٨٨

فما لكم في . . . . .

{فَمَا لَكُمْ فِى الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ } ذكروا في سبب نزولها أقوالاً طولوا بها وملخصها : أنّهم قوم أسلموا فاستوبؤا المدينة فخرجوا ، فقيل هم : أما لكم في الرسول أسوة ؟ أو ناس رجعوا من أحد لِما خرج الرسول ، وهذا في الصحيحين من قول زيد بن ثابت . أو ناس بمكة تكلموا بالإسلام وهم يعينون الكفار ، فخرجوا من مكة . قال الحسن ، ومجاهد : خرجوا الحاجة لهم ، فقال قوم من المسلمين ، اخرجوا إليهم فاقتلوهم ، فإنهم يظاهرون عدوكم . وقال قوم : كيف نقتلهم وقد تكلموا بالإسلام ؟ رواه ابن عطية عن ابن عباس . أو قوم قدموا المدينة وأظهروا الإسلام ثم رجعوا إلى مكة فأظهروا الشرك ، أو قوم أعلنوا الإيمان بمكة وامتنعوا من الهجرة قاله : الضحاك . أو العرنيون الذين أغاروا على السرح وقتلوا يساراً ، أو المنافقون الذين تكلموا في حديث الإفك .

وما كان من هذه الأقوال يتضمن أنهم كانوا بالمدينة ، يردّه قوله :{ حَتَّى يُهَاجِرُواْ فِى سَبِيلِ اللّه } إلا إنْ حملت المهاجرة على هجرة ما نهى اللّه عنه ، والمعنى : أنه تعالى أنكر عليهم اختلافهم في نفاق من ظهر منه النفاق أي : من ظهر منه النفاق قطع بنفاقه ، ولو لم يكونوا بادياً نفاقهم ، لما أطلق عليه اسم النفاق . وفي المنافقين متعلق بما تعلق به لكم ، وهو كائن أي : أيّ شيء كائن لكم في شأن المنافقين . أو بمعنى فئتين أي : فرقتين في أمر المنافقين . وانتصب فئتين على الحال عند البصريين من ضمير الخطاب في لكم ، والعامل فيها العامل في لكم . وذهب الكوفيون إلى أنه منصوب على إضمار كان أي : كنتم فئتين . ويجيزون مالك الشاتم أي : كنت الشاتم ، وهذا عند البصريين لا يجوز ، لأنه عندهم حال ، والحال لا يجوز تعريفها .

{وَاللّه أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُواْ } أي : رجّعهم وردّهم في كفرهم قاله : ابن عباس ، واختار الفراء والزجاج : أوبقهم . روى عن ابن عباس : أو أضلهم ، قاله السدي . أو أهلكهم قاله قتادة ، أو نكسهم قاله الزجاج . وكلها متقاربة . ومن عبر به عن الإهلاك فإنه أخذ بلازم الإركاس . ومعنى بما كسبوا أي : بما أجراه اللّه عليهم من المخالفة ، وذلك الاركاس هو بخلق اللّه واختراعه ، وينسب للعبد كسباً .

وقال الزمخشري : واللّه أرسكهم أي : ردّهم في حكم المشركين كما كانوا بما كسبوا من ارتدادهم ، ولحوقهم بالمشركين ، واحتيالهم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.أو أركسهم في الكفر بأنْ خذلهم حتى ارتكبوا فيه لما علم من مرض قلوبهم انتهى . وهو جار على عقيدته الاعتزالية ، فلا ينسب الاركاس إلى اللّه حقيقة ، بل يؤوّله على معنى الخذلان وترك اللطف ، أو على الحكم بكونهم من المشركين . إذ هم فاعلو الكفر ومخترعوه ، لا اللّه تعالى اللّه عن قولهم .

وقرأ عبد اللّه : ركسهم ثلاثياً . وقرىء : ركسهم ركسوا فيها بالتشديد ، قال الراغب : الركس والنكس الرذل ، والركس أبلغ من النكس ، لأن النكس ما جعل أسفله أعلاه ، والركس أصله ما رجع رجيماً بعد أن كان طعاماً فهو كالرجس وصف أعمالهم به ، كما قال :{ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } وأركسه أبلغ من ركسه ، كما أنَّ أسقاه بلغ من سقاه انتهى . وهذه الجملة في موضع الحال ، أنكر تعالى عليهم اختلافهم في هؤلاء المنافقين في حال أنّ اللّه تعالى قد ردهم في الكفر ، ومن يرده اللّه إلى الكفر لا يختلف في كفره .

{أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللّه } هذا استفهام إنكار أي : من أراد اللّه ضلاله ، لا يريد أحد هدايته لئلا تقع إرادته مخالفة لإرادة اللّه تعالى ، ومَن قضى اللّه عليه بالضلال لا يمكن إرشاده ، ومن أضل اللّه اندرج فيه المركسون وغيرهم . ممن أضله اللّه فكأنه قيل : أتريدون أن تهدوا هؤلاء المنافقين ؟ ومن أضله اللّه تعالى من غيرهم واندراجهم في عموم من بعد قوله : واللّه أركسهم ، هو على سبيل التوكيد ، إذ ذكروا أوّلاً على سبيل الخصوص ، وثانياً على سبيل اندراجهم في العموم .

وقال الزمخشري : أتريدون أن تجعلوا من جملة المهتدين ؟ من أضله اللّه من جعله من الضلال وحكم عليه بذلك ، أو خذله حتى ضل انتهى . وهو على طريقته الاعتزالية من أنه لا ينسب إلا ضلال إلى اللّه على سبيل الحقيقة .

{وَمَن يُضْلِلِ اللّه فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً } أي : فلن تجد لهدايته سبيلاً . والمعنى : لخلق الهداية في قلبه ، وهذا هو المنفى . والهداية بمعنى الإرشاد والتبيين ، هي للرسل . وخرج من خطابهم إلى خطاب الرسول على سبيل التوكيد في حق المختلفين ، لأنه إذا لم يكن له ذلك ، فالأحرى أن لا يكون ذلك لهم .

وقيل : من يحرمه الثواب والجنة لا يجد له أحد طريقاً إليهما .

وقيل : من يهلكه اللّه فليس لأحد طريق إلى نجاته من الهلاك .

وقيل : ومن يضلل اللّه فلن تجد له مخرجاً وحجة .

﴿ ٨٨