٢٨

يريد اللّه أن . . . . .

{يُرِيدُ اللّه أَن يُخَفّفَ عَنْكُمْ } لم يذكر متعلق التخفيف ، وفي ذلك أقوال : أحدها أن يكون في إباحة نكاح الأمة وغيره من الرخص . الثاني في تكليف النظر وإزالة الحيرة فيما بين لكم مما يجوز لكم من النكاح وما لا يجوز .

الثالث : في وضع الاصر المكتوب على من قبلنا ، وبمجيء هذه الملة الحنيفية سهلة سمحة .

الرابع : بإيصالكم إلى ثواب ما كلفكم من تحمل التكاليف .

الخامس : أن يخفف عنكم إثم ما ترتكبون من المآثم لجهلكم .

وأعربوا هذه الجملة حالاً من قوله : واللّه يريد أن يتوب عليكم ، والعامل في الحال يريد ، التقدير : واللّه يريد أن يتوب عليكم مريداً أن يخفف عنكم ، وهذا الإعراب ضعيف ، لأنه قد فصل بين العامل والحال بجملة معطوفة على الجملة التي في ضمنها العامل ، وهي جملة أجنبية من العامل والحال ، فلا ينبغي أن يتجوز إلا بسماع من العرب . ولأنه رفع الفعل الواقع حالاً الاسم الظاهر ، وينبغي أن يرفع ضميره لا ظاهره ، فصار نظير : زيد يخرج يضرب زيد عمراً . والذي سمع من ذلك إنما هو في الجملة الابتدائية ، أو في شيء من نواسخها . أما في جملة الحال فلا أعرف ذلك . وجواز ذلك فيما ورد إنما هو فصيح حيث يراد التفخيم والتعظيم ، فيكون الربط في الجملة الواقعة خبراً بالظاهر . أما جملة الحال أو الصفة فيحتاج الربط بالظاهر فيها إلى سماع من العرب ، والأحسن أن تكون الجملة مستأنفة ، فلا موضع لها من الإعراب . أخبر بها تعالى عن إرادته التخفيف عنا ، كما جاء { يُرِيدُ اللّه بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}

{وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً } قال مجاهد وطاووس وابن زيد : الإخبار عن ضعف الإنسان إنما هو في باب النساء ، أي لما علمنا ضعفكم عن النساء خففنا عنكم بإباحة الإماء . قال طاووس : ليس يكون الإنسان أضعف منه في أمر النساء . وقال ابن المسيب : ما أيس الشيطان من بني آدم قط إلا أتاهم من النساء ، فقد أتى عليّ ثمانون سنة وذهبت إحدى عيني وأنا أعشق بالأخرى ، وأن أخوف ما أخاف عليّ فتنة النساء .

قال الزمخشري : ضعيفاً لا يصبر عن الشهوات ، وعلى مشاق الطاعات .

قال ابن عطية : ثم بعد هذا المقصد أي : تخفيف اللّه بإباحة الإماء ، يخرج الآية مخرج التفضل ، لأنها تتناول كل ما خفف اللّه عن عباده وجعله الدين يسراً ، ويقع الإخبار عن ضعف الإنسان عاماً حسبما هو في نفسه ضعيف يستميله هواه في الأغلب . قال الراغب : ووصف الإنسان بأنه خلق ضعيفاً ، إنما هو باعتباره بالملأ الأعلى نحو :{ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا } أو باعتباره بنفسه دون ما يعتريه من فيض اللّه ومعونته ، أو اعتباراً بكثرة حاجاته وافتقار بعضهم إلى بعض ، أو اعتباراً بمبدئه ومنتهاه كما

قال تعالى :{ اللّه الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن ضَعْفٍ } فأما إذا اعتبر بعقله وما أعطاه من القوة التي يتمكن بها من خلافة اللّه في أرضه ويبلغ بها في الآخرة إلى جواره تعالى ، فهو أقوى ما في هذا العالم . ولهذا

قال تعالى :{ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} وقال الحسن : ضعيفاً لأنه خلق من ماء مهين . قال اللّه تعالى : الذي خلقكم من ضعف .

وقرأ ابن عباس ومجاهد : وخلق الإنسان مبنياً للفاعل مسنداً إلى ضمير اسم اللّه ، وانتصاب ضعيفاً على الحال .

وقيل : انتصب على التمييز . لأنه يجوز أن يقدر بمن ، وهذا

ليس بشيء .

وقيل : انتصب على إسقاط حرف الجر ، والتقدير : من شيء ضعيف ، أي من طين ، أو من نطفة وعلقة ومضغة . ولما حذف الموصوف والجابر انتصبت الصفة بالفعل نفسه .

قال ابن عطية : ويصح أن يكون خلق بمعنى جعل ، فيكسبها ذلك قوّة التعدي إلى مفعولين ، فيكون قوله : ضعيفاً مفعولاً ثانياً انتهى . وهذا هو الذي ذكره من أنّ خلق يتعدى إلى اثنين بجعلها بمعنى جعل ، لا أعلم أحداً من النحويين ذهب إلى ذلك ، بل الذي ذكر الناس أنّ من أقسام جعل أن يكونن بمعنى خلق ، فيتعدّى إلى مفعول واحد ، كقوله تعالى : { وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ } أما العكس فلم يذهب إلى ذلك أحد فيما علمناه ، والمتأخرون الذين تتبعوا هذه الأفعال لم يذكروا ذلك . وقد تضمنت هذه الآيات أنواعاً من البيان والبديع . منها : التجوّز بإطلاق اسم الكل على البعض في قوله : يأتين الفاحشة ، لأن أل تستغرق كل فاحشة وليس المراد بل بعضها ، وإنما أطلق على البعض اسم الكل تعظيماً لقبحه وفحشه ، فإن كان العرف في الفاحشة الزنا ، فليس من هذا الباب إذ تكون الألف واللام للعهد . والتجوّز بالمراد من المطلق بعض مدلوله في قوله : فآذوهما إذ فسر بالتعيير أو الضرب بالنعال ، أو الجمع بينهما ، وبقوله : سبيلاً والمراد الحد ، أو رجم المحصن . وبقوله : فأعرضوا عنهما أي اتركوهما . وإسناد الفعل إلى غير فاعله في قوله : حتى يتوفاهنّ الموت ،

وفي قوله : حتى إذا حضر أحدهم الموت . والتجنيس المغاير في : إن تابا إن اللّه كان توّاباً ، وفي : أرضعنكم ومن الرضاعة ، وفي : محصنات فإذا أحصنّ . والتجنيس المماثل في : فإن كرهتموهنّ فعسى أن تكرهوا ، وفي : ولا تنكحوا ما نكح . والتكرار في : اسم اللّه في مواضع ، وفي : إنما التوبة وليست التوبة ، وفي : زوج مكان زوج ، وفي : أمّهاتكم وأمّهاتكم اللاتي ، وفي : إلا ما قد سلف ، وفي : المؤمنات في قوله : المحصنات المؤمنات ، وفي : فتياتكم المؤمنات ، وفي : فريضة ومن بعد الفريضة ، وفي : المحصنات من النساء والمحصنات ، ونصف ما على المحصنات ، وفي : بعضكم من بعض ، وفي : يريد في أربعة مواضع ، وفي : يتوب وأن يتوب ، وفي : إطلاق المستقبل على الماضي ، في : واللاتي يأتين الفاحشة وفي : واللذان يأتيانها منكم ، وفي : يعملون السوء وفي : ثم يتوبون ، وفي : يريد وفي : ليبين ، لأن إرادة اللّه وبيانه قديمان ، إذ تبيانه في كتبه المنزلة والإرادة والكلام من صفات ذاته وهي قديمة . والإشارة والإيماء في قوله ؛ كرهاً ، فإن تحريم الإرث كرهاً يومىء إلى جوازه طوعاً ، وقد صرح بذلك في قوله : فإن طين ،

وفي قوله : ولا تعضلوهنّ لتذهبوا ببعض ما آتيتموهنّ ، فله أن يعضلها على غير هذه الصفة لمصلحة لها تتعلق بها ، أو بمالها ، وفي : أنه كان فاحشة أومأ إلى نكاح الأبناء في الجاهلية نساء الآباء ، وفي : أحل لكم ما وراء ذلكم إشارة إلى ما تقدم في المحرمات ، ذلك لمن خشي العنت إشارة إلى تزويج الإماء . والمبالغة في تفخيم الأمر وتأكيده في قوله : وآتيتم إحداهنّ قنطاراً عظم الأمر حتى ينتهي عنه . والاستعارة في قوله : وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً ، استعار الأخذ للوثوق بالميثاق والتمسك به ، والميثاق معنى لا يتهيأ فيه الأخذ حقيقة ، وفي : كتاب اللّه عليكم أي فرض اللّه ، استعار للفرض لفظ الكتاب لثبوته وتقريره ، فدل بالأمر المحسوس على المعنى المعقول . وفي : محصنين ، استعار لفظ الإحصان وهو الامتناع في المكان الحصين للامتناع بالعقاب ، واستعار لكثرة الزنا السفح وهو صب الماء في الأنهار والعيون بتدفق وسرعة ، وكذلك : فآتوهن أجورهن استعار لفظ الأجور للمهور ، والأجر هو ما يدل على عمل ، فجعل تمكين المرأة من الانتفاع بها كأنه عمل تعمله .

وفي قوله : طولاً استعارة للمهر يتوصل به للغرض ، والطول وهو الفضل يتوصل به إلى معالي الأمور .

وفي قوله : يتبعون الشهوات استعار الاتباع والميل اللذين هما حقيقة في الإجرام لموافقة هوى النفس المؤدي إلى الخروج عن الحق .

وفي قوله : أن يخفف ، والتخفيف أصله من خفة الوزن وثقل الجرم ، وتخفيف التكاليف رفع مشاقها من النفس ، وذلك من

المعاني . وتسمية الشيء بما يؤول إليه في قوله : أن ترثوا النساء كرهاً ، سمي تزويج النساء أو منعهن للأزواج إرثاً ، لأن ذلك سبب الإرث في الجاهلية .

وفي قوله : وخلق الإنسان ضعيفاً جعله ضعيفاً باسم ما يؤول إليه ، أو باسم أصله . والطباق المعنوي في قوله : وعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل اللّه فيه خيراً كثيراً ، وقد فسر الخير الكثير بما هو محبوب .

وفي قوله : والمحصنات من النساء ، أي حرام عليكم ثم قال : وأحل لكم . والذي يظهر أنه من الطباق اللفظي ، لأن صدر الآية حرمت عليكم أمهاتكم ، ثم نسق المحرمات ، ثم قال : وأحل لكم ، فهذا هو الطباق .

وفي قوله : محصنين غير مسافحين ، والمحصن الذي يمنع فرجه ، والمسافح الذي يبذله . والاحتراس في قوله : اللاتي دخلتم بهن احترز من اللاتي لم يدخل بهن ، وفي وربائبكم اللاتي في جحوركم احترس من اللاتي ليست في الحجور .

وفي قوله : والمحصنات من النساء إذا المحصنات قد يراد بها الأنفس المحصنات ، فيدخل تحتها الرجال ، فاحترز بقوله : من النساء . والاعتراض بقوله : واللّه أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض . والحذف في مواضع لا يتم المعنى إلا بها .

﴿ ٢٨