١٨٣

الذين قالوا إن . . . . .

{الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّه عَهِدَ إِلَيْنَا أَن لا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ } قال الكعبي : نزلت في كعب بن الأشرف ، ومالك بن الصيف ، ووهب بن يهوذا ، وزيد بن مانوه ، وفنحاص بن عازوراء ، وحيي بن أخطب ، أتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالوا : تزعم أن اللّه بعثك إلينا رسولاً ، وأنزل عليك كتاباً ، وأن اللّه قد عهد إلينا في التوراة أن لا نؤمن لرسول يزعم أنه من عند اللّه حتى يأتينا بقربان تأكله النار ، فإن جئتنا به صدقناك . وظاهر هذا القول أنه عهد إليهم في التوراة ، فقيل : كان هذا في التوراة ، ولكن كان تمام الكلام حتى يأتيكم المسيح ومحمد ، فإذا أتياكم فآمنوا بهما من غير قربان .

وقيل : كان أمر القرابين ثابتاً ، إلى أن نسخت على لسان المسيح .

وقيل : ذكرهم هذا العهد هو من كذبهم على اللّه تعالى ، وافترائهم عليه ، وعلى أنبيائه .

ومعنى عهد : وصي ، والعهد أخص من الأمر ، لأنه في كل ما يتطاول أمره ويبقى في غابر الزمان ، وتقدم تفسيره . وتعدى نؤمن باللام كما في قوله :{ فَمَا ءامَنَ لِمُوسَى } يؤمن للّه . والقربان : ما يتقرّب به من شاة أو بقرة أو غير ذلك ، وهو في الأصل مصدر سمي المفعول به كالرهن ، وكان حكمه قديماً في الأنبياء . ألا ترى إلى قصة ابني آدم ، وكان أكل النار ذلك القربان دليلاً على قبول العمل من صدقة أو عمل ، أو صدق مقالة . وإذا لم تنزل النار فليس بمقبول ، وكانت النار أيضاً تنزل للغنائم فتحرقها . وإسناد الأكل إلى النار مجاز واستعارة عن إذهاب الشيء وإفنائه ، إذ حقيقة الأكل إنما توجد في الحيوان المتغذي ، والقربان وأكل النار معجز للنبي يوجب الإيمان به ، فهو وسائر المعجزات سواء . وللّه أن يعين من الآيات ما شاء لأنبيائه ، وهذا نظير ما يقترحونه من الآيات على سبيل التبكيت والتعجيز . وقد أخبر تعالى أنه لو نزل ما اقترحوه لما آمنوا .

والذين قالوا صفة للذين قالوا . وقال الزجاج : الذين صفة للعبيد .

قال ابن عطية : وهذا مفسد للمعنى والوصف انتهى . وهو كما قال . وجوزوا قطعة للرّفع ، والنصب

واتباعه بدلاً . وفي أن لا نؤمن تقدير حرف جر ، فحذف وبقي على الخلاف فيه : أهو في موضع نصب أو جر ؟ وأن يكون مفعولاً به على تضمين عهد معنى الزم ، فكأنه ألزمنا أن لا نؤمن .

وقرأ عيسى بن عمر بقرُبان بضم الراء .

قال ابن عطية : اتباعاً لضمة القاف ، وليس بلغة . لأنه ليس في الكلام فُعُلان بضم الفاء والعين .

وحكى سيبويه السلطان بضم اللام ، وقال : إن ذلك على الاتباع انتهى . ولم يقل سيبويه : إنَّ ذلك على الاتباع ، بل قال : ولا نعلم في الكلام فعلان ولا فعلان ، ولا شيئاً من هذا النحو لم يذكره . ولكنه جاء فعلان وهو قليل ، قالوا : السلطان وهو اسم انتهى . وقال الشارح : صاحب في اللغة لا يسكن ولا يتبع ، وكذا ذكر التصريفيون أنه بناء مستقبل . قالوا فيما لحقه زيادتان بعد اللام وعلى فعلان ولم يجيء إلا اسماً : وهو قليل نحو سلطان .

{قُلْ قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِى بِالْبَيّنَاتِ وَبِالَّذِى قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } رد اللّه تعالى عليهم وأكذبهم في اقتراحهم ، وألزمهم أنهم قد جاءتهم الرسل بالذي قالوه من الإتيان بالقربان الذي تأكله النار وبالآيات غيره ، فلم يؤمنوا بهم ، بل قتلوهم . ولم يكتفوا بتكذيبهم حتى أوقعوا بهم شر فعل ، وهو إتلاف النفس بالقتل . فالمعنى أن هذا منكم معشر اليهود تعلل وتعنت ، ولو جاءهم بالقربان لتعللوا بغير ذلك مما يقترحونه . والاقتراح لا غاية له ، ولا يجاب طالبه إلا إذا أراد اللّه هلاكه ، كقصة قوم صالح وغيره . وكذلك قيل لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في اقتراح قريش فأبى عليه السلام وقال :{ بَلِ ادْعُوهُمْ } ومعنى : إن كنتم صادقين في دعواكم أنّ الإيمان يلزم بإتيان البينات والقربان ، أو صادقين في أنّ اللّه عهد إليكم .

﴿ ١٨٣