١٧٩

ما كان اللّه . . . . .

{مَّا كَانَ اللّه لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيّبِ } الخطاب في أنتم للمؤمنين ، والمعنى : على ما أنتم عليه أيها المؤمنون من اختلاطكم بالمنافقين . وإشكال أمرهم وإجراء المنافق مجرى المؤمن ، ولكنه ميز بعضاً من بعض بما ظهر من هؤلاء وهؤلاء من الأقوال والأفعال قاله : مجاهد ، وابن جريج ، وابن إسحاق .

وقيل : الخطاب للكفار ، والمعنى : على ما أنتم عليه أيها الكفار من اختلاطكم بالمؤمنين قاله : قتادة ، والسدي . قال السدي وغيره : قال الكفار في بعض جدلهم : أنت يا محمد تزعم في الرّجل منا أنّه من أهل النار ، وأنّه إذا اتبعك من أهل الجنة ، فكيف يصح هذا ؟ ولكنْ أخبرنا بمن يؤمن منا ، وبمن يبقى على كفره ، فنزلت . فقيل لهم : لا بد من التمييز .

وقال ابن عباس : وأكثر المفسرين الخطاب للكفار والمنافقين .

وقيل : الخطاب للمؤمنين والكافرين ، وهو قريب مما قاله الزمخشري : غاية ما فيه أنه بدل الكافرين بالمنافقين فقال : { فإن قلت } : لمن الخطابُ في أنتم ؟ { قلت} : للمصدقين جميعاً من أهل الإخلاص والنفاق ، كأنه قيل : ما كان اللّه ليذر المخلصين منكم على الحال التي أنتم عليها من اختلاط بعضكم ببعض ، وأنه لا يعرف مخلصكم من منافقكم ، لاتفاقكم على التصديق جميعاً حتى يميزهم منكم بالوحي إلى نبيه بأخباره بأحوالكم .

قال الزمخشري : ويجوز أن يراد لا يترككم مختلطين حتى يميز الخبيث من الطيب ، بأن يكلفكم التكاليف الصعبة التي لا يصبر عليها إلا الخلص الذين امتحن اللّه قلوبهم كبذل الأرواح في الجهاد ، وإنفاق الأموال في سبيل اللّه ، فيجعل ذلك عياراً على عقائدكم ، وشاهداً بضمائركم ، حتى يعلم بعضكم ما في قلب بعض من طريق الاستدلال ، لا من جهة الوقوف على ذات الصدور والاطلاع عليها ، فإنّ ذلك مما استأثر اللّه به انتهى . ومعنى هذا القول لابن كيسان . قال ابن كيسان : المعنى ما يذركم على الإقرار حتى يختبركم بالشرائع والتكاليف ، فأخذه الزمخشري والقول الذي قبله ونمقهما ببلاغته وحسن خطابته .

وقيل : المعنى ما كان اللّه ليذر أولادكم الذين حكم عليهم بالإيمان على ما أنتم عليه من الشرك حتى يفرق بينكم وبينهم .

وقيل : كانوا يستهزؤن بالمؤمنين سراً فقال : لا يدعكم على ما أنتم عليه من الطعن فيهم والاستهزاء ، ولكن يمتحنكم لتفتضحوا ويظهر نفاقكم عندهم ، لا في دار واحدة ، ولكن يجعل لهم داراً أخرى يميز فيها الخبيث من الطيب ، فيجعل الخبيث في النار ، والطيب في يالجنة . والخبيث الكافر ، والطيب المؤمن ، وتمييزه بالهجرة والجهاد . وقال مجاهد : الطيب المؤمن ، والخبيث المنافق ، ميز بينهما يوم أحد .

وقيل : الخببث الكافر ، والطيب المؤمن ، وتمييزه بإخراج أحدهما من صلب الآخر .

وقيل : تمييز الخبيث هو إخراج الذنوب من أحياء المؤمنين بالبلايا والرزايا .

وقيل : الخبيث العاصي ، والطيب المطيع ، والألف واللام في الخبيث والطيب للجنس أو للعهد ، إذ كان المعهود في ذلك الوقت أن

الخبيث هو الكافر والطيب هو المؤمن كما قال : { الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ } الآية .

واللام في قوله : ليذر هي المسماة لام الجحود ، وهي عند الكوفيين زائدة لتأكيد النفي ، وتعمل بنفسها النصب في المضارع . وخبر كان هو الفعل بعدها فتقول : ما كان زيد يقوم ، وما كان زيد ليقوم ، إذا أكدت النفي . ومذهب البصريين أنَّ خبر كان محذوف ، وأن النصب بعد هذه اللام بأن مضمرة واجبة الإضمار ، وأنَّ اللام مقوية لطلب ذلك المحذوف لما بعدها ، وأنَّ التقدير : ما كان اللّه مريداً ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه ، أي : ما كان مريداً لترك المؤمنين . وقد تكلمنا على هذه المسألة في كتابنا المسمى بالتكميل في شرح التسهيل . وحتى للغاية المجرّدة ، والتقدير : إلى أن يميزها كذا قالوا ، وهو مشكل على أن تكون غاية على ظاهر اللفظ ، لأنه يكون المعنى : لا يتركهم مختلطين إلى أن يميز ، فيكون قد غيا نفي الترك إلى وجود التمييز ، فإذا وجد التمييز تركهم على ما هم عليه من الاختلاط ، وصار نظير ما أضرب زيداً إلى أن يجيء عمرو ، فمفهومه : إذا جاء عمرو ضربت زيداً ، وليس المراد من الآية هذا المعنى ، وإنما هي غاية لما تضمنه الكلام السابق من المعنى الذي يصح أن يكون غاية له . ومعنى ما كان اللّه ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه : أنه تعالى يخلص ما بينكم بالابتلاء والامتحان ، إلى أن يميز الخبيث من الطيب .

وقرأ الأخوان : يميز من ميز ، وباقي السبعة يميز من ماز .

وفي رواية عن ابن كثير : يميز من أماز ، والهمزة ليست للنقل ، كما أن التضعيف ليس للنقل ، بل أفعل وفعل بمعنى الثلاثي المجرّد كحزن وأحزن ، وقدر اللّه

وقدّر { وَمَا كَانَ اللّه لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ } لمّا قدم أنه تعالى هو الذي يميز الخبيث من الطيب وليس لهم تمييز ذلك ، أخبر أنه لا يطلع أحداً من المخاطبين على الغيب .

{وَلَكِنَّ اللّه يَجْتَبِى } أي : يختار ويصطفي { مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء } فيطلعه على ما شاء من المغيبات . فوقوع لكنَّ هنا لكون ما بعدها ضداً لما قبلها في المعنى . إذ تضمن اجتباء من شاء من رسله اطلاعه إياه على ما أراد تعالى من علم الغيب ، فاطلاع الرسول على الغيب هو باطلاع اللّه تعالى بوحي إليه ، فيخبر بأنَّ في الغيب كذا من نفاق هذا وإخلاص هذا فهو عالم بذلك من جهة الوحي ، لا من جهة اطلاعه نفسه من غير واسطة وحي على المغيبات . قال السدي وغيره : ليطلعكم على الغيب ، فيمن يؤمن ، ومن يبقى كافراً ، ولكنَّ هذا رسول مجتبي . وقال مجاهد وابن جريج وغيره : هي في أمر أحدٍ أي : ليطلعكم على أنكم تهزمون ، أو تكفون عن القتال .

وقيل : ليطلعكم على المنافقين تصريحاً بهم ، وتسمية بأعيانهم ، ولكنْ بقرائن أفعالهم وأقوالهم . والغيب هنا ما غاب عن البشر مما هو في علم اللّه تعالى من الحوادث التي تحدث ، ومن الأسرار التي في قلوب المنافقين ، ومن الأقوال التي يقولونها إذا غابوا عن الناس . وقال الزجاج وغيره : روي أن بعض الكفار قال : لم لا يكون جميعنا أنبياء ؟ فنزلت .

وقيل : قالوا : لِم لمْ يوحَ إلينا في أمر محمد ؟ فنزلت .

وقيل : قالوا : نحن أكثر أموالاً وأولاداً فهلا كان الوحي إلينا ، فنزلت .

وقيل : كانت الشياطين يصعدون إلى السماء فيسترقون السمع ، فيأتون بأخبارها إلى الكهنة قبل أن يبعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فأنزلها اللّه بعد بعثته . ولكن اللّه يصطفي من يشاء فيجعله رسولاً فيوحي إليه ، أي : ليس الوحي من السماء لغير الأنبياء . وظاهر الآية هو ما قدّمناه من أنه تعالى هو الذي يميز بين الخبيث والطيب ، أخبر أنكم لا تدركون أنتم ذلك ، لأنه تعالى لم يطلعكم على ما أكنته القلوب من الإيمان والنفاق ، ولكنه تعالى يختار من رسله من يشاء فيطلعه على ذلك ، فتطلعون عليه من جهة الرسول بأخباره لكم عن ذلك بوحي اللّه . وهذا معنى ما روي أيضاً عن السدي أنه قال : حكم بأنه يظهر هذا التمييز . ثم بيّن بهذه الآية أنه لا يجوز أن يجعل هذا التمييز في عوام الناس بأن يطلعهم على غيبة فيقولون : إنَّ فلاناً منافق ، وفلاناً مؤمن . بل سنة اللّه تعالى جارية بأنْ لا يطلع عوام الناس ، ولا سبيل لهم إلى معرفة ذلك إلا بالامتحان . فأمّا معرفة ذلك على سبيل الاطلاع على الغيب فهو من خواص الأنبياء ، ولهذا

قال تعالى : ولكن اللّه يجتبي من رسله من يشاء ، فيخصهم بإعلام أن هذا مؤمن وهذا منافق . وهذه الأقوال كلها والتفاسير مشعرة بأنَّ هذا الغيب الذي نفى اللّه اطلاع الناس عليه راجع إلى أحوال المؤمنين والمنافقين ، ويحتمل أن يكون ذلك على سبيل العموم . أي : ما كان اللّه ليجعلكم كلكم عالمين بالمغيبات من حيث يعلم الرسول حتى تصيروا مستغنين عنه ، بل اللّه يخص من يشاء من عباده بذلك وهو الرسول ، فتندرج أحوال المنافق والمؤمن في هذا العام .

{مَّا كَانَ اللّه} لما ذكر أنه تعالى يختار من رسله من يشاء فيطلعه على المغيبات ، أمر بالتصديق بالمجتبى ، والمجتبي ومن يشاء هو محمد صلى اللّه عليه وسلم ، إذ ثبتت نبوته باطلاع اللّه إياه على المغيبات ، وأخباره لكم بها في غير ما موطن . وجمع في قوله ورسله تنبيهاً على أنّ طريق إثبات نبوة جميع الأنبياء واحدة ، وهو ظهور المعجز على أيديهم .

قال الزمخشري في قوله تعالى : فآمنوا باللّه ورسله ، بأن تقدروه حق قدره ، وتعلمونه وحده مطلعاً على الغيوب ، وأن ينزلوهم منازلهم بأن تعلموهم عباداً مجتبين لا

يعلمون إلا ما علمهم اللّه ، ولا يخبرون إلا بما أخبر اللّه به من الغيوب ، وليسوا من علم الغيب في شيء انتهى .

{وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ } رتب حصول الأجر العظيم على الإيمان ، والمعنى : الإيمان السابق ، وهو الإيمان باللّه ورسله ، وعلى التقوى وهي زائدة على الإيمان ، وكأنها مرادة في الجملة السابقة فكأنه قيل : فآمنوا باللّه ورسله واتقوا اللّه .

﴿ ١٧٩