سورة المائدةمدنية وهي مائة وعشرون آية بسم اللّه الرحمن الرحيم ١يا أيها الذين . . . . . البهيمة : كل ذات أربع في البر والبحر قاله الزمخشري و قال ابن عطية : البهيمة في كلام العرب ما أبهم من جهة نقص النطق والفهم انتهى . وما كان على فعيل أو فعيلة وعينه حرف حلق اسماً كان أو صفة ، فإنه يجوز كسر أوله اتباعاً لحركة عينه وهي لغة بني تميم تقول : رئي وبهيمة ، وسعيد وصغير ، وبحيرة وبخيل . الصيد : مصدر صاد يصيد ويصاد ، ويطلق على المصيد . وقال داود بن عليّ الأصبهاني : الصيد ما كان ممتنعاً ولم يكن له مالك وكان حلالا أكله ، وكأنه فسر الصيد الشرعي . القلادة في الهدى : ما قلد به من نعل ، أو عروة مزاده ، أو لحا شجر أو غيره ، وكان الحرمي ربما قلّد ركابه بلجاً شجر الحرم ، فيقتصم بذلك من السوء . الآمُّ : القاصد أممت الشيء قصدته . جرمه على كذا حمله ، قاله : الكسائي وثعلب . وقال أبو عبيدة والفراء : جرمه كسبه ، ويقال : فلان جريمة أهله أي كاسبهم ، والجارم الكاسب . وأجرم فلان اكتسب الإثم . وقال الكسائي أيضاً : جرم وأجرم أي كسب غيره ، وجرم يجرم جرماً إذا قطع . قال الرماني : وهو الأصل ، فجرم حمل على الشيء لقطعه من غيره ، وجرم كسب لانقطاعه إلى الكسب ، وجرم بمعنى حق ، لأن الحق يقطع عليه . قال الخليل : لا جرّم أن لهم النار أي لقد حق . الشنآن : البغض ، وهو أحد مصادر شيء . يقال : شنيء يشنأ شنأ وشنآنا مثلثي الشين فهذه ستة : وشناء ، وشناءة ، وشناء ، وشنأة ، ومشنأة ، ومشنئة ، ومشنئة ، وشنانا ، وشنانا . فهذه ستة عشر مصدراً وهي أكثر ما حفظ للفعل . وقال سيبويه : كل بناء كان من المصادر على فعلان بفتح العين لم يتعد فعله إلا أن يشذ شيء كالشنآن . المعاونة : المساعدة . المنخنقة : هي التي تحتبس نفسها حتى تموت ، سواء أكان حبسها بحبل أم يد أم غير ذلك . الوقد : ضرب الشيء حتى يسترخي ويشرف على الموت . وقيل : الموقوذة المضروبة بعصا أو حجر لا حد له ، فتموت بلا ذكاة . ويقال : وقذه النعاس غلبه ، ووقذه الحكم سكنه . التردّي : السقوط في بئر أو التهوّر من جبل . ويقال : ردى وتردّى أي هلك ، ويقال : ما أدري أين ردي ؟ أي ذهب . النطيحة : هي التي ينطحها غيرها فتموت بالنطح ، وهي فعيلة بمعنى مفعولة صفة جرت مجرى الأسماء فوليت العوامل ، ولذلك ثبت فيها الهاء . السبع : كل ذي ناب وظفر من الحيوان : كالأسد ، والنمر ، والدب ، والذئب ، والثعلب ، والضبع ، ونحوها . وقد أطلق على ذوات المخالب من الطير سباع . قال الشاعر : وسباع الطير تغدو بطانا تتخطاهم فما تستقل ومن العرب من يخص السبع بالأسد ، وسكون الباء لغة نجدية ، وسمع فتحها ، ولعل ذلك لغة . التذكية : الذبح ، وتذكية النار رفعها ، وذكى الرجل وغيره أسن . قال الشاعر : على أعراقه تجري المذاكي وليس على تقلبه وجهده النصب ، قيل جمع نصاب ، وهي حجارة منصوبة حول الكعبة كان أهل الجاهلية يعظمونها ويذبحون عليها لآلهتهم ، ولها أيضاً وتلطخ بالدماء ، ويوضع عليها اللحم قطعاً قطعاً ليأكل منها الناس . وقيل : النصب مفرد . قال الأعشى : وذا النصب المنصوب لا تقرينه . الأزلام : القداح واحدها زلم وزُلم بضم الزاي وفتحها وهي السهام ، كان أحدهم إذا أراد سفراً أو غزوا أو تجارة أو نكاحاً أو أمراً من معاظم الأمور ضرب بالقداح ، وهي مكتوب على بعضها نهاني ربي ، وعلى بعضها أمرني ربي ، وبعضها غفل ، فإن خرج الآمر مضى لطلبته ، وإن خرج الناهي أمسك ، وإن خرج الغفل أعاد الضرب . اليأس : قطع الرجاء . يقال : يئس ييئس وييئس ، ويقال : أيس وهو مقلوب من يئس ، ودليل القلب تخلف الحكم عن ما ظاهره أنه موجب له . ألا ترى أنهم لم يقلبوا ياءه ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها فلم يقولوا آس كما قالوا هاب . المخمصة : المجاعة التي يخمص فيها البطون أي تضمر ، والخمص ضمور البطن ، والخلقة منه حسنة في النساء ومنه يقال : خمصانة ، وبطن خميص ، ومنه أخمص القدم . ويستعمل كثيراً في الجوع والغرث . قال الأعشى : تبيتون في المشتى ملاء بطونكم وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا وقال آخر : كلوا في بعض بطنكم تعفوا فإن زمانكم زمن خميص {عَلِيمٌ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ } هذه السورة مدنية ، نزلت منصرف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من الحديبية ، ومنها ما نزل في حجة الوداع ، ومنها ما نزل عام الفتح . وكل ما نزل بعد الهجرة بالمدينة ، أو في سفر ، أو بمكة ، فهو مدني . وذكروا فضائل هذه السورة وأنها تسمى : المائدة ، والعقود ، والمنقذة ، والمبعثرة . ومناسبة افتتاحها لما قبلها هو أنه تعالى لما ذكر استفتاءهم في الكلالة وأفتاهم فيها ، ذكر أنه يبين لهم كراهة الضلال ، فبين في هذه السورة أحكاماً كثيرة هي تفصيل لذلك المجمل . قالوا : وقد تضمنت هذه السورة ثمانية عشر فريضة لم يبينها في غيرها ، وسنبينها أوّلاً فأوّلاً إن شاء اللّه تعالى . وذكروا أن الكندي الفيلسوف قال له أصحابه : أيها الحكيم اعمل لنا مثل هذا لقرآن ، فقال : نعم ، أعمل مثل بعضه ، فاحتجب أياماً كثيرة ثم خرج فقال : واللّه ما أقدر ، ولا يطيق هذا أحد ، إني فتحت المصحف فخرجت سورة المائدة ، فنظرت فإذا هو قد نطق بالوفاء ، ونهى عن النكث ، وحلل تحليلاً عاماً ، ثم استثنى استثناء ، ثم أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين ، ولا يقدر أحد أن يأتي بهذا إلا في إجلاد انتهى . والظاهر أنّ النداء لأمة الرسول المؤمنين . وقال ابن جريج : هم أهل الكتاب . وأمر تعالى المؤمنين بإيفاء العقود وهي جمع عقد ، وهو العهد ، قاله : الجمهور ، وابن عباس ، ومجاهد ، وابن جبير ، وقتادة ، والضحاك ، والسدي . وقال الزجاج : العقود أوكد من العهود ، وأصله في الاجرام ثم توسع فأطلق في المعاني ، وتبعه الزمخشري فقال : هو العهد الموثق شبه بعقد الحبل ونحوه . قال الحطيئة : قوم إذا عقدوا عقداً لجارهم شدّوا العناج وشدوا فوقه الكربا والظاهر عموم المؤمنين في المخلص والمظهر ، وعموم العقود في كل ربط يوافق الشرع سواء كان إسلامياً أم جاهلياً وقد سأل فرات بن حنان العجلي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن حلف الجاهلية فقال : { لعلك تسأل عن حلف تيم اللّه } قال : نعم يا نبي اللّه . قال : { لا يزيده الإسلام إلا شدة} . وقال صلى اللّه عليه وسلم في حلف الفضول وكان شهده في دار عبد اللّه بن جدعان : { ما أحب أنّ لي به حمر النعم ولو ادّعى به في الإسلام لأجبت } وكان هذا الحلف أنّ قريشاً تعاقدوا على أنْ لا يجدوا مظلوماً بمكة من أهلها أو من غير أهلها إلا قاموا معه حتى ترد مظلمته ، وسميت ذلك الحلف حلف الفضول . وكان الوليد بن عقبة أميراً على المدينة ، فتحامل على الحسين بن علي في مال فقال : لتنصفني من حقي وإلا أخذت بسيفي ، ثم لأقومن في مسجد الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، ثم لأدعون بحلف الفضول . فقال عبد اللّه بن الزبير : لئن دعاني لآخذن سيفي ثم لأقومن معه حتى ينتصف من خصمه ، أو نموت جميعاً . وبلغت المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن عثمان بن عبد اللّه التيميّ فقالا مثل ذلك ، وبلغ ذلك الوليد فأنصفه . ويندرج في هذا العموم كل عقد مع إنسان كأمانٍ ، ودية ، ونكاح ، وبيع ، وشركة ، وهبة ، ورهن ، وعتق ، وتدبير ، وتخيير ، وتمليك ، ومصالحة ، ومزارعة ، وطلاق ، وشراء ، وإجارة ، وما عقده مع نفسه للّه تعالى من طاعة : كحجٍ ، وصومٍ ، واعتكافٍ ، وقيام ، ونذر وشبه ذلك . وقال ابن عباس ومجاهد : هي العهود التي أخذها اللّه على عباده فيما أحل وحرم ، وهذا القول بدأ به الزمخشري فقال : هي العهود التي عقدها اللّه على عباده وألزمها إياهم من واجب التكليف ، وأنه كلام قدم مجملاً ثم عقب بالتفصيل . وقال قتادة : هو الحلف الذي كان بينهم في الجاهلية ، قال : وروي لنا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : { أوفوا بعقد الجاهلية ولا تحدثوا عقداً في الإسلام} . وقال محمد بن كعب القرظي وابن زيد وغيرهما : هي كل ما ربطه المرء على نفسه من بيع أو نكاح أو غيره . وقال ابن زيد أيضاً ، وعبد اللّه بن عبيدة : العقود خمس : عقدة الإيمان ، وعقدة النكاح ، وعقدة العهد ، وعقدة البيع ، وعقدة الحلف . وقيل : هي عقود الأمانات والبياعات ونحوها ، وقال ابن جريج : هي التي أخذها اللّه على أهل الكتاب أن يعملوا بها بما جاءهم به الرسول . وقال ابن شهاب : قرأت الكتاب الذي كتبه الرسول صلى اللّه عليه وسلم لعمرو بن حزم حين بعثه إلى نجران وفي صدره : { هذا بيان من اللّه ورسوله يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود إلى قوله إن اللّه سريع الحساب } وقيل : العقود هنا الفرائض . {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الاْنْعَامِ } قيل : هذا تفصيل بعد إجمال . وقيل : استئناف تشريع بيَّن فيه فساد تحرم لحوم السوائب ، والوصائل ، والبحائر ، والحوام ، وأنها حلال لهم . وبهيمة الأنعام من باب إضافة الشيء إلى جنسه فهو بمعنى مِن ، لأن البهيمة أعم ، فأضيفت إلى أخص . فبهيمة الأنعام هي كلها قاله : قتادة ، والضحاك ، والسدي ، والربيع ، والحسن . وهي الثمانية الأزواج التي ذكرها اللّه تعالى . وقال ابن قتيبة : هي الإبل ، والبقرة ، والغنم ، والوحوش كلها . وقال قوم منهم الضحاك والفراء : بهيمة الأنعام وحشيها كالظباء ، وبقر الوحش وخمره . وكأنهم أرادوا ما يماثل الأنعام ويدانيها من جنس الأنعام البهائم ، والإضرار وعدم الأنياب ، فأضيفت إلى الأنعام لملابسة الشبه ، وتقدم الكلام في مدلول لفظ الأنعام . وقال ابن عمر وابن عباس : بهيمة الأنعام هي الأجنة التي تخرج عند ذبح أمّهاتها فتؤكل دون ذكاة ، وهذا فيه بعد . وقيل : بهيمة الأنعام هي التي ترعى من ذوات الأربع ، وكان المفترس من الحيوان كالأسد وكل ذي ناب قد خرج عن حد الأبهام فصار له نظر مّا . {إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ } هذا استثناء من بهيمة الأنعام والمعنى : إلا ما يتلى عليكم تحريمه من نحو قوله :{ حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ } وقال القرطبي : ومعنى يتلى عليكم يقرأ في القرآن والسنة ، ومنه { كُلَّ ذِى هَاذَا حَلَالٌ وَهَاذَا حَرَامٌ} وقال أبو عبد اللّه الرازي : ظاهر هذا الاستثناء مجمل ، واستثناء الكلام المجمل من الكلام المفصل يجعل ما بقي بعد الاستثناء مجملاً ، إلا أنّ المفسرين أجمعوا على أنّ المراد من هذا الاستثناء هو المذكور بعد هذه الآية وهو قوله :{ حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ } إلى قوله :{ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ } ووجه هذا أنّ قوله : أحلت لكم بهيمة الأنعام ، يقتضي إحلالها لهم على جميع الوجوه . فبيّن تعالى أنها إن كانت ميتة أو مذبوحة على غير اسم اللّه ، أو منخنقة أو موقوذة أو متردية أو نطيحة ، أو افترسها السبع فهي محرمة انتهى كلامه . وموضع ما نصب على الاستثناء ، ويجوز الرفع على الصفة لبهيمة . قال ابن عطية : وأجاز بعض الكوفيين أن يكون في موضع رفع على البدل ، وعلى أن تكون إلا عاطفة ، وذلك لا يجوز عند البصريين إلا من نكرة أو ما قاربها من أسماء الأجناس نحو قولك : جاء الرجل إلا زيد ، كأنك قلت : غير زيد انتهى . وهذا الذي حكاه عن بعض الكوفيين من أنه في موضع رفع على البدل لا يصح البتة ، لأنّ الذي قبله موجب . فكما لا يجوز : قام القوم إلا زيد على البدل ، كذلك لا يجوز البدل في : إلا ما يتلى عليكم . وأما كون إلا عاطفة فهو شيء ذهب إليه بعض الكوفيين كما ذكر ابن عطية . وقوله : وذلك لا يجوز عند البصريين ، ظاهره الإشارة إلى وجهي الرفع البدل والعطف . وقوله : إلا من نكرة ، هذا استثناء مبهم لا يدرى من أي شيء هو . وكلا وجهي الرفع لا يصلح أن يكون استثناء منه ، لأن البدل من الموجب لا يجيزه أحد علمناه لا بصرى ولا كوفي . وأما العطف فلا يجيزه بصرى ألبتة ، وإنما الذي يجيزه البصريون أن يكون نعتاً لما قبله في مثل هذا التركيب . وشرط فيه بعضهم ما ذكر من أنه يكون من المنعوت نكرة ، أو ما قاربها من أسماء الأجناس ، فلعل ابن عطية اختلط عليه البدل والنعت ولم يفرق بينهما في الحكم . ولو فرضنا تبعية ما بعد إلا لما قبلها في الإعراب على طريقة البدل حتى يسوغ ذلك ، لم يشترط تنكير ما قبل إلا ولا كونه مقارباً للنكرة من أسماء الأجناس ، لأن البدل والمبدل منه يجوز اختلافهما بالتنكير والتعريف . {غَيْرَ مُحِلّى الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ } قرأ الجمهور غير بالنصب . واتفق جمهور من وقفنا على كلامه من المعربين والمفسرين على أنه منصوب على الحال . ونقل بعضهم الإجماع على ذلك ، واختلفوا في صاحب الحال . فقال الأخفش : هو ضمير الفاعل في أوفوا . وقال الجمهور ، الزمخشري ، وابن عطية وغيرهما : هو الضمير المجرور في أحلّ لكم . وقال بعضهم : هو الفاعل المحذوف من أجل القائم مقامه المفعول به ، وهو اللّه تعالى . وقال بعضهم : هو ضمير المجرور في عليكم . ونقل القرطبي عن البصريين أن قوله : إلا ما يتلى عليكم ، هو استثناء من بهيمة الأنعام . وأنّ قوله : غير محلى الصيد ، استثناء آخر منه . فالاستثناءان معناهما من بهيمة الأنعام ، وفي المستثنى منه والتقدير : إلا ما يتلى عليكم إلا الصيد وأنتم محرمون ، بخلاف قوله :{ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ } على ما يأتي بيانه وهو قول مستثنى مما يليه من الاستثناء . قال : ولو كان كذلك لوجب إباحة الصيد في الإحرام ، لأنه مستثنى من المحظور إذا كان إلا ما يتلى عليكم مستثنى من الإباحة ، وهذا وجه ساقط ، فإذا معناه : أحلت لكم بهيمة الأنعام غير محلى الصيد وأنتم حرم إلا ما يتلى عليكم سوى الصيد انتهى . و قال ابن عطية : وقد خلط الناس في هذا الموضع في نصب غير ، وقدروا تقديمات وتأخيرات ، وذلك كله غير مرضي ، لأن الكلام على اطراده متمكن استثناء بعد استثناء انتهى كلامه . وهو أيضاً ممن خلط على ما سنوضحه . فأمّا قول الأخفش : ففيه الفصل بين ذي الحال والحال بجملة اعتراضية ، بل هي منشئة أحكاماً ، وذلك لا يجوز . وفيه تقييد الإيفاء بالعقود بانتفاء إحلال الموفين الصيد وهم حرم ، وهم مأمورون بإيفاء العقود بغير قيد ، ويصير التقدير : أوفوا بالعقود في حال انتفاء كونكم محلين الصيد وأنتم حرم ، وهم قد أحلت لهم بهيمة الأنعام أنفسها . وإنْ أريد به الظباء وبقر الوحش وحمره فيكون المعنى : وأحل لكم هذه في حال انتفاء كونكم محلين الصيد وأنتم حرم ، وهذا تركيب قلق معقد ، ينزه القرآن أن يأتي فيه مثل هذا . ولو أريد بالآية هذا المعنى لجاء على أفصح تركيب وأحسنه . وأما قول : من جعله حالاً من الفاعل . وقدّره : وأحل اللّه لكم بهيمة الأنعام غير محل لكم الصيد وأنتم حرم ، قال كما تقول : أحلت لك كذا غير مبيحه لك يوم الجمعة ، فهو فاسد . لأنهم نصوا على أنّ الفاعل المحذوف في مثل هذا التركيب يصير نسياً منسياً ، ولا يجوز وقوع الحال منه . لو قلت : أنزل المطر للناس مجيباً لدعائهم ، إذ الأصل أنزل اللّه المطر مجيباً لدعائهم لم يجز ، وخصوصاً على مذهب الكوفيين ومن وافقهم من البصريين ، لأن صيغة الفعل المبني للمفعول صيغة وضعت أصلاً كما وضعت صيغته مبنياً للفاعل ، وليست مغيرة من صيغة بنيت للفاعل ، ولأنه يتقيد إحلاله تعالى بهيمة الأنعام إذا أريد بها ثمانية الأزواج بحال انتفاء إحلاله الصيد وهم حرم ، وهو تعالى قد أحلها في هذه الحال وفي غيرها . وأما ما نقله القرطبي عن البصريين ، فإنْ كان النقل صحيحاً فهو يتخرج على ما سنوضحه إن شاء اللّه تعالى ، فنقول : إنما عرض الإشكال في الآية من جعلهم غير محلى الصيد حالاً من المأمورين بإيفاء العقود ، أو من المحلل لهم ، أو من المحلل وهو اللّه تعالى ، أو من المتلو عليهم . وغرّهم في ذلك كونه كتب محلى بالياء ، وقدّره هم أنه اسم فاعل من أحل ، وأنه مضاف إلى الصيد إضافة اسم الفاعل المتعدي إلى المفعول ، وأنه جمع حذف منه النون للإضافة . وأصله : غير محلين الصيد وأنتم حرم ، إلا في قول من جعله حالاً من الفاعل المحذوف ، فلا يقدر فيه حذف النون ، بل حذف التنوين . وإنما يزول الإشكال ويتضح المعنى بأن يكون قوله : محلى الصيد ، من باب قولهم : حسان النساء . والمعنى : النساء الحسان ، وكذلك هذا أصله غير الصيد المحل . والمحل صفة للصيد لا للناس ، ولا للفاعل المحذوف . ووصف الصيد بأنه محل على وجهين : أحدهما : أنْ يكون معناه دخل في الحل كما تقول : أحل الرّجل أي : دخل في الحل ، وأحرم دخل في الحرم . والوجه الثاني : أن يكون معناه صار ذا حل ، أي حلالاً بتحليل اللّه . وذلك أن الصيد على قسمين : حلال ، وحرام . ولا يختص الصيد في لغة العرب بالحلال . ألا ترى إلى قول بعضهم : إنه ليصيد الأرانب حتى الثعالب لكنه يختص به شرعاً ؟ وقد تجوزت العرب فأطلقت الصيد على ما يوصف بحل ولا حرمة نحو قوله : ليث بعثر يصطاد الرجال إذا ما كذب الليث عن أقرانه صدقا وقال آخر : وقد ذهبت سلمى بعقلك كله فهل غير صيد أحرزته حبائله وقال آخر : وميّ تصيد قلوب الرّجال وأفلت منها ابن عمر وحجر ومجيء أفعل على الوجهين المذكورين كثير في لسان العرب . فمن مجيء أفعل لبلوغ المكان ودخوله قولهم : أحرم الرّجل ، وأعرق ، وأشأم ، وأيمن ، وأتهم ، وأنجد إذا بلغ هذه المواضع وحل بها . ومن مجيء أفعل بمعنى صار ذا كذا قولهم : أعشبت الأرض ، وأبقلت ، وأغد البعير ، وألبنت الشاة ، وغيرها ، وأجرت الكلبة ، وأصرم النخل ، وأتلت الناقة ، وأحصد الزرع ، وأجرب الرّجل ، وأنجبت المرأة . وإذا تقرر أنّ الصيد يوصف بكونه محلاً باعتبار أحد الوجهين المذكورين من كونه بلغ الحلّ ، أو صار ذا حل ، اتضح كونه استثناء من استثناء ، إذ لا يمكن ذلك لتناقص الحكم . لأنّ المستثنى من المحلل محرم ، والمستثنى من المحرم محلل . بل إن كان المعنى بقوله : بهيمة الأنعام ، الأنعام أنفسها ، فيكون استثناء منقطاً . وإن كان المراد الظباء وبقر الوحش وحمره ونحوها ، فيكون استثناء متصلاً على أحد تفسيري المحل ، استثنى الصيد الذي بلغ الحل في حل كونهم محرمين . { فإن قلت} : ما فائدة الاستثناء بقيد بلوغ الحل والصيد الذي في الحرم لا يحل أيضاً ؟ { قلت} : الصيد الذي في الحرم لا يحل للمحرم ولا لغير المحرم ، وإنما يحل لغير المحرم الصيد الذي في الحل ، فنبه بأنه إذا كان الصيد الذي في الحل يحرم على المحرم ، وإن كان حلالاً لغيره ، فأحرى أن يحرم عليه الصيد الذي هو بالحرم . وعلى هذا التفسير يكون قوله : إلا ما يتلى عليكم ، إن كان المراد به ما جاء بعده من قوله : حرمت عليكم الميتة الآية ، استثناء منقطعاً ، إذ لا يختص الميتة وما ذكر معها بالظباء وحمر الوحش وبقره ونحوها ، فيصير لكنْ ما يتلى عليكم أي : تحريمه فهو محرم . وإن كان المراد ببهيمة الأنعام الأنعام والوحوش ، فيكون الاستثناآن راجعين إلى المجموع على التفصيل ، فيرجع إلا ما يتلى عليكم إلى ثمانية الأزواج ، ويرجع غير محلى الصيد إلى الوحوش ، إذ لا يمكن أن يكون الثاني استثناء من الاستثناء الأول . وإذا لم يمكن ذلك ، وأمكن رجوعه إلى الأول بوجه ما جاز . وقد نص النحويون على أنه إذا لم يمكن استثناء بعض المستثنيات من بعض كانت كلها مستثنيات من الاسم الأول نحو قولك : قام القوم إلا زيداً ، إلا عمراً ، إلا بكراً { فإن قلت} : ما ذكرته من هذا التخريج الغريب وهو أن يكون المحل من صفة الصيد ، لا من صفة الناس ، ولا من صفة الفاعل المحذوف ، يعكر عليه كونه كتب في رقم المصحف بالياء ، فدل ذلك على أنه من صفات الناس ، إذ لو كان من صفة الصيد لم يكتب بالياء ، وبكون الفراء وأصحابه وقفوا عليه بالياء يأبى ذلك . { قلت} : لا يعكر على هذا التخريج لأنّهم كتبوا كثيراً رسم المصحف على ما يخالف النطق نحو : باييد بياءين بعد الألف ، وكتبهم أولئك بواو بعد الألف ، وبنقصهم منه ألفاً . وكتابتهم الصلحت ونحوه بإسقاط الألفين ، وهذا كثير في الرسم . وأما وقفهم عليه بالياء فلا يجوز ، لأنه لا يوقف على المضاف دون المضاف إليه ، وإنما قصدوا بذلك الاختبار أو ينقطع النفس ، فوقفوا على الرسم كما وقفوا على { سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ } من غير واو اتباعاً للرسم . على أنه يمكن توجيه كتابته بالياء والوقف عليه بياء بأنه جاء على لغة الازد ، إذ يقفون على بزيد بزيدي بإبدال التنوين ياء ، فكتب محلى بالياء على الوقف على هذه اللغة ، وهذا توجيه شذوذ رسمي ، ورسم المصحف مما لا يقاس عليه . وقرأ ابن أبي عبلة : غير بالرفع ، وأحسن ما يخرج عليه أن يكون صفة لقوله : بهيمة الأنعام ، ولا يلزم من الوصف بغير أن يكون ما بعدها مماثلاً للموصوف في الجنسية ، ولا يضر الفصل بين النعت والمنعوت بالاستثناء ، وخرج أيضاً على الصفة للضمير في يتلى . قال ابن عطية : لأن غير محلى الصيد هو في المعنى بمنزلة غير مستحل إذا كان صيداً انتهى . ولا يحتاج إلى هذا التكلف على تخريجنا محلى الصيد وأنتم حرم جملة حالية . وحرم جمع حرام . ويقال : أحرم الرجل إذا دخل في الإحرام بحج أو بعمرة ، أو بهما ، فهو محرم وحرام ، وأخرم الرجل دخل في الحرم . وقال الشاعر : فقلت لها فيىء إليك فإنني حرام وإني بعد ذاك لبيب أي : ملب . ويحتمل الوجهين قوله : وأنتم حرم ، إذ الصيد يحرم على من كان في الحرم ، وعلى من كان أحرم بالحج والعمرة ، وهو قول الفقهاء . وقال الزمخشري : وأنتم حرم ، حال عن محل الصيد كأنه قيل : أحللنا لكم بعض الأنعام في حال امتناعكم من الصيد وأنتم محرمون لئلا يتحرج عليكم انتهى . وقد بينا فساد هذا القول ، بأنّ الأنعام مباحة مطلقاً لا بالتقييد بهذه الحال . {إِنَّ اللّه يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } قال ابن عباس : يحل ويحرم . وقيل : يحكم فيما خلق بما يريد على الإطلاق وهذه الجملة جاءت مقوية لهذه الأحكام الشرعية المخالفة لمعهود أحكام العرب من الأمر بإيفاء العقود وتحليل بهيمة الأنعام ، والاستثناء منها ما يتلى تحريمه مطلقاً في الحل والحرم إلا في اضطرار ، واستثناء الصيد في حالة الإحرام ، وتضمن ذلك حله لغير المحرم ، فهذه خمسة أحكام ختمها بقوله : إن اللّه يحكم ما يريد . فموجب الحكم والتكليف هو إراته لا اعتراض عليه ، ولا معقب لحكمه ، لا ما يقوله المعتزلة من مراعاة المصالح . ولذلك قال الزمخشري : إنّ اللّه يحكم ما يريد من الأحكام ، ويعلم أنه حكمة ومصلحة . و قال ابن عطية : وقد نبه على ما تضمنته هذه الآية من الأحكام ما نصه هذه الآية مما يلوح فصاحتها وكثرة معانيها على قلة ألفاظها لكل ذي بصر بالكلام ، ولمن عنده أدنى بصيرة . ثم ذكر ابن عطية الحكاية التي قدمناها عن الكندي وأصحابه ، وفي مثل هذا أقول من قصيدة مدحت بها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم معارضاً لقصيدة كعب منه في وصف كتاب اللّه تعالى : جار على منهج الأعراب أعجزهم باق مدى الدهر لا يأتيه تبديل بلاغة عندها كعّ البليغ فلم ينبس وفي هديه طاحت أضاليل |
﴿ ١ ﴾