١٠٣

واعتصموا بحبل اللّه . . . . .

{وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّه جَمِيعاً } أي استمسكوا وتحصّنوا . وحبل اللّه : العهْد ، أو القرآن ، أو الدين ، أو الطاعة ، أو إخلاص التوبة ، أو الجماعة ، أو إخلاص التوحيد ، أو الإسلام . أقوال للسلف يقرب بعضها من بعض . وروى أبو سعيد الخدري أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : { كتاب اللّه هو حبل اللّه الممدود من السماء إلى الأرض} . وروي عنه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : { القرآن حبل اللّه المتين لا تنقضي عجائبه ولا تخلق على كثرة الردّ من قال به صدق ، ومن عمل به رشد ، ومن اعتصم به هدي إلى صراط مستقيم }

وقولهم : اعتصمت بحبل فلان يحتمل أن يكون من باب التمثيل ، مثل استظهاره به ووثوقه بإمساك المتدلي من مكان مرتفع بحبل وثيق يأمن انقطاعه . ويحتمل أن يكون من باب الاستعارة ، استعار الحبل للعهد والاعتصام للوثوق بالعهد ، وانتصاب جميعاً على الحال من الضمير في { وَاعْتَصِمُواْ }{ وَلاَ تَفَرَّقُواْ } نهوا عن التفرق في الدين والاختلاف فيه كما اختلف اليهود والنصارى .

وقيل : عن المخاصمة والمعاداة التي كانوا عليها في الجاهلية .

وقيل : عن إحداث ما يوجب التفرق ويزول معه الاجتماع . وقد تعلق بهذه الآية فريقان : نفاةُ القياس والاجتهاد كالنظام وأمثاله من الشيعة ، ومثبتو القياس والاجتهاد . قال الأولون ، غير جائز أن يكون التفرق والاختلاف ديناً للّه تعالى مع نهي اللّه تعالى عنه . وقال الآخرون : التفرق المنهى عنه هو في أصول الدين والإسلام .{ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّه عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُم أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مّنَ النَّارِ } الخطاب لمشركي العرب قاله : الحسن وقتادة يعني مَن آمن منهم ، إذ كان القويُّ يستبيحَ الضعيف .

وقيل : للأوس والخزرج . ورجح هذا بأن العرب وقت تزول هذه الآية لم تكن مجتمعة على الإسلام ، ولا مؤتلفة القلوب عليه ، وكانت الأوس والخزرج قد اجتمعت على الإسلام وتألفت عليه بعد العداوة المفرطة والحروب التي كانت بينهم ، ولما تقدم أنه أمرهم بالاعتصام بحبل اللّه وهو الدين ونهاهم عن التفرق وهو أمر ونهي ، بديمومة ما هم عليه إذ كانوا معتصمين ومؤتلفين ذكرهم بأنَّ ما هم عليه من الاعتصام بدين الإسلام وائتلاف القلوب إنما كان سببه إنعام اللّه عليهم بذلك . إذ حصل منه تعالى خلق تلك الداعية في قلوبهم المستلزمة بحصول الفعل ، فذكر بالنعمة الدنيوية والأخروية . أما الدنيوية فتألف قلوبهم وصيرورتهم إخوة في اللّه متراحمين بعدما أقاموا متحاربين متقاتلين نحواً من مائة وعشرين سنة إلى أن ألف اللّه بينهم بالإسلام . وكان أعني الأوس والخزرج جداهم أخوان لأب وأم .

وأما الأخروية فإنقاذهم من النار بعد أن كانوا أشفوا على دخولها . وبدأ أولاً بذكر النعمة الدنيوية لأنّها أسبق بالفعل ، ولاتصالها بقوله :{ وَلاَ تَفَرَّقُواْ } وصار نظير { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ } ومعنى فأصبحتم ، أي صرتم . وأصبح كما ذكرنا في المفردات تستعمل لاتصاف الموصوف بصفته وقت الصباح ، وتستعمل بمعنى صار ، فلا يلحظ فيها وقت الصباح بل مطلق الانتقال والصيرورة من حال إلى حال . وعليه قوله : أصبحت لا أحمل السلاح ولا

أملك رأس البعير أن نفرا

قال ابن عطية : فأصبحتم عبارة عن الاستمرار ، وإنْ كانت اللفظة مخصوصة بوقت مّا ، وإنما خصت هذه اللفظة بهذا المعنى من حيث هي مبتدأ النهار ، وفيها مبدأ الأعمال . فالحال التي يحسبها المرء من نفسه فيها هي الحال التي يستمر عليها يومه في الأغلب ، ومنه قول الربيع بن ضبع : أصبحت لا أحمل السلاح ولا

أملك رأس البعير إن نفرا

وهذا الذي ذكره : من أن أصبح للاستمرار ، وعللّه بما ذكره لا أعلم أحداً من النحويين ذهب إليه ، إنما ذكروا أنها تستعمل على الوجهين اللذين ذكرتهما . وجوز الحوفي في { إذ } أن ينتصب باذكروا ، وجوز غيره أن ينتصب بنعمة . أي إنعام اللّه ،

وبالعامل في عليكم . إذ جوزوا أن يكون حالاً من نعمة ، وجوزا أيضاً تعلق عليكم بنعمة ، وجوزوا في أصبحتم أن تكون ناقصة والخبر بنعمته والباء ظرفية وإخواناً حال يعمل فيها أصبح ، أو ما تعلق به الجار والمجرور . وأن يكون إخواناً خبر أصبح والجار حال يعمل فيه أصبح ، أو حال من إخواناً لأنه صفة له تقدمت عليه ، أو العامل فيه ما فيه من معنى تآخيتم بنعمته . وأن يكون أصبحتم تامة ، وبنعمته متعلق به ، أو في موضع الحال من فاعل أصبحتم أو من إخواناً ، وإخواناً حال . والذي يظهر أن أصبح ناقصة وإخواناً خبر ، وبنعمته متعلق بأصبحتم ، والباء للسبب لا ظرفية .

وقال بعض الناس : الأخ في الدين يجمع إخواناً ، ومن النسب إخوة ، هكذا كثر استعمالهم . وفي كتاب اللّه تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } والصحيح أنهما يقالان من النسب . وفي الدين : وجمع أخ على أخوة لا يراه سيبويه ، بل أخوة عنده اسم جمع ، لأن فعلاً لا يجمع على فعله . وابن السراج يرى فعلة إذا فهم منه الجمع اسم جمع ، لأن فعلة لم يطرد جمعاً لشيء . والضمير في منها عائد على النار ، وهو أقرب مذكور ، أو على الحفرة .

وحكى الطبري أن بعض الناس قال : يعود على الشفا ، وأنت من حيث كان الشفا مضافاً إلى مؤنث . كما قال جرير : أرى مر السنين أخذن مني

كما أخذ السرار من الهلال

قال ابن عطية : وليس الأمر كما ذكروا ، لأنه لا يحتاج في الآية إلى هذه الصناعة إلا لو لم يجد معاداً للضمير إلا الشفا . وهنا معنا لفظ مؤنث يعود الضمير عليه ، ويعضده المعنى المتكلم فيه ، فلا يحتاج إلى تلك الصناعة انتهى . وأقول : لا يحسن عوده إلا على الشفا ، لأنّ كينونتهم على الشفا هو أحد جزأي الإسناد ، فالضمير لا يعود إلا عليه .

وأما ذكر الحفرة فإنما جاءت على سبيل الإضافة إليها ، ألا ترى أنك إذا

قلت : كان زيد غلام جعفر ، لم يكن جعفر محدثاً عنه ، وليس أحد جزأي الإسناد . وكذلك لو

قلت : ضرب زيد غلام هند ، لم تحدث عن هند بشيء ، وإنما ذكرت جعفراً وهنداً مخصصاً للمحدث عنه . أمّا ذكر النار . فإنما جيء بها لتخصيص الحفرة ، وليست أيضاً أحد جزأي الإسناد ، لا محدثاً عنها . وأيضاً فالإنقاذ من الشفا أبلغ من الإنقاذ من الحفرة ومن النار ، لأن الإنقاذ منه يستلزم الإنقاذ من الحفرة ومن النار ، والإنقاذ منهما لا يستلزم الإنقاذ من الشفا . فعودُهُ على الشفا هو الظاهر من حيث اللفظ ومن حيث المعنى . ومثلت حياتهم التي يتوقع بعدها الوقوع في النار بالقعود على جرفها مشفين على الوقوع فيها .

وقيل : شبه تعالى كفرهم الذي كانوا عليه وحربهم المدينة من الموت بالشفا ، لأنهم كانوا يسقطون في جهنم دأباً ، فأنقذهم اللّه بالإسلام . وقال السدي : بمحمد صلى اللّه عليه وسلم. وقال أعرابي لابن عباس وهو يفسر هذه الآية : واللّه ما أنقذهم منها ، وهو يريد أن يوقعهم فيها . فقال ابن عباس : خذوها من غير فقيه . وذكر المفسرون هنا قصة ابتداء إسلام الأنصار وما شجر بينهم بعد الإسلام ، وزوال ذلك ببركات رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.

{كَذالِكَ يُبَيّنُ اللّه لَكُمْ ءايَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } : تقدم الكلام على مثل هذه الجملة ، إلا أنَّ آخر هذه مختتم بالهداية لمناسبة ما قبلها .

وقال الزمخشري: { لعلكم تهتدون } إرادة أن تزدادوا هدىً . و

قال ابن عطية : وقوله لعلكم تهتدون في حق البشر ، أي مَنْ تأمل منكم الحال رجاء الأهتداء . فالزمخشري جعل الترجي

مجازاً عن إرادة اللّه زيادة الهدى ، وابن عطية أبقى الترجي على حقيقته ، لكنه جعل ذلك بالنسبة إلى البشر لا إلى اللّه تعالى ، إذ يستحيل الترجي من اللّه تعالى ، وفي كلا القولين المجاز . أما في قول الزمخشري فحيثُ جعل الترجي بمعنى إرادة اللّه ،

وأمّا في قول ابن عطية فحيثُ أسند ما ظاهره الإسناد إليه تعالى إلى البشر .

﴿ ١٠٣