سورة الأنعام

مائة وست وسبعون آية مكية أو مدنية

بسم اللّه الرحمن الرحيم

١

الحمد للّه الذي . . . . .

الطين : معروف ، يقال : منه طان الكتان يطينه وطنه يا هذا .

القرن الأمة المقترنة في مدّة من الزمان ، ومنه خير القرون قرني وأصله الارتفاع عن الشيء ومنه قرن الجبل ، فسموا بذلك لارتفاع السنّ .

وقيل : هو من قرنت الشيء بالشيء جعلته بجانبه أو مواجهاً له ، فسموا بذلك لكون بعضهم يقرن ببعض .

وقيل : سموا بذلك لأنهم جمعهم زمان له مقدار هو أكثر ما يقرن فيه أهل ذلك الزمان ، وهو اختيار الزجاج ومدة القرن مائة وعشرون سنة قاله : زرارة بن أوفى وإياس بن معاوية ، أو مائة سنة قاله الجمهور ، وقد احتجوا لذلك بقول النبي صلى اللّه عليه وسلم

لعبد اللّه بن بشر :  { تعيش قرناً فعاش مائة وقال : أرأيتكم ليلتكم هذه فإن على رأس مائة لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد} . قال ابن عمر : يؤيد أنها انحزام ذلك القرن أو ثمانو سنة رواه أبو صالح عن ابن عباس ، أو سبعون سنة حكاه الفرّاء أو ستون سنة لقوله عليه السلام : معترك المنايا ما بين الستين إلى السبعين أو أربعون قاله ابن سيرين ، ورفعه إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم وكذا حكاه الزهراوي عن النبي صلى اللّه عليه وسلمأو ثلاثون . روي عن أبي عبيدة أنه قال : يرون أن ما بين القرنين ثلاثون ، وحكاه النقاش أو عشرون حكاه الحسن البصري أو ثمانية عشر عاماً أو المقدار الوسط في أعمار أهل ذلك الزمان وهذا حسن ، لأن الأمم السالفة كان فيهم من يعيش أربعمائة عام وثلثمائة وما بقي عام وما فوق ذلك وما دونه ، وهكذا الاختلاف الإسلامي واللّه أعلم . كأنه نظر إلى الطرف الأقصى والطرف الأدنى ، فمن نظر إلى الغاية قال : من الستين فما فوقها إلى مائة وعشرين ومن نظر إلى الأدنى قال : عشرون وثلاثون وأربعون . و

قال ابن عطية : القرن أن يكون وفاة الأشياخ ثم ولادة الأطفال ، ويظهر ذلك من قوله : وأنشأنا من بعدهم قرناً آخرين وهذه يشير ابن عطية إلى من حدد بأربعين فما دونها طبقات وليست بقرون .

وقيل : القرن القوم المجتمعون ،

قلت : السنون أو كثرت لقوله : خير القرون قرني يعني أصحابه وقال قس : في الذاهبين الأوّلين

من القرن لنا بصائر

وقال آخر : إذا ذهب القوم الذي كنت فيهم

وخلفت في قوم فأنت غريب

وقيل : القرن الزمان نفسه فيقدر قوله من قرن من أهل قرن . التمكن ضد التعذر والتمكين من الشيء ما يصح به الفعل من الآيات والقوي وهو أتم من الأقدار ، لأن الأقدار إعطاء القدرة خاصة والقادر على الشيء قد يتعذر عليه الفعل لعدم الآلة .

وقيل : التمكين من الشيء إزالة الحائل بين المتمكن والممكن منه .

وقال الزمخشري : مكن له في الأرض جعل له مكاناً ونحوه أرض له ، وتمكينه في الأرض إثباته فيها . المدرار المتتابع يقال : مطر مدرار وعطاء مدرار وهو في المطر أكثر ، ومدرار مفعال من الدر للمبالغة كمذكار ومئناث ومهذار للكثير ذلك منه . الإنشاء : الخلق والإحداث من غير سبب ، وكل من ابتدأ شيئاً فقد أنشأه ، والنشأ الاحداث واحدهم ناشىء كقولك : خادم وخدم . القرطاس اسم لما يكتب عليه من رق وورق وغير ذلك ، قال الشاعر وهو زهير : لها أخاديد من آثار ساكنها

كما تردد في قرطاسه القلم

ولا يسمى قرطاساً إلا إذا كان مكتوباً وإن لم يكن مكتوباً فهو طرس وكاغد وورق ، وكسر القاف أكثر استعمالاً وأشهر من ضمها وهو أعجمي وجمعه قراطيس . حاق يحيق حيقاً وحيوقاً وحيقاناً أي : أحاط ، قاله الضحاك : ولا يستعمل إلا في الشر . قال الشاعر : فأوطأ جرد الخيل عقر ديارهم

وحاق بهم من بأس ضبه حائق

وقال الفرّاء : حاق به عاد عليه وبال مكره . وقال النضر : وجب عليه . وقال مقاتل : دار .

وقيل : حلّ ونزل ومن جعله مشتقاً من الحوق وهو ما استدار بالشيء فليس قوله بصحيح ، لاختلاف المادتين وكذلك من قال : أصله حق فأبدلت القاف الواحدة ياء كما قالوا : في تظننت : تظنيت لأنها دعوى لا دليل على صحتها . سخر منه : هزأ به والسخرية والاستهزاء والتهكم معناها متقارب . عاقبة الشيء : منتهاه وما آل اليه .

{الْحَمْدُ للّه الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثْمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ } هذه السورة مكية كلها . وقال الكسائي : إلا آيتين نزلتا بالمدينة وهما { قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ } وما يرتبط بها .

وقال ابن عباس : نزلت ليلاً بمكة حولها سبعون ألف ملك يجأرون بالتسبيح ، إلا ست آيات قل :{ تَعَالَوْاْ أَتْلُ }{ وَمَا قَدَرُواْ اللّه }{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى}{ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ}{ وَالَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ}{ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ } ، انتهى . وعنه أيضاً وعن مجاهد والكلبي إلا ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ } إلى قوله { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } وقال قتادة : إلا { وَمَا قَدَرُواْ اللّه حَقَّ قَدْرِهِ }{ وَهُوَ الَّذِى أَنشَأَ } ، وذكر ابن العربي أن قوله { قُل لا أَجِدُ } نزل بمكة يوم عرفة . ومناسبة افتتاح هذه السورة لآخر المائدة أنه تعالى لما ذكر ما قالته النصارى في عيسى وأمه من كونهما إلهين من دون اللّه ، وجرت تلك المحاورة وذكر ثواب ما للصادقين ، وأعقب ذلك بأن له ملك السموات والأرض وما فيهنّ وأنه قادر على كل شيء ، ذكر بأن الحمد له المستغرق جميع المحامد فلا يمكن أن يثبت معه شريك في الإلهية فيحمد ، ثم نبه على العلة المقتضية لجميع المحامد والمقتضية ، كون ملك السموات والأرض وما فيهنّ له بوصف { خُلِقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ } لأن الموجد للشيء المنفرد باختراعه له الاستيلاء والسلطنة عليه ، ولما تقدّم قولهم في عيسى وكفرهم بذلك وذكر الصادقين وجزاءهم أعقب { خُلِقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ }{ يَجْعَلْ الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ } فكان ذلك مناسباً للكافر والصادق ، وتقدّم تفسير { الْحَمْدُ للّه } في أول الفاتحة وتفسير { خُلِقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ } في قوله :{ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ } في البقرة وجعل هنا .

قال ابن عطية : لا يجوز غير ذلك وتأمل لم خصت السموات والأرض في البقرة وجعل هنا .

قال ابن عطية : لا يجوز غير ذلك وتأمل لم خصت السموات والأرض بخلق والظلمات والنور بجعل .

وقال الزمخشري في البقرة وجعل هنا .

قال ابن عطية : لا يجوز غير ذلك وتأمل لم خصت السموات والأرض بخلق والظلمات والنور بجعل .

وقال الزمخشري { جَعَلَ } يتعدى إلى مفعول واحد إذا كان بمعنى أحدث وأنشأ ، كقوله :{ جَعَلَ الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ } وإلى مفعولين إذا كان بمعنى صير كقوله :{ وَجَعَلُواْ الْمَلَئِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً } والفرق

بين الخلق والجعل ، أن الخلق فيه معنى التقدير وفي الجعل معنى التصيير كإنشاء من شيء أو تصيير شيء شيئاً أو نقله من مكان إلى مكان ، ومن ذلك { وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا }{ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ } لأن الظلمات من الإجرام المتكافئة والنور من النار { وَجَعَلْنَاكُمْ أَزْواجاً } أجعل الآلهة إلهاً واحداً ؛ انتهى . وما ذكره من أن جعل بمعنى صير في قوله :{ وَجَعَلُواْ الْمَلَئِكَةَ } لا يصح لأنهم لم يصيروهم إناثاً ، وإنما قال بعض النحويين : إنها بمعنى سمى وقول الطبري { جَعَلَ } هنا هي التي تتصرف في طرف الكلام كما تقول : جعلت أفعل كذا فكأنه قال : وجعل إظلامها وإنارتها تخليط ، لأن تلك من أفعال المقاربة تدخل على المبتدأ والخبر وهذه التي في الآية تعدت إلى مفعول واحد ، فهما متباينان معنى واستعمالاً وناسب عطف الصلة الثانية بمتعلقها من جمع الظلمات وإفراد النور على الصلة الأولى المتعلقة بجمع السموات وإفراد الأرض ، وتقدّم في البقرة الكلام على جمع السموات وإفراد الأرض وجمع الظلمات وإفراد النور واختلف في المراد هنا ب { الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ } فقال قتادة والسدّي والجمهور : الليل والنهار .

وقال ابن عباس : الشرك والنفاق والكفر والنور الإسلام والإيمان والنبوّة واليقين . وقال الحسن : الكفر والإيمان ، وهو تلخيص قول ابن عباس واستدل لهذا بآية البقرة . وقال قتادة أيضاً : الجنة والنار خلق الجنة وأرواح المؤمنين من نور ، والنار وأرواح الكافرين من ظلمة ، فيوم القيامة يحكم لأرواح المؤمنين بالجنة لأنهم من النور خلقوا ، وللكافرين بالنار لأنهم من الظلمة خلقوا .

وقيل : الأجساد والأرواح .

وقيل : شهوات النفوس وأسرار القلوب .

وقيل : الجهل والعلم . وقال مجاهد : المراد حقيقة الظلمة والنور ، لأن الزنادقة كانت تقول : اللّه يخلق الضوء وكل شيء حسن ، وإبليس يخلق الظلمة وكل شيء قبيح فأنزلت رداً عليهم . وقال أبو عبد اللّه الرازي : فيه قولان

أحدهما : أنهما الأمران المحسوسان وهذا هو الحقيقة . والثاني ما نقل عن ابن عباس والحسن قبل وهو مجاز . وقال الواحدي : يحمل على الحقيقة والمجاز معاً لا يمكن حمله عليهما انتهى ملخصاً . وقال أبو عبد اللّه الرازي : ليست الظلمة عبارة عن كيفية وجودية مضادة للنور ، والدليل عليه أنه إذا جلس اثنان بقرب السراج وآخر بالبعد منه ، فالبعيد يرى القريب ويرى ذلك الهواء صافياً مضيئاً والقريب لا يرى البعيد . ويرى ذلك الهواء مظلماً ، فلو كانت الظلمة كيفية وجودية لكانت حاصلة بالنسبة إلى هذين الشخصين المذكورين ، وحيث لم يكن الأمر كذلك علمنا أن الظلمة ليست كيفية وجودية وإذا ثبت ذلك ، فنقول : عدم المحدثات متقدم على وجودها فالظلمة متقدمة في التحقيق على النور فوجب تقديمها عليه في اللفظ ، ومما يقوي ذلك ما روي في الأخبار الإلهية أنه تعالى خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره .

وروى ابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : { إن اللّه خلق خلقه في ظلمة ثم ألقي عليهم النور ، فمن أصابه يومئذ من ذلك النور اهتدى ومن أخطأ ضل} . انتهى .

وقال أبو عبد اللّه بن أبي الفضل : قوله في الظلمة خطأ بل هي عبارة عن كيفية وجودية . مضادة للنور ، والدليل على ذلك قوله :{ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ } والعدم لا يقال فيه جعل { ثُمَّ } كما تقرر في اللسان العربي أصلها للمهلة في الزمان . و

قال ابن عطية :{ ثُمَّ } دالة على قبح

فعل { الَّذِينَ كَفَرُواْ } لأن المعنى : أن خلقه { السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ } وغيرها قد تقرر وآياته قد سطعت وإنعامه بذلك قد تبين ، ثم بعد هذا كله قد عدلوا بربهم فهذا كما تقول : يا فلان أعطيتك وأكرمتك وأحسنت إليك ، ثم تشتمني أي : بعد وضوح هذا كله ولو وقع العطف في هذا ونحوه بالواو ، لم يلزم التوبيخ كلزومه ب { ثُمَّ } انتهى .

وقال الزمخشري: { فإن قلت } : فما معنى ثم { قلت} : استبعاد أن يعدلوا به بعد وضوح آيات قدرته وكذلك { ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ } استبعاد لأن تمتروا فيه بعد ما ثبت أنه محييهم ومميهم وباعثهم ؛ انتهى . وهذا الذي ذهب إليه ابن عطية من أن { ثُمَّ } للتوبيخ ، والزمخشري من أن { ثُمَّ } للاستبعاد ليس بصحيح لأن { ثُمَّ } لم توضع لذلك ، وإنما التوبيخ أو الاستبعاد مفهوم من سياق الكلام لا من مدلول ، ثم ولا أعلم أحداً من النحويين ذكر ذلك بل { ثُمَّ } هنا للمهلة في الزمان وهي عاطفة جملة اسمية على جملة اسمية ، أخبر تعالى بأن الحمد له ونبه على لعلة المقتضية للحمد من جميع الناس وهي خلق السموات والأرض والظلمات والنور ثم أخبر أن الكافرين به { يَعْدِلُونَ } فلا يحمدونه .

وقال الزمخشري { فإن قلت} : علام عطف قوله : { ثْمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ}

{قلت} : إما على قوله : { الْحَمْدُ للّه } على معنى أن اللّه حقيق بالحمد على ما خلق ، لأنه ما خلقه إلا نعمة { ثْمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ } فيكفرون نعمه

وإما على قوله { خُلِقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ } على معنى أنه خلق ما خلق ، مما لا يقدر عليه أحد سواه ثم هم يعدلون به ما لا يقدر على شيء منه ؛ انتهى . وهذا الوجه الثاني الذي جوزه لا يجوز ، لأنه إذ ذاك يكون معطوفاً على الصلة والمعطوف على الصلة صلة ، فلو جعلت الجملة من قوله :{ ثْمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ } صلة لم يصح هذا التركيب لأنه ليس فيها رابط يربط الصلة بالموصول ، إلا إن خرج على قولهم أبو سعيد الذي رويت عن الخدري يريد رويت عنه فيكون الظاهر قد وقع موقع المضمر ، فكأنه قيل :{ ثْمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِهِ يَعْدِلُونَ } وهذا من الندور ، بحيث لا يقاس عليه ولا يجمل كتاب اللّه عليه مع ترجيح حمله على التركيب الصحيح الفصيح ، { وَالَّذِينَ كَفَرُواْ } الظاهر فيه العموم فيندرج فيه عبدة الأصنام وأهل الكتاب ، عبدت النصارى المسيح واليهود عزيراً واتخذوا أحبارهم أرباباً من دون اللّه والمجوس عبدوا النار والمانوية عبدوا النور ، ومن خصص الذين كفروا بالمانوية كقتادة أو بعبدة الأصنام أو بالمجوس حيث قالوا : الموت من أهرمن والحياة من اللّه ، أو بأهل الكتاب كابن أبي أبزى فلا يظهر له دليل على التخصيص والباء في { بِرَبّهِمْ } يحتمل أن تتعلق ب { يَعْدِلُونَ } وتكون الباء بمعنى عن أي : يعدلون عنه إلى غيره مما لا يخلق ولا يقدر ، أو يكون المعنى يعدلون به غيره أي : يسوون به غيره في اتخاذه رباً وإلهاً وفي الخلق والإيجاد وعدل الشيء بالشيء التسوية به ، وفي الآية رد على القدرية في قولهم : الخير من اللّه والشر من الإنسان فعدلوا به غيره في الخلق والإيجاد .

﴿ ١