٤٧

يا أيها الذين . . . . .

طمس : متعد ولازم . تقول : طمس المطر الأعلام أي محا آثارها ، وطمست الأعلام درست ، وطمس الطريق درس وعفت أعلامه قاله : أبو زيد . ومن المتعدّي : { وَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ } أي استؤصلت . وقال ابن عرفة في قوله : اطمس على أموالهم أي أذهبها كلية ، وأعمى مطموس أي : مسدود العينين . وقال كعب : من كل نضاخة الذفرى إذا عرقت

عرضتها طامس الأعلام مجهول

والطمس والطسم والطلس والدرس كلها متقاربة في المعنى . الفتيل : فعيل بمعنى مفعول . فقيل : هو الخيط الذي في شق نواة التمرة .

وقيل : ما خرج من الوسخ من بين كفيك وأصبعيك إذا فتلتهما . الجبت : اسم لصنم ثم صار مستعملاً لكل باطل ، ولذلك اختلفت فيه أقاويل المفسرين على ما سيأتي . وقال قطرب : الجبت الجبس ، وهو الذي لا خير عنده ، قلبت السين تاء . قيل : وإنما قال هذا لأن الجبت مهمل . النقير : النقطة التي على ظهر النواة منها تنبت النخلة قاله : ابن عباس . وقال الضحاك : هو البياض الذي في وسطها . النضج : أخذ الشيء في التهري وتفرق أجزائه ، ومنه نضج اللحم ، ونضج الثمرة . يقال : نضج الشيء ينضج نضجاً ونضاجاً . الجلد معروف .

{قَلِيلاً يَأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ ءامِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدّقاً لّمَا مَعَكُمْ } دعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أحبار اليهود منهم عبد اللّه بن صوريا إلى الإسلام وقال لهم :{ إِنَّكُمْ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقّ } فقالوا : ما نعرف ذلك ، فنزلت . قاله ابن عباس . ومناسبة

هذه الآية لما قبلها هو أنه تعالى لما رجاهم بقوله : { وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ } الآية . خاطب من يرجى إيمانه منهم بالأمر بالإيمان ، وقرن بالوعيد البالغ على تركه ليكون أدعى لهم إلى الإيمان والتصديق به ، ثم أزال خوفهم من سوء الكبائر السابقة بقوله :{ إِنَّ اللّه لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } الآية . وأعلمهم أن تزكيتهم أنفسهم بما لم يزكهم به اللّه لا ينفع .

والذين أوتوا الكتاب هنا اليهود ، والكتاب التوراة قاله : الجمهور ، أو اليهود والنصارى قاله : الماوردي وابن عطية . والكتاب التوراة والإنجيل ، وبما نزلنا هو القرآن بلا خلاف ، ولما معكم من شرع وملة لا لما معهم من مبدل ومغير من قبل أن نطمس وجوهاً فنردها على أدباها . قرأ الجمهور : نطمس بكسر الميم .

وقرأ أبو رجاء : بضمها . وهما لغتان ، والظاهر أن يراد بالوجوه مدلولها الحقيقي ،

وأما طمسها فقال ابن عباس وعطية العوفي : هو أن تزال العينان خاصة منها وترد في القفا ، فيكون ذلك رداً على الدبر ويمشي القهقرى . وعلى هذا يكون ذلك على حذف مضاف أي : من قبل أن نطمس عيون وجوه ، ولا يراد بذلك مطلق وجوه ، بل المعنى وجوهكم . وقالت طائفة : طمس الوجوه أن يعفى آثار الحواس منها فترجع كسائر الأعضاء في الخلو من آثار الحواس منها ، والرد على الإدبار هو بالمعنى أي : خلوه من الحواس . دثر الوجه لكونه عابراً بها ، وحسن هذا القول الزمخشري وجوزه وأوضحه ، فقال : إن نطمس وجوهاً أي نمحو تخطيط صورها من عين وحاجب وأنف وفم ، فنردها على أدبارها ، فنجعلها على هيئة أدبارها وهي الإقفاء مطموسة مثلها . والفاء للتسبيب ، وإن جعلتها للتعقيب على أنهم توعدوا بالعقابين أحدهما عقيب الآخر ردها على أدبارها بعد طمسها ،

فالمعنى : أن نطمس وجوهاً فننكسها الوجوه إلى خلف ، والإقفاء إلى قدام انتهى . والطمس بمعنى المحو الذي ذكره مروي عن ابن عباس ، واختاره القتبي . وقال قتادة والضحاك : معناه نعمى أعينها . وذكر الوجوه وأراد العيون ، لأن الطمس من نعوت العين .

قال تعالى :{ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ} ويروى هذا أيضاً عن ابن عباس . وقال الفراء : طمس الوجوه جعلها منابت للشعر كوجوه القردة .

وقيل : ردها إلى صورة بشيعة كوجوه الخنازير والقردة . وقال مجاهد والسدّي والحسن . ذلك تجوز ، والمراد وجوه الهدى والرشد ، وطمسها حتم الإضلال والصد عنها ، والرد على الإدبار التصيير إلى الكفر . وقال ابن زيد : الوجوه هي أوطانهم وسكناهم في بلادهم التي خرجوا إليها ، وطمسها إخراجهم منها . والرد على الإدبار رجوعهم إلى الشام من حيث أتوا أولاً . وحسّن الزمخشري هذا القول ، فقال : ووجه آخر وهو أن يراد بالطمس القلب والتغيير ، كما طمس أموال القبط فقلبها حجارة ، وبالوجوه رؤوسهم ووجهاؤهم أي : من قبل أن نغير أحوال وجهائهم فنسلبهم إقبالهم ووجاهتهم ، وتكسوها صغارهم وأدبارهم ، أو نردهم إلى حيث جاؤا منه . وهي أذرعات الشام ، يريد إجلاء بني النضير انتهى .

{أَوْ نَلْعَنَهُمْ } هو معطوف على قوله : أن نطمس . وظاهر اللعنة هو المتعارف كما في قوله :{ مَن لَّعَنَهُ اللّه وَغَضِبَ عَلَيْهِ} وقال الحسن : معناه نمسخهم كما مسخنا أصحاب السبت . و

قال ابن عطية : هم أصحاب ايلة الذين اعتدوا في السبت بالصيد ، وكانت لعنتهم إن مسخوا خنازير وقردة .

وقيل : معناه نهيمهم في التيه حتى يموت أكثرهم .

وظاهر قوله : من قبل أن نطمس أو نلعن ، أنَّ ذلك يكون في الدنيا . ولذلك روي أنَّ عبد اللّه بن سلام لما سمع هذه الآية جاء إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم قبل أن يأتي أهله ويده على وجهه فأسلم وقال : يا رسول اللّه ما كنت أرى أن أصل إليك حتى يحول وجهي في قفاي . وقال

مالك : كان إسلام كعب الأحبار أنه مر برجل من الليل وهو يقرأ هذه الآية ، فوضع كفه على وجهه ورجع القهقرى إلى بيته فأسلم مكانه ، وقال : واللّه لقد خفت أن لا أبلغ بيتي حتى يطمس وجهي .

وقيل : الطمس المسخ لليهود قبل يوم القيامة ولا بد .

وقيل : المراد أنه يحل بهم في القيامة ، فيكون ذلك أنكى لهم لفضيحتهم بين الأوّلين والآخرين ، ويكون ذلك أول ما عجل لهم من العذاب . وهذا إذا حمل طمس الوجوه على الحقيقة ،

وإمّا إن أريد بذلك تغيير أحوال وجهائهم أو وجوه الهدى والرشد ، فقد وقع ذلك . وإن كان الطمس غير ذلك فقد حصل اللعن ، فإ نهم ملعونون بكل لسان . وتعليق الإيمان بقبلية أحد أمرين لا يلزم منه وقوعهما ، بل متى وقع أحدهما صح التعليق ، ولا يلزم من ذلك تعيين أحدهما .

وقيل : الوعيد مشروط بالإيمان ، وقد آمن منهم ناس . ومن قبل : متعلق بآمنوا ، وعلى أدبارها متعلق بفنردها .

وقال أبو البقاء : على أدبارها حال من ضمير الوجوه ، والضمير المنصوب في نلعنهم .

قيل : عائد على الوجوه إن أريد به الوجهاء ، أو عائد على أصحاب الوجوه ، لأن المعنى : من قبل أن نطمس وجوه قوم ، أو على الذين أوتوا الكتاب على طريق الالتفات ، وهذا عندي أحسن . ومحسن هذا الالتفات هو أنه تعالى لما ناداهم كان ذلك تشريفاً لهم ، وهز السماع ما يلقيه إليهم ، ثم ألقى إليهم الأمر بالإيمان بما نزل ، ثم ذكر أنّ الذي نزل هو مصدق لما معهم من كتاب ، فكان ذلك أدعى إلى الإيمان ، ثم ذكر هذا الوعيد البالغ فحذف المضاف إليه من قوله : من قبل أن نطمس وجوهاً والمعنى : وجوهكم ، ثم عطف عليه قوله : أو نلعنهم ، فأتى بضمير الغيبة ، لأن الخطاب حين كان الوعيد بطمس الوجوه وباللعنة ليس لهم ليبقى التأنيس والهم والاستدعاء إلى الإيمان غير مشوب بمفاجأة الخطاب الذي يوحش السامع ويروع القلب ويصير أدعى إلى عدم القبول ، وهذا من جليل المخاطبة . وبديع المحاورة .

{وَكَانَ أَمْرُ اللّه مَفْعُولاً } الأمر هنا واحد الأمور ، واكتفى به لأنه دال على الجنس ، وهو عبارة عن المخلوقات : كالعذاب ، واللعنة ، والمغفرة .

وقيل : المراد به المأمور ، مصدر وقع موقع المفعول ، والمعنى : الذي أراده أوجده .

وقيل : معناه أنَّ كل أمر أخر تكوينه فهو كائن لا محالة والمعنى : أنه تعالى لا يتعذر عليه شيء يريد أن يفعله . وقال : وكان إخباراً عن جريان عادة اللّه في تهديده الأمم السالفة ، وأنَّ ذلك واقع لا محالة ، فاحترزوا وكونوا على حذر من هذا الوعيد . ولذلك

قال الزمخشري : ولا بد أن يقع أحد الأمرين إن لم يؤمنوا يعني : الطمس واللعنة .

﴿ ٤٧