٣

وهو اللّه في . . . . .

{وَهُوَ اللّه فِى السَّمَاوَاتِ وَفِى الاْرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ } لما تقدم ما يدل على القدرة التامة والاختيار ، ذكر ما يدل على العلم التام فكان في التنبيه على هذه الأوصاف دلالة على كونه تعالى قادراً مختاراً عالماً بالكليات والجزئيات وإبطالاً لشبه منكر المعاد ، والظاهر أن { هُوَ } ضمير عائد على ما عادت عليه الضمائر قبله ، { وَهُوَ اللّه } وهذا قول الجمهور قاله الكرماني . وقال أبو علي :{ هُوَ } ضمير الشأن { وَاللّه } مبتدأ خبره ما بعده ، والجملة مفسرة لضمير الشأن وإنما فر إلى هذا لأنه إذا لم يكن ضمير الشأن ، كان عائداً على اللّه تعالى فيصير التقدير اللّه { وَاللّه } فينعقد مبتدأ وخبر من اسمين متحدين لفظاً ومعنى لا نسبة بينهما إسنادية ، وذلك لا يجوز فلذلك واللّه أعلم تأول . أبو علي الآية على أن الضمير ضمير الأمر { وَاللّه } خبره يعلم في { السَّمَاوَاتِ وَفِى الاْرْضِ } متعلق بيعلم والتقدير اللّه يعلم { فِي السَّمَاوَاتِ وَفِى الاْرْضِ }{ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ } ذهب الزجاج إلى أن قوله :{ فِي السَّمَاوَاتِ } متعلق بما تضمنه اسم اللّه من المعاني ، كما يقال : أمير المؤمنين الخليفة في المشرق والمغرب .

قال ابن عطية : وهذا عندي أفضل الأقوال وأكثرها إحرازاً لفصاحة اللفظ وجزالة المعنى وإيضاحه أنه أراد أن يدل على خلقه وإيثار قدرته وإحاطته واستيلائه ، ونحو هذه الصفات فجمع هذه كلها في قوله { وَهُوَ اللّه } أي الذي له هذه كلها { فِي السَّمَاوَاتِ وَفِى الاْرْضِ } كأنه قال : وهو الخالق الرازق والمحيي المحيط في السموات وفي الأرض كما تقول : زيد السلطان في الشام والعراق ، فلو قصدت ذات زيد لقلت محالاً وإذا كان مقصد قولك زيد السلطان الآمر الناهي الناقض المبرم الذي يعزل ويولي في الشام والعراق ، فأقمت السلطان مقام هذه كلها كان فصيحاً صحيحاً فكذلك في الآية أقام لفظة { اللّه } مقام تلك الصفات المذكورة ؛ انتهى . وما ذكره الزجاج وأوضحه ابن عطية صحيح من حيث المعنى ، لكن صناعة النحو لا تساعد عليه لأنهما زعما أن { فِي السَّمَاوَاتِ } متعلق بلفظ { اللّه } لما تضمنه من المعاني ولا تعمل تلك المعاني جميعها في اللفظ ، لأنه لو صرح بها جميعها لم تعمل فيه بل العمل من حيث اللفظ لواحد منها ، وإن كان { فِي السَّمَاوَاتِ } متعلقاً بها جميعها من حيث المعنى ، بل الأولى أن يعمل في المحرور ما تضمنه لفظ { اللّه } من معنى الألوهية وإن كان لفظ { اللّه } علماً لأن الظرف والمجرور قد يعمل فيهما العلم بما تضمنه من المعنى كما قال : أنا أبو المنهال بعض الأحيان . فبعض منصوب بما تضمنه أبو المنهال كأنه قال أنا المشهور بعض الأحيان .

وقال الزمخشري نحواً من هذا قال :{ فِي السَّمَاوَاتِ } متعلق بمعنى اسم اللّه ، كأنه قيل : وهو المعبود فيهما ومنه قوله { وَهُوَ الَّذِى فِى السَّماء إِلَاهٌ وَفِى الاْرْضِ إِلَاهٌ } أي : وهو المعروف بالإلهية أو المتوحد بالإلهية فيها ، أو هو الذي يقال له : اللّه فيها لا يشرك في هذا الاسم ؛ انتهى ، فانظر تقاديره كلها كيف قدر العامل واحداً من المعاني لا جميعها ، وقالت فرقة { هُوَ } على تقدير صفة حذفت وهي مرادة في المعنى ، كأنه قيل : هو اللّه المعبود { فِي السَّمَاوَاتِ وَفِى الاْرْضِ } وقدرها بعضهم وهو اللّه المدبر { فِي السَّمَاوَاتِ وَفِى الاْرْضِ } ، وقالت فرقة :{ وَهُوَ اللّه } تم الكلام هنا . ثم استأنف ما بعده وتعلق المجرور ب { يَعْلَمْ } وقالت فرقة :{ وَهُوَ اللّه } تام و { فِي السَّمَاوَاتِ وَفِى الاْرْضِ } متعلق بمفعول { يَعْلَمْ } وهو { سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ } والتقدير يعلم سركم وجهركم في السموات وفي الأرض ، وهذا يضعف لأن فيه تقديم مفعول المصدر الموصول عليه والعجب من النحاس حيث قال : هذا من أحسن ما قيل فيه ، وقالت فرقة : هو ضمير الأمر واللّه مرفوع على الابتداء وخبره { فِي السَّمَاوَاتِ } والجملة خبر عن ضمير الأمر وتم الكلام . ثم استأنف فقال :{ وَفِى الاْرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ } أي : ويعلم في الأرض .

وقال ابن جرير نحواً من هذا إلا أن { هُوَ } عائد على ما عادت عليه الضمائر قبل وليس ضمير الأمر .

وقيل : يتعلق { فِي السَّمَاوَاتِ } بقوله :{ تَكْسِبُونَ } هذا خطأ ، لأن { مَا } موصولة ب { تَكْسِبُونَ } وسواء كانت حرفاً مصدرياً أم اسماً بمعنى الذي ، فإنه لا يجوز تقديم معمول الصلة على الموصول .

وقيل { فِي السَّمَاوَاتِ } حال من المصدر الذي هو { سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ } تقدم على ذي الحال وعلى العامل .

وقال الزمخشري : يجوز أن يكون { اللّه فِى السَّمَاوَاتِ } خبراً بعد خبر على معنى أنه اللّه وأنه في السموات والأرض بمعنى أنه عالم بما فيهما ، لا يخفى عليه شيء منه كأن ذاته فيها وهو ضعيف ، لأن المجرور بفي لا يدل على وصف خاص إنما يدل على كون مطلق وعلى هذه الأقوال ينبني إعراب هذه الآية ، وإنما ذهب أهل العلم إلى هذه التأويلات والخروج عن ظاهر { فِي السَّمَاوَاتِ وَفِى الاْرْضِ } لما قام عليه دليل العقل من استحالة حلول اللّه تعالى في الأماكن ومماسة الإجرام ومحاذاته لها وتحيزه في جهة ، قال معناه وبعض لفظه ابن عطية

وفي قوله :{ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ } إلى آخره خبر في ضمنه تحذير وزجر . قال أبو عبد اللّه الرازي : المراد بالسرّ صفات القلوب وهو الدواعي والصوارف وبالجهر أعمال الجوارح وقدم السرّ لأن ذكر المؤثر في الفعل هو مجموع القدرة مع الداعي ، فالداعية التي هي من باب السرّ هي المؤثرة في أعمال الجوارح المسماة بالجهر ، وقد ثبت أن العلم بالعلة علة العلم بالمعلول والعلة متقدّمة على المعلول والمقدم بالذات يجب تقديمه بحسب اللفظ ، انتهى .

وقال التبريزي : معناه يعلم ما تخفونه من أعمالكم ونياتكم وما تظهرون من أعمالكم وما تكسبون ، عام لجميع الاعتقادات والأقوال والأفعال وكسب كل إنسان عمله المفضي به إلى اجتلاب نفع أو دفع ضرّ ولهذا لا يوصف به اللّه تعالى . وقال أبو عبد اللّه الرازي : وفي أول كلامه شيء من معنى كلام الزمخشري يجب حمل قوله :{ مَا تَكْسِبُونَ } على ما يستحقه الإنسان على فعله من ثواب وعقاب ، فهو محمول على المكتسب كما يقال هذا المال كسب فلان أي مكتسبه ، ولا يجوز حمله على نفس الكسب وإلا لزم عطف الشيء على نفسه وفي هذه الآية رد على المعطلة والثنوية والحشوية والفلاسفة ؛ انتهى .

وقال الزمخشري: { فإن قلت } : كيف موقع قوله { يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ  قلت} : إن أراد المتوحد بالإلهية كان تقريراً له ، لأن الذي استوى في علمه السرّ والعلانية ، هو اللّه وحده وكذلك إذا جعلت { فِي السَّمَاوَاتِ } خبراً بعد خبر وإلا فهو كلام مبتدأ أو خبر ثالث ، انتهى ، وهذا على مذهب من يجيز أن يكون للمبتدأ أخباراً متعددة .

﴿ ٣