١٥٤

ثم أنزل عليكم . . . . .

{ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مّن بَعْدِ الْغَمّ أَمَنَةً نُّعَاساً } الأمنة : الأمن ، قاله : ابن قتيبة وغيره . وفرق آخرون فقالوا : الأمنة تكون مع بقاء أسباب الخوف ، والأمن يكون مع زوال أسبابه .

وقرأ الجمهور : أمنة بفتح الميم ، على أنه بمعنى الأمن . أو جمع آمن كبار وبرره ، ويأتي إعرابه .

وقرأ النخعي وابن محيصن : أمْنة بسكون الميم ، بمعنى الأمن . ومعنى الآية : امتنان اللّه عليهم بأمنهم بعد الخوف والغم ، بحيث صاروا من الأمن ينامون . وذلك أن الشديد الخوف والغم لا يكاد ينام . ونقل المفسرون ما أخبرت به الصحابة من غلبة النوم الذي غشيهم كأبي طلحة : والزبير ، وابن مسعود . واختلفوا في الوقت الذي غشيهم فيه النعاس .

فقال الجمهور : حين ارتحل أبو سفيان من موضع الحرب ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لعلي وكان من المتحيزين إليه : { إذهب فانظر إلى القوم فإنْ كانوا جنبوا الخيل فهم ناهضون إلى مكة ، وإن كانوا على خيلهم فهم عائدون إلى المدينة فاتقوا اللّه واصبروا } ووطنهم على القتال ، فمضى علي ثم رجع فأخبر : أنهم جنبوا الخيل ، وقعدوا على أثقالهم عجالاً ، فأمن المؤمنون المصدقون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وألقى اللّه تعالى عليهم النعاس . وبقي المنافقون الذين في قلوبهم مرض لا يصدقون ، بل كان ظنهم أنّ أبا سفيان يؤم المدينة ، فلم يقع على أحد منهم نوم ، وإنما كان همهم في أحوالهم الدنيوية . وثبت في البخاري من حديث أبي طلحة قال : غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد ، فجعل يسقط من يدي وآخذه ، ويسقط وآخذه ، وفي طريق رفعت رأسي فجعلت ما أرى أحداً من القوم إلا وهو يميل تحت جحفته . وهذا يدل على أنهم غشيهم النعاس وهم في المصاف وسياق الآية والحديث الأول يدلان على خلاف ذلك . قال تعالى { فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمّ} والغم كان بعد أن كسروا وتفرقوا عن مصافهم ورحل المشركون عنهم . والجمع بين هذين القولين : أن المصاف الذي أخبر عنه أبو طلحة كان في الجبل بعد الكسرة ، أشرف عليهم أبو سفيان من علو في الخيل الكثيرة ، فرماهم من كان انحاز إلى الجبل من الصحابة بالحجارة ، وأغنى هناك عمر حتى أنزلوهم ، وما زالوا صافين حتى جاءهم خبر قريش أنهم عزموا على الرّحيل إلى مكة ، فأنزل اللّه عليهم النعاس في ذلك الموطن ، فأمنوا ولم يأمن المنافقون . والفاعل بانزل ضمير يعود على اللّه تعالى ، وهو معطوف على فأثابكم . وعليكم يدل على تجلل النعاس واستعلائه وغلبته ، ونسبة الإنزال مجاز لأن حقيقته في الإجرام . وأعربوا أمنة مفعولاً بأنزل ، ونعاساً بدل منه ، وهو بدل اشتمال . لأن كلاًّ منهما قد يتصور اشتماله على الآخر ، أو يتصور اشتمال العامل عليهما على الخلاف في ذلك . أو عطف بيان ، ولا

يجوز على رأي الجمهور من البصريين لأن من شرط عطف البيان عندهم أن يكون في المعارف . أو مفعول من أجله وهو ضعيف ، لاختلال أحد الشروط وهو : اتحاد الفاعل ، ففاعل الإنزال هو اللّه تعالى ، وفاعل النعاس هو المنزل عليهم ، وهذا الشرط هو على مذهب الجمهور من النحويين .

وقيل : نعاساً هو مفعول أنزل ، وأمنة حال منه ، لأنه في الأصل نعت نكرة تقدم عليها فانتصب على الحال . التقدير : نعاساً ذا أمنة ، لأن النعاس ليس هو الأمن . أو حال من المجرور على تقدير : ذوي أمنة . أو على أنه جمع آمن ، أي آمنين ، أو مفعول من أجله أي لأمنة قاله : الزمخشري ، وهو ضعيف بما ضعفنا به قول من أعرب نعاساً مفعولاً من أجله .

{يَغْشَى طَائِفَةً مّنْكُمْ } هم المؤمنون . ويدل هذا على أن قوله : ثم أنزل عليكم ، عام مخصوص ، لأنه في الحقيقة ما أنزل إلا على من آمن .

وقرأ حمزة والكسائي : تغشى بالتاء حملاً على لفظ أمنة هكذا قالوا . وقالوا : الجملة في موضع الصفة ، وهذا ليس بواضح ، لأن النحويين نصوا على أن الصفة مقدمة على البدل وعلى عطف البيان إذا اجتمعت . فمن أعرب نعاساً بدلاً أو عطف بيان لا يتم له ذلك ، لأنه مخالف لهذه القاعدة ، ومن أعربه مفعولاً من أجله ففيه أيضاً الفصل بين النعت والمنعوت بهذه الفضلة . وفي جواز ذلك نظر مع ما نبهنا عليه من فوات الشرط وهو : اتحاد الفاعل . فإن جعلت تغشى جملة مستأنفة وكأنها جواب لسؤال من سأل : ما حكم هذه الأمنة ؟ فأخبر تعالى تغشى طائفة منكم ، جاز ذلك . و

قال ابن عطية : أسند الفعل إلى ضمير المبدل منه انتهى . لما أعرب نعاساً بدلاً من أمنة ، كان القياس أن يحدث عن البدل لا عن المبدل منه ، فحدث هنا عن المبدل منه ، فحدث هنا عن المبدل منه . فإذا

قلت : إن هنداً حسنها فاتن ، كان الخبر عن حسنها ، هذا هو المشهور في كلام العرب . وأجاز بعض أصحابنا أن يخبر عن المبدل منه كما أجاز ذلك ابن عطية في الآية ، واستدل على ذلك بقوله : إن السيوف غدوها ورواحها

تركت هوازن مثل قرن الأعضب

ويقول الآخر : وكأنه لهق السراة كأنه

ما حاجبيه معين بسواد

فقال : تركت ، ولم يقل تركاً . وقال معين : ولم يقل معينان ، فأعاد الضمير على المبدل منه وهو السيوف ، والضمير في كأنه ولم يعد على البدل وهي : غدوها ورواحها وحاجبيه . وما زائدة بين المبدل منه والبدل . ولا حجة فيما استدل به لاحتمال أن يكون انتصاب غدوها ورواحها على الظرف لا على البدل ، ولاحتمال أن يكون معين خبراً عن حاجبيه ، لأنه يجوز أن يخبر عن الاثنين اللذين لا يستغني أحدهما عن الآخر ، كاليدين والرجلين والعينين والحاجبين إخبار الواحد . كما قال : لمن زحلوقه زل

بها العينان تنهل

وقال : وكأنّ في العينين حبّ قرنفل

أو سنبلاً كحلت به فانهلت

فقال تنهل وكحلت به ، ولم يقل تنهلان ولا كحلتا به وهذا كما أجازوا أن يخبر عن الواحد من هذين إخبار المثنى ، قال :

إذا ذكرت عيني الزمان الذي مضى

بصحراء فلج ظلتا تكفان

فقال : ظلتا ولم يقل : ظلت تكف .

وقرأ الباقون : يغشى بالياء ، حمله على لفظ النعاس .

{وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّه غَيْرَ الْحَقّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الاْمْرِ مِن شَىْء قُلْ إِنَّ } قال مكي : أجمع المفسرون على أن هذه الطائفة هم المنافقون ، وقالوا : غشي النعاس أهل الإيمان والإخلاص ، فكان سبباً لأمنهم وثباتهم . وعرى منه أهل النفاق والشك ، فكان سبباً لجزعهم وانكشافهم عن مراتبهم في مصافهم انتهى .

ويقال : أهمني الشيء ، أي : كان من همي وقصدي . أي : مما أهم به أو قصد . وأهمني الأمر أقلقني وأدخلني في الهم ، أي الغم . فعلى هذا اختلف المفسرون في قد أهمتهم أنفسهم . فقال قتادة والرّبيع وابن إسحاق وأكثرهم : هو بمعنى الغم ، والمعنى : أن نفوسهم المريضة وظنونهم السيئة قد جلبت إليهم خوف القتل ، وهذا معنى قول الزمخشري : أو قد أوقعتهم أنفسهم وما حل بهم في الغموم والأشجان ، فهم في التشاكي . وقال بعض المفسرين : هو مِن هَمَّ بالشيء أراد فعله . والمعنى : أهمتهم أنفسهم المكاشفة ونبذ الدين . وهذا القول من قال : قد قتل محمد فنلرجع إلى ديننا الأول ، ونحو هذا من الأقوال .

وقال الزمخشريفي قوله : قد أهمتهم أنفسهم ، ما بهم إلا همّ أنفسهم ، لا هم الدّين ، ولا هم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمسلمين انتهى . فيكون من قولهم : أهمني الشيء أي : كان من همي وإرادتي . والمعنى : أهمهم خلاص أنفسهم خاصة ، أي : كان من همهم وإرادتهم خلاص أنفسهم فقط ، ومن غير الحق يظنون أن الإسلام ليس بحق ، وأن أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يذهب ويزول .

ومعنى ظن الجاهلية عند الجمهور : المدة الجاهلية القديمة قبل الإسلام ، كما قال :{ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ }{ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ } وكما تقول : شعر الجاهلية .

وقال ابن عباس : سمعت أبي في الجاهلية يقول : اسقنا كأساً دهاقاً . وقال بعض المفسرين : المعنى ظن الفرقة الجاهلية ، والإشارة إلى أبي سفيان ومن معه ، ونحا إلى هذا القول : قتادة والطبري . قال مقاتل : ظنوا أن أمره مضمحل . وقال الزجاج : إن مدّته قد انقضت . وقال الضحاك عن ابن عباس : ظنوا أن محمداً صلى اللّه عليه وسلم قد قتل .

وقيل : ظن الجاهلية إبطال النبوّات والشرائع .

وقيل : يأسهم من نصر اللّه وشكهم في سابق وعده بالنصرة .

وقيل : يظنون أن الحق ما عليه الكفار ، فلذلك نصروا .

وقيل : كذبوا بالقدر .

قال الزمخشري : وظن الجاهلية كقولك : خاتم الجود ورجل صدق ، تريد الظن المختص بالملة الجاهلية . ويجوز أنْ يراد ظن أهل الجاهلية ، أي لا يظن مثل ذلك الظن إلا أهل الشرك الجاهلون باللّه . انتهى وظاهر قوله : هل لنا من الأمر من شيء الاستفهام ؟ فقيل : سألوا الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، هل لهم معاشر المسلمين من النصر والظهور على العدوّ شي أي نصيب ؟ وأجيبوا بقوله :{ قُلْ إِنَّ الاْمْرَ كُلَّهُ للّه } وهو النصر والغلبة . كتب اللّه لأغلبن أنا ورسلي ، وأن جندنا لهم الغالبون .

وقيل : المعنى ليس النصر لنا ، بل هو للمشركين . وقال قتادة وابن جريج : قيل لعبد اللّه بن أبيّ بن سلول : قتل بنو الخزرج ، فقال : وهل لنا من الأمر من شيء ؟ يريد : أن الرأي ليس لنا ، ولو كان لنا منه شيء لسمع من رأينا ولم نخرج ولم يقتل أحد منا . وهذا منهم قول بأجلين . وذكر المهدوي وابن فورك : أن المعنى لسنا على حق في اتباع محمد . ويضعف هذا التأويل الرد عليهم بقوله : قل . فأفهم أن كلامهم إنما هو في معنى سوء الرأي في الخروج ، وأنه لو لم يخرج لم يقتل أحد .

وعلى هذا المعنى وما قبله من قول قتادة وابن جريج يكون الاستفهام معناه النفي . ولما أكد في كلامهم بزيادة من في قوله : من شيء ، جاء الكلام مؤكداً بأنَّ ، وبولغ في توكيد العموم بقوله : كله للّه . فكان الجواب أبلغ .

والخطاب بقوله : قل ، متوجه إلى الرسول بلا خلاف .

والذي يظهر أنه استفهام باق على حقيقته ، لأنهم أجيبوا بقوله : قل إن الأمر كله للّه . ولو كان معناه النفي لم يجابوا بذلك ، لأنّ من نفي عن نفسه أن يكون له شيء من الأمر لا يجاوب بذلك ، إلا إنْ قدر مع جملة النفي جملة ثبوتية لغيرهم ، فكان المعنى : ليس لنا من الأمر من شيء بل لغيرنا ممن حملنا على الخروج وأكرهنا عليه ، فيمكن أن يكون ذلك جواباً لهذا المقدّر . وهذه الجملة الجوابية معترضة بين الجمل التي أخبر اللّه بها عنهم .

والواو في قوله : وطائفة ، واو الحال . وطائفة مبتدأ ، والجملة المتصلة به خبره . وجاز الابتداء بالنكرة هنا إذ فيه مسوغان :

أحدهما : واو الحال وقد ذكرها بعضهم في المسوغات ، ولم يذكر ذلك أكثر أصحابنا وقال الشاعر : سرينا ونجم قد أضاء فمذ بدا

محياك أخفى ضوؤه كل شارق

والمسوغ

الثاني : أن الموضع موضع تفصيل . إذ المعنى : يغشى طائفة منكم ، وطائفة لم يناموا ، فصار نظير قوله : إذا ما بكى من خلفها انصرفت له

بشق وشق عندنا لم يحوّل

ونصب طائفة على أن تكون المسألة من باب الاشتغال على هذا التقدير من الإعراب جائز . ويجوز أن يكون قد أهمتهم في موضع الصفة ، ويظنون الخبر . ويجوز أن يكون الخبر محذوفاً ، والجملتان صفتان ، التقدير : ومنكم طائفة . ويجوز أن يكون يظنون حالاً من الضمير في أهمتهم ، وانتصاب غير الحق . قال أبو البقاء : على أنه مفعول أول لتظنون ، أي أمراً غير الحق ، وباللّه الثاني .

وقال الزمخشري : غير الحق في حكم المصدر ، ومعناه : يظنون باللّه ظن الجاهلية ، وغير الحق تأكيد ليظنون كقولك : هذا القول غير ما تقول ، وهذا القول لا قولك ، انتهى . فعلى هذا لم يذكر ليظنون مفعولين ، وتكون الباء ظرفية كما تقول : ظننت بزيد . وإذا كان كذلك لم تتعد ظننت إلى مفعولين ، وإنما المعنى : جعلت مكان ظني زيداً . وقد نص النحويون على هذا . وعليه : فقلت لهم ظنوا بألفي مدحج

سراتهم في السائريّ المسرد

أي : اجعلوا مكان ظنكم ألفي مدحج . وانتصاب ظن على أنه مصدر تشبيهي ، أي : ظناً مثل ظن الجاهلية . ويجوز في : يقولون أن يكون صفة ، أو حالاً من الضمير في يظنون ، أو خبراً بعد خبر على مذهب من يجيز تعداد الأخبار في غير ما اتفقوا على جواز تعداده . ومن شيء في موضع مبتدأ ، إذ من زائدة ، وخبره في لنا ، ومن الأمر في موضع الحال ، لأنه لو تأخر عن شيء لكان نعتاً له ، فيتعلق بمحذوف . وأجاز أبو البقاء أن يكون من الأمر هو الخبر ، ولنا تبيين وبه تتم الفائدة كقوله تعالى : { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } وهذا لا يجوز : لأن ما جاء للتبيين العامل فيه مقدر ، وتقديره : أعني لنا هو جملة أخرى ، فيبقى المبتدأ والخبر جملة لا تستقل بالفائدة ، وذلك لا يجوز .

وأما تمثيله بقوله : ولم يكن له كفواً أحد فهما لا سواء ، لأن له معمول لكفواً ، وليس تبييناً . فيكون عامله مقدراً ، والمعنى : ولم يكن أحد كفواً له ، أي مكافياً له ، فصار نظير لم يكن له ضار بالعمرو ، فقوله : لعمرو ليس تبينناً ، بل معمولاً لضارب .

وقرأ الجمهور كله بالنصب تأكيداً للأمر .

وقرأ أبو عمر : وكله على أنه مبتدأ ، ويجوز أن يعرب توكيداً للأمر على الموضع على مذهب من يجيز ذلك وهو : الجرمي ، والزجاج ، والفراء .

قال ابن عطية : ورجح الناس قراءة

الجمهور ، لأن التأكيد أملك بلفظة كلّ انتهى . ولا ترجيح ، إذ كل من القراءتين متواتر ، والابتداء بكل كثير في لسان العرب .

{يُخْفُونَ فِى أَنْفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ } قيل : معناه يتسترون بهذه الأقوال التي ليست بمحض كفر ، بل هي جهالة . ويحتمل أن يكون إخباراً عما يخفونه من الكفر الذي لا يقدرون أن يظهروا منه أكثر من هذه النزغات .

وقيل : الذي أخفوه قولهم : لو كنا في بيوتنا ما قتلنا هاهنا .

وقيل : الندم على حضورهم مع المسلمين بأحد .

{يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الاْمْرِ شَىْء مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا } قال الزبير بن العوام فيما أسند عنه الطبري : واللّه لكأني أسمع قول معتب بن قشير أخي بني عمرو بن عوف والنعاسُ يغشاني ما أسمعه إلا كالحلم حين قال : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا . ومعتب هذا شهد بدراً ، ذكر ذلك ابن إسحاق وغيره ، وكان مغموصاً عليه بالنفاق . والمعنى : ما قتل إشرافنا وخيارنا ، وهذا إطلاق اسم الكل على البعض مجازاً .

وقوله : يقولون ، يجوز أن يكون هو الذي أخفوه ، فيكون ذلك تفسيراً بعد إبهام قوله : ما لا يبدون لك . ومعناه : يقولون في أنفسهم أو بعضهم لبعض .

وقوله : من الأمر ، فسَّر الأمر هنا بما فسر في قول عبد اللّه بن أبي بن سلول : هل لنا من الأمر من شيء . فقيل : المعنى لو كان الأمر كما قال محمد إن الأمر كله للّه ولأوليائه وإنهم الغالبون ، لما غلبنا قط ، ولما قتل من المسلمين من قتل في هذه المعركة ،

وقيل : من الرأي والتدبير .

وقيل : من دين محمد . أي لسنا على حق في اتباعه .

وجواب لو هو الجملة المنفية بما . وإذا نفيت بما فالفصيح أن لا تدخل عليه اللام .

قيل : وفي قصة أحد اضطراب . ففي أولها أن عبد اللّه بن أبي ومن معه من المنافقين رجعوا ولم يشهدوا أحداً ، فعلى هذا يكون قالوا هذا بالمدينة ، ولم يقتل أحد منهم ولا من أصحابهم بالمدينة ، وإنما قتلوا بأحد ، فكيف جاء قوله هاهنا ، وحديث الزبير في سماعه معتباً يقول ذلك دليل على أن معتباً حضر أحداً ؟ فإن صح حديث الزبير فيكون قد تخلف عن عبد اللّه بعض المنافقين وحضر أحداً ، فيتجه قوله هاهنا ، وإنْ لم يصح فيوجه قوله : هاهنا إلى أنه إشارة إلى أحد إشارة القريب الحاضر لقرب أحد من المدينة .{ قُل لَّوْ كُنتُمْ فِى بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ } هذا النوع عند علماء البيان يسمى الاحتجاج النظري : وهو أن يذكر المتكلم معنى يستدلّ عليه بضروب من المعقول نحو :{ لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَةٌ إِلاَّ اللّه لَفَسَدَتَا }{ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ }{أَوَ لَيْسَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ بِقَادِرٍ } وبعضهم يسميه : المذهب الكلامي . ومنه قول الشاعر : جرى القضاء بما فيه فإن تلم

فلا ملام على ما خط بالقلم

وكتب : بمعنى فرض ، أو قضى وحتم ، أو خط في اللوح ، أو كتب ذلك الملك عليهم وهم أجنة ، أقوال . ومعنى الآية : أنه لو تخلفتم في البيوت لخرج من حتم عليه القتل إلى مكان مصرعه فقتل فيه ، وهذا رد على قول معتب ، ودليل على أن كل امرىء له أجل واحد لا يتعداه . فإنْ قيل : فهو الأجل الذي سبق له في الأزل وإلاّ مات لذلك الأجل ، ولا فرق بين موته وخروج روحه بالقتل ، أو بأي أسباب المرض ، أو فجأه من غير مرض هو أجل واحد لكل امرىء وإن تعددت الأسباب . وقد تكلم الزمخشري هنا بألفاظ مسهبة على عادته . فقال : لو كنتم في بيوتكم يعني من علم اللّه أنه يقتل ويصرع في هذه المصارع وكتب ذلك في اللوح المحفوظ ، لم يكن بد من وجوده . فلو قعدتم في بيوتكم لبرز من بينكم الذين علم اللّه أنهم يقتلون إلى مضاجعهم وهي مصارعهم ، ليكون ما علم أنه يكون . والمعنى : أن اللّه كتب في اللوح قتل من يقتل من المؤمنين ، وكتب مع ذلك أنهم الغالبون لعلمه أن العاقبة في الغلبة لهم ، وأن دين الإسلام يظهر على الدين كله . وإنما

ينكبون به في بعض الأوقات . تمحيص لهم ، وترغيب في الشهادة ، وحرصهم على الشهادة مما يحرضهم على الجهاد فتحصل الغلبة . انتهى كلامه . وهو نوع من الخطابة والمعنى في الآية واضح جداً لا يحتاج إلى هذا التطويل .

وقرأ الجمهور : لبرز ، ثلاثياً مبنياً للفاعل . أي لصاروا في البراز من الأرض .

وقرأ أبو حيوة : لبرّز مبنياً للمفعول مشدّد الراء ، عدي برز بالتضعيف .

وقرأ الجمهور : كتب مبنياً للمفعول ، ورفع القتل . وقرىء : كتب مبنياً للفاعل ، ونصب القتل .

وقرأ الحسن والزهري : القتالُ مرفوعاً . وتحتمل هذه القراءة الاستغناء عن المنافقين ، أي : لو تخلفتم أنتم لبرز المطيعون المؤمنون الذين فرض عليهم القتال ، وخرجوا طائعين إلى مواضع استشهادهم ، فاستغنى بهم عنكم .

{وَلِيَبْتَلِىَ اللّه مَا فِى صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحّصَ مَا فِى قُلُوبِكُمْ } تقدم معنى الابتلاء والتحيص . فقيل : المعنى إنّ اللّه فرض عليكم القتال ولم ينصركم يوم أحد ليختبر صبركم ، وليمحص عنكم سيئاتكم إنْ تبتم وأخلصتم .

وقيل : ليعاملكم معاملة المختبر .

وقيل : ليقع منكم مشاهدة علمه غيباً كقوله :{ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}

وقيل : هو على حذف مضاف . أي : وليبتلي أولياء اللّه ما في صدوركم ، فإضافة إليه تعالى تفخيماً لشأنه . والواو قيل : زائدة .

وقيل : للعطف على علة محذوفة ، أي : ليقضي اللّه أمره وليبتلي . وقال ابن بحر : عطف على ليبتليكم ، لما طال الكلام أعاده ثم عطف عليه ليمحص .

وقيل : تتعلق اللام بفعل متأخر ، التقدير : وليبتلي وليمحص فعل هذه الأمور الواقعة . وكان متعلق الابتلاء ما انطوت عليه الصدور وهي القلوب كما قال :{ وَلَاكِنِ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ } ومتعلق التمحيص وهو التصفية والتطهير ما انطوت عليه القلوب من النيات والعقائد .

{وَاللّه عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } تقدم تفسير مثل هذه الجملة ، وجاء بها عقيب قوله : وليمحص ما في قلوبكم على معنى : أنه عليم بما انطوت عليه الصدور ، وما أضمرته من العقائد ، فهو يمحص منها ما أراد تمحيصه .

﴿ ١٥٤