١٨وليست التوبة للذين . . . . . {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنّى تُبْتُ الاْنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ } نفى تعالى أن يكون التوبة للعاصي الصائر في حيز اليأس من الحياة ، ولا للذي وافى على الكفر . ف الأول : كفرعون إذ لم ينفعه إيمانه وهو في غمرة الماء والغرق ، وكالذين قال تعالى فيهم :{ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا } وحضور الموت أول أحوال الآخرة ، فكما أن من مات على الكفر لا تقبل منه التوبة في الآخرة ، فكذلك هذا الذي حضره الموت . قال الزمخشري : سوى بين الذين سوفوا توبتهم إلى حضرة الموت ، وبين الذين ماتوا على الكفر أنه لا توبة لهم ، لأن حضرة الموت أول أحوال الآخرة . فكما أنَّ الميت على الكفر قد فاتته التوبة على اليقين ، فكذلك المسوف إلى حضرة الموت ، لمجاوزة كل واحد منهما . أوانَّ التكليف والاختيار انتهى كلامه . وهو على طريق الاعتزال . زعمت المعتزلة أن العلم باللّه في دار التكليف يجوز أن يكون نظرياً ، فإذا صار العلم باللّه ضرورياً سقط التكليف . وأهلُ الآخرة لأجل مشاهدتهم أهوالها يعرفون اللّه بالضرورة ، فلذلك سقط التكليف . وكذلك الحالة التي يحصل عندها العلم باللّه على سبيل الاضطرار . والذي قاله المحققون : إن القرب من الموت لا يمنع من قبول التوبة ، لأن جماعة من بني إسرائيل أماتهم اللّه ، ثم أحياهم وكلفهم ، فدل على أنّ مشاهدة الموت لا تخل بالتكليف ، ولأن الشدائد التي تلقاها عند قرب الموت ليست أكثر مما تلقاها بالقولنج والطلق وغيرهما ، وليس شيء من هذه يمنع من بقاء التكليف ، فكذلك تلك . ولأنّه عند القرب يصير مضطراً فيكون ذلك سبباً للقبول ، ولكنه تعالى يفعل ما يشاء . وعد بقبول التوبة في بعض الأوقات ، وبعدله أخبر عن عدم قبولها في وقت آخر ، وله أن يجعل المقبول مردود ، والمردود مقبولاً ، { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ } وقد رد على المعتزلة في دعواهم سقوط التكليف بالعلم باللّه إذا صار ضرورة ، وفي دعواهم أنّ مشاهدة أحوال الآخرة يوجب العلم باللّه على سبيل الاضطرار . وقال الربيع : نزلت وليست التوبة في المسلمين ، ثم نسخها :{ إِنَّ اللّه لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } فحتم أن لا يغفر للكافرين ، وأرجى المؤمنين إلى مشيئته . وطعن على ابن زيد : بأن الآية خبر ، والأخبار لا تنسخ . وأجيب : بأنها تضمنت تقرير حكم شرعي ، فيجوز نسخ ذلك الحكم ، ولا يحتاج إلى ادعاء نسخ ، لأن هذه الآية لم تتضمن أنَّ من لا توبة له مقبولة من المؤمنين لا يغفر له ، فيحتاج أن ينسخ بقوله : ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء . وظاهر قوله : ولا الذين يموتون وهم كفار أن هؤلاء مغايرون لقوله : الذين يعملون السيئات ، لأنّ أصل المتعاطفين أن يكونا غيرين ، وللتأكيد بلا المشعرة بانتفاء الحكم عن كل واحد تقول : هذا ليس لزيد وعمرو بل لأحدهما ، وليس هذا لزيد ولا لعمر ، وفينتفي عن كل واحد منهما ، ولا يجوز أن تقول : بل لأحدهما ، وليس هذا لزيد ولا لعمرو ، فينتفي عن كل واحد منهما ، ولا يجوز أن تقول : بل لأحدهما . وإذا تقرر هذا اتضح ضعف قول الزمخشري في قوله :{ فإن قلت } : من المراد بالذين يعملون السيئات ، أهم الفساق من أهل القبلة ، أم الكفار ؟ { قلت} : فيه وجهان : أحدهما : أن يراد به الكفار لظاهر قوله : وهم كفار ، وأن يراد الفساق لأن الكلام إنما وقع في الزانيين ، والإعراض عنهما إن تابا وأصلحا ، ويكون قوله : وهم كفار وارداً على سبيل التغليظ كقوله : { وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللّه غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } وقوله : { سقط : فليمت إن شاء يهوديا ، أو نصرانيا } من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر ، لأن من كان مصدقا ، ومات وهو لا يحدث نفسه بالتوبة حاله قريبة من حالة الكافر ، لأنه لا يجتري على ذلك إلا قلب مصمت انتهى كلامه ، وهو في غاية الاضطراب ، لأنه قبل ذلك حمل الآية على أنها دالة على قسمين ، أحدهما الذين سوفوا التوبة إلى حضور الموت ، والثاني الذين ماتوا على الكفر ، وفي هذا الجواب حمل الآية ، على أنها أريد بها أحد القسمين ، إما الكفار فقط ، وهو الذين وصفوا عنده ، بأنهم يعملون السيئات ، ويموتون على الكفر ، وعلل هذا الوجه بقوله لظاهر قوله { وهم كفار} فجعل هذه الحالة على أنه أريد بالذين يعملون السيئات هم الكفار ، وإما الفساق من المؤمنين ، فيكون قوله { وهم كفار} لا يراد به الكفر حقيقة ، ولا أنهم يوافون على الكفر حقيقة ، وإنما جاء ذلك على سبيل التغليظ عنده ، فقد خالف تفسيره في هذا الجواب صدر تفسيره للآية أولا ، وكل ذلك انتصار لمذهبه ، حتى يترتب العذاب إما للكافر ، وإما للفاسق ، فخرج بذلك عن قوانين النحو ، والحمل على الظاهر لأنه قوله { وهم كفار} ليس ظاهره إلا أنه قيد في قوله { ولا الذين يموتون} وظاهره الموافاة على الكفر حقيقة ، وكما أنه شرط في انتفاء قبول التوبة الذين يعملون السيئات وإيقاعها في حال حضور الموت ، وكذلك شرط في ذلك كفرهم حالة الموت وظاهر العطف التغاير والزمخشري كما قيل في المثل ، حبك الشي يعمي ويصم ، وجاء { يعلمون} بصيغة المضارع ، لا بصيغة الماضي إشعارا بأنهم مصرون على عمل السيئات إلى أن يحضره الموت ، وظاهر قوله { تبت الآن} توبة شريطية ، فلم تقبل ، لأنه لم يقطع بها ، وقوله { وليست التوبة} ظاهره النفي ، لوجودها ، والمعنى على نفي القبول أي : أت توبتهم وإن وجدت ليست مقبولة ، وظاهر قوله { ولا الذين يموتون وهم كفار} وقوع الموت حقيقة ، فالمعنى أنهم لو تابوا في الآخرة لم تقبل توبتهم ، لأنه لا يمكن ذلك في الدنيا ، لأنهم ماتوا ملتبسين في الكفر ، قيل : يحتمل أن يراد بقوله { يموتون} يقربون من الموت ، كما في قوله { حضر أحدهم الموت} أي علاماته فكما أنّ التوبة عن المعصية لا تقبل عند القرب من الموت ، كذلك الإيمان لا يقبل عند القرب من الموت . {أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } يحتمل أن تكون الإشارة إلى الصنفين ، ويكونان قد شركا في إعداد العذاب لهما ، وإن كان عذاب أحدهما منقطعاً والآخر خالداً . ويكون ذلك وعيداً للعاصي الذي لم يتب إلا عند معاينة الموت حيث شرّك بينه وبين الذي وافى على الكفر ، ويحتمل أن يكون أولئك إشارة إلى الصنف الأخير إذ هو أقرب مذكور . واسم الإشارة يجري مجرى الضمير ، فيشار به إلى أقرب مذكور ، كما يعود الضمير على أقرب مذكور ، ويكون إعداد العذاب مرتباً على الموافاة على الكفر ، إذ الكفر هو مقطع الرجاء من عفو اللّه تعالى . وظاهر الإعداد أنّ النار مخلوقة وسبق الكلام على ذلك . وقال الزمخشري : أولئك أعتدنا لهم في الوعيد ، نظير قوله :{ أُوْلَائِكَ يَتُوبُ اللّه عَلَيْهِمْ } في الوعد ليتبين أن الأمرين كائنان لا محالة انتهى . وتلطف الزمخشري في دسه الاعتزال هنا ، وذلك أنه كان قد قرر أول كلامه بأنّ من نفى عنهم التوبة صنفان ، ثم ذكر هذا عقيبه ، وفهم منه أن الوعيد في حق هذين الصنفين ، كائن لا محالة ، كما أن الوعد للذين تقبل توبتهم من الصنف المذكور ، قبل هذه الآية واقع لا محالة ، فدل على أنّ العصاة الذين لا توبة لهم وعيدهم كائن مع وعيد الكفار ، وهذا هو مذهب المعتزلة . ومع احتمال أن يكون أولئك إشارة إلى الذين يوافون على الكفر ، ويرجح ذلك بأن فعل الكافر أقبح من فعل الفاسق ، لا يتعين أن يكون الوعيد مقطوعاً به للفاسق . وعلى تقدير أن يكون الوعيد للفاسق الذي لا توبة له ، فلا يلزم وقوع ما دل عليه ، إذ يجوز العقاب ويجوز العفو . وفائدة وروده حصول التخويف للفاسق . وكل وعيد للفساق الذين ماتوا على الإسلام فهو مقيد بقوله تعالى :{ إِنَّ اللّه لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } وهذه هي الآية المحكمة التي يرجع إليها . وذهب أبو العالية الرياحي وسفيان الثوري : إلى أن قوله :{ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيّئَاتِ } في حق المنافقين ، واختاره المروزي . قال : فرق بالعطف ، ودل على أنَّ المراد بالأول المنافقون . كما فرق بينهم في قوله :{ فَالْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلاَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ } لأن المنافق كان مخالفاً للكافر بظاهره في الدنيا . والذي يظهر أنها في عصاة المؤمنين الذين يتوبون حال اليأس من الحياة ، لأن المنافقين مندرجون في قوله :{ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ } فهم قسم من الكفار لا قسيم لهم . وقيل : إنما التوبة على اللّه في الصغائر ، وليست التوبة للذين يعملون السيئات في الكبائر ، ولا الذين يموتون وهم كفار في الكفر . |
﴿ ١٨ ﴾