٩٥لا يستوي القاعدون . . . . . {لاَّ يَسْتَوِى الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِى الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللّه بِأَمْوالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ } قال أبو سليمان الدمشقي : نزلت من أجل قوم كانوا إذا حضرت غزاة يستأذنون في القعود والتخلف عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وأما غير أولي الضرر فسببها قول ابن أم مكتوم : كيف من لا يستطيع الجهاد ؟ . ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما رغب المؤمنين في القتال في سبيل اللّه أعداء اللّه الكفار ، واستطرد من ذلك إلى قتل المؤمن خطأ وعمداً بغير تأويل وبتأويل ، فنهى أن يقدم على قتله بتأويل أمر يحمله على الإسلام إذا كان ظاهره يدل على ذلك ، ذكر بيان فضل المجاهد على القاعد ، وبيان تفاوتهما ، وأن ذلك لا يمنع منه كون الجهاد ، مظنة أن يصيب المجاهد مؤمناً خطأ ، أو من يلقي السلم فيقتله بتأويل فيتقاعسن عن الجهاد لهذه الشبهة ، فأتى عقيب ذلك بفضل الجهاد وفوزه بما ذكر في الآية من الدرجات والمغفرة والرحمة والأجر العظيم ، دفعاً لهذه الشبهة . ويستوي هنا من الأفعال التي لا تكتفي بفاعل واحد ، وإثباته لا يدل على عموم المساواة ، وكذلك نفيه . وإنما عنى نفي المساواة في الفضل ، وفي ذلك إبهام على السامع ، وهو أبلغ من تحرير المنزلة التي بين القاعد والمجاهد . فالمتأمل يبقي مع فكره ، ولا يزال يتخيل الدرجات بينهما ، والقاعد هو المتخلف عن الجهاد ، وعبر عن ذلك بالقعود ، لأن القعود هيئة من لا يتحرك إلى الأمر المقعود عنه في الأغلب . وأولو الضرر هم من لا يقدر على الجهاد لعمى ، أو مرض ، أو عرج ، أو فقد أهبة . والمعنى : لا يستوي القاعدون القادرون على الغزو والمجاهدون . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحمزة : غير برفع الراء . ونافع ، وابن عامر ، والكسائي : بالنصب ، ورويا عن عاصم . وقرأ الأعمش وأبو حيوة : بكسرها . فأما قراءة الرفع فوجهها الأكثرون على الصفة ، وهو قول سيبويه ، كما هي عنده صفة في { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } ومثله قول لبيد : وإذا جوزيت قرضاً فاجزه إنما يجزي الفتى غير الجمل كذا ذكره أبو عليّ ، ويروى : ليس الجمل . وأجاز بعض النحويين فيه البدل . قيل : وهو إعراب ظاهر ، لأنه جاء بعد نفي ، وهو أولى من الصفة لوجهين : أحدهما : أنهم نصوا على أنَّ الأفصح في النفي البدل ، ثم النصب على الاستثناء ثم الوصف في رتبة ثالثة . الثاني : أنه قد تقرر أنّ غيراً نكرة في أصل الوضع وإن أضيفت إلى معرفة هذا ، هو المشهور ، ومذهب سيبويه . وإن كانت قد تتعرف في بعض المواضع ، فجعلها هنا صفة يخرجها عن أصل وضعها إما باعتقاد التعريف فيها ، وإما باعتقاد أنّ القاعدين لما لم يكونوا ناساً معينين ، كانت الألف واللام فيه جنسية ، فأجرى مجرى النكرات حتى وصف بالنكرة ، وهذا كله ضعيف . وأما قراءة النصب فهي على الاستثناء من القاعدين . وقيل : استثناء من المؤمنين ، والأول أظهر لأنه المحدث عنه . وقيل : انتصب على الحال من القاعدين . وأما قراءة الجر فعلى الصفة للمؤمنين ، كتخريج من خرج غير المغضوب عليهم على الصفة من { الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ومن المؤمنين في موضع الحال من قوله : القاعدون . أي : كائنين من المؤمنين . واختلفوا : هل أولو الضرر يساوون المجاهدين أم لا ؟ فإن اعتبرنا مفهوم الصفة ، أو قلنا بالأرجح من أنّ الاستثناء من النفي إثبات ، لزمت المساواة . و قال ابن عطية : وهذا مردود ، لأن الضرر لا يساوون المجاهدين ، وغايتهم إنْ خرجوا من التوبيخ والمذمة التي لزمت القاعدين من غير عذر ، وكذا قال ابن جريج : الاستثناء لرفع العقاب ، لا لنيل الثواب . المعذور يستوفي في الأجر مع الذي خرج إلى الجهاد ، إذ كان يتمنى لو كان قادراً لخرج . قال : استثنى المعذور من القاعدين ، والاستثناء من النفي إثبات ، فثبت الاستواء بين المجاهد والقاعد المعذور انتهى . وإنما نفي الاستواء فيما علم أنه منتفٍ ضرورة لإذكاره ما بين القاعد بغير عذر ، والمجاهد من التفاوت العظيم ، فيأنف القاعد من انحطاط منزلته فيهتز للجهاد ويرغب فيه . ومثله :{ قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } أريد به التحريك من حمية الجاهل وأنفته لينهضم إلى التعلم ، ويرتقي عن حضيض الجهل إلى شرف العلم . قال بعض العلماء : كان نزول هذه الآية في الوقت الذي كان الجهاد فيه تطوعاً ، والألم يكن لقوله : لا يستوي معنى ، لأن من ترك الفرض لا يقال : إنه لا يستوي هو والآتي به ، بل يلحق الوعيد بالتارك ، ويرغب الآتي به في الثواب . وقال الماتريدي : نفى التساوي بين فاعل الجهاد وتاركه ، لا يدلّ على أنّ الجهاد ما كان فرضاً في ذلك الوقت . ألا ترى أن قوله تعالى :{ أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ } نفي المساواة بين المؤمن والفاسق ، والإيمان فرض . وقال تعالى :{ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُواْ السَّيّئَاتِ } الآية وقال : هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ، والعلم في كثير من الأشياء فرض . وإذ جاز نفي الاستواء بين فاعل التطوع وتاركه ، فلأن يجوز بين فاعل الفرض وتاركه بطريق الأولى ، وإنما لم يلحق الإثم تاركه لأنه فرض كفاية انتهى . والظاهر أنّ نفي هذا الاستواء ليس مخصوصاً بقاعدة عن جهاد مخصوص ، ولا مجاهد جهاداً مخصوصاً بل ذلك عام . وعن ابن عباس : لا يستوي القاعدون عن بدر والخارجون إليها . وعن مقاتل : إلى تبوك . وقال ابن عباس وغيره : أولوا الضرر هم أهل الأعذار . إذ قد أضرت بهم حتى منعتهم الجهاد . وفي الحديث : { لقد خلفتم بالمدينة أقواماً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم حبسهم العذر } وجاء هنا تقديم الأموال على الأنفس . وفي قوله : { إِنَّ اللّه اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ } تقديم الأنفس على الأموال لتباين الغرضين ، لأن المجاهد بائع ، فأخر ذكرها تنبيهاً على أنّ المضايقة فيها أشد ، فلا يرضى ببذلها إلا في آخر المراتب . والمشتري قدمت له النفس تنبيهاً على أنّ الرغبة فيها أشد ، وإنما يرعب أولاً في الأنفس الغالي . {فَضَّلَ اللّه الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً } الظاهر : أن المفضل عليهم هم القاعدون غير أولي الضرر ، لأنهم هم الذين نفى التسوية بينهم ، فذكر ما امتازوا به عليهم ، وهو تفضيلهم عليهم بدرجة ، فهذه الجملة بيان للجملة الأولى جواب سؤال مقدر ، كان قائلاً قال : ما لهم لا يستوون ؟ فقيل : فضل اللّه المجاهدين ، والمفضل عليهم هنا درجة هم المفضل عليهم آخراً درجات ، وما بعدها وهم القاعدون غير أولي الضرر . وتكرر التفضيلان باعتبار متعلقهما ، فالتفضيل الأول بالدرجة هو ما يؤتى في الدنيا من الغنيمة ، والتفضيل الثاني هو ما يخولهم في الآخرة ، فنبه بإفراد الأول ، وجمع الثاني على أنّ ثواب الدنيا في جنب ثواب الآخرة يسير . وقيل : المجاهدون تتساوى رتبهم في الدنيا بالنسبة إلى أحوالهم ، كتساوي القاتلين بالنسبة إلى أخذ سلب من قتلوه ، وتساوي نصيب كل واحد من الفرسان ونصيب كل واحد من الرجال ، وهم في الآخرة متفاوتون بحسب إيمانهم ، فلهم درجات بحسب استحقاقهم ، فمنهم من يكون له الغفران ، ومنهم من يكون له الرحمة فقط . فكان الرحمة أدنى المنازل ، والمغفرة فوق الرحمة ، ثم بعد الدرجات على الطبقات ، وعلى هذا نبه بقوله : { هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللّه } ومنازل الآخرة تتفاوت . وقيل : الدرجة المدح والتعظيم ، والدرجات منازل الجنة . وقيل : المفضل عليهم أولاً غير المفضل عليهم ثانياً . فالأول هم القاعدون بعذر ، والثاني هم القاعدون بغير عذر ، ولذلك اختلف المفضل به : ففي الأول درجة ، وفي الثاني درجات ، وإلى هذا ذهب ابن جريج ، وهو من لا يستوي عنده أولو الضرر والمجاهدون . وقيل : اختلف الجهادان ، فاختلف ما فضل به . وذلك أن الجهاد جهادان : صغير ، وكبير . فالصغير مجاهدة الكفار ، والكبير مجاهدة النفس . وعلى ذلك دل قوله عليه السلام : { رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر } وإنما كان مجاهدة النفس أعظم ، لأنّ من جاهد نفسه فقد جاهد الدنيا ، ومن غلب الدنيا هانت عليه مجاهدة العدا ، فخصّ مجاهدة النفس بالدرجات تعظيماً لها . وقد تناقض الزمخشري في تفسير القاعدين فقال : فضل اللّه المجاهدين جملة موضحة لما نفي من استواء القاعدين والمجاهدين ، كأنه قيل : ما لهم لا يستوون ؟ فأجيب بذلك : والمعنى على القاعدين غير أولي الضرر ، لكون الجملة بياناً للجملة الأولى المتضمنة لهذا الوصف . ثم قال : { فإن قلت } : قد ذكر اللّه تعالى مفضلين درجة ومفضلين درجات من هم ؟ { قلت} : أما المفضلون درجة واحدة فهم الذين فضلوا على القاعدين الأضراء ، وأما المفضلون درجات فالذين فضلوا على القاعدين الذين أذن لهم في التخلف اكتفاء بغيرهم ، لأن الغزو فرض كفاية انتهى كلامه . فقال : أولاً المعنى على القاعدين غير أولي الضرر ، وقال في هذا الجواب : على القاعدين الأضراء ، وهذا تناقض . والظاهر أنّ قوله : درجات ، لا يراد به عدد مخصوص ، بل ذلك على حسب اختلاف المجاهدين . وقال ابن زيد : هي السبع المذكورة في براءة في قوله : { ذالِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ } الآيات . و قال ابن عطية : درجات الجهاد لو حصرت لكانت أكثر من هذه انتهى . وقال ابن مجيريز : الدرجات في الجنة سبعون درجة ، كل درجتين حضر الجواد المضمر سبعين سنة ، وإلى نحوه ذهب : مقاتل ، ورجحه الطبري . وفي الحديث الصحيح : { أن في الجنة مائة درجة أعدها اللّه تعالى للمجاهدين في سبيله بين الدرجة والدرجة كما بين السماء والأرض } وذهب بعض العلماء إلى أنّ قوله : وفضل اللّه المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً درجات منه ، هو على سبيل التوكيد ، لا أنّ مدلول درجة مخالف لمدلول درجات في المعنى ، بل هما سواء في المعنى . قال تعالى : { وَلِلرّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ } لا يراد بها شيء واحد ، بل أشياء . وكرر التفضيل للتأكيد والترغيب في أمر الجهاد ، وإلى هذا ذهب الماتريدي قال : وفي الآية دلالة على أنّ الجهاد فرض كفاية ، حيث يسقط بقيام بعض ، وإن كان خطاب قوله : وقاتلوا في سبيل اللّه يعم انتهى . {وَكُلاًّ وَعَدَ اللّه الْحُسْنَى } أي وكلاً من القاعدين والمجاهدين . وقيل : وكلاً من القاعدين غير أولي الضرر ، وأولي الضرر ، والمجاهدين . والحسنى هنا : الجنة باتفاق . وقال عبد الجبار : هذا الوعد لا يليق بأمر الآخرة . ولما ذكر ما للمجاهدين من الحظ عاجلاً جاز أن يتوهم أنه كما اختص بهذه النعم ، فكذلك يختص بالثواب . فبيّن أنَّ للقاعدين ما للمجاهدين من الحسنى في الوعد مع ذلك ، ثم بيّن أنّ لهم فضل درجات ، لأنه لو لم يذكر ذلك لأوهم أنّ حالهما في الوعد بالحسنى سواء انتهى . وانتصب كلاً على أنه مفعول أوّل لوعد ، والثاني هو الحسنى . وقرىء : وكل بالرفع على الابتداء ، وحذف العائد أي : وكلهم وعد اللّه . {وَفَضَّلَ اللّه الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجَاتٍ مّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللّه غَفُوراً رَّحِيماً } قيل |
﴿ ٩٥ ﴾