٢٤

والمحصنات من النساء . . . . .

{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ } الإحصان : التزوج ، أو الحرية ، أو الإسلام ، أو العفة . وعلى هذه المعاني تصرفت هذه اللفظة في القرآن ، ويفسر كل مكان بما يناسبه منها . وروى أبو سعيد أن الآية نزلت بسبب أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعث جيشاً إلى أوطاس ، فلقوا عدوًّا وأصابوا سبباً لهن أزواج من المشركين ، فتأثم المسلمون من غشيانهن ، فنزلت . فالمحصنات هنا المزوجات . والمستثنى هو السبايا ، فإذا وقعت في سهمه من لها زوج فهي حلال له ، وإلى هذا ذهب : أبو سعيد ، وابن عباس ، وأبو قلابة ، ومكحول ، والزهري ، وابن زيد ، وهذا كما قال الفرزدق : وذات حليل أنكحتها رماحنا

حلال لمن يبنى بها لم تطلق

وقيل : المحصنات المزوجات ، والمستثنى هن الإماء ، فتحرم المزوجات إلا ما ملك منهن بشراء ، أو هبة ، أو صدقة ، أو إرث . فإن مالكها أحق ببضعها من الزوج ، وبيعها ، وهبتها ، والصدقة بها وارثها طلاق لها . وإلى هذا ذهب عبد اللّه ، وأبي جابر ، وابن عباس أيضاً ، وسعيد ، والحسن . وذهب عمرو بن عباس أيضاً ، وأبو العالية ، وعبيدة ، وطاووس ، وابن جبير ، وعطاء : إلى أن المحصنات هن العفائف ، وأريد به كل النساء حرام ، والشرائع كلها تقتضي ذلك . والمستثنى معناه : إلا ما ملكت أيمانكم بنكاح أو بملك ، فيدخل ذلك كله تحت ملك اليمين . وبهذا التأويل يكون المعنى تحريم الزنا . وروي عن عمر في المحصنات أنهن الحرائر ؟ فعلى هذا يكون قوله : إلا ما ملكت أيمانكم أي بنكاح إن كان الاستثناء متصلاً ، وإن كان أريد به الإماء كان منقطعاً . قيل : والذي يقتضيه لفظ الإحصان أن تعلق بالقدر المشترك بين معانية الأربعة ، وإن اختلفت جهات الإحصان ، ويحمل قوله : إلا ما ملكت أيمانكم على ظاهر استعماله في القرآن وفي السنة . وعرف العلماء من أن المراد به الإماء ، ويعود الاستثناء إلى ما صح أن يعود عليه من جهات الإحصان . وكل ما صح ملكها ملك يمين حلت لمالكها من مسبية أو مملوكة مزوجة .

ولم يختلف القراء السبعة في فتح الصاد من قوله : والمحصنات من النساء ، واختلفوا في سوى هذا فقرأ الكسائي : بكسر الصاد ، سواء كان معرفاً بالألف واللام ، أم نكرة .

وقرأ باقيهم وعلقمة : بالفتح ، كهذا المتفق عليه .

وقرأ يزيد بن قطيب : والمحصنات بضم الصاد اتباعاً لضمة الميم ، كما قالوا : منتن ، ولم يعتدّوا بالحاجز لأنه ساكن ، فهو حاجز غير حصين . وقال مكي : فائدة قوله : من النساء ، أنّ المحصنات تقع على الأنفس فقوله :{ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ } لو أريد به النساء خاصة ، لما حدّ مَن قذف رجلاً بنص القرآن ، وأجمعوا على أن حده بهذا النص .

{كِتَابَ اللّه عَلَيْكُمْ } انتصب بإضمار فعل وهو فعل مؤكد لمضمون الجملة السابقة من قوله : حرمت عليكم . وكأنه قيل : كتب اللّه عليكم تحريم ذلك كتاباً . ومن جعل ذلك متعلقاً بقوله

{فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَاء مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ } كما ذهب إليه عبيدة السلماني ، فقد أبعد وما ذهب إليه الكسائي من أنه يجوز تقديم المفعول في باب الإعراب الظروف والمجرورات مستدلاً بهذه الآية ، إذ تقدير ذلك عنده : عليكم كتاب اللّه أي : الزموا كتاب اللّه . لا يتم دليله لاحتماله أن يكون مصدراً مؤكداً كما ذكرناه . ويؤكد هذا التأويل قراءة أبي حيوة ومحمد بن السميقع اليماني : كتب اللّه عليكم ، جعله فعلاً ماضياً رافعاً ما بعده ، أي : كتب اللّه عليكم تحريم ذلك . وروي عن ابن السميقع أيضاً أنه قرأ : كتب اللّه عليكم جمعاً ورفعاً أي : هذه كتب اللّه عليكم أي : فرائضه ولازماته .

{وَأُحِلَّ لَكُمْ وَرَاء ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوالِكُمْ مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ } لما نص على المحرمات في النكاح أخبر تعالى أنه أحل ما سوى من ذكر ، وظاهر ذلك العموم . وبهذا الظاهر استدلت الخوارج ومن وافقهم من الشيعة على جواز نكاح المرأة على عمتها وعلى خالتها ، والجمع بينهما . وقد أطال الاستدلال في ذلك أبو جفعر الطاوسي أحد علماء الشيعة الاثنى عشرية في كتابه في التفسير ، وملخص ما قال : أنه لا يعارض القرآن بخبر آحاد . وهو ما روي أنه صلى اللّه عليه وسلم قال : { لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها } بل إذا ورد حديث عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عرض على القرآن ، فإن وافقه قبل ، وإلا ردّ . وما ذهبوا إليه ليس بصحيح ، لأن الحديث لم يعارض القرآن ، غاية ما فيه تخصيص عموم ، ومعظم العمومات التي جاءت في القرآن لا بد فيها من التخصيصات ، وليس الحديث خبر آحاد بل هو مستفيض ، روي عن جماعة من الصحابة رواه : عليّ ، وابن عباس ، وجابر ، وابن عمر ، وأبو موسى ، وأبو سعيد ، وأبو هريرة ، وعائشة . حتى ذكر بعض العلماء أنه متوتر موجب للعلم والعمل . وذكر ابن عطية : إجماع الأمة على تحريم الجمع ، وكأنه لم يعتد بخلاف من ذكر لشذوذه ، ولا يعدّ هذا التخصيص نسخاً للعموم خلافاً لبعضهم . وقد خصص بعضهم هذا العموم بالأقارب من غير ذوات المحارم كأنه قيل : وأحلّ لكم ما وراء ذلكم من أقاربكم ، فهي حلال لكم تزويجهن ، وإلى هذا ذهب عطاء والسدي ، وخصة قتادة بالإماء : أي : وأحل لكم ما وراء ذلكم من الإماء . وأبعد عبيدة والسدي في ردّ ذلك إلى مثنى وثلاث ورباع والمعنى : وأحلّ لكم ما دون الخمس أن تبتغوا بأموالكم على وجه النكاح . وقال السدي أيضاً في قوله : ما وراء ذلكم يعني النكاح فيما دون الفرج . والظاهر العموم إلا ما خصته السنة المستفيضة من تحريم الجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها ، فيندرج تحت هذا العموم الجمع بين المرأة وبنت عمها ، وبينها وبين بنت عمتها ، وبينها وبين بنت خالها ، أو بنت خالتها . وقد روى المنع من ذلك عن : إسحاق بن طلحة ، وعكرمة ، وقتادة ، وعطاء . وقد نكح حسن بن حسين بن عليّ في ليلة واحدة بنت محمد بن عليّ ، وبنت عمر بن عليّ ، فجمع بين ابنتي عمّ . وقد كره مالك هذا ، وليس بحرام عنده .

قال ابن المنذر : لا أعلم أحد ، أبطل هذا النكاح وهما داخلتان في جملة ما أبيح بالنكاح ، غير خارجتين منه بكتاب ولا سنة ، ولا إجماع ، وكذلك الجمع بين ابنتي عمة وابنتي خالة انتهى . واندرج تحت هذا العموم أيضاً أنه لو زنا بامرأة لم يحرم عليه نكاحها لأجل زناه بها ، وكذلك لا تحرم عليه امرأته إذا زنا بأمها أو بابنتها . ولو زنا بامرأة ثم أراد نكاح أمها أو ابنتها لم يحرما عليه بذلك ، وعلى هذا أكثر أهل العلم . وروي عن عمران بن حصين والشعبي ، وعطاء ، والحسن ، وسفيان ، وأحمد ، وإسحاق ، أنهما يحرمان عليه ، وبه قال : أبو حنيفة . ويندرج أيضاً تحت هذا العموم : أنه لو عبت رجل برجل لم تحرم عليه أمّه ولا ابنته ، وبه قال : مالك وأبو حنيفة والشافعي وأصحابه قالوا : لا يحرم النكاح العبث بالرجال . وقال الثوري ، وعبيد اللّه بن الحسن : هو مثل وطء المرأة سواء في تحريم الأم والبنت ، فمن حرم بهذا من النساء حرم من الرجال . وقال

الأوزاعي في غلامين : يعبث أحدهما بالآخر فتولد للمفعول به جارية قال : لا يتزوجها الفاعل .

وقرأ حمزة والكسائي وحفص : وأحل مبنياً للمفعول ، وهو معطوف على قوله : { حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ}

وقرأ باقي السبعة : وأحل مبنياً للفاعل ، والفاعل ضمير يعود على اللّه تعالى ، وهو أيضاً معطوف على قوله : حرمت . ولا فرق في العطف بين أن يكون الفعل مبنياً للفاعل ، أو للمفعول . ولا يشترط المناسبة ولا يختار ، وإن اختلف الفاعل المحذوف لقيام المفعول مقامه ، والفاعل الذي أسند إليه الفعل المبني للفاعل ، فكيف إذا اتحد كهذا ، لأنه معلوم أن الفاعل المحذوف في حرمت : هو اللّه تعالى ، وهو الفاعل المضمير في : أحلّ المبني للفاعل .

وقال الزمخشري: { فإن قلت } : علام عطف قوله : وأحل لكم ؟ { قلت} : على الفعل المضمر الذي نصب كتاب اللّه : أي كتب اللّه عليكم تحريم ذلك ، وأحل لكم ما وراء ذلكم . ويدل عليه قراءة اليماني : كتب اللّه عليكم ، وأحل لكم . ثم قال : ومن قرأ { وَأُحِلَّ لَكُمْ } على البناء للمفعول ، فقد عطفه على : حرّمت عليكم انتهى كلامه . ففرق في العطف بين القراءتين ، وما اختاره من التفرقة غير مختار . لأن انتصاب كتاب اللّه عليكم إنما هو انتصاب المصدر المؤكد لمضمون الجملة السابقة من قوله : حرمت ، فالعامل فيه وهو كتب ، إنما هو تأكيد لقوله : حرمت ، فلم يؤت بهذه الجملة على سبيل التأسيس للحكم ، إنما التأسيس حاصل بقوله : حرمت ، وهذه جيء بها على سبيل التأكيد لتلك الجملة المؤسسة وما كان سبيله هكذا فلا يناسب أن يعطف عليه الجملة المؤسسة للحكم ، إنما يناسب أن يعطف على جملة مؤسسة مثلها ، لا سيما والجملتان متقابلتان : إذا حداهما للتحريم ، والأخرى للتحليل ، فناسب أن يعطف هذه على هذه . وقد أجاز الزمخشري ذلك في قراءة من قرأ : وأحل مبنياً للمفعول ، فكذلك يجوز فيه مبنياً للفاعل ، ومفعول أحلّ هو : ما وراء ذلكم .

قال ابن عطية : والوراء في هذه الآية ما يعتبر أمره بعد اعتبار المحرّمات ، فهو وراء أولئك بهذا الوجه . وقال الفراء : ما وراء ذلكم أي : ما سوى ذلكم . وقال الزجاج : ما دون ذلكم ، أي : ما بعد هذه الأشياء التي حرمت . وهذه التفاسير بعضها يقرب من بعض .

وموضع أن تبتغوا نصب على أنه بدل اشتمال من ما وراء ذلكم ، ويشمل الابتغاء بالمال النكاح والشراء .

وقيل : الابتغاء بالمال هو على وجه النكاح .

وقال الزمخشري : أن تبتغوا مفعول له ، بمعنى : بين لكم ما يحل مما يحرم ، إرادة أن يكون ابتغاؤكم بأموالكم التي جعل اللّه لكم قياماً في حال كونكم محصنين غير مسافحين لئلا تضيعوا أموالكم وتفقروا أنفسكم فيما لا يحل لكم ، فتخسروا دنياكم ودينكم ، ولا مفسدة أعظم مما يجمع بين الخسرانين انتهى كلامه . وانظر إلى جعجعة هذه الألفاظ وكثرتها ، وتحميل لفظ القرآن ما لا يدل عليه ، وتفسير الواضح الجلي باللفظ المعقد ، ودس مذهب الاعتزال في غضون هذه الألفاظ الطويلة دساً خفياً إذ فسر قوله : وأحل لكم بمعنى بين لكم ما يحل . وجعل قوله : أن تبتغوا على حذف مضافين : أي إرادة أن يكون ابتغاؤكم ، أي : إرادة كون ابتغائكم بأموالكم . وفسر الأموال بعد بالمهور ، وما يخرج في المناكح ، فتضمن تفسيره : أنه تعالى بين لكم ما يحل لإرادته كون ابتغائكم بالمهور ، فاختصت إرادته بالحلال الذي هو النكاح دون السفاح . وظاهر الآية غير هذا الذي فهمه الزمخشري . إذ الظاهر أنه تعالى أحلّ لنا ابتغاء ما سوى المحرمات السابق ذكرها بأموالنا حالة الإحصان ، لا حالة السفاح . وعلى هذا الظاهر لا يجوز أن يعرب : أن تبتغوا مفعولاً له ، كما ذهب إليه الزمخشري ، لأنه فات شرط من شروط المفعول له ، وهو اتحاد الفاعل في العامل والمفعول له . لأن الفاعل بقوله : وأحل ، هو اللّه تعالى . والفاعل في :

أن تبتغوا ، هو ضمير المخاطبين ، فقد اختلفا . ولما أحس الزمخشري أن كان أحس بهذا ، جعل أن تبتغوا على حذف إرادة حتى يتحد الفاعل في قوله : وأحلّ ، وفي المفعول له ، ولم يجعل أن تبتغوا مفعولاً له إلا على حذف مضاف وإقامته مقامه ، وهذا كله خروج عن الظاهر لغير داع إلى ذلك . ومفعول تبتغوا مفعولاً له إلا على حذف مضاف وإقامته مقامه ، وهذا كله خروج عن الظاهر لغير داع إلى ذلك . ومفعول تبتغوا محذوف اختصاراً ، إذ هو ضمير يعود على ما من قوله : ما وراء ذلكم ، وتقديره : أن تبتغوه .

وقال الزمخشري{ فإن قلت } : أين مفعول تبتغوا ؟ { قلت} : يجوز أن يكون مقدراً وهو . النساء ، وأجود أن لا يقدر . وكأنه قيل : أن تخرجوا أموالكم انتهى كلامه . فأما تقديره : إذا كان مقدراً بالنساء فإنه لما جعله مفعولاً له غاير بين متعلق المفعول له وبين متعلق المعلول .

وأما قوله : وأجود أن لا يقدر ، وكأنه قيل : أن تخرجوا أموالكم ، فهو مخالف للظاهر ، لأن مدلول تبتغوا ليس مدلول تخرجوا ، ولأن تعدى تبتغوا إلى الأموال بالباء ليس على طريق المفعول به الصريح ، كما هو في تخرجوا ، وهذا كله تكلف ينبغي أن ينزه كتاب اللّه عنه .

وظاهر قوله : بأموالكم ، أنه يطلق على ما يسمى مالاً وإن قلَّ وهو قول : أبي سعيد ، والحسن ، وابن المسيب ، وعطاء ، والليث ، وابن أبي ليلى ، والثوري ، والحسن بن صالح ، والشافعي ، وربيعة قالوا : يجوز النكاح على قليل المال وكثيره .

وقيل : لا مهر أقل من عشرة دراهم ، وروي عن عليّ ، والشعبي ، والنخعي ، في آخرين من التابعين . وهو قول : أبي حنيفة ، وأبي يوسف ، وزفر ، والحسن ، ومحمد بن زياد . وقال مالك : أقلّ المهر ربع دينار أو ثلاثة دراهم . وقال أبو بكر الرازي : من كان له درهم أو درهمان لا يقال عنده مال ، وظاهر قوله : بأموالكم يدلّ على أنه لا يجوز أن يكون المهر منفعة ، لا تعليم قرآن ولا غيره ، وقد أجاز أن يكون المهر خدمتها مدة معلومة جماعة من العلماء ، ولهم في ذلك تفصيل . وأجاز أن يكون تعليم سورة من القرآن الشافعي ، ومنع من ذلك : مالك والليث ، وأبو حنيفة ، وأبو يوسف ، وحججهم في كتب الفقه وفي كتب أحكام القرآن .

والاحصان : الفقه ، وتحصين النفس عن الوقوع في الحرام . وانتصب محصنين على الحال ، وغير مسافحين حال مؤكدة ، لأن الإحصان لا يجامع السفاح وكذلك قوله : { وَلاَ مُتَّخِذِى أَخْدَانٍ } والمسافحون هم الزانون المبتذلون ، وكذلك المسافحات هن الزواني المبتذلات اللواتي هن سوق للزنا . ومتخذوا الأخدان هم الزناة المتسترون الذين يصحبون واحدة واحدة ، وكذلك متخذات الأخدان هن الزواني المتسترات اللواتي يصحبن واحداً واحداً ، ويزنين خفية . وهذان نوعان كانا في زمن الجاهلية قاله : ابن عباس ، والشعبي ، والضحاك ، وغيرهم . وأصل المسافح من السفح ، وهو الصب للمني . وكان الفاجر يقول للفاجرة : سافحيني وماذيني من المذي .

{فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَئَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً } قال ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن ، وابن زيد ، وغيرهم : المعنى فإذا استمتعتم بالزوجة ووقع الوطء ، ولو مرة ، فقد وجب إعطاء الأجر وهو المهر ، ولفظة ما تدل على أن يسيرالوطء يوجب إيتاء الأجرة . وقال الزمخشر : فما استمتعتم به من المنكوحات من جماع أو خلوة صحيحة ، أو عقد عليهن ، فآتوهن أجورهن عليه انتهى . وأدرج في الاستمتاع الخلوة الصحيحة على مذهب أبي حنيفة ، إذ هو مذهبه . وقد فسر ابن عباس وغيره الاستمتاع هنا بالوطء ، لأن إيتاء الأجر كاملاً لا يترتب إلا عليه ، وذلك على مذهبه ومذهب من يرى ذلك .

وقال ابن عباس أيضاً ومجاهد ، والسدي ، وغيرهم : الآية في نكاح المتعة .

وقرأ أبي ، وابن عباس ، وابن جبير : فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن .

وقال ابن عباس لأبي نضرة : هكذا أنزلها اللّه . وروي عن عليّ أنه قال : لولا أنّ عمر نهى عن

المتعة ما زنى إلا شقي . وروي عن ابن عباس : جواز نكاح المتعة مطلقاً .

وقيل عنه : بجوازها عند الضرورة ، والأصح عنه الرجوع إلى تحريمها . واتفق على تحريمها فقهاء الأمصار . وقال عمران بن حصين : أمرنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالمتعة ، ومات بعدما أمرنا بها ، ولم ينهنا عنه قال رجل بعده برأيه ما شاء . وعلى هذا جماعة من أهل البيت والتابعين . وقد ثبت تحريمها عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من حديث عليّ وغيره . وقد اختلفوا في ناسخ نكاح المتعة ، وفي كيفيته ، وفي شروطه ، وفيما يترتب عليه من لحاق ولد أو حدّ بما هو مذكور في كتب الفقه ، وكتب أحكام

القرآن ، وما من قوله : فما استمتعتم به منهن ، مبتدأ . ويجوز أن تكون شرطية ، والخبر الفعل الذي يليها ، والجواب : فآتوهن ، ولا بد إذ ذاك من راجع يعود على اسم الشرط . فإن كانت ما واقعة على الاستمتاع فالراجع محذوف تقديره : فأتوهن أجورهن من أجله أي : من أجل ما استمتعتم به . وإن كانت ما واقعة على النوع المستمتع به من الأزواج ، فالراجع هو المفعول بآتوهن وهو الضمير ، ويكون أعاد أولاً في به على لفظ ما ، وأعاد على المعنى في : فآتوهن ، ومن في : منهن على هذا يحتمل أن يكون تبعيضاً .

وقيل : يحتمل أن يكون للبيان . ويجوز أن تكون ما موصولة ، وخبرها إذ ذاك هو : فآتوهن ، والعائد الضمير المنصب في : فآتوهن إن كانت واقعة على النساء ، أو محذوف إن كانت واقعة على الاستمتاع على ما بين قبل .

والأجور : هي المهور . وهذا نص على أنّ المهر يسمى أجراً ، إذ هو مقابل لما يستمتع به . وقد اختلف في المعقود عليه بالنكاح ما هو ؟ أهو بدن المرأة ، أو منفعة العضو ، أو الكل ؟ وقال القرطبي : الظاهر المجموع ، فإن العقد يقتضي كل هذا . وإن كان الاستمتاع هنا المتعة ، فالأجر هنا لا يراد به المهر بل العوض كقوله : { لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا } وقوله :{ لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً } وظاهر الآية : أنه يجب المسمى في النكاح الفاسد لصدق قوله : فما استمتعتم به منهن عليه جمهور العلماء ، على أنه لا يجب فيه إلا مهر المثل ، ولا يجب المسمى . والحجة لهم :{ أَيَّمَا امْرَأَتُ الْفَضْلِ الْعَظِيمِ مَا نَنسَخْ مِنْ ءايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } وانتصب فريضة على الحال من أجورهن ، أو مصدر على غير الصدر . أي : فآتوهن أجورهن إيتاء ، لأن الإيتاء مفروض . أو مصدر مؤكد أي : فرض ذلك فريضة .

{وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ } لما أمروا بإيتاء أجور النساء المستمتع بهن ، كان ذلك يقتضي الوجوب ، فأخبره تعالى أنه لا حرج ولا إثم في نقص ما تراضوا عليه ، أو رده ، أو تأخره . أعني : الرجال والنساء من بعد الفريضة . فلها إن ترده عليه ، وإن تنقص ، وإن تؤخر ، هذا ما يدل عليه سياق الكلام . وهو نظير { فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَىْء مّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً } وإلى هذا ذهب الحسن وابن زيد . وقال السدي : هو في المتعة . والمعنى : فيما تراضيتم به من

بعد الفريضة زيادة في الأجل ، وزيادة في المهر قبل استبراء الرحم .

وقال ابن عباس : في رد ما أعطيتموهن إليكم . وقال ابن المعتمر : فيما تراضيتم به من النقصان في الصداق إذا أعسرتم .

وقيل : معناه إبراء المرأة عن المهر ، أو توفيته ، جو توفية الرجل كل المهر إن طلق قبل الدخول .

وقيل : فيما تراضيتم به من بعد فرقة ، أو إقامة بعد أداء الفريضة ، وروي عن ابن عباس وقد استدل على الزيادة في المهر بقوله : { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ } ،قيل : لأن ما عموم في الزيادة والنقصان والتأخير والحظ والإبراء ، وعموم اللفظ يقتضي جواز الجميع ، وهو بالزيادة أخص منه بغيرها مما ذكرناه ، لأن المرأة والحظ والتأجيل لا يحتاج في وقوعه إلى رضا الرجل ، والاقتصار على ما ذكر دون الزيادة يسقط فائدة ذكر تراضيهما . وذهب أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد : إلى أن الزيادة في الصداق بعد النكاح جائزة ، وهي ثابتة إن دخل بها أو مات عنها . وإن طلقها قبل الدخول بطلت الزيادة . وقال مالك : تصح الزيادة ، فإن طلقها قبل الدخول رجع ما زادها إليه ، وإن مات عنها قبل أن يقبض فلا شيء لها . وقال الشافعي وزفر : الزيادة بمنزلة هبة مستقبلة إن أقبضها جازت ، وإلا بطلت .

{إِنَّ اللّه كَانَ عَلِيماً } بما يصلح أمر عباده .

{حَكِيماً } في تقديره وتدبيره وتشريعه .

﴿ ٢٤