١٨٥

كل نفس ذائقة . . . . .

{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ } تضمنت هذه الجملة وما بعدها الوعظ والتسلية لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن الدنيا وأهلها ، والوعد بالنجاة في الآخرة بذكر الموت ، والفكرة فيه تهون ما يصدر من الكفار من تكذيب وغيره . ولمّا تقدّم ذكر

المكذبين الكاذبين على اللّه من اليهود والمنافقين وذكرهم المؤمنين ، نبهوا كلهم على أنهم ميتون ومآلهم إلى الآخرة ، ففيها يظهر الناجي والهالك ، وأنَّ ما تعلقوا به في الدنيا من مال وأهل وعشيرة إنما هو على سبيل التمتع المغرور به ، كلها تضمحل وتزول ولا يبقى إلا ما عمله الإنسان ، وهو يوفاه في الآخرة ، يوفى على طاعته ومعصيته .

وقال محمد بن عمر الرازي : في هذه الآية دلالة على أن النفس لا تموت بموت البدن ، وعلى أن النفس . غير البدن انتهى . وهذه مكابرة في الدلالة ، فإنّ ظاهر الآية يدل على أن النفس تموت . قال أيضاً : لفظ النفس مختص بالأجسام انتهى .

وقرأ اليزيدي : ذائقة بالتنوين ، الموت بالنصب ، وذلك فيما نقله عنه الزمخشري . ونقلها ابن عطية عن أبي حيوة ، ونقلها غيرهما عن الأعمش ، ويحيى ، وابن أبي إسحاق .

وقرأ الأعمش فيما نقله الزمخشري ذائقة بغير تنوين الموت بالنصب ومثله : فألفيته غر مستعتب

ولا ذاكر اللّه إلا قليلا

حذف التنوين لالتقاء الساكنين ، كقراءة من قرأ { قُلْ هُوَ اللّه أَحَدٌ اللّه الصَّمَدُ } بحذف التنوين من أحد { وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } لفظ التوفية يدل على التكميل يوم القيامة ، فما قبله من كون القبر روضة من رياض الجنة ، أو حفرة من حفر النار ، هو بعض الأجور . وما لم يدخل الجنة أو النار فهو غير موفى . والذي يدل عليه السياق أنّ الأجور هي ما يترتب على الطاعة والمعصية ، وإن كان الغالب في الاستعمال أنّ الأجر هو ما يترتب على عمل الطاعة . ولهذا

قال ابن عطية : وخص تعالى ذكر الأجور لشرفها ، وإشارة إلى مغفرته لمحمد صلى اللّه عليه وسلم وأمّته . ولا محالة أنّ يوم القيامة يقع فيه الأجور ، وتوفية العقوبات انتهى .

{فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ } علق الفوز وهو نيل الحظ من الخير والنجاة من الشرّ على التنحية من النار ودخول الجنة ، لأن من لم ينج عن النار بل أدخلها ، وإن كان سيدخل الجنة لم يفز كمن يدخلها من أهل الكبائر . ومن نحى عنها ولم يدخل الجنة كأصحاب اوعراف ، لم يفز أيضاً . وروي في الحديث عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : { من سره أن يزحزح عن النار وأن يدخل الجنة فلتأته منيته وهو يشهد أن لا إلاه إلا اللّه وأن محمداً رسول اللّه ، ويأتي إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه ، قيل : فاز معناه نجا .}

وقيل : سبق .

وقيل : غنم .

{وَما الْحَيَواةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ } المتاع : ما يستمتع به من آلات وأموال وغير ذلك . وفسرّه عكرمة : بالفأس ، والقصعة ، والقدر . وفسره الحسن فقال : هو كخضرة النبات ، ولعب البنات لا حاصل له يلمع لمع السراب ، ويمر مرّ السحاب ، وهذا من عكرمة والحسن على سبيل التمثيل .

قال الزمخشري : شبه الدنيا بالمتاع الذي يدلس به على المستام ويغر حتى يشتريه ، ثم يتبين له فساده ورداءته ، والشيطان هو المدلس . الغرور انتهى . وقال سعيد بن جبير : إنما هذا المن آثرها على الآخرة ، فأمّا من طلب الآخرة بها فإنها متاع بلاغ . وقال عكرمة أيضاً : متاع الغرور القوارير التي لا بد لها من الانكسار والفساد ، فكذلك أمر الدنيا كله . وهذا تشبيه من عكرمة والغرور الخدع والترجئة بالباطل . وقال عبد الرحمن بن سابط : متاع الغرور كزاد الراعي يزود الكف من التمر والشيء من الدقيق يشرب عليه

اللبن ، يعني : أن متاع الدنيا قليل لا يكفي من تمتع به ولا يبلغه سفره . ومن كلام العرب عش ولا تغتر . أي : لا تجتزىء بما لا يكفيك . وقال ابن عرفة : الغرور ما رأيت له ظاهراً حسناً وله باطن مكروه أو مجهول ، والشيطان غرور لأنه يحمل على مخبآت الناس ووراء ذلك ما يسوء . قال : ومن هذا بيع الغرور ، وهو ما كان له ظاهر بيع وباطن مجهول . وقال أبو مسلم الأصبهاني : وما الحياة الدنيا بحذف المضاف تقديره : وما نفع الحياة الدنيا إلا نفع الغرور . أي : نفع يغفل عن النفع الحقيقي لدوامه ، وهو النفع في الحياة الأخروية . وإضافة المتاع إلى الغرور أنْ جعل الغرور جمعاً فهو كقولك : نفع الغافلين . وإنْ جعل مصدراً فهو كقولك : نفع إغفال ، أي إهمال فيورث الغفلة عن التأهب للآخرة .

وقرأ عبد اللّه بن عمر : المغرور بفتح الغين ، وفسَّر بالشيطان ويحتمل أن يكون فعولاً بمعنى مفعول ، أي : متاع المغرور ، أي : المخدوع .

وتضمنت هذه الآيات التجنيس المغاير في قوله : الذين قالوا : والمماثل في : قالوا ، وسنكتب ما قالوا ، وفي : كذبوك فقد كذب . والطباق في : فقير وأغنياء ، وفي : الموت والحياة ، وفي : زحزح عن النار وأدخل الجنة . والالتفات في : سنكتب ونقول ، وفي : أجوركم ، إذ تقدمه كل نفس . والتكرار في : لفظ الجلالة ، وفي البينات . والاستعارة في : سنكتب على قول من لم يجعل الكتابة حقيقة ، وفي : قدّمت أيديكم ، وفي : تأكله النار ، وفي : ذوقوا وذائقة . والمذهب الكلامي في فلم قتلتموهم . والاختصاص في : أيديكم . والإشارة في : ذلك ، والشرط المتجوز فيه . والزيادة للتوكيد في : وبالزبر وبالكتاب في قراءة من قرأ كذلك . والحذف في مواضع .

﴿ ١٨٥