٨٣

وإذا سمعوا ما . . . . .

{وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى رَسُولِ اللّه تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقّ } هذا وصف برقة القلوب والتأثر بسماع القرآن ، والظاهر أن الضمير يعود على قسيسين ورهباناً فيكون عامّاً ، ويكون قد أخبر عنهم بما يقع من بعضهم كما جرى للنجاشي حيث تلا عليه جعفر سورة مريم إلى قوله { ذالِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ } وسورة طه إلى قوله { وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى } فبكى وكذلك قومه الذين وفدوا على الرسول حين قرأ عليها { يس } فبكوا .

وقال ابن عطية ما معناه : صدر الآية عام في النصارى و { إِذَا سَمِعُواْ } عام في من آمن من القادمين من أرض الحبشة ، إذ ليس كل النصارى يفعل ذلك ، بل هم الذين بعثهم النجاشي ليروا النبي صلى اللّه عليه وسلم ويسمعوا ما عنده ، فلما رأوه وتلا عليهم القرآن فاضت أعينهم من خشية اللّه تعالى ، انتهى .

وقال السديّ : لما رجعوا إلى النجاشي آمن وهاجر بمن معه فمات في الطريق ، فصلى عليه الرسول صلى اللّه عليه وسلم والمسلمون واستغفروا له ، { وَتَرَى } من رؤية العين وأسند الفيض إلى الأعين وإن كان حقيقة للدموع كما قال :

ففاضت دموع العين مني صبابة

إقامة للمسبب مقام السبب ، لأن الفيض مسبب عن الامتلاء ، فالأصل ترى أعينهم تمتلىء من الدمع حتى تفيض ، لأن الفيض على جوانب الإناء ناشىء عن امتلائه ، قال الشاعر :

وقد يملأ الماء الإناء فيفعم

ويحتمل أنه أسند الفيض إلى الأعين على سبيل المبالغة في البكاء لما كانت تفاض فيها جعلت الفائضة بأنفسها على سبيل المجاز والمبالغة ، و { مِنْ } في { مِنَ الدَّمْعِ } قال أبو البقاء : فيه وجهان

أحدهما : أن { مِنْ } لابتداء الغاية أي فيضها من كثرة الدموع

والثاني : أن يكون حالاً ، والتقدير تفيض مملوءة من الدمع مما عرفوا من الحق ، ومعناها من أجل الذي عرفوه ، و { مِنَ الْحَقّ } حال من العائد المحذوف أو حال من ضمير الفاعل في عرفوا .

وقيل :{ مِنْ } في { مِنَ الدَّمْعِ } بمعنى الباء أي بالدمع .

وقال الزمخشري :{ مِنَ الدَّمْعِ } من أجل البكاء من قولك دمعت عينه دمعاً .

{فإن قلت} : أي فرق بين { مِنْ }{ وَمِنْ } في قوله :{ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقّ  قلت} : الأول لابتداء الغاية على أن فيض الدمع ابتدأ ونشأ من معرفة الحق ، وكان من أجله وسببه ، والثانية لتبيين الموصول الذي هو ما عرفوا ، ويحتمل معنى

التبعيض على أنهم عرفوا بعض الحق فأبكاهم ، انتهى .

والجملة من قوله : { وَإِذَا سَمِعُواْ } تحتمل الاستئناف ، وتحتمل أن تكون معطوفة على خبر إنهم . وقرىء :{ تَرَى أَعْيُنَهُمْ } على البناء لما لم يسمّ فاعله { يَقُولُونَ رَبَّنَا ءامَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } المراد بآمنا أنشأنا الإيمان الخاص بهذه الأمة الإسلامية . والشاهدون : قال ابن عباس وابن جريج وغيرهما : هم أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم ، وقالوا ذلك هم شهداء على سائر الأمم ، كما

قال تعالى :{ لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ }

قال الزمخشري : وقالوا ذلك لأنهم وجدوا ذكرهم في الإنجيل كذلك ، انتهى . وقال الطبري : معناه ولو قيل معناه مع الشاهدين بتوحيدك من جميع العالم من تقدم ومن تأخر لكان صواباً .

وقيل : مع الذين يشهدون بالحق .

وقال الزجاج المراد بالشاهدين الأنبياء ، والمؤمنون ، والكتابة في اللوح المحفوظ .

وقيل : معناه أثبتنا من قولهم كتب فلان في الجند أي ثبت ، و { يَقُولُونَ } في موضع نصب على الحال ، قاله ابن عطية وأبو البقاء ، ولم يبينا ذا الحال ولا العامل فيها ، ولا جائز أن يكون حالاً من الضمير في أعينهم لأنه مجرور بالإضافة لا موضع له من رفع ولا نصب إلا على مذهب من ينزل الخبر منزلة المضاف إليه ، وهو قول خطأ ، وقد بينا ذلك في كتاب منهج السالك من تأليفنا ، ولا جائز أن يكون حالاً من ضمير الفاعل في { عَرَفُواْ } لأنها تكون قيداً في العرفان وهم قد عرفوا الحق في هذه الحال وفي غيرها ، فالأولى أن تكون مستأنفة ، أخبر تعالى عنهم بأنهم التبسوا بهذا القول ، والمعنى أنهم عرفوا الحق بقلوبهم ونطقت به وأقرت ألسنتهم .

﴿ ٨٣