سورة النساء

مائة وخمس وسبعون آية وهي مدنية

١

يا أيها الناس . . . . .

الرقيب : فعيل للمبالغة من رقب يرقب رقباً ورقوباً ورقباناً ، أحد النظر إلى أمر ليتحققه على ما هو عليه . ويقترن به

الحفظ ومنه قيل للذي يرقب خروج السهم : رقيب .

وقال أبو داود :

كمقاعد الرقباء للضضرباء أيديهم نواهد

والرقيب : السهم الثالث من السبعة التي لها أنصباء . والرقيب : ضرب من الحيات ، والمرقب : المكان العالي المشرف الذي يقف عليه الرقيب . والارتقاب : الانتظار .

الحوب : ازثم . يقال : حاب يحوب حوباً وحوباً وحاباً وحؤوباً وحيابه . قال : المخبل السعدي . فلا يدخلني الدهر قبرك حوب

فإنك تلقاه عليك حسيب

وقال آخر : وإن تهاجرين تكففاه

غرايته لقد خطيا وحابا

وقيل : الحوب بفتح الحاء المصدر وبضمها الاسم ، وتحوَّب الرجل ألقى الحوب عن نفسه كتحنث وتأثم وتحرج . وفلان يتحوب من كذا يتوقع . وأصل الحوب : الزجر للإبل ، فسمى الإثم حوباً لأنه يزجر عنه ، وبه الحوبة الحاجة ، ومنه في الدعاء إليك أرفع حوبتي .

ويقال : الحق اللّه به الحوبة أي المسكنة والحاجة .

مثنى وثلاث ورباع : معدولة عن اثنين اثنين ، وثلاثة ثلاثة ، وأربعة أربعة . ولا يراد بالمعدول عنه التوكيد ، إنما يراد بذلك تكرار العدد إلى غاية المعدود . كقوله : ونفروا بعيراً بعيراً ، وفصلت الحساب لك باباً باباً ، ويتحتم منع صرفها لهذا العدل . والوصف على مذهب سيبويه والخليل وأبي عمرو ، وأجاز الفرّاء أن تصرف ، ومنع الصرف عنده أولى . وعلة المنع عنده العدل والتعريف بنية الألف واللام ، وامتنع عنده إضافتها لأنها في نية الألف واللام . وامتنع ظهور الألف واللام لأنها في نية الإضافة ، وقد ذكرنا الردّ عليه في كتاب التكميل من تأليفنا .

وقال الزمخشري : إنما منعت الصرف لما فيها من العدلين : عدلها عن صيغتها ، وعدلها عن تكريرها . وهي نكرات تعرفن بلام التعريف يقال : فلان ينكح المثنى والثلاث والرباع انتهى كلامه . وما ذهب إليه من امتناع الصرف لما فيها من العدلين : عدلها عن صيغتها ، وعدلها عن تكرّرها ، لا أعلم أحداً ذهب إلى ذلك ، بل المذاهب في علة منع الصرف المنقولة أربعة :

أحدها : ما نقلناه عن سيبويه .

والثاني : ما نقلناه عن الفراء . و

الثالث : ما نقل عن الزجاج وهو لأنها معدولة عن اثنين اثنين ، وثلاثة ثلاثة ، وأربعة أربعة ، وأنه عدل عن التأنيث . و

الرابع : ما نقله أبو الحسن عن بعض النحويين أن العلة المانعة من الصرف هي تكرار العدل فيه ، لأنه

عدل عن لفظ اثنين وعدل عن معناه . وذلك أنه لا يستعمل في موضع تستعمل فيه الأعداد غير المعدولة تقول : جاءني اثنان وثلاثة ، ولا يجوز : جاءني مثنى وثلاث حتى يتقدّم قبله جمع ، لأن هذا الباب جعل بياناً لترتيب الفعل . فإذا قال : جاءني القوم مثنى ، أفاد أن ترتيب مجيئهم وقع اثنين اثنين . فأما الاعداد غير المعدولة فإنما الغرض منها الأخبار عن مقدار المعدودون غيره . فقد بان بما ذكرنا اختلافهما في المعنى ، فلذلك جاز أن تقوم العلة مقام العلتين لإيجابهما حكمين مختلفين انتهى ما قرر به هذا المذهب .

وقد ردّ الناس على الزجاج قوله : أنه عدل عن التأنيث بما يوقف عليه في كتب النحو ، والزمخشري لم يسلك شيئاً من هذه العلل المنقولة ، فإن كان تقدّمه سلف ممن قال ذلك فيكون قد تبعه ، وإلا فيكون مما انفرد بمقالته .

وأما قوله : يعرفن بلام التعريف ، يقال : فلان ينكح المثنى والثلاث والرباع ، فهو معترض من وجهين :

أحدهما : زعمه أنها تعرف بلام التعريف ، وهذا لم يذهب إليه أحد ، بل لم يستعمل في لسان العرب إلا نكرات .

والثاني : أنه مثل بها ، وقد وليت العوامل في قوله : فلان ينكح المثنى ، ولا يلي العوامل ، إنما يتقدّمها ما يلي العوامل ، ولا تقع إلا خبراً كما جاء : { صَلَواةِ الَّيْلَ مَثْنَى} أو حالاً نحو :{ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَاء مَثْنَى } أو صفه نحو :{ أُوْلِى أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ } وقوله :

ذئاب يبغى الناس مثنى وموحدا

وقد تجيء مضافة قليلاً نحو ، قول الآخر :

بمثنى الزقاق المترعات وبالجزر

وقد ذكر بعضهم أنها تلي العوامل عل قلة ، وقد يستدل له بقول الشاعر : ضربت خماس ضربة عبشمي

أدار سداس أن لا يستقيما

ومن أحكام هذا المعدول أنه لا يؤنث ، فلا تقول : مثناة ، ولا ثلاثة ، ولا رباعة ، بل يجري بغير تاء على المذكر والمؤنث . عال : يعول عولاً وعيالة ، مال . وميزان فلان عائل . وعال الحاكم في حكمه جار ، وقال أبو طالب في النبي صلى اللّه عليه وسلم :

له شاهد من نفسه غير عائل

وحكى ابن الأعرابي : أن العرب تقول : عال الرجل يعول كثر عياله .

ويقال : عال يعيل افتقر وصار عالة . وعال الرجل عياله يعولهم ما نهم ومنه : { ابدأ بنفسك ثم بمن تعول } والعول في الفريضة مجاوزته لحد السهام المسماة . وجماع القول في عال : أنها تكون لازمة ومتعدية . فاللازمة بمعنى : مال ، وجار ، وكثر

عياله ، وتفاقم ، وهذا مضارعه يعول . وعال الرجل افتقر ، وعال في الأرض ذهب فيها ، وهذا مضارعه يعيل . والمتعدية بمعنى أثقل ، ومان من المؤنة . وغلب منه أعيل صبري وأعجز . وإذا كان بمعنى أعجز فهو من ذوات الياء ، تقول : عالني الشيء يعيلني عيلاً ومعيلاً أعجزني ، وباقي المتعدّي من ذوات الواو .

الصدقة على وزن سمرة المهر ، وقد تسكن الدال ، وضمها وفتح الصاد لغة أهل الحجاز .

ويقال : صدقة بوزن غرفة . وتضم داله فيقال : صدقة وأصدقها أمهرها .

النحلة : العطية عن طيب نفس . والنحلة الشرعة ، ونحلة الإسلام خير النحل . وفلان ينحل بكذا أي يدين به .

هنيئاً مريئاً : صفتان من هنؤ الطعام ومرؤ ، إذا كان سائغاً لا تنغيص فيه .

ويقال : هنا يهنا بغير همز ، وهنأني الطعام ومرّأني ، فإذا لم تذكر هنأني

قلت : أمرأني رباعياً ، واستعمل مع هنأني ثلاثياً للاتباع . قال سيبويه : هنيئاً مريئاً صفتان نصبوهما نصب المصادر المدعو بها بالفعل غير المستعمل إظهاره المختزل ، للدلالة التي في الكلام عليه كأنهم قالوا : ثبت ذلك هنيئاً مريئاً انتهى . وقال كثير : هنيئاً مريئاً غير داء مخامر

لعزة من أعراضنا ما استحلت

قيل : واشتقاق الهنيء من هناء البعير ، وهو الدواء الذي يطلى به من الجرب ، ويوضع في عقره . ومنه قوله : متبذل تبدو محاسنه

يضع الهناء مواضع النقب

والمريء ما يساغ في الحلق ، ومنه قيل لمجرى الطعام في الحلقوم إلى فم المعدة : المريء . آنس كذا أحس به وشعر . قال :

آنست شاة وأفزعها القناص عصراً وقددنا الامساء

وقال الفراء : وجد . وقال الزجاج : علم . وقال عطاء : أبصر .

وقال ابن عباس : عرف . وهي أقوال متقاربة . السديد من القول هو الموافق للحق منه . أعلمه الرماية كل يوم

فلما اشتدّ ساعده رماني

المعنى : لما وافق الأغراض التي يرمي إليها . صلى بالنار تسخن بها ، وصليته أدنيته منها . التسعير : الجمر المشتعل من سعرت النار أوقدتها ، ومنه مسعر حرب .

{تُفْلِحُونَ يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء } الجمهور على أن هذه السورة مدنية إلا قوله تعالى :{ إِنَّ اللّه يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الاحمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} وقال النحاس : مكية . وقال النقاش : نزلت عند الهجرة من مكة إلى المدينة انتهى . ولا خلاف أنّ فيها ما نزل بالمدينة . وفي البخاري : آخر آية نزلت { يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّه يُفْتِيكُمْ فِى الْكَلَالَةِ}

ومناسبة هذه السورة لما قبلها أنه تعالى لما ذكر أحوال المشركين والمنافقين وأهل الكتاب والمؤمنين أولي الألباب ، ونبه تعالى بقوله :{ أَنّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ } على المجازاة . و أخبر أنَّ بعضهم من بعض في أصل التوالد ، نبه تعالى في أول هذه السورة على إيجاد الأصل ، وتفرَّع العالم الإنساني منه ليحث على التوافق والتواد والتعاطف وعدم الاختلاف ، ولينبه

بذلك على أنّ أصل الجنس الإنساني كان عابداً للّه مفرده بالتوحيد والتقوى ، طائعاً له ، فكذلك ينبغي أن تكون فروعه التي نشأت منه . فنادى تعالى : دعاء عامًّا للناس ، وأمرهم بالتقوى التي هي ملاك الأمر ، وجعل سبباً للتقوى تذكاره تعالى إياهم بأنه أوجدهم وأنشأهم من نفس واحدة . ومن كان قادراً على مثل هذا الإيجاد الغريب الصنع وإعدام هذه الأشكال والنفع والضر فهو جدير بأنْ يتقي . ونبه بقوله : من نفس واحدة ، على ما هو مركوز في الطباع من ميل بعض الأجناس إلى بعض ، وألف له دون غيره ، ليتألف بذلك عباده على تقواه . والظاهر في الناس : العموم ، لأن الألف واللام فيه تفيده ، وللأمر بالتقوى وللعلة ، إذ ليسا مخصوصين بل هما عامان .

وقيل : المراد بالناس أهل مكة ، كان صاحب هذا القول ينظر إلى قوله : { تَسَاءلُونَ بِهِ وَالاْرْحَامَ } لأن العرب هم الذين يتساءلون بذلك . يقول : أنشدك باللّه وبالرحم .

وقيل : المراد المؤمنون نظراً إلى قوله :{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } وقوله : { المسلم أخو المسلم } والأغلب أنه إذا كان الخطاب والنداء بيا أيها الناس وكان للكفرة فقط ، أو لهم مع غيرهم أعقب بدلائل الوحدانية والربوبية ، لأنهم غير عارفين باللّه ، فنبهوا على الفكر في ذلك لأن يعرفوا نحو : { الاْمُورُ يأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللّه حَقٌّ }{ قَدِيرٌ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ } وإذا كان الخطاب للمؤمنين أعقب بذكر النعم لمعرفتهم بالربوبية .

قيل : وجعل هذا المطلع مطلعاً السورتين : إحداهما : هذه وهي الرابعة من النصف الأول . والثانية : سورة الحج ، وهي الرابعة من النصف الثاني . وعلل هنا الأمر بالتقوى بما يدل على معرفة المبدأ ، وهناك بما يدل على معرفة المعاد . وبدأ بالمبدأ بأنه الأول ، وهو ظاهر الأمر بالتقوى أنها تقوى عامّة فيما يتقي من موجب العقاب ، ولذلك فسر باجتناب ما جاء فيه الوعيد .

وقيل : يجوز أن يكون أراد بالتقوى خاصة ، وهو أن يتقوه فيما يتصل بحفظ الحقوق بينهم ، فلا يقطعوا ما يجب عليهم وصله . فقيل : اتقوا ربكم الذي وصل بينكم بأن جعلكم صنواناً مفرعة من أرومة واحدة فيما يجب لبعضكم على بعض ولبعض ، فحافظوا عليه ولا تغفلوا عنه . وهذا المعنى مطابق لمعاني السورة .

وقال ابن عباس : المراد بالتقوى الطاعة . وقال مقاتل : الخشية .

وقيل : اجتناب الكبائر والصغائر . والمراد بقوله : من نفس واحدة آدم .

وقرأ الجمهور : واحدة بالتاء على تأنيث لفظ النفس .

وقرأ ابن أبي عبلة : واحد على مراعاة المعنى ، إذ المراد به آدم ، أو على أن النفس تذكر وتؤنث ، فجاءت قراءته على تذكير النفس . ومعنى الخلق هنا : الاختراع بطريق التفريع ، والرجوع إلى أصل واحد كما قال الشاعر : إلى عرق الثرى وشجت عروقي

وهذا الموت يسلبني شبابي

قال : في ري الظمآن ، ودلت الإضافة على جواز إضافة الشيء إلى الأصل الذي يرجع إليه ، وأن يعد ذلك الراجع إلى التوالد والتعاقب والتتابع . وعلى أنّا لسنا فيه كما زعم بعض الدهرية ، وإلا لقال : أخرجكم من نفس واحدة ، فأضاف خلقنا إلى آدم ، وإن لم نكن من نفسه بل كنا من نطفة واحدة حصلت بمن اتصل به من أولاده ، ولكنه الأصل انتهى . وقال الأصم : لا يدل العقل على أنَّ الخلق مخلوقين من نفس واحدة ، بل السمع . ولما كان صلى اللّه عليه وسلم أميّاً ما قرأ كتاباً ، كان معنى

خلقكم دليلاً على التوحيد ، ومن نفس واحدة دليلاً على النبوّة انتهى .

وفي قوله : من نفس واحدة إشارة إلى ترك المفاخرة والكبر ، لتعريفه إياهم بأنهم من أصل واحد ودلالة على المعاد ، لأن القادر على إخراج أشخاص مختلفين من شخص واحد فقدرته على إحيائهم بطريق الأولى . وزوجها : هي حواء . وظاهر منها ابتداء خلق حوّاء من نفسه ، وأنه هو أصلها الذي اخترعت وأنشئت منه ، وبه قال : ابن عباس ، ومجاهد ، والسدّي . وقتادة قالوا إن اللّه تعالى خلق آدم وحشاً في الجنة وحده ، ثم نام فانتزع اللّه تعالى أحد أضلاعه القصرى من شماله .

وقيل : من يمينه ، فحلق منها حواء .

قال ابن عطية : ويعضد هذا القول الحديث الصحيح في قوله عليه السلام{ إن المرأة خلقت من ضلع أعوج ، فإن ذهبت تقيمها كسرتها وكسرها طلاقها} . انتهى . ويحتمل أن يكون ذلك على جهة التمثيل لاضطراب أخلاقهن ، وكونهن لا يثبتن على حالة واحدة ، أي : صعبات المراس ، فهي كالضلع العوجاء كما جاء خلق الإنسان من عجل . ويؤيد هذا التأويل قوله : إن المرأة ، فأتى بالجنس ولم يقل : إن حوّاء .

وقيل : هو على حذف مضاف ، التقدير : وخلق من جنسها زوجها قاله : ابن بحر وأبو مسلم لقوله :{ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْواجاً }{ وَرَسُولاً مِنْهُمْ} قال القاضي : الأول أقوى ، إذ لو كانت حواء مخلوقة ابتداء لكان الناس مخلوقين من نفسين لا من نفس واحدة . ويمكن أن يجاب عنه بأن كلمة من لابتداء الغاية ، فلما كان ابتداء الخلق وقع بآدم ، صح أن يقال خلقكم من نفس واحدة . ولما كان قادراً على خلق آدم من التراب كان قادراً على خلق حواء أيضاً كذلك .

وقيل : لا حذف ، والضمير في منها ، ليس عائداً على نفس ، بل هو عائد على الطينة التي فصلت عن طينة آدم . وخلقت منها حواء أي : أنها خلقت مما خلق منه آدم . وظاهر قول ابن عباس ومن تقدم : أنها خلقت وآدم في الجنة ، وبه قال : ابن مسعود .

وقيل : قبل دخوله الجنة وبه قال : كعب الأحبار ووهب ، وابن إسحاق . وجاءت الواو في عطف هذه الصلة على أحد محاملها ، من أنَّ خلق حواء كان قبل خلق الناس . إذ الواو لا تدل على ترتيب زماني كما تقرر في علم العربية ، وإنما تقدم ذكر الصلة المتعلقة بخلق الناس ، وإن كان مدلولها واقعاً بعد خلق حواء ، لأجل أنهم المنادون المأمورون بتقوى ربهم . فكان ذكر ما تعلق بهم أولاً آكد ، ونظيره :{ قَدِيرٌ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِىْ خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } ومعلوم أنّ خلقهم تأخر عن خلق من قبلهم . ولكنهم لما كانوا هم المأمورين بالعبادة والمنادين لأجلها ، اعتنى بذكر التنبيه على إنشائهم أولاً ، ثم ذكر إنشاء من كان قبلهم . وقد تكلف الزمخشري في إقرار ما عطف بالواو متأخراً عن ما عطف عليه ، فقدر معطوفاً عليه محذوفاً متقدماً على المعطوف في الزمان ، فقال : يعطف على محذوف كأنه قيل : من نفس واحدة أنشأها أو ابتدأها وخلق منها زوجها ، وإنما حذف لدلالة المعنى عليه . والمعنى : شعبكم من نفس واحدة هذه صفتها ، وهي أنه أنشأها من تراب وخلق منها زوجها حوّاء من ضلع من أضلاعها . ولا حاجة إلى تكلف هذا الوجه مع مساغ الوجه الذي ذكرناه على ما اقتضته العربية . وقد ذكر ذلك الوجه الزمخشري فقال : يعطف على خلقكم . ويكون الخطاب في : يا أيها الناس الذين بعث إليهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. والمعنى : خلقكم من نفس آدم ، لأنهم من جملة الجنس المفرع منه ، وخلق منها أمكم حوّاء انتهى . ويجوز أن يكون قوله : وخلق منها زوجها معطوفاً على اسم الفاعل الذي هو واحدة التقدير من نفس وحدت ، أي انفردت . وخلق منها زوجها ، فيكون نظير { صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ } وتقول العرب : وحد يحد وحدا ووحدة ، بمعنى انفرد .

ومن غريب التفسير أنه عنى بالنفس الروح المذكورة فيما قيل أنه قال عليه الصلاة والسلام : { إن اللّه خلق الأرواح قبل الأجسام بكذا وكذا سنة } وعنى بزوجها البدن ، وعنى بالخلق التركيب . وإلى نحوه أشار بقوله تعالى : { وَمِن كُلّ شَىْء خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ } وقوله :{ سُبْحَانَ الَّذِى خَلَق الاْزْواجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الاْرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ } ولا يصح ذلك في النبات إلا على معنى التركيب . وبدأ بذكر الزوجين والأزواج في الأشياء على أنها لا تنفك من تركيب

والواحد في الحقيقة ليس إلا اللّه تعالى انتهى . وهذا مخالف لكلام المتقدمين ، قال بعضهم : ونبه بقوله : وخلق منها زوجها على نقصها وكمالها ، لكونها بعضه . وبث منهما أي من تلك النفس ، وزوجها أي : نشر وفرق في الوجود .

ويقال : أبث اللّه الخلق رباعياً ، وبث ثلاثياً ، وهو الوارد في القرآن رجالاً كثيراً ونساء . قيل : نكر لما في التنكير من الشيوع ولم يكتف بالشيوع حتى صرح بالكثرة وقدم الرجال لفضلهم على النساء ، وخص رجالاً بذكر الوصف بالكثرة ، فقيل : حذف وصف الثاني لدلالة وصف الأول عليه ، والتقدير : ونساء كثيرة .

وقيل : لا يقدر الوصف وإن كان المعنى فيه صحيحاً ، لأنّه نبه بخصوصية الرجال بوصف الكثرة ، على أن اللائف بحالهم الاشتهار والخروج والبروز ، واللائق بحال النساء الخمول والاختفاء . وفي تنويع ما خلق من آدم وحوّاء إلى رجال ونساء دليل على انتفاء الخنثى ، إذ حصر ما خلق في هذين النوعين ، فإنْ وجد ما ظاهره الإشكال فلا بد من صيرورته إلى هذين النوعين . وقرىء : وخالق منها زوجها ، وبات على اسم الفاعل وهو : خبر مبتدأ محذوف تقديره وهو خالق .

{وَاتَّقُواْ اللّه الَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَالاْرْحَامَ } كرر الأمر بالتقوى تأكيداً للأول .

وقيل : لاختلاف التعليل وذكر أولاً : الرب الذي يدل على الإحسان والتربية ، وثانياً : اللّه الذي يدل على القهر والهيبة . بنى أولاً على الترغيب ، وثانياً على الترهيب . كقوله :{ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً } و { وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً } كأنه قال : إنه ربك أحسن إليك فاتق مخالفته ، فإن لم تتقه لذلك فاتقه لأنه شديد العقاب .

وقرأ الجمهور من السبعة : تساءلون .

وقرأ الكوفيون : بتخفيف السين ، وأصله تتساءلون .

قال ابن عطية : وذلك لأنهم حذفوا التاء الثانية تخفيفاً ، وهذه تاء تتفاعلون تدغم في لغة وتحذف في أخرى لاجتماع حروف متقاربة . قال أبو علي : وإذا اجتمعت المتقاربة خففت بالحذف والإدغام والإبدال ، كما قالوا : طست فابدلوا من السين الواحدة تاء ، إذ الأصل طس . قال العجاج :

لو عرضت لأسقفي قس

أشعث في هيكله مندس

حن إليها كحنين الطس

انتهى . أما قول ابن عطية : حذفوا التاء الثانية فهذا مذهب أهل البصرة . وذهب هشام بن معاوية الضرير الكوفي : إلى أنّ المحذوفة هي الأولى ، وهي تاء المضارعة ، وهي مسألة خلاف ذكرت دلائلها في علم النحو .

وأما قوله : وهذه تاء تتفاعلون تدغم في لغة وتحذف في أخرى ، كان ينبغي أن ينبه على الإثبات ، إذ يجوز الإثبات وهو الأصل ، والإدغام وهو قريب من الأصل ، إذ لم يذهب الحرف إلا بأن أبدل منه مماثل ما بعده وأدغم . والحذف . أما الإدغام فلا يختص به ، بل ذلك في الأمر والمضارع والماضي واسم الفاعل واسم المفعول والمصدر .

وأما الحذف فيختص بما دخلت عليه التاء من المضارع ، فقوله : لاجتماع حروف متقاربة ظاهرة تعليل الحذف فقط لقربه ، أو تعليل الحذف والإدغام ، وليس كذلك . أما إن كان تعليلاً فليس كذلك ، بل الحذف علة اجتماع متماثلة لا متقاربة .

وأما إن كان تعليلاً لهما

فيصح الإدغام لا الحذف كما ذكرنا .

وأما قول أبي علي : إذا اجتمعت المتقاربة فكذا ، فلا يعني أن ذلك حكم لازم ، إنما معناه : أنه قد يكون التخفيف بكذا ، فكم وجد من اجتماع متقاربة لم يخفف لا بحذف ولا إدغام ولا بدل .

وأما تمثيله بطست في طس فليس البدل هنا لاجتماع ، بل هذا من اجتماع المثلين كقولهم في لص لصت .

ومعنى يتساءلون به : أي يتعاطون به السؤال ، فيسأل بعضكم بعضاً . أو يقول : أسألك باللّه أن تفعل ، وظاهر تفاعل الاشتراك أي : تسأله باللّه ، ويسألك باللّه . وقالت طائفة : معناه تسألون به حقوقكم وتجعلونه معظماً لها .

وقرأ عبد اللّه : تسألون به مضارع سأل الثلاثي . وقرى : تسلون بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى السين . قال ابن عباس : معنى تساءلون به أي تتعاطفون . وقال الضحاك والربيع : تتعاقدون وتتعاهدون .

وقال الزجاج : تتطلبون به حقوقكم والأرحام . قرأ جمهور : السبعة بنصب الميم .

وقرأ حمزة : بجرها ، وهي قراءة النخعي وقتادة والأعمش .

وقرأ عبد اللّه بن يزيد : بضمها ، فأما النصب فظاهره أن يكون معطوفاً على لفظ الجلالة ، ويكون ذلك على حذف مضاف ، التقدير : واتقوا اللّه ، وقطع الأرحام . وعلى هذا المعنى فسرها ابن عباس وقتادة والسدي وغيرهم .

والجامع بين تقوى اللّه وتقوى الأرحام هذا القدر المشترك ، وإن اختلف معنى التقويين ، لأن تقوى اللّه بالتزام طاعته واجتناب معاصيه ، واتقاء الأرحام بأن توصل ولا تقطع فيما يفضل بالبر والإحسان ، وبالحمل على القدر المشترك يندفع قول القاضي : كيف يراد باللفظ الواحد المعاني المختلفة ؟ ونقول أيضاً أنه في الحقيقة من باب عطف الخاص على العام ، لأن المعنى : واتقوا اللّه أي اتقوا مخالفة اللّه . وفي عطف الأرحام على اسم اللّه دلالة على عظم ذنب قطع الرحم ، وانظر إلى قوله : { لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّه وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِى الْقُرْبَى } كيف قرن ذلك بعبادة اللّه في أخذ الميثاق .

وفي الحديث : { من أبرّ ؟ قال : أمّك وفيه : أنت ومالك لأبيك } وقال تعالى في ذم من أضله : من الفاسقين { الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّه مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللّه بِهِ أَن يُوصَلَ}

وقيل : النصب عطفاً على موضع به كما تقول : مررت بزيد وعمراً . لما لم يشاركه في الاتباع على اللفظ اتبع على موضعه . ويؤيد هذا القول قراءة عبد اللّه : تساءلون به وبالأرحام . أما الرفع فوجه على أنه مبتدأ والخبر محذوف قدره ابن عطية : والأرحام أهل أن توصل . وقدره الزمخشري : والأرحام مما يتقي ، أو مما يتساءل به ، وتقديره أحسن من تقدير ابن عطية ، إذا قدر ما يدل عليه اللفظ السابق ، وابن عطية قدر من المعنى .

وأما الجر فظاهره أنه معطوف على المضمر المجرور من غير إعادة الجار ، وعلى هذا فسرها الحسن والنخعي ومجاهد . ويؤيده قراءة عبد اللّه : وبالأرحام . وكانوا يتناشدون بذكر اللّه والرحم .

قال الزمخشري : وليس بسديد يعني : الجر عطفاً على الضمير . قال : لأن الضمير المتصل متصل كاسمه ، والجار والمجرور كشيء واحد ، فكانا في قولك : مررت به وزيد ، وهذا غلامه وزيد شديدي الاتصال ، فلما اشتد الاتصال لتكرره اشتبه العطف على بعض الكلمة فلم يجر ، ووجب تكرير العامل كقولك : مررت به وبزيد ، وهذا غلامه وغلام زيد . ألا ترى إلى صحة رأيتك وزيداً ، ومررت بزيد وعمرو لما لم يقو الاتصال لأنه لم يتكرر ؟ وقد تمحل لصحة هذه القراءة بأنها على تقدير تكرير الجار ، ونظير هذا قول الشاعر :

فما بك والأيام من عجب و

قال ابن عطية : وهذه القراءة عند رؤساء نحويين البصرة لا تجوز ، لأنه لا يجوز عندهم أن يعطف ظاهر على مضمر مخفوض . قال الزجاج عن المازني : لأن المعطوف والمعطوف عليه شريكان ، يحل كل واحدمنهما محل صاحبه . فكما لا يجوز مررت بزيدوك ، فكذلك لا يجوز مررت بك وزيد .

وأما سيبويه فهي عنده قبيحة لا تجوز إلا في الشعر كما قال :

فاليوم قد بت تهجونا وتشتمنا

فاذهب فما بك والأيام من عجب

وكما قال :

تعلق في مثل السواري سيوفنا

وما بينها والكف غوط تعانف

واستسهلها بعض النحويين انتهى كلام ابن عطية . وتعليل المازني معترض بأنه يجوز أن تقول : رأيتك وزيداً ، ولا يجوز رأيت زيداوك ، فكان القياس رأيتك وزيداً ، أن لا يجوز . وقال ابن عطية أيضاً : المضمر المخفوض لا ينفصل ، فهو كحرف من الكلمة ، ولا يعطف على حرف .

ويرد عندي هذه القراءة من المعنى وجهان :

أحدهما : أن ذكر الأرحام مما تساءل به لا معنى له في الحض على تقوى اللّه تعالى ، ولا فائدة فيه أكثر من الإخبار بأن الأرحام يتساءل بها ، وهذا تفريق في

معنى الكلام . وغض من فصاحته ، وإنما الفصاحة في أن تكون في ذكر الأرحام فائدة مستقلة . والوجه

الثاني : أن في ذكرها على ذلك تقدير التساؤل بها والقسم بحرمتها ، والحديث الصحيح يرد ذلك في قوله صلى اللّه عليه وسلم { من كان حالفاً فليحلف باللّهأو ليصمت } انتهى كلامه . وذهبت طائفة إلى أنَّ الواو في والأرحام واو القسم لا واو العطف ، والمتلقى به القسم هي الجملة بعده . وللّه تعالى أن يقسم بما شاء من مخلوقاته على ما جاء في غير ما آية في كتاب اللّه تعالى ، وذهبوا إلى تخريج ذلك فراراً من العطف على الضمير المجرور بغير إعادة الجار ، وذهاباً إلى أن في القسم بها تنبيهاً على صلتها وتعظيماً لشأنها ، وأنها من اللّه تعالى بمكان .

قال ابن عطية : وهذا قول يأباه نظم الكلام وسره انتهى . وما ذهب إليه أهل البصرة وتبعهم فيه الزمخشري وابن عطية : من امتناع العطف على الضمير المجرور إلا بإعادة الجار ، ومن اعتلالهم لذلك غير صحيح ، بل الصحيح مذهب الكوفيين في ذلك وأنه يجوز . وقد أطلنا الاحتجاج في ذلك عند قوله تعالى : { وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} وذكرنا ثبوت ذلك في لسان العرب نثرنا ونظمها ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .

وأما قول ابن عطية : ويرد عندي هذه القراءة من المعنى وجهان ، فجسارة قبيحة منه لا تليق بحاله ولا بطهارة لسانه . إذ عمد إلى قراءة متواترة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قرأ بها سلف الأمة ، واتصلت بأكابر قراء الصحابة الذين تلقوا القرآن من في رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بغير واسطة عثمان وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت . وأقرأ الصحابة أُبيّ بن كعب عمدَ إلى ردّها بشيء خطر له في ذهنه ، وجسارته هذه لا تليق إلا بالمعتزلة كالزمخشري ، فإنه كثيراً ما يطعن في نقل القراء وقراءتهم ، وحمزة رضي اللّه عنه : أخذ القرآن عن سليمان بن مهران الأعمش ، وحمدان بن أعين ، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، وجعفر بن محمد الصادق ، ولم يقرأ حمزة حرفاً من كتاب اللّه إلا بأثر . وكان حمزة صالحاً ورعاً ثقةً في الحديث ، وهو من الطبقة الثالثة ، ولد سنة ثمانين وأحكم القراءة وله خمس عشرة سنة ، وأم الناس سنة مائة ، وعرض عليه القرآن من نظرائه جماعة منهم : سفيان الثوري ، والحسن بن صالح . ومن تلاميذه جماعة منهم إمام الكوفة في القراءة والعربية أبو الحسن الثوري ، والحسن بن صالح . ومن تلاميذه جماعة منهم إمام الكوفة في القراءة والعربية أبو الحسن الكسائي . وقال الثوري وأبو حنيفة ويحيى بن آدم : غلب حمزة الناس على القرآن والفرائض . وإنما ذكرت هذا وأطلت فيه لئلا يطلع عمر على كلام الزمخشري وابن عطية في هذه القراءة فيسيء ظناً بها وبقارئها ، فيقارب أن يقع في الكفر بالطعن في ذلك . ولسنا متعبدين بقول نحاة البصرة ولا غيرهم ممن خالفهم ، فكم حكم ثبت بنقل الكوفيين من كلام العرب لم ينقله البصريون ، وكم حكم ثبت بنقل البصريين لم ينقله الكوفيون ، وإنما يعرف ذلك من له استبحار في علم العربية ، لا صحاب الكنانيس المشتغلون بضروب من العلوم الآخذون عن الصحف دون الشيوخ .

{إِنَّ اللّه كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } لا يراد بكان تقييد الخبر بالمخبر عنه في الزمان الماضي المنقطع في حق اللّه تعالى ، وإن كان موضوع كان ذلك ، بل المعنى على الديمومة فهو تعالى رقيب في الماضي وغيره علينا ، والرقيب تقدم شرحه في المفردات .

وقال بعضهم : هنا هو العليم ، والمعنى : أنه مراع لكم لايخفى عليه ن أمركم شيء فاتقوه

﴿ ١