٢٧

واللّه يريد أن . . . . .

{وَاللّه يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً } تعلق الإرادة أولاً بالتوبة على سبيل العلية على ما اخترناه من الأقوال ، لأن قوله : ويتوب عليكم ، معطوف على العلة ، فهو علة . ونعلقها هنا على سبيل المفعولية ، فقد اختلف التعلقان فلا تكرار . وكما أراد سبب التوبة فقد أراد التوبة عليهم ، إذ قد يصح إرادة السبب دون الفعل . ومن ذهب إلى أنّ متعلق الإرادة في الموضعين واحد كان قوله : واللّه يريد أن يتوب عليكم تكراراً لقوله : ويتوب عليكم ، لأن قوله : ويتوب عليكم ، معطوف على مفعول ، فهو مفعول به .

قال ابن عطية : وتكرار إرادة اللّه للتوبة على عباده تقوية للأخبار الأول ، وليس المقصد في الآية إلا الأخبار عن إرادة الذين يتبعون الشهوات ، فقدمت إرادة اللّه توطئة مظهرة لفساد متبعي الشهوات . انتهى كلامه . فاختار مذهب الكوفيين في أن جعلوا قوله : ليبين ، في معنى أن يبين ، فيكون مفعولاً ليريد ، وعطف عليه : ويتوب ، فهو مفعول مثله ، ولذلك قال : وتكرار إرادة اللّه التوبة على عباده إلى آخر كلامه . وكان قد حكى قول الكوفيين وقال : وهذا ضعيف ، فرجع أخيراً إلى ما ضعفه ، وكان قد قدم أنَّ مذهب سيبويه : أنَّ مفعول : يريد ، محذوف ، والتقدير : يريد اللّه هذا التبيين .

والشهوات جمع شهوة ، وهي ما يغلب على النفس محبته وهواه . ولما كانت التكاليف الشرعية فيها قمع النفس وردها عن مشتهياتها ، كان اتباع شهواتها سبباً لكل مذمّة ، وعبر عن الكافر والفاسق بمتبع الشهوات كما

قال تعالى :{ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصَّلَواةَ وَاتَّبَعُواْ الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً } واتباع الشهوة في كل حال مذموم ، لأن ذلك ائتمار لها من حيث ما دعته الشهوة إليه . أما إذا كان الاتباع من حيث العقل أو الشرع فذلك هو اتباع لهما لا للشهوة . ومتبعو الشهوات هنا هم الزناة قاله : مجاهد . أو اليهود والنصارى قاله : السدي . أو اليهود خاصة لأنهم أرادوا أن يتبعهم المسلمون في نكاح الأخوات من الأب ، أو المجو كانوا يحلون نكاح الأخوات من الأب ، ونكاح بنات الأخ ، وبنات الأخت ، فلما حرّمهنّ اللّه قالوا : فإنكم تحلون بنت الخالة والعمة ، والعمة عليكم حرام ، فانكحوا بنات الأخ والأخت ، أو متبعو كل شهوة قاله : ابن زيد ، ورجحه الطبري . وظاهره العموم والميل ، وإن كان مطلقاً فالمراد هنا الميل عن الحق ، وهو الجور والخروج عن قصد السبيل . ولذلك قابل إرادة اللّه بإرادة متبعي الشهوات ، وشتان ما بين الإرادتين . وأكد فعل الميل بالمصدر على سبيل المبالغة ، لم يكتف حتى وصفه بالعظم . وذلك أن الميول قد تختلف ، فقد يترك الإنسان فعل الخير لعارض شغل أو لكسل أو لفسق يستلذ به ، أو لضلالة بأن يسبق له سوء اعتقاد . ويتفاوت رتب معالجة هذه الأشياء ، فبعضها أسهل من بعض ، فوصف مثل هؤلاء بالعظم ، إذ هو أبعد الميول معالجة وهو الكفر . كما

قال تعالى :{ وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ }{ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ}

وقرأ الجمهور : أن تميلوا بتاء الخطاب . وقرىء : بالياء على الغيبة . فالضمير في يميلوا يعود على الذين يتبعون الشهوات .

وقرأ الجمهور : ميلاً بسكون الياء .

وقرأ الحسن : بفتحها ، وجاءت الجملة الأولى اسمية ، والثانية فعلية لإظهار تأكيد الجملة الأولى ، لأنها أدل على الثبوت . ولتكرير اسم اللّه تعالى فيها على طريق الإظهار والإضمار .

وأما الجملة الثانية فجاءت فعلية مشعرة بالتجدد ، لأن أرادتهم تتجدد في كل وقت . والواو في قوله : ويريد للعطف على ما قررناه . وأجاز الراغب أن تكون الواو للحال لا للعطف ، قال : تنبيهاً على أنه يريد التوبة عليكم في حال ما تريدون أن تميلوا ، فخالف بين الإخبارين في تقديم المخبر عنه في الجمل الأولى ، وتأخيره في

الجملة الثانية ، ليبين أنَّ الثاني ليس على العطف انتهى . وهذا ليس بجيد ، لأنّ إرادته تعالى التوبة علينا ليست مقيدة بإرادة غيره الميل ، ولأنّ المضارع باشرته الواو ، وذلك لا يجوز ، وقد جاء منه شيء نادر يؤوّل على إضمار مبتدأ قبله ، لا ينبغي أن يحمل القرآن عليه ، لا سيما إذا كان للكلام محمل صحيح فصيح ، فحمله على النادر تعسف لا يجوز .

﴿ ٢٧