقاب التي أخذت الحية المشرفة على جداره ، وتلك كانت من آياته انتهى . وأي عبد علا عليه عتق . وتعجيلُ العقوبة لمن عتا فيه ، وإجابة دعاء من دعا تحت الميزاب ، ومضاعفة أجر المصلي ، وغير ذلك من الآيات . وقوله : فيه آيات بينات ، الضمير في فيه عائد على البيت ، فينبغي أن لا يذكر من الآيات إلا ما كان في البيت . لكنهم توسعوا في الظرفية ، إذ لا يمكن حملها على الحقيقة لأنه كان يلزم أن الآيات تكون داخل الجدران . ووجهُ التوسع أنّ البيت وضع بحرمه وجميع فضائله ، فهي فيه على سبيل المجاز . ولذلك عدَّ المفسرون آياتٍ في الحرم وأشياء مما التزمت في شريعتنا من : تحريم قطع شجره

ومنع الاصطياد فيه . والذي تعرضت له الآية هو مقام إبراهيم ، لأنه آية باقية على مر الأعصار . وذلك أنّه لمّا قام إبراهيم على حجر المقام وقت رفعه القواعد من البيت طال له البناء ، فكلما علا الجدار ارتفع الحجر به في الهواء ، فما زال يبني وهو قائم عليه وإسماعيل يناوله الحجارة والطين حتى كمل الجدار . ثم أراد اللّه إبقاء ذلك آية للعالمين ليّن الحجر فغرقت فيه قدما إبراهيم كأنها في طين ، فذلك الاثر باق إلى اليوم . وقد نقلت كافة العرب ذلك في الجاهلية على مرور الاعصار . وقال في ذلك أبو طالب : وموطىء إبراهيم في الصخر رطبة

على قدميه حافياً غير ناعل

فما حفظ أن أحداً من الناس نازع في هذا القول .

وقيل : سبب أثر قدميه في هذا الحجر أنه وافى مكة زائراً من الشام فقالت له زوجة إسماعيل : انزل . حتى اغسلَ رأسك ، فأبى أن ينزل ، فجاءت بهذا الحجر من جهة شقه الأيمن ، فوضع قدمه عليه حتى غسلت شق رأسه ، ثم حولته إلى شقه الأيسر حتى غسلت الشق الآخر ، فبقي أثر قدميه فيه . وارتفاعُ آيات على الفاعلية بالمجرور قبله ، فيكون المجرور في موضع الحال ، والعامل فيها محذوف ، وذلك المحذوف هو الحال حقيقة . ونسبة الحالية إلى الظرف والمجرور مجاز ، كنسبة الخبر إليها . إذا

قلت : زيد في الدار ، أو عندك . ولذلك قال بعض أصحابنا : وما يعزى للظرف من خبرية وعمل ، فالأصح كونه لعامله . وكون فيه في موضع حال مقدّرة ، سواء كان العامل فيها هو العامل في ببكة ، أم كان العامل فيها هو وضع على ما أعربوه ، أو على ما أعربناه . ويجوز أو يكون جملة مستأنفة . أخبر اللّه تعالى أن فيه آيات بينات .

{مَّقَامِ إِبْراهِيمَ } مقام : مفعل من القيام .

وقرأ الجمهور : آيات بينات على الجمع .

وقرأ أبيّ وعمرو بن عباس ومجاهد وأبو جعفر في رواية قتيبة { آية بينة} على التوحيد . فعلى قراءة الجمهور أعربوا مقام إبراهيم بدلاً ، وهو بدل كل من كل ، من قوله : آيات ، وأعربوه خبر مبتدأ محذوف . أي هنّ مقام إبراهيم . وعلى ما أعربوه فكيف يبدل المفرد من الجمع ، أو يخبر به عن الجمع ؟ وأجيب بوجهين :

أحدهما : أن يجعل وحده بمنزلة آيات كثيرة لظهور شأنه وقوة دلالته على قدرة اللّه ونبوّة إبراهيم عليه السلام من تأثير قدمه في حجر صلد كقوله تعالى : { إِنَّ إِبْراهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا}

والثاني : اشتماله على آيات ، لأن أثر القدم في الصخرة الصماء آية ، وغوصه فيها إلى الكعبين آية ، وإلانة بعض الصخرة دون بعض آية ، وإبقاؤه دون سائر آيات الأنبياء آية لابراهيم خاصة ، وحفظه مع كثرة أعدائه من المشركين وأهل الكتاب والملاحدة ألوف سنين آية .

قال الزمخشري : ويجوز أن يراد فيه { آيات بينات مقام إبراهيم} وأمن من دخله ، لأن الآيتين نوع من الجمع كالثلاثة والأربعة . و

قال ابن عطية : والمترجح عندي أنّ المقام وأمن الداخل جعلا مثالاً مما في حرم اللّه من الآيات ، وخصّا بالذكر لعظمهما ، وأنهما تقوم بهما الحجة على الكفار ؛ إذ هم مدركون لهاتين الآيتين بحواسهم . فظاهرُ كلامه وكلام الزمخشري قبله : أن مقام إبراهيم وأمن الداخل تفسير للآيات وهي جمع ، ولكن لم يذكر أمن الداخل في الآية تفسيراً صناعياً ، إنما جاء { ومن دخله كان آمناً} جملة من شرط وجزاء ، أو مبتدأ أو خبر ، لا على سبيل أن يكون اسماً مفرداً يعطف على قوله : مقام إبراهيم ، فيكون ذلك تفسيراً صناعياً . بل لم يأت بعد قوله : { بَيّنَاتٍ فَاسْأَلْ } سوى مفرد وهو : مقام إبراهيم فقال .

فإن قلت : كيف أجزت أنْ يكون مقام إبراهيم والا من عطف بيان وقوله : ومن دخله كان آمناً جملة مستأنفة : إما ابتدائية ،

وإما اشترطية ؟

قلت : أجزت ذلك من حيث المعنى . ولأن قوله : { ومن دخله كان آمناً } دل على

أمن داخله ، فكأنه قيل : فيه آيات بينات مقام إبراهيم ، وأمن داخله . ألا ترى أنك لو قلت فية آية بينة من دخله كان آمناً صحّ ، لأنه في معنى فيه آية بينة أمن مَن دخله انتهى سؤاله وجوابه وليس بواضح . لأن تقديره وأمن الداخل ، هو مرفوع عطفاً على مقام إبراهيم ، وفسر بهما الآيات . والجملة من قوله : ومن دخله كان آمناً لا موضع لها من الإعراب ، فتدافعا إلا أنْ اعتقد أنّ ذلك معطوف محذوف يدل عليه ما بعده ، فيمكن التوجيه . فلا يجعل قوله : ومن دخله كان آمناً في معنى : وأمن داخله ، إلا من حيث تفسير المعنى لا تفسير الإعراب .

قال الزمخشري : ويجوز أن يذكر هاتين الآيتين ويطوي ذكر غيرهما دلالة على تكاثر الآيات ، كأنه قيل : فيه آيات بينات مقام إبراهيم وأمن من دخله وكثير سواهما . ونحوه في طي الذكر قول جرير : كانت حنيفة أثلاثاً فثلثهم

من العبيد وثلث من مواليها

ومنه قوله صلى اللّه عليه وسلم { حبب إليّ من دنياكم ثلاث : الطيب ، والنساء ، وقرة عيني في الصلاة } انتهى كلامه . وفيه حذف معطوفين ، ولم يذكر الزمخشري في إعراب مقام إبراهيم إلا أنه عطف بيان لقوله : آيات بينات . ورد عليه ذلك ، لأن آيات نكرة ، ومقام إبراهيم معرفة ، ولا يجوز التخالف في عطف البيان . وقوله مخالف لإجماع الكوفيين والبصريين ، فلا يلتفت إليه . وحكم عطف البيان عند الكوفيين حكم النعت ، فتتبع النكرة النكرة والمعرفة المعرفة ، وقد تبعهم في ذلك أبو علي الفارسي .

وأما عند البصريين فلا يجوز إلا أنْ يكونا معرفتين ، ولا يجوز أنْ يكونا نكرتين . وما أعربه الكوفيون ومن وافقهم : عطف بيان وهو نكرة على النكرة قبله ، أعربه البصريون بدلاً ، ولم يقم لهم دليل على تعيين عطف البيان في النكرة ، فينبغي أن لا يجوز . والأولى والأصوب في إعراب مقام إبراهيم أنْ يكون خبر مبتدأ محذوف تقديره :

أحدها : أي أحد تلك الآيات البينات مقام إبراهيم . أو مبتدأ محذوف الخبر تقديره منها : أي من الآيات البينات مقام إبراهيم . ويكون ذكر المقام لعظمه ولشهرته عندهم ، ولكونه مشاهداً لهم لم يتغير ، ولاذ كاره إياهم دين أبيهم إبراهيم .

وأما على قراءة من قرأ : آية بينة بالتوحيد ، فإعرابه بدل ، وهو بدل معرفة من نكرة موصوفة ، كقوله تعالى : { وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِراطِ اللّه } ويكون اللّه تعالى قد أخبر عن هذه الآية العظيمة وحدها وهي مقام إبراهيم لما ذكرنا ، وإنْ كان في البيت آيات كثيرة . واختلفوا في تفسير مقام إبراهيم . فقال

الجمهور : هو الحجر المعروف . وقال قوم : البيت كله مقام إبراهيم ، لأنه بناه ، وقام في جميع أقطاره . وقال قوم : مكة كلها مقام إبراهيم . وقال قوم : الحرم كله . والحرم مما يلي المدينة نحواً من أربعة أميال إلى منتهى التنعيم ، ومما يلي العراق نحواً من ثمانية أميال يقال له المقطع ، ومما يلي عرفة تسعة أميال إلى منتهى الحديبية .

{وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِناً } : الضمير في { ومن دخله} عائد على البيت : إذْ هو المحدث عنه ، والمقيد بتلك القيود من البركة والهدى والآيات البينات من مقام إبراهيم وغيره . ولا يمكن أنْ يعود على مقام إبراهيم إذا فسّرناه بالحجر . وظاهر الآية وسياق الكلام أنّ هذه الجملة هي مفسرة لبعض آيات البيت ، ومذكرة للعرب بما كانوا عليه في الجاهلية من احترام هذا البيت ، وأمن من دخله من ذوي الحرائم . وكانت العرب يغير بعضها على بعض ويتخطف الناس بالقتل ، وأخذ الأموال ، وأنواع الظلم ، إلا في الحرم كقوله تعالى : {أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً ءامِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ } وذلك بدعوة إبراهيم عليه السلام { رَبِّ اجْعَلْ هَاذَا بَلَدًا آمِنًا } فأما في الإسلام فمن أصاب حدًّا فإن الحرم لا يعيذُه وإلى هذا ذهب : عطاء ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة وغيره . فمن زنى ، أو سرق ، أو قتل ، أقيم عليه الحدّ واستحسن كثير ممن قال هذا القول : أن يخرج من وجب عليه القتل إلى الحل فيقتل فيه .

وقال ابن عباس : من أحدث حدثاً واستجار بالبيت فهو آمن . والأمر في الإسلام على ما كان في الجاهلية ، فلا يعرض أحد لقاتل وليه . إلا أنه يجب على المسلمين أن لا يبايعوه ، ولا يكلموه ، ولا يؤووه حتى يتبرم فيخرج من الحرم فيقام عليه الحد . وقال بمثل هذا عطاء أيضاً ، والشعبي ، وعبيد بن عمير ، والسدي ، وابن جبير ، وغيرهم إلا أن أكثرهم قالوا : هذا فيمن يقتل خارج الحرم ثم يعوذ بالحرم ، أمّا من قتل فيه فيقام عليه الحد فيه . واختلف فقهاء الأمصار : إذا جنى في غير الحرم ثم التجأ إليه فقال أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد ، وزفر ، والحسن بن زياد ، وأحمد في رواية حنبل عنه : إن كانت الجناية في النفس لم يقتص منه ولا يخالط ، أو فيما دون النفس اقتص منه في الحرم . وقال مالك في رواية : لا يقتص منه فيه ، لا بقتل ولا فيما دون النفس ، ولا يخالط . قالوا : وانعقد الإجماع على أنّ من جنى فيه لا يؤمن ، لأنه هتك حرمة الحرم وردّ الأمان . فبقي حكم الآية فيمن جنى صار خارجاً منه ثم التجأ إليه . وقالوا : هذا خبر معناه الأمر . أي ومَن دخله فأمّنوه . وهو عام فيمن جنى فيه أو في غيره ثم دخله ، لكنْ صدَّ الإجماع عن العمل به فيمن جنى فيه وبقي حكم الآية مختصاً بمن جنى خارجاً منه ثم دخله . وقال يحيى بن جعدة في آخرين : آمناً من النار ، ولا بد من قيد في . ومن دخله كان آمناً : أي ومن دخله حاجًّا ، أو من دخله مخلصاً في دخوله .

وقيل المعنى : ومن دخله عام عمرة القضاء مع النبي صلى اللّه عليه وسلم لقوله :{ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللّه ءامِنِينَ} وقال جعفر الصادق : منْ دخله ورقى على الصفا أمن أمن الأنبياء . وظاهرُ الآية ما بدأنا به أولاً ، وكلّ هذه الأقوال سواه متكلفات ، وينبو اللفظ عنها ، ويخالف بعضها ظواهر الآيات وقواعد الشريعة { وَللّه عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } روى عكرمة : أنه لما نزلت : { ومن يبتغ غير الإسلام ديناً قالت اليهود : نحن على الإسلام فنزلت : وللّه على الناس حج البيت الآية ، قيل له : حجهم يا محمد . إن كانوا على ملة إبراهيم التي هي الإسلام ، فليحجوا إن كانوا مسلمين فقالت اليهود : لا نحجه أبداً . ودلت هذه الآية على تأكيد فرض الحج ، إذ جاء

ذلك بقوله : وللّه ، فيشعر بأن ذلك له تعالى ، وجاء بعلى الدالة على الاستعلاء ، وجاء متعلقاً بالناس بلفظ العموم وإن كان المراد منه الخصوص ليكون من وجب عليه ذكر مرتين .

قال الزمخشري : وفي هذا الكلام أنواع من التأكيد والتشديد . فمنها قوله : { وَللّه عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } يعني أنه حق واجب للّه في رقاب الناس لا ينفكون عن أدائه والخروج عن عهدته . ومنها أنه ذكر الناس ثم أبدل منه ، . من استطاع إليه سبيلاً وفيه ضربان من التأكيد :

أحدهما : أن الإبدال تنبيه للمراد وتكرير له .

والثاني : أن الإيضاح بعد الإبهام والتفصيل بعد الإجمال إيراد له في صورتين مختلفتين انتهى كلامه ، وهو حسن .

وقرأ حمزة والكسائي وحفص حج بكسر الحاء ، والباقون بفتحها . وهما لغتان : الكسر لغة نجد ، والفتح لغة أهل العالية . وجعل سيبويه الحج بالكسر مصدراً نحو : ذكر ذكراً . وجعله الزجاج اسم العمل . ولم يختلفو في الفتح أنه مصدر ، وحج مبتدأ وخبره في المجرور الذي هو وللّه وعلى الناس متعلق بالعامل في الجار والمجرور الذي هو خبر . وجوز أنْ يكونَ على الناس حالاً ، وأنْ يكون خبر الحج . ولا يجوز أن يكون { وللّه} حالاً ، لما يلزم في ذلك من تقدّمها على العامل المعنوي . وحج مصدر أضيف إلى المفعول الذي هو البيت ، والألف واللام فيه للعهد . إذ قد تقدّم { أنّ أوّل بيت وضع للناس للذي ببكة} هذا الأصل ثم صار علماً بالغلبة . فمتى ذكر البيت لا يتبادر إلى الذهن إلا أنه الكعبة ، وكأنه صار كالنجم للثريا وقال الشاعر : لعمري لأنت البيت أكرم أهله

وأقعد في أفنائه بالأصائل

ولم يشترط في هذه الآية في وجوبه إلا الاستطاعة . وذكروا أن شروطه : العقل ، والبلوغ ، والحرية ، والإسلام ، والاستطاعة . وظاهر قوله : { وَللّه عَلَى النَّاسِ } وجوبه على العبد ، وهو مخاطب به ، وقال بذلك داود . وقال الجمهور : ليس مخاطباً به ، لأنه غير مستطيع ، إذ السيد يمنعه عن هذه العبادة لحقوقه . قالوا : وكذلك الصغير . فلو حج العبد في حال رقِّه ، والصبي قبل بلوغه ، ثم عتق وبلغ فعليهما حجة الإسلام . وظاهره الاكتفاء بحجة واحدة ، وعليه انعقد إجماع الجمهور خلافاً لبعض أهل الظاهر إذ قال : يجب في كل خمسة أعوام مرة ، والحديث الصحيح يرد عليه . والظاهر أنَّ شرطه القدرة على الوصول إليه بأي طريق قدر عليه من : مشي ، وتكفف ، وركوب بحر ، وإيجاز نفسه للخدمة . الرجال والنساء في ذلك سواء ، والمشروط مطلق الاستطاعة . وليست في الآية من المجملات فتحتاج إلى تفسير . ولم تتعرض الآية لوجوب الحج على الفور ، ولا على التراخي ، بل الظاهر أنه يجب في وقت حصول الاستطاعة . والقولان عن الحنفية والمالكية . وقال أبو عمر بن عبد البر : ويدل على التراخي إجماع العلماء على ترك تفسيق القادر على الحج إذا أخره العام الواجب عليه في وقته ، بخلاف من فوّت صلاة حتى خرج وقتها فقضاها . وأجمعوا على أنه لا يقال لمن حج بعد أعوام من وقت استطاعته أنت قاض . وكل من قال بالتراخي لا يجد في ذلك حدًّا إلا ما روي عن سحنون : أنه إذا زاد على الستين وهو قادر وترك فسق ، وروي قريب من هذا عن ابن القاسم .

وفي إعراب مَنْ خلاف ، ذهب الأكثرون إلى أنه بدل بعض من كل ، فتكون مَن موصولة في موضع جر ، وبدل بعض من كل لا بد فيه من الضمير ، فهو محذوف تقديره ، من استطاع إليه سبيلاً منهم . وقال الكسائي وغيره : من شرطية ، فتكون في موضع رفع بالابتداء . ويلزم حذف الضمير الرابط لهذه الجملة بما قبلها ، وحذف جواب الشرط ، إذ التقدير من استطاع إليه سبيلاً منهم فعليه الحج ، أو فعلية ذلك . والوجه الأوّل أولى لقلة الحذف فيه وكثرته في هذا . ويناسب الشرط مجيءُ الشرط بعده في قوله :{ وَمَن كَفَرَ }

وقيل : مَنْ موصولة في

موضع رفع خبر مبتدأ محذوف تقديره : هم من استطاع إليه سبيلاً . وقال بعض البصريين : مَنْ موصولة في موضع رفع على أنه فاعل بالمصدر الذي هو حج ، فيكون المصدر قد أضيف إلى المفعول ورفع به الفاعل نحو : عجبت من شرب العسل زيد ، وهذا القول ضعيف من حيث اللفظ والمعنى . أمّا من حيث اللفظ فإنّ إضافة المصدر للمفعول ورفع الفاعل به قليل في الكلام ، ولا يكاد يحفظ في كلام العرب إلا في الشعر ، حتى زعم بعضهم أنه لا يجوز إلا في الشعر .

وأمّا من حيث المعنى فإنه لا يصح ، لأنّه يكون المعنى : إنّ اللّه أوجب على الناس مستطيعهم وغير مستطيعهم أنْ يحج البيت المستطيع . ومتعلق الوجوب إنما هو المستطيع لا الناس على العموم ، والضمير في إليه يعود على البيت ،

وقيل : على الحج . وإليه متعلق باستطاع ، وسبيلاً مفعول بقوله استطاع لأنه فعل متعد .

قال تعالى : { لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ } وكل موصل إلى شيء ، فهو سبيل إليه .

وظاهر الآية يدل على وجوب الحج على من استطاع إلى البيت سبيلاً ، وليست الاستطاعة من باب المجملات كما قدّمنا . وقال عمر ، وابنه ، وابن عباس ، وعطاء ، وابن جبير : هي حال الذي يجد زاداً وراجلة ، وعلى هذا أكثر العلماء . وقال ابن الزبير والضحاك : إذا كان مستطيعاً غير شاق على نفسه وجب عليه . قال الضحاك : إذا قدر أن يؤجر نفسه فهو مستطيع ،

وقيل له في ذلك ؛ فقال : إن كان لبعضهم ميراث بمكة ، أكان يتركه ، بل كان ينطلق إليه ؟ ولو حبوا فكذلك يجب عليه الحج . وقال الحسن : مَنْ وجد شيئاً يبلغه فقد وجب عليه . وقال عكرمة : استطاعةَ السبيل الصحة . ومذهب مالك : أنَّ الرجل إذا وثق بقوته لزمه ، وعنه ذلك على قدر الطاقة .

وقد يجد الزاد والراحلة من لا يقدر على السفر ، وقد يقدر عليه من لا راحلة ولا زاد .

وقال ابن عباس : من ملك ثلاثمائة درهم فهو السبيل إليه . وقال الشافعي : الاستطاعة على وجهين بنفسه : أولاً : فمن منعه مرض أو عذر وله مال فعليه أن يجعل من يحج عنه وهو مستطيع لذلك . واختلف قول مالك فيمن سأل ذاهباً وآيباً ممن ليست عادته ذلك في إقامته . فروى عنه ابن وهب : لا بأس بذلك . وروي عنه ابن القاسم : لا أرى ذلك ، ولا يخرج إلى الحج والغزو سائلاً . وكره مالك أن تحج النساء في البحر . واختلف عنه في حج النساء ماشيات إذا قدرن على ذلك . ولا حج على المرأة إلا إذا كان معها ذو محرم ، واختلف إذا عدمته . فقال الحسن ، والنخعي ، وأبو حنيفة ، وأصحابه ، وأحمد ، وإسحاق : المحرم من السبيل ولا حج عليها إلا مع ذي محرم . قال أبو حنيفة : إذا كان بينها وبين مكة مسيرة ثلاثة أيام فصاعداً ، وإذا وجدت محرماً فهل لزوجها أن يمنعها في الفرض ؟ قال الشافعي : له أن يمنعها وعن مالك روايتان : المنع ، وعدمه . والمحرم من لا يجوز له نكاحها على التأبيد بقرابة ، أو رضاع ، أو صهر ، والحرّ والعبد والمسلم والذمي في ذلك سواء ، إلا أنّ يكونَ مجوسياً يعتقد إباحة نكاحها أو مسلماً غير مأمون ، فلا تخرج ولا تسافر معه . وقال مالك : تخرج مع جماعة نساء . وقال الشافعي : مع حرة ثقة مسلمة . وقال ابن سيرين : مع رجل ثقة من المسلمين . وقال الأوزاعي : مع قوم عدول ، وتتخذ سلماً تصعد عليه وتنزل ، ولا يقربها رجل .

واختلفوا في وجوب الحج مع وجود المكوس والغرامة . فقال سفيان الثوري : إذا كان المكس ، ولو درهماً سقط فرض الحج عن الناس . وقال عبد الوهاب : إذا كانت الغرامة كثيرة مجحفة سقط الفرض . فظاهر كلامه هذا أنّها إذا كانت كثيرة غير مجحفة به لسعة ماله فلا يسقط ، وعلى هذا جماعة أهل العلم ، وعليه مضت الأعصار . وأجمعوا على أن المريض والمعضوب لا يلزمهما المسير إلى الحج . فقال مالك : يسقط عن المعضوب فرض الحج ، ولا يحج عنه في حال حياته . فإن وصى أن يحج عنه بعد موته حج من الثلث ، وكان تطوّعاً . وقال الثوري ، وأبو حنيفة ، وأصحابه ، وابن المبارك ، وأحمد ، وإسحاق : إذا كان قادراً على مال يستأجر به لزمه ذلك ، وإذا بذل أحد له الطاعة والنيابة لزمه ذلك ببذل الطاعة عند الشافعي وأحمد وإسحاق . وقال أبو حنيفة : لا يلزمه الحج ببذل الطاعة ، ولو بذل له مالاً فالصحيح أنه لا يلزمه قبوله . ومسائلُ فروع الاستطاعة كثيرة مذكورة في كتب الفقه .

{وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللّه غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } قال ابن عباس : بوجوب الحج ، فمن زعم أنه ليس بفرض عليه فقد كفر . وقال مثله : الضحاك ، وعطاء ، والحسن ، ومجاهد ، وعمران القطان . وقال ابن عمر وغيره : ومن كفر باللّه واليوم الآخر . وقال ابن زيد : ومن كفر بهذه الآيات التي في البيت . وقال السدي وجماعة : ومَنْ كفر بأنْ وجد ما يحج به فلم يحج ، فهذا كفر معصية ، بخلاف القول الأول فإنه كفر جحود . ويصير على قول السدي لقوله : { من ترك الصلاة فقد كفر لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض} . على أحد التأويلين .

وقال الزمخشري : ومنها يعني من أنواع التأكيد والتشديد قوله : ومن كفر ، مكان ومَن لم يحج تغليظاً على تارك الحج ، ولذلك قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : { من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانياً } ونحوه من التغليظ من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر ، انتهى كلامه ، وهو من معنى كلام السدي . وقال سعيد بن المسيب : ومَن كفر بكون البيت قبله الحق ، فعلى هذا يكون راجعاً إلى اليهود الذين قالوا حين حوّلت القبلة : { مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِى كَانُواْ عَلَيْهَا } وكفروا بها وقالوا : لا نحج إليها أبداً .

ومن شرطية وجواب الشرط الجملة المصدرة بالفاء ، والرابط لها بجملة الشرط هو العموم الذي في قوله :{ عَنِ الْعَالَمِينَ } إذْ مَن كفر فهو مندرج تحت هذا العموم . وفي هذا اللفظ وعيد شديد لمن كفر

قال ابن عطية : والقصد بالكلام : فإن اللّه غني عنهم ، ولكنْ عمَّ اللفظ ليبرع المعنى ويتنبه الفكر على قدرة اللّه وسلطانه واستغنائه عن جميع الوجوه ، حتى ليس به افتقار إلى شيء ، لا ربَّ سواه انتهى .

وقال الزمخشري : ومنها يعني من أنواع التأكيد ذكر الاستغناء عنه ، وذلك مما يدل على المقت والسخط والخذلان . ومنها قوله : عن العالمين ، ولم يقل عنه . وما فيه من الدلالة على الاستغناء عنه ببرهان ، لأنّه إذا استغنى عن العالمين تناوله الاستغناء عنه لا محالة . ولأنّه يدلُّ على الاستغناء الكامل ، فكان أدل على عظم السخط الذي وقع عبارة عنه .

وقيل : في الكلام محذوف تقديره : فإن اللّه غني عن حج العالمين .

﴿ ٩٧