سورة الأعراف

بسم اللّه الرحمن الرحيم

١

انظر تسفير الآية:٢

٢

المص

كم اسم بسيط لا مركّب من كاف التشبيه وما الاستفهامية حذف ألفها لدخول حرف الجرّ عليها وسكنت كما قالوا لم تركيباً لا ينفكّ كما ركبت في كأين مع أي وتأتي استفهاميّة وخبريّة وكثيراً ما جاءت الخبرية في القرآن ولم يأتِ تمييزها في القرآن إلا مجروراً بمن وأحكامها في نوعيها مذكورة في كتب النحو . القيلولة نوم نصف النهار وهي القائلة قاله الليث ، وقال الأزهري الاستراحة نصف النهار إذا اشتد الحرّ ولم يكن نوم ، وقال الفرّاء : قال : يقيل قيلولة وقيلاً وقائلة ومقيلاً استراح وسط النهار . العيش الحياة عاش يعيش عيشاً ومعاشاً وعيشةً ومعيشة ومعيشاً . قال رؤبة : إليك أشكو شدّة المعيش

وجهد أيام نتفن ريشي

غوى يغوي غيّاً وغوايةً فسد عليه أمره وفسد هو في نفسه ومنه غوى الفصيل أكثر من شرب لبن أمّه حتى فسد جوفه وأشرف على الهلاك ،

وقيل أصله الهلاك ومنه { فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً}

الشمائل جمع وهو جمع تكسير وجمعه في القلة على أشمل قال الشاعر :

يأتي لها من أيمن وأشمل

وشمال يطلق على اليد اليسرى وعلى ناحيتها ، والشمائل أيضاً جمع شمال وهي الريح والشمائل أيضاً الأخلاق يقال هو حسن الشمائل . ذأمه عابه يذأمه ذأماً بسكون الهمزة ويجوز إبدالها ألفاً قال الشاعر : صحبتك إذ عيني عليها غشاوة

فلما انجلت قطعت نفسي أذيمها

وفي المثل لن يعدم الحسناء ذأماً .

وقيل : أردت أن تديمه فمدحته ، وقال الليث ذأمته حقرته ، وقال ابن

قتيبة وابن الأنباري : ذأمه وذمّه ، دحره أبعده وأقصاه دحوراً قال الشاعر : دحرت بني الحصيب إلى قديد

وقد كانوا ذوي أشَر وفخر

وسوس تكلم كلاماً خفياً يكرّره والوسواس صوت الحلي شبه الهمس به وهو فعل لا يتعدّى إلى منصوب نحو ولولت ووعوع . قال ابن الأعرابي : رجل موسوس ، بكسر الواو ، ولا يقال : موسوَس بفتحها . وقال غيره : يقال موسوس له وموسوس إليه . وقال رؤبة يصف صياداً : وسوس يدعو مخلصاً ربَّ الفلق

لمّا دنا الصيد دنا من الوهق

يقول لما أحس بالصيد وأراد رميه وسوس في نفسه أيخطىء أم يصيب . قال الأزهري : وسوس وورور معناهما واحد ، نصح بذل المجهود في تبيين الخير وهو ضد غش ويتعدى بنفسه وباللام نصحْتُ زيداً ونصحتُ لزيد ويبعد أن يكون يتعدى لواحد بنفسه ولآخر بحرف الجرّ وأصله نصحت لزيد ، من قولهم نصحت لزيد الثوب بمعنى خطته خلافاً لمن ذهب إلى ذلك . ذاق الشيء يذوقه ذوقاً مسه بلسانه أو بفمه ويطلق على الأكل . طفق ، بكسر الفاء وفتحها ،

ويقال : طبق بالباء وهي بمعنى أخذ من أفعال المقاربة . خصف الفعل وضع جلداً على جلد وجمع بينهما بسير والخصف الخرز . الريش معروف وهو للطائر ويستعمل في معان يأتي ذكرها في تفسير المركبات واشتقوا منه قالوا راشه يريشه ،

وقيل الريش مصدر راش . النزع الإزالة والجذب بقوة { المص كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِى صَدْرِكَ حَرَجٌ مّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } هذه السورة مكية كلها قاله ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة وعطاء وجابر بن زيد والضحاك وغيرهم ، وقال مقاتل إلا قوله { وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ } إلى قوله :{ مِن ظُهُورِهِمْ } فإن ذلك مدني وروي هذا أيضاً عن ابن عباس .

وقيل إلى قوله :{ الْمُصْلِحِينَ وَإِذ نَتَقْنَا } واعتلاق هذه السورة بما قبلها هو أنه لما ذكر تعالى قوله { وَهَاذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ } واستطرد منه لما بعده وإلى قوله آخر السورة { وَهُوَ الَّذِى جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الاْرْضِ } وذكر ابتلاءهم فيما آتاهم وذلك لا يكون إلا بالتكاليف الشرعيّة ذكر ما يكون به التكاليف وهو الكتاب الإلهي وذكر الأمر باتباعه كما أمر في قوله { وَهَاذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ } وتقدّم الكلام على هذه الحروف المقطّعة أوائل السورة في أول البقرة وذكر ما حدسه الناس فيها ولم يقم دليل على شيء من تفسيرهم يعين ما قالوا وزادوا هنا لأجل الصاد أنّ معناه أنا اللّه أعلم وأفصّل رواه أبو الضحى عن ابن عباس أو المصور قاله السدي : أو اللّه الملك النصير قاله بعضهم أو أنا اللّه المصير إليّ ، حكاه الماوردي

أو المصير كتاب فحذف الياء والراء ترخيماً وعبّر عن المصير بالمص قاله التبريزي .

وقيل عنه : أنا اللّه الصادق .

وقيل معناه { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } قاله الكرماني قال : واكتفى ببعض الكلام وهذه الأقوال في الحروف المقطعة لولا أن المفسرين شحنوا بها كتبهم خلفاً عن سلف لضربنا عن ذكرها صفحاً فإن ذكرها يدل على ما لا ينبغي ذكره من تأويلات الباطنية وأصحاب الألغاز والرموز ونهيه تعالى أن يكون في صدره حرج منه أيّ من سببه لما تضمنه من أعباء الرسالة وتبليغها لمن لم يؤمن بكتاب ولا اعتقد صحة رسالة وتكليف الناس أحكامها وهذه أمور صعبة ومعانيها يشق عليه ذلك وأسند النهي إلى الحرج ومعناه نهي المخاطب عن التعرض للحرج ، وكان أبلغ من نهي المخاطب لما فيه من أنّ الحرج لو كان مما ينهى لنهيناه عنك فانتهِ أنت عنه بعدم التعرّض له ولأن فيه تنزيه نبيه صلى اللّه عليه وسلم بأن ينهاه فيأتي التركيب فلا تخرج منه لأنّ ما أنزله اللّه تعالى إليه يناسب أن يسرّ به وينشرح لما فيه من تخصيصه بذلك وتشريفه حيث أهّله لإنزال كتابه عليه وجعله سفيراً بينه وبين خلقه فلهذه الفوائد عدل عن أن ينهاه ونهي الحرج وفسر الحرج هنا بالشك وهو تفسير قلق وسمّى الشكّ حرجاً لأن الشاكّ ضيّق الصدر كما أنّ المتيقن منشرح الصدر وإن صحّ هذا عن ابن عباس فيكون مما توجه فيه الخطاب إليه لفظاً وهو لأمته معنى أي فلا يشكوا أنه من عند اللّه . وقال الحسن : الحرج هنا الضيق أي لا يضيق صدرك من تبليغ ما أرسلت به خوفاً من أن لا تقوم بحقّه . وقال الفرّاء : معناه لا يضيق صدرك بأن يكذّبوك كما

قال تعالى :{ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىءاثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَاذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً }

وقيل : الحرج هنا الخوف أي لا تخف منهم وإن كذبوك وتمالؤوا عليك قالوا : ويحتمل أن يكون الخطاب له ولأمته ، والظاهر أنّ الضمير في { مِنْهُ } عائد على الكتاب ،

وقيل على التبليغ الذي تضمنه المعنى .

وقيل على التكذيب الذي دلّ عليه المعنى ،

وقيل على الإنزال ،

وقيل على الإنذار .

قال ابن عطية : وهذا التخصيص كله لا وجه له إذ اللفظ يعمّ جميع الجهات التي هي من سبب الكتاب ولأجله وذلك يستغرق التبليغ والإنذار وتعرّض المشركين وتكذيب المكذبين وغير ذلك { فَلاَ يَكُن فِى صَدْرِكَ حَرَجٌ مّنْهُ } اعتراض في أثناء الكلام ، ولذلك قال بعض الناس إن فيه تقديماً وتأخيراً{ وَلِتُنذِرَ } متعلق بأنزل انتهى . وكذا قال الحوفي والزمخشري أنّ اللام متعلقة بقوله { أَنَزلَ } وقاله قبلهم الفرّاء ولزم من قولهم أن يكون قوله : فلا يكن { فِى صَدْرِكَ حَرَجٌ } اعتراضاً بين العامل والمعمول . وقال ابن الأنباري : التقدير فلا يكن في صدرك حرج منه كي تنذر به فجعله متعلقاً بما تعلّق به في صدرك وكذا علقه به صاحب النظم فعلى هذا لا تكون الجملة معترضة وجوّز الزمخشري وأبو البقاء الوجهين إلا أنّ الزمخشري قال : { فإن قلت } : بم يتعلق قوله : { لّتُنذِرَ  قلت} : بأنزل أي أنزل إليك لإنذارك به أو بالنهي لأنه إذا لم يخفهم أنذرهم ولذلك إذا أيقن أنه من عند اللّه شجّعه اليقين على الإنذار لأنّ صاحب اليقين جَسور متوكّل على عصمته انتهى . فقوله أو بالنهي ظاهره أنه يتعلق بالنّهي فيكون متعلقاً بقوله فلا يكن كان عندهم في تعليق المجرور والعمل في الظرف فيه خلاف ومبناه على أنه هل تدلّ كان الناقصة على الحدث أم لا فمن قال إنها تدلّ على الحدث جوّز فيها ذلك ، ومن قال إنها لا تدلّ عليه لم يجوّز ذلك ، وأعرب الفرّاء وغيره { المص } مبتدأ و { كِتَابٌ } خبره وأعرب أيضاً{ كِتَابٌ } خبر

مبتدأ محذوف أي هذا كتاب و { ذِكْرِى } هو مصدر ذكر بتخفيف الكاف وجوّزوا فيه أن يكون مرفوعاً عطف على كتاب أو خبر مبتدأ محذوف أي وهو ذكرى ، والنصب على المصدر على إضمار فعل معطوف على { لّتُنذِرَ } أي وتذكر ذكرى أو على موضع لتنذر لأن موضعه نصب فيكون إذ ذاك معطوفاً على المعنى كما عطفت الحال على موضع المجرور في قوله دعانا لجنبه أو قاعداً أو قائماً ويكون مفعولاً من أجله وكما تقول جئتك للإحسان وشوقاً إليك ، والجرّ على موضع الناصبة { لّتُنذِرَ } المنسبك منها ومن الفعل مصدر التقدير لإنذارك به وذكرى . وقال قوم : هو معطوف على الضمير من به وهو مذهب كوفيّ وتعاور النصب والجرّ هو على معنى وتذكير مصدر ذكر المشدّد . وقال أبو عبد اللّه الرازي : النفوس قسمان جاهلة غريقة في طلب اللّذات الجسمانية وشريفة مشرقة بالأنوار الإلهية ، مستشعرة بالحوادث الروحانيّة فبعثت الأنبياء والرّسل في حقّ القسم الأول للإنذار والتخويف لما غرقوا في بحر الغفلة ورقدة الجاهلية احتاجوا إلى موقظٍ ومنبه ، وفي حقّ القسم الثاني لتذكير وتنبيه لأنّ هذه النفوس بمقتضى جواهرها الأصلية مستشعرةً بالانجذاب إلى عالم القدس والاتصال بالحضرة الصمديّة إلا أنه ربما غشيها من غواشي عالم الحسّ فيعرض نوع ذهول فإذا سمعت دعوة الأنبياء واتّصل بها أرواح رسل اللّه تذكرت مركزها وأبصرت منشأها واشتاقت إلى ما حصل هناك من الروح والراحة والريحان . فثبت أنه تعالى إنما أنزل الكتاب على رسوله ليكون إنذار في حق طائفة ، وذكرى في حق أخرى وهو كلام فلسفي خارج عن كلام المتشرّعين وهكذا . كلام هذا الرجل أعاذنا اللّه منه .

٣

اتبعوا ما أنزل . . . . .

{اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } لما ذكر تعالى أن هذا الكتاب أنزل إلى الرسول أمر الأمة باتّباعه وما أنزل إليكم يشمل القرآن والسنة لقوله { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى } ونهاهم عن ابتغاء أولياء من دون اللّه كالأصنام والرّهبان والكهّان والأحبار والنار والكواكب وغير ذلك والظاهر أن الضمير في { مِن دُونِهِ } عائد على { رَبُّكُمْ}

وقيل على ما

وقيل على الكتاب والمعنى لا تعدلوا عنه إلى الكتب المنسوخة .

وقيل أراد بالأولياء الشياطين شياطين الجنّ والإنس وإنهم الذين يحملون على عبادة الأوثان والأهواء والبدع ويضلّون عن دين اللّه .

وقرأ الجحدري : ابتغوا من الإبتغاء .

وقرأ مجاهد ومالك بن دينار . ولا تبتغوا من الابتغاء أيضاً والظاهر أنّ الخطاب هو لجميع الناس . وقال الطبري وحكاه : التقدير { قُلْ اتَّبَعُواْ } فحذف القول لدلالة الإنذار المتقدّم الذكر عليه وانتصب { قَلِيلاً } على أنه نعت لمصدر محذوف و { مَا } زائدة أي يتذكرون تذكراً قليلاً أي حيث يتركون دين اللّه ويتّبعون غيره وأجاز الحوفي أن يكون نعتاً لمصدر محذوف والناصب له ولا تتّبعوا أي اتّباعاً قليلاً .

وحكى ابن عطيّة عن الفارسيّ : إن { مَا } موصولة بالفعل وهي مصدرية انتهى . وتمّم غيره هذا الإعراب بأنّ نصب قليلاً على أنه نعت لظرف محذوف أي زماناً قليلاً نذكّركم أخبر أنهم لا يدّعون الذكر إنما يعرض لهم في زمان قليل وما يذكرون في موضع رفع على أنه مبتدأ والظرف قبله في موضع الخبر وأبعد من ذهب إلى أن { مَا } نافية .

وقرأ حفص والإخوان { تَذَكَّرُونَ } بتاء واحدة وتخفيف الذال ،

وقرأ ابن عامر { يَتَذَكَّرُونَ } بالياء والتاء وتخفيف الذال ،

وقرأ باقي السبعة بتاء الخطاب وتشديد الذال

وقرأ أبو الدرداء وابن عباس وابن عامر في رواية بتاءين ،

وقرأ مجاهد بياء وتشديد الذال .

٤

وكم من قرية . . . . .

{وَكَم مّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ }{ كَمْ } هنا خبرية التقدير وكثير من القرى أهلكناها وأعاد الضمير في أهلكناها على معنى كم وهي في موضع رفع بالابتداء وأهلكناها جملة في موضع الخبر وأجازوا أن تكون في موضع نصب بإضمار فعل يفسّره أهلكناها تقديره وكم من قرية أهلكناها ولا بدّ في الآية من تقدير محذوف مضاف لقوله أو هم قائلون فمنهم من قدّره وكم من أهل قرية ومنهم من قدّره أهلكنا أهلها وينبغي أن يقدّر عند قوله { فَجَاءهَا } أي فجاء أهلها لمجيء الحال من أهلها بدليل أو هم قائلون لأنه يمكن إهلاك القرى بالخسف والهدم وغير ذلك فلا ضرورة تدعو إلى حذف

المضاف قبل قوله { فَجَاءهَا}

وقرأ ابن أبي عبلة { وَكَم مّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهُمْ } فيقدّر المضاف وكم من أهل قرية ولا بد من تقديره صفة للقرية محذوفة أي من قرية عاصية ويعقّب مجيء البأس وقوع الإهلاك لا يتصوّر فلا بدّ من تجوّز إما في الفعل بأن يراد به أردنا إهلاكها أو حكمنا بإهلاكها { أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا }

وأما أن يحتلف المدلولان بأن يكون المعنى أهلكناها بالخذلان وقلة التوفيق فجاءها بأسنا بعد ذلك

وإما أن يكون التجوّز في الفاء بأن تكون بمعنى الواو وهو ضعيف أو تكون لترتيب القول فقط فكأنه أخبر عن قرى كثيرة أنه أهلكها ثم قال فكان من أمرها مجيء البأس . وقال الفرّاء : إنّ الإهلاك هو مجيء البأس ومجيء البأس هو الإهلاك فلما تلازما لم يبالِ أيّهما قدّم في الرتبة ، كما تقول شتمني فأساء وأساء فشتمني لأن الإساءة والشتم شيء واحد .

وقيل : الفاء ليست للتعقيب وإنما هي للتفسير ، كقوله : توضّأ فغسل كذا ثم كذا وانتصب بياناً على الحال وهو مصدر أي { فَجَاءهَا بَأْسُنَا } بائتين أو قائلين وأو هنا للتنويع أي جاء مرة ليلاً كقوم لوط ومرة وقت القيلولة كقوم شعيب وهذا فيه نشر لما لفّ في قوله { فَجَاءهَا } وخصّ مجيء البأس بهذين الوقتين لأنهما وقتان للسكون والدّعة والاستراحة فمجيء العذاب فيهما أقطع وأشقّ ولأنه يكون المجيء فيه على غفلة من المهلكين ، فهو كالمجيء بغتةً وقوله {أَوْ هُمْ قَائِلُونَ } جملة في موضع الحال ونصّ أصحابنا أنه إذ دخل على جملة الحال واو العطف فإنه لا يجوز دخول واو الحال عليها فلا يجوّز جاء زيد ماشياً وهو راكب .

وقال الزمخشري: { فإن قلت } : لا يقال جاء زيد هو فارس بغير واو فما بال قوله تعالى : {أَوْ هُمْ قَائِلُونَ  قلت} : قدّر بعض النحويين الواو محذوفة ورده الزّجاج . وقال : لو قلت جاءني زيد راجلاً أو هو فارس أو جاءني زيد هو فارس لم يحتج فيه إلى واو لأنّ الذكر قد عاد إلى الأول والصحيح أنها إذا عطفت على حال قبلها حُذفت الواو استثقالاً لاجتماع حر في عطف لأنّ واو الحال هي واو العطف استُعيرت للوصل فقولك جاء زيد راجلاً أو هو فارس كلام فصيح وارد على حدّة

وأما جاءني زيد هو فارس فخبيث انتهى . فأما بعض النحويين الذي اتهمه الزمخشري فهو الفرّاء ،

وأما قول الزّجاج في التمثيلين لم يحتج فيه إلى الواو لأنّ الذكر قد عاد إلى الأول ففيه إبهام وتعيينه لم يجز دخولها في المثال الأول ويجوز أن يدخل في المثال الثاني فانتفاء الاحتياج ليس على حدّ سواء لأنه في الأول لامتناع الدخول وفي الثاني لكثرة الدخول لا لامتناعه ،

وأما قول الزمخشري والصحيح إلى آخرها فتعليله ليس بصحيح لأنّ واو الحال ليست حرف عطف فيلزم من ذكرها اجتماع حر في عطف لأنها لو كانت للعطف للزم أن يكون ما قبل الواو حالاً حتى يعطف حالاً على حال فمجيئها في ما لا يمكن أن يكون حالاً دليل على أنها ليست واو عطف ولا لحظ فيها معنى واو عطف تقول جاء زيد والشمس طالعة فجاء زيد ليس بحال فيعطف عليه جملة حالية وإنما هذه الواو مغايرة لواو العطف بكل حال وهي قسم من أقسام الواو كما تأتي للقسم وليست فيه للعطف إذا قلت واللّه ليخرجنّ

وأما قوله : فخبيث فليس بخبيث وذلك أنه بناه على أن الجملة الإسمية إذا كان فيها ضمير ذي الحال فإنّ حذف الواو منها شاذ وتبع في ذلك الفرّاء وليس بشاذ بل هو كثير وقوعه في القرآن وفي كلام العرب نثرها ونظمها وهو أكثر من رمل بيرين ومها فلسطين وقد ذكرنا كثرة مجيء

ذلك في شرح التسهيل وقد رجع عن هذا المذهب الزمخشري إلى مذهب الجماعة .

٥

فما كان دعواهم . . . . .

{فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءهُم بَأْسُنَا إِلا أَن قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } قال ابن عباس : دعواهم تضرّعهم إلا إقرارهم بالشرك .

وقيل دعواهم دعاؤهم . قال الخليل : يقول اللّهم أشركنا في صالح دعوى المسلمين ومنه فما زالت تلك دعواهم .

وقيل : ادعاؤهم أي ادعوا معاذير تحسّن حالهم وتقيّم حجتهم في زعمهم .

قال ابن عطية : وتحتمل الآية أن يكون المعنى فما آلت دعاويهم التي كانت في حال كفرهم إلى اعتراف ومنه قول الشاعر : وقد شهّدت قيس فما كان نصرها

قتيبة إلا عضّها بالأباهم

وقال الزمخشري : ويجوز فما كان استغاثتهم إلاّ قولهم هذا لأنه لا مستغاث من اللّه بغيره من قولهم { دَعْوَاهُمْ } بالكعب قالوا ودعواهم اسم كان وإلا أن قالوا الخبر وأجازوا العكس والأول هو الذي يقتضي نصوص المتأخّرين أن لا يجوز إلا هو فيكون { دَعْوَاهُمْ } الإسم و { إِلاَّ أَن قَالُواْ } الخبر لأنه إذا لم تكن قرينة لفظية ولا معنوية تبين الفاعل من المفعول وجب تقديم الفاعل وتأخير المفعول نحو : ضرب موسى عيسى وكان وأخواتها مشبّهة في عملها بالفعل الذي يتعدّى إلى واحد ، فكما وجب ذلك فيه وجب ذلك في المشبّه به وهو كان ودعواهم وإلا أن قالوا لا يظهر فيهما لفظ يبين الإسم من الخبر ولا معنى فوجب أن يكون السابق هو الإسم واللاحق الخبر .

٦

فلنسألن الذين أرسل . . . . .

{فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ } أي نسأل الأمم المرسل إليهم عن أعمالهم وعن ما بلّغه إليهم الرّسل لقوله و { يَوْمٍ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ } ، ويسأل الرسل عما أجاب به من أرسلوا إليه كقوله ، { يَوْمَ يَجْمَعُ اللّه الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ } وسؤال الأمم تقرير وتوبيخ يعقب الكفار والعصاة عذاباً وسؤال الرسل تأنيس يعقب الأنبياء ثواباً وكرامة . وقد جاء السؤال منفيّاً ومثبتاً بحسب المواطن أو بحسب الكيفيّات كسؤال التوبيخ والتأنيس وسؤال الاستعلام البحث منفيّ عن اللّه تعالى إذ أحاط بكل شيء علماً .

وقيل المرسل إليهم الأنبياء والمرسلون الملائكة وهذا بعيد .

٧

فلنقصن عليهم بعلم . . . . .

{فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ } أي نسرد عليهم أعمالهم قصّة قصّة { بِعِلْمِ } منّا لذلك واطّلاع عليه { وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ } عن شيء منه بل علمنا محيط بجميع أعمالهم ، ظاهرها وباطنها ، وهذا من أعظم التوبيخ والتقريع حيث يقرّون بالظلم وتشهد عليهم أنبياؤهم ويقصّ اللّه عليهم أعمالهم . قال وهب : يقال للرجل منهم أتذكر يوم فعلت كذا أتذكر حين قلت كذا حتى يأتي على آخر ما فعله وقاله في دنياه وفي قوله { بِعِلْمِ } دليل على إثبات هذه الصفة للّه تعالى وإبطال لقول من قال لا علم اللّه .

٨

انظر تسفير الآية:٩

٩

والوزن يومئذ الحق . . . . .

{وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُوْلَائِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ } اختلفوا هل ثم وزن وميزان حقيقة أم ذلك عبارة عن إظهار العدل التام والقضاء السويّ والحساب المحرّر فذهبت المعتزلة إلى إنكار الميزان وتقدّمهم إلى هذا مجاهد والضحّاك والأعمش وغيرهم ، وعبّر بالثقل عن كثرة الحسنات وبالخفة عن قلّتها ، وقال جمهور الأمّة بالأول وأنّ الميزان له عمود وكفّتان ولسان وهو الذي دل عليه ظاهر القرآن والسنّة ينظر إليه الخلائق تأكيداً للحجة وإظهاراً للنصفة وقطعاً للمعذرة كما يسألهم عن أعمالهم فيعترفون بها بألسنتهم وتشهد عليهم بها أيديهم وأرجلهم وتشهد عليهم الأنبياء والملائكة والأشهاد ،

وأما الثقل والخفة فمن صفات

الأجسام وقد ورد أنّ الموزون هي الصّحائف التي أثبتت فيها الأعمال ، فيُحدث اللّه تعالى فيها ثقلاً وخفةً وما ورد في هيئته وطوله وأحواله لم يصحَّ إسناده وجمعت الموازين باعتبار الموزونات والميزان واحد ، هذا قول الجمهور . وقال الحسن لكل أحد يوم القيامة ميزان على حدة وقد يعبّر عن الحسنات بالموازين فيكون ذلك على حذف مضاف أي من ثقلت كفّه موازينه أي موزوناته فيكون موازين جميع موزون لا جمع ميزان ، وكذلك ومن خفّت كفّة حسناته و { الْوَزْنَ } مبتدأ وخبره ظرف الزمان والتقدير والوزن كائن يوم أن نسألهم ونقّص عليهم وهو يوم القيامة و { الْحَقّ } صفة للوزون ويجوز أن يكون { يَوْمَئِذٍ } ظرفاً للوزن معمولاً له و { الْحَقّ } خبر ويتعلّق { بِئَايَاتِنَا } بقوله { يَظْلِمُونَ } لتضمّنه معنى يكذّبون أو لأنها بمعنى يجحدون وجحد تعدّى بالباء قال :{ وَجَحَدُواْ بِهَا } والظاهر أنّ هذا التقسيم هو بالنسبة للمؤمنين من أطاع ومن عصى وللكفّار فتوزن أعمال الكفار . وقال قوم : لا ينصب لهم ميزان ولا يحاسبون لقوله { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً } وإنما توزن أعمال المؤمن طائعهم وعاصيهم .

١٠

ولقد مكناكم في . . . . .

{وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِى الاْرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } تقدّم معنى { مَكَّنَّاكُمْ } في قوله في أول الأنعام { مَّكَّنَّاهُمْ فِى الاْرْضِ } والخطاب راجع للذين خوطبوا بقوله تعالى { اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ } وما بينهما أورد مورد الاعتبار والإيقاظ بذكر ما آل إليه أمرهم في الدنيا وما يؤول إليه في الآخرة والمعائش جمع معيشة ويحتمل أن يكون وزنها مفعلة ومفعلة بكسر العين وضمّها قالهما سيبويه . وقال الفرّاء : معيشة بفتح عين الكلمة والمعيشة ما يعاش به من المطاعم والمشارب وغيرهما مما يتوصّل به إلى ذلك وهي في الأصل مصدر تنزّل منزلة الآلات .

وقيل على حذف مضاف التقدير أسباب معايش كالزرع والحصد والتجارة وما يجري مجرى ذلك وسمّاها معايش لأنها وصلة إلى ما يعاش به ،

وقيل المعائش وجوه المنافع وهي إمّا يحدثه اللّه ابتداءً كالثمار أو ما يحدثه بطريق اكتساب من العدو وكلاهما يوجب الشكر ،

وقرأ الجمهور :{ مَعَايِشَ } وهو القياس لأنّ الياء في المفرد هي أصل لا زائدة فتهمز وإنما تهمز الزائدة نحو : صحائف في صحيفة ،

وقرأ الأعرج وزيد بن عليّ والأعمش وخارجة عن نافع وابن عامر في رواية : معائش بالهمزة وليس بالقياس لكنّهم رووه وهم ثقات فوجب قبوله وشذّ هذا الهمز ، كما شذ في منابر جمع منارة وأصلها منورة وفي مصائب جمع مصيبة وأصلها مصوبة وكان القياس مناور ومصاوب . وقد قالوا مصاوب على الأصل كما قالوا في جمع مقامة مقاوم ومعونة معاون ، وقال الزّجاج : جميع نحاة البصرة تزعم أن همزها خطأ ولا أعلم لها وجهاً إلا التشبيه بصحيفة وصحائف ولا ينبغي التعويل على هذه القراءة . وقال المازنيّ : أصل أخذ هذه القراءة عن نافع ولم يكن يدري ما العربية وكلام العرب التصحيح في نحو هذا انتهى . ولسنا متعبّدين بأقوال نحاة البصرة . وقال الفرّاء : ربما همزت العرب هذا وشبهه يتوهّمون أنها فعلية فيشبّهون مفعلة بفعيلة انتهى . فهذا نقل من الفرّاء عن العرب أنهم ربما يهمزون هذا وشبهه وجاء به نقل القراءة الثقات ابن عامر وهو عربيّ صراح وقد أخذ القرآن عن عثمان قبل ظهور اللحن والأعرج وهو من كبار قرّاء التابعين وزيد بن عليّ وهو من الفصاحة والعلم بالمكان الذي قلّ أن يدانيه في ذلك أحد ، والأعمش وهو من الضبط والإتقان والحفظ والثقة بمكان ، ونافع وهو قد قرأ على سبعين من التابعين وهم من الفصاحة والضبط والثقة بالمحلّ الذي لا يجهل ، فوجب قبول ما نقلوه إلينا ولا مبالاة بمخالفة نحاة البصرة في مثل هذا ،

وأما قول المازنيّ أصل أخذ هذه القراءة عن نافع فليس بصحيح لأنها نقلت عن ابن عامر وعن الأعرج وزيد بن عليّ والأعمش

وأما قوله إنّ نافعاً لم يكن يدري ما العربية فشهادة على النفي ولو فرضنا أنه لا يدري ما العربية وهي هذه الصناعة التي يتوصل بها إلى التكلم بلسان العرب فهو لا يلزمه ذلك إذ هو فصيح

متكلم بالعربية ناقل للقراءة عن العرب الفصحاء وكثير من هؤلاء النحاة يسيئون الظنّ بالقرّاء ولا يجوز لهم وإعراب { مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } كإعراب { قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ}

١١

ولقد خلقناكم ثم . . . . .

{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُواْ إِلا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مّنَ السَّاجِدِينَ } لمّا تقدّم ما يدلّ على تقسيم المكلفين إلى طائع وعاصٍ فالطائع ممتثل ما أمر اللّه به مجتنب ما نهى عنه والعاصي بضدّه أخذ ينبّه على أنّ هذا التقسيم كان في البدء الأول من أمر اللّه للملائكة بالسجود فامتثل من امتثل وامتنع من امتنع ، وأنه أمر تعالى آدم ونهى فحكى عنه ما يأتي خبره فنبّه أولاً على موضع الاعتبار وإبراز الشيء من العدم الصّرف إلى الوجود والتصوير في هذه الصورة الغريبة الشكل المتمكّنة من بدائع الصانع والظاهر أنّ الخطاب عام لجميع بني آدم ويكون على قوله ثم قلنا ما أن تكون فيه ثم بمعنى الواو فلم ترتّب ويكون الترتيب بين الخلق والتصوير أو تكون { ثُمَّ } في { ثُمَّ قُلْنَا } للترتيب في الإخبار لا في الزمان وهذا أسهل محمل في الآية ومنهم من جعل { ثُمَّ } للترتيب في الزمان واختلفوا في المخاطب ، فقيل المراد به آدم وهو من إطلاق الجمع على الواحد ،

وقيل المراد به بنوه فعلى القول الأول يكون الخطاب في الجملتين لآدم لأنّ العرب تخاطب العظيم الواحد بخطاب الجمع ،

وقيل الخطاب في الأولى لآدم وفي االثانية لذرّيته فتحصل المهلة بينهما { وثم } الثالثة لترتيب الأخبار ، وروى هذا العوفي عن ابن عباس .

وقيل : خلقناكم لآدم ثم صوّرناكم لبنيه يعني في صلبه عند أخذ الميثاق ثم قلنا فيكون الترتيب واقعاً على بابه وعلى القول الثاني وهو أنّ الخطاب لبني آدم ، فقيل : الخطاب على ظاهره وإن اختلف محل الخلق والتصوير فروي الحارث عن ابن عباس خلقناكم في ظهر آدم ثم صوّرناكم في الأرحام ، وقال ابن جبير عنه خلقناكم في أصلاب الرجل ثم صوّرناكم في أرحام النساء ، وقاله عكرمة وقتادة والضحّاك والأعمش ، وقال ابن السائب خلقناكم نطفاً في أصلاب الرجال وترائب النساء ثم صوّرناكم عند اجتماع النطف في الأرحام ، وقال معمّر بن راشد حاكياً عن بعض أهل العلم خلقناكم في بطون أمهاتكم وصوّرناكم فيها بعد الخلق شقّ السّمع والبصر { وثم } على هذه الأقوال في قوله { صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا } للترتيب في الأخبار ،

وقيل الخطاب لبني آدم إلا أنه على حذف مضاف التقدير ولقد خلقنا أرواحكم ثم صوّرنا أجسامكم حكاه القاضي أبو يعلى في المعتمد ويكون { ثُمَّ } في { ثُمَّ قُلْنَا } لترتيب الأخبار ،

وقيل التقدير ولقد خلقنا أباكم ثم صوّرنا أباكم ثم قلنا فثم على هذا للترتيب الزماني والمهلة على أصل وضعها ،

وقيل هو من تلوين الخطاب يخاطب العين ويراد به الغير فيكون الخطاب لبني آدم والمراد آدم كقوله { وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مّنْ ءالِ فِرْعَوْنَ }{ فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ }{ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا } هو خطاب لمن كان بحضرة الرسول من بني إسرائيل والمراد أسلافهم . ومنه قول الشاعر : إذا افتخرت يوماً تميم بقوسها

وزادت على ما وطّدت من مناقب فأنتم بذي قارٍ أمالت سيوفكم عروش الذين استرهنوا قوس حاجب

وهذه الوقعة كانت لآبائهم وتقدّم تفسير { قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُواْ لاِدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ } في سورة البقرة فأغنى عن إعادته وقوله { لَمْ يَكُن مّنَ السَّاجِدِينَ } جملة لا موضع لها من الإعراب مؤكدة

لمعنى ما أخرجه الاستثناء من نفي سجود إبليس كقوله { أَبَى وَاسْتَكْبَرَ } بعد قوله { إِلاَّ إِبْلِيسَ } في البقرة .

١٢

قال ما منعك . . . . .

{قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ } الظاهر أنّ لا زائدة تفيد التوكيد والتحقيق كهي في قوله لئلا يعلم أي لأن يعلم وكأنه قيل ليتحقّق علم أهل الكتاب وما منعك أن تحقّق السجود وتلزمه نفسك إذ أمرتك ويدلّ على زيادتها قوله تعالى { مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ } وسقوطها في هذا دليل على زيادتها في { أَلاَّ تَسْجُدَ } والمعنى أنه وبّخه وقرّعه على امتناعه من السجود وإن كان تعالى عالماً بما منعه من السجود وما استفهامية تدلّ على التوبيخ كما قلنا وأنشدوا على زيادة لا قول الشاعر : أفعنك لا برق كأنّ وميضه

غاب تسقمه ضرام مثقب

وقول الآخر : أبي جوده لا البخل واستعجلت به

نعم من فتى لا يمنع الجود قائله

وأقول لا حجّة في البيت الأول إذ يحتمل أن لا تكون فيه لا زائدة لاحتمال أن تكون عاطفة وحذف المعطوف والتقدير أفعنك لا عن غيرك

وأما البيت الثاني فقال الزّجاج لا مفعولة والبخل بدل منها ، وقال أبو عمرو بنُ العلاء : الرواية فيه لا البخل بخفض اللام جعلها مضافة إلى البخل لأنّ لا قد ينطق بها ولا تكون للبخل انتهى . وقد خرّجته أنا تخريجاً آخر وهو أن ينتصب البخل على أنه مفعول من أجله ولا مفعولة ، وقال قوم : لا في أن لا تسجد ليست زائدة واختلفوا ، فقيل يقدّر محذوف يصحّ معه المعنى وهو ما منعك فأحوجك أن لا تسجد ،

وقيل يحمل قوله ما منعك يصحّ معه النفي ، فقيل معنى ما منعك من أمرك ومن قال لك أن لا تسجد .

{قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } هذا ليس بجواب مطابق للسؤال لكنه يتضمن الجواب إذ معناه منعني فضلي عليه لشرف عنصري على عنصره وهذا يقتضي عنده أنّ النار خير من الطين وإذا كان كذلك فالناشىء من الأفضل لا يسجد للمفضول ، قالوا : وذلك أنّ النار جسم مشرق علوي لطيف خفيف حار يابس مجاور لجواهر السّموات ملاصق لها ، والطين مظلم كثيف ثقيل بارد يابس بعيد عن مجاورة السموات ، والنار قويّة التأثير والفعل والطين ليس له إلا القبول والانفعال ، والفعل أشرف من الانفعال والنار مناسبة للحرارة الغريزيّة وهي مادة الحياة والطين ببرده ويبسه مناسب للموت وإذا تقرّر هذا فالمخلوق من الأفضل أفضل فلا يؤمر الأفضل بخدمة المفضول ألا ترى أنه لو أمر مثلاً مالك وأبو حنيفة بخدمة من هو دونهما في العلم لكان ذلك قبيحاً في العقل ثم قالوا أخطأ إبليس من حيث فضل النار على الطين وهما في درجة واحدة من حيث هما جماد مخلوق والطين أفضل من النار وجوه ، أحدها أنّ من جوهر الطين الرزانة والسكون والوقار والأناة والحلم والحياء والصبر وذلك هو

الداعي لآدم عليه السلام بعد السعادة التي سبقت له في التوبة والتواضع والتضرع فأورثه المغفرة والاجتباء والهداية ومن جوهر النار الخفة والطيش والحدّة والارتفاع والاضطراب وذلك هو الداعي لإبليس بعد الشقاوة التي سبقت إلى الاستكبار والإصرار فأورثه الهلاك واللعنة والعذاب قاله القفال ، ثم ذكروا وجوهاً عشرة يظهر بها فضل التراب على النار ثم قالوا : لا يدل من كانت مادته أفضل على أنه تكون صورته أفضل إذ الفضيلة عطية من اللّه تعالى ، ألا تراه يخرج الكافر من المؤمن والمؤمن من الكافر وأن الحبشيّ المؤمن خير من القرشيّ الكافر وإذا كانت المقدّمة غير مسلمة لم ينتج والمقدمتان أن تقول إبليس ناري المادة وكلّ ناريّ المادة أفضل من ترابي المادة فإبليس أفضل من ترابي المادة والمقدمة الثانية ممنوعة فلا تنتج .

وقال ابن عباس والحسن وابن سيرين أول من قاس إبليس ، قال ابن عباس فأخطأ فمن قاس الدين برأيه قرنه اللّه مع إبليس ، وقالا : وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس . وقال بعض العلماء : أخطأ قياسه وذهب علمه أنّ الرّوح الذي نفخ في آدم ليس من طين واستدلّ نفاة القياس على إبطاله بقصّه إبليس ولا حجّة فيها لأنه قياس في مورد النص فهو فاسد فلا يدلّ على بطلان القياس حيث لا نصّ واستدلّ بقوله { إِذْ أَمَرْتُكَ } على أنّ مطلق الأمر يدلّ على الوجوب ويدلّ على الفور لذمّ إبليس على امتناعه من السجود في الحال ولو لم يدلّ على الوجوب ولا على الفور لم يستوجب الذمّ في الحال ولا مطلقاً .

١٣

قال فاهبط منها . . . . .

{قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} لما كان امتناعه من السجود لسبب ظهور شفوقه على آدم عند نفسه قابلة اللّه بالهبوط المشعر بالنزول من علوّ إلى أسفل والضمير في منها لم يتقدّم له مفسر يعود عليه ، فقيل : يعود على الجنة وكان إبليس من سكانها ،

وقال ابن عباس : كانوا في جنة عدن لا في جنة الخلد وخلق آدم من جنة عدن ، و

قال ابن عطية : أهبط أولاً وأخرج من الجنة وصار في السماء لأنّ الأخبار تظافرت أنه أغوى آدم وحواء من خارج الجنة ثم أمر آخراً بالهبوط من السماء مع آدم وحواء والحية وهذا كله بحسب ألفاظ القصة واللّه أعلم انتهى ،

وقيل : يعود على السماء ،

قال الزمخشري : فاهبط منها من السماء التي هي مكان المطيعين المتواضعين من الملائكة إلى الأرض التي هي مقرّ العاصين المتكبرين من الثقلين ،

وقيل : يعود على الأرض فكأنه كان له ملكها أمره أن يهبط منها إلى جزائر البحار فسلطانه فيها فلا يدخل الأرض إلا كهيئة السارق يخاف فيها حتى يخرج منها وهذا يحتاج إلى صحة نقل ،

وقيل : يعود على صورته التي كان فيها لأنه افتخر أنه من النار فشوّهت صورته بالإظلام وزوال إشراقه قاله أبو روق ،

وقيل : عائد على المدينة التي كان فيها ذكره الكرماني ويحتاج إلى تصحيح نقل ،

وقيل يعود على المنزلة والرّتبة الشريفة التي كان فيها في محل الاصطفاء والتقريب إلى محل الطّرد والتعذيب ومعنى فما يكون لك لا يصح لك أو لا يتم أو لا ينبغي بل التكبّر منهيّ عنه في كل موضع ،

وقيل : هو على حذف معطوف دلّ عليه المعنى التقدير فيها ولا في غيرها ،

وقيل المعنى ما للمتكبر أن يكون فيها وكرّر معنى الهبوط بقوله فاخرج لأنّ الهبوط منها خروج ولكنه أخبر بصغاره وذلّته وهو أنه جزاء على تكبّره قوبل بالضدّ مما اتّصف به وهو الصغار هو ضدّ التكبر والتكبر تفعل منه لأنه خلق كبيراً عظيماً ولكنه هو الذي تعاطى الكبر ومن كلام عمر ومن تكبّر وعدا طوره رهصه اللّه إلى الأرض .

١٤

انظر تسفير الآية:١٥

١٥

قال أنظرني إلى . . . . .

{قَالَ أَنظِرْنِى إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ } هذا يدلّ على إقراره بالبعث وعلمه بأن آدم سيكون له ذرية ونسل يعمّرون الأرض ثم يموتون وإن منهم من ينظر فيكون طلبه الإنظار بأن يغويهم ويوسوس إليهم فالضمير في يبعثون عائد على ما دلّ عليه المعنى إذ ليس في اللفظ ما يعود عليه وحكمة استنظاره وإن كان ذلك سبب للغواية والفتنة إنّ في ذلك ابتلاء تالعباد بمخالفته وطواعيته وما يترتب على ذلك من إعظام الثّواب بالمخالفة وإدامة العقاب

بالطواعيّة وأجابه تعالى بأنه من المنظرين أي من المؤخرين ولم يأتِ هنا بغاية للانتظار وجاء مغياً في الحجر وفي ص بقوله { إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ } ويأتي تفسيره في الحجر إن شاء اللّه ، ومعنى من المنظرين من الطائفة التي تأخّرت أعمارها كثيراً حتى جاءت آجالها على اختلاف أوقاتها فقد شمل تلك الطائفة انظار وإن لم يكونوا أحياء مدة الدهر ،

وقيل من المنظرين جمع كثير مثل قوم يونس .

١٦

قال فبما أغويتني . . . . .

{قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِى لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ } الظاهر أن الباء للقسم وما مصدرية ولذلك تلقيت الالية بقوله : لأقعدن ،

قال الزمخشري وإنما أقسم بالإغواء لأنّه كان تكليفاً من أحسن أفعال اللّه لكونه تعريضاً لسعادة الأبد ، فكان جديراً أن يقسم به انتهى ،

وقيل : الباء للسبب أي بسبب إغوائك إياي وعبر ابن عطية عنها بأن يراد بها معنى المجازاة قال : كما تقول فبإكرامك لي يا زيد لأكرمنك قال وهذا أليق بالقصة ،

قال الزمخشري، { فإن قلت } : بم تعلقت الباء فإن تعليقها بلأقعدن تصد عنه لام القسم لا تقول واللّه بزيد لأمرن { قلت } تعلقت بفعل القسم المحذوف تقديره { فَبِمَا أَغْوَيْتَنِى } أقسم باللّه { لاقْعُدَنَّ } أي بسبب إغوائك أقسم انتهى ، وما ذكره من أن اللام تصدّ عن تعلّق الباء بلأقعدن ليس حكماً مجمعاً عليه بل في ذلك خلاف ،

وقيل : ما استفهامية كأنه استفهم عن السبب الذي أغواه وقال بأي شيء أغويتني ثم ابتدأه مقسماً فقال : لأقعدنّ لهم وضعف بإثبات الألف في ما الاستفهامية ، وذلك شاذّ أو ضرورة نحو قولهم عما تسأل فهذا شاذّ والضرورة كقوله :

على ما قام يشتني لئيم

ومعنى { أَغْوَيْتَنِى } أضللتني قاله ابن عباس والأكثرون أو لعنتني قاله الحسن أو أهلكتني قاله ابن الأنباري ، أو خيبتني قاله بعضهم ،

وقيل : أليقيتني غاوياً ،

وقيل : سميتني غاوياً لتكبّري عن السجود لمن أنا خير منه ،

وقيل : جعلتني في الغيّ وهو العذاب ،

وقيل : قضيت على من الأفعال الذّميمة ،

وقيل : أدخلت على داء الكبر ،

وقال الزمخشري : فبسبب إغوائك إياي لأقعدن لهم وهو تكليفه إياه ما وقع به في الغيّ كما ثبتت الملائكة مع كونهم أفضل منه ومن آدم نفساً ومناصب وعن الأصم أمرتني بالسجود فحملني الأنف على معصيتك والمعنى فبسبب وقوعي في الغيّ لأجتهدن في إغوائهم حتى يفسدوا بسببي كما فسدت بسببهم انتهى ، وهو والأصمّ فُسّرا على مذهب الاعتزال في نفي نسبة الإغواء حقيقة وهو الإضلال إلى اللّه وكذلك من فسر { أَغْوَيْتَنِى } معنى ألفيتني غاوياً وهو فرار من ذلك وقوله في الملائكة إنهم أفضل من آدم نفساً ومناصب هو مذهب المعتزلة ، وقال

محمد بن كعب القرظي : قاتل اللّه القدريّة لإبليس أعلم باللّه منهم يريد في أنه علم أن اللّه يهدي ويضلّ وجاء رجل من كبار الفقهاء يرمي بالقدر فجلس إلى طاووس في المسجد الحرام فقال له طاووس : تقوم أو تقام فقام الرّجل فقيل له : أتقول هذا الرجل فقيه ، فقال : إبليس أفقه منه قال : ربّ بما أغويتني ، وهذا يقول أنا أغوي نفسي وجعل الزمخشري هذه الحكاية من تكاذيب المجبرة وذكرها ثم قال كلاماً قبيحاً يوقف عليه في كتابه وعبر بالقعود عن الثبوت في المكان والثابت فيه قالوا : وانتصب صراطك على إسقاط على قاله الزجاج ، وشبه بقول العرب ضرب زيد الظهر والبطن أي على الظهر والبطن وإسقاط حرف الجرّ لا ينقاس في مثل هذا لا يقال قعدت الخشبة تريد قعدت على الخشبة قالوا أي على الظرف كما قال الشّاعر فيه ، كما عسل الطريق الثعلب ، وهذا أيضاً تخريج فيه ضعف لأنّ صراطك ظرف مكان مختص وكذلك الطريق فلا يتعدّى إليه الفعل إلا بواسطة في ، وما جاء خلاف ذلك شاذّ أو ضرورة وعلى الضرورة أنشدوا :

كما عسل الطريق الثعلب وما ذهب إليه أبو الحسين بن الذرّاوة من أنّ الصراط والطريق الطرف مبهم لا مختص ردّه عليه أهل العربية ، والأولى أن يُضمّن لأقعدنّ معنى ما يتعدّى بنفسه فينتصب الصّراط على أنه مفعول به والتقدير لألزمنّ بقعودي صراطك المستقيم وهذا الصّراط هو دين الإسلام وهو الموصل إلى الجنة ، ويضعف ما روي عن ابن مسعود وعون بن عبد اللّه أنه طريق مكة خصوصاً على العقبة المعروفة بعقبة الشيطان يضلّ الناس عن الحج ومعنى قعوده أنه يعترض لهم على طريق الإسلام كما يعترض العدو على الطريق ليقطعه على السابلة وفي

الحديث أن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه نهاه عن الإسلام وقال أتترك دين آبائك فعصاه وأسلم فنهاه عن الهجرة ، وقال : تدع أهلك وبلدك فعصاه فهاجر فنهاه عن الجهاد وقال : تقتل وتترك ولدك فعصاه فجاهد فله الجنة .

١٧

ثم لآتينهم من . . . . .

{ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} الظاهر أنّ إتيانه من هذه الجهات الأربع كناية عن وسوسته وإغوائه له والجدّ في إضلاله من كل وجه يمكن ولما كانت هذه الجهات يأتي منها العدوّ غالباً ذكرها لا أنه يأتي من الجهات الأربع حقيقة ،

وقال ابن عباس :{ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ الاْخِرَةَ } أشككهم فيها وأنه لا بعث { وَمِنْ خَلْفِهِمْ } الدّنيا أرغبهم فيها وزيّنها لهم وعنه أيضاً وعن النخعي والحكم بن عتبة عكس هذا ، وعنه و { عَنْ أَيْمَانِهِمْ } الحقّ وعن { شَمَائِلِهِمْ } الباطل وعنه أيضاً : و { عَنْ أَيْمَانِهِمْ } الحسنات وعن { شَمَائِلِهِمْ } السيئات ، وقال مجاهد : الأوّلان حيث ينصرون والآخران حيث لا ينصرون ، وقال أبو صالح الأوّلان الحقّ والباطل والآخران الآخرة والدنيا ،

وقيل : الأولان بفسحة الأمل وبنسيان الأجل والآخران فيما تيسر وفيما تعسر ،

وقيل الأولان فيما بقي من أعمارهم فلا يطيعون وفيما مضى منها فلا يندمون على معصية والآخران فيما ملكته أيمانهم فلا ينفقونه في معروف ومن قبل فقرهم فلا يمتنعون عن محظور ، وقال أبو عبد اللّه الرازي حاكياً عن من سماه هو حكماء الإسلام من بين أيديهم القوة الخياليّة وهي تجمع مثل المحسوسات وصورها وهي موضوعة في البطن المقدّم من الدماغ ومن خلفهم القوة الوهميّة وهي تحكم في غير المحسوسات بالأحكام المناسبة للمحسوسات وهي موضوعة في البطن المؤخر من الدماغ وعن أيمانهم قوة الشهوة وهي موضوعة في البطن الأيمن من القلب وعن شمائلهم قوة الغضب وهي موضوعة في البطن الأيسر من القلب فهذه القوى الأربعة هي التي يتولد عنها أحوال توجب زوال السعادة الروحانية والشياطين الخارجة ما لم تشعر بشيء من هذه القوى الأربع لم تقدر على إلقاء الوسوسة فهذا هو السبب في تعيين هذه الجهات الأربع وهو وجه تحقيق انتهى ، وهو بعيد من مناحي كلام العرب والمتشرّعين قال : وعلى هذا لم يحتج إلى ذكر العلوّ والسّفل لأن هاتين الجهتين ليستا بمقرّ شيء من القوى المفسدة لمصالح السعادة الروحانية انتهى ،

وقال ابن عباس : لم يقل من فوقهم لأن رحمة اللّه تنزل عليهم من فوقهم ولم يقل من تحتهم لأن الإتيان من تحتهم فيه توحش ،

وقال الزمخشري: { فإن قلت } : كيف قيل { مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ } ومن خلفهم بحرف الابتداء و { عَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ } بحرف المجاوزة ، { قلت } : المفعول فيه عدى إليه الفعل تعديته إلى المفعول به كما اختلفت حروف التعدية في ذلك اختلفت في هذا وكانت لغة تؤخذ ولا تقاس وإنما يفتش عن صحة موقعها فقط فلما سمعناهم يقولون : جلس عن يمينه وعلى يمينه وعن شماله وعلى شماله قلنا معنى على يمينه أنه يمكن من جهة اليمين تمكن المستعلى من المستعلي عليه ومعنى عن يمينه أنه جلس متجافياً عن صاحب اليمين منحرفاً عنه غير

ملاصق له ثم كثر حتى استعمل في المتجافي وغيره كما ذكرنا في فعال ونحوه من المفعول به قولهم رميت عن القوس وعلى القوس ومن القوس لأنّ السّهم يبعد عنها ويستعليها إذا وضع على كبدها للرمي ويبتدىء الرمي منها فكذلك قالوا : جلس بين يديه وخلفه بمعنى في لأنهما ظرفان للفعل ومن بين يديه ومن خلفه لأن الفعل يقع في بعض الجهتين كما تقول جئته من الليل تريد بعض الليل انتهى ، وهو كلام لا بأس به ، وأقول إنما خصّ بين الأيدي والخلف بحرف الابتداء الذي هو أمكن في الإتيان لأنهما أغلب ما يجيء العدو وبسالته في مواجهة قرنه غير خائف منه والخلف من جهة غدر ومخاتلة وجهالة القرن بمن يغتاله ويتطلب غرّته وغفلته وخصّ الأيمان والشمائل الحرف الذي يدل على المجاوزة لأنهما ليستا بأغلب ما يأتي منهما العدوّ وإنما يتجاوز إتيانه إلى الجهة التي هي أغلب في ذلك وقدمت الأيمان على الشمائل لأنها الجهة التي هي القوية في ملاقاة العدوّ ، وبالأيمان البطش والدفع فالقرن الذي يأتي من جهتها أبسل وأشجع إذ جاء من الجهة التي هي أقوى في الدفع والشمائل جهة ليست في القوة والدفع كالأيمان ،

وقال ابن عباس شاكرين موحدين وعنه وعن غيره مؤمنين لأنّ ابن آدم لا يشكر نعمة اللّه إلا بأن يؤمن ، وقال مقاتل شاكرين لنعمتك ، وقال الحسن : ثابتين على طاعتك ولا يشكرك إلا القليل منهم وهذه الجملة المنفية يحتمل أن تكون داخلة في خبر القسم معطوفة على جوابه ويحتمل أن تكون استئناف إخبار لي مقسماً عليه أخبر أنّ سعايته وإتيانه إيّاهم من جميع الوجوه يفعل ذلك وهل هذا الإخبار منه كان على سبيل التظني لقوله { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ } أو على سبيل العلم قولان وسبيل العلم إما رؤيته ذلك في اللوح المحفوظ أو استفادته من قوله { وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ الشَّكُورُ } أو من الملائكة بإخبار اللّه لهم أو بقولهم { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا } أو بإغواء آدم وذريته أضعف منه أو يكون قوى ابن آدم تسعة عشر قوة وهي خمس حواس ظاهرة وخمس باطنة والشهوة والغضب ، وسبع سابقة وهي الجاذبة والممسكة والهاضمة والدّافعة والقاذفة والنامية والمولدة وكلها تدعو إلى عالم الجسم إلى اللذات البدنية ، والعقل قوة واحدة تدعو إلى عبادة اللّه وتلك في أول الخلق والعقل إذ ذاك ضعيف أقوال ستة .

١٨

قال اخرج منها . . . . .

{قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا } الجمهور على أنّ الضمير عائد على الجنة والخلاف فيه كالخلاف في { فَاهْبِطْ مِنْهَا } وهذه ثلاث أوامر أمر بالهبوط مطلقاً ، وأمر بالخروج مخبراً أنه ذو صغار ، وأمر بالخروج مقيداً بالذمّ والطرد ، وقال قتادة :{ مذؤوماً } لعيناً ، وقال الكلبي : ملوماً ، وقال مجاهد : منفيّاً ،

وقيل : ممقوتاً و { مَذْمُومًا مَّدْحُورًا } مبعداً من رحمة اللّهأو من الخير أو من الجنة أو من التوفيق أو من خواصّ المؤمنين أقوال متقاربة ،

وقرأ الزهري وأبو جعفر والأعمش : مذوماً بضم الذال من غير همز فتحتمل هذه القراءة وجهين أحدهما ، وهو الأظهر ، أن تكون من ذأم المهموز سهل الهمزة وحذفها وألقى حركتها على الذّال والثاني أن يكون من ذام غير المهموز يذيم كباع يبيع فأبدل الواو بياء كما قالوا في مكيل مكول ، وانتصب { مَّدْحُورًا } على أنه حال ثانية على من جوّز ذلك أو حال من الضمير في مذؤوماً أو صفة لقوله { مذؤوماً}

{مَّدْحُورًا لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لامْلانَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ } قرأ الجمهور { لِمَنْ } بفتح اللام الابتداء ومن موصولة { ولأملأنّ } جواب قسم محذوف بعد من تبعك وذلك القسم المحذوف وجوابه في موضع خبر من الموصولة ،

وقرأ الجحدري وعصمة عن أبي بكر عن عاصم لمن تبعك منهم بكسر اللام واختلفوا في تخريجها ، ف

قال ابن عطية : المعنى لأجل من تبعك منهم { رَبّكَ لاَمْلاَنَّ } انتهى ، فظاهر

هذا التقدير أنّ اللام تتعلق بلأملأن ويمتنع ذلك على قول الجمهور أن ما بعد لام القسم لا يعمل فيما قبله ،

وقال الزمخشري بمعنى لمن تبعك منهم الوعيد وهو قوله { لامْلانَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ } على أنّ{ لاَمْلاَنَّ } في محل الابتداء ولمن تبعك خبره انتهى فإن أراد ظاهر كلامه فهو خطأ على مذهب البصريين لأنّ قوله { لاَمْلاَنَّ } جملة هي جواب قسم محذوف فمن حيث كونها جملة فقط لا يجوز أن تكون مبتدأة ومن حيث كونها جواباً للقسم يمتنع أيضاً لأنها إذ ذاك من هذه الحيثية لا موضع لها من الإعراب ومن حيث كونها مبتدأة لها موضع من الإعراب ولا يجوز أن تكون الجملة لها موضع ولا موضع لها بحال لأنه يلزم أن تكون في موضع رفع لا في موضع رفع داخلاً عليها عامل غير داخل وذلك لا يتصور ، وقال أبو الفضل عبد الرحمن بن أحمد بن الحسن الرازي : اللام متعلقة من الذأم والدّحر ومعناه أخرج بهاتين الصفتين لأجل أتباعك ذكر ذلك في كتاب اللوامح في شواذ القراءات ومعنى { مّنكُمْ } منك وممن تبعك فغلب الخطاب على الغيبة كما تقول أنت وإخوتك أكرمكم .

١٩

ويا آدم اسكن . . . . .

{وَيَئَادَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَاذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} أي وقلنا يا آدم وتقدّم تفسير هذه الآية في البقرة . إلا أن هنا فكلا من حيث شئتما وفي البقرة وكلا منها رغداً حيث شئتما ، قالوا : وجاءت على أحد محاملها وهو أن يكون الثاني بعد الأول وحذف رغداً هنا على سبيل الاختصار وأثبت هناك لأنّ تلك مدنية وهذه مكية فوُفّي المعنى هناك باللفظ .

٢٠

فوسوس لهما الشيطان . . . . .

{فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَاذِهِ الشَّجَرَةِ إِلا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ } أي فعل الوسوسة لأجلهما

وأما قوله { فَوَسْوَسَ } إليه فمعناه ألقى الوسوسة إليه ، قال الحسن : وصلت وسوسته لهما في الجنة وهو في الأرض بالقوة التي خلقها اللّه له ،

قال ابن عطية : وهذا قول ضعيف يردّه لفظ القرآن ،

وقيل : كان في السماء وكانا يخرجان إليه ،

وقيل : من باب الجنة وهما بها ،

وقيل : كان يدخل إليهما في فم الحية ، وقال الكرماني : ألهمهما ، وقال ابن القشيري : أورد عليهما الخواطر المزيّنة وهذان القولان يخالفان ظاهر القرآن لأن ظاهره يدلّ على قول ومحاورة وقسم والظاهر أنّ اللام لام كي قصد إبداء سوءاتهما وتنحطّ مرتبتهما بذلك ويسوءهما بكشف ما ينبغي ستره ولا يجتنبان نهى اللّه فيكونن هو وهما سواء في المخالفة هو أمر بالسجود فأبى ، وهما نهيا فلم ينتهيا ، وقال قوم : إنها لام الصيرورة لأنه لم يكن له علم بهذه العقوبة المخصوصة فيقصدها ،

قال الزمخشري : وفيه دليل على أنّ كشف العورة من عظائم الأمور وأنه لم يزل مستهجناً في الطّباع مستقبحاً في العقول انتهى ، وهو على مذهبه الاعتزالي في أنّ العقل يقبح ويحسن ، والظاهر أنه يراد مدلول سوآتهما نفسهما وهما الفرْج والدّبر قيل : وكانا لا يريانهما قبل أكل الشجرة فلما أكلا بدتا لهما ،

وقيل : لم يكن كل واحد يرى سوأة صاحبه ، وقال قتادة كنى سوءاتهما عن جميع بدنهما وذكر السوأة لأنها أقبح ما يظهر من بني آدم ،

وقرأ الجمهور { وُورِيَ } ،

وقرأ عبد اللّه أوري بإبدال الواو همزة وهو بدل جائز ،

وقرأ ابن وثاب ما وري بواو مضمومة من غير واو بعدها على وزن كسى ،

وقرأ مجاهد والحسن من سوّتهما بالإفراد وتسهيل الهمزة بإبدالها واواً وإدغام الواو فيها ،

وقرأ الحسن أيضاً وأبو جعفر بن القعقاع وشيبة بن نصّاح من سوّاتهما بتسيهل الهمزة وتشديد الواو ، وقرىء من سواتهما بواو واحدة وحذف الهمزة ووجهه أنه حذفها وألقى حركتها على الواو فمن قرأ بالجمع فهو من وضع الجمع موضع التثنية كراهة اجتماع مثلين ومن قرأ بالإفراد فمن وضعه موضع التثنية ويحتمل أن يكون الجمع على أصل وضعه باعتبار أنّ كل عورة هي الدّبر والفرْج وذلك أربعة : فهي جمع وإلا أن تكونا ملكين استثناء مفرّغ من المفعول من أجله أي ما نهاكما ربّكما لشيء

إلا كراهة أن تكونا ملكين ويقدره الكوفيّون إلا أن تكونا وإضمار الاسم وهو كراهة أحسن من إضمار الحرف وهو لا ،

وقال الزمخشري : وفيه دليل على أنّ الملائكة بالمنظر الأعلى وأن البشريّة تلمح مرتبتها انتهى . وقال ابن فورك : لا حجة في هذه الآية على أنّ الملائكة أفضل من البشر لأنه يحتمل أن يريد ملكين في أن لا يكون لهما شهوة في طعام انتهى ،

وقرأ ابن عباس والحسن بن علي والضحّاك ويحيى بن كثير والزهري وابن حكيم عن ابن كثير ملكين بكسر اللام ، ويدلّ لهذه القراءة { هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَى } ومن الخالدين من الذين لا يموتون ويبقون في الجنة ساكنين .

٢١

وقاسمهما إني لكما . . . . .

{وَقَاسَمَهُمَا إِنّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ } لم يكتف إبليس بالوسوسة وهو الإلقاء في خفية سرًّا ولا بالقول حتى أقسم على أنه ناصح لهما والمقاسمة مفاعلة تقتضي المشاركة في الفعل فتقسم لصاحبك ويقسم لك تقول قاسمت فلاناً خالفته وتقاسما تحالفاً

وأما هنا فمعنى وقاسمهما أقسم لهما لأنّ اليمين لم يشاركاه فيها . وهو كقول الشاعر : وقاسمهما باللّه جهداً لأنتم

ألذّ من السّلوى إذا ما نشورها

وفاعل قد يأتي بمعنى أفعل نحو باعدت الشيء وأبعدته ، وقال ابن عطية وقاسمهما أي حلف لهما وهي مفاعلة إذ قبول المحلوف له وإقباله على معنى اليمين كالقسم وتقريره وإن كان بادي الرأي يعني أنها من واحد ،

وقال الزمخشري : كأنه قال لهما أقسم لكما أني لمن الناصحين وقالا له أتقسم باللّه إنك لمن الناصحين ، فجعل ذلك مقاسمة بينهم أو أقسم لهما بالنصيحة وأقسما له بقبولها أو أخرج قسم إبليس على وزن المفاعلة لأنه اجتهد فيها اجتهاد المقاسم انتهى ، وقرىء وقاسمهما باللّه و { لَّكُمَا } متعلّق بمحذوف تقديره ناصح لكما أو أعني أو بالناصحين على أنّ أل موصولة وتسومح في الظرف والمجرور ما لا يتسامح في غيرهما أو على أنّ أل لتعريف الجنس لا موصولة أوجه مقولة .

٢٢

فدلاهما بغرور فلما . . . . .

{فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ } أي استنزلهما إلى الأكل من الشجرة بغروره أي بخداعه إياهما وإظهار النّصح وإبطان الغش وإطماعهما أن يكونا ملكين أو خالدين وبإقسامه أنه ناصح لهما جعل من يغترّ بالكلام حتى يصدق فيقع في مصيبة بالذي يدلي من علو إلى أسفل بحبل ضعيف فينقطع به فيهلك ، وقال الأزهري : لهذه الكلمة أصلان أحدهما أنّ الرجل يدلي دلوه في البئر ليأخذ المائ فلا يجد فيها ماء ، وضعت التدلية موضع الطمع فيما لا فائدة فيه فيقال : دلاّه أي أطمعه الثاني جرأهما على أكل الشجرة والأصل فيه دللّهما من الدّال والدّلالة وهما الجراءة انتهى ، فأبدل من المضاعف الأخير حرف علة ، كما قالوا : تظنيت وأصله تظننت ومن كلام بعض العلماء : خدع الشيطان آدم فانخدع ونحن من خدعنا باللّه عزّ وجل انخدعنا له وروى نحوه عن قتادة وعن ابن عمر .{ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا } أي وجدا طعمها آكلين منها كما قال تعالى فأكلا منها وتطايرت عنهما ملابس الجنة فظهرت لهما عوراتهما وتقدّم أنهما كانا قبل ذلك لا يريانها من أنفسهما ولا أحدهما من الآخر ،

وقال ابن عباس وقتادة وابن جبير : كان عليهما ظفر كاس فلما أكلا تبلس عنهما فبدت

سوءاتهما وبقي منه على الأصابع قدر ما يتذكران به المخالفة فيجددان النّدم ، وقال وهب بن منبه : كان عليهما نور يسترة عورة كلّ واحد منهما فانقشع بالأكل ذلك النور

وقيل كان عليهما نور فنقص وتجسّد منه شيء في أظفار اليدين والرجلين تذكرة لهما ليستغفروا في كلّ وقت وأبناؤهما بعدهما كما جرى لأويس القرني حين أذهب اللّه عنه البرص إلا لمعة أبقاها ليتذكر نعمه فيشكر . وقال قوم : لم يقصد بالسوأة العورة والمعنى انكشف لهما معايشهما وما يسؤهما وهذا القول ينبو عنه دلالة اللفظ ويخالف قول الجمهور ،

وقيل : أكلت حواء أوّل فلم يصبها شيء ثم آدم فكان البدو .

{سَوْءتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ } أي جعلا يلصقان ورقة على ورقة ويلصقانهما بعدما كانت كساهما حلل الجنة ظلا يستتران بالورق كما قيل :للّه درّهم من فتية بكروا

مثل الملوك وراحوا كالمساكين

والأولى أن يعود الضمير في { عَلَيْهِمَا } على عورتيهما كأنه قيل { يَخْصِفَانِ } على سوآتهما من ورق الجنة ، وعاد بضمير الاثنين لأن الجمع يراد به اثنان ولا يجوز أن يعود الضمير على آدم وحواء لأنه تقرر في علم العربية أنه لا يتعدى فعل الظاهر والمضمر المتصل إلى المضمر المتصل المنصوب لفظاً أو محلاًّ في غير باب ظنّ وفقد وعلم ووجد لا يجوز زيد ضربه ولا ضربه زيد ولا زيد مر به زيد فلو جعلنا الضمير في { عَلَيْهِمَا } عائداً على آدم وحواء للزم من ذلك تعدّى يخصف إلى الضمير المنصوب محلاً وقد رفع الضمير المتصل وهو الألف في يخصفان فإن أخذ ذلك على حذف مضاف مراد جاز ذلك وتقديره يخصفان على بدنيهما ، قال ابن عباس : الورق الذي خصفا منه ورق الزيتون ،

وقيل : ورق شجر التين ،

وقيل : ورق الموز ولم يثبت تعيينها لا في القرآن ولا في حديث صحيح ،

وقرأ أبو السّمال { وَطَفِقَا } بفتح الفاء ،

وقرأ الزهري { يَخْصِفَانِ } من أخصف فيحتمل أن يكون أفعل بمعنى فعل ويحتمل أن تكون الهمزة للتعدية من خصف أي يخصفان أنفسهما ،

وقرأ الحسن والأعرج ومجاهد وابن وثاب { يَخْصِفَانِ } بفتح الياء وكسر الخاء والصاد وشدّها ،

وقرأ الحسن فيما روى عنه محبوب كذلك إلا أنه فتح الخاء ، ورويت عن ابن بريدة وعن يعقوب ، وقرىء { يَخْصِفَانِ } بالتشديد من خصف على وزن فعل ،

وقرأ عبد اللّه بن يزيد يخصفان بضمّ الياء والخاء وتشديد الصاد وكسرها وتقرير هذه القراآت في علم العربية .

{وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ } لما كان وقت النداء شرّف بالتصريح باسمه في النداء فقيل ويا آدم اسكن وحين كان وقت العتاب أخبر أنه ناداه ولم يصرّح باسمه والظاهر أنه تعالى كلمهما بلا واسطة ويدلّ على أن اللّه كلم آدم ما في تاريخ ابن أبي خيثمة أنه عليه السلام سئل عن آدم فقال : نبيّ مكلم ، وقال الجمهور : إنّ النداء كان بواسطة الوحي ويؤيده أنّ موسى عليه السلام هو الذي خصّ من بين العالم بالكلام وفي حديث الشفاعة أنهم يقولون له أنت الذي خصّك اللّه بكلامه وقد يقال : إنه خصه بكلامه وهو في الأرض

وأما آدم فكان ذلك له في الجنة وقد تقدّم لنا في قوله منهم من كلم اللّه إنّ منهم محمداً كلّمه اللّه ليلة الإسراء ولم يكلمه في الأرض فيكون موسى مختصّاً بكلامه في الأرض ،

وقيل : النداء لآدم على الحقيقة ولم يرو قط أنّ اللّه كلم حواء والنداء هو دعاء الشّخص باسمه العلم أو بنوعه أو بوصفه ولم يصرّح هنا بشيء من ذلك والجملة معمولة لقول محذوف أي قائلاً : ألم أنهكما وهو استفهام معناه العتاب على ما صدر منهما والتنبيه على موضع الغفلة في قوله { تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَلاَ تَقْرَبَا هَاذِهِ الشَّجَرَةَ } إشارة لطيفة حيث كان مباحاً له الأكل قاراً ساكناً أشير

إلى الشجرة باللفظ الدّال على القرب والتمكّن من الأشجار فقيل : { وَلاَ تَقْرَبَا هَاذِهِ الشَّجَرَةَ } وحيث كان تعاطى مخالفة النهي وقرب إخراجه من الجنة واضطراب حاله فيها وفرّ على وجهه فيها قيل : ألم أنهكما عن تلكما فأشير إلى الشجرة باللفظ الدّال على البعد والإنذار بالخروج منها { وَأَقُل لَّكُمَا } إشارة إلى قوله تعالى :{ فَقُلْنَا يائَادَمُ أَن لاَّ هَاذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى } وهذا هو العهد الذي نسيه آدم على مذهب من يحمل النسيان على بابه قال ابن عباس بين العداوة حيث أبي السّجود وقال {} قال ابن عباس بين العداوة حيث أبي السّجود وقال { لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ } روى أنه تعالى قال لآدم : ألم يكن لك فيما منحتك من شجر الجنة مندوحة عن هذه الشجرة فقال بلى وعزّتك ولكن ما ظننت أن أحداً من خلقك يحلف كاذباً قال فوعزّتي لأهبطنّك إلى الأرض ثم لا تنال إلا كدّاً فاهبط وعلم صنعة الحديد وأمر بالحرث فحرث وسقى وحصد ودرس وذرّى وعجن وخبز ،

وقرأ أبيّ ألم تنهيا عن تلكما الشجرة

وقيل لكما .

٢٣

قالا ربنا ظلمنا . . . . .

{قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ }

قال الزمخشري وسمّيا ذنبهما وإن كان صغيراً مغفوراً ظلماً وقالا { لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } على عادة الأولياء والصالحين في استعظامهم الصغير من السيئات ، وقال ابن عطية اعتراف من آدم وحوّاء عليهما السلام وطلب للتوبة والسّتر والتغمّد بالرّحمة فطلب آدم هذا وطلب إبليس النظرة ولم يطلب التوبة فوكل إلى رأيه ، قال الضحاك : هذه الآية هي الكلمات التي تلقى آدم من ربه ،

وقيل : سعد آدم بخمسة أشياء اعترف بالمخالفة وندم عليها ، ولام نفسه وسارع إلى التوبة ولم يقنط من الرحمة ، وشقي إبليس بخمسة أشياء لم يقرّ بالذنب ، ولم يندم ، ولم يسلم نفسه بل أضاف إلى ربّه الغواية ، وقنط من الرحمة ، و { لَنَكُونَنَّ } جواب قسم محذوف قبل { ءانٍ } كقوله و { إِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ } التقدير واللّه إن لم يغفر لنا وأكثر ما تأتي إنّ هذه ولام التوطئة قبلها كقوله { لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ } ثم قال : لنغرينّك بهم .

٢٤

قال اهبطوا بعضكم . . . . .

{قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِى الاْرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ } تقدّم تفسير هذا في البقرة .

٢٥

قال فيها تحيون . . . . .

{قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} هذا كالتفسير لقوله { وَلَكُمْ فِى الارْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ } أي بالحياة إلى حين الموت ولذلك جاء قال بغير واو العطف إذ الأكثر في لسان العرب إذا لم تكن الجملة تفسيرية أو كالتفسيرية أن تعطف على الجملة قبلها فتقول قال فلان كذا ، وقال كذا وتقول زيد قائم وعمرو قاعد ويقل في كلامهم قال فلان كذا قال كذا وكذلك يقل زيد قائم عمرو قاعد وهنا جاء { قَالَ اهْبِطُواْ } الآية { قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ } لما كانت كالتفسير لما قبلها وتمم هنا المقصود بالتنبيه علي البعث والنشور بقوله { وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ } أي إلى المجازاة بالثواب والعقاب وهذا كقوله { مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى}

وقرأ الأخوان وابن ذكوان تخرجون مبنياً للفاعل هنا وعن ابن ذكوان في أوّل الروم خلاف ،

وقرأ باقي السّبعة مبنياً للمفعول .

٢٦

يا بني آدم . . . . .

{يَابَنِى آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوارِى سَوْءتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذالِكَ خَيْرٌ ذالِكَ مِنْ آيَاتِ اللّه لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } مناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه تعالى لما ذكر قصة آدم وفيها ستر السوءات وجعل له في الأرض مستقرّاً ومتاعاً ذكر ما امتنّ به على بنيه وما أنعم به عليهم من اللّباس الذي يواري السوءآت والرّياش الذي يمكن به استقرارهم في الأرض واستمتاعهم بما خولهم ، وقال مجاهد : نزلت هذه الآية والثلاث بعدها فيمن كان من العرب يتعرى في طوافه بالبيت وذكر النقاش أنها كانت عادة ثقيف وخزاعة وبني عامر بن صعصعة وبني مدلج والحرث وعامر ابني عبد مناة نسائهم ورجالهم وأنزلنا قيل على حقيقته من الانحطاط من علو إلى سفل فأنزل مع آدم وحواء شيئاً من اللباس مثالاً لغيره ثم توسع بنوهما في الصّنعة استنباطاً من ذلك المثال أو أنزل من السماء أصل كل شيء عند إهباطهما أو أنزل معه الحديد فاتخذ منه آلات الصنائع أو أنزل الملك فعلم آدم النسج أربعة أقوال ،

وقيل : الإنزال مجاز من إطلاق السّبب على مسببه فأنزل المطر وهو سبب ما يتهيأ منه اللباس أو بمعنى خلق كقوله { وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ الاْنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْواجٍ}

أو بمعنى الهم ،

وقال الزمخشري جعل ما في الأرض منزلاً من السماء لأنه قضى ثم وكتب ومنه وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج ، و

قال ابن عطية : أنزلنا يحتمل أن يريد بالتدريج أي لما أنزل المطر فكان عنه جميع ما يلبس قال عن اللباس { أَنزَلْنَا } وهذا نحو قول الشاعر يصف مطراً : أقبل في المشين من سحابة

أسنمة الآبال في ربابه

أي بالمال ويحتمل أن يريد خلقنا فجاءت العبارة بأنزلنا كقوله { وَأَنزْلْنَا الْحَدِيدَ } وقوله { وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ الاْنْعَامِ } وأيضاً فخلق اللّه وأفعاله إنما هي من علو في القدر والمنزلة انتهى واللباس يعم جميع ما يلبس ويستر والرّيش عبارة عن سعة الرزق ورفاهية العيش ووجود اللبس والتمتع وأكثر أهل اللغة على أنّ الريش ما يستر من لباس أو معيشة ، وقال قوم : الإناث ،

وقال ابن عباس والسدّي ومجاهد : المال ، وقال ابن زيد : الجمال ،

وقال الزمخشري : لباس الزينة استعير من ريش الطائر لأنه لباسه وزينته أي أنزلنا عليكم لباسين لباساً يواري سوءاتكم ولباساً يزيّنكم لأنّ الزينة غرض صحيح كما

قال تعالى :{ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ } انتهى . وعطف { الريش } على { الَّيْلَ لِبَاساً } يقتضي المغايرة وأنه قسيم للباس لا قسم منه ،

وقرأ عثمان وابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة والسلمي وعلي بن الحسين وابنه زيد وأبو رجاء وزر بن حبيش وعاصم في رواية وأبو عمرو في رواية ورياشا ، فقيل : هما مصدران بمعنى واحد راشه اللّه يريشه ريشاً ورياشاً أنعم عليه ،

وقال الزمخشري : جمع ريش كشعب وشعاب ، وقال الزّجاج : هما اللباس ، وقال الفرّاء : هما ما يستر من ثياب ومال كما يقال لبس ولباس ، وقال معبد الجهني : الرياش المعاش ، وقال ابن الأعرابي : الريش الأكل والشرب والرياش المال المستفاد ،

وقيل : الريش ما بطن والرياش ما ظهر ،

وقرأ الصاحبان والكسائي :{ وَلِبَاسُ التَّقْوَى } بالنصب عطفاً على المنصوب قبله ،

وقرأ باقي السّبعة بالرفع ، فقيل هو على إضمار مبتدأ محذوف أي وهو لباس التقوى قاله الزّجاج { وَذَلِكَ خَيْرٌ } على هذا مبتدأ وخبر وأجاز أبو البقاء أن يكون { وَلِبَاسُ } مبتدأ وخبره محذوف تقديره ولباس التّقوى ساتر عوراتكم ، وهذا ليس بشيء والظاهر أنه مبتدأ ثانٍ{ وَخَيْرٌ } والجملة خبر عن { وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى } والرابط اسم الإشارة وهو أحد الروابط الخمس المتفق عليها في ربط الجملة الواقعة خبراً للمبتدأ إذا لم يكن إياه ،

وقيل : ذلك بدل من لباس ،

وقيل : عطف بيان ،

وقيل : صفة وخبر { وَلِبَاسُ } هو { خَيْرٌ } ، وقال الحوفي : وأنا أرى أن لا يكون ذلك نعتاً للباس التقوى لأنّ الأسماء المبهمة أعرف مما فيه الألف واللام وما أضيف إلى الألف واللام وسبيل النعت أن يكون مساوياً للمنعوت أو أقلّ منه تعريفاً فإن كان قد تقدّم قول أحدٍ به فهو سهو وأجاز الحوفي أن يكون ذلك فصلاً لا موضع له من الإعراب ويكون { خَيْرٌ } خبراً لقوله { وَلِبَاسُ التَّقْوَى } فجعل اسم الإشارة فصلاً كالمضمر ولا أعلم أحداً قال بهذا

وأما قوله فإن كان قد تقدّم قول أحد به فهو سهو فقد ذكره ابن عطية وقال : هو أنبل الأقوال ذكره أبو علي في الحجة انتهى ؛ وأجازه أيضاً أبو البقاء وما ذكره الحوفي هو الصواب على أشهر الأقوال في ترتيب المعارف ،

وقرأ عبد اللّه وأبيّ ولباس التقوى خير

بإسقاط ذلك فهو مبتدأ وخبر والظاهر حمله على اللباس حقيقة ، فقال ابن زيد هو ستر العورة وهذا فيه تكرار لأنه قد قال { لِبَاسًا يُوارِى سَوْءتِكُمْ } ، وقال زيد بن علي : الدّرع والمغفر والساعدان لأنه يتقي بها في الحرب .

وقيل : الصّوف ولبس الخشن ، وروي اخشوشنوا وكلوا الطعام الخشن ،

وقيل ما يقي من الحرّ والبرد ، وقال عثمان بن عطاء : لباس المتقين في الآخرة ،

وقيل لباس التقوى مجاز ،

وقال ابن عباس : العمل الصالح ، وقال أيضاً : العفة ، وقال عثمان بن عفّان وابن عباس أيضاً : السّمت الحسن في الوجه ، وقال معبد الجهني : الحياء ، وقال الحسن : الورع والسّمت الحسن ، وقال عروة بن الزبير : خشية اللّه ، وقال ابن جريج : الإيمان ،

وقيل ما يظهر من السكينة والإخبات ، وقال يحيى بن يحيى : الخشوع والأحسن أن يجعل عاماً فكلّ ما يحصل به الاتقاء المشروع فهو من لباس التقوى والإشارة بقوله ذلك من آيات اللّه إلى ما تقدّم من إنزال اللباس والرّياش ولباس التقوى والمعنى من آيات اللّه الدالّة على فضله ورحمته على عباده ،

وقيل : من موجب آيات اللّه ،

وقيل : الإشارة إلى { لِبَاسَ التَّقْوَى } أي هو في العبر آية أي علامة وأمارة من اللّه أنه قد رضي عنه ورحمه لعلهم يذكرون هذه النعم فيشكرون اللّه عليها .

٢٧

يا بني آدم . . . . .

{يَابَنِى آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءتِهِمَا} أي لا يستهوينّكم ويغلب عليكم وهو نهي للشيطان والمعنى نهيهم أنفسهم عن الإصغاء إليه والطواعية لأمره كما قالوا لا أرينك هنا ومعناه النهي عن الإقامة بحيث يراه ، وكما في موضع نصب أي فتنة مثل فتنة إخراج أبويكم ويجوز أن يكون المعنى لا يخرجنّكم عن الدين بفتنته إخراجاً مثل إخراجه أبويكم ،

وقرأ يحيى وإبراهيم :{ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ } بضمّ الياء من أفتن ،

وقرأ زيد بن علي : لا يفتنكم بغير نون توكيد والظاهر أنّ لباسهما هو الذي كان عليهما في الجنة ، وقال مجاهد هو لباس التقوى { وسوءاتهما } هو ما يسوءهما من المعصية وينزع حال من الضمير في { كَمَا أَخْرَجَ } أو من { أَبَوَيْكُم } لأنّ الجملة فيها ضمير الشيطان وضمير الأبوين فلو كان بدل ينزع نازعاً تعين الأول لأنه إذ ذاك لوجوز الثاني لكان وصفاً جرى على غير من هوله فكان يجب إبراز الضمير وذلك على مذهب البصريين وينزع حكاية أمر قد وقع لأنّ نزع اللباس عنهما كان قبل الإخراج ونسب النزع إلى الشيطان لما كان متسبباً فيه .{ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ } أي إنّ الشيطان وهو إبليس يبصركم هو وجنوده ونوعه وذريته من الجهة التي لا تبصرونه منها وهم أجسام لطيفة معلوم من هذه الشريعة وجودهم ، كما أنّ الملائكة أيضاً معلوم وجودهم من هذه

الشريعة ولا يستنكر وجود أجسام لطيفة جدّاً لا نراها نحن ألا ترى أنّ الهواء جسم لطيف لا ندركه نحن وقد قام البرهان العقلي القاطع على وجوده وقد صحّ تصورهم في الأجسام الكثيفة ورؤية بني آدم لهم في تلك الأجسام كالشيطان الذي رآه أبو هريرة حين جعل يحفظ تمرّ الصدقة والعفريت الذي رآه الرسول وقال فيه :  { لولا دعوة أخي سليمان لربطته إلى سارية من سواري المسجد } ، وكحديث خالد بن الوليد حين سير لكسر ذي الخلصة ، وكحديث سواد بن قارب مع رئية من الجنّ إلا أنّ رؤيتهم في الصور نادرة كما أنّ الملائكة تبدو في صور كحديث جبريل وحديث الملك الذي أتى الأعمى والأقرع والأبرص وهذا أمر قد استفاض في الشريعة فلا يمكن ردّه أعني تصورهم في بعض الأحيان في الصّور الكثيفة ،

وقال الزمخشري : وفيه دليل بيّن على أنّ الجن لا يُرون ولا يظهرون للإنس وأنّ إظهارهم أنفسهم ليس في استطاعتهم وأنّ زعم من يدّعي رؤيتهم زور ومخرفة انتهى ، ولا دليل في الآية على ما ذكر لأنه تعالى أثبت أنهم يروننا من جهة لا نراهم نحن فيها وهي الجهة التي يكونون فيها على أصل خلقتهم من الأجسام اللطيفة ولو أراد نفي رؤيتنا على العموم لم يتقيّد بهذه الحيثية وكان يكون التركيب أنه يراكم هو وقبيله وأنتم لا ترونهم وأيضاً فلو فرضنا أنّ في الآية دلالة لكان من العام المخصوص بالحديث النبوي المستفيض فيكونون مرئيين في بعض الصور لبعض الناس في بعض الأحيان وفي كتب التحرير أنكر جماعة من الحكماء تكرّر الجن والشياطين وتصوّرهم على أي جهة شاؤوا وقوله { إِنَّهُ يَرَاكُمْ } تعليل للنهي وتحذير من فتنته فإنه بمنزلة العدوّ المداجي يكيدكم ويغتالكم من حيث لا تشعرون وفي الحديث أنّ الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدّم إشارة إلى أنه لا يفارقه وأنه يرصد غفلاته فيتسلط عليه والظاهر أن الضمير في { أَنَّهُ } عائد على الشيطان ،

وقال الزمخشري : والضمير في { أَنَّهُ } ضمير الشأن والحديث انتهى ، ولا ضرورة تدعو إلى هذا { وَقَبِيلُهُ } معطوف على الضمير المستكن في { يَرَاكُمْ } ويجوز أن يكون مبتدأ محذوف الخبر أو معطوفاً على موضع اسم إن على مذهب من يجيز ذلك ،

وقرأ اليزيدي { وَقَبِيلُهُ } بنصب اللام عطفا على اسم إنّ إن كان الضمير يعود على الشيطان { وَقَبِيلُهُ } مفعول معه أي مع قبيله ، وقرىء شاذاً من حيث لا ترونه بإفراد الضمير فيحتمل أن يكون عائداً على الشيطان { وَقَبِيلُهُ } إجراء له مجرى اسم الإشارة فيكون كقوله : فيها خطوط من سواد وبلق

كأنه في الجلد توليع البهق

أي كان ذلك ويحتمل أن يكون عاد الضمير على الشيطان وحده لكونه رأسهم وكبيرهم وهم له تبع وهو المفرد بالنّهي أولاً .

{إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ } أي صيّرنا الشياطين ناصريهم وعاضديهم في الباطل ، وقال الزجاج : سلطناهم عليهم يزيدن في غيّهم فيتابعونهم على ذلك فصاروا أولياءهم ،

وقيل : جعلناهم قرناء لهم ،

وحكى الزهراوي أنّ جعل هنا بمعنى وصف وهي نزغة اعتزالية ،

وقال الزمخشري :

خلّينا بينهم وبينهم لم نكفهم عنهم حتى نولوهم وأطاعوهم فيما سولوا لهم من الكفر والمعاصي وهذا تحذير آخر أبلغ من الأوّل ، انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال .

{وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَآ ءَابَاءَنَا وَاللّه أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّه لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَآءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللّه مَا لاَ تَعْلَمُونَ }

٢٨

وإذا فعلوا فاحشة . . . . .

{وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا ءابَاءنَا وَاللّه أَمَرَنَا بِهَا } أي إذا فعلوا ما تفاحش من الذموب اعتذروا والتقدير وطلبوا بحجة على ارتكابها قالوا : آباؤنا كانوا يفعلونها فنحن نقتدي بهم واللّه أمرنا بها ، كانوا يقولون لو كره اللّه منّا ما نفعله لنقلنا عنه والإخبار الأوّل يتضمّن التقليد لآبائهم والتقليد باطل إذ ليس طريقاً للعلم ، والإخبار الثاني افتراء على اللّه تعالى ، قال ابن عطية والفاحشة وإن كان اللفظ عاماً هي كشف العورة في الطواف ، فقد رُوي عن الزهري أنه قال : في ذلك نزلت هذه الآيات ، وقاله ابن عباس ومجاهد انتهى ، وبه قال زيد بن أسلم والسّدي ، وقال الحسن وعطاء والزجاج : الفاحشة هنا الشرك ،

وقيل : البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي ،

وقيل : الكبائر والظاهر من قوله { وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً } أنه إخبار مستأنف عن هؤلاء الكفار بما كانوا يقولون إذا ارتكبوا الفواحش ، و

قال ابن عطية : وإذا فعلوا وما بعده داخل في صلة { الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ } ليقع التوبيخ بصفة قوم قد جعلوا أمثالاً للمؤمنين إذا شبّه فعلهم فعل الممثل بهم ،

وقال الزمخشري : وعن الحسن أنّ اللّه تعالى بعث محمد صلى اللّه عليه وسلم إلى العرب وهم قدرية مجبرة يحملون ذنوبهم على اللّه تعالى وتصديقه قول اللّه عز وجل { وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً } ، انتهت حكايته عن الحسن ولعلها لا تصحّ عن الحسن وانظر إلى دسيسة الزمخشري في قوله وهم قدرية فإنّ أهل السنة يجعلون المعتزلة هم القدرية فعكس هو عليهم وجعلهم هم القدرية حتى أن ما جاء من الذّم للقدرية يكون لهم وهذه النسبة من حيث العربية هي أليق بمن أثبت القدر لا بمن نفاه ، وقول أهل السنة في المعتزلة أنهم قدرية معناه أنهم ينفون القدر ويزعمون أنّ الأمر آنف وذلك شبيه بما يقول بعضهم في داود الظاهري أنه القياسي ومعناه نافي القياس .

{قُلْ إِنَّ اللّه لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء } أي بفعل الفحشاء وإنما لم يرد التقليد لظهور بطلانه لكلّ أحد للزومه الأخذ بالمتناقضات وأبطل تعالى دعواهم أنّ اللّه أمر بها إذ مدرك ذلك إنما هو الوحي على لسان الرسل والأبياء ولم يقع ذلك ،

وقال الزمخشري : لأن فعل القبيح مستحيل عليه لعدم الداعي ووجود الصارف فكيف يأمر بفعله .{ أَتَقُولُونَ عَلَى اللّه مَا لاَ تَعْلَمُونَ } إنكار لإضافتهم القبيح إليه وشهادة على أنّ مبني أمرهم على الجهل المفرط انتهى ، وهو على طريقة المعتزلة ، و

قال ابن عطية : وبّخهم على كذبهم ووقفهم على ما لا علم لهم به ولا رواية لهم فيه بل هي دعوى واختلاق .

٢٩

قل أمر ربي . . . . .

بدأ الشيء أنشأه واخترعه ، الجمل الحيوان المعروف وجمعه جمال وأجمل ولا يسمّى جملاً حتى يبلغ أربع سنين والجمل حبل السفينة ولغاته تأتي في المركبات . سمّ الخياط ثقبه وتضم سين سم وتفتح وتكسر ، وكل ثقب في أنف أو أذن أو غير ذلك ، فالعرب تسميه سماً والخياط وهما آلتان كإزار ومئزر ولحاف وملحف وقناع ومقنع . الغل الحقد والإحنة الخفية في النفس وجمعها غلال ومنه الغلول أخذ في خفاء . نعم حرف يكون تصديقاً لإثبات محض أو لما تضمّنه استفهام وكسر عينها لغة لقريش وإبدال عينها بالحاء لغة ووقوعها جواباً بعد نفي يراد به التقرير نادر . الأعراف جمع عرف وهو المرتفع من الأرض . قال الشاعر : كل كناز لحمه يناف

كالجبل الموفى على الأعراف

وقال الشماخ :

فظلت بأعراف تعادي كأنها

رماح نحاها وجهة الرمح راكز

ومنه عرف الفرس وعرف الديك لعلوّهما . الستة رتبة من العدد معروفة وأصلها سدسة فأبدلوا من السين تاء ولزم الإبدال ثم أدغموا الدّال في التاء بعد إبدال الدّال بالتاء ولزم الإدغام وتصغيره سديس وسديسة . الحثّ الإعجال حثثت فلاناً فأحثثت قاله الليث وقال : فهو حثيث ومحثوث .

{قُلْ أَمَرَ رَبّي بِالْقِسْطِ} قال ابن عباس القسط هنا لا إله إلا اللّه لأن أسباب الخير كلها تنشأ عنها ، وقال عطاء والسدّي : العدل وما يظهر في القول كونه حسناً صواباً ،

وقيل الصدق والحق .{ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ} وأقيموا معطوف على ما ينحل إليه المصدر الذي هو القسط أي بأن أقسطوا وأقيموا وكما ينحل المصدر ل { أن} والفعل الماضي نحو عجبت من قيام زيد وخرج أي من أن قام وخرج وأن والمضارع نحو :

للبس عباءة وتقرّ عيني

أي لأن ألبس عباءة وتقر عيني كذلك ينحل لأن وفعل الأمر ألا ترى أنّ أن توصل بفعل الأمر نحو كتبت إليه بأن فم كما توصل بالماضي والمضارع بخلاف ما المصدرية فإنها لا توصل بفعل الأمر وبخلاف كي إذا لم تكن حرفاً وكانت مصدرية فإنها توصل بالمضارع فقط ولما أشكل هذا التخريج جعل الزمخشري { وَأَقِيمُواْ } على تقدير وقل فقال : أقيموا فيحتمل قوله وقل أقيموا أن يكون { أَقِيمُواْ } معمولاً لهذا الفعل الملفوظ به ، ويحتمل أن يكون قوله { وَأَقِيمُواْ } معطوفاً على { أَمَرَ رَبّي بِالْقِسْطِ } فيكون معمولاً لقل الملفوظ بها أولاً وقدّرها ليبيّن أنها معطوفة عليها وعلى ما خرّجناه نحن يكون في خبر معمول أمر ،

وقيل :{ وَأَقِيمُواْ } معطوف على أمر محذوف تقديره فأقبلوا وأقيموا ،

وقال ابن عباس والضحّاك واختاره ابن قتيبة : المعنى إذا حضرت الصلاة فصلوا في كل مسجد ولا يقل أحدكم أصلي في مسجدي ، وقال مجاهد والسدّي وابن زيد : معناه توجّهوا حيث كنتم في الصلاة إلى الكعبة ، وقال الرّبيع : اجعلوا سجودكم خالصاً للّه دون غيره ،

وقيل : معناه اقصدوا المسجد في وقت كلّ صلاة أمراً بالجماعة ذكره الماوردي ،

وقيل : معناه إذا كان في جواركم مسجد فأقيموا الجماعة فيه ولا تتجاوزوا إلى غيره ذكره التبريزي ،

وقيل هو أمر بإحضار النيّة للّه في كل صلاة والقصد نحوه كما تقول { وَجَّهْتُ وَجْهِىَ } الآية قاله الربيع أيضاً ،

وقيل معناه إباحة الصّلاة في كل موضع من الأرض أي حيثما كنتم فهو مسجد لكم يلزمكم عنده الصّلاة وإقامة وجوهكم فيه للّه وفي الحديث : { جعلت لي الأرض مسجداً فأيّما رجل أدركته الصلاة فليصل حيث كان} .

وقال الزمخشري : أي اقصدوا عبادته مستقيمين إليه غير عادلين إلى غيرها عند كل مسجد في وقت كل سجود وفي كل مكان سجود وهو الصلاة وادعوه

مخلصين له الدين . قيل : الدعاء على بابه أمر به مقروناً بالإخلاص لأنّ دعاء من لا يخلص الدين للّه لا يجاب ،

وقيل : معناه اعبدوا ،

وقيل : قولوا لا إله إلا اللّه .

{كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ} قال ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة هو إعلام بالبعث أي كما أوجدكم واخترعكم كذلك يعيدكم بعد الموت ولم يذكر الزمخشري غير هذا القول . قال : كما أنشأكم ابتداء يعيدكم احتجّ عليهم في إنكارهم الإعادة بابتداء الخلق والمعنى أنه يعيدكم فيجازيكم على أعمالكم فأخلصوا له العبادة انتهى ، وهذا قول الزّجاج قال : كما أحياكم في الدّنيا يحييكم في الآخرة وليس بعثكم بأشد من ابتداء إنشائكم وهذا احتجاج عليهم في إنكارهم البعث انتهى ،

وقال ابن عباس أيضاً وجابر بن عبد اللّه وأبو العالية ومحمد بن كعب وابن جبير والسدّي ومجاهد أيضاً والفرّاء ، وروى معناه عن الرّسول أنه إعلام بأنّ من كتب عليه أنه من أهل الشقاوة والكفر في الدّنيا هم أهل ذلك في الآخرة وكذلك من كتب له السعادة والإيمان في الدنيا هم أهل ذلك في الآخرة لا يتبدّل شيء مما أحكمه ودبّره تعالى ويؤيد هذا المعنى قراءة أبيّ{ تَعُودُونَ } فريقين { فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ } وعلى هذا المعنى يكون الوقف على { تَعُودُونَ } غير حسن لأنّ{ فَرِيقاً } نصب على الحال وفريقاً عطف عليه

٣٠

فريقا هدى وفريقا . . . . .

والجملة من { هُدًى } ومن { حَقّ } في موضع الصفة لما قبله وقد حذف الضمير من جملة الصفة أي هداهم ، وجوّز أبو البقاء أن يكون { فَرِيقاً } مفعول { هُدًى }{ وَفَرِيقًا } مفعول أضل مضمرة والجملتان الفعليتان حال ، وهدى على إضمار قد أي تعودون قد هدى فريقاً وأضلّ فريقاً ، وعلى المعنى الأوّل يحسن الوقف على { تَعُودُونَ } ويكون { فَرِيقاً } مفعولاً بهدى ويكون { وَفَرِيقًا } منصوباً بإضمار فعل يفسّر قوله { حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ } ،

وقال الزمخشري :{ فَرِيقًا هَدَى } وهم الذين أسلموا أي وفّقهم للإيمان وفريقاً حقّ عليهم الضلالة أي كلمة الضلالة وعلم اللّه تعالى أنهم يضلون ولا يهتدون وانتصاب قوله تعالى { وَفَرِيقًا } بفعل يفسره ما بعده كأنه قيل وخذل فريقاً حقّ عليهم الضلالة انتهى ؛ وهي تقادير على مذهب الاعتزال ،

وقيل المعنى تعودون لا ناصر لكم ولا معين لقوله { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى } ، وقال الحسن : كما بدأكم من التراب يعيدكم إلى التراب ،

وقيل : معناه كما خلقكم عراة تبعثون عراة ومعنى { حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ } أي حقّ عليهم من اللّهأو حقّ عليهم عقوبة الضّلالة هكذا قدّره بعضهم ، وجاء إسناد الهدى إلى اللّه ولم يجيء مقابله وفريقاً أضلّ لأنّ المساق مساق من نهى عن أن يفتنه الشيطان وإخبار أنّ الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون وأنّ اللّه لا يأمر بالفشحاء وأمر بالقسط وإقامة الصلاة فناسب هذا المساق أن لا يسند إليه تعالى الضّلال ، وإن كان تعالى هو الهادي وفاعل الضلالة فكذلك عدل إلى قوله { حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ}

{إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللّه وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ}

أي إنّ الفريق الضالّ { اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء } أنصار وأعواناً يتولونهم وينتصرون بهم كقول بعضهم أعل هبل أعل هبل والظاهر أن المراد حقيقة الشياطين فهم يعينونهم على كفرهم والضالّون يتولونهم بانقيادهم إلى وسوستهم ،

وقيل : الشياطين أحبارهم وكبراؤهم ، قال الطبري : وهذه الآية دليل على خطأ قول من زعم أنّ اللّه تعالى لا يعذّب أحداً على معصية ركبها أو ضلالة اعتقدها إلاّ أن يأتيها على علم منه بموضع الصّواب انتهى ، ووجه الدلالة قوله { وَيَحْسَبُونَ } والمحسبة الظنّ لا العلم ،

وقرأ العباس بن الفضل وسهل بن شعيب وعيسى بن عمر { إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا } بفتح الهمزة وهو تعليل لحقّ الضلالة عليهم والعكس يحتمل التعليل من حيث المعنى ،

وقال الزمخشري : أي تولّوهم بالطاعة فيما أمروهم به وهذا دليل على أنّ علم اللّه تعالى لا أثر له في ضلالهم وأنهم هم الضالون باختيارهم وتوليهم الشياطين دون اللّه تعالى انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال .

٣١

يا بني آدم . . . . .

{يَابَنِىءادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ قُلْ } كان أهل الجاهلية يطوفون بالبيت عراة وكانوا لا يأكلون في أيام حجهم دسماً ولا ينالون من الطعام إلاّ قوتاً تعظيماً لحجهم فنزلت ،

وقيل : كان أحدهم يطوف عرياناً ويدع ثيابه وراء المسجد وإن طاف وهي عليه ضرب وانتزعت منه لأنهم قالوا لا نعبد اللّه في ثياب أذنبنا فيها ،

وقيل : تفاؤلاً ليتعرُّوا من الذنوب كما تعروا من الثياب . والزينة فعلة من التزين وهو اسم ما يُتجمل به من ثياب وغيرها كقوله وازّينت أي بالنبات والزينة هنا المأمور بأخذها هو ما يستر العورة في الصلاة قاله مجاهد والسدّي والزجاج ، وقال طاووس الشملة من الزّينة ، وقال مجاهد : ما وارى عورتك ولو عباءة فهو زينة .

وقيل ما يستر العورة في الطّواف ، وفي صحيح مسلم عن عروة أنّ العرب كانت تطوف عراة إلا الخمس وهم قريش إلاّ أن تعطيهم الخمس ثياباً فيعطي الرجال الرجال والنساء النساء وفي غير مسلم : من لم يكن له صديق بمكة يعيره ثوباً طاف عرياناً أو في ثيابه وألقاها بعد فلا يمسّها أحد ويسمّى اللقاء .

وقال بعضهم : كفى زحزناً كرى عليه كأنه

لقي بين أيدي الطائفين حريم

وكانت المرأة تنشد وهي تطوف عريانة : اليوم يبدو بعضه أو كله

وما بدا منه فلا أحلّه

فلما بعث اللّه رسوله صلى اللّه عليه وسلم وأنزل عليه { يَابَنِىءادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ } أذّن مؤذّن الرسول ألاّ لا يحجّ البيت بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ، وكان النداء بمكة سنة تسع ، وقال عطاء وأبو روق : تسريح اللحى وتنويرها بالمشط والترجيل ،

وقيل : التزين بأجمل اللباس في الجمع والأعياد ذكره الماوردي ،

وقيل : رفع اليدين في تكبيرة الإحرام والرّكوع والرفع منه ،

وقيل إقامة الصلاة في الجماعة بالمساجد وكان ذلك

زينة لهم لما في الصلاة من حسن الهيئة ومشابهة صفوف الملائكة ولما فيها من إظهار الإلفة وإقامة شعائر الدين ،

وقيل : ليس النّعال في الصلاة وفيه حديث عن أبي هريرة ، و

قال ابن عطيّة : وما أحسبه يصحّ ، وقال أيضاً : الزّينة هنا الثّياب الساترة ويدخل فيها ما كان من الطيّب للجمعة والسّواك وبدل الثياب وكل ما أوجد استحسانه في الشّريعة ولم يقصد به الخيلاء وعند كل مسجد يريد عند كل موضع سجود ، فهو إشارة إلى الصّلوات وستر العورة فيها هو مهم الأمر ويدخل في الصّلاة مواطن الخير كلها ومع ستر العورة ما ذكرنا من الطيب للجمعة انتهى ،

وقال الزمخشري : { خُذُواْ زِينَتَكُمْ } أي ريشكم ولباس زينتكم { عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ } كلما صلّيتم وكانوا يطوفون عراة انتهى ، والذي يظهر أنّ الزّينة هو ما يتجمل به ويتزين عند الصلاة ولا يدخل فيه ما يستر العورة لأنّ ذلك مأمور به مطلقاً ولا يختصّ بأن يكون ذلك عند كلّ مسجد ، ولفظة { كُلّ مَسْجِدٍ } تأتي أن يكون أيضاً ما يستر العورة في الطّواف لعمومه والطّواف إنما هو الخاص وهو المسجد الحرام وليس بظاهر حمل العموم على كل بقعة منه وأيضاً فيا بني آدم عام وتقييد الأمر بما يستر العورة في الطّواف مفض إلى تخصيصه بمن يطوف بالبيت ، وقال أبو بكر الرازي في الآية دليل على فرض ستر العورة في الصلاة وهو قول أبي يوسف وزفر ومحمد والحسن بن زياد والشافعي لقوله :{ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ } علق الأمر بد فدل على أنه الستر للصلاة ، وقال : مالك والليث : كشف العورة حرام ويوجبان الإعادة في الوقت استحباباً إن صلّى مكشوفها ، وقال الأبهري : هي فرض في الجملة وعلى الإنسان أن يسترها في الصلاة وغيرها وهو الصحيح لقوله صلى اللّه عليه وسلم للمسور ابن مخرمة : { ارجع إلى قومك ولا تمشوا عراة } ، أخرجه مسلم { وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ } ، قال الكلبي : معناه كلوا من اللحم والدّسم واشربوا من الألبان وكانوا يحرمون جميع ذلك في الإحرام ، وقال السدّي : كلوا من البحيرة وأخواتها والظاهر أنه أمر بإباحة الأكل والشرب من كل ما يمكن أن يؤكل أو يشرب مما يحظر أكله وشربه في الشريعة وإن كان النزول على سبب خاص كما ذكروا من امتناع المشركين من أكل اللحم والدّسم أيام إحرامهم أو بني عامر دون سائر العرب من ذلك وقول المسلمين بذلك والنهي عن الإسراف يدلّ على التحريم لقوله { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } ، قال ابن عباس : الإسراف الخروج عن حد الاستواء ، وقال أيضاً{ لا تُسْرِفُواْ } في تحريم ما أحل لكم ، وقال أيضاً : كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأتك خصلتان سرف ومخيلة ، وقال ابن زيد : الإسراف أكل الحرام ، وقال الزجاج الإسراف الأكل من الحلال فوق الحاجة ، وقال مقاتل : الإسراف الإشراك ،

وقيل : الإسراف مخالفة أمر اللّه في طوافهم عراة يصفقون ويصفرون ،

وقال ابن عباس أيضاً : ليس في الحلال سرف إنما السّرف في ارتكاب المعاصي ،

قال ابن عطية : يريد في الحلال القصد واللفظة تقتضي النهي عن السّرف مطلقاً فيمن تلبس بفعل حرام فتأوّل تلبسه به حصل من المسرفين وتوجه النهي عليه ومن تلبس بفعل مباح فإن مشى فيه على القصد وأوساط الأمور فحسن وإن أفرط حتى دخل الضرر حصل أيضاً من المسرفين وتوجه النهي عليه ، مثال ذلك أن يفرط في شراء ثياب أو نحوها ويستنفد في ذلك حلّ ماله أو يعطي ماله أجمع ويكابد بعياله الفقر بعد ذلك أو نحوه فاللّه عزّ وجل لا يحبّ شيئاً من هذا وقد نهت الشريعة عنه انتهى ،

وحكى المفسّرون هنا أن نصرانياً طبيباً للرشيد أنكر أن يكون في القرآن أو في حديث الرسول شيء من الطبّ فأجيب بقوله { وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ } بقوله { المعدة بيت الداء والحميّة رأس كل دواء}

{وأعطِ كلّ بدن ما عودته } فقال النصراني : ما ترك كتابكم ولا نبيّكم لجالينوس طبّاً .

٣٢

قل من حرم . . . . .

{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّه الَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرّزْقِ }{ زِينَةَ اللّه } ما حسنته الشريعة وقررته مما يتجمل به من الثياب وغيرها وأضيفت إلى اللّه لأنه هو الذي أباحها والطيّبات هي المستلذات من المأكول والمشروب بطريقة وهو الحل ،

وقيل : الطيبات المحلّلات ومعنى الاستفهام إنكار تحريم هذه الأشياء وتوبيخ محرميها وقد كانوا يحرمون أشياء من لحوم الطّيبات وألبانها والاستفهام إذا تضمّن الإنكار لا جواب له وتوهم مكي هنا أن له جواباً هنا وهو قوله { قُلْ هِى } توهم فاسد ومعنى { أَخْرَجَ } أبرزها وأظهرها ،

وقيل فصل حلالها من حرامها .

{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّه الَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ } قرأ قتادة { قُلْ هِى } لمن آمن ،

وقرأ نافع { خَالِصَةٌ } بالرفع ،

وقرأ باقي السبعة بالنصب فأما النصب فعلى الحال والتقدير { قُلْ هِى } مستقرّة { لِلَّذِينَ ءامَنُواْ } في حال خلوصها لهم يوم القيامة وهي حال من الضمير المستكن في الجار والمجرور الواقع خبراً لهي { وَفِى الْحَيَواةَ } متعلق بآمنوا ويصير المعنى قل هي خالصة يوم القيامة لمن آمن في الدّنيا ولا يعني بيوم القيامة وقت الحساب وخلوصها كونهم لا يعاقبون عليها وإلى هذا المعنى يشير تفسير ابن جبير ، وجوّزوا فيه أن يكون خبراً بعد خبر والخبر الأوّل هو { لِلَّذِينَ ءامَنُواْ }{ وَفِى قَالُواْ لَن } متعلق بما تعلق به للذين وهو الكون المطلق أي قل هي كائنة في الحياة الدنيا للمؤمنين وإن كان يشركهم فيها في الحياة الدّنيا الكفّار { وَسَاء لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } ويراد بيوم القيامة استمرار الكون في الجنة وهذا المعنى من أنها لهم ولغيرهم في الدّنيا خالصة لهم يوم القيامة هو قول ابن عباس والضحّاك وقتادة والحسن وابن جريج وابن زيد وعلى هذا المعنى فسر الزمخشري ، { فإن قلت } : إذا كان معنى الآية أنها لهم في الدنيا على الشركة بينهم وبين الكفار فكيف جاء { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ } ،{ فالجواب } : من وجوه ،

أحدها : إنّ في الكلام حذفاً تقديره قل هي للمؤمنين والكافرين في الدنيا خالصة للمؤمنين في القيامة لا يشاركون فيها قاله الكرماني ،

الثاني : إنّ ما تعلق به { لِلَّذِينَ ءامَنُواْ } ليس كوناً مطلقاً بل كوناه مقيّداً يدلّ على حذفه مقابله وهو { خَالِصَةٌ } تقديره قل هي غير خالصة للذين آمنوا قاله الزمخشري قال : قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا غير خالصة لهم لأنّ المشركين شركاؤهم فيها خالصة يوم القيامة لا يشركهم فيها أحد ثم

قال الزمخشري: { فإن قلت } : هلا قيل للذين آمنوا ولغيرهم ،  { قلت } : النية على أنها خلقت للذين آمنوا على طريق الأصالة وأنّ الكفرة تبع لهم كقوله تعالى { وَمَن كَفَرَ فَأُمَتّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ } انتهى وجواب الزمخشري هو للتبريزي رحمه اللّه ، قال التبريزي معنى الآية أنها للمؤمنين خالصة في الآخرة لا يشركهم الكفّار فيها هذا وإن كان مفهومه الشركة بين الذين آمنوا والذين أشركوا وهو كذلك لأنّ الدّنيا عرض حاضر يأكل منها البرّ والفاجر إلا أنه أضاف إلى المؤمنين ولم يذكر الشّركة بينهم وبين الذين أشركوا في الدنيا تنبيهاً على أنه إنما خلقها للذين آمنوا بطريق الأصالة والكفّار تبع لهم فيها في الدنيا ولذلك خاطب اللّه المؤمنين بقوله تعالى :{ هُوَ الَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الاْرْضِ جَمِيعاً } انتهى ، وقال أبو عليّ في الحجة ويصح أن يعلق قوله { وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ } بقوله { حَرَّمَ } ولا يصح أن يتعلق بقوله { أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ } ويجوز ذلك وإن فصل بين الصلة والموصول بقوله { قُلْ مَنْ حَرَّمَ } لأنّ ذلك كلام يشدّ القصة وليس بأجنبي منها جدّاً كما جاز ذلك في قوله { وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيّئَاتِ جَزَاء سَيّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } فقوله :{ وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } معطوف على كسبوا

داخل في الصلاة والتعلّق بأخرج هو قول الأخفش ، ويصحّ أن يتعلق بقوله { وَالطَّيّبَاتُ } ويصح أن يتعلق بقوله { مِنَ الرّزْقِ } انتهى . وتقادير أبي عليّ والأخفش فيها تفكيك للكلام وسلوك به غير ما تقتضيه الفصاحة ، وهي تقادير أعجمية بعيدة عن البلاغة لا تناسب في كتاب اللّه بل لو قدّرت في شعر الشنفري ما ناسب والنحاة الصّرف غير الأدباء بمعزل عن إدراك الفصاحة

وأما تشبيه ذلك بقوله { وَالَّذِينَ كَسَبُواْ } فليس ما قاله بمتعيّن فيه بل ولا ظاهر بل قوله { جَزَاء سَيّئَةٍ بِمِثْلِهَا } هو خبر عن النهي أي جزاء سيئة منهم بمثلها وحذف منهم لدلالة المعنى عليه كما حذف من قولهم السّمن منوان درهم أي منوان منه وقوله { وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } معطوف على { جَزَاء سَيّئَةٍ بِمِثْلِهَا } وسيأتي توضيح هذا بأكثر في موضعه إن شاء اللّه تعالى .{ كَذَلِكَ نُفَصِلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } أي مثل تفصيلنا وتقسيمنا السابق { نقسم } في المستقبل { سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ } لهم علم وإدراك لأنه لا ينتفع بذلك إلا من علم لقوله :{ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ}

٣٣

قل إنما حرم . . . . .

{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبّيَ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْىَ بِغَيْرِ الْحَقّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّه مَا لَمْ } قال الكلبي لما لبس المسلمون الثياب وطافوا بالبيت عيّرهم المشركون بذلك وقالوا استحلوا الحرم فنزلت ، وتقدّم تفسير { الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } في أواخر الأنعام وزيد هنا أقوال ،

أحدها :{ مَا ظَهَرَ مِنْهَا } طواف الرّجل بالنهار عرياناً{ وَمَا بَطَنَ } طوافها بالليل عارية قاله التبريزي ، وقال مجاهد :{ مَا ظَهَرَ } طواف الجاهلية عراة { وَمَا بَطَنَ } الزنا ،

وقيل :{ مَا ظَهَرَ } الظلم { وَمَا بَطَنَ } السّرقة ،

وقال ابن عباس ومجاهد في رواية :{ مَا ظَهَرَ } ما كانت تفعله الجاهلية من نكاح الأباء نساء الآباء والجمع بين الأختين وأن ينكح المرأة على عمتها وخالتها { وَمَا بَطَنَ } الزّنا { وَالإِثْمَ } عام يشمل الأقوال والأفعال التي يترتب عليها الإثم ، هذا قول الجمهور ،

وقيل هو صغار الذنوب ،

وقيل : الخمر ، وهذا قول لا يصح هنا لأن السّورة مكية ولم تحرم الخمر إلا بالمدينة بعد أحد وجماعة من الصحابة اصطبحوها يوم أحد وماتوا شهداء وهي في أجوافهم

وأما تسمية الخمر إثماً فقيل هو من قول الشاعر :

شربت الإثم حتى زلّ عقلي

وهو بيت مصنوع مختلَق وإن صحّ فهو على حذف مضاف أي موجب الإثم ولا يذلّ قول ابن عباس والحسن { الإِثْمِ } الخمر على أنه من أسمائها إذ يكون ذلك من إطلاق المسبب على السبب وأنكر أبو العباس أن يكون { الإِثْمِ } من أسماء الخمر وقال الفضل :{ الإِثْمِ } الخمر ، وأنشد : نهانا رسول اللّه أن نقرب الخنا

وأن نشرب الإثم الذي يوجب الوزرا

وأنشد الأصمعي أيضاً : ورحت حزيناً ذاهل العقل بعدهم

كأني شربت الإثم أو مسّني خبل

قال : وقد تسمّى الخمر إثماً وأنشد :

شربت الإثم حتى زلّ عقلي

وقال ابن عباس والفراء :{ الْبَغْىُ } الاستطالة ، وقال الحسن : السّكر من كل شراب ، وقال ثعلب : تكلم الرّجل في الرجل بغير الحقّ إلا أن ينتصر منه بحق ،

وقيل : الظّلم والكبر ، قاله الزمخشري ، وقال وأفردوه بالذكر كما

قال تعالى :{ وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْى} و

قال ابن عطية :{ الْبَغْىُ } التعدّي وتجاوز الحدّ مبتدئاً كان أو منتصراً وقوله { بِغَيْرِ الْحَقّ } زيادة بيان وليس يتصور بغي بحق لأن ما كان بحقّ لا يسمى بغياً وتقدّم تفسير { مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطَاناً } في الأنعام ،

وقال الزمخشري فيه تهكّم لأنه لا يجوز أن ينزل برهاناً بأن يشرك به غيره ما لا تعلمون من تحريم البحائر وغيرها ،

وقال ابن عباس أراد بذلك أنّ الملائكة بنات اللّه ،

وقيل قولهم أنه حرّم عليهم مآكل وملابس ومشارب في الإحرام من قبل أنفسهم .

٣٤

ولكل أمة أجل . . . . .

{وَلِكُلّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } هذا وعيد لأهل مكّة بالعذاب النازل في أجل معلوم عند اللّه كما نزل بالأمم أي أجل مؤثت لمجيء العذاب إذا خالفوا أمر ربهم فأنتم أيتها الأمّة كذلك ،

وقيل : الأجل هنا أجل الدّنيا التقدير : كلّها أجل أي يقدّمون فيه على ما قدموا من عمل ،

وقيل : الأجل مدّة العمر والتقدير ولكل واحد من الأمة عمر ينتهي إليه بقاؤه في الدّنيا وإذا مات علم ما كان عليه من حقّ أو باطل ، و

قال ابن عطية : أي فرقة وجماعة وهي لفظة تستعمل في الكثير من الناس ، وقال غيره : والأمة الجماعة قلّوا أو كثروا وقد يطلق على الواحد كقوله في قس بن ساعدة يبعث يوم القيامة أمّة وحده وأفرد الأجل لأنه اسم جنس أو لتقارب أعمال أهل كل عصر أو لكون التقدير لكل واحد من أمة ،

وقرأ الحسن وابن سيرين فإذا جاء آجالهم بالجمع وقال ساعة لأنها أقلّ الأوقات في استعمال الناس يقول المستعجل لصاحبه في ساعة يريد في أقصر وقت وأقربه قاله الزمخشري ، وقال ابن عطية لفظ عنى به الجزء القليل من الزمان والمراد جمع أجزائه انتهى ، والمضارع المنفي بلا إذا وقع في الظاهر جواباً لإذا يجوز أن يتلقى بفاء الجزاء ويجوز أن لا يتلقى بها وينبغي أن يعتقد أنّ بين الفاء والفعل مبتدأ محذوفاً وتكون الجملة إذ ذاك إسميّة والجملة الإسمية إذا وقعت جواباً لإذا فلا بد فيها من الفاء أو إذا الفجائية ، قال بعضهم : ودخلت الفاء على إذا حيث وقع إلا في يونس لأنها عطفت جملة على جملة بينهما اتصال وتعقيب فكان الموضع موضع الفاء وما في يونس يأتي في موضعه إن شاء اللّه انتهى ، وقال الحوفي { وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } معطوف على { لاَ يَسْتَأْخِرُونَ } انتهى ، وهذا لا يمكن لأنّ إذا شرطيّة فالذي يترتب عليها إنما هو مستقبل ولا يترتب على مجيء الأجل في المستقبل إلا مستقبل وذلك يتصور في انتفاء الاستئخار لا في انتفاء الاستقدام لأنّ الاستقدام سابق على مجيء الأجل في الاستقبال فيصير نظير قولك إذا قمت في المستقبل لم يتقدّم قيامك في الماضي ومعلوم أنه إذا قام في المستقبل لم يتقدّم قيامه هذا في الماضي وهذا شبيه بقول زهير : بدا لي أني لست مدرك ما مضى

ولا سابقاً شيئاً إذا كان جائيا

ومعلوم أن لشيء اذا كان جاثيا إليه لا يسبقه والذي تخرج عليه الآية أن قوله { وَلاَ } منقطع من الجواب على سبيل استئناف إخبار أي لا يستقدمون الأجل أي لا يسبقونه وصار معنى الآية

أنهم لا يسبقون

الأجل ولا يتأخرون عنه .

٣٥

يا بني آدم . . . . .

{يَسْتَقْدِمُونَ يَابَنِى آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ ءايَاتِى فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} هذا الخطاب لبني آدم . قيل : هو في الأول ،

وقيل : هو مراعى به وقت الإنزال وجاء بصورة الاستقبال لتقوى الإشارة بصحّة النبوة إلى محمد صلى اللّه عليه وسلم { وَمَا } في إمّا تأكيد ، قال ابن عطية وإذا لم يكن ما لم يجز دخول النون الثقيلة انتهى ، وبعض النحويين يجيز ذلك وجواب الشرط { فَمَنِ اتَّقَى } فيحتمل أن تكون من شرطيّة وجوابه { فَلاَ خَوْفٌ } وتكون هذه الجملة الشرطية مستقلة بجواب الشرط الأوّل من جهة اللفظ ويحتمل أن تكون من موصولة فتكون هذه الجملة والتي بعدها من قوله { وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ } مجموعهما هو جواب الشرط وكأنه قصد بالكلام التقسيم وجعل القسمان جواباً للشّرط أي { إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ } فالمتّقون لا خوف عليهم والمكذبون أصحاب النار فثمرة إتيان الرّسل وفائدته هذا وتضمن قوله { فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ } سبق الإيمان إذ التقوى والإصلاح هما ناشئان عنه وجاء في قسمه { وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ } والتكذيب هو بدوّ الشقاوة إذ لا ينشأ عنه إلا الانهماك والإفساد وقال بل الإصلاح بالاستكبار لأنّ إصلاح العمل من نتيجة التقوى والاستكبار من نتيجة التكذيب وهو التعاظم فلم يكونوا ليتّبعوا الرسل فيما جاؤوا به ولا يقتدوا بما أمروا به لأنّ من كذب بالشيء نأي بنفسه عن اتباعه ، و

قال ابن عطية : هاتان حالتان تعمّ جميع من يصدّ عن رسالة الرسول إما أن يكذب بحسب اعتقاده أنه كذب

وإما أن يستكبر فيكذب وإن كان غير مصمّم في اعتقاده على التكذيب وهذا نحو الكفر عناد انتهى ، وتضمّنت الجملتان حذف رابط وتقديره { فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ } منكم ، { وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ } منكم وتقدّم تفسير { فَلاَ خَوْفٌ } و { أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ } الجملتان ،

وقرأ أبي والأعرج إما تأتينكم بالتاء على تأنيث الجماعة { ويقصّون } محمول على المعنى إذ ذاك إذ لو حمل على اللفظ لكان تقصّ .

٣٦

والذين كذبوا بآياتنا . . . . .

{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّه كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِئَايَاتِهِ أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مّنَ الْكِتَابِ } لما ذكر المكذّبين ذكر أسوأ حالاً منهم وهو من يفتري الكذب على اللّه وذكر أيضاً من كذّب بآياته ، قال ابن عباس وابن جبير ومجاهد : ما كتب لهم من السعادة والشقاوة ولا يناسب هذا التفسير الجملة التي بعد هذا ، وقال الحسن : ما كتب لهم من العذاب ، وقال الربيع ومحمد بن كعب وابن زيد : ما سبق لهم في أمّ الكتاب ،

وقال ابن عباس أيضاً ومجاهد أيضاً وقتادة : ما كتب الحفظة في صحائف الناس من الخير والشرّ فيقال : هذا نصيبهم من ذلك وهو الكفر والمعاصي وقال الحكم وأبو صالح ما كتب لهم من الأرزاق والأعمار والخير والشر في الدنيا . وقال الضحاك : ما كتب لهم من الثّواب والعقاب ،

وقال ابن عباس أيضاً والضحاك أيضاً ومجاهد ما كتب لهم من الكفر والمعاصي ، وقال الحسن أيضاً : ما كتب لهم من الضلالة والهدى ،

وقال ابن عباس أيضاً : ما كتب لهم من الأعمال .

وقال ابن عباس ومجاهد والضحاك :{ مّنَ الْكِتَابِ } يراد به من القرآن وحظّهم فيه سواد وجوههم يوم القيامة ،

وقيل : ما أوجب من حفظ عهودهم إذا أعطوا الجزية . وقال الحسن والسدّي وأبو صالح : من المقرّر في اللوح المحفوظ وقد تقرر في الشّرع أنّ حظّهم فيه العذاب والسّخط والذي يظهر أن الذي كتب لهم في الدنيا من رزق وأجل وغيرهما ينالهم فيها ولذلك جاءت التغيية بعد هذا بحتى وإلى هذا المعنى نحا الزمخشري ، قال : أي ما كتب لهم من الأرزاق والأعمال .

٣٧

فمن أظلم ممن . . . . .

{حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُواْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّه قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ} تقدّم الكلام على { حَتَّى إِذَا } في الأوائل الأنعام ، ووقع في التحرير { حَتَّى } هنا ليس بغاية بل هي ابتداء وجر والجملة بعدها في موضع جرّ وهذا وهم بل معناها هنا الغاية والخلاف

فيها إذا كانت حرف ابتداء أهي حرف جر والجملة بعدها في موضع جرّ وتتعلق بما قبلها كما تتعلق حروف الجرّ أم ليست حرف جر ولا تتعلق بما قبلها تعلّق حروف الجر من حيث المعنى لا من حيث الإعراب قولان : الأوّل لابن درستويه والزّجاج ، والثاني للجمهور وإذا كانت حرف ابتداء فهي للغاية ألا تراها في قول الشاعر : سريت بهم حتى تكلّ مطيهم

وحتى الجياد ما يقدن بارسان

وقول الآخر : فما زالت القتلى تمجّ دماءها

بدجلة حتى ماء دجلة أشكل

تفيد الغاية لأن المعنى أنه مد همهم في السير إلى كلال المطي والجياد ومجت الدماء إلى تغيير ماء دجلة .

قال الزمخشري : وهي حتى التي يبتدأ بعدها الكلام انتهى ، وقال الحوفي وحتى غاية متعلقة ينالهم فيحتمل قوله أن يريد التعلق الصّناعي وأن يريد التعلق المعنوي والمعنى أنهم ينالهم حظهم مما كتب لهم إلى أن يأتيهم رسل الموت يقبضون أرواحهم فيسألونهم سؤال توبيخ وتقرير أين معبوداتكم من دون اللّه ؟ فيجيبون بأنهم حادوا عنا وأخذوا طريقاً غير طريقنا أو ضلوا عنا هلكوا واضمحلّوا والرّسل ملك الموت وأعوانه ،  { ويتوفونهم } في موضع الحال وكتبت { فَتِيلاً أَيْنَمَا } متّصلة وكان قياسه كتابتها بالانفصال لأن ما موصولة كهي في { إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لأَتٍ } إذ التقدير أين الآلهة التي كنتم تعبدون ؟

وقيل : معنى { تَدْعُونَ } أي تستغيثونهم لقضاء حوائجكم وما ذكرناه من أنّ هذه المحاورة بين الملائكة وهؤلاء تكون وقت الموت وأنّ التوفي هو بقبض الأرواح هو قول المفسرين ، وقالت فرقة منهم الحسن :{ الرُّسُلَ } ملائكة العذاب يوم القيامة والمحاورة في ذلك اليوم ومعنى { يَتَوَفَّوْنَهُمْ } يستوفونهم عدداً في السّوق إلى جهنم ونيل النصيب على هذا إنما هو في الآخرة إذ لو كان في الدّنيا لما تحققت الغاية لانقطاع النّيل قبلها بمدد كثيرة ويحتمل { وَشَهِدُواْ } أن يكون مقطوعاً على { قَالُواْ } فيكون من جملة جواب السؤال ويحتمل أن يكون استئناف إخبار من اللّه تعالى بإقرارهم على أنفسهم بالكفر ولا تعارض بين هذا وبين قوله { وَاللّه رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } لاحتمال ذلك من طوائف مختلفة أو في أوقات وجواب سؤالهم ليس مطابقاً من جهة اللفظ لأنه سؤال عن مكان ، وأجيب بفعل وهو مطابق من جهة المعنى إذ تقدير السؤال ما فعل معبودوكم من دون اللّه معكم { قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا}

٣٨

قال ادخلوا في . . . . .

{قَالَ ادْخُلُواْ فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مّن الْجِنّ وَالإِنْسِ فِى النَّارِ} أي يقول اللّه لهم أي لكفار العرب وهم المفترون الكذب والمكذبون بالآيات وذلك يوم القيامة وعبر بالماضي لتحقّق وقوعه وقوله ذلك على لسان الملائكة ويتعلق { فِى أُمَمٍ } في الظاهر بادخلوا والمعنى في جملة أمم ويحتمل أن يتعلق بمحذوف فيكون في موضع الحال و { قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ } أي تقدّمتكم في الحياة الدنيا أو تقدّمتكم أي تقدّم ذخولها في النار وقدّم الجنّ لأنهم الأصل في الإغواء والإضلال ودلّ ذلك على أنّ عصاة الجنّ يدخلون النار ، وفي النار متعلق بخلت على أنّ المعنى تقدّم دخولها أو بمحذوف وهو صفة لأمم أي في أمم سابقة في الزمان كائنة من الجنّ والإنس كائنة في النار أو بادخلوا على تقدير أن تكون في بمعنى مع وقد قاله بعض المفسرين

فاختلف مدلول في إذ الأولى تفيد الصحبة والثانية تفيد الظّرفية وإذا اختلف مدلول الحرف جاز أن يتعلق اللفظان بفعل واحد ويكون إذ ذاك { أَدْخِلُواْ } قد تعدّى إلى الظرف المختص بفي وهو الأصل وإن كان قد تعدّى في موضع آخر بنفسه لا بوساطة في كقوله {وَقِيلَ ادْخُلاَ النَّارَ }{ ادْخُلُواْ أَبْوابَ جَهَنَّمَ } ويجوز أن تكون في باقية على مدلولها من الظرفية و { فِى النَّارِ } كذلك ويتعلّقان بلفظ { أَدْخِلُواْ } وذلك على أن يكون { فِى النَّارِ } بدل اشتمال كقوله قتل أصحاب الأخدود النار ويجوز أن يتعدّى الفعل إلى حرفي جرّ بمعنى واحد على طريقة البدل .{ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا }{ كُلَّمَا } للتّكرار ولا يستوي ذلك في الأمة الأولى فاللاحقة تلعن السابقة أو يلعن بعض الأمة الدّاخلة بعضها ومعنى { أُخْتَهَا } أي في الدين والمعنى كلما دخلت أمة من اليهود والنصارى وعبدة الأوثان وغيرهم من الكفار ،

وقال الزمخشري :{ أُخْتَهَا } التي ضلّت بالاقتداء بها انتهى ، والمعنى أنّ أهل النار يلعن بعضهم بعضاً ويعادي بعضهم بعضاً ويكفر بعضهم ببعض ، كما جاء في آيات أخر .

{حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لاْولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا فَئَاتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مّنَ النَّارِ }{ حَتَّى } غاية لما قبلها والمعنى أنهم يدخلون فوجاً ففوجاً لاعناً بعضهم بعضاً إلى انتهاء تداركهم وتلاحقهم في النار واجتماعهم فيها وأصل { ادَّارَكُواْ } تداركوا أدغمت التاء في الدّال فاجتلبت همزة الوصل ، قال ابن عطية ،

وقرأ أبو عمرو { وادّاركوا } بقطع ألف الوصل ، قال أبو الفتح : هذا مشكل ولا يسوغ أن يقطعها ارتجالاً فذلك إنما يجيء شاذّاً في ضرورة الشّعر في الاسم أيضاً لكنّه وقف مثل وقفة المستنكر ثم ابتدأ فقطع ،

وقرأ مجاهد بقطع الألف وسكون الدّال وفتح الراء بمعنى أدرك بعضهم بعضاً ،

وقرأ حميد أدركوا بضمّ الهمزة وكسر الرّاء أي ادخلوا في إدْراكها ، وقال مكي في قراءة مجاهد : إنها ادّركوا بشدّ الدال المفتوحة وفتح الرّاء قال وأصلها ادتركوا وزنها افتعلوا ،

وقرأ ابن مسعود والأعمش تداركوا ورويت عن أبي عمر انتهى ، وقال أبو البقاء ، وقرىء إذا { إِذَا ادَّارَكُواْ } بألف واحدة ساكنة والدّال بعدها مشدّدة وهو جمع بين ساكنين وجاز في المنفصل كما جاز في المتصل ، وقد قال : بعضهم اثنا عشر بإثبات الألف وسكون العين انتهى ويعني بقوله كما جاز في المتصل نحو الضالين وجان و { أُخْرَاهُمْ } الأمّة الأخيرة في الزمان التي وجدت ضلالات مقررة مستعملة { لاْولَاهُمْ } التي شرعت ذلك وافترت وسلكت سبيل الضّلال ابتداء أو { أُخْرَاهُمْ } منزلة ورتبة وهم الأتباع والسفلة { لاْولَاهُمْ } منزلة ورتبة وهم القادة المتبوعون ، أو { أُخْرَاهُمْ } في الدّخول إلى النار وهم { الأتباع }{ أُخْرَاهُمْ لاْولَاهُمْ } دخولاً وهم القادة أقوال آخرها لمقاتل ،

وقال ابن عباس : آخر أمة لأول أمة وأخرى هنا بمعنى آخرة مؤنّث آخر فمقابل أوّل لا مؤنث له آخر بمعنى غير لقوله { وِزْرَ أُخْرَى } واللام في { لاْولَاهُمْ } لام السبب أي لأجل أولاهم لأنّ خطابهم مع اللّه لا

معهم { أَضَلُّونَا } شرعوا لنا الضلال أو جعلونا نضلّ وحملونا عليه ضعفاً زائداً على عذابنا إذ هم كافرون ومسببو كفرنا .

{قَالَ لِكُلّ ضِعْفٌ وَلَاكِن لاَّ تَعْلَمُونَ } أي لكلّ من الأخرى والأولى عذاب وللأولى عذاب متضاعف زائد إلى غير نهاية وذلك أنّ العذاب مؤبّد فكل ألم يعقبه آخر ،

وقرأ الجمهور بالتاء على الخطاب للسائلين أي { لاَ تَعْلَمُونَ } ما لكلّ فريق من العذاب أو لا تعلمون ما لكلّ فريق من العذاب أو لا تعلمون المقادير وصور العذاب قيل أو خطاب لأهل الدّنيا أي ولكن يا أهل الدّنيا لا تعلمون مقدار ذلك ،

وقرأ أبو بكر والمفضّل عن عاصم بالياء فيحتمل أن يكون إخباراً عن الأمة ويكون الضمير في { لاَّ يَعْلَمُونَ } عائداً على الأمة الأخيرة التي طلبت أن يضعف العذاب على أولاها ويحتمل أن يكون خبراً عن الطائفتين أي لا يعلم كل فريق قدر ما أعدّ له من العذاب أو قدر ما أعدّ للفريق الآخر من العذاب وروي عن ابن مسعود أن الضّعف هنا الأفاعي والحيّات وهذه الجملة ردّ على أولئك السّائلين وعدم إسعاف لما طلبوا .

٣٩

وقالت أولاهم لأخراهم . . . . .

{وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لاِخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} أي قالت الطائفة المتبوعة للطائفة المتبعة واللام في { لاِخْرَاهُمْ } لام التبليغ نحو قلت لك اصنع كذا لأن الخطاب هو مع أخراهم بخلاف اللام أي في { لاْولَاهُمْ } فإنها كما ذكرنا لام السبب لأنّ الخطاب هناك مع اللّه تعالى والمعنى أنتم لا فضل لكم علينا ولم تزدجروا حين جاءتكم الرّسل والنذر بل دمتم في كفركم وتركتم النّظر فاستوت حالنا وحالكم

قال الزمخشري : أي قد ثبت أن لا فضل لكم علينا وأنا متساوون في استحقاق الضّعف ، وقال مجاهد : معنى { مِن فَضْلِ } من التخفيف لما قال اللّه { لِكُلّ ضِعْفٌ } قالت الأولى للأخرى لم تبلغوا أملاً بأنّ عذابكم أخفّ من عذابنا ولا فضلتم بالإسعاف انتهى ، والفاء في { فَمَا }

قال الزمخشري : عطفوا هذا الكلام على قول اللّه تعالى للسّلفة { لِكُلّ ضِعْفٌ } والذي يظهر أنّ المعنى انتفاء كون فضل عليهم من السّفلة في الدّنيا بسبب اتباعهم إياهم وموافقتهم لهم في الكفر أي اتباعكم إيانا وعدم اتباعكم سواء لأنكم كنتم في الدّنيا أقل عندنا من أن يكون لكم علينا فضل باتباعكم بل كفرتم اختياراً لا إنّا حملناكم على ذلك إجباراً وأنّ قوله { فَمَا } معطوف على جملة محذوفة بعد القول دلّ عليها ما سبق من الكلام والتقدير { قَالَتْ أُولَاهُمْ لاِخْرَاهُمْ } ما دعاؤكم اللّه بأنّا أضللناكم وسؤالكم ما سألتم فما كان لكم علينا من فضل بضلالكم وأن قوله { فَذُوقُواْ الْعَذَابَ } من كلام الأولى خطاباً للأخرى على سبيل التشفي منهم وأنّ ذوق العذاب هو بما كسبت من الآثام لا بسبب دعواكم أنا أضللناكم ،

وقيل :{ فَذُوقُواْ } من خطاب اللّه لجميعهم .

٤٠

إن الذين كذبوا . . . . .

{إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّمَاء } قال ابن عباس { لاَ تُفَتَّحُ } لأعمالهم ولا لدعائهم ولا لما يريدون به طاعة اللّه تعالى أي لا يصعد لهم صالح فتفتح أبواب السماء له وهذا منتزع من قوله { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } ه ومن قوله إن كتاب الأبرار لفي عليين ، وقال السدي وغيره :{ لاَ تُفَتَّحُ } لأرواحهم وذكروا في صعود الرّوحين إلى السماء الإذن لروح المؤمن وردّ روح الكافر أحاديث وذلك عند موتهما ،

وقيل : المعنى { لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّمَاء } في القيامة ليدخلوا منها إلى الجنة أي لا يؤذن لهم في الصعود إلى السماء ،

وقيل : لا تنزل عليهم البركة ولا يغاثون ،

وقرأ أبو عمرو { لاَ تُفَتَّحُ } بتاء التأنيث والتخفيف ،

وقرأ الأخوان بالياء والتخفيف ،

وقرأ باقي السّبعة بالتاء من أعلى والتشديد .

وقرأ أبو حيوة وأبو البرهسم بالثاء من أعلى مفتوحة والتشديد .

{وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِى سَمّ الْخِيَاطِ } هذا نفي مغيا بمستحيل والولوج التقحّم في الشيء وذكر الجمل لأنه أعظم الحيوان المزاول للإنسان جنّة فلا يلج إلا في باب واسع كما قال ،

لقد عظم البعير بغير لبّ ، وقال : جسم الجمال وأحلام العصافير ، وذكر { سَمّ الْخِيَاطِ } لأنه يضرب به المثل في ضيق المسلك يقال : أضيق من خرت الإبرة ،

وقيل : للدليل خريت لاهتدائه في المضايق تشبيهاً بإخرات الإبرة والمعنى أنّهم لا يدخلون الجنة أبداً ،

وقرأ ابن عباس فيما روى عنه شهره بن حوشب ومجاهد وابن يعمر وأبو مجلز والشعبي ومالك بن الشخير وأبو رجاء وأبو رزين وابن محيصن وإبان عن عاصم الجمل بضم الجيم وفتح الميم مشدّدة وفسّر بالفلس الغليظ وهو حبل السفينة تجمع حبال وتفتل وتصير حبلاً واحداً ،

وقيل : هو الحبل الغليظ من القنب ،

وقيل : الحبل الذي يصعد به في النخل ، وروي عن ابن عباس ولعله لا يصحّ أن اللّه أحسن تشبيهاً من أن يشبه بالجمل يعني أنه لا يناسب والحبل يناسب الخيط الذي يسلك به في خرم الإبرة ، وعن الكسائي أن الذي روى { الْجَمَلُ } عن ابن عباس كان أعجمياً فشدّد الجيم لعجمته ،

قال ابن عطية : وهذا ضعيف لكثرة أصحاب ابن عباس على القراءة المذكورة انتهى ، ولكثرة القرّاء بها غير ابن عباس ،

وقرأ ابن عباس أيضاً في رواية مجاهد وابن جبير وقتادة وسالم الأفطي بضمّ الجيم وفتح الميم مخففة ،

وقرأ ابن عباس في رواية عطاء والضحّاك والجحدري بضمّ الجيم والميم مخففة ،

وقرأ عكرمة وابن جبير في رواية بضم الجيم وسكون الميم الجمل ،

وقرأ المتوكِّل وأبو الجوزاء بفتح الجيم وسكون الميم ومعناه في هذه القراءات الفلس الغليظ وهو حبل السفينة وقراءة الجمهور { الْجَمَلُ } بفتح الجيم والميم أوقع لأنّ سم الإبرة يضرب بها المثل في الضّيق والجمل وهو هذا الحيوان المعروف يضرب به المثل في عظم الجثة كما ذكرنا ، وسئل ابن مسعود عن الحمل فقال روح الناقة وذلك منه استجهال للسائل ومنع منه أن يتكلف له معنى آخر ،

وقرأ عبد اللّه وقتادة وأبو رزين وابن مصرف وطلحة بضم سين { سَمّ } ،

وقرأ أبو عمران الحوفي وأبو نهيك والأصمعي عن نافع بكسر السين { سَمّ } ،

وقرأ عبد اللّه وأبور رزين وأبو مجلز المخيط بكسر الميم وسكون الخاء وفتح الياء ،

وقرأ طلحة بفتح الميم .{ وَكَذالِكَ نَجْزِى الْمُجْرِمِينَ } أي مثل ذلك الجزاء { نُجْزِى } أهل الجرائم ،

وقال الزمخشري ليؤذن أن الإجرام هو السبب الموصل وأن كل من أجرم عوقب ثم كرره تعال فقال { وَكَذالِكَ نَجْزِى الظَّالِمِينَ } لأن كل مجرم ظالم لنفسه انتهى ، وفيه دسيسة الاعتزال .

٤١

لهم من جهنم . . . . .

{لَهُم مّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذالِكَ نَجْزِى الظَّالِمِينَ } هذه استعارة لما يحيط بهم من النار من كل جانب كما قال لهم { مّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ } والغواشي جميع غاشية ، قال ابن عباس والقرظي وابن زيد : هي اللحف ، وقال عكرمة : يغشاهم الدّخان من فوقهم ، وقال الزّجاج : غاشية من النار ، وقال الضحاك : المهاد الفرش والغواشي اللحف والتنوين في { غَوَاشٍ } تنوين صرف أو تنوين عوض قولان وتنوين عوض من الياء أو من الحركة قولان كل ذلك مقرّر في علم النحو ، وقرىء { غَوَاشٍ } بالرفع كقراءة عبد اللّه { وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَئَاتُ}

٤٢

والذين آمنوا وعملوا . . . . .

{وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } لما أخبر بوعيد الكفار أخبر بوعد المؤمنين وخبر و { الَّذِينَ } الجملة من { لاَ نُكَلّفُ نَفْسًا } منهم أو الجملة من { أُوْلَائِكَ } وما بعده وتكون جملة { لاَ نُكَلّفُ } اعتراضاً بين المبتدأ والخبر ، وفائدته أنه لما ذكر قوله و { عَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } نبه على أن ذلك العمل وسعهم وغير خارج عن قدرتهم وفيه تنبيه للكفار على أنّ الجنة مع عظم مجالها يوصل إليها بالعمل السهل من غير مشقة ، وقال القاضي أبو بكر بن الطيّب : لم يكلف أحداً في نفقات الزوجات إلا ما وجد وتمكن منه دون ما لا تناله يده ولم يرد إثبات الاستطاعة قبل الفعل ، ونظيره { لاَ يُكَلّفُ اللّه نَفْساً إِلاَّ مَا ءاتَاهَا } انتهى ، وليس السياق يقتضي ما ذكر ،

وقال الزمخشري : جملة معترضة بين المبتدأ والخبر للترغيب في اكتساب ما لا يكتنهه وصف الواصف من النعيم الخالد مع العظيم بما هو من الواسع وهو الإمكان الواسع غير الضّيق من الإيمان والعمل الصالح انتهى ، وفيه دسيسة الاعتزال ،

وقرأ الأعمش لا تكلف نفس .

٤٣

ونزعنا ما في . . . . .

{وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الاْنْهَارُ } أي أذهبنا في الجنة ما انطوت عليه صدورهم من الحقود .

وقيل نزع الغل في الجنة أن لا يحسد بعضهم بعضاً في تفاضل منازلهم ، وقال الحسن : غلّ الجاهلية ، وقال سهل بن عبد اللّه الأهواء والبدع ، وروي عن عليّ كرم اللّه وجهه فينا واللّه أهل بدر نزلت وعنه إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قيل فيهم ونزعنا الآية ، والذي يظهر أنّ النزع للغلّ كناية عن خلقهم في الآخرة سالمي القلوب طاهريها متوادّين متعاطفين ، كما قال إخواناً على سرر متقابلين وتجري حال قاله الحوفي قال : والعمل فيه نزعنا ، وقال أبو البقاء : حال والعامل فيها معنى الإضافة وكلا القولين لا يصح لأن تجري ليس من صفات الفاعل الذي هو ضمير نزعنا ولا صفات المفعول الذي هو ما في صدورهم ولأن معنى الإضافة لا يعمل إلا إذا كانت إضافة يمكن للمضاف أن يعمل إذا جرّد من الإضافة رفعاً أو نصباً فيما بعده والظاهر أنه خبر مستأنف عن صفة حالهم .

{وَقَالُواْ الْحَمْدُ للّه الَّذِى هَدَانَا لِهَاذَا } أي وفّقنا لتحصيل هذا النعيم الذي صرنا إليه بالإيمان والعمل الصالح إذ هو نعمة عظيمة يجب عليهم بها حمده والثناء عليه تعالى ،

وقيل : الهداية هنا هو الإرشاد إلى طريق الجنة ومنازلهم فيها وفي الحديث { أنّ أحدهم أهدى إلى منزله في الجنة من منزله في الدنيا} ،

وقيل : الإشارة بهذا إلى العمل الصالح الذي هذا جزاؤه ،

وقيل إلى الإيمان الذي تأهّلوا به لهذا النعيم المقيم ،

وقال الزمخشري : أي وفقنا لموجب هذا الفوز العظيم وهو الإيمان والعمل الصالح انتهى ، وفي لفظه واجب والعمل الصالح دسيسة الاعتزال ، وقال أبو عبد اللّه الرازي معنى { هَدَانَا } اللّه أعطانا القدرة وضمّ إليها الدّاعية الجازمة ، وصير مجموعهما لحصول تلك الفضيلة وقالت المعتزلة التّحميد إنما وقع على أنه تعالى خلق العقل ووضع الدلائل وأزال الموانع انتهى ، وفي صحيح مسلم { إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى منادٍ أنّ لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً} ، وأنّ لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً وأنّ لكم أن تشبّوا فلا تهرموا أبداً وأنّ لكم أن تنعموا فلا تيأسوا أبداً فلذلك قالوا : { الْحَمْدُ للّه الَّذِى هَدَانَا لِهَاذَا}{ وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِىَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّه } أي وما كانت توجد منا أنفسنا وجدها الهداية لولا أن اللّه هدانا وهذه الجملة توضح أن اللّه خالق الهداية فيهم وأنهم لو خلوا وأنفسهم لم تكن منهم هداية ،

وقال الزمخشري : وما كان يستقيم أن نكون مهتدين

لولا هداية اللّه تعالى وتوفيقه ، وقال أبو البقاء : و الواو للحال ويجوز أن تكون مستأنفة انتهى ،

والثاني : أظهر .

وقرأ ابن عامر { مَا كُنَّا } بغير واو وكذا هي في مصاحف أهل الشام وهي على هذا جملة موضحة للأولى ومن أجاز فيها الحال مع الواو ينبغي أن يجيزها دونها ، والذي تقتضيه أصول العربية أنّ جواب { لَوْلاَ } محذوف لدلالة ما قبله عليه أي { لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّه } ما كنا لنهتدي أو لضللنا لأنّ{ لَوْلاَ } للتعليق فهي في ذلك كأدوات الشرط على أنّ بعض الناس خرج قوله لولا أن رأى برهان ربّه على أنه جواب تقدم وهو قوله { وَهَمَّ بِهَا } وسيأتي ذلك إن شاء اللّه تعالى ، وهذا على مذهب جمهور البصريين في منع تقديم جواب الشرط .

{لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبّنَا بِالْحَقّ } أي بالموعود الذي وعدنا في الدنيا قضوا بأنّ ذلك حقّ قضاء مشاهدة بالحسّ وكانوا في الدنيا يقضون بذلك بالاستدلال ، وقال الكرماني : وقع الموعود به على ما سبق به الوعد ،

وقال الزمخشري فكان لنا لطفاً وتنبيهاً على الاهتداء فاهتدينا يقولون : ذلك سروراً واغتباطاً بما نالوا وتلذّذا بالتكلم به لا تقرباً وتعبداً كما ترى من رزق خيراً في الدنيا يتكلّم بنحو ذلك ولا يتمالك أن يقوله للفرح لا للقربة .{ وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } يحتمل أن يكون النداء من اللّه وهو أسرّ لقلوبهم وأرفع لقدرهم ويحتمل أن يكون من الملائكة وأن يحتمل أن تكون المخففة من الثقيلة أي { وَنُودُواْ } بأنه { تِلْكُمُ الْجَنَّةُ } واسمها ضمير الشأن يحذف إذا خفّفت ويحتمل أن تكون { ءانٍ } مفسرة لوجود شرطها وهما أن يكون قبلها جملة في معنى القول وبعدها جملة وكأنه قيل :{ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ} قال ابن عطية { تِلْكُمُ } إشارة إلى غائبة فإما لأنهم كانوا وعدوا بها في الدنيا فالإشارة إلى تلك أي { تِلْكُمُ } هذه { الْجَنَّةِ } وحذفت هذه

وإما قبل أن يدخلوها

وإما بعد الدخول وهم مجتمعون في موضع منها فكل غائب عن منزله انتهى ، وفي كتاب التحرير و { تِلْكُمُ } إشارة إلى غائب وإنما قال هنا { تِلْكُمُ } لأنهم وعدوا بها في الدنيا فلأجل الوعد جرى الخطاب بكلمة العهد قوله صلى اللّه عليه وسلم للصديق في الاستخبار عن عائشة { كيف تيكم للعهد السابق} انتهى ،  { والجنة } جوّزوا فيها أن تكون خبراً لتلكم { وأورثتموها } حال كقوله { أَجْمَعِينَ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً} قال أبو البقاء : حال من { الْجَنَّةِ } والعامل فيها ما في تلك من معنى الإشارة ولا يجوز أن تكون حالاً من تلك للفصل بينهما بالخبر ولكون المبتدأ لا يعمل في الحال انتهى ، وفي العامل في الحال في مثل هذا زيد قائماً خلاف في النحو وأن يكون نعتاً وبدلاً{ وأورثتموها } الخبر أدغم النحويان وحمزة وهشام الثاء في التاء وأظهرها باقي السبعة ومعنى { الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا } صيرت لكم كالإرث وأبعد من ذهب إلى أنّ المعنى أورثتموها عن آبائكم لأنها كانت منازلهم لو آمنوا فحرموها بكفرهم وبعده إنّ ذلك عامّ في جميع المؤمنين ولم تكن آباؤهم كلهم كفاراً والباء في { بِمَا } للسبب المجازي والأعمال أمارة من اللّه ودليل على قوة الرجاء ودخول الجنة إنما هو بمجرد رحمة اللّه والقسم فيها على قدر العمل ولفظ { أُورِثْتُمُوهَا } مشير إلى الأقسام وليس ذلك واجباً على اللّه تعالى ،

وقال الزمخشري :{ أُورِثْتُمُوهَا } بما كنتم تعملون بسبب أعمالكم لا بالتفضل كما تقول المبطلة انتهى ، وهذا مذهب المعتزلة ، وفي صحيح مسلم لن يدخل الجنة أحد بعمله قالوا : { ولا أنت يا رسول اللّه قال : ولا أنا إلا أن يتغمّدني اللّه برحمة منه وفضل}

٤٤

انظر تسفير الآية:٤٥

٤٥

ونادى أصحاب الجنة . . . . .

{وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّا قَالُواْ} عبر بالماضي عن المستقبل لتحقّق وقوعه وهذا النداء فيه تقريع وتوبيخ وتوقيف على مآل الفريقين وزيادة في كرب أهل النار بأن شرفوا عليهم وبخلق إدراك أهل النار لذلك النداء في أسماعهم ، قال

الزمخشري : وإنما قالوا لهم ذلك اعتباطاً بحالهم وشماتة بأهل النار وزيادة في غمّهم وليكون حكايته لطفاً لمن سمعها وكذلك قول المؤذّن بينهم أن لعنة اللّه على الظالمين وهو ملك يأمره اللّه تعالى فينادي بينهم يسمع أهل الجنة وأهل النار وأتى في إخبار أهل الجنة { مَّا وَعَدَنَا } بذكر المفعول وفي قصة أهل النار ما وعد ولم يذكر مفعول { وَعْدُ } لأنّ أهل الجنة مستبشرون بحصول موعودهم فذكروا ما وعدهم اللّه مضافاً إليهم ولم يذكروا حين سألوا أهل الجنة متعلق { وَعْدُ } باسم الخطاب فيقولوا :{ مَا وَعَدَكُمُ } ليشمل كل موعود من عذاب أهل النار ونعيم أهل الجنة وتكون إجابتهم بنعم تصديقاً لجميع ما وعد اللّه بوقوعه في الآخرة للصفين ويكون ذلك اعترافاً منهم بحصول موعود المؤمنين ليتحسّروا على ما فاتهم من نعيمهم إذ نعيم أهل الجنة مما يخزيهم ويزيد في عذابهم ويحتمل أن يكون حذف المفعول الذي للخطاب لدلالة ما قبله عليه وتقديره { فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ } ،

وقرأ ابن وثاب والأعمش والكسائي { نِعْمَ } بكسر العين ، ويحتمل أن تكون تفسيريّة وأن تكون مصدرية مخففة من أن الثقيلة وإذا ولى المخففة فعل متصرف غير دعاء فصل بينهما بقد في الأجود كقوله :{ أَن قَدْ وَجَدْنَا}

{فَأَذَّنَ مُؤَذّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللّه عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّه وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالاْخِرَةِ كَافِرُونَ } أي فأعلم معلم ، قيل : هو إسرافيل صاحب الصور ،

وقيل : جبريل يسمع الفريقين تفريحاً وتبريحاً ،

وقيل : ملك غيره معين ودخل طاووس على هشام بن عبد الملك فقال له : إحذر يوم الأذان فقال : وما يوم الأذان قال : يوم { فَأَذَّنَ مُؤَذّنٌ } الآية فصعق هشام فقال : طاووس هذا ذلّ الصفة فكيف ذلّ المعاينة وبينهم يحتمل أن يكون معمولاً لأذّن ويحتمل أن يكون صفة لمؤذن فالعامل فيه محذوف ،

وقرأ الأخوان وابن عامر والبزي { أَن لَّعْنَةُ اللّه } بتثقيل { ءانٍ } ونصب { لَّعْنَةُ } وعصمة عن الأعمش إنّ بكسر الهمزة والتثقيل ونصب { لَّعْنَةُ } على إضمار القول أو إجراء أذن مجرى قال ،

وقرأ باق السبعة أن يفتح الهمزة خفيفة النون ورفع { لَّعْنَةُ } على الابتداء وأن مخففة من الثقيلة أو مفسرة و { يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّه وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا } تقدّم تفسير مثله وهذا الوصف بالموصول هو حكاية عن قولهم السابق والمعنى الذين كانوا يصدون عن سبيل اللّه لأنهم وقت الأذان لم يكونوا متصفين بهذا الوصف ، والمعنى بالظلم الكفار ويدفع قول من قال : إنه عام في الكافر والفاسق قوله أخيراً{ وَهُم بِالاْخِرَةِ كَافِرُونَ } لأنّ الفاسق ليس كافراً بالآخرة بل مؤمن مصدّق بها .

٤٦

وبينهما حجاب وعلى . . . . .

{وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ } أي بين الفريقين لأنهم المحدّث عنهم وهو الظاهر ،

وقيل : بين الجنة والنار وبهذا بدأ الزمخشري وابن عطية وفسر الحجاب بأنه المعنى بقوله فضرب بينهم بسور وقاله ابن عباس : ويقوي أنه بين الفريقين لفظ بينهم إذ هو ضمير العقلاء ولا يحيل ضرب السّور بعدما بين الجنة والنار وإن كانت تلك في السماء والنار أسفل السافلين .{ وَعَلَى الاْعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ } أي وعلى أعراف الحجاب وهو السّور المضروب { رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ } من فريقي الجنة والنار بعلامتهم التي ميّزهم اللّه بها من ابيضاض وجوه واسوداد وجوه أو بغير ذلك من العلامات أو بعلامتهم التي يلهمهم اللّه معرفتها و { الاْعْرَافِ } تل بين الجنة والنار ، قاله ابن عباس ، وقال مجاهد : حجاب بين الجنة والنار ،

وقيل : هو أحد ممثل بين الجنة والنارروي هذا في حديث وفي آخر { أنّ أحداً على ركن من أركان الجنة} ،

وقيل : أعالي السّور الذي ضرب بين الجنة والنار قاله الزمخشري ، والرجال قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم وقفوا هنالك ما

شاء اللّه ، لم تبلغ حسناتهم بهم دخول الجنة ولا سيئاتهم دخول النار ، وروي في مسند ابن أبي خيثمة عن جابر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حديث فيه قيل يا رسول اللّه فمن استوت حسناته وسيئاته قال :  { أولئك أصحاب الأعراف لم يدخلوها وهم يطمعون } ، وقاله ابن مسعود وابن عباس وحذيفة وأبو هريرة ، قال حذيفة بن اليمان أيضاً هم قوم أبطأت بهم صغائرهم إلى آخر الناس ،

وقيل غزاة جاهدوا من غير إذن والديهم فقتلوا في المعركة وهذا مرويّ عن الرسول أنهم حبسوا عن الجنة بمعصية آبائهم وأعتقهم اللّه من النار لأنهم قتلوا في سبيله ،

وقيل : قوم رضي عنهم آباؤهم دون أمهاتهم أو بالعكس ،

وقيل : هم أولاد الزنا ،

وقيل : أولاد المشركين ،

وقيل : الذين كانوا في الأسر ولم يبدّلوا دينهم ،

وقيل : علماء شكوا في أرزاقهم ،

وقال الزمخشري : رجال من المسلمين من آخرهم دخولاً في الجنة لقصور أعمالهم كأنهم المرجئون لأمر اللّه يحبسون بين الجنة والنار إلى أن يأذن اللّه لهم في دخول الجنة ، و

قال ابن عطية : واللازم من الآية أنّ على أعراف ذلك السور أو على مواضع مرتفعة عن الفريقين حيث شاء اللّه رجالاً من أهل الجنة يتأخر دخولهم ويقع لهم ما وصف من الاعتبار في الفريقين { فَاقِرَةٌ كَلاَّ } بعلامتهم وهي بياض الوجوه وحسنها في أهل الجنة وسوادها وقبحها في أهل النار انتهى ، والأقوال السابقة تحتاج إلى دليل واضح في التخصيص والجيّد منها هو الأوّل لحديث جابر ولتفسير جماعة من الصحابة وهذه الأقوال هي على قول من قال إنّ{ الاْعْرَافِ } هو بين الجنة والنار ، وفي شعر أمية بن الصّلت : وآخرون على الأعراف قد طمعوا

في جنّة حفّها الرمّان والخضر

وقال قوم : إنه الصراط ،

وقيل : موضع على الصراط ، وقال قوم : هو جبل في وسط الجنة أو أعلاها واختلف هؤلاء في تفسير رجال ، وقال أبو مجلز : ملائكة في صور رجال ذكور وسمّوا رجالاً لقوله :{ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً } وقال مجاهد والحسن هم فضلاء المؤمنين وعلماؤهم ،

وقيل : هم الشهداء وقاله الكرماني : واختاره النحّاس ، وقال هو أحسن ما قيل فيه ،

وقيل : حمزة والعبّاس وعلي وجعفر الطيّار ، وروي هذا عن ابن عباس ،

وقيل : هم الأنبياء .

{وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَن سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاء أَصْحَابِ النَّارِ قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} الظاهر أن الضمير في ونادوا إلى آخر الآية عائد على الرّجال الذين على الأعراف وعلى هذا لا يمكن أن تكون تلك الضمائر للأنبياء ولا لشيء مما فسر به أنهم على جبل في وسط الجنة أو أعلى الجنة وفي غاية البعد ما تؤول من ذلك ليصح شيء من تلك الأقوال أنهم أجلسوا على تلك الأماكن المرتفعة ليشاهدوا أحوال الفريقين فيلحقهم السرّور بتلك الأحوال ثم إذا استقر الفريقان نقلوا إلى أمكنتم التي أعدّت لهم في الجنة فمعنى { لَمْ يَدْخُلُوهَا } لم يدخلوا منازلهم المعدّة لهم فيها ومعنى { وَهُمْ يَطْمَعُونَ } يتيقّنون ما أعدّ اللّه لهم من الزلفى وقد جاء الطمع بمعنى اليقين قال { وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدِينِ } وطمع إبراهيم عليه السلام يقين . وقال الشاعر : وإني لأطمع أنّ الإله

قدير بحسن يقيني يقيني

وأما قول من قال : إنّ الأعراف جبل بين الجنة والنار فقد طعن فيه القاضي والجبائي وقالا : هو فاسد لأنّ قوله { بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } يدلّ على أنّ كل من دخل الجنة لا بد أن يكون مستحقاً لدخولها وذلك يمنع من القول بوجود أقوام لا يستحقّون الجنة ولا النار ثم يدخلون الجنة بمحض الفضل لا بسبب الاستحقاق ولأن كونهم من أهل الأعراف يدّل على ميزهم من جميع أهل القيامة فإنّ إجلاسهم على الأماكن المرتفعة العالية على أهل الجنة والنار تشريف عظيم لا يليق إلا بالأشراف ومن تساوت حسناته وسيئاته درجته قاصرة لا يليق بهم ذلك التشريف ، وأجيب بأنه يحتمل أن يكون ونودوا خطاب مع أقوام معينين فلا يلزم أن تكون أهل الجنة والنار و { أَن سَلَامٌ } يحتمل أن { ءانٍ } تكون تفسرية ومخففة من الثقيلة ولم يدخلوها حال من المفعول أي ناداهم وهم في هذه الحال يعني أهل الجنة وهم يطمعون جملة خبريّة لا موضع لها من الإعراب أي نادوا أهل الجنة غير داخليها ثم أخبر أنهم طامعون في دخولها قال معناه أبو البقاء ،

وقيل : المعنى ونادى أصحاب الأعراب أصحاب الجنة بالسلام وهم قد دخلوا الجنة وأهل الأعراف لم يدخلوها فيكون قوله { لَمْ يَدْخُلُوهَا } حالاً من ضمير ونادوا العائد على أهل الأعراف فقط وهذا تأويل ابن مسعود وقتادة والسدّي وغيرهم ، وقال ابن مسعود : واللّه ما جعل اللّه ذلك الطمع في قلوبهم إلا لخير أراده بهم وهذا هو الأظهر والأليق بمساق الآية ، وقال ابن مسعود أيضاً : إنما طمع أصحاب الأعراف لأنّ النور الذي كان في أيديهم لم يطفأ حين طفىء نور ما بأيدي المنافقين ،

وقيل :{ وَهُمْ يَطْمَعُونَ } حال من ضمير الفاعل في { يَدْخُلُوهَا } والمعنى لم يدخلوها في حال طمع لها بل كانوا في حال يأس وخوف لكن عمّهم عفو اللّه .

وقال الزمخشري :

فإن قلت : ما محل قوله { لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ }

قلت : لا محلّ له لأنه استئناف كأنّ سائلاً سأل عن أصحاب الأعراف فقيل له { لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ } يعني أنّ دخولهم الجنة استأخر عن دخول أهل الجنة فلم يدخلوها لكونهم محبوسين وهم يطمعون لم ييأسوا ويجوز أن يكون له محل بأن يقع صفة انتهى ، وهذا توجيه ضعيف للفصل بين الموصوف وصفته بجملة ونادوا وليست جملة اعتراض

وقرأ ابن النحوي وهم طامعون ،

وقرأ إياد بن لقيط وهم ساخطون ،

٤٧

وإذا صرفت أبصارهم . . . . .

وقرأ الأعمش وإذا قلبت { أَبْصَارَهُمْ } والضمير في أبصارهم عائد على رجال الأعراف يسلّمون على أهل الجنّة وإذا نظروا إلى أهل النّار دعوا اللّه في التخلّص منها قاله ابن عباس وجماعة ، وقال أبو مجلز : الضمير لأهل الجنة وهم لم يدخلوها بعد وفي قوله { صُرِفَتْ } دليل أنّ أكثر أحوالهم النظر إلى تلقاء أصحاب الجنة وأن نظرهم إلى أصحاب النار هو بكونهم صرفت أبصارهم تلقاءهم فليس الصّرف من قبلهم بل هم محمولون عليه مفعول بهم ذلك لأنّ ذلك المطلع مخوف من سماعه فضلاً عن رؤيته فضلاً عن التلبيس به والمعنى أنهم إذا حملوا على صرف أبصارهم ورأوا ما هم عليه من العذاب استغاثوا بربّهم من أن يجعلهم معهم ولفظه { رَبَّنَا } مشعرة بوصفه تعالى بأنه مصلحهم وسيدهم وهم عبيد فبالدعاء به طلب رحمته واستعطاف كرمه .

٤٨

ونادى أصحاب الأعراف . . . . .

{وَنَادَى أَصْحَابُ الاْعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُواْ مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ } يحتمل أن يكون هذا النداء وأولئك الرجال في النار ومعرفتهم إياهم في الدنيا

بعلامات ويحتمل أن يكون وهم يحملون إلى النار وسيماهم تسويد الوجه وتشويه الخلق ، وقال أبو مجلز : الملائكة تنادي رجالاً في النار وهذا على تفسيره أنّ الأعراف هم ملائكة والجمهور على أنهم آدميون ولفظ { رِجَالاً } يدل على أنهم غير معينين ، وقال ابن القشيري : ينادي أصحاب الأعراف رؤساء المشركين قبل امتحاء صورهم بالنار يا وليد بن المغيرة يا أبا جهل بن هشام يا عاصي بن وائل يا عتبة بن أبي معيط يا أمية بن خلف يا أبي بن خلف يا سائر رؤساء الكفّار { مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ } في الدنيا المال والولد والأجناد والحجاب والجيوش { وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ } عن الإيمان انتهى ، { وَمَا أُغْنِى } استفهام توبيخ وتقريع ،

وقيل : نافية و { مَا } في و { مَّا كُنتُمْ } مصدريّة أي وكونكم تستكبرون وقرأت فرقة تستكثرون بالثاء مثلثة من الكثرة .

٤٩

أهؤلاء الذين أقسمتم . . . . .

{أَهَاؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللّه بِرَحْمَتِهِ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ } الظاهر أنّ هذا من جملة مقول أهل الأعراف وتكون الإشارة إلى أهل الجنة الذين كان الرؤساء يستهينون بهم ويحقّرونهم لفقرهم وقلة حظوظهم في الدنيا وكانوا يقسمون باللّه تعالى لا يدخلهم الجنة قاله الزمخشري ، وذكره ابن عطية عن بعض المتأوّلين ، قال : الإشارة بهؤلاء إلى أهل الجنة والمخاطبون هم أهل الأعراف والذين خوطبوا أهل النار والمعنى { أَهَاؤُلاء } الضعفاء في الدنيا الذين حلفتهم أن اللّه لا يعبأ بهم قبل لهم ادخلوا الجنة ،

وقال ابن عباس :{ أَهَاؤُلاء } من كلام ملك بأمر اللّه إشارة إلى أهل الأعراف ومخاطبة لأهل النار ، قال النقاش لما وبخوهم بقولهم { مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ } أقسم أهل النار أنّ أهل الأعراف داخلون النار معهم فنادتهم الملائكة { أَهَاؤُلاء } ثم نادى أهل الأعراف ادخلوا الجنة ،

وقيل : الإشارة بهؤلاء إلى أهل الأعراف والقائلون هم أصحاب الأعراف ثم يرجعون إلى مخاطبة أنفسهم فيقول بعضهم لبعض { ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ } قاله الحسن ،

وقيل : الإشارة إلى المؤمنين الذين كان الكفار يحلفون أنهم لا يدخلون الجنة والقائل إما اللّه

وإما الملائكة ،

وقيل : المشار بهؤلاء أصحاب الأعراف والقائل مالك خازن النار يأمر اللّه تعالى ، وقال أبو مجلز : أهل الأعراف هم الملائكة وهم القائلون { أَهَاؤُلاء } إشارة إلى أهل الجنة ، وكذلك مجيء قول من قال أهل الأعراف أنبياء وشهداء ،

وقرأ الحسن وابن هرمز : أدخلوا من أدخل أي أدخلوا أنفسكم أو يكون خطاباً للملائكة ثم خاطب بعد البشر .

وقرأ عكرمة دخلوا إخباراً بفعل ماض ،

وقرأ طلحة وابن وثاب والنخعي { أَدْخِلُواْ } خيراً مبنيّاً للمفعول وعلى هاتين القراءتين يكون قوله { لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ } على تقدير مقولاً لهم لا خوف عليكم ،

قال الزمخشري : يقال لأهل الأعراف ادخلوا الجنة بعد أن يحبسوا على الأعراف وينظروا إلى الفريقين ويعرفوهم بسيماهم ويقولوا ما يقولون وفائدة ذلك بيان أنّ الجزاء على قدر الأعمال وأنّ التقدّم والتأخر على حسبها وأنّ أحداً لا يسبق عند اللّه تعالى إلا بسبقه من العمل ولا يتخلّفه إلا بتخلّفه وليرغب السامعون في حال السابقين ويحصروا على إحراز قصبهم وأنّ كلاًّ يعرف ذلك اليوم بسيماه التي استوجب أن يوسم بها من أهل الخير والشرّ فيرتدع المسيء عن إساءته ويزيد المحسن في إحسانه وليعلم أن العصاة يوبخهم كلّ أحد حتى أقصر الناس عملاً انتهى ، وهو تكثير من باب الخطابة لا طائل تحته وفيه دسيسة الاعتزال ، وعن حذيفة أنّ أهل الأعراف يرغبون في الشفاعة فيأتون آدم فيدفعهم إلى نوح ثم يتدافعهم الأنبياء حتى يأتوا محمداً صلى اللّه عليه وسلم فيشفع لهم فيشفع فيدخلون الجنة فيلقون في نهر الحياة فيبيضون ويسمون مساكين الجنة ، قال سالم مولى أبي حذيفة : ليت أني من أهل الأعراف .

٥٠

ونادى أصحاب النار . . . . .

{وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّه قَالُواْ إِنَّ اللّه حَرَّمَهُمَا عَلَى } وهذا يقتضي سماع كل من الفريقين كلام الآخر وهذا جائز عقلاً على بعد المسافة بينهما من العلو والسّفل وجائز أن يكون ذلك مع رؤية واطّلاع من اللّه وذلك أخزى وأنكى للكفّار ، وجائز أن يكون ذلك وبينهم الحجاب والسّور ،

وعن ابن عباس أنه لما صار أصحاب الأعراف إلى الجنة طمع أهل النار في الفرح بعد اليأس فقالوا : يا رب

لنا قرابات من أهل الجنة فأذن لنا حتى نراهم ونكلمهم فينظرون إليهم وإلى ما هم فيه من النعيم فعرفوهم ونظر أهل الجنة إلى قراباتهم من أهل جهنم فلم يعرفوهم قد اسودت وجوههم وصاروا خلقاً آخر فنادى أصحاب النار أصحاب الجنة بأسمائهم وأخبروهم بقراباتهم فينادي الرجل أخوه فيقول يا أخي قد احترقت فأغثني فيقول : إنّ اللّه حرّمهما على الكافرين ويحتمل أن تكون مصدرية ومفسّرة ، وكلام ابن عباس يدل على أنّ هذه النداء كان عن رجاء وطمع حصول ذلك ، وقال القاضي هو مع اليأس لأنهم قد علموا دوام عقابهم وأنهم لا يفتر عنهم ولكن اليائس من الشيء قد يطلبه كما يقال في المثل الغريق يتعلق بالزّبد وإن علم أنه لا يغنيه انتهى ، و { أَفِيضُواْ } أمكن من اسقونا لأنها تقتضي التوسعة كما يقال أفاض اللّه عليه نعمه أي وسعها وسؤالهم الماء لشدّة التهابهم واحتراقهم ولأنّ من عادته إطفاء النار أو مما رزقكم اللّه لأنّ البنية البشرية لا تستغني عن الطعام إذ هو مقوّيها أو لرجائهم الرّحمة بأكل طعام و {أَوْ } على بابها من كونهم سألوا أحد الشيئين وأتى {أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّه } عاماً والعطف بأو يدل على أنّ الأول لا يندرج في العموم ،

وقيل :أو بمعنى الواو لقولهم إنّ اللّه حرمهما ،

وقيل المعنى حرم كلاًّ منهما فأو على بابها وما رزقكم اللّه عام فيدخل فيه الطعام والفاكهة والأشربة غير الماء وتخصيصه بالثمرة أو بالطعام أو غير الماء من الأشربة أقوال ثانيها للسدّي وثالثها للزمخشري قال :{أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّه } من غيره من الأشربة لدخوله في حكم الإفاضة فقال : ويجوز أن يراد وألقوا علينا مما رزقكم اللّه من الطعام والفاكهة كقوله : علفتها تبناً وماء باردا وإنما يطلبون ذلك مع يأسهم من الإجابة إليه حيرة في أمرهم كما يفعله المضطر الممتحن انتهى وقوله وإنما يطلبون إلى آخره هو كلام القاضي وقد قدّمناه ويجوز أن يراد وألقوا علينا مما رزقكم اللّه من الطعام والفاكهة يحتمل وجهين ،

أحدهما : أن يكون { أَفِيضُواْ } ضمن معنى ألقوا { عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّه } فيصحّ العطف ويحتمل وهو الظاهر من كلامه أن يكون أضمر فعلاً بعد {أَوْ } يصل إلى { مِمَّا رَزَقَكُمُ } وهو ألقوا وهما مذهبان للنحاة فيما عطف على شيء بحرف عطف والفعل لا يصل إليه والصحيح منهما التضمين لا الإضمار على ما قرّرناه في علم العربية ومعنى التحريم هنا المنع كما قال :

حرام على عينيّ أن تطعما الكرى وإخبارهم بذلك هو عن أمر اللّه .

٥١

الذين اتخذوا دينهم . . . . .

{الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَواةُ الدُّنْيَا } تقدّم تفسير مثل هذا في الأنعام .

{فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَاذَا وَمَا كَانُواْ بِئَايَاتِنَا يَجْحَدُونَ } هذا إخبار من اللّه عما يفعل بهم ، قال ابن عباس وجماعة يتركهم في العذاب كما تركوا النظر للقاء هذا اليوم ، وقال قتادة :{ نَسُواْ } من الخير ولم ينسوا من

الشر ،

وقال الزمخشري : يفعل بهم فعل الناسين الذين ينسون عبيدهم من الخير لا يذكرونهم به { كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَاذَا } كما فعلوا بلقائه فعل الناسين فلم يخطروه ببالهم ولم يهتمّوا به ، وقال الحسن والسدّي أيضاً والأكثرون تتركهم في عذابهم كما تركوا العمل للقاء يومهم انتهى ، وإن قدر النسيان بمعنى الذهول من الكفرة فهو في جهة اللّه بتسمية العقوبة باسم الذنب { وَمَا كَانُواْ } معطوف على ما نسوا وما فيهما مصدرية ويظهر أنّ الكاف في { كَمَا } للتعليل .

٥٢

ولقد جئناهم بكتاب . . . . .

{وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } الضمير في { وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ } عائد على من تقدم ذكره ويكون الكتاب على هذا جنساً أي { بِكِتَابٍ } إلهي إذ الضمير عام في الكفار ، وقال يحيى بن سلام الضمير لمكذبي محمد صلى اللّه عليه وسلم وهو ابتداء كلام وتمّ الكلام عند قوله { يَجْحَدُونَ } والكتاب هو القرآن و { فَصَّلْنَاهُ } عالمين كيفية تفصيله من أحكام ومواعظ وقصص وسائر معانيه ،

وقيل :{ فَصَّلْنَاهُ } بإيضاح الحق من الباطل ،

وقيل : نزلناه في فصول مختلفة .

وقرأ ابن محيصن والجحدري فضلناه بالضاد المنقوطة والمعنى فضلناه على جميع الكتب عالمين بأنه أهل للتفضيل عليها وفي التحرير أنه فضل على سائر الكتب المنزلة بثلاثين خصلة لم تكن في غيره و { فَصَّلْنَاهُ } صفة لكتاب وعلى علم الظاهر أنه حال من فاعل { فَصَّلْنَاهُ }

وقيل التقدير مشتملاً على علم فيكون حالاً من المفعول وانتصب { هُدًى وَرَحْمَةً } على الحال ،

وقيل مفعول من أجله ، وقرىء بالرفع أي هو { هُدًى وَرَحْمَةً } ،

وقرأ زيد بن عليّ هدى ورحمة بالخفض على البدل من كتاب أو النعت وعلى النعت لكتاب خرّجه الكسائي والفرّاء رحمهما اللّه .

٥٣

هل ينظرون إلا . . . . .

{هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ } أي مآل أمره وعاقبته قاله قتادة ومجاهد وغيرهما ، قال ابن عباس مآله يوم القيامة . وقال السدّي في الدنيا كوقعة بدر ويوم القيامة أيضاً ،

وقال الزمخشري ما يؤول إليه من تبيين صدقه وظهور صحته ما نطق به من الوعد الوعيد والتأويل مادته همزة وواو ولام من آل يؤول ، وقال الخطابي : أوّلت الشيء رددته إلى أوّله فاللفظة مأخوذة من الأول انتهى وهو خطأ لاختلاف المادتين .

{يَوْمَ يَأْتِى تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبّنَا بِالْحَقّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا } أي يظهر عاقبة ما أخبر به من الوعد والوعيد وذلك يوم القيامة يسأل تاركوا أتباع الرسول هل لنا من شفعاء سؤالاً عن وجه الخلاص في وقت أن لا خلاص وفي الكلام حذف أي لقد جاءت رسل ربّنا بالحق ولم نصدقهم أو ولم نتبعهم { فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء } والرّسل هنا الأنبياء أخبروا يوم القيامة أنّ الذي جاءتهم به رسلهم هو الحق .

وقيل : ملائكة العذاب عند المعاينة ما أنذروا به ،

وقرأ الجمهور {أَوْ نُرَدُّ } برفع الدّال فنعمل بنصب اللام عطف جملة فعلية على جملة اسمية وتقدّمهما استفهام فانتصب الجوابان أي هل شفعاء لنا فيشفعوا لنا في الخلاص من العذاب أو هل نرد إلى الدّنيا فنعمل عملاً صالحاً ،

وقرأ الحسن : فيما نقل الزمخشري بنصب الدال ورفع اللام ،

وقرأ الحسن فيما نقل ابن عطية وغيره برفعهما عطف { فَنَعْمَلَ } على { نُرَدُّ } ،

وقرأ ابن أبي إسحاق وأبو حيوة بنصبهما فنصب {أَوْ نُرَدُّ } عطفاً على { فَيَشْفَعُواْ لَنَا } جواباً على جواب فيكون الشفعاء في أحد أمرين إما في الخلاص من العذاب

وإما من الرّد إلى الدنيا لاستئناف العمل الصالح وتكون الشفاعة قد انسحبت على الردّ أو الخلاص و { فَنَعْمَلَ } عطف على فنرد

ويحتمل أن يكون {أَوْ نُرَدُّ } من باب لألزمنك أو تقضيني حقي على تقدير من قدّر ذلك حتى تقضيني حقي أو كي تقضيني حقي فجعل اللزوم مغياً بقضاء حقه أو معلولاً له لقضاء حقه وتكون الشفاعة إذ ذاك في الرد فقط

وأما على تقدير سيبويه ألا إني لألزمنك إلا أن تقضيني فليس يظهر أنّ معنى {أَوْ } معنى إلا هنا إذ يصير المعنى هل تشفع لنا شفعاء إلا أن نرد وهذا استثناء غير ظاهر وقولهم هذا هل هو مع الرّجاء أو مع اليأس فيه الخلاف الذي في ندائهم { أَنْ أَفِيضُواْ } ، قال القاضي وهي تدل على حكمين على أنهم كانوا قادرين على الإيمان والتوبة ولذلك سألوا الردّ الثاني إن أهل الآخرة غير مكلفين خلافاً للمجبرة والنجار لأنها لو كانت كذلك ما سألوا الردّ بل كانوا يتوبون ويؤمنون .

{قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } أي خسروا في تجارة أنفسهم حيث ابتاعوا الخسيس الفاني من الدّنيا بالنفيس الباقي من الآخرة وبطل عنهم افتراؤهم على اللّه ما لم يقله ولا أمرهم به وكذّبهم في اتخاذ آلهة من دون اللّه .

٥٤

إن ربكم اللّه . . . . .

{إِنَّ رَبَّكُمُ اللّه الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } لما ذكر تعالى أشياء من مبدأ خلق الإنسان وأمر نبيّه وانقسام إلى مؤمن وكافر وذكر معادهم وحشرهم إلى جنة ونار ذكر مبدأ العالم واختراعه والتنبيه على الدلائل الدالّة على التوحيد وكما القدرة والعلم والقضاء ثم بعد إلى النبوة والرسالة إذ مدار القرآن على تقدير المسائل الأربع التوحيد والقدرة والمعاد والنبوة ، وربّكم خطاب عام للمؤمن والكافر ، وروى بكار بن { إِنَّ رَبَّكُمُ اللّه } بنصب الهاء عطف بيان والظاهر أنه { خُلِقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } وعلى هذا الظاهر فسّر معظم الناس وبدأ بالخلق يوم الأحد وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : أخذ بيدي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال : { خلق اللّه التربة يوم السبت وخلق الجبال فيها يوم الأحد وخلق الشجر يوم الاثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء وبث فيها الدواب يوم الخميس وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات يوم الجمعة فيما بعد العصر إلى الليل } ، وقال عدي بن زيد العبادي : قضى لستة أيام خليقته ، وكان آخر يوم صوّر الرّجلا ، وهو اختيار محمد بن إسحاق ، قال ابن الأنباري هذا إجماع أهل العلم .

وقال عبد اللّه بن سلام وكعب والضحّاك ومجاهد واختاره الطبري بدأ بالخلق يوم الأحد وبه يقول أهل التوراة ،

وقيل يوم الإثنين وبه يقول أهل الإنجيل ، قال ابن عباس وكعب ومجاهد والضحّاك مقدار كل يوم من تلك الأيام ألف سنة ولا فرق بين خلقه تعالى ذلك في لحظة واحدة أو في مدد متوالية بالنسبة إلى قدرته تعالى وإبداء معان لذلك كما زعمه بعض المفسرين قول بلا برهان فلا نسوّد كتابنا بذكره وهو تعالى المنفرد بعلم ذلك ، وذهب بعض المفسرين إلى أنّ التقدير في قوله { فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } في مقدار ستة أيام فليست ستة الأيام أنفسها وقع فيها الخلق وهذا كقوله { وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً } والمراد مقدار البكرة والعشي في الدنيا لأنه لا ليل في الجنة ولا نهار وإنما ذهب الذاهب إلى هذا لأنه إنما يمتاز اليوم عن الليلة بطلوع الشمس وغروبها قبل خلق الشمس والقمر كيف يعقل خلق الأيام والذي أقول : إنه متى أمكن حمل الشيء على ظاهره أو على قريب من ظاهره كان أولى من حمله على ما لا يشمله العقل أو على ما يخالف الظاهر جملة وذلك بأن يجعل قوله { فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } ظرفاً لخلق الأرض لا ظرفاً لخلق السموات والأرض فيكون { فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } مدة لخلق الأرض

بتربتها وجبالها وشجرها ومكروهها ونورها ودوابها وآدم عليه السلام وهذا يطابق الحديث الثابت في الصحيح وتبقى ستة أيام على ظاهرها من العددية ومن كونها أياماً باعتبار امتياز اليوم عن الليلة بطلوع الشمس وغروبها

وأما استواؤه على العرش فحمله على ظاهره من الاستقرار بذاته على العرش قوم والجمهور من السّلف السفيانان ومالك والأوزاعي والليث وابن المبارك وغيرهم في أحاديث الصفات على الإيمان بها وإمرارها على ما أراد اللّه تعالى من غير تعيين مراد وقوم تأوّلوا ذلك على عدّة تأويلات . وقال سفيان الثوري فعل فعلاً في العرش سماه استواء وعن أبي الفضل بن النحوي أنه قال { الْعَرْشِ } مصدر عرش يعرش عرشاً والمراد بالعرش في قوله { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } هذا وهذا ينبو عنه ما تقرر في الشريعة من أنه جسم مخلوق معين ومسألة الاستواء مذكورة في علم أصول الدين وقد أمعن في تقرير ما يمكن تقريره فيها القفال وأبو عبد اللّه الرازي وذكر ذلك في التحرير فيطالع هناك ولفظة { الْعَرْشِ } مشتركة بين معان كثيرة فالعرش سرير الملك ومنه ورفع أبويه على العرش نكروا لها عرشها و { الْعَرْشِ } السّقف وكل ما علا وأظل فهو عرش و { الْعَرْشِ } الملك والسلطان والعزّ ، وقال زهير : تداركتما عبساً وقد ثل عرشها

وذبيان إذ زلّت بأقدامها النعل

وقال آخر : إن يقتلوك فقد ثللت عروشهم

بعتيبة بن الحارث بن شهاب

والعرش الخشب الذي يطوى به البئر بعد أن يطوى أسفلها بالحجارة والعرش أربعة كواكب صغار أسفل من العواء يقال لها : عجز الأسد ويسمّى عرش السّماك والعرش ما يلاقي ظهر القدم وفيه الأصابع واستوى أيضاً يستعمل بمعنى استقرّ وبمعنى علا وبمعنى قصد وبمعنى ساوى وبمعنى تساوى

وقيل بمعنى استولى وأنشدوا : هما استويا بفضلهما جميعا

على عرش الملوك بغير زور

وقال ابن الأعرابي لا نعرف استوى بمعنى استولى والضمير في قوله { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } يحتمل أن يعود على المصدر الذي دلّ عليه خلق ثم استوى خلقه على العرش وكذلك في قوله { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } لا يتعين حمل الضمير في قوله استوى على الرحمن إذ يحتمل أن يكون الرحمن خبر مبتدأ محذوف والضمير في { اسْتَوَى } عائد على الخلق المفهوم من قوله { تَنزِيلاً مّمَّنْ خَلَق الاْرْضَ وَالسَّمَاواتِ الْعُلَى } أي هو الرحمن استوى خلقه على العرش لأنه تعالى لما ذكر خلق السموات والأرض ذكر خلق ما هو أكبر وأعظم وأوسع من السموات والأرض ومع الاحتمال في العرش وفي استوى وفي الضمير العائد لا يتعيّن حمل الآية على ظاهرها هذا مع الدلائل العقلية التي أقاموها على استحالة ذلك . وقال الحسن استوى أمره وسأل مالك بن أنس رجل عن هذه

الآية فقال : كيف استوى فأطرق رأسه مليّاً وعلّته الرخصاء ثم قال : الاستواء معلوم والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة وما أظنك إلا ضالاً ثم أمر به فأخرج .

{إِنَّ رَبَّكُمُ اللّه الَّذِى خَلَقَ } التغشية التغطية والمعنى أنه يذهب الليل نور النهار ليتم قوام الحياة في الدنيا بمجيء الليل والنهار فالليل للسكون والنهار للحركة وفحوى الكلام يدلّ على أنّ النهار يغشيه اللّه الليل وهما مفعولان لأنّ التضعيف والهمزة معدّيان ،

وقرأ بالتضعيف الأخوان وأبو بكر وبإسكان الغين باقي السبعة وبفتح الياء وسكون الغين وفتح الشين وضم اللام حميد بن قيس كذا قال عنه أبو عمرو الداني ، وقال أبو الفتح عثمان بن جني عن حميد بنصب { الَّيْلَ } ورفع { النَّهَارَ } ، قال ابن عطية وأبو الفتح أثبت انتهى وهذا الذي قاله من أنّ أبا الفتح أثبت كلام لا يصح إذ رتبة أبي عمرو الداني في القراءات ومعرفتها وضبط رواياتها واختصاصه بذلك بالمكان الذي لا يدانيه أحد من أثمة القراءات فضلاً عن النحاة الذين ليسوا مقرئي ولا رووا القرآن عن أحد ولا روي عنهم القرآن هذا مع الديانة الزائدة والتثبت في النّقل وعدم التجاسر ووفور الخط من العربية فقد رأيت له كتاباً في كلا وكتاباً في إدغام أبي عمرو الكبير دلاًّ على إطلاعه على ما لا يكاد يطلع عليه أثمة النحاة ولا المقرئين إلى سائر تصانيفه رحمه اللّه والذي نقله أبو عمرو الداني عن حميد أمكن من حيث المعنى لأنّ ذلك موافق لقراءة الجماعة إذ الليل في قراءتهم وإن كان منصوباً هو الفاعل من حيث المعنى إذ همزة النقل أو التضعيف صيره مفعولاً ولا يجوز أن يكون مفعولاً ثانياً من حيث المعنى لأن المنصوبين تعدّى إليهما الفعل وأحدهما فاعل من حيث المعنى فيلزم أن يكون الأول منهما كما لزم ذلك في ملكت زيداً عمراً إذ رتبة التقديم هي الموضّحة أنه الفاعل من حيث المعنى كما لزم ذلك في ضرب موسى عيسى والجملة من يطلبه حال من الفاعل من حيث المعنى وهو الليل إذ هو المحدث عنه قبل التعدية وتقديره حاثاً ويجوز أن يكون حالاً من النهار وتقديره محثوثاً ويجوز أن ينتصب نعتاً لمصدر محذوف أي طلباً حثيثاً أي حثاً أو محثاً ونسبة الطلب إلى الليل مجازية وهو عبارة عن تعاقبه اللازم فكأنه طالب له لا يدركه بل هو في إثره بحيث يكاد يدركه وقدّم الليل هنا كما قدمه في { يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ } وفي { وَلاَ الَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ } وفي { وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ } ، وقال أبو عبد اللّه الرازي وصف هذه الحركة بالسرعة والشدة لأنّ تعاقب الليل والنهار يحصل بحركة الفلك الأعظم وتلك الحركة أشد الحركات سرعة وأكملها شدّة حتى إنّ الباحثين عن أحوال الموجودات قالوا : الإنسان إذا كان في العدو الشديد الكامل قبل أن يرفع رجله ويضعها يتحرك الفلك الأعظم ثلاثة آلاف ميل ولهذا قال :{ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا } ونظيره { لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِى لَهَا } الآية شبه ذلك المسير وتلك الحركة بالسباحة في الماء والمقصود التنبيه على السرعة والسهولة وكمال الاتصال انتهى وفيه بعض تلخيص .

{وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ } انتصب { مُسَخَّراتٍ } على الحال من المجموع أي وخلق الشمس ،

وقرأ ابن عامر بالرفع في الأربعة على الابتداء والخبر ،

وقرأ أبلان بن ثعلب برفع { وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ } فقط على الابتداء والخبر ومعنى { بِأَمْرِهِ } بمشيئته وتصريفه وهو متعلق بمسخرات أي خلقهن جاريات بمقتضى حكمته وتدبيره وكما يريد أن يصرفها سمي ذلك أمراً على التشبيه كأنّهن مأمورات بذلك ، وقال أبو عبد اللّه الرازي الشمس لها نوعان من الحركة أحدهما بحسب ذاتها وذلك يتم في سنة كاملة وبسبب ذلك تحصل السّنة ، والثاني حركتها بحسب حركة الفلك الأعظم ويتم في اليوم بليلته فتقول الليل والنهار لا يحصلان بحركة الشمس وإنما يحصلان بحركة السماء الأقصى الذي يقال له العرش فلهذا السبب لما دل على العرش بقوله { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } وربط بقوله { وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ } تنبيهاً على أنّ الفلك الأعظم وهو العرش يحرك الأفلاك والكواكب على خلاف طبعها من المشرق إلى المغرب وأنه تعالى أودع في جرم الشمس قوة قاهرة باعتبارها قويت على قهر جميع الأفلاك

والكواكب وتحريكها على خلاف مقتضى طبائعها فهذه أبحاث معقولة ولفظ القرآن مشعر بها والعلم عند اللّه ، انتهى .

وتكلم في قوله { مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ } كلاماً كثيراً هو من علم الهيئة وهو علم لم ننظر فيه قال : أربابه وهو علم شريف يطلع فيه على جزئيات غريبة من صنعة اللّه تعالى يزداد بها إيمان المؤمن إذ المعرفة بجزئيات الأشياء وتفاصيلها ليست كالمعرفة بجمليتها ،

وقيل { بِأَمْرِهِ } أي بنفاذ إرادته إذ المقصود تبيين عظيم قدرته لقوله { ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً } وقوله { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْء}

وقيل الأمر هو الكلام .

{أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالاْمْرُ } لما تقدّم ذكر خلق السموات والأرض والشمس والقمر والنجوم وأمره فيها قال ذلك أي له الإيجاد والاختراع وجرى ما خلق واخترع على ما يريده ويأمر به لا أحد يشركه في ذلك ولا في شيء منه ،

وقيل : الخلق بمعنى المخلوق والأمر مصدر من أمر أي المخلوقات كلها له وملكه واختراعه وعلى هذا قال النقاش وغيره : الآية ردّ على القائلين بخلق القرآن لأنه فرق بين المخلوقات وبين الكلام إذ الأمر كلامه انتهى ، وهو استدلال ضعيف إذ لا يتعيّن حمل اللفظ على ما ذكر بل الأظهر خلافه ، وقال الشعبي : الخلق عبارة عن الدنيا والأمر عبارة عن الآخرة .

{تَبَارَكَ اللّه رَبُّ الْعَالَمِينَ } أي علا وعظم ولما تقدّم { إِنَّ رَبَّكُمُ اللّه } صدر الآية جاء آخرها فتبارك اللّه رب العالمين وجاء { الْعَالَمِينَ } أعمّ من ربكم لأنه ذكر خلق تلك الأشياء البديعة وهي عوالم كثيرة فجاء العالمين جمعاً لجميع العوالم واندرج فيه المخاطبون بربكم وغيرهم .

{ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الاٌّ رْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللّه قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ }

٥٥

ادعوا ربكم تضرعا . . . . .

{ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } الظاهر أنّ الدعاء هو مناجاة اللّه بندائه لطلب أشياء ولدفع أشياء ، وقال الزّجاج : المعنى اعبدوا وانتصب { تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } على الحال أي متضرّعين ومخفين أو ذوي تضرّع واختفاء في دعائكم وفي الحديث الصحيح { إنكم لستم تدعون أصم ولا غائباً إنكم تدعون سميعاً قريباً} وكان الصحابة حين أخبرهم الرسول بذلك قد جهروا بالذكر أمر تعالى بالدعاء مقروناً بالتذلل والاستكانة والاختفاء إذ ذاك ادّعى للإجابة وأبعد عن الرياء والدعاء خفية أفضل من الجهر ولذلك أثنى اللّه على زكريا عليه السلام فقال : { إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيّاً } وفي الحديث { خير الذّكر الخفي} وقواعد الشريعة مقررة أن السرّ فيما لم يفترض من أعمال البر أعظم أجراً من الجهر . قال الحسن : أدركنا أقواماً ما كان على الأرض عمل يقدرون أن يكون سراً فيكون جهراً أبداً ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء ولا يسمع لهم صوت إن هو إلا الهمس بينهم وبين ربهم انتهى ولو عاش الحسن إلى هذا الزمان العجيب الذي ظهر فيه ناس يتسمون بالمشايخ يلبسون ثياب شهرة عند العامة بالصّلاح ويتركون الاكتساب ويرتبون لهم إذكاراً لم ترد في الشريعة يجهرون بها في المساجد ويجمعون لهم خداماً يجلبون الناس إليهم لاستخدامهم ونتش أموالهم ويذيعون عنهم كرامات ويرون لهم منامات يدوّنونها في أسفار ويحضون على ترك

العلم والاشتغال بالسنّة ويرون الوصول إلى اللّه بأمور يقررونها من خلوات وأذكار لم يأت بها كتاب منزل ولا نبي مرسل ويتعاظمون على الناس بالانفراد على سجادة ونصب أيديهم للتقبيل وقلّة الكلام وإطراق الرؤوس وتعيين خادم يقول الشيخ مشغول في الخلوة رسم الشيخ قال الشيخ رأى الشيخ الشيخ نظر إليك الشيخ كان البارحة يذكرك إلى نحو من هذه الألفاظ التي يخشون بها على العامة ويجلبون بها عقول الجهلة هذا إن سلم الشيخ وخادمه من الإعتقاد الذي غلب الآن على متصوفة هذا الزمان من القول بالحلول أو القول بالوحدة فإذ ذاك يكون منسلخاً عن شريعة الإسلام بالكليّة والتعجب لمثل هؤلاء كيف ترتب لهم الرّواتب وتبنى لهم الربط وتوقف عليها الأوقاف ويخدمهم الناس في عروهم عن سائر الفضائل ولكن الناس أقرب إلى أشباههم منهم إلى غير أشباههم وقد أطلنا في هذا رجاء أن يقف عليه مسلم فينتفع به ،

وقرأ أبو بكر بكسر ضمة الخاء وهما لغتان ويظهر ذلك من كلام أبي علي ولا يتأتى إلا على ادعاء القلب وهو خلاف الأصل ونقل ابن سيده في المحكم أنّ فرقة قرأت { وَخِيفَةً } من الخوف أي ادعوه باستكانة وخوف . وقال أبو حاتم قرأها الأعمش فيما زعموا .

{إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ }

وقرأ ابن أبي عبلة إن اللّه جعل مكان المضمر المظهر وهذا اللفظ عام يدخل فيه أوّلاً الدعاء على غير هذين الوجهين من عدم التضرّع وعدم الخفية بأن يدعوه وهو ملتبس بالكبر والزهو أو أن ذلك دأبه في المواعيد والمدارس فصار ذلك له صنعة وعادة فلا يلحقه تضرّع ولا تذلل وبأن يدعوه بالجهر البليغ والصياح كدعاء الناس عند الاجتماع في المشاهد والمزارات ، وقال العلماء الاعتداء في الدعاء على وجوه منها الجهر الكثير والصّياح وأن يدعو أن يكون له منزلة نبي وأن يدعو بمحال ونحوه من الشّطط وأن يدعو طالب معصية ، وقال ابن جريج والكلبي الاعتداء رفع الصوت بالدعاء وعنه الصّياح في الدعاء مكروه وبدعة

وقيل هو الإسهاب في الدعاء قال القرطبي وقد ذكر وجوهاً من الاعتداء في الدعاء قال : ومنها أن يدعو بما ليس في الكتاب العزيز ولا في السّنة فيتخير ألفاظاً مقفاة وكلمات مسجعة وقد وجدها في كراريس لهؤلاء يعني المشايخ لا معوّل عليها في فيجعلها شعاره يترك ما دعا به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وكل هذا يمنع من استجابة الدّاء ، وقال ابن جبير : الاعتداء في الدّعاء أن يدعو على المؤمنين بالخزي والشّرك واللعنة ، وفي سنن ابن ماجة أن عبد اللّه بن مغفل سمع ابنه يقول : اللّهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها فقال : أي بني سل اللّه الجنة وعُذْ به من النار فإنّي سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : { سيكون قوم يعتدون في الدعاء } زاد ابن عطية والزمخشري في هذا الحديث { وحسب المرء أن يقول اللّهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل} ثم قرأ { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}

٥٦

ولا تفسدوا في . . . . .

{وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الاْرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} هذا نهي عن إيقاع الفساد في الأرض وإدخال ماهيته في الوجود فيتعلق بجميع أنواعه من إيقاع الفساد في الأرض وإدخال ماهيته في الوجود فيتعلق بجميع أنواعه من إفساد النفوس والأنساب والأموال والعقول والأديان ومعنى { بَعْدَ إِصْلَاحِهَا } بعد أنْ أصلح اللّه خلقها على الوجه الملائم لمنافع الخلق ومصالح المكلفين وما روي عن المفسّرين من تعيين نوع الإفساد والإصلاح ينبغي أن يحمل ذلك على التمثيل إذا ادّعاءه تخصيص شيء من ذلك لا دليل عليه كالظلم بعد العدل أو الكفر بعد الإيمان أو المعصية بعد الطاعة أو بالمعصية فيمسك اللّه المطر ويهلك الحرث بعد إصلاحها بالمطر والخصب أو يقتل المؤمن بعد بقائه أو بتكذيب الرّسل بعد الوحي أو بتغوير الماء المعين وقطع الشجر والثمر ضراراً أو يقطع الدنانير والدراهم أو بتجارة الحكام أو بالإشراك باللّه بعد بعثة الرسل وتقرير الشرائع وإيضاح الملة .

{وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا } لما كان الدّعاء من اللّه بمكان كرره فقال أولاً{ ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } وهاتان الحالتان من الأوصاف الظاهرة لأن الخشوع والاستكانة وإخفاء الصوت ليست من الأفعال القلبية أي وجلين مشفقين وراجين مؤملين فبدأ أوّلاً بأفعال الجوارح ثم ثانياً بأفعال القلوب وانتصب { خَوْفًا وَطَمَعًا } على أنهما مصدران في موضع الحال أو انتصاب المفعول له وعطف أحدهما على

الآخر يقتضي أن يكون الخوف والرجاء متساويين ليكونا للإنسان كالجناحين للطائر يحملانه في طريق استقامة فإن انفرد أحدهما هلك الإنسان وقد قال كثير من العلماء : ينبغي أن يغلب الخوف الرّجاء طول الحياة فإذا جاء الموت غلب الرّجاء ورأى كثير من العلماء أن يكون الخوف أغلب ومنه تمنى الحسن البصري أن يكون الرجل الذي هو آخر من يدخل الجنة وتمنّى سالم مولى أبي حذيفة أن يكون من أصحاب الأعراف لأنّ مذهبه أنهم مذنبون وسالم هذا من رتبة الدّين والفضل بحيث قال عمر بن الخطاب كلاماً معناه لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيّاً لولّيته الخلافة وأبعد من ذهب إلى أن المعنى خوفاً من الردّ وطمعاً في الإجابة .

{وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الاْرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا }

قال الزمخشري : كقوله :{ وَإِنّى لَغَفَّارٌ لّمَن تَابَ وَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً } ، انتهى . يعني أنّ الرحمة مختصة بالمحسن وهو من تاب وآمن وعمل صالحاً وهذا كله حمل القرآن وإنما على مذهبه من الاعتزال والرحمة مؤنثة فقياسها أن يخبر عنها إخبار المؤنّث فيقال قريبة ، فقيل : ذكر على المعنى لأنّ الرحمة بمعنى الرحم والترحّم ،

وقيل : ذكر لأنّ الرحمة بمعنى الغفران والعفو قاله النضر بن شميل واختاره الزّجاج ،

وقيل بمعنى المطر قاله الأخفش أو الثواب قاله ابن جبير فالرحمة في هذه الأقوال بدل عن مذكر .

وقيل : التذكير على طريق النسب أي ذات قرب ،

وقيل : قريب نعت لمذكر محذوف أي شيء قريب ،

وقيل : قريب مشبّه بفعيل الذي هو بمعنى مفعول نحو خصيب وجريح كما شبه فعيل به فقيل شيئاً من أحكامه فقيل في جمعه فعلاء كأسير وأسراء وقتيل وقتلاء كما قالوا : رحيم ورحماء وعليم وعلماء ،

وقيل : هو مصدر جاء على فعيل كالضغيث وهو صوت الأرنب والنقيق وإذا كان مصدر أصح أن يخبر به عن المذكر والمؤنث والمفرد والمثنى والمجموع بلفظ المصدر ،

وقيل لأن تأنيث الرحمة غير حقيقي قاله الجوهري ، وهذا ليس بجيد إلاّ مع تقديم الفعل أما إذا تأخر فلا يجوز إلا التأنيث تقول الشمس طالعة ولا يجوز طالع إلا في ضرورة الشعر بخلاف التقديم فيجوز أطالعة الشمس وأطالع الشمس كما يجوز طلعت الشمس وطلع الشمس ولا يجوز طلع إلا في الشّعر ،

وقيل : فعيل هنا بمعنى المفعول أي مقربة فيصير من باب كفّ خضيب وعين كحيل قاله الكرماني ، وليس بجيد لأن ما ورد من ذلك إنما هو من الثلاثي غير المزيد وهذا بمعنى مقربة فهو من الثلاثي المزيد ومع ذلك فهو لا ينقاس ، وقال الفرّاء إذا استعمل في النسب والقرابة فهو مع المؤنث بتاء ولا بدّ تقول هذه قريبة فلان وإن استعملت في قرب المسافة أو الزمن فقد تجيء مع المؤنث بتاء وقد تجيء بغير تاء تقول دارك مني قريب وفلانة منا قريب ، ومنه هذا وقول الشاعر : عشية لا عفراء منك قريبة

فتدنو ولا عفراء منك بعيد

فجمع في هذا البيت بين الوجهين ،

قال ابن عطية : هذا قول الفرّاء في كتابه وقد مرّ في كتب بعض المفسرين مغيراً انتهى ، وردّ الزّجاج وقال هذا على الفراء هذا خطأ لأنّ سبيل المذكر والمؤنث أن يجريا على أفعالهما وقال من احتج له هذا كلام العرب ،

قال تعالى :{ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً} وقال الشاعر : له الويل إن أمسى ولا أمّ هاشم

قريب ولا البسباسة ابنة يشكرا

وقال أبو عبيدة { قَرِيبٌ } في الآية ليس بصفة للرحمة وإنما هو ظرف لها وموضع فتجيء هكذا في المؤنث والاثنين والجمع وكذلك بعيد فإن جعلوها صفة بمعنى مقتربة قالوا قريبة وقريبتان وقريبات . قال علي بن

سليمان وهذا خطأ ولو كان كما قال لكان قريب منصوباً كما تقول إنّ زيداً قريباً منك انتهى وليس بخطأ لأنه يكون قد اتسع في الظرف فاستعمله غير ظرف كما تقول هند خلفك وفاطمة أمامك بالرّفع إذا اتسعت في الخلف والأمام وإنما يلزم النصب إذا بقيتا على الظّرفية ولم يتسع فيهما وقد أجازوا أنّ قريباً منك زيد على أن يكون قريباً اسم إنّ وزيد الخبر فاتسع في قريب واستعمل اسما لا منصوباً على الظّرف والظاهر عدم تقييد قرب الرحمة من المحسن بزمان بل هي قريب منه مطلقاً وذكر الطبري أنه وقت مفارقة الأرواح للأجساد تنالهم الرحمة .

٥٧

وهو الذي يرسل . . . . .

أقلّ الشيء حمله ورفعه من غير مشقة ومنه إقلال البطن عن الفخذ في الركوع والسجود ومنه القلّة لأنّ البعير يحملها من غير مشقة وأصله من القلة فكان المقلّ يرى ما يرفعه قليلاً واستقل به أقله ، السّوق حمل الشيء بعنف . النّكد العسر القليل . قال الشاعر : لا تنجز الوعد إن وعدت وإن

أعطيت أعطيت قافها نكدا

ونكد الرجل سئل إلحافاً وأخجل . قال الشاعر : وأعطِ ما أعطيته طيبا

لا خير في المنكود والناكدً

الآلاء النعم واحدها إلى كمعى . أنشد الزجاج :

أبيض لا يرهب الهزال ولا

يقطع رحمي ولا يخون إلىً

وإلى بمعنى الوقت أو إلى كقفا وإلى كحسى أو إلى كجرو ، وقع قال النضر بن شميل قرع وصدر كوقوع الميقعة وقال غيره : نزل والواقعة النازلة من الشدائد والوقائع الحروب والميقعة المطرقة . قال بعض أدبائنا :

ذو الفضل كالتبر طوراً تحت ميقعة

وتارة في ذرى تاج على ملكً

ثمود اسم قبيلة سميت باسم أبيها ويأتي ذكره في التفسير إن شاء اللّه . النّاقة الأنثى من الجمال وألفهامنقلبة عن الواو وجمعها في القلة أنوق وأنيق وفيه القلب والإبدال وفي الكثرة نياق ونوق واستنوق الجمل إذا صار يشبه الناقة . السّهل ما لان من الأرض وانخفض وهو ضدّ الحزن . القصر الدار التي قصرت على بقعة من الأرض مخصوصة بخلاف بيوت العمود سمي بذلك لقصور الناس عن ارتقائه أو لقصور عامّتهم عن بنائه . النّحت النجر والنّشر في الشيء الصلب كالحجر والخشب . قال الشاعر : أما النهار ففي قيد وسلسلة

والليل في بطن منحوت من السّاج

عقرت الناقة قتلتها فهي معقورة وعقير ومنه من عقر جواده قاله ابن قتيبة . وقال الأزهري العقر عند العرب كشف عرقوب البعير ، ولما كان سبباً للنحر أطلق العقر على النحر إطلاقاً لاسم السبب على المسبب وإن لم يكن هناك قطع للعرقوب . قال امرؤ القيس : ويوم عقرت للعذارى مطيّتي

فيا عجباً من كورها المتحمّل

وقال غيره والعقر بمعنى الجرح . قال : تقول وقد مال الغبيط بنا معا

عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزل

عتا يعتو عتوّاً استكبر . الرجفة الطامّة التي يرجف لها الإنسان أي يتزعزع ويضطرب ويرتعد ومنه ترجف بوادره وأصل الرّجف الاضطراب ، رجفت الأرض والبحر رجاف لاضطرابه ، وأرجف الناس بالشر خاضوا فيه واضطربوا ، ومنه الأراجيف ورجف بهم الجبل . قال الشاعر : ولما رأيت الحج قد حان وقته

وظلت جمال القوم بالحي ترجف

الجثوم اللصوق بالأرض على الصدر مع قبض السّاقين كما يرقد الأرنب والطير . غبر بقي . قال أبو ذؤيب : فغبرت بعدهم بعيش ناضب

وإخال أني لاحق مستبقع

هذا المشهور في اللغة ومنه غبر الحيض . قال أبو بكر الهذلي : ومبرّأ من كل غبر حيضة

وفساد مرضعة وداء معضل

وغبر اللبن في الضّرع بقيته

وحكى أهل اللغة غبر بمعنى مضى ، قال الأعشى : غض بما ألقى المواسي له

من أمّه في الزمن الغابر

وبمعنى غاب ومنه عبر عنا زماناً أي غاب قاله الزجاج ، وقال أبو عبيدة غبر عمر دهراً طويلاً حتى هرم ، المطر معروف ، وقال أبو عبيد يقال في الرّحمة مطر وفي العذاب أمطر وهذا معارض بقوله { هَاذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا } فإنهم لم يريدوا إلا الرّحمة وكلاهما متعدّ يقال مطرتهم السماء وأمطرتهم ، شعيب اسم نبيّ وسيأتي ذكر نسبه في التفسير إن شاء اللّه .

{وَهُوَ الَّذِى يُرْسِلُ الرّيَاحَ بُشْرًاَ بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ } لما ذكر تعالى الدلائل على كمال إلهيته وقدرته وعلمه من العالم العلوي أتبعهما بالدلائل من العالم السفلي وهي محصورة في آثار العالم العلوي ومنها الرّيح والسحاب والمطر وفي المعدن والنبات والحيوان ويترتب على نزول المطر أحوال النبات وذلك هو المذكور في الآية وانجرّ مع ذلك الدلالة على صحة الحشر والنشر البعث والقيامة وانتظمت هاتان الآيتان محصلتين المبدأ والمعاد وجعل الخبر موصولاً في أنّ ربكم اللّه الذي وفى { وَهُوَ الَّذِى } دلالة على كون ذلك معهوداً عند السامع مفروغاً من تحقّق النسبة فيه والعلم به ولم يأتِ التركيب إنّ ربكم خلق ولا وهو يرسل الرياح ،

وقرأ الرّياح نشراً جمعين وبضم الشين جمع ناشر على النسب أي ذات نشر من الطي كلابن وتامر وقالوا نازل ونزل وشارف وشرف وهو جمع نادر في فاعل أو نشور من الحياة أو جمع نشور كصبور وصبر وهو جمع مقيس لا جمع نشور بمعنى منشور خلافاً لمن أجاز ذلك لأنّ فعولاً كركوب بمعنى مركوب لا ينقاس ومع كونه لا ينقاس لا يجمع على فعل الحسن والسلمي وأبو رجاء واختلف عنهم

والأعرج وأبو جعفر وشيبة وعيسى بن عمر وأبو يحيى وأبو نوفل الأعرابيان ونافع وأبو عمرو ،

وقرأ كذلك جمعاً إلا أنهم سكّنوا الشين تخفيفاً من الضم كرسل عبد اللّه وابن عباس وزر وابن وثاب والنخعي وطلحة بن مصرف والأعمش ومسروق وابن عامر ،

وقرأ نشراً بفتح النون والشين مسروق فيما حكى عنه أبو الفتح وهو اسم جمع كغيب ونشىء في غائبة وناشئة ،

وقرأ ابن كثير الرّيح مفرداً نشراً بالنون وضمّها وضمّ الشين فاحتمل نشراً أن يكون جمعاً حالاً من المفرد لأنه أريد به الجنس كقولهم : العرب هم البيض واحتمل أن يكون مفرداً كناقة سرح ،

وقرأ حمزة والكسائي نشراً بفتح النون وسكون الشين مصدراً كنشر خلاف طوى أو كنشر بمعنى حيي من قولهم أنشر اللّه الموتى فنشروا أي حيوا . قال الشاعر : حتى يقول الناس مما رأوا

يا عجباً للميت الناشر

وقرأ { الرّيَاحِ } جمعاً ابن عباس والسّلمي وابن أبي عبلة { بَشَرًا } بضم الباء والشين ورويت عن عاصم وهو جمع بشيرةٍ كنذيرة ونذر ،

وقرأ عاصم كذلك إلا أنه سكن الشين تخفيفاً من الضم ،

وقرأ السلمي أيضاً{ بَشَرًا } بفتح الباء وسكون الشين وهو مصدر بشر المخفف ورويت عن عاصم ،

وقرأ ابن السميقع وابن قطيب بشرى بألف مقصورة كرجعى وهو مصدر فهذه ثماني قراءات أربعة في النون وأربع في الباء فمن قرأ بالباء جمعاً أو مصدراً بألف التأنيث ففي موضع الحال من المفعول أو مصدراً بغير ألف التأنيث فيحتمل ذلك ويحتمل أن يكون حالاً من الفاعل ومن قرأ بالنون جمعاً أو اسم جمع فحال من المفعول أو مصدراً فيحتمل أن يكون حالاً من الفاعل وأن كون حالاً من المفعول أو مصدراً ليرسل من المعنى لأنّ إرسالها هو إطلاقها وهو بمعنى النّشر فكأنه قيل بنشر الرياح نشراً ووصف الريح بالنشر بأحد معنيين بخلاف الطي وبالحياة ، قال أبو عبيدة : في النشر أنها المتفرقة في الوجوه ، وقال الشاعر في وصف الرّيح بالإحياء والموت : وهبّت له ريح الجنوب وأحييت

له ريدة يحيي المياه نسيمها

والرّيدة والمريد أنه الرّيح . وقال الآخر : إني لأرجو أن تموت الرّيح

فأقعد اليوم وأستريح

ومعنى { بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ } أما نعمته وهو المطر الذي هو من أجلّ النعم وأحسنها أثراً والتعيين عن إمام الرحمة بقوله { بَيْنَ يَدَىِ } من مجاز الاستعارة إذ الحقيقة هو ما بين يدي الإنسان من الإحرام وقال الكرماني : قال هنا { يُرْسِلُ } لأنّ قبل ذلك { وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا } فهماً في المستقبل فناسبه المستقبل وفي الفرقان وفاطر { أُرْسِلَ } لأن قبله { أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبّكَ كَيْفَ مَدَّ الظّلَّ } وبعده { وَهُوَ الَّذِى } وكذا في الروم { الْكَافِرِينَ وَمِنْ ءايَاتِهِ أَن يُرْسِلَ } ليوافق ما قبله من المستقبل وفي فاطر قبله { الْحَمْدُ للّه فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً أُوْلِى أَجْنِحَةٍ } وذلك ماضٍ فناسبه الماضي انتهى ملخصاً .

{حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيّتٍ} هذه غاية لإرسال الرّياح والمعنى أنه تعالى يرسل الرّياح مبشرات أو مبشرات إلى سوق السّحاب وقت إقلاله إلى بلد ميت والسحاب اسم جنس بينه وبين مفرده تاء

التأنيث فيذكر كقوله { وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ } كقوله { يُزْجِى سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلّفُ بَيْنَهُ } ويؤنث ويوصف ويخبر عنه بالجمع كقوله { وَيُنْشِىء السَّحَابَ الثّقَالَ } وكقوله { وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ } وثقله بالماء الذي فيه ونسب السّوق إليه تعالى بنون العظمة التفافاً لما فيه من عظيم المنة وذكر الضمير في { سُقْنَاهُ } رعياً للفظ كما قلنا إنه يذكر . وقال السدّي يرسل تعالى الرياح فتأتي السحاب من بين الخافقين طرف السماء والأرض حيث يلتقيان فيخرجه من ثم ثم ينتشر ويبسطه في السماء وتفتح أبواب السماء ويسيل الماء على السحاب ثم يمطر السحاب بعد ذلك قال وهذا التفصيل لم يثبت عن النبي صلى اللّه عليه وسلم انتهى . ومذهب أهل الحق أن اللّه تعالى هو الذي يسخّر الرّياح ويصرفها حيث أراد بمشيئته وتقديره لا مشارك له في ذلك وللفلاسفة كيفية في حصول الرياح ذكرها أبو عبد اللّه الرازي وأبطلها من وجوه أربعة يوقف عليها في كلامه وللمنجمين أيضاً كلام في ذلك أبطله ، وقال في آخره فثبت بهذا البرهان أنّ محرّك الرّياح هو اللّه تعالى وثبت بالدليل العقلي صحّة قوله { وَهُوَ الَّذِى يُرْسِلُ الرّيَاحَ}

وعن ابن عمران الرّياح ثمان أربع منها عذاب هي : القاصف والعاصف والصّرصر والعقيم وأربع منها رحمة : الناشرات والمبشرات والمرسلات والذاريات واللام في { لِبَلَدٍ } عندي لام التبليغ كقولك قلت لك ،

وقال الزمخشري : لأجل بلد فجعل اللام لام العلة ولا يظهر فرق بين قولك سقت لك مالاً وسقت لأجلك مالاً فإنّ الأوّل معناه أوصلته لك وأبلغتكه والثاني لا يلزم منه وصوله إليه بل قد يكون الذي وصل له الماء غير الذي علّل به السوق ألا ترى إلى صحة قول القائل لأجل زيد سقت لك مالك . ووصف البلد بالموت استعارة حسنة لجدبه وعدم نباته كأنه من حيث عد الانتفاع به كالجسد الذي لا روح فيه ولما كان ذلك موضع قرب رحمة اللّه وإظهار إحسانه ذكر أخص الأرض وهو البلد حيث مجتمع الناس ومكان استقرارهم ولما كان في سورة يس المقصد إظهار الآيات العظيمة الدالة على البعث جاء التركيب باللفظ العام وهو قوله { وَءايَةٌ لَّهُمُ الاْرْضُ الْمَيْتَةُ } وبعده { وَءايَةٌ لَّهُمُ الَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ وَءايَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرّيَّتَهُمْ } وسكن باء الميت عاصم وأبو عمرو والأعمش .

{فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء } الظاهر أنّ الباء ظرفية والضمير عائد على بلد ميت أي فأنزلنا فيه الماء وهو أقرب مذكور ويحسن عوده إليه فلا يجعل لأبعد مذكور ،

وقيل الباء سببيّة والضمير عائد على السحاب .

وقيل عائد على المصدر المفهوم من سقناه فالتقدير بالسّحاب أو بالسّوق والثالث ضعيف لأنه عائد على غير مذكور مع وجود المذكور وصلاحيته للعود عليه .

وقيل : عائد على السحاب والباء بمعنى من أي فأنزلنا منه الماء كقوله { يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللّه } أي منها وهذا ليس بجيد لأنه تضمين من الحروف .

{فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلّ الثَّمَراتِ } الخلاف في { بِهِ } كالخلاف السابق في به .

وقيل : الأول عائد على السحاب والثاني على البلد عدل عن كناية إلى كناية من غير فاصل كقوله :{ الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ } وفاعل أملى لهم اللّه تعالى .

{كَذالِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } أي مثل هذا الإخراج { نُخْرِجُ الْموْتَى } من قبورهم أحياء إلى الحشر { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } بإخراج الثمرات وإنشائها خروجكم للبعث إذ الإخراجات سواء فهذا الإخراج المشاهد نظير الإخراج الموعود به خرج البيهقي وغيره عن رزين العقيلي قال

قلت : يا رسول اللّه كيف يعيد اللّه الخلق وما آية ذلك في خلقه ؟ قال { أما مررت بوادي قومك جدياً ثم مررت به خضراً } قال : نعم قال : { فتلك آية اللّه في خلقه } انتهى ، وهل التشبيه في مطلق الإخراج ودلالة إخراج الثمرات على القدرة في إخراج الأموات أم في كيفيّة الإخراج وأنه ينزل مطر عليهم فيحيون كما ينزل المطر على البلد الميّت فيحيا نباته احتمالان ، وقد روي عن أبي هريرة أنه يمطر عليهم من ماء تحت

العرش يقال له ماء الحيوان أربعين سنة فينبتون كما ينبت الزرع فإذا كملت أجسامهم نفخ فيها الرّوح ثم يلقي عليهم نومة فينامون فإذا نفخ في الصّور الثانية قاموا وهم يجدون طعم النوم فيقولون يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا فيناديهم المنادي هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون .

٥٨

والبلد الطيب يخرج . . . . .

{وَالْبَلَدُ الطَّيّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبّهِ وَالَّذِى خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا }{ الطَّيّبِ } الجيّد الترب الكريم الأرض ، { وَالَّذِى خَبُثَ } المكان السبخ الذي لا ينبت ما ينتفع به وهو الرديء من الأرض ، ولما قال { فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلّ الثَّمَراتِ } تمم هذا المعنى بكيفية ما يخرج من النبات من الأرض الكريمة والأرض السّبخة وتلك عادة اللّه في إنبات الأرضين وفي الكلام حال محذوفة أي يخرج نباته وافياً حسناً وحذفت لفهم المعنى ولدلالة { وَالْبَلَدُ الطَّيّبُ } عليها ولمقابلتها بقوله { إِلاَّ نَكِدًا } ولدلالة { بِإِذْنِ رَبّهِ } لأنّ ما أذن اللّه في إخراجه لا يكون إلا على أحسن حال و { بِإِذْنِ رَبّهِ } في موضع الحال وخصّ خروج نبات الطيّب بقوله { بِإِذْنِ رَبّهِ } على سبيل المدح له والتشريف ونسبة الإسناد الشريفة الطبية إليه تعالى وإن كان كلا النباتين يخرج بإذنه تعالى ومعنى { بِإِذْنِ رَبّهِ } بتيسيره وحذف من الجملة الثانية الموصوف أيضاً والتقدير والبلد الذي خبث لدلالة { وَالْبَلَدُ الطَّيّبُ } عليه فكلّ من الجملتين فيه حذف وغاير بين الموصولين فصاحة وتفنّناً ففي الأولى قال :{ الطَّيّبِ } وفي الثانية قال :{ الَّذِى خَبُثَ } وكان إبراز الصّلة هنا فعلاً بخلاف الأوّل لتعادل اللفظ يكون ذلك كلمتين الكلمتين في قوله { وَالْبَلَدُ الطَّيّبُ } والطيب والخبيث متقابلان في القرآن كثيراً{ قُل لاَّ يَسْتَوِى الْخَبِيثُ وَالطَّيّبُ } و { يَحِلَّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَئِثَ }{ أَنفِقُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ } إلى غير ذلك والفاعل في { لاَ يَخْرُجُ } عائد على { الَّذِى خَبُثَ } وقد قلنا إنه صفة لموصوف محذوف والبلد لا يخرج فيكون على حذف مضاف إما من الأوّل أي ونبات الذي خبث أو من الثاني أي لا يخرج نباته فلما حذف استكنّ الضمير الذي كان مجروراً لأنه فاعل ،

وقيل هاتان الجملتان قصد بهما التمثيل ، فقال ابن عباس وقتادة مثال لروح المؤمن يرجع إلى جسده سهلاً طيّباً كما خرج إذا مات ولروح الكافر لا يرجع إلاّ بالنّكد كما خرج إذ مات انتهى ، فيكون هذا راجعاً من حيث المعنى إلى قوله { كَذالِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى } أي على هذين الوصفين .

وقال السدّي مثال للقلوب لما نزل القرآن كنزول المطر على الأرض فقلب المؤمن كالأرض الطيبة يقبل الماء وانتفع بما يخرج ، وقلب الكافر كالسّبخة لا ينتفع بما يقبل من الماء ، وقال النحاس : هو مثال للفهيم والبليد ،

وقال الزمخشري : وهذا مثل لمن ينجع فيه الوعظ والتنبيه من المكلفين ولمن لا يؤثر فيه شيء من ذلك وعن مجاهد ذرّية آدم خبيث وطيّب وهذا التمثيل واقع على أثر ذكر المطر وإنزله بالبلد الميت وإخراج الثمرات به على طريق الاستطراد انتهى ، والأظهر ما قدّمناه من أنّ المقصود التعريف بعبادة اللّه تعالى في إخراج النبات في الأرض الطيبة والأرض الخبيثة دون قصد إلى التمثيل بشيء مما ذكروا ،

وقرأ ابن أبي عبلة وأبو حيوة وعيسى بن عمر { يَخْرُجُ نَبَاتُهُ } مبنيّاً للمفعول ،

وقرأ ابن القعقاع { نَكِدًا } بفتح الكاف ، قال الزّجاج : وهي قراءة أهل المدينة ،

وقرأ ابن مصرّف بسكونها وهما مصدران أي ذا نكد وكون نبات الذي خبث محصوراً خروجه على حالة النكد مبالغة شديدة في كونه لا يكون إلا هكذا ولا يمكن أن يوجد { إِلاَّ نَكِدًا } وهي إشارة إلى من استقر فيه وصف الخبيث يبعدعنه النزوع إلى الخير .

{كَذالِكَ نُصَرّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ } أي مثل هذا التصريف

والترديد والتنويع ننوّع الآيات ونردّدها وهي الحجج الدالة على الوحدانية والقدرة الباهرة التامة والفعل بالاختيار ولما كان ما سبق ذكره من إرسال الرّياح منتشرات ومبشرات سبباً لإيجاد النّبات الذي هو سبب وجود الحياة وديمومتها كان ذلك أكبر نعمة اللّه على الخلق فقال { لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ } أي { بِإِذْنِ رَبّهِ}

٥٩

لقد أرسلنا نوحا . . . . .

{لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ قَوْمٌ اعْبُدُواْ اللّه مَا لَكُم مّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } لما ذكر في هذه السورة مبدأ الخلق الإنساني وهو آدم عليه السلام وقصّ من أخباره ما قصّ واستطرد من ذلك إلى المعاد ومصير أهل السعادة إلى الجنة وأهل الشقاوة إلى النار وأمره تعالى بترك الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً وكان من بعث إليهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أولاً غير مستجيبين له ولا مصدّقين لما جاء به عن اللّه قصّ تعالى عليه أحوال الرّسل الذين كانوا قبله وأحوال من بعثوا إليه على سبيل التّسلية له صلى اللّه عليه وسلم والتأسي بهم ، فبدأ بنوح إذ هو آدم الأصغر وأول رسول بعث إلى من في الأرض وأمته أدوم تكذيباً له وأقلّ استجابة وتقدم رفع نسبه إلى آدم وكان نجّاراً بعثه اللّه إلى قومه وهو ابن أربعين سنة قاله ابن عباس ،

وقيل : ابن خمسين ، وقال مقاتل ابن مائة ،

وقيل : ابن مائتين وخمسين ،

وقيل : ابن ثلاثمائة . وقال عون بن شداد : ابن ثلاثمائة وخمسين ، وقال وهب : ابن أربعمائة وهذا اضطراب كثير من أربعين إلى أربعمائة فما بينهما وروي أنّ الطوفان كان سنة ألف وستمائة من عمره وهو أوّل الرّسل بعد آدم بتحريم البنات والأخوات والعمّات والخالات وجميع الخلق الآن من ذرية نوح عليه السلام وعن الزهري أنّ العرب وفارساً والروم وأهل الشام واليمن من ذرية سام بن نوح والهند والسّند والزنج والحبشة والزّط والنوبة وكلّ جلد أسود من ولد حام بن نوح والتّرك والبربر ووراء الصين وياجوج وماجوج والصقالبة من ولد يافث بن نوح ، ولقد أرسلنا استئناف كلام دون واو وفي هود والمؤمنون ولقد بواو العطف ، قال الكرماني لما تقدّم ذكر الرسول مرات في هود وتقدّم ذكر نوح ضمنا في قوله وعلى الفلك لأنه أول من صنعها عطف في السورتين انتهى واللام جواب قسم محذوف أكّد تعالى هذا الإخبار بالقسم ،

قال الزمخشري :

فإن قلت : ما لهم لا يكادون ينطقون بهذه اللام إلاّ مع قد وقل عنهم قوله : حلفت لها باللّه خلفة فاجر لناموا

قلت : إنما كان ذلك لأنّ الجملة القسمية لا تساق إلا تأكيداً للجملة المقسم عليها التي هي جوابها فكانت مظنّة لمعنى التوقّع الذي هو معنى قد عند استماع المخاطب كلمة القسم انتهى ، وبعض أصحابنا يقول إذا أقسم على جملة مصدرة بماضٍ مثبت متصرف وكان قريباً من زمان الحال أثبت مع اللام بقد الدالّة على التقريب من زمن الحال ولم تأتِ بقد بل باللام وحدها إن لم يرد التقريب ، قال ابن عباس :{ أَرْسَلْنَا } بعثنا وقال غيره حملناه رسالة يؤدّيها فعلى هذا تكون الرسالة متضمنة للبعث وهنا فقال بفاء العطف وكذا في المؤمنون في قصّة عاد وصالح وشعيب هنا قال بغير فاء والأصل الفاء وحذفت في القصتين توسّعاً . واكتفاءً بالرّبط المعنوي وفي قصة

نوح في هود { إِنِّي لَكُمْ } على إضمار القول أي فقال إني وفي ندائه قومه تنبيه لهم لما يلقيه إليهم واستعطاف وتذكير بأنهم قومه فالمناسب أن لا يخالفوه ومعمول القول جملة الأمر بعبادة اللّه وحده ورفض آلهتهم المسمّاة ودّاً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسراً وغيرها والجملة المنبهة على الوصف الدّاعي إلى عبادة اللّه وهو انفراده بالألوهية المرجو إحسانه المحذور انتقامه دون آلهتهم ولم تأتِ بحرف عطف لأنها بيان وتفسير لعلّة اختصاصه تعالى بأن يعبد ،

وقرأ ابن وثاب الأعمش وأبو جعفر والكسائي غيره بالجرّ على لفظ { إِلَهٍ } بدلاً أو نعتاً ،

وقرأ باقي السّبعة غيره بالرفع عطفاً على موضع { مِنْ إِلَهٍ } لأنّ من زائدة بدلاً أو نعتاً ،

وقرأ عيسى بن عمر غيره بالنصب على الاستثناء والجرّ والرفع أفصح { وَمِنْ إِلَهٍ } مبتدأ و { لَكُمْ } في موضع الخبر ،

وقيل : الخبر محذوف أي في الوجود و { لَكُمْ } تبيين وتخصيص ، و { أَخَافُ } قيل : بمعنى أتيقن وأجزم لأنه عالم أن العذاب بنزل بهم إن لم يؤمنوا ،

وقيل : الخوف على بابه بمعنى الحذر لأنه جوّز أن يؤمنوا وأن يستمروا على كفرهم و { يَوْمٍ عَظِيمٍ } هو يوم القيامة أو يوم حلول العذاب بهم في الدنيا وهو الطوفان وفي هذه الجملة إظهار الشّفقة والحنوّ عليهم .

٦٠

قال الملأ من . . . . .

{قَالَ الْمَلاَ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ } قال ابن عطية قرأ ابن عامر الملو بالواو وكذلك هي في مصاحف أهل الشام انتهى وليس مشهوراً عن ابن عامر بل قراءته كقراءة باقي السبعة بهمزة ولم يجبه من قومه إلا أشرافهم وسادتهم وهم الذين يتعاصون على الرّسل لانغمار عقولهم بالدنيا وطلب الرئاسة والعلوّ فيهما . ونراك الأظهر أنها من رؤية القلب ،

وقيل : من رؤية العين ومعنى { فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ } أي في ذهاب عن طريق الصواب وجهالة بما تسلك بينة واضحة وجاءت جملة الجواب مؤكدة بأن وباللام وفي للوعاء فكان الضلال جاء ظرفاً له وهو فيه ولم يأتِ ضالاً ولا ذا ضلال .

٦١

انظر تسفير الآية:٦٢

٦٢

قال يا قوم . . . . .

{قَالَ يَا قَوْمٌ لَيْسَ بِى ضَلَالَةٌ وَلَكِنّي رَسُولٌ مِن رَّبّ الْعَالَمِينَ أُبَلّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبّى وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّه مَا لاَ تَعْلَمُونَ } لم يرد النفي منه على لفظ ما قالوه فلم يأتِ التركيب لست في ضلال مبين بل جاء في غاية الحسن من نفي أن يلتبس به ويختلط ضلالة ما واحدة فأنى يكون في ضلال فهذا أبلغ من الانتفاء من الضلال إذ لم يعتلق به ولا ضلالة واحدة وفي ندائه لهم ثانياً والإعراض عن جفائهم ما يدلّ على سعة صدره والتلطّف بهم .

ولما نفى عنهم التباس ضلالة ما به دلّ على أنه على الصراط المستقيم فصحّ أن يستدرك كما تقول ما زيد بضالّ ولكنه مهتد فلكن واقعة بين نقيضين لأنّ الإنسان لا يخلو من أحد الشيئين : الضّلال والهدى ولا تجامع ضلالة الرسالة

وفي قوله :{ مِن رَّبّ الْعَالَمِينَ } تنبيه على أنه ربهم لأنهم من جملة العالم أي من ربّكم المالك لأموركم الناظر لكم بالمصلحة حيث وجه إليكم رسولاً يدعوكم إلى إفراده بالعبادة و { أُبَلّغُكُمْ } استئناف على سبيل البيان بكونه رسولاً أو جملة في موضع الصفة لرسول ملحوظاً فيه كونه خبراً لضمير متكلم كما تقول أنه رجل آمر معروف فتراعي لفظ أنا ويجوز يأمر بالمعروف فيراعى لفظ رجل والأكثر مراعاة ضمير المتكلم والمخاطب فيعود الضمير ضمير متكلم أو مخاطب

قال تعالى :{ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ } بالتاء ولو قرىء بالياء لكان عربيّاً مراعاة للفظ { قَوْمٌ } لأنه غائب ،

وقرأ أبو عمرو { أُبَلّغُكُمْ } هنا في الموضعين وفي الأحقاف بالتخفيف وباقي

السبعة بالتشديد والهمزة والتضعيف للتعدية فيه وجمع { رِسَالاتِ } باعتبار ما أوحي إليه في الأزمان المتطاولة أو باعتبار المعاني المختلفة من الأمر والنهي والزّجر والوعظ والتبشير والإنذار أو باعتبار ما أوحي إليه وإلى من قبله ، قيل : في صحف إدريس وهي ثلاثون صحيفة وفي صحف شيث وهي خمسون صحيفة وتقدم الكلام في نصح وتعديتها ،

وقال الزمخشري : وفي زيادة اللام مبالغة ودلالة على إمحاض النصيحة وأنها وقعت للمنصوح له مقصوداً به جانبه لا غير فربّ نصيحة ينتفع بها الناصح بقصد النفعين جميعاً ولا نصيحة أنفع من نصيحة اللّه تعالى ورسله ، وقال الفراء : لا تكاد العرب تقول نصحتك إنما نصحت لك ، وقال النابغة : نصحت بني عوف فلم يتقبلوا وفي قوله { مَا لاَ تَعْلَمُونَ } إبهام عليهم وهو عامّ ولكن ساق ذلك مساق المعلومات التي يخاف عليهم ولم يسمعوا قطّ بأمه عُذِّبت فتضمّن التهديد والوعيد فيحتمل أن { يُرِيدُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } من صفات اللّه وقدرته وشدة بطشه على من اتخذ إلهاً معه أو { يُرِيدُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } مما أوحي إلي ،

قال ابن عطية : ولا بدّ أنّ نوماً عليه السلام وكل نبيّ مبعوث إلى الخلق كانت له معجزة بخرق العادة فمنهم من عرفنا بمعجزته ومنهم من لم يعرف وما أحسن سياق هذه الأفعال قال أولاً{ أُبَلّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبّى } وهذا مبدأ أمره معهم وهو التبليغ ، كما قال : إنْ عليك إلا البلاغ ثم قال { وَأَنصَحُ لَكُمْ } أي أخلص لكم في تبيين الرّشد والسلامة في العاقبة إذا عبدتم اللّه وحده ثم قال وأعلم من اللّه { مَا لاَ تَعْلَمُونَ } من بطشه بكم وهو مآل أمركم إذا لم تفردوه بالعبادة فنبّه على مبدأ أمره ومنتهاه معهم .

٦٣

أوعجبتم أن جاءكم . . . . .

{أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مّن رَّبّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مّنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } يتضمّن قولهم { إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ } استبعادهم واستمحالهم ما أخبرهم به من خوف العذاب عليهم وأنه بعثه اللّه إليهم بعبادته وحده ورفض آلهتهم وتعجبوا من ذلك ، وقال أبو عبد اللّه الرازي سبب استبعادهم إرسال نوح والهمزة للإنكار والتوبيخ أي هذا مما لا يعجب منه إذ له تعالى ، التصرّف التام بإرسال من يشاء لمن يشاء ،

قال الزمخشري : الواو للعطف والمعطوف محذوف كأنه قيل أو كذبتم وعجبتم أن جاءكم انتهى ، وهو كلام مخالف لكلام سيبويه والنّحاة لأنّهم يقولون : إنّ الواو لعطف ما بعدها على ما قبلها من الكلام ولا حذف هناك وكأنّ الأصل وأعجبتم لكنه اعنى بهمزة الاستفهام فقدّمت على حروف العطف لأنّ الاستفهام له صدر الكلام وقد تقدّم الكلام معه في نظير هذه المسألة وقد رجع هو عن هذا إلى قول الجماعة والذكر الوعظ أو الوحي أو المعجز أو كتاب معجز أو البيان أقوال والأولى أن يكون قوله { عَلَى رَجُلٍ } فيه إضمار أي على لسان رجل كما قال { مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ } ،

وقيل :{ عَلَى } بمعنى مع ،

وقيل : لا حذف ولا تضمين في الحرف بل قوله { عَلَى رَجُلٍ } هو على ظاهره لأن { جَاءكُمْ } بمعنى نزل إليكم كانوا يتعجبون من نبوّة نوح ويقولون ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين يعنون إرسال البشر { وَلَوْ شَاء رَبُّنَا لاَنزَلَ مَلَائِكَةً } وذكر عليه المجيء وهو الإعلام بالمخوف والتحذير من سوء عاقبة الكفر ووجود التقوى منهم ورجاء الرّحمة وكأنها علة مترتبة فجاءكم الذكر للإنذار بالمخوف والإنذار بالمخوف لأجل وجود التقوى منهم ووجود التقوى لرجاء الرحمة وحصولها فعلل المجيء بجميع هذه العلل المترتبة لأنّ المترتب على السبب سبب .

٦٤

فكذبوه فأنجيناه والذين . . . . .

{فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ} أخبر تعالى أنهم كذبوه هذا مع حسن ملاطفته لهم ومراجعته لهم وشفقته عليهم فلم يكن نتيجة هذا إلاّ التكذيب له فيما جاء به عن اللّه { وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ } هم من آمن به وصدّقه

وكانوا أربعين رجلاً ،

وقيل ثمانين رجلاً وأربعين امرأة قاله الكلبي وإليهم تنسب القرية التي ينسب إليها الثمانون وهي بالموصل ،

وقيل : عشرة فيهم أولاده الثلاثة ،

وقيل : تسعة منهم بنوه الثلاثة وفي قوله { وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ } إعلام بعلّة الغرق وهو التكذيب و { بِئَايَاتِنَا } يقتضي أنّ نوحاً كانت له آيات ومعجزات تدل على إرساله ويتعلق { فِى الْفُلْكِ } بما يتعلّق به الظّرف الواقع صلة أي والذين استقروا معه في الفلك ويحتمل أن يتعلق بأنجيناه أي أنجيناهم في السّفينة من الطّوفان وعلى هذا يحتمل أن تكون في { سببية } أي بالفلك كقوله { دخلت النار في هرة} أي بسبب هرة و { قَوْماً عَمِينَ } من عمي القلب أي غير مستبصرين ويدل على ثبوت هذا الوصف كونه جاء على وزن فعل ولو قصد الحذف لجاء على فاعل كما جاء ضائق في ضيق وثاقل في ثقيل إذا قصد به حدوث الضّيق والثقل ، قال ابن عباس عميت قلوبهم عن معرفة التوحيد والنبوة والمعاد ، وقال معاذ النحوي : رجل عم في أمره لا يبصره وأعمى في البصر . قال : ما في غد عم ولكنني عن علم وقد يكون العمى والأعمى كالخضر والأخضر ، وقال الليث : رجل عم إذا كان أعمى القلب .

٦٥

وإلى عاد أخاهم . . . . .

{وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ قَوْمٌ اعْبُدُواْ اللّه مَا لَكُمْ مّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ } عاد اسم الحي ولذلك صرفه وبعضهم جعله اسماً للقبيلة فمنعه الصرف قال الشاعر :

لو شهدت عاد في زمان عاد

لانتزها مبارك الجلاد

سميت القبيلة باسم أبيهم وهو عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام وهود قال شيخنا أبو الحسن الآبدي النحوي : المعروف أنّ هوداً عربي والذي يظهر من كلام سيبويه لما عده مع نوح ولوط وهما عجميان أنه عجمي عنده انتهى ، وذكر الشريف النسّابة أبو البركات الجواني أنّ يَعرُب بن قحطان بن هود هو الذي زعمت يمن أنه أول من تكلم بالعربية ونزل أرض اليمن فهو أبو اليمن كلها وأنّ العرب إنما سميت عرباً به انتهى فعلى هذا لا يكون هود عربيّاً وهود هو ابن عابر بن شالح بن ارفخشد بن سام بن نوح و { أَخَاهُمْ } معطوف على نوحاً ومعناه واحداً منهم وليس هود من بني عاد كما ذكرنا وهذا كما تقول أيا أخا العرب للواحد منهم ،

وقيل : هو من عاد وهو هود بن عبد اللّه بن رياح بن الجلود بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح فعلى هذا يكون من عاد واسم أمه مرجانة وكان رجلاً تاجراً أشبه خلق اللّه بآدم عليهما السلام ، روي أنّ عاداً كانت له ثلاث عشرة قبيلة ينزلون رمال عالج وهي عاد الأولى وكانوا أصحاب بساتين وزروع وعمارة وبلادهم أخصب بلاد فسخط اللّه عليهم فجعلها مفاوز وكانت بنواحي عمان إلى حضرموت إلى اليمن وكانوا يعبدون الأصنام ولما هلكوا لحق هود ومن آمن معه بمكة فلم يزالوا بها حتى ماتوا ولم يأتِ فقال بالفاء لأنه جواب سؤال مقدّر أي فما قال لهم { عَلَيْهِ قَوْمٌ } وكذا { قَالَ الْمَلاَ } وفي قوله { أَفَلاَ تَتَّقُونَ } استعطاف وتحضيض على

تحصيل التقوى ولما كان ما حلّ بقوم نوح من أمر الطوفان واقعة لم يظهر في العالم مثلها قال { إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } وواقعة هود كانت مسبوقة بواقعة نوح وعهد الناس قريب بها اكتفى هود بقوله { أَفَلاَ تَتَّقُونَ } والمعنى تعرفون أنّ قوم نوح لما لم يتقوا اللّه وعبدوا اغيره حلّ بهم ذلك العذاب الذي اشتهر خبره في الدنيا فقوله { أَفَلاَ تَتَّقُونَ } إشارة إلى التخويف بتلك الواقعة المشهورة .

٦٦

قال الملأ الذين . . . . .

{قَالَ الْمَلا الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ } أتى بوصف { الْمَلاَ } بالذين كفروا ولم يأتِ بهذا الوصف في قوم نوح لأنّ قوم هود كان في أشرافهم من آمن به منهم مرثد بن سعد بن عفير ولم يكن في أشراف قوم نوح مؤمن ألا ترى إلى قولهم { وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا } وقولهم { أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الاْرْذَلُونَ } ويحتمل أن يكون وصفاً جاء للذم لم يقصد به الفرق ولنراك يحتمل أن يكون من رؤية العين ومن رؤية القلب كما تقدم القول في قصة نوح و { فِي سَفَاهَةٍ } أي في خفة حلم وسخافة عقل حيث تترك دين قومك إلى دين غيره وفي سفاهة يقتضي أنه فيها قد احتوت عليه كالظرف المحتوي على الشيء ولما كان كلام نوح لقومه أشد منكلام هود تقوية لقوله { إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } كان جوابهم أغلظ وهو { إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ } وكان كلام هود ألطف لقوله { أَفَلاَ تَتَّقُونَ } فكان جوابهم له ألطف من جواب قوم نوح لنوح بقولهم { إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ } ثم أتبعوا ذلك بقولهم { وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ } فدل ذلك على أنه أخبرهم بما يحل بهم من العذاب إن لم يتقوا اللّهأو علّقوا الظن بقوله { مَا لَكُم مّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ } أي إنّ لنا آلهة فحصرها في واحد كذب .

وقيل : الظن هنا بمعنى اليقين أو بمعنى ترجيح أحد الجائزين قولان للمفسرين والثاني للحسن والزّجاج ، وقال الكرماني : خوّف نوح الكفار بالطوفان العام واشتغل بعمل السفينة فقالوا { إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ } حيث تتعب نفسك في إصلاح سفينة كبيرة في مفازة ليس فيها ماء ولم يظهر ما يدل على ذلك وهو رديف عبادة الأوثان ونسب قومه في السفاهة فقابلوه بمثل ذلك .

٦٧

انظر تسفير الآية:٦٨

٦٨

قال يا قوم . . . . .

{قَالَ يَا قَوْمٌ لَيْسَ بِى سَفَاهَةٌ وَلَكِنّى رَسُولٌ مّن رَّبّ الْعَالَمِينَ أُبَلّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبّى وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ } تقدّمت كيفية هذا النفي في قوله { لَيْسَ بِى ضَلَالَةٌ } وهناك جاء { وَأَنصَحُ لَكُمْ } وهنا جاء { وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ } لما كان آخر جوابهم جملة اسمية جاء قوله كذلك فقالوا هم { وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ } قال هو { وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ } وجاء بوصف الأمانة وهي الوصف العظيم الذي حمله الإنسان ولا أمانة أعظم من أمانة الرسالة وإيصال أعبائها إلى المكلفين والمعنى أني عُرفت فيكم بالنصح فلا يحق لكم أن تتهموني وبالأمانة فيما أقول فلا ينبغي أن أكذب ،

قال ابن عطية : وقوله { أَمِينٌ } يحتمل أن يريد على الوحي والذكر النازل من قبل اللّه ويحتمل أنه أمين عليهم وعلى غيبهم وعلى إرادة الخير بهم والعرب تقول فلان لفلان ناصح الجيب أمين الغيب ويحتمل أن يريد به من الأمن أي جهتي ذات أمن لكم من الكذب والغش ، قال القشيري : شتّان ما بين من دفع عنه ربه بقوله { مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى } و { مَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ } ومن دفع عن نفسه بقوله :{ لَيْسَ بِى ضَلَالَةٌ }{ لَيْسَ بِى سَفَاهَةٌ } ،

قال الزمخشري : وفي إجابة الأنبياء عليهم السلام من نسبهم إلى الضلالة والسفاهة بما أجابوهم من الكلام الصادر عن الحلم والإغضاء وترك المقابلة بما قالوا لهم مع علمهم بأنّ خصومهم أصل السفاهين وأسفلهم أدب حسن وخلق عظيم وحكاية اللّه عز وجل عنهم ذلك تعليم لعباده كيف يخاطبون السفهاء وكيف يغضون عنهم ويسبلون أذيالهم على ما يكون منهم .

٦٩

أوعجبتم أن جاءكم . . . . .

{أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذالِكَ مِنْ رَّبّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مّنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ } أتى هنا بعلة واحدة وهي الإنذار وهو التخويف بالعذاب واختصر ما يترتب على الإنذار من التقوى ورجاء الرحمة .

{وَذَكَرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ } أي سكان الأرض بعدهم قاله السدّي وابن إسحاق ، أو

جعلكم ملوكاً في الأرض استخلفكم فيها قاله الزمخشري ، وتذكير هود بذلك يدلّ على قرب زمانهم من زمان نوح لقوله { مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ } و { إِذْ } ظرف في قول الحوفي فيكون مفعول { اذْكُرُواْ } محذوفاً أي واذكروا آلاء اللّه عليكم وقت كذا والعامل في { إِذْ } ما تضمنه النعم من الفعل وفي قول الزمخشري { إِذْ } مفعول به وهو منصوب باذكروا أي اذكروا وقت جعلكم .

{وَزَادَكُمْ فِى الْخَلْقِ بَسْطَةً } ظاهر التواريخ أنّ البسطة الامتداد والطول والجمال في الصور والأشكال فيحتمل إذ ذاك أن يكون الخلق بمعنى المخلوقين ويحتمل أن يكون مصدراً أي وزادكم في خلقكم بسطة أي مد وطول حسن خلقكم قيل : كان أقصرهم ستين ذراعاً وأطولهم مائة ذراع قاله الكلبي والسدّي ، وقال أبو حمزة اليماني : سبعون ذراعاً .

وقال ابن عباس ثمانون ذراعاً . وقال مقاتل : اثنا عشر ذراعاً . وقال وهب : كان رأس أحدهم مثل القبة العظيمة وعينه تفرخ فيها الضباع وكذلك منخره وإذا كان الخلق بمعنى المخلوقين فالخلق قوم نوح أو أهل زمانهم أو الناس كلهم أقوال ،

وقيل : الزيادة في الإجرام وهي ما تصل إليه يد الإنسان إذا رفعها ،

وقيل الزيادة هي في القوة والجلادة لا في الإجرام .

وقيل : زيادة البسطة كونهم من قبيلة واحدة مشاركين في القوة متناصرين يحبّ بعضهم بعضاً ويحتمل أن يكون المعنى { وَزَادَكُمْ بَسْطَةً } أي اقتداراً في المخلوقين واستيلاء .

{فاذكروا آلاء اللّه لعلكم تفلحون } ذكرهم أولاً بإنعامه عليهم حيث جعلهم خلفاء وزادهم بسطة وذكرهم ثانياً بنعمه عليهم مطلقاً لا بتقييد زمان الجعل واذكروا الظاهر أنه من الذكر وهو أن لا يتناسوا نعمه بل تكون نعمه على ذكر منكم رجاء أن تفلحوا وتعليق رجاء الفلاح على مجرّد الذّكر لا يظهر فيحتاج إلى تقدير محذوف بترتب عليه رجاء الفلاح وتقديره واللّه أعلم { فاذكروا آلاء اللّه } وإفراده بالعبادة ألا ترى إلى قوله { أجئتنا لنعبد اللّه وحده } وفي ذكرهم { آلاء اللّه } ذكر المنعم عليهم المستحقّ لإفراده بالعبادة ونبذه ما سواه ،

وقيل : اذكروا هنا بمعنى اشكروا .

٧٠

قالوا أجئتنا لنعبد . . . . .

{قالوا أجئتنا لنعبد اللّه وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا فائتنا بما تعدنا إن كنت من الصّادقين } الظاهر أنهم أنكروا أن يتركوا أصنامهم ويفردوا اللّه بالعبادة مع اعترافهم باللّه حبّاً لما نشؤوا عليه وتآلفاً لما وجدوا آباءهم عليه ويحتمل أن يكونوا منكرين للّه ويكون قولهم { لنعبد اللّه وحده } أي على قولك يا هود ودعواك قاله ابن عطية ، وقال التأويل الأوّل أظهر فيهم وفي عباد الأوثان ولا يجحد ربوبية اللّه من الكفرة إلا من ادّعاها لنفسه كفرعون ونمرود انتهى ، وكان في قول هود لقومه { فاذكروا آلاء اللّه } دليل قاطع على أنه لا يعبد إلا المنعم وأصنامهم جمادات لا قدرة على شيء البتة والعبادة هي نهاية التعظيم فلا يليق إلا بمن يصدر عنه نهاية الإنعام ولما نبّه على هذه الحجة ولم يكن لهم أن يجيبوا عنها عدلوا إلى التقليد البحت فقالوا { أجئتنا لنعبد اللّه وحده } والمجيء هنا يحتمل أن يكون حقيقة بكونه متغيباً عن قومه منفرداً بعبادة ربه ثم أرسله اللّه إليهم فجاءهم من مكان متغيبه ويحتمل أن يكون قولهم ذلك على سبيل الاستهزاء لأنهم كانوا يعتقدون أنّ اللّه لا يرسل إلا الملائكة فكأنهم

قالوا : أجئتنا من السماء كما يجيء الملك ولا يريدون حقيقة المجيء ولكن التعرّض والقصد كما يقال ذهب يشتمني لا يريدون حقيقة الذهاب كأنهم قالوا أقصدتنا لنعبد اللّه وحده وتعرضت لنا بتكاليف ذلك وفي قولهم { فائتنا بما تعدنا } دليل على أنه كان يعدهم بعذاب اللّه إن داموا على الكفر وقولهم ذلك يدلّ على تصميمهم على تكذيبه واحتقارهم لأمر النبوّة واستعجال العقوبة إذ هي عندهم لا تقع أصلاً وقد تقدّم قوله { إنا لنراك في سفاهة } و { إنا لنظنّك من الكاذبين } فلما كانوا يعتقدون كونه كاذباً قالوا { فائتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين } أي في نبوّتك وإرسالك أو في العذاب نازل بنا .

٧١

قال قد وقع . . . . .

{قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب } أي حلّ بكم وتحتّم عليكم قال زيد بن أسلم والأكثرون : الرّجس هنا العذاب من الارتجاس وهو الاضطراب .

وقال ابن عباس : السخط . وقال أبو عبد اللّه الرازي : لا يكون العذاب لأنه لم يكن حاصلاً في ذلك الوقت ، وقال القفال : يجوز أن يكون الازدياد في الكفر بالرين على القلوب أي لتماديهم على الكفر { وقع عليكم } من اللّه رين على قلوبكم كقوله { فزادتهم رجساً إلى رجسهم } فإنّ الرجس السخط أو الرين فقوله { قد وقع } على حقيقته من المضي وإن كان العذاب فيكون من جعل الماضي موضع المستقبل لتحقّق وقوعه .

{أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم } هذا إنكار منه لمخاصمتهم له فيما لا ينبغي فيه الخصام وهو ذكر ألفاظ ليس تحتها مدلول يستحقّ العبادة فصارت المنازعة باطلة بذلك ومعنى { سميتموها } سميتم بها أنتم وآباؤكم أي أحدثتموها قريباً أنتم وآباؤكم وهي صمود وصداء والهباء وقد ذكرها مرثد بن سعد في شعره فقال : عصت عاد رسولهم فأضحوا

عطاشاً ما تبلّهم السماء

لهم صنم يقال له صمود

يقابله صداء والهباء

فبصرنا الرسول سبيل رشد

فأبصرنا الهدى وجلى العماء

وإنّ إله هود هو إلهي

على اللّه التوكّل والرجاء

فالجدال إذ ذاك يكون في الألفاظ لا مدلولاتها ويحتمل أن يكون الجدال وقع في المسمّيات وهي الأصنام فيكون أطلق الأسماء وأراد بها المسميات وكان ذلك على حذف مضاف أي { أتجادلونني } في ذوات أسماء ويكون المعنى { سميتموها } آلهة وعبدتموها من دون اللّه ، قيل : سموا كل صنم باسم على ما اشتهوا وزعموا أنّ بعضهم يسقيهم المطر وبعضهم يشفيهم من المرض وبعضهم يصحبهم في السّفر وبعضهم يأتيهم بالرزق .

{ما نزل اللّه بها من سلطان } والجملة من قوله { ما نزل } في موضع الصفة والمعنى أنه ليس لكم بذلك حجة ولا برهان وجاء هنا { نزل } وفي المكان غيره أنزل وكلاهما فصيح والتعدية بالتضعيف والهمزة سواء .

{فانتظروا إني معكم من المنتظرين } وهذا غاية في التهديد والوعيد أي { فانتظروا } عاقبة أمركم في عبادة غير اللّه وفي تكذيب رسوله وهذا غاية في الوثوق بما يحل بهم وإنه كائن لا محالة .

٧٢

فأنجيناه والذين معه . . . . .

{فأنجيناه والذين معه برحمة منا } يعني من آمن معه { برحمة } سابقة لهم من اللّه وفضل عليهم حيث جعلهم آمنوا فكان ذلك سبباً لنجاتهم مما أصاب قومهم من العذاب .

{وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا } كناية عن استئصالهم بالهلاك بالعذاب وتقدّم الكلام في { دابر } في قوله { فقطع دابر القوم الذين ظلموا } وفي قوله { الذين كذبوا } تنبيه على علة قطع دابرهم وفي قوله { بآياتنا } دليل على أنه كانت لهود معجزات ولكن لم تذكر لنا بتعيينها .

{وما كانوا مؤمنين } جملة مؤكدة لقوله { كذبوا بآياتنا } ويحتمل أن يكون إخباراً من اللّه تعالى أنهم ممن علم اللّه تعالى أنهم لو بقوا لم يؤمنوا أي ما كانوا ممن يقبل إيماناً البتة ولو علم اللّه

تعالى أنهم يؤمنون لأبقاهم وذلك أنّ المكذّب بالآيات قد يؤمن بها بعد ذلك ويحسن حاله فأما من حتم اللّه عليه بالكفر فلا يؤمن أبداً وفي ذلك تعريض بمن آمن منهم كمرثد بن سعد ومن نجا مع هود عليه السلام كأنه قال { وقطعنا دابر القوم الذين كذّبوا } منهم ولم يكونوا مثل من آمن منهم ليؤذن أنّ الهلاك خصّ المكذبين ونجّى اللّه المؤمنين قاله الزمخشري : وذكر المفسرون هنا قصة هلاك عاد وذكروا فيها أشياء لا تعلق لها بلفظ القرآن ولا صحّت عن الرسول فضربت عن ذكرها صفحاً

وأما ما له تعلق بلفظ القرآن فيأتي في مواضعه إن شاء اللّه تعالى .

٧٣

وإلى ثمود أخاهم . . . . .

{وإلى ثمود أخاهم صالحاً قال يا قوم اعبدوا اللّه ما لكم من إله غيره } ثمود اسم القبيلة سميت باسم أبيهم الأكبر وهو ثمود أخو جديس وهما ابنا جاثر بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام وكانت مساكنهم الحجر بين الحجاز والشام وإلى وادي القرى .

وقيل سميت ثمود لقلة ما بها من الثمد وهو الماء القليل . قال الشاعر : أحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت

إلى حمام شراع وارد الثمد

وكانت ثمود عرباً في سعة من العيش فخالفوا أمر اللّه وعبدوا غيره وأفسدوا فبعث اللّه لهم صالحاً نبياً من أوسطهم نسباً وأفضلهم حسباً فدعاهم إلى اللّه حتى شمط ولا يتبعه منهم إلا القليل ، قاله وهب : بعثه اللّه حين راهق الحلم فلما هلك قومه ارتحل بمن معه إلى مكة فأقاموا معه حتى ماتوا فقبورهم بين دار الندوة والحجر ، وصالح هو صالح بن آسف بن كاشح بن أروم بن ثمود بن جاثر بن إرم بن سام بن نوح هكذا نسبه الشريف النسّابة الجواني وهو المنتهى إليه في علم النسب . ووقع في بعض التفاسير بين صالح وآسف زيادة أب وهو عبيد فقالوا صالح بن عبيد بن آسف ونقص في الأجداد وتصحيف جاثر بقولهم عابر ، قال الشريف الجواني في المقدمة الفاضلية والعقب من جاثر بن إرم بن سام بن نوح وجديس والعقب من ثمود بن جاثر فالخ وهيلع وتنوق وأروم من ولده صالح النبي صلى اللّه عليه وسلم بن آسف بن كاشح بن أروم بن ثمود .

وقرأ ابن وثاب والأعمش : { وإلى ثمود } بكسر الدال والتنوين مصروفاً في جميع القرآن جعله اسم الحي والجمهور منعوه الصرف جعلوه اسم القبيلة والأخوة هنا في القرابة ، لأنّ نسبه ونسبهم راجع إلى ثمود بن جاثر وكل واحد من هؤلاء الأنبياء نوح وهود وصالح تواردوا على الأمر بعبادة اللّه والتنبيه على أنه لا إله غيره إذ كان قومهم عابدي أصنام ومتخذي آلهة مع اللّه كما كانت قريش والعرب ففي هذه القصص توبيخهوم وتهديدهم أن يصيبهم مثل ما أصاب أولئك من الهلاك المستأصل من العذاب وكانت قصة نوح مشهورة طبقت الآفاق وقصة هود وصالح مشهورة عند العرب وغيرهم بحيث ذكرها قدماء الشعراء في الجاهلية وشبهوا مفسدي قومهم بمفسدي قوم هود وصالح قال بعض قدمائهم في الجاهلية : فينا معاشر لن يبغوا لقومهم

وإن بنى قومهم ما أفسدوا عادوا

أضحوا كقيل بن عنز في عشيرته

إذا أهلكت بالذي سدّى لها عاد

أو بعده كقدار حين تابعه

على الغواية أقوام فقد بادوا

وقيل ابن عنز هو من قوم هود وسيأتي ذكر خبره عند ذكر إرسال الريح على قوم هود إن شاء اللّه وقدار

هو ابن سالف عاقر ناقة صالح ويأتي خبره إن شاء اللّه .

{قد جاءتكم بيّنة من ربكم } أي آية ظاهرة جلية وشاهد على صحة نبوتي وكثر استعمال هذه الصفة استعمال الأسماء في القرآن فولّيت العوامل كقوله حتى جاءتهم البيّنة وقوله { بالبينات والزبر } والمعنى الآية البينة وبالآيات البينات فقارب أن تكون كالأبطح والأبرق إذ لا يكاد يصرح بالموصول معها وقوله { قد جاءتكم بينة من ربكم } كأنه جواب لقولهم { ائتنا ببينة } تدلّ على صدقك وأنك مرسل إلينا و { من ربكم } متعلق بجاءتكم أو في موضع الصفة لآية على تقدير محذوف أي من آيات ربكم .

{هذه ناقة اللّه لكم آية } لما أبهم في قوله { قد جاءتكم بينة من ربكم } بيّن ما الآية فكأنه قيل له ما البينة قال { هذه ناقة اللّه } وأضافها إلى اللّه تشريفاً وتخصيصاً نحو بيت اللّه وروح اللّه ولكونه خلقها بغير واسطة ذكر وأنثى ولأنه لا مالك لها غيره ولأنها حجة على القوم ولما أودع فيها من الآيات ذكرها في قصة قوم صالح و { لكم } بيان لمن هي له آية موجبة عليه الإيمان وهم ثمود لأنهم عاينوها وسائر الناس أخبروا عنها كأنه قال { لكم } خصوصاً وانتصب { آية } على الحال والعامل فيها ها بما فيها من معنى التنبيه أو اسم الإشارة بما فيه من معنى الإشارة أو فعل مضمر تدلّ عليه الجملة كأنه قيل انظر إليها في حال كونها آية أقوال ثلاثة ذكرت في علم النحو ، وقال الحسن هي ناقة اعترضها من إبلهم ولم تكن تحلب ، وقال الزّجاج : قيل إنه أخذ ناقة من سائر النوق وجعل اللّه لها شرباً يوماً ولهم شرب يوم وكانت الآية في شربها وحلبها ، قيل : وجاء بها من تلقاء نفسه ، وقال الجمهور : هي آية مقترحة لما حذرهم وأنذرهم سألوه آية فقال أية آية تريدون قالوا تخرج معنا إلى عيدنا في يوم معلوم لهم من السّنة فتدعو إلهك وندعو آلهتنا فإن استجيب لك اتبعناك وإن استجيب لنا اتبعتنا قل صالح نعم فخرج معهم فدعوا أوثانهم وسألوها الإجابة فلم تجبهم ثم قال سيدهم جندع بن عمرو بن جواس وأشار إلى صخرة منفردة من ناحية الجبل يقال لها الكاثبة أخرج لنا من هذه الصخرة ناقة مخترجة جوفاء وبراء وعشراء ، والمخترجة ما شاكلت البحت من الإبل فأخذ صالح عليه السلام مواثيقهم لئن فعلت ذلك لتؤمنن ولتصدقن قالوا : نعم فصلى ركعتين ودعا ربه فتمخضت الصخرة تمخض النتوج بولدها ثم تحرّكت فانصدعت عن ناقة كما وصفوا لا يعلم ما بين جنبيها إلا اللّه عظماً وهم ينظرون ثم نتجت سقباً مثلها في العظم فآمن به جندع ورهط من قومه وأراد أشراف ثمود أن يؤمنوا فنهاهم ذؤاب بن عمرو بن لبيد والحباب صاحبا أوثانهم وريّان ابن كاهنهم وكانوا من أشراف ثمود وهذه الناقة وسقبها مشهور قصتهما عند جاهلية العرب وقد ذكروا السّقب في أشعارهم . قال بعضهم يصف ناساً قتلوا بمعركة حرب بأجمعهم : كأنهم صابت عليهم سحابة

صواعقها كالطير هن دبيب

رغى فوقهم سقب السماء فداحض

بشكته لم يستلب وسليب

قال أبو موسى الأشعري : أتيت أرض ثمود فذرعت صدر الناقة فوجدته ستين ذراعاً .

{فذروها تأكل في أرض اللّه} لما أضاف الناقة إلى اللّه أضاف محل رعيها إلى اللّه إذ الأرض وما أنبت فيها ملكه تعالى لا ملككم ولا إنباتكم وفي هذا الكلام إشارة إلى أن هذه الناقة نعمة من اللّه ينال خيرها من غير مشقّة تكلف علف ولا طعمة وهو شأن الإبل كما جاء في الحديث قال فضالة الإبل ، قال مالك : ولها معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربّها و { تأكل } جزم على جواب الأمر ،

وقرأ أبو جعفر في رواية { تأكل } بالرفع وموضعه حال كانت الناقة مع ولدها ترعى الشجر وتشرب الماء ترد غباً فإذا كان يومها وضعت رأسها في البئر فما ترفعه حتى تشرب كل ما فيها ثم تفجج فيحلبون ما شاؤوا حتى تمتلىء أوانيهم فيشربون ويدّخرون .

{ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم } نهاهم عن مسّها بشيء من الأذى وهذا تنبيه بالأدنى على الأعلى إذا كان قد نهاهم عن مسّها بسوء إكراماً لآية اللّه فنهيه

عن نحرها وعقرها ومنعها عن الماء والكلأ أولى وأحرى والمسّ والأخذ هنا استعارة وهذا وعيد شديد لمن مسّها بسوء والعذاب الأليم هو ما حلّ بهم إذ عقروها وما أعد لهم في الآخرة .

٧٤

واذكروا إذ جعلكم . . . . .

{واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوّأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصوراً وتنحتون الجبال بيوتاً فاذكروا آلاء اللّه ولا تعثوا في الأرض مفسدين } ذكر صالح قومه بما ذكر به هود قومه فذكر أولاً نعماً خاصة وهي جعلهم خلفاء بعد الأمة التي سبقتهم وذكر هود لقومه ما اختصوا به من زيادة البسطة في الخلق وذكر صالح لقومه ما اختصوا به من اتخاذ القصور من السهول ونحت الجبال بيوتاً ثم ذكرا نعماً عامة بقولهما { فاذكروا آلاء اللّه } ومعنى { وبوّأكم في الأرض } أنزلكم بها وأسكنكم إياها والمباءة المنزل في الأرض وهو من باء أي رجع وتقدم ذكره و { الأرض } فلا موضع ما بين الحجاز والشام و { تتخذون } حال أو تفسير لقوله { وبوّأكم في الأرض } فلا موضع له من الإعراب والظاهر أن بعض السهول اتخذوه قصوراً أي بنوا فيه قصوراً وأنشؤوها فيه ولم يستوعبوا جميع سهولها بالقصور

وقال الزمخشري :{ من سهولها قصوراً } أي يبنونها من سهولة الأرض بما يعملون منها الرهض واللبن والآجر يعني أن القصور التي بنوها أجزاؤها متخذة من لين الأرض كالجيار والآجر والجصّ كقوله { واتخذ قوم موسى من بعده من حليّهم عجلاً } يعني أنّ الصورة كانت مادّتها من الحلي كما أن القصور مادتها من سهول الأرض والأجزاء التي صنعت منها وظاهر الاتخاذ هنا العمل فيتعدّى { تتخذون } إلى مفعول واحد ،

وقيل : يتعدى إلى اثنين والمجرور هو الثاني ،

وقرأ الحسن { وتنحَتون } بفتح الحاء ، وزاد الزمخشري : أنه قرأ وتنحاتون بإشباع الفتحة قال كقوله : ينباع من دفري أسيل حرّه انتهى .

وقرأ ابن مصرف بالياء من أسفل وكسر الحاء

وقرأ أبو مالك بالباء من أسفل وفتح الحاء ومن نقرأ بالياء فهو التفات وانتصب { بيوتاً } على أنها حال مقدّرة إذ لم تكن الجبال وقت النحت بيوتاً كقولك إبرِ لي هذه اليراعة قلماً وخَّط لي هذا قباء ،

وقيل : مفعول ثانٍ على تضمين { وتنحتون } معنى و { تتخذون } ،

وقيل : مفعول بتنحتون و { الجبال } نصب على إسقاط من أي من الجبال ،

وقرأ الأعمش { تعثوا } بكسر التاء لقولهم أنت تعلم وهي لغة و { مفسدين } حال مؤكدة ، قال ابن عباس : القصور لمصيفهم والبيوت في الجبال لمشتاهم ،

وقيل : نحتوا الجبال لطول أعمارهم كانت القصور تخرب قبل موتهم ، قال وهب : كان الرجل يبني البنيان فتمرّ عليه مائة سنة فيخرب ثم يجدده فتمر عليه مائة سنة فيخرب ثم يجدده فتمر عليه مائة سنة فيخرب فأضجرهم ذلك فاتخذوا الجبال بيوتاً .

٧٥

قال الملأ الذين . . . . .

{قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أنّ صالحاً مرسل من ربّه } قرأ ابن عامر { وقال الملأ } بواو عطف والجمهور قال بغير واو و { الذين استكبروا } وصف للملأ إما للتخصيص الأنّ من أشرافهم من آمن مثل جندع بن عمرو

وإما للذم و { استكبروا } وطلبوا الهيبة لأنفسهم وهو من الكبر فيكون استفعل للطلب وهو بابها أو تكون استفعل بمعنى فعل أي كبروا لكثرة المال والجاه فيكون مثل عجب واستعجب والذين { استضعفوا } أي استضعفهم رؤساء الكفار واستذلوهم وهم العامة وهم أتباع الرّسل و { لمن } بدل من الذين استضعفوا والضمير في { منهم } إن عاد على

المستضعفين كان بدل بعض من كلّ ويكون الذين استضعفوا قسمين مؤمنين وكافرين وإن عاد على { قومه } كان بدل كل من كلّ وكان الاستضعاف مقصوراً على المؤمنين وكان الذين استضعفوا قسماً واحداً ومن آمن مفسراً للمستضعفين من قومه واللام في { للذين } للتبليغ والجملة المقولة استفهام على جهة الاستهزاء والاستخفاف وفي قولهم { من ربه } اختصاص بصالح ولم يقولوا من ربنا ولا من ربكم .

{قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون } جواب للمستضعفين وعدولهم عن قولهم هو مرسل إلى قولهم { إنا بما أرسل به مؤمنون } في غاية الحسن إذ أمر رسالته معلوم واضح مسلم لا يدخله ريب لما أتى به من هذا المعجز الخارق العظيم فلا يحتاج أن يسأل عن رسالته ولا أن يستفهم عن العلم بإرساله فأخبروا بأنهم مؤمنون بما أرسل به لأنه لا يلزم بعد وضوح رسالته إلاّ التصديق بما جاء به وتضمن كلامهم العلم بأنه مرسل من اللّه تعالى .

٧٦

قال الذين استكبروا . . . . .

{قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون } فالذي آمنتم به هو من حيث المعنى بما أرسل به لكنه من حيث اللفظ أعمّ قصدوا الردّ لما جعله المؤمنون معلوماً وأخذوه مسلماً .

٧٧

فعقروا الناقة وعتوا . . . . .

{فعقروا النّاقة } نسب العقر إلى الجميع وإن كان صادراً عن بعضهم لما كان عقرها عن تمالىء واتفاق حتى روي أنّ قداراً لم يعقرها إلا عن مشاورة الرّجال والنساء والصبيان فأجمعوا على ذلك وسبب عقرها أنها كانت إذا وقع الحر نصبت بظهر الوادي فتهرب منها أنعامهم فتهبط إلى بطنه وإذا وقع البرد تلبث ببطن الوادي فتهرب مواشيهم إلى ظهره فشقّ ذلك عليهم وكانت تستوفي ماءهم شرباً ويحلبونها ما شاء اللّه حتى ملوها وقالوا ما نصنع باللبن الماء أحبّ إلينا منه وقال لهم صالح يوماً إنّ هذا الشهر يولد فيه مولود يكون هلاككم على يديه فولد لعشرة نفر فذبح التّسعة أولادهم وبقي العاشر وهو سالف بن قدار وكان قدار أحمر أزرق قصيراً ولذلك قال بعض شعراء الجاهلية : فتنتج لكم غلمان أشأم كلهم

كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم

قال الشّراح غلط وإنما هو أحمر ثمود وهو قدار وكان يشبّ في اليوم شباب غيره في السّنة وكان التسعة إذا رأوه قالوا : لو عاش بنونا كانوا مثل هذا فأحفظهم أن قتلوا أولادهم بكلام صالح فأجمعوا على قتله فكمنوا له في غار ليبيتوه ، ويأتي خبر التبييت وما جرى لهم في سورة النمل إن شاء اللّه ، وروي أنّ السبب في عقرها أن امرأتين من ثمود من أعداء صالح وهما عنيزة بنت غنم أم مجلز زوجة ذؤاب بن عمرو وتكنّى أم غنم عجوز ذات بنات حسان ومال من إبل وبقر وغنم وصدوف بنت المحيّا جميلة غنية ذات مواش كثيرة فدعت عنيزة على عقرها قداراً على أن تعطيه أيّ بناتها شاء وكان عزيزاً منيعاً في قومه ودعت صدوف رجلاً من ثمود يقال له الحباب إلى ذلك وعرضت نفسها عليه إن فعل فأبى فدعت ابن عم لها يقال له مصدع بن مهرج بن المحيا لذلك وجعلت له نفسها فأجاب قدار ومصدع واستغويا سبعة نفر فكانوا تسعة رهط فرصدوا الناقة حين صدرت عن الماء وكمن قدار في أصل صخرة ومصدع في أصل أخرى فمرت على مصدع فرماها بسهم فانتظم به عضلة ساقها وخرجت أم غنم عنيزة بابنتها وكانت من أحسن النساء فسفرت لقدار ثم مرت الناقة به فشدّ عليها بالسيف فكشف عرقوبها فخرت ورغت رغاة واحدة فطعن في لبّتها ونحرها وخرج أهل البلدة فاقتسموا لحمها وطبخوه وذكروا لسبقها حكاية اللّه أعلم بصحتها ،

وقيل سبب عقرها أنّ قداراً شرب الخمر وطلبوا ماء لمزجها فلم يجدوه لشرب الناقة فعزموا على عقرها وكمن لها فرماها بالحرية ثم سقطت فعقرها ، وقال بعض شعراء العرب وقد ذكر قصة الناقة : فأتاها أحيمر كأخي السه

م بعضب فقال كوني عقيرا

{وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبّهِمْ } أي استكبروا عن امتثال أمر ربهم وهو ما أمر به تعالى على لسان صالح من قوله { فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِى أَرْضِ اللّه } ولا تمسّوها بسوء ومن اتباع أمر اللّه وهو دينه وشرعه ويجوز أن يكون المعنى صدر عتوهم

عن أمر ربهم كأنّ أمر ربهم بتركها كان هو السبب في عتوّهم ونحو عن هذه ما في قوله { وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِى}

{وَقَالُواْ يأَيُّهَا صَالِحٌ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ } أي من العذاب لأنه كان سبق منه ولا تمسّوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم فاستعجلوا ما وعدهم به من ذلك إذ كانوا مكذبين له في الإخبار بذلك الوعيد وبغيره ولذلك علقوه بما هم به كافرون وهو كونه من المرسلين ،

وقرأ ورش والأعمش { أَن قَالُواْ ائْتِنَا } وأبو عمرو إذا أدرج بإبدال همزة فاء { ائْتِنَا } واو الضمة جاء صالح ،

وقرأ باقي السبعة بإسكانها وفي كتاب ابن عطية قال أبو حاتم : قرأ عيسى وعاصم أوتنا بهمز وإشباع ضمّ انتهى ، فلعله عاصم الجحدري لا عاصم بن أبي النجود أحد قراء السبعة .

٧٨

فأخذتهم الرجفة فأصبحوا . . . . .

{فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ } روي أن السّقب لما عقروا الناقة رغا ثلاثاً فقال صالح لكلّ رغوة أجل يوم تمتعوا في داركم ثلاثة أيام فقالوا هازئين به متى ذلك وما آية ذلك فقال تصبحون غداة مؤنس مصفرة وجوهكم وغداة العروبة محمريها ويوم شيار مسوديها ثم يصبحكم العذاب يوم أول يوم وهو يوم الأحد فرام التسعة عاقرو الناقة قتله وبيتوه فدمغتهم الملائكة بالحجارة فقالوا له أنت قتلتهم وهمّوا بقتله فحمته عشيرته وقالوا : وعدكم أن العذاب نازل بكم بعد ثلاث فإن صدق لم تزيدوا ربكم عليكم إلا غضباً وإن كذّب فأنتم من وراء ما تريدون فأصبحوا يوم الخميس مصفرّي الوجوه كأنها طليت بالخلوق فطلبوه ليقتلوه فهرب إلى بطن من ثمود يقال له بنو غنم فنزل على سيدهم أبي هدب لقيل وهو مشرك فغيبه ولم يقدروا عليه فعذّبوا أصحاب صالح فقال : منهم مبدع بن هدم يا نبي اللّه عذّبونا لندلّهم عليك أفندلّهم قال : نعم فدلّهم عليه فأتوا أبا هدب فقال لهم : عندي صالح ولا سبيل لكم عليه فأعرضوا عنه وشغلهم ما نزل بهم فأصبحوا في الثاني محمّري الوجوه كأنها خضبت بالدّم وفي الثالث مسوديها كأنها طليت بالقار ولية الأحد خرج صالح ومن أسلم معه إلى أن نزل رملة فلسطين من الشام فأصبحوا متكفنين متحنطين ملقين أنفسهم بالأرض يقلبون أبصارهم لا يدرون من أين يأتيهم العذاب فلما اشتد الضحى أخذتهم صيحة من السماء فيها صوت كلّ صاعقة وصوت كل شيء له صوت في الأرض فقطعت قلوبهم وهلكوا كلهم إلا امرأة مقعدة كافرة اسمها دريعة بنت سلف عندما عاينت العذاب خرجت أسرع ما يرى حتى أتت وادي القرى فأخبرت بما أصاب ثمود واستسقت فشربت وماتت ،

وقيل : خرج صالح ومن معه من قومه وهم أربعة آلاف إلى حضرموت فلما دخلوها مات صالح فسمي المكان حضرموت ،

وقيل مات بمكة ابن ثمان وخمسين سنة وأقام في قومه عشرين سنة .

قال مجاهد والسدّي :{ الرَّجْفَةُ } الصيحة ، وقال أبو مسلم : الزلزلة الشديدة ،

قال الزمخشري :{ جَاثِمِينَ } هامدين لا يتحركون موتى يقال : الناس جثوم أي قعود لا حراك بهم ولا ينسبون بنسبة ومنه المجثمة التي جاء النهي عنها وهي البهيمة تربط وتجمع قوائمها لترمى انتهى ،

وقيل : معناه حمماً محترقين كالرّماد الجاثم ذهب هذا القائل إلى أنّ الصيحة اقترن بها صواعق محرقة ، قال الكرماني : حيث ذكر الرّجفة وهي الزلزلة وحدّ الدار وحيث ذكر الصيحة جمع لأن الصيحة كانت من السماء فبلوغها أكثر وأبلغ من الزلزلة فاتصل كل واحد منهما بما هو لائق به ،

وقيل في دارهم أي في بلدهم كنى بالدار عن البلد ،

وقيل : وحدّ والمراد به الجنس والفاء في { فَأَخَذَتْهُمُ } للتعقيب فيمكن العطف بها على قولهم { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا } على تقدير قرب زمان الهلاك من زمان طلب

الإتيان بالوعد ولقرب ذلك كان العطف بالفاء ويمكن أن يقدر ما يصحّ العطف بالفاء عليه أي فواعدهم العذاب بعد ثلاث فانقضت { فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ } ولا منافاة بين { فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ } وبين { فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ } وبين { فَأُهْلِكُواْ بِالطَّاغِيَةِ } كما ظنّ قوم من الملاحدة لأنّ الرجفة ناشئة عن الصّيحة صيح بهم فرجفوا فناسب أن يسند الأخذ لكل واحد منهما

وأما فأهلكوا بالطاغية فالباء فيه للسببية أي أهلكوا بالفعلة الطاغية وهي الكفر أو عقر الناقة والطاغية من طغى إذا تجاوز الحدّ وغلب ومنه تسمية الملك والعاتي بالطاغية وقوله { إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاء }

وقال تعالى :{ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا } أي بسبب طغيانها حصل تكذيبهم ويمكن أن يراد بالطاغية الرّجفة أو الصّيحة لتجاوز كل منهما الحدّ .

٧٩

فتولى عنهم وقال . . . . .

{فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ قَوْمٌ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبّى وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ } ظاهر العطف بالفاء أنّ هذا التولي كان بعد هلاكهم ومشاهدة ما جرى عليهم فيكون الخطاب على سبيل التفجّع عليهم والتحسّر لكونهم لم يؤمنوا فهلكوا والاغتمام لهم وليسمع ذلك من كان معه من المسلمين فيزدادوا إيماناً وانتفاء عن معصية اللّه واقتضاء لما جاء به نبيه عن اللّه ويكون معنى قوله ولكن { لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ } ولكن كنتم لا تحبون الناصحين فتكون حكاية حال ماضية وقد خاطب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أهل قليب بدر وروي أنه خرج في مائة وعشرين من المسلمين وهو يبكي فالتفت فرأى الدخان فعلم أنهم قد هلكوا وكانوا ألفاً وخمسمائة دار ، وروي أنه رجع بمن معه فسكنوا ديارهم ،

وقيل : كان توليه عنهم وقت عقر الناقة وقولهم { ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا } وذلك قبل نزول العذاب وهو الذي يقتضيه ظاهر مخاطبته لهم وقوله { وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ } وهو الذي في قصصهم من أنه رحل عنهم ليلة أن أخذتهم الرّجفة صبحتها ، وبعد ظهور أمارات الهلاك التي وعد بها قال الطبري :

وقيل لهم تهلك أمة ونبيها فيها ، وروي أنه اترحل بمن معه حتى جاء مكة فأقام بها حتى مات ولفظة التولي تقتضي اليأس من خيرهم واليقين في هلاكهم وخطابه هذا كخطابهم نوح وهود عليهما السلام في قولهما { أُبَلّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبّى } وذكر النصح بعد ذلك لكنه لما كان قوله { أَبْلَغْتُكُمْ } ماضياً عطف عليه ماضياً فقال :{ وَنَصَحْتُ } ، وقوله :{ لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ } أي من نصح لك من رسول أو غيره أي ديدنكم ذلك لغلبة شهواتكم على عقولكم . وجاء لفظ { النَّاصِحِينَ } عامّاً أيأيّ شخص نصح لكم لم تقبلوا في أي شيء نصح لكم وذلك مبالغة في ذمّهم .

وروي عن ابن عمر أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما نزل الحجر في غزوة تبوك أمرهم أن لا يشربوا من مائها ولا يستقوا منها فقالوا : يا رسول اللّه قد طبخنا وعجنّا ، فأمرهم أن يطرحوا ذلك الطبيخ والعجين ويهرقوا ذلك الماء وأمرهم أن يستقوا من الماء الذي كانت ترده ناقة صالح وإلى الأخذ بهذا الحديث ، أخذ أبو محمد بن حزم في ذهابه إلى أنه لا يجوز الوضوء بماء أرض ثمود إلا إن كان من العين التي كانت تردها الناقة ، وعن جابر أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما مرّ بالحجر في غزوة تبوك قال لأصحابه : { لا يدخل أحد منكم القرية ولا تشربوا من مائها ولا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم ما أصابهم } وفي الحديث أنه مر بقبر فقال { فَيَقُولُ مَا هَاذَا } ؟ قالوا لا قال { هذا قبر أبي رغال الذي هو أبو ثقيف كان من ثمود فأصاب قومه البلاء وهو بالحرم فسلّم فلما خرج من الحرم أصابه فدفن هنا وجعل معه غصن من ذهب} قال فابتدر القوم بأسيافهم فحفروا حتى أخرجوا الغصن

٨٠

ولوطا إذ قال . . . . .

{وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مّن الْعَالَمِينَ } هو لوط بن هارون أخي إبراهيم عليه السلام وناحور وهم بنو تارح بن ناحور وتقدّم رفع نسبه وقوله هم أهل سدوم وسائر القرى المؤتفكة بعثه اللّه تعالى إليهم ، وقال ابن عطية بعثه اللّه إلى أمّة تسمى

سدوم وانتصب { لُوطاً } بإضمار وأرسلنا عطفاً على الأنبياء قبله و { إِذْ } معمولة { لأرسلنا } وجوّز الزمخشري وابن عطية : نصبه بواذكر مضمرة زاد الزمخشري أنّ{ الْمُرْسَلِينَ إِذْ } بدل من لوط أي واذكر وقت قال لقومه ، وقد تقدم الكلام على كون إذ تكون مفعولاً بها صريحاً لأذكر وأنّ ذلك تصرف فيها والاستفهام هو على جهة الإنكار والتوبيخ والتشنيع والتوقيف على هذا الفعل القبيح و { الْفَاحِشَةُ } هنا إتيان ذكران الآدميين في الادبار ولما كان هذا بالفعل معهوداً قبحه ومركوزاً في العقول فحشه أتى معرّفاً بالألف واللام أن تكون أل فيه للجنس على سبيل المبالغة كأنه لشدة قبحه جعل جميع الفواحش ولبعد العرب عن ذلك البعد التام وذلك بخلاف الزنا فإنه قال فيه :{ وَلاَ تَقْرَبُواْ الزّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً } فأتى به منكراً أي فاحشة من الفواحش وكان كثير من العرب يفعله ولا يستنكرون من فعله ولا ذكره في أشعارهم والجملة المنفية تدلّ على أنهم هم أول من فعل هذه الفعلة القبيحة وأنهم مبتكروها والمبالغة في { مّنْ أَحَدٍ } حيث زيدت لتأكيد نفي الجنس وفي الإتيان بعموم العالمين جمعاً .

قال عمر بن دينار : ما رئي ذكر على ذكر قبل قوم لوط روي أنهم كان يأتي بعضهم بعضاً ، وقال الحسن : كانوا يتون الغرباء كانت بلادهم الأردن تؤتى من كل جانب لخصبها فقال لهم إبليس هو في صورة غلام إن أردتم دفع الغرباء فافعلوا بهم هكذا فمكنهم من نفسه تعليماً ثم فشا واستحلوا ما استحلوا وأبعد من ذهب إلى أنّ المراد من عالمي زمانهم ومن ذهب إلى أن المعنى { مَا سَبَقَكُمْ } إلى لزومها ويشهدها وفي تسمية هذا الفعل بالفاحشة دليل على أنه يجري مجرى الزنا يرجم من أحصن ويجلد من لم يحصن وفعله عبد اللّه بن الزبير أتى بسبعة منهم فرجم ربعة أحصنوا وجلد ثلاثة وعنده ابن عمر وابن عباس ولم ينكروا وبه قال الشافعي ، وقال مالك : يرجم أحصن أو لم يحصن وكذا المفعول به إن كان محتلماً وعنده يرجم المحصن ويؤدّب ويحبس غير المحصن وهو مذهب عطية وابن المسيب والنخعي وغيرهم وعن مالك أيضاً يعزر أو لم يحصن وهو مذهب أبي حنيفة وحرق خالد بن الوليد رجلاً يقال له الفجاء عمل ذلك العمل وذلك برأي أبي بكر وعليّ وأنّ أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أجمع رأيهم عليه وفيهم عليّ بن أبي طالب ، وروي أنّ ابن الزبير أحرقهم في زمانه وخالد القشيري بالعراق وهشام .

{وَمَا سَبَقَكُمْ } جملة حالية من الفاعل أو من { الْفَاحِشَةُ } لأنّ في { سَبَقَكُمْ بِهَا } ضميرهم وضميرها ،

وقال الزمخشري : هي جملة مستأنفة أنكر عليهم أولاً بقوله { أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ } ثم وبّخهم عليها فقال : أنتم أول من عملها أو على أنه جواب لسؤال مقدر كأنهم قالوا لم لا نأتيها فقال :{ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا أَحَدٌ } فلا تفعلوا ما لم تسبقوا به ،

وقال الزمخشري : والباء للتعدية من قولك سبقته بالكرة إذا ضربتها قبله ومنه قوله عليه السلام { سبقك بها عكاشة} انتهى ، ومعنى التعدية هنا قلق جداً لأنّ الباء المعدية في الفعل المتعدي إلى واحد هي بجعل المفعول الأول يفعل ذلك الفعل بما دخلت عليه الباء فهي كالهمزة وبيان ذلك أنك إذا قلت صككت الحجر بالحجر فمعناه أصككت الحجر الحجر أي جعلت الحجر يصك الحجر وكذلك دفعت زيداً بعمرو عن خالد معناه أدفعت زيداً عمراً عن خالد أي جعلت زيداً يدفع عمراً عن خالد فللمفعول الأوّل تأثير في الثاني ولا يتأتّى هذا المعنى هنا إذ

لا يصحّ أن يقدّر أسبقت زيداً الكرة أي جعلت زيداً يسبق الكرة إلا بمجاز متكلّف وهو أن تجعل ضربك للكرة أول جعل ضربة قد سبقها أي تقدّمها في الزمان فلم يجتمعا

٨١

إنكم لتأتون الرجال . . . . .

{إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرّجَالَ شَهْوَةً مّن دُونِ النّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ } هذا بيان لقوله { أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ } وأتى هنا من قوله أتى المرأة غشيها وهو استفهام على جهة التوبيخ والإنكار ،

وقرأ نافع وحفص { إِنَّكُمْ } على الخبر المستأنف و { شَهْوَةً } مصدر في موضع الحال قاله الحوفي وابن عطية ، وجوّزه الزمخشري وأبو البقاء أي مشتهين تابعين للشهوة غير ملتفتين لقبحها أو مفعول من أجله قاله الزمخشري ، وبدأ به البقاء أي للاشتهاء لا حامل لكم على ذلك إلا مجرد الشهوة ولا ذم أعظم منه لأنه وصف لهم باليهيمة وأنهم لا داعي لهم من جهة العقل كطلب النسل ونحوه و { مّن دُونِ النّسَاء } في موضع الحال أي منفردين عن النساء ، وقال الحوفي :{ مّن دُونِ النّسَاء } متعلّق بشهوة و { بَلِ } هنا للخروج من قصة إلى قصة تنبىء بأنهم متجاوزو الحد في الاعتداء ،

وقيل إضراب عن تقريرهم وتوبيخهم والإنكار أو عن الإخبار عنهم بهذه المعصية الشنيعة إلى الحكم عليهم بالحال التي تنشأ عنها القبائح وتدعوا إلى اتّباع الشهوات وهي الإسراف وهو الزيادة المفسدة لما كانت عادتهم الإسراف أسرفوا حتى في باب قضاء الشهوة وتجاوزوا المعتاد إلى غيره ونحوه { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ } ،

وقيل إضراب عن محذوف تقديره ما عدلتم بل أنتم ، وقال الكرماني بل ردّ لجواب زعموا أن يكون لهم عذر أي لا عذر لكم ولا حجّة { بَلْ أَنتُمْ } وجاء هنا { مُّسْرِفُونَ } باسم الفاعل ليدلّ على الثبوت ولموافقة ما سبق من رؤوس الآي في ختمها بالأسماء وجاء في النمل { تَجْهَلُونَ } بالمضارع لتجدد الجهل فيهم ولموافقة ما سبق من رؤوس الآي في ختمها بالأفعال .

٨٢

وما كان جواب . . . . .

{وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مّن قَرْيَتِكُمْ } الضمير في { أَخْرِجُوهُم } عائد على لوط ومن آمن به ولما تأخر نزول هذه السورة عن سورة النمل أضمر ما فسره الظاهر في النمل من قوله { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ } وآل لوط ابنتاه وهما رغواء وريفاء ومن تبعه من المؤمنين ،

وقيل : لم يكن معه إلا ابنتاه كما

قال تعالى :{ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مّنَ الْمُسْلِمِينَ } و

قال ابن عطية : والضمير عائد على آل لوط وأهله وإن كان لم يجر لهم ذكر فإن المعنى يقتضيهم ،

وقرأ الحسن { جَوَابَ } بالرفع انتهى وهنا جاء العطف بالواو والمراد بها أحد محاملها الثلاث من التعقيب المعني في النمل في قوله { تَجْهَلُونَ } فما وفي العنكبوت { وَتَأْتُونَ فِى نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ } فما وكان التعقيب مبالغة في الرد حيث لم يمهلوا في الجواب زماناً بل أعجلوه بالجواب سرعة وعدم البراءة بما يجاوبون به ولم يطابق الجواب قوله لأنه لما أنكر عليهم الفاحشة وعظم أمرها ونسبهم إلى الإسراف بادروا بشيء لا تعلّق له بكلامه وهو الأمر بالإخراج ونظيره جواب قوم إبراهيم بأن قالوا { حَرّقُوهُ وَانصُرُواْ ءالِهَتَكُمْ } حتى قبح عليهم بقوله { أُفّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّه أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } فأتوا بجواب لا يطابق كلامه والقرية هي سدوم سميت باسم سدوم بن باقيم الذي يضرب المثل في الحكومات هاجر لوط مع عمه إبراهيم من أرض بابل فنزل إبراهيم أرض فلسطين وأنزل لوطاً الأردن .

{إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } قال ابن عباس ومجاهد يتقذّرون عن إتيان أدبار الرجال والنساء ،

وقيل يأتون النساء في الأطهار ، وقال ابن بحر : يرتقبون أطهار النساء فيجامعونهنّ فيها ،

وقيل : يتنزهون عن فعلتا وهو معنى قول ابن عباس ومجاهد ،

وقيل : يغتسلون من الجنابة ويتطهرون بالماء عيروهم بذلك ويسمى هذا النوع في

علم البيان التعريض بما يوهم الذمّ وهو مدح كقوله : ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم

بهنّ فلول من قراع الكتائب

ولذلك قال ابن عباس : عابوهم بما يمدح به ، والظاهر أن قوله { أَنَّهُمْ } تعليل للإخراج أي لأنهم لا يوافقوننا على ما نحن عليه ومن لا يوافقنا وجب أن نخرجه ،

وقال الزمخشري : وقولهم { إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } سخرية بهم وبتطهرهم من الفواحش وافتخار بما كانوا فيه من القذارة كما يقول الشيطان من الفسقة لبعض الصلحاء إذا وعظهم أبعدوا عنا هذا المتقشف وأريحونا من هذا المتزهّد .

٨٣

فأنجيناه وأهله إلا . . . . .

{فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ } أي { فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ } من العذاب الذي حل بقومه { وَأَهْلَهُ } هم المؤمنون معه أو ابنتاه على الخلاف الذي سبق واستثنى من أهله امرأته فلم تنجُ واسمها واهلة كانت منافقة تسرّ الكفر موالية لأهل سدوم ومعنى { مِنَ الْغَابِرِينَ } من الذين بقوا في ديارهم فهلكوا وعلى هذا يكون قوله { كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ } تفسيراً وتوكيداً لما تضمنه الاستثناء من كونها لم ينجها اللّه تعالى . وقال أبو عبيدة :{ إِلاَّ امْرَأَتَهُ } اكتفى به في أنها لم تنجُ ثم ابتدأ وصفها بعد ذلك بصفة لا تتعلق بها النجاة ولا الهلكة وهي أنها كانت ممن أسن وبقي من عصره إلى عصر غيره فكانت غابرة أي متقدّمة في السن كما قال : إلا عجوزاً في الغابرين إلى أن هلكت مع قومها انتهى ، وجاء { مِنَ الْغَابِرِينَ } تغليباً للذكور على الإناث ، وقال الزّجاج : من الغائبين عن النجاة فيكون توكيداً لما تضمنه الاستثناء انتهى ، و { كَانَتْ } بمعنى صارت أو كانت في علم اللّهأو باقية على ظاهرها من تقييد غبورها بالزمان الماضي أقوال .

٨٤

وأمطرنا عليهم مطرا . . . . .

{وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَرًا } ضمن { أمطرنا } معنى أرسلنا فلذلك عداه بعلى كقوله فأمطرنا عليهم حجارة من السماء والمطر هنا هي حجارة وقد ذكرت في غير آية خسف بهم وأمطرت عليهم الحجارة ،

وقيل : كانت المؤتفكة خمس مدائن ،

وقيل : ست ،

وقيل : أربع اقتلعها جبريل بجناحه فرفعها حتى سمع أهل السماء نهيق الحمير وصياح الديكة ثم عكسها فرد أعلاها أسفلها وأرسلها إلى الأرض ، وتبعتهم الحجارة مع هذا فأهلكت من كان منهم في سفر أو خارجاً عن البقاع وقالت امرأة لوط حين سمعت الرجّة واقوماه والتفتت فأصابتها صخرة فقتلتها ، والظاهر أن الأمطار شملهم كلهم ،

وقيل : خسف بأهل المدن وأمطرت الحجارة على المسافرين منهم ، وسئل مجاهد هل سلم منهم أحد قال لا إلا رجلاً كان بمكة تاجراً وقف الحجر له أربعين يوماً حتى قضى تجارته وخرج من الحرم فأصابه فمات وكان عددهم مائة ألف .

{مَّطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ } خطاب للرسول أو للسامع قصتهم كيف كان مآل من أجرم وفيه إيقاظ وازدجار أن تسلك هذه الأمة هذا المسلك و { الْمُجْرِمِينَ } عام في قوم نوح وهود وصالح ولوط وغيرهم وهو من نظر التفكر أو من نظر البصر فيمن بقيت له آثار منازل ومساكن كثمود وقوم لوط كما قال تعالى { وَعَاداً وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مّن مَّسَاكِنِهِمْ}

٨٥

وإلى مدين أخاهم . . . . .

{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ قَوْمٌ اعْبُدُواْ اللّه مَا لَكُم مّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ} قال الفرّاء { مَدْيَنَ } اسم بلد وقطر وأنشد : رهبان مدين لو زأوك تنزلوا فعلى هذا التقدير وإلى أهل مدين ،

وقيل : اسم قبيلة سميت باسم أبيها مدين بن إبراهيم قاله مقاتل وأبو سليمان الدمشقي ، وشعيب قيل : هو ابن بنت لوط ،

وقيل زوج بنته وهذه مناسبة بين قصته

وقصة لوط وشعيب اسم عربي تصغير شعب أو شعب والجمهور على أنّ مدين أعجمي فإن كان عربياً احتمل أن يكون فعيلاً من مدين بالمكان أقام به وهو بناء نادر ،

وقيل : مهمل أو مفعلاً من دان فتصحيحه شاذ كمريم ومكورة ومطيبة وهو ممنوع الصّرف على كل حال سواء كان اسم أرض أو اسم قبيلة أعجمياً أم عربياً واختلفوا في نسب شعيب ، فقال عطاء وابن إسحاق وغيرهما : هو شعيب بن ميكيل بن سجن بن مدين بن إبراهيم واسمه بالسّريانية بيروت ، وقال الشرقي بن القطامي : شعيب بن عنقاء بن ثويب بن مدين بن إبراهيم ، وقال أبو القاسم اسماعيل بن محمد بن الفضل بن علي الطلحيّ الأصبهاني في كتاب الإيضاح في التفسير من تأليفه : هو شعيب بن ثويب بن مدين بن إبراهيم ،

وقيل : شعيب بن جذي بن سجن بن اللام بن يعقوب ، وكذا قال ابن سمعان إلا أنه جعل مكان اللام لاوي ولا يعرف في أولاد يعقوب اللام فلعله تصحيف من لاوي ،

وقيل : شعيب بن صفوان بن عنقاء بن ثويب بن مدين بن إبراهيم ، وقال الشريف النسابة الجوّاني : وهو المنتهى إليه في هذا العلم هو شعيب بن حبيش بن وائل بن مالك بن حرام بن جذام واسمه عامر أخو نجم وهما ولدا الحارث بن مرة بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن عابر هود عليه السلام فبينه وبين هود في هذا النسب الأخير ثمانية عشر أباً وبينهما في بعض النسب المذكور سبعة آباء لأنه ذكر فيه أنه شعيب بن ثويب بن مدين بن إبراهيم وإبراهيم هو ابن تارح بن ناحور بن ساروغ بن أزغو بن فالغ بن عابر وهو هود عليه السلام وكان يقال لشعيب : خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه ، قال قتادة : أرسل مرتين مرّة إلى مدين ومرة إلى أصحاب الأيكة وتعلّق إلى مدين وانتصب { أَخَاهُمْ } بأرسلنا وهذا يقوي قول من نصب لوطاً بأرسلنا وجعله معطوفاً على الأنبياء قبله .

{قَدْ جَاءتْكُم بَيّنَةٌ مّن رَّبّكُمْ } قرأ الحسن آية من ربكم وهذا دليل على أنه جاء بالمعجزة إذ كان نبيّ لا بدّ له من معجزة تدلّ على صدقه لكنه لم يعين هنا ما المعجزة ولا من أي نوع هي كما أنه لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم معجزات كثيرة جدّاً لم تعين في القرآن وقال قوم : كان شعيب نبيّاً ولم تكن له بينة والبينة هنا الموعظة وأنكر الزجاج هذا القول وقال : لا تقبل نبوة بغير معجزة ومن معجزاته أنه دفع إلى موسى عصاه وتلك العصا صارت تنيناً ،

وقال الزمخشري : ومن معجزات شعيب ما روي من محاربة عصا موسى التنين حين دفع إليه غنمة وولادة الغنم الدّرع خاصة حين وعده أن يكون له الدّرع من أولادها ووقوع عصا آدم على يده في المرّات السبع وغير ذلك من الآيات لأنّ هذه كلها كانت قبل أن ينبأ موسى عليه السلام فكانت معجزات لشعيب ، وقال الزجاج : وأيضاً قال لموسى عليه السلام هذه الأغنام تلد أولاداً فيها سواد وبياض وقد وهبتها لك فكان الأمر كما أخبر عنه وهذه الأحوال كلها كانت معجزة لشعيب عليه السلام لأنّ موسى عليه السلام في ذلك الوقت ما ادّعى الرسالة انتهى ، وما قاله الزمخشري متّبعاً فيه الزجاج هو قول المعتزلة وذلك أن الإرهاص وهو ظهور المعجزة على يد من سيصير نبيّاً ورسولاً بعد ذلك مختلف في جوازه فالمعتزلة تقول : هو غير جائز فلذلك جعلوا هذه المعجزات لشعيب وأهل السنّة يقولون بجوازه فهي إرهاص لموسى بالنبوة قبل الوحي إليه والحجج للمذهبين مذكورة في أصول الدين .

{فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ } أمرهم أولاً بشيء خاص وهو إيفاء الكيل والميزان ثم نهاهم عن شيء عام وهو قوله { أَشْيَاءهُمْ } و { الْكَيْلَ } مصدر كنى به عن الآلة التي يكال بها كقوله في هود { الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ } فطابق قوله { وَالْمِيزَانَ } أو هو باق على المصدرية وأريد بالميزان المصدر كالميعاد لا الآلة فتطابقا أو أخذ الميزان على حذف مضاف أي ووزن الميزان والكيل على إرادة المكيال فتطابقا والبخس تقدّم شرحه في قوله { وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً } و { أَشْيَاءهُمْ } عام في كل شيء لهم ،

وقيل : أموالهم ، وقال التبريزي : حقوقهم وفي إضافة الأشياء إلى الناس دليل على ملكهم إياها خلافاً للإباحيّة الزنادقة كانوا يبخسون الناس في مبايعاتهم وكانوا مكاسين لا يدعون شيئاً إلا مكسوه ومنه قيل للمكس البخس وروي أنهم كانوا إذا دخل الغريب

بلدهم أخذوا دراهمه الجياد وقالوا هي زيوف فقطعوها قطعاً ثم أخذوها بنقصان ظاهر وأعطوه بدلها زيوفاً وكانت هذه المعصية قد فشت فيهم في ذلك الزمان مع كفرهم الذي نالتهم الرّجفة بسببه .

{وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الاْرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا } تقدّم تفسير هذه الجملة قريباً في هذه السورة .

{ذالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ } الإشارة إلى إيفاء الكيل والميزان وترك البخس والإفساد وخير أفعل التفضيل أي من التطفيف والبخس والإفساد لأنّ خيرية هذه لكم عاجلة جداً منقضية عن قريب منكم إذ يقطع الناس معاملتكم ويحذرونكم فإذا أوفيتم وتركتم البخس والإفساد جملت سيرتكم وحسنت الأحدوثة عنكم وقصدكم الناس بالتجارات والمكاسب فيكون ذلك أخير مما كنتم تفعلون لديمومة التجارة والأرباح بالعدل في المعاملات والتحلي بالأمانات ،

وقيل :{ ذالِكُمْ } إشارة إلى الإيمان الذي تضمنه قوله { اعْبُدُواْ اللّه مَا لَكُم مّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ } وإلى ترك البخس في الكيل والميزان ،

وقيل :{ خَيْرٌ } هنا ليست على بابها من التفضيل ولذلك فسّره ابن عطية بقوله أي ذاك نافع عند اللّه مكسب فوزه ورضوانه وظاهر قوله { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } أنهم كانوا كافرين وعلى ذلك يدل صدر الآية وآخر القصة فمعنى ذلك أنه لا يكون ذلك لكم خيراً ونافعاً عند اللّه إلا بشرط الإيمان والتوحيد وإلا فلا ينفع عمل دون إيمان ،

وقال الزمخشري { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } إن كنتم مصدقين لي في قولي { ذالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ}

٨٦

ولا تقعدوا بكل . . . . .

{وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّه مَنْ ءامَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا } الظاهر النهي عن القعود بكل طريق لهم عن ما كانوا يفعلونه من إيعاد الناس وصدّهم عن طريق الدّين ، قال ابن عباس وقتادة ومجاهد والسدّي : كانوا يقعدون على الطرقات المفضية إلى شعيب فيتوعدون من أراد المجيء إليه ويصدونه ويقولون : إنه كذاب فلا تذهب إليه على نحو ما كانت تفعله قريش مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وقال السدّي : هذا نهي العشارين والمتقبلين ونحوه من أخذ أموال الناس بالباطل ، وقال أبو هيريرة : هو نهي عن ا لسّلب وقطع الطريق وكان ذلك من فعلهم وروي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : رأيت ليلة أسري بي خشبة على الطريق لا يمر بها ثوب إلا شقته ولا شيء إلا خرقته فقلت ما هذا يا جبريل فقال هذا مثل لقوم من أمّتك يقعدون على الطريق فيقطعونه ثم تلا { وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلّ صِراطٍ تُوعِدُونَ } وفي هذا القول والقول الذي قبله مناسبة لقوله { وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ } لكن لا تظهر مناسبة لهما بقوله { وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّه مَنْ ءامَنَ بِهِ } بل ذلك يناسب القول الأول قال القرطبي : قال علماؤنا ومثلهم اليوم هؤلاء المكاسون الذين يأخذون من الناس ما لا يلزمهم شرعاً من الوظائف

الماليّة بالقهر والجبر وضمنوا ما لا يجوز ضمان أصله من الزكاة والمواريث والملاهي والمترتّبون في الطرق إلى غير ذلك مما قد كثر في الوجود وعمل به في سائر البلاد وهو من أعظم الذنوب وأكبرها وأفحشها فإنه غضب وظلم وعسف على الناس وإذاعة للمنكر وعمل به ودوام عليه وإقرار له وأعظمه تضمين الشرع والحكم للقضاء فإنا للّه وإنا إليه راجعون ، لم يبق من الإسلام إلا رسمه ولا من الدّين إلا اسمه انتهى كلامه . وقد قرن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الأموال والأعراض بالدماء في قوله في حجة الوداع :  { ألا إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حراماً } وما أكثر ما تساهل الناس في أخذ الأموال وفي الغيبة ، وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { من قتل دون ماله فهو شهيد } والعجب إطباق من يتظاهر بالصلاح والدين والعلم على عدم إنكار هذه المكوس والضمانات وادعاء بعضهم أنه له تصرف في الوجود ودلال على اللّه تعالى بحيث إنه يدعو فيستجاب له فيما أراد ويضمن لمن كان من أصحابه وأتباعه الجنة وهو مع ذلك يتردّد لأصحاب المكوس ويتذلل إليهم في نزع شيء حقير وأخذه من المكس الذي حصّلوه وهذه وقاحة لا تصدر ممن شمّ رائحة الإيمان ولا تعلق بشيء من الإسلام ، وقال بعض الشعراء : تساوى الكلّ منا في المساوي

فأفضلنا فتيلاً ما يساوي

وعلى الأقوال السابقة يكون القعود بكل صراط حقيقة وحمل القعود والصراط الزمخشري على المجاز ، فقال ولا تقتدوا بالشيطان في قوله { لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ } فتقعدوا بكل صراط أي بكل منهاج من مناهج الدّين والدليل على أن المراد بالصراط سبيل الحق قوله { وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّه } ،

فإن قلت : صراط الحقّ واحد { وَأَنَّ هَاذَا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } فكيف قيل بكل صراط ،

قلت : صراط الحقّ واحد ولكنه يتشعّب إلى معارف وحدود وأحكام كثيرة مختلفة فكانوا إذا رأوا واحداً يشرع في شيء منه منعوه وصدّوه انتهى . ولا تظهر الدلالة على أن المراد بالصراط سبيل الحق من قوله { وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّه } كما ذكر بل الظاهر التغاير لعموم كل صراط وخصوص سبيل اللّه فيكون { بِكُلّ صِراطٍ } حقيقة في الطرق ، و { سَبِيلِ اللّه } مجاز عن دين اللّه والباء في { بِكُلّ صِراطٍ } ظرفية نحو زيد بالبصرة أي في كل صراط وفي البصرة والجمل من قوله { تُوعَدُونَ }{ وَتَصُدُّونَ }{ وَتَبْغُونَهَا } أحوال أي موعدين وصادّين وباغين والإيعاد ذكر إنزال المضار بالموعد ولم يذكر الموعد به لتذهب النفس فيه كل مذهب من الشرّ لأن أوعد لا يكون إلا في الشر وإذا ذكر تعدى الفعل إليه بالباء .

قال أبو منصور الجواليقي : إذا أرادوا أن يذكروا ما يهددوا به مع أوعدت جاؤوا بالباء فقالوا : أوعدته بالضرب ولا يقولون أعدته الضرب والصدّ يمكن أن يكون حقيقة في عدم التمكين من الذهاب إلى الرسول ليسمع كلامه ويمكن أن يكون مجازاً عن الإيعاد من الصادّ بوجه ما أوعن وعد المصدود بالمنافع على تركه و { مَنْ ءامَنَ } مفعول بتصدون على إعمال الثاني ومفعول { تُوعَدُونَ } ضمير محذوف والضمير في { بِهِ } الظاهر أنه على { سَبِيلِ اللّه } وذكره لأن السبيل تذكر وتؤنث ،

وقيل عائد على اللّه ،

وقال الزمخشري :

فإن قلت : إلام يرجع الضمير في آمن به ،

قلت : إلى كلّ صراط تقديره توعدون من آمن به وتصدون عنه فوضع الظاهر الذي هو سبيل اللّه موضع الضمير زيادة في تقبيح أمرهم دلالة على عظم ما يصدّون عنه انتهى وهذا تعسّف في الإعراب لا يليق بأن يحمل القرآن عليه لما فيه من التقديم والتأخير ووضع الظاهر موضع المضمر من غير حاجة إلى ذلك وعود الضمير على أبعد مذكور مع إمكان عوده على أقرب مذكور الإمكان السائغ الحسن الراجح وجعل { مَنْ ءامَنَ } منصوباً بتوعدون فيصير من إعمال

الأوّل وهو قليل .

وقد قال النحاة أنه لم يرد في القرآن لقلته ولو كان من إعمال الأول للزم ذكر الضمير في الفعل الثاني وكان يكون التركيب { وتصدونه } أو وتصدونهم إذ هذا الضمير لا يجوز حذفه على قول الأكثرين إلا ضرورة على قول بعض النحاة يحذف في قليل من الكلام ويدلّ على { وَالصَّابِئِينَ مَنْ ءامَنَ } منصوب بتصدون الآية الأخرى وهي قوله :{ قُلْ ياأَهْلَ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّه مَنْ ءامَنَ } ولا يحذف مثل هذا الضمير إلا في شعر وأجاز بعضهم حذفه على قلة مع هذه التكليفات المضافة إلى ذلك فكان جديراً بالمنع لما في ذلك من التعقيد البعيد عن الفصاحة وأجاز ابن عطية أن يعود على شعيب في قول من رأى القعود على الطريق للرد عن شعيب وهذا بعيد لأن القائل { وَلاَ تَقْعُدُواْ } وهو شعيب فكان يكون التركيب من آمن بي ولا يسوغ هنا أن يكون التفافاً لو

قلت : يا هند أنا أقول لك لا تهيني من أكرمه تريد من أكرمني لم يصحّ وتقدم تفسير مثل قوله { وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا } في آل عمران .

{وَاذْكُرُواْ إِذَا كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ }

قال الزمخشري { إِذْ } مفعول به غير ظرف أي { وَاذْكُرُواْ } على جهة الشكر وقت كونكم { قَلِيلاً } عددكم { فَكَثَّرَكُمْ } اللّه ووفر عددكم انتهى ؛ وذكر غيره أنه منصوب على الظرف فلا يمكن أن يعمل فيه { وَاذْكُرُواْ } لاستقبال اذكروا وكون { إِذْ } ظرفاً لما مضى والقلّة والتكثير هنا بالنسبة إلى الأشخاص أو إلى الفقر والغنى أو إلى قصر الأعمار وطولها أقوال ثلاثة أظهرها الأول . قيل : إن مدين بن إبراهيم تزوج بنت لوط فولدت فرمى اللّه في نسلها بالبركة والنماء فكثروا وفشوا ،

وقال الزمخشري : إذ كنتم أقلة أذلّة فأعزّكم بكثرة العدد والعدد انتهى ولا ضرورة تدعو إلى حذف صفة وهي أذلّة ولا إلى تحميل قوله { فَكَثَّرَكُمْ } معنى بالعدد ألا ترى أنّ القلة لا تستلزم الذلّة ولا الكثرة تستلزم العزّ ، وقال الشاعر : تعيّرنا أنّا قليل عديدنا

فقلت لها إنّ الكرام قليل

وما ضرّنا أنّا قليل وجارنا

عزيز وجار الأكثرين ذليل

وقيل : المراد مجموع الأقوال الأربعة فإنه تعالى كثّر عددهم وأرزاقهم وطوّل أعمارهم وأعزّهم بعد أن كانوا على مقابلاتها .{ وَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ } هذا تهديد لهم وتذكير بعاقبة من أفسد قبلهم وتمثيل لهم بمن جلّ به العذاب من قوم نوح وهود وصالح ولوط وكانوا قريبي عهد بما أجاب المؤتفكة .

٨٧

وإن كان طائفة . . . . .

{وَإِن كَانَ طَائِفَةٌ مّنكُمْ ءامَنُواْ بِالَّذِى أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ فَاصْبِرُواْ حَتَّى يَحْكُمَ اللّه بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ } هذا الكلام من أحسن ما تلطف به في المحاورة إذ برز المتحقق في صورة المشكوك فيه وذلك أنه قد آمن به طائفة بدليل قول المستكبرين عن الإيمان لنخرجنّك يا شعيب والذين آمنوا معك وهو أيضاً من بارع التقسيم إذ لا يخلو قومه من القسمين والذي أرسل به هنا ما أمرهم به من إفراد اللّه تعالى بالعبادة وإيفاء الكيل والميزان ونهاهم عنه من البخس والإفساد والقعود المذكور ومتعلق { لَمْ يُؤْمِنُواْ } محذوف دلّ عليه ما قبله وتقديره لم يؤمنوا به والخطاب بقوله { مّنكُمْ } لقومه وينبغي أن يكون قوله { فَاصْبِرُواْ } خطاباً لفريقي قومه من آمن ومن لم يؤمن { بَيْنِنَا } أي بين الجميع فيكون ذلك وعداً للمؤمنين بالنصر الاذي هو نتيجة الصّبر فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا وعيداً للكافرين بالعقوبة والخسار ، و

قال ابن عطية : المعنى وإن كنتم يا قوم قد اختلفتم علي وشعبتم بكفركم أمري فآمنت طائفة وكفرت طائفة فاصبروا أيها الكفرة حتى يأتي حكم اللّه بيني وبينكم ففي قوله فاصبروا قوة التهديد والوعيد هذا ظاهر الكلام وأنّ المخاطبة بجميع الآية للكفار ، قال النقاش وقال مقاتل بن سليمان : المعنى { فَاصْبِرُواْ } يا معشر الكفار قال : وهذا قول الجماعة انتهى ، وهذا القول بدأ به

الزمخشري ، فقال { فَاصْبِرُواْ } فتربصوا وانتظروا { حَتَّى يَحْكُمَ اللّه بَيْنَنَا } أي بين الفريقينن بأن ينصر المحقين على المبطلين ويظهرهم عليهم وهذا وعيد للكافرين بانتقام اللّه تعالى منهم لقوله تعالى { فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبّصُونَ } انتهى .

قال ابن عطية :

وحكى منذر بن سعيد عن أبي سعيد أنّ الخطاب بقوله فاصبروا للمؤمنين على معنى الوعد لهم وقاله مقاتل بن حيان انتهى وثنى به الزمخشري فقال أو هو موعظة للمؤمنين وحثّ على الصبر واحتمال ما كان يلحقهم من أذى المشركين إلى أن يحكم اللّه بينهم وينتقم لهم منهم انتهى ، والذي قدمناه أولاً من أنه خطاب للفريقين هو قول أبي علي وأتى به الزمخشري ثالثاً فقال : ويجوز أن يكون خطاباً للفريقين ليصبر المؤمنون على أذى الكفار وليصبر الكفار على ما يسوءهم من إيمان من آمن منهم حتى يحكم اللّه فيميز الخبيث من الطيّب انتهى ، وهو جار على عادته من ذكر تجويزات في الكلام توهّم أنها من قوله وهي أفعال للعلماء المتقدمين { وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ } لأنّ حكمه عدل لا يخشى أن يكون يه حيف وجور .

٨٨

قال الملأ الذين . . . . .

عاد رجع إلى ما كان عليه وتأتي بمعنى صار . قال : تعد فيكم جزر الجزور رماحنا

ويرجعن بالأسياف منكسرات

ضحى ظرف متصرّف إن كان نكرة وغير متصرّف إذا كان من يوم بعينه وهو وقت ارتفاع الشمس إذا طلعت وهو مؤنث وشذّوا في تصغيره فقالوا : ضحى بغير تاء التأنيث وتقول أتيته ضحى وضحاء إذا فتحت الضّاد مددت ، الثعبان ذكر الحيّات العظيم أخذ من ثعبت بالمكان فجرته بالماء والمثعب موضع انفجار الماء لأن الثعبان يجري كالماء عند الانفجار . الإرجاء التأخير ، المدينة معروفة مشتقة من مدن فهي فعيلة ومن ذهب إلى أنها مفعلة من دان فقوله ضعيف لإجماع العرب على الهمز في جمعها قالوا مدائن بالهمزة ولا يحفظ فيه مداين بالياء ولا ضرورة تدعو إلى أنها مفعلة ويقطع بأنها فعيلة جمعهم لها على فعل قالوا مدن كما قالوا صحف في صحيفة .

{قَالَ الْمَلاَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ ياشُعَيْبُ شُعَيْبٌ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا } أي الكفار { الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ } عن الإيمان أقسموا على أحد الأمرين إخراج شعيب وأتباعه أو عودتهم في ملته والقسم يكون على فعل المقسم وفعل غيره سوّوا بين نفيه ونفي أتباعه وبين العود في الملّة وهذا يدلّ على صعوبة مفارقة الوطن إذ قرنوا ذلك بالعود إلى الكفر وفي الإخراج والعود طباق معنوي وعاد كما

تقدّم لها استعمالان أحدهما أن تكون بمعنى صار والثاني بمعنى رجع إلى ما كان عليه فعلى الأوّل لا إشكال في قوله أو لتعودن إذ صار فعلاً مسنداً إلى شعيب وأتباعه ولا يدلّ على أن شعيباً كان في ملتهم وعلى المعنى الثاني يشكل لأنّ شعيباً لم يكن في ملتهم قط لكن أتباعهم كانوا فيها ، وأجيب عن هذا بوجوه ،

أحدها : أن يراد بعود شعيب في الملة حال سكوته عنهم قبل أن يبعث لإحالة الضلال فإنه كان يخفي دينه إلى أن أوحى اللّه إليه ،

الثاني : أن يكون من باب تغليب حكم الجماعة على الواحد لما عطفوا أتباعه على ضميره في الإخراج سحبوا عليه حكمهم في العود وإن كان شعيب بريئاً مما كان عليه أتباعه قبل الإيمان ،

الثالث : أن رؤساءهم قالوا ذلك على سبيل التلبيس على العامّة والإيهام أنه كان منهم { قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ } أي أيقع منكم أحد هذين الأمرين على كل حال حتى في حال كراهيتنا لذلك والاستفهام للتوقيف على شنعة المعصية بما أقسموا عليه من الإخراج عن مواطنهم ظلماً أو الإقرار بالعود في ملتهم ،

قال الزمخشري الهمزة للاستفهام والواو واو الحال تقديره أتعيدوننا في ملّتكم في حال كراهتنا أو مع كوننا كارهين انتهى ، فجعل الاستفهام خاصاً بالعود في ملتهم وليس كذلك بل الاستفهام هو عن أحد الأمرين الإخراج أو العود وجعل الواو واو الحال وقدره أتعيدوننا في حال كراهتنا وليست واو الحال التي يعبّر عنها النحويون بواو الحال بل هي واو العطف عطفت على حال محذوفة كقوله { رُدُّواْ السَّائِلَ وَلَوْ } ليس المعنى ردّوه في حال الصدفة عليه بظلف محرق بل المعنى ردّوه مصحوباً بالصدقة ولو مصحوباً بظلف مخرق تقدم لنا إشباع القول في نحو هذا .

٨٩

قد افترينا على . . . . .

{قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللّه كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِى مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللّه مِنْهَا } هذا إخباره مقيّد من حيث المعنى بالشرط وجواب الشرط محذوف من حيث الصناعة وتقديره { إِنْ عُدْنَا فِى مِلَّتِكُمْ } فقد افترينا وليس قوله { قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللّه كَذِبًا } هو جواب الشرط إلا على مذهب من يجيز تقديم جواب الشرط على الشرط فيمكن أن يخرج هذا عليه وجوّزوا في هذه الجملة وجهين أحدهما أن يكون إخباراً مستأنفاً ،

قال الزمخشري : فيه معنى التعجّب كأنهم قالوا ما أكذبنا على اللّه إن عدنا في الكفر بعد الإسلام لأنّ المرتدّ أبلغ في الافتراء من الكافر يعني الأصلي لأن الكافر مفتر على اللّه الكذب حيث يزعم أن للّه ندًّا ولا ندّ له والمرتد مثله في ذلك وزائد عليه حيث يزعم أنه قد بيّن له ما خفي عليه من التمييز ما بين الحق والباطل . و

قال ابن عطية : الظاهر أنه خبر أي قد كنا نواقع أمراً عظيماً في الرجوع إلى الكفر ، والوجه الثاني أن يكون قسماً على تقدير حذف اللام أي واللّه لقد افترينا ذكره الزمخشري وأورده ابن عطية احتمالاً قال : ويحتمل أن يكون على جهة القسم الذي هو في صيغة الدّعاء مثل قول الشاعر : بقيت وفري وانحرفت عن العلا

ولقيت أضيافي بوجه عبوس

وكما تقول افتريت على اللّه أن كلمت فلاناً ولم ينشد ابن عطية البيت الذي يقيّد قوله بقيت وما بعده بالشرط وهو قوله :

إن لم أشن على ابن هند غارة

لم تخلُ يوماً من نهاب نفوس

ولما كان أمر الدّين هو الأعظم عند المؤمن والمؤثر على أمر الدنيا لم يلتفتوا إلى الإخراج وإن كان أحد الأمرين هو الأعظم عند المؤمن والمؤثر على الكذب أقسم على وقوعه الكفار فقالوا قد افترينا على اللّه كذباً إن عدنا في ملّتكم وتقدّم تفسير العود بالصيرورة وتأويله إن كان في معنى الرجوع إلى ما كان الإنسان فيه بالنسبة إلى النبي المعصوم من الكبائر والصغائر . { وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلا أَن يَشَاء اللّه رَبُّنَا } أي وما ينبغي ولا يتهيّأ لنا أن نعود في ملّتكم إلا أن يشاء اللّه ربّنا فنعود فيها وهذا الاستثناء على سبيل عذق جميع الأمور بمشيئة اللّه وإرادته وتجويز العود من المؤمنين إلى ملتهم دون شعيب لعصمته بالنبوّة فجرى الاستثناء على سبيل تغليب حكم الجمع على الواحد وإن لم يكن ذلك الواحد داخلاً في حكم الجمع ، و

قال ابن عطية : ويحتمل أن يريد استثناء ما يمكن أن يتعبّد اللّه به المؤمنين مما تفعله الكفرة من القربات فلما قال لهم إنا لا نعود في ملّتكم ثم خشي أن يتعبّد اللّه بشيء من أفعال الكفرة فيعارض ملحد بذلك ويقول هذه عودة إلى ملتنا استثنى مشيئة اللّه فيما يمكن أن يتعبّد به انتهى ، وهذا الاحتمال لا يصحّ لأن قوله { بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللّه مِنْهَا } إنما يعني النجاة من الكفرة والمعاصي لا من أعمال البرّ ، و

قال ابن عطية : ويحتمل أن يريد بذلك معنى الاستبعاد كما تقول لا أفعل ذلك حتى يشيب الغراب وحتى يلج الجمل في سم الخياط وقد علم امتناع ذلك فهي إحالة على مستحيل وهذا تأويل حكاه المفسرون ولم يشعروا بما فيه انتهى ، وهذا تأويل إنما هو للمعتزلة مذهبهم أنّ الكفر والإيمان ليس بمشيئة من اللّه تعالى ،

وقال الزمخشري: { فإن قلت } : وما معنى قوله { وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلا أَن يَشَاء اللّه } واللّه تعالى متعال أن يشاء ردة المؤمنين وعودهم في الكفر ، { قلت } : معناه إلا أن يشاء اللّه خذلاننا ومنعنا الإلطاف لعلمه تعالى أنها لا تنفع فينا ويكون عبثاً والعبث قبيح لا يفعله الحكيم والدليل عليه قوله { وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْء عِلْمًا } أي هو عالم بكل شيء مما كان ويكون وهو تعالى يعلم أحوال عباده كيف تتحوّل قلوبهم وكيف تنقلب وكيف تقسو بعد الرّقة وتمرض بعد الصحة وترجع إلى الكفر بعد الإيمان ويجوز أن يكون قوله { إِلاَّ أَن يَشَاء اللّه } حسماً لطمعهم في العود لأن مشيئة اللّه تعالى بعودهم في الكفر محال خارج عن الحكمة انتهى وهذان التأويلان على مذهب المعتزلة ،

وقيل : هذا الاستثناء إنما هو تسليم وتأدّب ،

قال ابن عطية : وتعلق هذا التأويل من جهة استقبال الاستثناء ولو كان الكلام إن شاء قوى هذا التأويل انتهى وليس يقوي هذا التأويل لا فرق بين إلا أن يشاء وبين إلا أن شاء لأنّ انّ تخلص الماضي للاستقبال كما تخلص أنْ المضارع للاستقبال وكلا الفعلين مستقبل وأبعد من ذهب إلى أن الضمير في { فِيهَا } يعود على القرية لا على الملح .{ وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْء عِلْمًا } تقدم تفسير نظيرها في الأنعام في قصة إبراهيم عليه السلام .{ عَلَى اللّه تَوَكَّلْنَا } أي في دفع ما توعدتمونا به وفي حمايتنا من الضلال وفي ذلك استسلام اللّه وتمسّك بلطفه وذلك يؤيد التأويل الأوّل في إلا أن يشاء اللّه ،

وقال الزمخشري : يثبتنا على الإيمان ويوفقنا لازدياد الإيقان .{ رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ } أي احكم والفاتح والفتاح القاضي بلغة حمير

وقيل بلغة مراد ،

وقال بعضهم : ألا أبلغ بني عصم رسولا

فإني عن فتاحتكم غني

وقال ابن عباس : ما كنت أعرف معنى هذه اللفظة حتى سمعت بنت ذي يزن تقول لزوجها تعال أفاتحْك أي أحاكمك ، وقال الفرّاء أهل عمان يسمون القاضي الفاتح ، وقال السدّي وابن بحر : احكم بيننا ، قال أبو إسحاق وجائز أن يكون المعنى أظهر أمرنا حتى ينفتح ما بيننا وبين قومنا وينكشف ذلك وذلك بأن ينزل بعدوّهم من العذاب ما يظهر به أنّ الحق معهم ، قال ابن عباس : كان كثير الصلاة ولما طال تمادى قومه في كفرهم ويئس من صلاحهم دعا عليهم فاستجاب دعاءه وأهلكهم بالرّجفة ، وقال الحسن : إنّ كل نبي أراد هلاك قومه أمره بالدعاء عليهم ثم استجاب له فأهلكهم .

٩٠

وقال الملأ الذين . . . . .

{وَقَالَ الْمَلاَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ } أي قال بعضهم لبعض أي كبراؤهم لاتباعهم تثبيطاً عن الإيمان :{ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا } فيما أمركم به ونهاكم عنه ،

قال الزمخشري: { فإن قلت } : ما جواب القسم الذي وطأته اللام في { لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ } وجواب الشرط { قلت} : قوله { إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ } سادّ مسدّ الجوابين انتهى ، والذي تقول النحويون إنّ جواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه ولذلك وجب مضي فعل الشرط فإن عنى الزمخشري بقوله سادّ مسدّ الجوابين إنه اجتزىء به عن ذكر جواب الشرط فهو قريب وإن عنى به أنه من حيث الصناعة النحوية فليس كما زعم لأن الجملة يمتنع أن تكون لا موضع لها من الإعراب وأن يكون لها موضع من الإعراب { وَإِذَا } هنا معناها التوكيد وهي الحرف الذي هو جواب ويكون معه الجزاء وقد لا يكون وزعم بعض النحويين أنها في هذا الموضع ظرف العامل فيه { لَّخَاسِرُونَ } والنون عوض من المحذوف والتقدير أنكم إذا اتبعتموه { لَّخَاسِرُونَ } فلما حذف ما أضيف إليه عوض من ذلك النون فصادفت الألف فالتقى ساكنان فحذف الألف لالتقائهما والتعويض فيه مثل التعويض في يومئذ وحينئذ ونحوه وما ذهب إليه هذا الزاعم ليس بشيء لأنه لم يثبت التعويض والحذف في { إِذَا } التي للاستقبال في موضع فيحمل هذا عليه ، { لَّخَاسِرُونَ } قال ابن عباس : مغبونون ، وقال عطاء : جاهلون ، وقال الضحاك : عجزة ،

وقال الزمخشري : لخاسرون لاستبدالكم الضلالة بالهدى لقوله { أُوْلَائِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ}

وقيل تخسرون باتباعه فوائد البخس والتطفيف لأنه ينهاكم عنه ويحملكم على الإيفاء والتسوية انتهى .

٩١

فأخذتهم الرجفة فأصبحوا . . . . .

{فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ } تقدم تفسير مثل هذه الجملة ، قال ابن عباس وغيره : لما دعى عليهم فتح عليهم باب من جهنم بحرَ شديد أخذ بأنفاسهم فلم ينفعهم ظلّ ولا ماء فإذا دخلوا الأسراب ليتبرّدوا وجدوها أشدّ حرًّا من الظاهر فخرجوا هرباً إلى البرية فأظلتهم سحابة فيها ريح طيبة فتنادوا عليكم الظلة فاجتمعوا تحتها كلهم فانطبقت عليهم وألهبها اللّه ناراً ورجفت بهم الأرض فاحترقوا كما يحترق الجراد المقلو فصاروا رماداً . وروي أن الريح حبست عنهم سبعة أيام ثم سلّط عليهم الحر ، وقال يزيد الجريري : سلط عليهم الرّيح سبعة أيام ثم رفع لهم جبل من بعيد فأتاه رجل فإذا تحته أنهار وعيون فاجتمعوا تحته كلهم فوقع ذلك الجبل عليهم ، وقال قتادة : أرسل شعيب إلى أصحاب الأيكة فأهلكوا بالظلّة وإلى أصحاب مدين فصاح بهم جبريل صيحةً فهلكوا جميعاً و

قال ابن عطية : ويحتمل أنّ فرقة من قوم شعيب هلكت

بالرّجفة وفرقة هلكت بالظلّة ، وقال الطبري بلغني أنّ رجلاً منه يقال له عمرو بن جلّها لما رأى الظلة . قال الشاعر : يا قوم إن شعيباً مرسل فذروا

عنكم سميراً وعمران بن شدّاد إني أرى غيمة يا قوم قد طلعت تدعو بصوت على صمانة الواد وإنه لن تروا فيها صحاء غدإلا الرّقيم تمشي بين أنجاد

سمير وعمران كاهناهم والرّقيم كلبهم ، وعن أبي عبد اللّه البجلي : أبو جاد وهوّز وحطى وكلمن وسعفص وقرشت أسماء كملوك مدين وكان كلمن ملكهم يوم نزول العذاب بهم زمان شعيب عليه السلام فلما هلك قالت ابنته تبكيه : كلمن قد هدّ ركني

هلكه وسط المحله

سيّد القوم أتاه

حتف نار وسط ظله

جُعلت نار عليهم

دارهم كالمضمحله

٩٢

الذين كذبوا شعيبا . . . . .

{الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا } أي كأن لم يقيموا ناعمي البال رخيي العيش في دارهم وفيها قوة الإخبار عن هلاكهم وحلول المكروه بهم والتنبيه على الاعتبار بهم كقوله تعالى :{ فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالاْمْسِ } وكقول الشاعر : كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا

أنيس ولم يسمر بمكة سامر

و

قال ابن عطية : وغنيت بالمكان إنما يقال في الإقامة التي هي مقترنة بتنعم وعيش رخي هذا الذي استقريت من الأشعار التي ذكرت العرب فيها هذه اللفظة وأنشد على ذلك عدّة أبيان ثم قال

وأما قول الشاعر : غنينا زماناً بالتصعلك والغنى

فكلاًّ سقانا بكاسيهما الدهر

فمعناه استغنينا ورضينا مع أنّ هذه اللفظه ليست مقترنة بمكان انتهى ،

وقال ابن عباس : كأن لم يعمروا ، وقال قتادة : كأن لم ينعموا ، وقال الأخفش : كأن لم يعيشوا ، وقال أيضاً قتادة وابن زيد ومقاتل : كأن لم يكونوا ، وقال الزجاج : كأن لم ينزلوا ، وقال ابن قتيبة : كأن لم يقيموا و { الَّذِينَ } مبتدأ والجملة التشبيهية خبره ،

قال الزمخشري : وفي هذا الابتداء معنى الاختصاص كأنه قيل { الَّذِينَ كَذَبُواْ } شعيباً المخصوصون بأن أهلكوا واستؤصلوا كأن لم يقيموا في دارهم لأنّ الذين اتبعوا شعيباً قد أنجاهم اللّه تعالى انتهى ، وجوّز أبو البقاء أن يكون الخبر { الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا } كانوا هم الخاسرين و { كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ } حال من الضمير في { كَذَّبُواْ}

وجوّز أيضاً أن يكون الذين كذبوا صفة لقول الذين كفروا من قومه وأن يكون بدلاً منه وعلى هذين الوجهين يكون { كَانَ } حالاً انتهى ، وهذه أوجه متكلفة والظاهر أنها جمل مستقلة لا تعلق بما قبلها من جهة الإعراب .{ الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَانُواْ هُمُ الْخَاسِرِينَ } هذا أيضاً مبتدأ وخبره ،

وقال الزمخشري : وفيه معنى الاختصاص أي هم المخصوصون بالخسران العظيم دون اتباعه فإنهم هم الرابحون وفي هذا الاستئناف لهذا الابتداء وهذا التكرير مبالغة في ردّ مقالة الملأ لأشياعهم وتسفيه لرأيهم واستهزاء بنصحهم لقومهم واستعظام لما جرى عليهم انتهى ، وهاتان الجملتان منبئتان عن ما فعل اللّه بهم في مقالتهم قالوا { لَنُخْرِجَنَّكَ ياشُعَيْبُ شُعَيْبٌ } فجاء الإخبار بإخراجهم بالهلاك وأي إخراج أعظم من إخراجهم وقالوا :{ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ } فحكم تعالى عليهم هم بالخسران وأجاز أبو البقاء في إعراب { الَّذِينَ } هنا أن يكون بدلاً من الضمير في { يُغْنُواْ } أو منصوباً بإضمار أعني والابتداء الذي ذكرناه أقوى وأجزل .

٩٣

فتولى عنهم وقال . . . . .

{فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ قَوْمٌ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبّى وَنَصَحْتُ لَكُمْ } تقدّم تفسير نظيره في قصة صالح عليه السلام .{ فَكَيْفَ ءاسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ } أي فكيف أحزن على من لا يستحق أن يحزن عليه ونبّه على العلة التي لا تبعث على الحزن وهي الكفر إذ هو أعظم ما يعادى به المؤمن إذ هما نقضيان كما جاء لا تتراءى ناراً هما وكأنه وجد في نفسه رقّة عليهم حيث كان أمله فيهم أن يؤمنوا فلم يقدر فسرى ذلك عن نفسه باستحضار سبب التسلي عنهم والقسوة فذكر أشنع ما ارتكبوه معه من الوصف الذي هو الكفر باللّه الباعث على تكذيب الرّسل وعلى المناوأة الشديدة حتى لا يساكنواه وتوعدوه بالإخراج وبأشد منه وهو عودهم إلى ملتهم ، قال مكي : وسار شعيب بمن تبعه إلى مكة فسكنوها

وقرأ ابن وثاب وابن مصرّف والأعمش إيسي بكسر الهمزة وهي لغة تقدّم ذكرها في الفاتحة .

٩٤

وما أرسلنا في . . . . .

{وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ مّن نَّبِىٍّ إِلا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ } لما ذكر تعالى ما حلّ بالأمم السالفة من بأسه وسطوته عليهم آخر أمرهم حين لا تجدي فيهم الموعظة ذكر تعالى أن تلك عادته في أتباع الأنبياء إذا أصرّوا على تكذيبهم وجاء بعد إلا فعل ماض وهو { أَخَذْنَا } ولا يليها فعل ماض إلا أن تقدم فعل أو أصحب بقد فمثال ما تقدّمه فعل هذه الآية ومثال ما أصحب قد قولك ما زيد إلا قد قام والجملة من قوله { أَخَذْنَا } حاليّة أي إلا آخذين أهلها وهو استثناء مفرّغ من الأحوال وتقدّم تفسير نظير قوله { إِلا أَخَذْنَا } إلى آخره .

٩٥

ثم بدلنا مكان . . . . .

{ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيّئَةِ الْحَسَنَةَ } أي مكان الحال السيئة من البأساء والضراء الحال الحسنة من السّرّاء والنعمة ، قال ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة مكان الشدّة الرخاء ،

وقيل مكان الشرّ الخير ومكان و { الْحَسَنَةَ } مفعولاً بدل و { مَّكَانَ } هو محل الباء أي بمكان السيئة وفي لفظ { مَّكَانَ } إشعار بتمكن البأساء منهم كأنه صار للشدة عندهم مكان وأعرب بعضهم { مَّكَانَ } ظرفاً أي في مكان { حَتَّى عَفَواْ } أي كثروا وتناسلوا ، وقال مجاهد : كثرت أموالهم وأولادهم ، وقال ابن بحر حتى أعرضوا من عفا عن ذنبه أي أعرض عنه ، وقال الحسن : سمنوا ، وقال قتادة سرّوا بكثرتهم وذلك استدراج منه لهم لأنه أخذهم بالشدة ليتعظوا ويزدجروتا فلم يفعلوا ثم أخذهم بالرخاء ليشكروا .{ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ ءابَاءنَا الضَّرَّاء وَالسَّرَّاء } أبطرتهم النعمة وأشروا فقالوا هذه عادة الدّهر ضرّاء وسرّاء وقد أصاب آباءنا مثل ذلك لا بابتلاء وقصد بل ذلك بالاتفاق لا على ما تخبر الأنبياء جعلوا أسلافهم وما أصابهم مثلاً لهم ولما يصيبهم فلا ينبغي أن ننكر هذه العادة من أفعال الدهر .{ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } تقدّم الكلام على مثل هذه الآية لما أفسدوا على التقديرين

أخذوا هذا الأخذ .

٩٦

ولو أن أهل . . . . .

{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىءامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مّنَ السَّمَاء وَالاْرْضِ وَلَاكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } أي لو كانوا ممن سبق في علم اللّه أنهم يتلبسون بالإيمان بما جاءت به الأنبياء وبالطاعات التي هي ثمرة الإيمان ليتيسر لهم من بركات السماء ولكن كانوا ممن سبق في علمه أنهم يكذّبون الأنبياء فيؤخذون باجترامهم وكل من الإيمان والتكذيب والثواب والعقاب سبق به القدر وأضيف الإيمان والتكذيب إلى العبد كسباً والموجد لهما هو اللّه تعالى لا يسأل عما يفعل ،

وقال الزمخشري : اللام في القرى إشارة إلى { الْقُرَى } التي دلّ عليها قوله تعالى { وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ مّن نَّبِىٍّ } كأنه قال ولو أنّ أهل تلك القرى الذين كذبوا وأهلكوا آمنوا بدل كفرهم واتقوا المعاصي مكان ارتكابها { لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مّنَ السَّمَاء وَالاْرْضِ } لآتيناهم بالخير من كل وجه ،

وقيل : أراد المطر والنبات { وَلَاكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُمْ } بسوء كسبهم ويجوز أن تكون اللام في { الْقُرَى } للجنس انتهى ، وفي قوله واتقوا المعاصي نزغة الاعتزال رتب تعالى على الإيمان والتقوى فتح البركات ورتب على التكذيب وحده وهو المقابل للإيمان الهلاك ولم يذكر مقابل التقوى لأنّ التكذيب لم ينفع معه الخير بخلاف الإيمان فإنه ينفع وإن لم يكن معه فعل الطاعات والظاهر أن قوله { بَرَكَاتٍ مّنَ السَّمَاء وَالاْرْضِ } لا يرتاد بها معين ولذلك جاءت نكرة ،

وقيل : بركات السماء المطر وبركات الأرض الثمار ، وقال السدّي : المعنى لفتحنا عليهم أبواب السماء والأرض بالرزق ،

وقيل بركات السماء إجابة الدعاء ، وبركات الأرض تيسيرالحاجات ،

وقيل : بركات السماء المطر وبركات الأرض المواشي والأنعام وحصول السلامة والأمن ،

وقيل : البركات النمو والزيادات فمن السماء بجهة المطر والريح والشمس ومن الأرض بجهة النبات والحفظ لما نبت هذا الذي تدركه فطر البشر وللّه خدام غير ذلك لا يحصى عددهم وما علم اللّه أكثر وذلك أنّ السماء تجري مجرى الأب والأرض مجرى الأم ومنهما تحصل جميع الخيرات يخلق اللّه وتدبيره والأخذ أخذ إهلاك بالذنوب ،

وقرأ ابن عامر : وعيسى الثقفي وأبو عبد الرحمن { لَفَتَحْنَا } بتشديد التاء ومعنى الفتح هنا التيسير عليهم كما تيسر على الأبواب المستغلقة بفتحها ومنه فتحت على القارىء إذا يسرت عليه بتلقينك إياه ما تعذّر عليه حفظه من القرآن إذا أراد القراءة .

٩٧

أفأمن أهل القرى . . . . .

{أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ } الهمزة دخلت على أمن للاستفهام على جهة التوقيف والتوبيخ والإنكار والوعيد للكافرين المعاصرين للرسول صلى اللّه عليه وسلم أن ينزل بهم مثل ما نزل بأولئك والفاء لعطف هذه الجملة على ما قبلها ،

وقال الزمخشري: { فإن قلت } : ما المعطوف عليه ولم عطفت الأولى بالفاء والثانية بالواو ،  { قلت } : المعطوف عليه قوله { فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً } وقوله { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى إِلَى يَكْسِبُونَ } وقع اعتراضاً بين المعطوف والمعطوف عليه وإنما عطفت بالفاء لأنّ المعنى فعلوا وصنعوا فأخذناهم بغتة أبعد ذلك أمن { أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَاتاً } وأمنوا أن يأتيهم بأسنا ضحى انتهى . وهذا الذي ذكره الزمخشري من أن حرف العطف الذي بعد همزة الاستفهام وهو عاطف ما بعدها على ما قبل الهمزة من الجمل رجوع إلى مذهب الجماعة في ذلك وتخريج لهذه الآية على خلاف ما قرّر هو من مذهبه في غير آية أنه يقدر محذوف بين الهمزة وحرف العطف يصحّ بتقديره عطف ما بعد الحرف عليه وأنّ الهمزة وحرف العطف واقعان في موضعهما من غير اعتبار تقديم حرف العطف على

الهمزة في التقدير وأنه قدّم الاستفهام اعتناء لأنه له صدر الكلام وقد تقدّم كلامنا معه على هذه المسألة وبأسنا عذابنا وبياتاً ليلاً وتقدم تفسيره أول السورة ، ونصبه على الظرف أي وقت مبيتهم أو الحال وذلك وقت الغفلة والنوم فمجيء العذاب في ذلك الوقت وهو وقت الراحة والاجتماع في غاية الصعوبة إذ أتى وقت المأمن ،

٩٨

أو أمن أهل . . . . .

{أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ } أي في حال الغفلة والإعراض والاشتغال بما لا يجدي كأنهم يلعبون { وضحى } منصوب على الظرف أي صحوة ويقيد كل ظرف بما يناسبة من الحال فيقيد البيات بالنوم والضحى باللعب وجاء { وَهُمْ نَائِمُونَ } باسم الفاعل لأنها حالة ثبوت واستقرار للبائنين وجاء { يَلْعَبُونَ } بالمضارع لأنهم مشتغلون بأفعال متجدّدة شيئاً فشيئاً في ذلك الوقت ،

وقرأ نافع والابنان {أَوَ أَمِنَ } بسكون الواو جعل أو عاطفة ومعناها التنويع لا أنّ معناها الإباحة أو التخيير خلافاً لمن ذهب إلى ذلك وحذف ورش همزة أمن ونقل حركتها إلى الواو الساكنة والباقون بهمزة الاستفهام بعدها واو العطف وتكرر لفظ { أَهْلَ الْقُرَى } لما في ذلك من التسميع والإبلاغ والتهديد والوعيد بالسامع ما لا يكون في الضمير لو جاء أو أمنوا فإنه متى قصد التفخيم والتعظيم والتهويل جيء بالاسم الظاهر .

٩٩

أفأمنوا مكر اللّه . . . . .

{أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّه فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّه إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ } جاء العطف بالفاء وإسناد الفعل إلى الضمير لأن الجملة المعطوفة تكرير لقوله { أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى }{أَوَ أَمِنَ } وتأكيد لمضمون ذلك فناسب إعادة الجملة مصحوبة بالفاء ومكر مصدر أضيف إلى الفاعل وهو استعارة لأخذه العبد من حيث لا يشعر ،

قال ابن عطية :{ وَمَكَرَ اللّه } هي إضافة مخلوق إلى الخالق كما تقول ناقة اللّه وبيت اللّه والمراد فعل معاقب به مكر الكفرة وأضيف إلى اللّه لما كان عقوبة الذنب فإن العرب تسمى العقوبة على أي جهة كانت باسم الذنب الذي وقعت عليه العقوبة وهذا نص في قوله { وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّه } انتهى ، وقال عطية العوفي :{ مَكْرَ اللّه } عذابه وجزاؤه على مكرهم ،

وقيل مكره استدراجه بالنعمة والصحة وأخذه على غرّة وكرّر المكر مضافاً إلى اللّه تحقيقاً لوقوع جزاء المكر بهم .

١٠٠

أولم يهد للذين . . . . .

{أَوَ لَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم } قال ابن عباس ' ومجاهد ' و ' ابن زيد ' يهد يبين . وهذا كقوله {وأما ثمود فهدبناهم } أي : بينا لهم طريق الهدى والفاعل بيهد يحتمل أحدها ، أن يعود على اللّه ويؤيده قراءة نحو من قرأ نهد بالنون . والثاني أن يكون ضميرا عائدا على ما يفهم من سياق الكلام السابق : أيأو لم يهد ما جرى للأمم السالفة أهل القرى وغيرهم ' وعلى هذين الوجهين : يكون أن لو نشاء وما بعده في موضع المفعول بيهد أي لم يبين اللّه ، أو ما سبق من قصص القرى وما آل أمرهم للوارثين إصابتنا إياهم بذنوبهم لو شئنا ذلك . أي : علمهم بإصابتنا أو قدرتنا على إصابتنا إياهم ، والمعنى

{أَصَبْنَاهُمْ } ولم يأتِ باللام وإن كان الفعل مثتباً إذ حذفها جائز فيصحّ كقوله { لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً } والأكثر الإتيان باللام كقوله { لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً }{ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا } والذين يرثون الأرض أي يحلفون فيها من بعد هلاك أهلها وظاهره التسميع لمن كان في عصر الرسول صلى اللّه عليه وسلم من مشركي قريش وغيرهم ،

وقال ابن عباس يريد أهل مكة ، { وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ } الظاهر أنها جملة مستأنفة أي ونحن { نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ } والمعنى أنّ من أوضح اللّه له سبل الهدى وذكر له أمثالاً ممن أهلكه اللّه تعالى بذنوبهم وهو مع ذلك دائم على غيّه لا يرعوي يطبع اللّه على قلبه فينبو سمعه عن سماع الحق ، وقال ابن الأنباري يجوز أن يكون معطوفاً على أصبنا إذا كان بمعنى نصيب فوضع الماضي موضع المستقبل عند وضوح معنى الاستعمال كما قال تعالى { تَبَارَكَ الَّذِى إِن شَاء جَعَلَ لَكَ خَيْراً مّن ذالِكَ } أي إن يشأ يدل عليه قوله { وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً } انتهى فجعل { لَوْ } شرطية بمعنى أن ولم يجعلها التي هي لما كان سيقع لوقوع غيره ولذلك جعل أصبنا بمعنى نصيب ومثال وقوع لو موقع أن قول الشاعر : لا يلفك الراجيك إلاّ مظهرا

خلق الكرام ولو تكون عديما

وهذا الذي قاله ابن الأنباري ردّه الزمخشري من جهة المعنى لكن بتقدير أن يكون { وَنَطْبَعُ } بمعنى طبعنا فيكون قد عطف المضارع على الماضي الذي هو جواب { لَّوْ نَشَاء } فجعله بمعنى نصيب فتأوّل المعطوف عليه وهو الجواب وردّه إلى المستقبل والزمخشري تأوّل المعطوف وردّه إلى المضي وأنتج ردّ الزمخشري أنّ كلا التقديرين لا يصحّ ،

قال الزمخشري: { فإن قلت } : هل يجوز أن يكون { وَنَطْبَعُ } بمعنى طبعنا كما كان لو نشاء بمعنى لو شئنا ويعطف على { أَصَبْنَاهُمْ } ،{ قلت } : لا يساعد هذا المعنى لأنّ القوم كان مطبوعاً على قلوبهم موصوفين بصفة من قبلهم من اقتراف الذنوب والإصابة بها وهذا التفسير يؤدي إلى خلوهم عن هذه الصفة وأن اللّه تعالى لو شاء لاتصفوا بها انتهى هذا الردّ ظاهره الصحة وملخصة أنّ المعطوف على الجواب جواب سواء تأوّلنا المعطوف عليه أم المعطوف وجواب لو لم يقع بعد سواء كانت حرفاً لما كان سيقع لوقوع غيره أم بمعنى إن الشرطية والإصابة لم تقع والطبع على القلوب واقع فلا تصحّ أن يعطف على الجواب فإن تأوّل { وَنَطْبَعُ } على معنى ونستمر على الطبع على قلوبهم أمكن التعاطف لأنّ الاتسقرار لم يقع بعد وإن كان الطبع قد وقع ، وقال أبو عبد اللّه الرازي : تقرير صاحب الكشاف على أقوى الوجوه هو ضعيف لأنّ كونه مطبوعاً عليه في الكفر لم يكن منافياً لصحة العطف وكان قد قرّر أن المعنى أو لم يبين للذين نبقيهم في الأرض بعد إهلاكنا من كان قبلهم فيها أن تهلكهم بعدهم وهو معنى قوله { أَن لَّوْ نَشَاء } أصبناهم أي بعقاب ذنوبهم { وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ } أي لم نهلكهم بالعذاب { نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ } أي لا يقبلون ولا يتّعظون ولا ينزجرون وإنما قلنا إن المراد إما الإهلاك

وإما الطّبع على القلب لأن

الإهلاك لا يجتمع مع الطبع على القلب فإنه إذا أهلكه يستحيل أن يطبع على قلبه انتهى ، والعطف في { وَنَطْبَعُ } بالواو بمنع ما ذكره لأن جعل المعنى على أنه إما الإهلاك

وإما الطبع وظاهر العطف بالواو وينبو عن الدلالة على هذا المعنى فإن جعلت الواو بمعنى أو أمكن ذلك وكذلك ينبو عن قوله إن لم نهلكهم بالعذاب ونطبع على قلوبهم العطف بالواو وأورد أبو عبد اللّه الرازي من أقوال المفسّرين ما يدلّ على أنّ كونه مطبوعاً عليه في الكفر لا ينافي صحة العطف فقال أبو علي ويعني به واللّه أعلم الجبائي الطّبع سمة في القلب من نكتة سوداء إن صاحبها لا يفلح وقال الأصم : أي يلزمهم ما هم عليه فلا يتوبون إلا عند المعاينة فلا تقبل توبتهم ، وقال أبو مسلم : الطبع الخذلان إنه يخذل الكافر فيرى الآية فلا يؤمن بها ويختار ما اعتاد وألف وهذه الأقوال لا يمكن معها العطف إلا على تأويل أن تكون الواو بمعنى أو وأجاز الزمخشري في عطف { وَنَطْبَعُ } وجهين آخرين أحدهما ضعيف والآخر خطأ ،

قال الزمخشري: { فإن قلت } : بم يتعلق قوله تعالى { وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ } ،{ قلت } : فيه أوجه أو يكون معطوفاً على ما دلّ عليه معنى أو { لَّمْ يَهْدِنِى لَهُمْ } كأنه قيل يغفلون عن الهداية { وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ } أو على { يَرِثُونَ الارْضَ } انتهى فقوله أنه معطوف على مقدر وهو يغفلون عن الهداية ضعيف لأنه إضمار لا يحتاج إليه إذ قد صحّ أن يكون على الاستئناف من باب العطف في الجمل فهو معطوف على مجموع الجملة المصدرة بأداة الاستفهام وقد قاله الزمخشري وغيره ، وقوله أنه معطوف علي { يَرِثُونَ } خطأ لأنه إذا كان معطوفاً على يرثون كان صلة للذين لأنّ المعطوف على الصلة صلة ويكون قد فصل بين أبعاض الصلة بأجنبي من الصلة وهو قوله { أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَاهُمْ } بذنوبهم سواء قدرنا { أَن لَّوْ نَشَاء } في موضع الفاعل ليهدأوا في موضع المفعول فهو معمول ليهد لا تعلق له بشيء من صلة { الَّذِينَ } وهو لا يجوز ومعنى قوله { أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ } بعقاب ذنوبهم أو يضمن { أَصَبْنَاهُمْ } معنى أهلكناهم فهو من مجاز الإضمار أو التضمين ونفي السماع والمعنى نفي القبول والاتعاظ المترتب على وجود السماع جعل انتفاء فائدته انتفاء له .

١٠١

تلك القرى نقص . . . . .

{تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَائِهَا } الخطاب للرسول صلى اللّه عليه وسلم { والقرى } هي بلاد قوم نوح وهود وصالح وشعيب بلا خلاف بين المفسرين وجاءت الإشارة بتلك إشارة إلى بعد هلاكها وتقادمه وحصل الرّبط بين هذه وبين قوله و { لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى }{ وَنَقْصٍ } يحتمل إبقاؤه على حاله من الاستقبال والمعنى قد قصصنا عليك { مِنْ أَنبَائِهَا } ونحن نقصّ عليك أيضاً منها مفرقاً في السّور ويجوز أن يكون عبر بالمضارع عن الماضي أي { تِلْكَ الْقُرَى } قصصنا والأنباء هنا إخبارهم مع أنبيائهم ومآل عصيانهم ، و { تِلْكَ } مبتدأ { والقرى } خبر { وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ } جملة حالية نحو قوله فتلك بيوتهم خاوية وفي الإخبار بالقرى معنى التعظيم لمهلكها ، كما قيل في قوله تعالى { ذالِكَ الْكِتَابُ } وفي قوله عليه السلام أولئك الملأ من قريش وكقول أمية ، تلك المكارم لا قعبان من لبن ، ولما كان الخبر مقيّداً بالحال أفاد كالتقييد بالصفة في قولك هو الرجل الكريم وأجازوا أن يكون { نَقُصُّ } خبراً بعد خبر وأن يكون خبراً{ والقرى } صفة ومعنى { صَلَحَ مِنْ } التبعيض فدلّ على أنّ لها أنباء أخر لم تقصّ عليه وإنما قصّ ما فيه عظة وازدجار وادكار بما جرى على من خالف الرّسل ليتّعظ بذلك السامع من هذه الأمة .

{وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ } قال أبي بن كعب ليؤمنوا اليوم بما كذبوا من قبل يوم الميثاق ،

وقال ابن عباس ما كانوا ليخالفوا علم اللّه فيهم ، وقال يمان بن رئاب بما كذبوا أسلافهم من الأمم الخالية لقوله { مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُواْ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ } فالفعل في { لِيُؤْمِنُواْ } لقوم وفي { بِمَا كَذَّبُواْ } لقوم آخرين .

وقيل { جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم } بالمعجزات التي اقترحوها { فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ } بعد المعجزات { بِمَا كَذَّبُواْ } به قبلها كما قال قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين ، وقال الكرماني :{ مِن قَبْلُ } يعود على الرسل تقديره من قبل مجيء الرسل لم يسلب عنهم اسم الكفر والتكذيب بل بقوا كافرين مكذبين كما كانوا قبل الرسل ،

قال الزمخشري : فما كانوا ليؤمنوا عند مجيء الرسل بالبينات بما كذبوه من آيات اللّه قبل مجيء الرسل أو مما كانوا ليؤمنوا إلى آخر أعمارهم بما كذبوا به أولاً حتى جاءتهم الرسل أي استمروا على التكذيب من لدن مجيء الرسل إليهم إلى أن باتوا مصرّين لا يرعوون ولا تلين شكيمتهم في كفرهم وعنادهم مع تكرار المواعظ عليهم وتتابع الآيات و

قال ابن عطية : يحتمل أربعة وجوه من التأويل ، أحدها أن يريد أن الرسول جاء لكل فريق منهم فكذّبوه لأول أمره ثم استبانت حجته وظهرت الآيات الدالة على صدقه مع استمرار دعوته فلجّوا هم في كفرهم ولم يؤمنوا بما سبق به تكذيبهم من قبل وكأنه وصفهم على هذا التأويل باللجاج في الكفر والصّرامة عليه ويؤيد هذا التأويل قوله كذلك يطبع اللّه على قلوب الكافرين ويحتمل في هذا الوجه أن يكون المعنى فما كانوا ليوفقهم اللّه إلى الإيمان بسبب أنهم كذبوا من قبل فكان تكذيبهم سبباً لأن يمنعوا الإيمان بعد ، والثاني من الوجوه أن يريد فما كان آخرهم في الزمن والعصر ليهتدي ويؤمن بما كذب به أولهم في الزمن والعصر بل كفر كلهم ومشى بعضهم على سنن بعض في الكفر أشار إلى هذا القول النقاش ، فكان الضمير في قوله { كَانُواْ } يختص بالآخرين والضمير في قوله { كَذَّبُواْ } يختص بالقدماء منهم ، والثالث من الوجوه يحتمل أن يريد فما كان هؤلاء المذكورون بأجمعهم لو ردّوا إلى الدنيا ومكنوا من العودة ليؤمنوا بما قد كذبوا به في حال حياتهم ودعا الرسول لهم قاله مجاهد وقرّبه بقوله تعالى { وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ } وهذه أيضاً صفة بليغة في اللحاج والثبوت على الكفر بل هي غاية في ذلك ، والرابع من الوجوه أنه يحتمل أن يريد وصفهم بأنهم لم يكونوا ليؤمنوا بما قد سبق في علم اللّه تعالى بأنهم مكذبون به فحمل سابق القدر عليهم بمثابة تكذيبهم بأنفسهم لا سيما وقد خرج تكذيبهم إلى الوجود في وقت مجيء الرّسل وذكر هذا القول المفسرون وقربوه بأن اللّه تعالى حتم عليهم التكذيب وقت أخذ الميثاق وهو قول أبي بن كعب انتهى كلام ابن عطية : والذي يظهر أنّ الضمير في كانوا وفي ليؤمنوا عائد على أهل القرى وأن الباء في بما ليست سببية فالمعنى أنهم انتفت عنهم قابلية الإيمان وقت مجيء الرسل بالمعجزات بما كذبوا به قبل مجيء الرسل بالمعجزات بل حالهم واحد قبل ظهور المعجزات وبعد ظهورها لم تجد عنهم شيئاً وفي الإتيان بلام الجحود في ليؤمنوا مبالغة في نفي القابلية والوقوع وهو أبلغ من تسلّط النفي على الفعل بغير لام وما في بما كذبوا موصولة والعائد منصوب محذوف أي بما كذبوه وجوّز أن تكون مصدرية ، قال الكرماني : وجاء هنا بما كذبوا فحذف متعلق التكذيب لما حذف المتعلق في ولو أنّ أهل القرى آمنوا وقوله ولكن كذبوا وفي يونس أبرزه فقال بما كذبوا به من قبل لما كان قد أبرز في فكذبوه فنجيناه ثم كذّبوا بآياتنا فوافق الختم في كل منهما بما يناسب ما قبله انتهى ، ملخصاً .

{كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللّه عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ } أي مثل ذلك الطبع على قلوب أهل القرى حين انتفت عنهم قابلية الإيمان وتساوي أمرهم في الكفر قبل المعجزات وبعدها يطبع اللّه على قلوب الكافرين ممن أتى بعدهم ، قال الكرماني تقدم ذكر اللّه بالصريح وبالكناية فجمع بينهما فقال { وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ } وختم بالصريح فقال { كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللّه } ، وفي يونس بني على ما قبله بنون العظمة في قوله { فَنَجَّيْنَاهُ وَجَعَلْنَاهُمْ ثُمَّ بَعَثْنَا } فناسب لطبع

بالنون .

١٠٢

وما وجدنا لأكثرهم . . . . .

{وَمَا وَجَدْنَا لاِكْثَرِهِم مّنْ عَهْدٍ } أي لأكثر الناس أو أهل القرى أو الأمم الماضية احتمالات ثلاثة قاله التبريزي والعهد هنا هو الذي عوهدوا عليه في صلب آدم قاله أبيّ وابن عباس أو الإيمان قاله ابن مسعود ويدلّ عليه الأمن اتخذ عند اللّه عهداً وهو لا إله إلا اللّه فالمعنى من إيفاء أو التزام عهد ،

وقيل العهد هو وضع الأدلة على صحة التوحيد والنبوة إذ ذلك عهد في رقاب العقلاء كالعقود فعبر عن صرف عقولهم إلى النظر في ذلك بانتفاء وجدان العهد و { مِنْ } في { مَّنْ عَاهَدَ } زائدة تدلّ على الاستغراق لجنس العهد .{ وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ } إنْ هنا هي المخففة من الثقيلة ووجد بمعنى علم ومفعول { وَجَدْنَا } الأولى { لاِكْثَرِهِم } ومفعول الثانية { لَفَاسِقِينَ } واللام للفرق بين إن المخففة من الثقيلة وإن النافية وتقدّم الكلام على ذلك في قوله { وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً } ودعوى بعض الكوفيين أنّ إن في نحو هذا التركيب هي النافية واللام بمعنى إلا ،

وقال الزمخشري : وإنّ الشأن والحديث وجدنا انتهى ، ولا يحتاج إلى هذا التقدير وكان الزمخشري يزعم أنّ إن إذا خففت كان محذوفاً منها الاسم وهو الشأن والحديث إبقاءً لها على الاختصاص بالدخول على الأسماء وقد تقدّ لنا تقدير نظير ذلك ورددنا عليه .

١٠٣

ثم بعثنا من . . . . .

{ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى بِئَايَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلإِيِهِ فَظَلَمُواْ بِهَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ } لما قصّ اللّه تعالى على نبيه أخبار نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وما آل إليه أمر قومهم وكان هؤلاء لم يبقَ منهم أحد أتبع بقصص موسى وفرعون وبني إسرائيل إذ كانت معجزاته من أعظم المعجزات وأمته من أكثر الأمم تكذيباً وتعنتاً واقتراحاً وجهلاً وكان قد بقي من اتباعه عالم وهم اليهود فقصّ اللّه علينا قصصهم لنعتبر ونتعظ وننزجر عن أن نتشبه بهم ، ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنّ بين موسى وشعيب عليهما السلام مصاهرة كما حكى اللّه في كتابه ونسب لكونهما من نسل إبراهيم ولما استفتح قصة نوح { بأرسلنا } بنون العظمة اتبع ذلك قصة موسى فقال :{ الْمُنْذَرِينَ ثُمَّ بَعَثْنَا } والضمير في { مّن بَعْدِهِمْ } عائد على الرسل من قوله و { لَقَدِ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيّنَاتِ } أو للأمم السابقة والآيات الحجج التي آتاه اللّه على قومه أو الآيات التسع أو التوراة أقوال وتعدية فظلموا بالباء إما على سبيل التضمين بمعنى كفروا بها ألا ترى إلى قوله { إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ }

وإما أن تكون الباء سببية أي ظلموا أنفسهم بسببها أو الناس حيث صدوهم عن الإيمان أو الرسول فقالوا سحر وتمويه أقوال ، وقال الأصم : ظلموا تلك النعم التي آتاهم اللّه بأن استعانوا بها على معصية اللّه تعالى فانظرو أيها السامع ما آل إليه أمر المفسدين الظالمين جعلهم مثالاً توعد به كفرة عصر الرسول عليه السلام .

١٠٤

انظر تسفير الآية:١٠٥

١٠٥

وقال موسى يا . . . . .

{وَقَالَ مُوسَى يافِرْعَوْنُ فِرْعَونُ إِنّى رَسُولٌ مِن رَّبّ الْعَالَمِينَ حَقِيقٌ عَلَى أَن لا أَقُولَ عَلَى اللّه إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بَيّنَةٌ مّن رَّبّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِىَ بَنِى إِسْراءيلَ } هذه محاورة من موسى عليه السلام لفرعون وخطاب له بأحسن ما يدعى به وأحبّها إليه إذ كان من ملك مصر يقال له فرعون كنمرود في يونان ، وقيصر في الروم ، وكسرى في فارس ، والنجاشي في الحبشة وعلى هذا لا يكون فرعون وأمثاله علماً شخصيّاً بل يكون علم جنس كأسامة وثعالة ولما كان فرعون قد ادعى الرّبوبية فاتحه موسى بقوله :{ إِنّى رَسُولٌ مّن رَّبّ الْعَالَمِينَ } لينبهه على الوصف الذي ادعاه وأنه فيه مبطل لا محق ولما كان قوله { حَقِيقٌ عَلَى أَن لا أَقُولَ عَلَى اللّه إِلاَّ الْحَقَّ } أردفها بما يدلّ على صحتها وهو قوله { قَدْ جِئْتُكُم } ولما قرر رسالته فرع عليها تبليغ الحكم وهو قوله { فَأَرْسِلْ } ولم ينازعه فرعون في هذه السورة في شيء مما ذكره موسى إلا أنه طلب المعجزة ودلّ

ذلك على موافقته لموسى وأنّ الرسالة ممكنة لإمكان المعجزة إذ لم يدفع إمكانها بل قال : { قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ } ويأتي الكلام على هذا الطلب من فرعون للمعجزة ،

وقرأ نافع { عَلَىَّ أَنْ لا أَقُولَ } بتشديد الياء جعل { عَلَى } داخلة على ياء المتكلم ومعنى { حَقِيقٌ } جدير وخليق وارتفاعه على أنه صفة لرسول أو خبر بعد خبر و { أَن لا أَقُولَ } الأحسن فيه إن يكون فاعلاً بحقيق كأنه قيل يحقّ على كذا ويجب ويجوز أن يكون { أَن لا أَقُولَ } مبتدأ و { حَقِيقٌ } خبره ، وقال قوم : ثمّ الكلام عند قوله { حَقِيقٌ } و { عَلَى أَن لا أَقُولَ } مبتدأ وخبره ،

وقرأ باقي السبعة على بجرها { أَن لا أَقُولَ } أي { حَقِيقٌ } على قول الحق ، فقال قوم : ضمن { حَقِيقٌ } معنى حريص ، وقال أبو الحسن والفرّاء والفارسي : على بمعنى الباء كما أنّ الباء بمعنى على في قوله و { لا تَقْعُدُواْ بِكُلّ صِراطٍ } أي على كل صراط فكأنه قيل :{ حَقِيقٌ } بأن لا أقول كما تقول فلان حقيق بهذا الأمر وخليق به ويشهد لهذا التوجيه قراة أبيّ بأن لا أقول وضع مكان على الباء ، قال الأخفش : وليس ذلك بالمطرد لو قلت ذهبت على زيد تريد بزيد لم يجز ،

وقال الزمخشري : وفي المشهورة إشكال ولا يخلو من وجوه ،

أحدها : أن يكون مما يقلب من الكلام لا من الإلباس كقوله :

وتشقى الرماح بالضياطرة الحمر

ومعناه وتشقى الضياطرة بالرماح انتهى ، هذا الوجه وأصحابنا يخصُّون القلب بالشعر ولا يجيزونه في فصيح الكلام فينبغي أن ينزه القراءة عنه ، وعلى هذا يصير معنى هذه القراءة معنى قراءة نافع ،

قال الزمخشري : والثاني أن ما لزمك لزمته فلما كان قول الحق حقيقاً عليه كان هو حقيقاً على قول الحقّ أي لازماً له ،

قال الزمخشري : والثالث أن يضمن { حَقِيقٌ } معنى حريص تضمين هيجني معنى ذكرني في بيت الكتاب انتهى يعني بالكتاب كتاب سيبويه والبيت : إذا تغنى الحمام الورق هيجني

ولو تسليت عنها أم عمار

قال الزمخشري : والرابع وهو الأوجه وإلا دخل في نكت القرآن أن يغرق موسى عليه السلام في وصف نفسه بالصدق في ذلك المقام لا سيما وقد روى أنّ عدوّ اللّه فرعون قال لما قال { إِنّى رَسُولٌ مّن رَّبّ الْعَالَمِينَ } كذبت فيقول أنا حقيق على قول الحقّ أي واجب على قول الحق أنْ أكون أنا قائلة والقائم به ولا يرضى إلا بمثلي ناطقاً به انتهى ولا يتّضح هذا الوجه إلا إن عنى أنه يكون { عَلَى أَن لا أَقُولَ } صفة كما تقول أنا على قول الحقّ أي طريقي وعادتي قول الحق ، وقال ابن مقسم { حَقِيقٌ } من نعت الرسول أي رسول حقيق من ربّ العالمين أرسلت على أن لا أقول على اللّه إلا الحق وهذا معنى صحيح واضح وقد غفل أكثر المفسرين من أرباب اللغة عن تعليق { عَلَى}

برسول ولم يخطر لهم تعليقه إلا بقوله { حَقِيقٌ } انتهى . وكلامه فيه تناقض في الظاهر لأنه قدّر أولاً العامل في { عَلَى }{ أَرْسَلْتَ } ، وقال آخر : إنهم غفلوا عن تعليق { عَلَى } برسول فأما هذا الآخر فلا يجوز على مذهب البصريين لأنّ رسولاً قد وصف قبل أن يأخذ معموله وذلك لا يجوز

وأما التقدير الأوّل وهو إضمار أرسلت ويفسره لفظ رسول فهو تقدير سائغ وتناول كلام ابن مقسم أخيراً في قوله عن تعليق على برسول أي بما دلّ عليه رسول ،

وقرأ عبد اللّه والأعمش حقيق أن لا أقول بإسقاط على فاحتمل أن يكون على إضمار على كقراءة من قرأ بها واحتمل أن يكون على إضمار الباء كقراءة أبيّ وعلى الاحتمالين يكون التعلّق بحقيق .

ولما ذكر أنه رسول من عند اللّه وأنه لا يقول على اللّه إلا الحق أخذ يذكر المعجزة والخارق الذي يدلّ على صدق رسالته والخطاب في { جِئْتُكُم } لفرعون وملائه الحاضرين معه ومعنى { بَيّنَةً } بآية بينة واضحة الدلالة على ما أذكره والبينة قيل : التسع الآيات المذكورة في قوله { وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء } ، قال بعض العلماء وسياق الآية يقتضي أن البينة هي العصا واليد البيضاء بدليل ما بعده من قوله { فَأَلْقَى عَصَاهُ } ،

وقال ابن عباس والأكثرون هي العصا وفي قوله { مّن رَّبّكُمْ } تعريض أن فرعون ليس ربّاً لهم بل ربهم هو الذي جاء موسى بالبينة من عنده { فَأَرْسِلْ } أي فخل والإرسال ضد الإمساك { مَعِىَ بَنِى إِسْراءيلَ } أي حتى يذهبوا إلى أوطانهم ومولد آبائهم الأرض المقدسة وذلك أن يوسف عليه السلام لما توفي وانقرض الأسباط غلب فرعون على نسلهم واستعبدهم في الأعمال الشاقة وكانوا يؤدّون إليه الجزاء فاستنقذهم اللّه بموسى عليه السلام وكان بين اليوم الذي دخل فيه يوسف مصر واليوم الذي دخل فيه موسى أربعمائة عام والظاهر أن موسى لم يطلب من فرعون في هذه الآية إلا إرسال بني إسرائيل معه وفي غير هذه الآية دعاؤه إياه إلى الإقرار بربوبية اللّه تعالى وتوحيده قال تعالى { فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبّكَ فَتَخْشَى } وكل نبي داع إلى توحيد اللّه تعالى ، وقال تعالى حكاية عن فرعون { أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ } فهذا ونظائره دليل على أنه طلب منه الإيمان خلافاً لمن قال إنّ موسى لم يدعه إلى الإيمان ولا إلى التزام شرعه وليس بنو إسرائيل من قوم فرعون والقبط ألا ترى أن بقية القبط وهم الأكثر لم يرجع إليهم موسى .

١٠٦

قال إن كنت . . . . .

{قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِئَايَةٍ فَأْتِ بِهَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } لما عرض موسى عليه السلام رسالته على فرعون وذكر الدليل على صدقه وهو مجيئه بالبينة والخارق المعجز استدعى فرعون منه خرق العادة الدالّ على الصدق وهذا الاستدعاء يحتمل أن يكون على سبيل الاختبار وتحويزه ذلك ويحتمل أن يكون على سبيل التعجيز لما تقرّر في ذهن فرعون أن موسى لا يقدر على الإتيان ببينة والمعنى إن كنت جئت بآية من ربك فاحضرها عندي لتصحّ دعواك ويثبت صدقك .

١٠٧

فألقى عصاه فإذا . . . . .

{فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ } بدأ بالعصا دون سائر المعجزات لأنها معجزة تحتوي على معجزات كثيرة قالوا منها أنه ضرب بها باب فرعون ففزع من قرعها فشاب رأسه فخضب بالسواد فهو أول من خضب بالسواد وانقلابها ثعباناً وانقلاب خشبة لحماً ودماً قائماً به الحياة من أعظم الإعجاز ويحصل من انقلابها ثعباناً من التهويل ما لا يحصل في غيره وضربه بها الحجر فينفجر عيوناً وضربه بها فتنبت قاله ابن عباس ومحاربته بها اللصوص والسباع القاصدة غنمه واشتعالها في الليل كاشتعال الشمعة وصيرورتها كالرشا لينزح بها الماء من البئر العميقة وتلقفها الحبال والعصيّ التي للسحرة وإبطالها لما صنعوه من كيدهم وسحرهم والإلقاء حقيقة هو في الاجرام ومجاز في المعاني نحو ألقى المسألة .

قال ابن عباس والسدّي : صارت العصا حية عظيمة شعراء فاغرة فاها ما بين لحييها ثمانون ذراعاً ،

وقيل : أربعون ذكره مكي عن فرقد

واضعة أحد لحييها بالأرض والآخر على سور القصر وذكروا من اضطراب فرعون وفزعه وهربه ووعده موسى بالإيمان إن عادت إلى حالها وكثرة من مات من قوم فرعون فزعاً أشياء لم تتعرّض إليها الآية ولا تثبت في حديث صحيح فاللّه أعلم بها ومعنى { مُّبِينٌ } ظاهر لا تخييل فيه بل هو ثعبان حقيقة ، قال ابن عطية { وَإِذَا } ظرف مكان في هذا الموضع عند المبرّد من حيث كانت خبراً عن جثة والصحيح الذي عليه شيوخنا أنها ظرف مكان كما قاله المبرد وهو المنسوب إلى سيبويه وقوله من حيث كانت خبراً عن جثة ليست في هذا المكان خبراً عن جثة بل خبر هي قوله { ثُعْبَانٌ } ولو قلت { فَإِذَا هِىَ } لم يكن كلاماً وينبغي أن يحمل كلامه من حيث كانت خبراً عن جثة على مثل خرجت فإذا السبع على تأويل من جعلها ظرف مكان وما ذكره من أن الصحيح الذي عليه الناس أنها ظرف زمان هو مذهب الرّياشي ونسب أيضاً إلى سيبويه ومذهب الكوفيين أن إذا الفجائية حرف لا اسم .

١٠٨

ونزع يده فإذا . . . . .

{وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِىَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ } أي جذب { يَدَهُ } قيل من جيبه وهو الظاهر لقوله { وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ } ،

وقيل من كمّه و { لِلنَّاظِرِينَ } أي للنظار وفي ذكر ذلك تنبيه على عظم بياضها لأنه لا يعرض لها للنظار إلا إذا كان بياضها عجيباً خارجاً عن العادة يجتمع الناس إليه كما يجتمع النظّار للعجائب ، قال مجاهد :{ بَيْضَاء } كاللبن أو أشدّ بياضاً ، وروي أنها كانت تظهر منيرة شفافة كالشمس ثم يردّها فترجع إلى لون موسى وكان آدم عليه السلام شديد الأدمة ،

وقال ابن عباس صارت نوراً ساطعاً يضيء له ما بين السماء والأرض له لمعان مثل لمعان البرق فخرّوا على وجوههم ، وقال الكلبي : بلغنا أن موسى عليه السلام قال يا فرعون ما هذه بيدي قال : هي عصا فألقاها موسى فإذا هي ثعبان ، وروي أن فرعون رأى يد موسى فقال لفرعون ما هذه فقال : يدك ثم أدخلها جيبه وعليه مدرعة صوف ونزعها فإذا هي بيضاء بياضاً نورانياً غلب شعاعها شعاع الشمس وما أعجب أمر هذين الخارقين أحدهما في نفسه وذلك اليد البيضاء ، والأخر في غير نفسه وهي العصا وجمع بذينك تبدّل الذرات وتبدل الاعراض فكانا دالين على جواز الأمرين وإنهما كلاهما ممكن الوقوع ، قال أبو محمد بن عطية : هاتان الآيتان عرضهما موسى عليه السلام للمعارضة ودعا إلى اللّه بهما وخرق العادة بهما وتحدّى الناس إلى الدين بهما فإذا جعلنا التحدّي الدّعاء إلى الدين مطلقاً فبهما تحدى وإذا جعلنا التحدّي الدعاء بعد العجز عن معارضة المعجزة وظهور ذلك فتنفرد حينئذ العصا بذلك لأنّ المعارضة والمعجز فيها وقعا

ويقال : التحدّي هو الدعاء ألى الإتيان بمثل المعجزة فهذه نحو ثالث وعليه يكون تحدّي موسى بالآيتين جميعاً لأنّ الظاهر من أمره أنه عرضهما معاً وإن كان لم ينص على الدعاء إلى الإتيان بمثلهما انتهى ، وهو كلام فيه تثبيج .

١٠٩

قال الملأ من . . . . .

{قَالَ الْمَلاَ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَاذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} وفي الشعراء { قَالَ لِلْمَلإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَاذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ } والجمع بينهما أن فرعون وهم قالوا هذا الكلام فحكى هنا قولهم وهناك قوله أو قاله ابتداء فتلقفه منه الملأ فقالوه لأعقابهم أو قالوه عنه للناس على طريق التبليغ كما تفعل الملوك يرى الواحد منهم الرأي فيكلم به من يليه من الخاصّة ثم تبلغه الخاصة العامة والدليل عليه أ نهم أجابوه في قوله { أَرْجِهْ } وكان السحر إذ ذاك في أعلى المراتب فلما رأوا انقلاب العصا ثعباناً والأدماء بيضاء وأنكروا النبوة ودافعوه عنها قصدوا ذمه بوصفه بالسحر وحطّ قدره إذ لم يمكنهم في ظهور ما ظهر على يده نسبة شيء إليه غير السحر وبالغوا في وصفه بأن قالوا :{ عَلِيمٌ } أي بالغ الغاية في علم السّحر وخدعه وخيالاته وفنونه وأكثر استعمال لفظ هذا إذا كان من كلام الكفار في التنقص والاستغراب كما قال { أَهَاذَا الَّذِى يَذْكُرُ الِهَتَكُمْ } ،{ أَهَاذَا الَّذِى بَعَثَ اللّه رَسُولاً } ، إنْ هذا إلا أساطير الأولين { مَا هَاذَا إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ }{ إِنْ هَاذانِ لَسَاحِرانِ }{ إِن كَانَ هَاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ } يعدلون عن لفظ اسم ذلك الشيء إلى لفظ الإشارة وأكدّوا نسبة السحر إليه بدخول إن واللام .

١١٠

يريد أن يخرجكم . . . . .

{يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ } استشعرت نفوسهم ما صار إليه أمرهم

من إخراجهم من أرضهم وخلوّ مواطنهم منهم وخراب بيوتهم فبادروا إلى الإخبار بذلك وكان الأمر كما استشعروا إذ غرّق اللّه فرعون وآله وأخلى منازلهم منهم ونبّهوا على هذا الوصف الصعب الذي هو معادل لفتل الأنفس كما قال { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُمْ مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مّنْهُمْ } وأراد به إحراجهم إما بكونه يحكم فيكم بإرسال خدمكم وعمار أرضكم معه حيث يسير فيفضي ذلك إلى خراب دياركم

وأما بكونهم خافوا منه أن يقاتلهم بمن يجتمع إليه من بني إسرائيل ويغلب على ملكهم قال النقاش كانوا يأخذون من بني إسرائيل خرجاً كالجزية فرأوا أنّ ملكهم يذهب بزوال ذلك وجاء في سورة الشعراء { بِسِحْرِهِ } وهنا حذفت لأنّ الآية الأولى هنا بنيت على الاختصار فناسبت الحذف ولأن لفظ ساحر يدل على السحر و { فَمَاذَا تَأْمُرُونَ } من قول فرعون أو من قول الملأ إمّا لفرعون وأصحابه

وإما له وحده كما يخاطب أفراد العظماء بلفظ الجمع وهو من الأمر ،

وقال ابن عباس : معناه تشيرون به ،

قال الزمخشري : من أمرته فأمرني بكذا أي شاورته فأشار عليك برأي ،

وقرأ الجمهور { تَأْمُرُونَ } بفتح النون هنا وفي الشعراء وروى كردم عن نافع بكسر النون فيهما وماذا يحتمل أن تكون كلها استفهاماً وتكون مفعولاً ثانياً لتأمرون على سبيل التوسّع فيه بأن حذف منه حرف الجر كما قال أمرتك الخير ويكون المفعول الأول محذوفاً لفهم المعنى أيأيّ شيء تأمرونني وأصله بأي شيء ويجوز أن تكون ما استفهاماً مبتدأ وذا بمعنى الذي خبر عنه و { تَأْمُرُونَ } صلة ذا ويكون قد حذف منه مفعولي { تَأْمُرُونَ } الأوّل وهو ضمير المتكلم والثاني وهو الضمير العائد على الموصول والتقدير فأي شيء الذي تأمروننيه أي تأمرنني به وكلا الإعرابين في ماذا جائز في قراءة من كسر النون إلا أنه حذف ياء المتكلم وأبقى الكسرة دلالة عليها وقدر ابن عطية الضمير العائد على ذا إذا كانت موصولة مقرونة بحرف الجر فقال وفي { تَأْمُرُونَ } ضمير عائد على { الَّذِى } تقديره تأمرون به انتهى ، وهذا ليس بجيّد لفوات شرط جواز حذف الضمير إذا كان مجروراً بحرف الجر وذلك الشرط هو أن لا يكون الضمير في موضع رفع وأن يجرّ ذلك الحرف الموصول أو الموصوف به أو المضاف إليه ويتحد المتعلق به الحرفان لفظاً ومعنى ويتّحد معنى الحرف أيضاً لابن عطية أنه قدره على الأصل ثم اتسع فيه فتعدى إليه الفعل بغير واسطة الحروف ثم حذف بعد الاتساع .

١١١

انظر تسفير الآية:١١٢

١١٢

قالوا أرجه وأخاه . . . . .

{قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ } أي قال من حضر مناظرة موسى من عقلاء ملأ فرعون وأشرافه قيل : ولم يكن يجالس فرعون ولد غية وإنما كانوا أشرافاً ولذلك أشاروا عليه بالإرجاء ولم يشيروا بالقتل وقالوا : إنْ قتلته دخلت على الناس شبهة ولكن أغلبه بالحجة وقرىء بالهمز وبغير همز فقيل هما بمعنى واحد ،

وقيل المعنى احبسه ،

وقيل { أَرْجِهْ } بغير همز أطمعه جعله من رجوت أدخل عليه همزة الفعل أي أطمعه { وَأَخَاهُ } ولا تقتلهما حتى يظهر كذبهما فإنك إن قتلتهما ظنّ أنهما صدقا ولم يجر لهارون ذكر في صدر القصة وقد تبيَّن من غير آبة أنهما ذهبا معاً وأرسلا إلى فرعون ولما كان موافقاً له في دعواه ومؤازراً أشاروا بإرجائهما ،

وقرأ ابن كثير وهشام أرجئهو بالهمز وضم الهاء ووصلها بواو ، وأبو عمرو كذلك إلا أنه لم يصل ، وروي هذا عن هشام وعن يحيى عن أبي بكر ،

وقرأ ورش والكسائي أرجهي بغير همز وبكسر الهاء ووصلها بياء ،

وقرأ عاصم وحمزة بغير همز وسكنا الهاء

وقرأ قالون بغير همز ومختلس كسرة الهاء ،

وقرأ ابن ذكوان في رواية كقراءة ورش والكسائي وفي المشهور عنه أرجئه بالهمز وكسر الهاء من غير صلة ، وقد قيل عنه أنه يصلها بياء ، قال ابن عطية

وقرأ ابن عامر أرجئه بكسر الهاء بهمزة قبلها ، قال الفارسي : وهذا غلط انتهى ، ونسبة ابن عطية هذه القراءة لابن عامر ليس بجيّد لأن الذي روى ذلك إنما هو ابن ذكوان لا هشام فكان ينبغي أن يقيد فيقول

وقرأ ابن عامر في رواية ابن ذكوان

وقال بعضهم : قال أبو علي ضمّ الهاء مع الهمز لا يجوز غيره قال : ورواية ابن ذكوان عن ابن عامر غلط وقال ابن مجاهد بعده وهذا لا يجوز لأنّ الهاء لا تكسر إلا إذا وقع قبلها كسرة أو ياء ساكنة ، وقال الحوفي : ومن القراء من يكسر مع الهمز وليس بجيد ، وقال أبو البقاء : ويقرأ بكسر الهاء مع الهمز وهو ضعيف لأنّ

الهمز حرف صحيح ساكن فليس قبل الهاء ما يقتضي الكسر ، ووجهه أنه أتبع الهاء كسرة الجيم والحاجز غير حصين ويخرج أيضاً على توهّم إبدال الهمز ياء أو على أن الهمز لما كان كثيراً ما يبدل بحرف العلة أجري مجرى حرف العلة في كسر ما بعده وما ذهب إليه الفارسي وغيره من غلط هذه القراءة ، وأنها لا تجوز قول فاسد لأنها قراءة ثابتة متواترة روتها الأكابر عن الأئمة وتلقتها الأمة بالقبول ولها توجيه في العربية وليست الهمزة كغيرها من الحروف الصحيحة لأنها قابلة للتغيير بالإبدال والحرف بالنقل وغيره فلا وجه لإنكار هذه القراءة .

{وَأَرْسِلْ فِى الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ }{ الْمَدَائِنِ } مدائن مصر وقراها والحاشرون ، قال ابن عباس هم أصحاب الشرط ، وقال محمد بن إسحاق لما رأى فرعون من آيات اللّه عز وجل ما رأى قال : لن نغالب موسى إلا بمن هو منه فاتخذ غلماناً من بني إسرائيل فبعث بهم إلى قرية . قال البغوي : ' هي الفرما يعلمونهم السحر كما يعلمون الصبيان في المكتب ، فعلموهم سحراً كثيراً ، وواعد فرعون موسى موعداً ، ثم دعاهم وسألهم ، فقال : ماذا صنعتم ؟ قالوا علمناهم من السحر ما لا يقاومهم به أهل الأرض إلا أن يكون أمراً من السماء فإنه لا طاقة لنا به ،

وقرأ الأخوان { بكل الأسحار} هنا وفي يونس . والباقون { ساحر} وفي الشعراء أجمعوا على { سحار} . وتناسب { سحار } [ الشعراء : ٣٧ ] { عليم} لكونهما من ألفاظ المبالغة . ولما كان قد تقدم { إن هذا لساحر عليم} ناسب هنا أن يقابل بقوله { بكل ساحر عليم}

١١٣

وجاء السحرة فرعون . . . . .

{وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين } في الكلام حذف يقتضيه المعنى . وتقديره : ' فأرسل حاشرين ، وجمعوا السحرة ، وأمرهم بالمجيء ' واضطرب الناقلون للأخبار في عددهم اضطراباً متناقضاً يعجب العاقل من تسطيره في الكتب . فمن قائل : ' تسعمائة ألف ساحر ' . وقائل : ' سبعين ساحراً ' فما بينهما من الأعداد المعينة المتناقضة . { وجاء } قالوا: بغير حرف عطف . لأنه على تقدير جواب سائل سأل . ما قالوه ؟ إذ جاء { قالوا إن لنا لأجراً} أي : جعلاً ، وقال الحوفي{ قالوا } في موضع الحال من السحرة والعامل { جاء}.

وقرأ الحرميان وحفص { إن} على وجه الخبر واشتراط الأجر وإيجابه على تقدير الغلبة ، ولا يريدون مطلق الأجر بل المعنى ' لأجراً عظيماً ' . ولهذا

قال الزمخشري : ' والتنكير للتعظيم ، كقول العرب : ' إن له لإبلا ' و ' إن له لغنماً ' يقصدون الكثرة . وجوز أبو علي : أن تكون { إن} استفهاماً حذفت منه الهمزة . كقراءة الباقين الذين أثبتوها ، وهم : الأخوان و ' ابن عامر ' و ' أبو بكر ' و ' أبو عمرو ' فمنهم من حققهما ، ومنهم من سهل الثانية ، ومنهم من أدخل بينهما ألفاً ، والخلاف في كتب القراءات . وفي خطاب السحرة بذلك لفرعون دليل على استطالتهم عليه باحتياجه إليهم ، وبما يحصل للعالم بالشيء من الترفع على من يحتاج إليه وعلى من لا يعلم مثله علمه . و { نحن} إما تأكيد للضمير

وإما فصل . وجواب الشرط محذوف ، وقال الحوفي . ' في جوابه ما تقدم

١١٤

قال نعم وإنكم . . . . .

{قال نعم وإنكم لمن المقربين } أي : نعم : إن لكم لأجراً { وإنكم} فعطف هذه الجملة على الجملة المحذوفة بعد نعم التي هي نائبة عنها . والمعنى : ' لمن المقربين مني ' . أي : لا أقتصر لكم على الجعل والثواب على غلبة موسى بل أزيدكم أن تكونوا من المقربين ، فتحوزون إلى الأجر الكرامة ، والرفعة ، والجاه ، والمنزلة . والمثاب إنما يتهنى ويغتبط به إذا حاز على ذلك الإكرام . وفي مبادرة فرعون لهم بالوعد والتقريب منه دليل على شدة اضطراره لهم ، وأنهم كانوا عالمين بأنه عاجز . ولذلك احتاج إلى السحرة في دفع موسى - عليه السلام -

١١٥

قالوا يا موسى . . . . .

قالوا يا موسى إما أن تلقي

وإما أن نكون نحن الملقين

قال الزمخشري : ' تخييرهم إياه أدب حسن راعوه معه كما يفعل أهل الصناعات إذا التقوا كالمتناظرين قبل أن يتخاوضوا في الجدال ، والمتصارعين قبل أن يأخذوا في الصراع ' . انتهى . وقال القرطبي : ' تأدبوا مع موسى - عليه السلام - بقولهم { إما أن تلقي} فكان ذلك سبب إيمانهم ' . والذي يظهر أن تخييرهم إياه ليس من باب الأدب بل

ذلك من باب الإدلال لما يعلمونه من السحر ، وإيهام الغلبة ، والثقة بأنفسهم ، وعدم الاكتراث والابتهال بأمر موسى . كما قال الفراء لسيبويه حين جمع الرشيد بين سيبويه والكسائي أتسأل فأجيب ؟ أم أبتدئ وتجيب ؟ فهذا جاء التخيير فيه على سبيل الإدلال بنفسه ، والملاءة بما عنده ، وعدم الاكتراث بمناظرته ، والوثوق بأنه هو الغالب .

قال الزمخشري : ' وقولهم

{وإما أن نكون نحن الملقين} فيه ما يدل على رغبتهم في أن يلقوا قبله من تأكيد ضميرهم المتصل بالمنفصل ، وتعريف الخبر ، وإقحام الفصل ' . انتهى . وأجازوا في { أن تلقي} وفي { أن نكون} النصب . أي : اختر وافعل إما إلقاءك '

وإما القاءنا ' . والمعنى فيه البداءة والدفع . أي : إما إلقاؤك مبدوء به ،

وإما القاؤنا . فيكون مبتدأ . أو ' إما أمرك الإلقاء ' . أي : البداءة به ، أو ' إما أمرنا الإلقاء ' . فيكون خبر مبتدأ محذوف . ودخلت { أن} لنه لا يكون الفعل وحده مفعولاً ولا مبتدأ . بخلاف قوله { وآخرون مرجون لأمر اللّه إما يعذبهم وإما يتوب عليهم } [ التوبة : ١٠٦ ] فالفعل بعد إما هنا خبر ثان لقوله { وآخرون} أو صفة . فليس من مواضع { أن} ومفعول { تلقى} محذوف . أي : إما أن تلقي عصاك . وكذلك مفعول الملقين . أي : ' الملقين العصي والحبال ' .

١١٦

قال ألقوا فلما . . . . .

{قال ألقوا } أعطاهم موسى - عليه السلام - التقدم وثوقاً بالحق ، وعلماً أنه تعالى يبطله ، كما حكى اللّه عنه { قال موسى ما جئتم به السحر إن اللّه سيبطله } [ يونس : ٨١ ] ،

قال الزمخشري : ' وقد سوغ لهم موسى - عليه السلام - ما تراغبوا فيه . ازدراء لشأنهم ، وثقة بما كان بصدده من التأييد السماوي ، وأن المعجزة لم يغلبها سحر أبداً ' . انتهى . والمعنى : ألقوا حبالكم وعصيكم . والظاهر : أنه أمر بالإلقاء ،

وقيل : ' هو تهديد ' . أي : فسترون ما يحل بكم من الافتضاح .{ فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاؤوا بسحر عظيم } أي : ' أروا العيون بالحيل والتخيلات ما لا حقيقة له ' . كما قال تعالى { يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى } [ طه : ٦٦ ] ، وفي قوله { سحروا أعين الناس} دلالة على أن السحر لا يقلب عيناً وإنما هو من باب التخيل { واسترهبوهم} أي : أرهبوهم . و { استفعل} هنا بمعنى { أفعل} ك { أبل} واستبل . و { الرهبة} الخوف والفزع .

وقال الزمخشري{ واسترهبوهم } وأرهبوهم إرهاباً شديداً . كأنهم استدعوا رهبتهم ' . انتهى . وقال ابن عطية ' { واسترهبوهم} بمعنى وأرهبوهم ، فكأن فعلهم اقتضى واستدعى الرهبة من الناس ' . انتهى . ولا يظهر ما قالا ، لأن الاستدعاء والطلب لا يلزم منه وقوع المستدعى والمطلوب . والظاهر هنا : حصول الرهبة ، فلذلك قلنا : إن ' استفعل ' فيه موافق ' أفعل ' وصرح أبو البقاء بأن معنى { استرهبوهم} طلبوا منهم الرهبة . ووصف السحر { بعظيم} لقوة ما خيل أو لكثرة آلاته من الحبال والعصي . روي أنهم جاؤوا بحبال من أدم ، وأخشاب مجوفة ، مملوءة زئبقاً ، وأوقدوا في الوادي ناراً ، فحميت بالنار من تحت ، وبالشمس من فوق ، فتحركت ، وركب بعضها بعضاً . وهذا من باب الشعبذة ، والدك . وروي غير هذا من حيلهم . وفي الكلام حذف تقديره : ' قالوا ألقوا : فألقوا { فلما ألقوا} والفاء عاطفة على هذا المحذوف . وقال ' الحوفي ' : ' الفاء جواب الأمر ' . انتهى ، وهو لا يعقل ما قال . ونقول : وصف { بعظيم} لما ظهر من تأثيره في الأعضاء الظاهرة التي هي الأعين بما لحقها من تخييل العصي والحبال حيات ، وفي الأعضاء الباطنة التي هي القلوب بما لحقها من الفزع والخوف ، ولما كانت الرهبة ناشئة عن رؤية الأعين وتأخرت الجملة الدالة عليها .

١١٧

وأوحينا إلى موسى . . . . .

لقف الشيء لقفاً ولقفاناً أخذه بسرعة فأكله أو ابتلعه ورجل ثقف لقف سريع الأخذ ولقيف ثقيف بين الثقافة واللقافة ولقم ولهم ولقف بمعنى ومنه التقفته وتلقفته تلقيفاً . مهما اسم خلافاً للسهيلي إذ زعم أنها قد تأتي حرفاً وهي أداة شرط وندر الاستفهام بها في قوله : مهما لي الليلة مهماليه

أودي بنعلي وسرباليه

وزعم بعضهم أنها إذا كانت اسم شرط قد تأتي ظرف زمان وفي بساطتها وتركيبها من ماما أو من مه ما خلاف ذكر في النحو وينبغي أن يحمل قول الشاعر : أما ويّ مه من يستمع في صديقه

أقاويل هذا الناس ما وي يندم

على أنه لا تركيب فيها بل مه بمعنى أكفف ومن هي اسم الشرط ، الجراد معروف واحده جرادة بالتاء للذكر والأنثى ويميز بينهما الوصف وذكر التصريفيون أنه مشتقّ من الجراد قالوا والاشتقاق في أسماء الأجناس قليل جداً . القمل قال أبو عبيدة : هو الحمنان واحده حمنانة وهو ضرب من القردان وستأتي أقوال المفسرين فيه . الضفدع هو الحيوان المعروف وتكسر داله وتفتح وهو مؤنث وشذّ جمعهم له بالألف والتاء قالوا : ضفدعات . النكث النقض . اليم البحر . قال ذو الرمة : داوية ودجى ليل كأنهما

يم تراطن في حافاته الروم

وتقدّمت هذه المادة في فتيمموا إلا أن ابن قتيبة قال : اليم البحر بالسّريانية .

وقيل بالعبرانية . التدمير الإهلاك وإخراب البناء . التتبير الإهلاك ومنه التبر لتهالك الناس عليه . وقال ابن عطية والكرماني : التتبير الإهلاك وسوء العقبى وأصله الكسر ومنه تبر الذهب لأنه كساره .

{عَظِيمٍ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِىَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} الظاهر أنه وحيُ إعلام كما روي أن جبريل عليه السلام أتاه وقال له أنّ الحق يأمرك أن تلقى عصاك وكونه وحي إعلام فيه تثبيت للجأش وتبشير بالنصر ، وقال قوم : هو وحي إلهام ألقى ذلك في روعه وأن يحتمل أن تكون المفسّرة وأن تكون الناصبة أي بأن ألق ، وفي الكلام حذف قبل الجملة الفجائية أي فألقاها { فَإِذَا هِىَ تَلْقَفُ } وتكون الجملة الفجائية إخباراً بما ترتب على الإلقاء ولا يكون موحى بها في الذكر ومن يذهب إلى أنّ الفاء في نحو خرجت فإذا الأسد زائدة يحتمل على قوله أن تكون هذه الجملة موحى بها في الذكر إلا أنه يقدر المحذوف بعدها أي فألقاها فلقفته ،

وقرأ حفص { تَلْقَفْ } بسكون اللام من لقف ،

وقرأ باقي السبعة { تَلْقَفْ } مضارع لقف حذفت إحدى تاءيه إذ الأصل تتلقف ،

وقرأ البزي بإدغام المضارعة في التاء في الأصل ،

وقرأ ابن جبير تلقم بالميم أي تبلع كاللقمة { وَمَا } موصولة أي ما يأفكونه أي يقلبونه عن الحق إلى الباطل ويزورونه قالوا أو مصدرية أي تلقف إفكهم تسمية للمفعول بالمصدر . روي أن موسى عليه السلام لما كان

يوم الجمع خرج متوكئاً على عصاه ويده في يد أخيه وقد صفّ له السحرة في عدد عظيم فلما ألقوا واسترهبوا أوحى اللّه إليه فألقى فإذا هي ثعبان عظيم حتى كان كالجبل ،

وقيل : طال حتى جاز النيل ،

وقيل : طال حتى جاز بذنبه بحر القلزم ،

وقيل كان الجمع باسكندرية وطال حتى جاز مدينة البحيرة ، وروي أنهم جعلوا يرقون وحبالهم وعصيهم تعظم وعصا موسى تعظم حتى سدّت الأفق وابتلعت الكل ورجعت بعد عصا وأعدم اللّه العصيّ والحبال ومدّ موسى يده في الثعبان فعاد عصا كما كان فعلم السحرة حينئذ أن ذلك ليس من عند البشر فخروا سجّداً مؤمنين باللّه ورسوله ،

قال الزمخشري : أعدم اللّه بقدرته تلك الأجرام العظيمة أو فرقها أجزاء لطيفة وقالت السّحرة لو كان هذا سحراً لبقيت حبالنا وعصينا .

١١٨

فوقع الحق وبطل . . . . .

{فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } قال ابن عباس والحسن ظهر واستبان ، وقال أرباب المعاني الوقوع ظهور الشيء بوجوده نازلاً إلى مستقره ، قال القاضي : فوقع الحقّ يفيد قوة الظهور والثبوت بحيث لا يصحّ فيه البطلان كما لا يصح في الواقع أن يصير إلا واقعاً ومع ثبوت الحقّ بطلب وزالت تلك الأعيان التي أتوا بها وهي الحبال والعصي ،

قال الزمخشري : ومن بدع التفاسير فوقع في قلوبهم أي فأثر فيها من قولهم فاس وقيع أي مجرد انتهى ، و { مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } يعم سحر السحرة وسعى فرعون وشيعته .

١١٩

فغلبوا هنالك وانقلبوا . . . . .

{فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ } أي غلب جميعهم في مكان اجتماعهم أو ذلك الوقت { وَانقَلَبُواْ } أذلاّء وذلك أنّ الانقلاب إن كان قبل إيمان السحرة فهم شركاؤهم في ضمير { انقَلَبُواْ } وإن كان بعد الإيمان فليسوا داخلين في الضمير ولا لحقّهم صغار يصفهم اللّه به لأنهم آمنوا واستشهدوا وهذا إذا كان الانقلاب حقيقة أما إذا لوحظ فيه معنى الصيرورة فالضمير في { وَانقَلَبُواْ } شامل للسحرة وغيرهم ولذلك فسّره الزمخشري بقوله وصاروا أذلاّء بهوتين .

١٢٠

وألقي السحرة ساجدين

{وَأُلْقِىَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ } لما كان الضمير قبل مشتركاً جرد المؤمنون وأفردوا بالذكر والمعنى خرُّوا سجداً كأنما ألقاهم ملق لشدة خرورهم ،

وقيل : لم يتمالكوا مما رأوا فكأنهم ألقوا وسجودهم كان للّه تعالى لما رأوا من قدرة اللّه تعالى فتيقنوا نبوّة موسى عليه السلام واستعظموا هذا النوع من قدرة اللّه تعالى ،

وقيل : ألقاهم اللّه سجداً سبب لهم من الهدى ما وقعوا به ساجدين ،

وقيل سجدوا موافقة لموسى وهارون فإنهم سجدا للّه شكراً على وقوع الحقّ فوافقوهما إذ عرفوا الحقّ فكأنما ألقياهم ، قال قتادة : كانوا أول النهار كفاراً سحرة وفي آخره شهداء بررة ، وقال الحسن : تراه ولد في الإسلام ونشأ بين المسلمين يبيع دينه بكذا وكذا وهؤلاء كفار نشأوا في الكفر بذلوا أنفسهم للّه تعالى .

١٢١

انظر تسفير الآية:١٢٢

١٢٢

قالوا آمنا برب . . . . .

{قَالُواْ ءامَنَّا بِرَبّ الْعَالَمِينَ رَبّ مُوسَى وَهَارُونَ } أي ساجدين قائلين فقالوا في موضع الحال من الضمير في { سَاجِدِينَ } أو من السحرة وعلى التقديرين فهم ملتبسون بالسجود للّه شكراً على المعرفة والإيمان والقول المنبىء عن التصديق الذي محله القلوب ولما كان السجود أعظم القرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد بادروا به متلبسين بالقول الذي لا بد منه عند القادر عليه إذ الدخول في الإيمان إنما يدل عليه القول وقالوا رب العالمين وفاقاً لقول موسى إني رسول من ربّ العالمين ولما كان قد يوهم هذا اللفظ غير اللّه تعالى كقول فرعون أنا ربكم الأعلى نصّوا بالبدل على أنّ ربّ العالمين { رَبّ مُوسَى وَهَارُونَ } وأنهم فارقوا فرعون وكفروا بربوبيته والظاهر أن قائل ذلك جميع السحرة ،

وقيل : بل قاله رؤساؤهم وسمى ابن إسحاق منهم الرؤساء فقال هم سابور وعازور وخطخط ومصفى وحكاه ابن ماكولا أيضاً ، وقال مقاتل : أكبرهم شمعون وبدأوا بموسى قبل هارون وإن كان أكبر سناً من موسى قيل بثلاث سنين لأنّ موسى

هو الذي ناظر فرعون وظهرت المعجزتان في يده وعصاه ولأن قوله { وَهَارُونَ } فاصلة وجاء في طه { رَبّ هَارُونَ مُوسَى } لأنّ موسى فيها فاصلة ويحتمل وقوع كل منهما مرتّباً من طائفة وطائفة فنسب فعل بعض إلى المجموع في سورة وبعض إلى المجموع في شورة أخرى ، قال المتكلمون : وفي الآية دلالة على فضيلة العلم العلم لأنهم لما كانوا كاملين في علم السحر علموا أنّ ما جاء به موسى حقّ خارج عن جنس السحر ولولا العلم لتوهّموا أنه سحر وأنه أسحر منهم .

١٢٣

قال فرعون آمنتم . . . . .

{قَالَ فِرْعَوْنُ ءامَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ ءاذَنَ لَكُمْ } قرأ حفص { أَمِنتُمْ } على الخبر في كل القرآن أي فعلتم هذا الفعل الشنيع وبّخهم بذلك وقرعهم ،

وقرأ العربيان ونافع والبزي بهمزة استفهام ومدة بعدها مطولة في تقدير ألفين إلا ورشاً فإنه يسهل الثانية ولم يدخل أحد ألفاً بين المحققة والملينة وكذلك في طه والشعراء ،

وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر فيهن بالاستفهام وحققا الهمزة وبعدها ألف

وقرأ قنبل هنا بإبدال همزة الاستفهام واواً الضمة نون فرعون وتحقيق الهمزة بعدها أو تسهيلها أو إبدالها أو إسكانها أربعة أوجه

وقرأ في طه مثل حفص وفي الشعراء مثل البزي هذا الاستفهام معناه الإنكار والاستبعاد والضمير في { بِهِ } عائد على اللّه تعالى لقولهم { قَالُواْ ءامَنَّا بِرَبّ الْعَالَمِينَ } ،

وقيل يحتمل أن يعود على موسى وفي طه والشعراء يعود في قوله له على موسى لقوله { إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ } ،

وقيل آمنت به وآمنت له واحد في قوله { قَبْلَ أَنْ ءاذَنَ لَكُمْ } دليل على وهن أمره لأنه إنما جعل ذنبهم بمفارقة الإذن ولم يجعله نفس الإيمان إلا بشرط .

{إِنَّ هَاذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِى الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا } أي صنيعكم هذا لحيلة احتلتموها أنتم وموسى في مصر قبل أن تخرجوا منها إلى هذه الصحراء وتواطأتم على ذلك لغرض لكم وهو أن تخرجوا منها القبط وتسكنوا بني إسرائيل قال هذا تمويهاً على الناس لئلا يتبعوا السحرة في الإيمان روي عن ابن مسعود وابن عباس أن موسى عليه السلام اجتمع مع رئيس السحرة شمعون فقال له موسى أرأيت إن غلبتكم أتؤمنون بي فقال له نعم فعلم بذلك فرعون فقال ما قال انتهى ، ولما خاف فرعون أن يكون إيمان السحرة حجة قومه ألقى في الحال نوعين من الشبه أحدهما إنّ هذا تواطؤ منهم لا أنّ ما جاء به حق والثاني { إِنَّ ذالِكَ}

{لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } تهديد ووعيد ومفعول { تَعْلَمُونَ } محذوف أي ما يحلّ بكم أبهم في متعلق { تَعْلَمُونَ } ثم عين ما يفعل بهم فقال مقسماً :

١٢٤

لأقطعن أيديكم وأرجلكم . . . . .

{لاقَطّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لاَصَلّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ } لما ظهرت الحجة عاد إلى عادة ملوك السوء إذا غلبوا من تعذيب من ناوأهم وإن كان محقّاً ومعنى { مّنْ خِلَافٍ } أي يد يمنى ورجل يسرى والعكس ، قيل هو أول من فعل هذا ،

وقيل المعنى من أجل الخلاف الذي ظهر منكم والصلب التعليق على الخشب وهذا التوعد الذي توعده فرعون السحرة ليس في القرآن نص على أنه أنفذه وأوقعه بهم ولكن روي في القصص أنه قطع بعضاً وصلب بعضاً وتقدم قول قتادة ، وروي عن ابن عباس أنهم أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء ،

وقرأ مجاهد وحميد المكي وابن محيصن { لاقَطّعَنَّ } مضارع قطع الثلاثي { لاَصَلّبَنَّكُمْ } مضارع صلب الثلاثي بضم لام { لاَصَلّبَنَّكُمْ } وروي بكسرها وجاء هنا { ثُمَّ } وفي السورتين { وَلاَصَلّبَنَّكُمْ } بالواو فدل على أن الواو أريد بها معنى ثم من كون الصلب بعد القطع والتعدية قد يكون معها مهلة وقد لا يكون .

١٢٥

قالوا إنا إلى . . . . .

{قَالُواْ إِنَّا إِلَى رَبّنَا مُنقَلِبُونَ } هذا تسليم واتّكال على اللّه تعالى وثقه بما عنده والمعنى أنا نرجع إلى ثواب ربنا يوم الجزاء على ما نلقاه من الشدائد أو أنا ننقلب إلى لقاء ربنا ورحمته وخلاصنا منك ومن لقائك أو أنا ميتون منقلبون إلى اللّه فلا نبالي بالموت إذ لا تقدر أن تفعل بنا إلا ما لا بدّ لنا منه فالانقلاب الأول يكون المراد به يوم الجزاء وهذان الانقلابان المراد بهما في الدنيا ويبعد أن يراد بقوله { وَأَنَا } ضمير أنفسهم وفرعون أي ننقلب إلى اللّه جميعاً فيحكم بيننا لقوله { وَمَا تَنقِمُ مِنَّا } فإنّ هذا الضمير يخصُّ مؤمني السحرة والأولى اتحاد الضمائر والذي أجاز هذا الوجه هو الزمخشري : وفي قولهم { إِلَى رَبّنَا}

تبرؤ من فرعون ومن ربوبيته وفي الشعراء لا ضير لأن هذه السورة اختصرت فيها القصة واتسعت في الشعراء ذكر فيها أحوال فرعون من أوّلها إلى آخرها فبدأ بقوله { أَلَمْ نُرَبّكَ فِينَا وَلِيداً } وختم بقوله { ثُمَّ أَغْرَقْنَا الاْخَرِينَ } فوقع فيها زوائد لم تقع في هذه السورة ولا في طه قاله الكرماني .

١٢٦

وما تنقم منا . . . . .

{وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلا أَنْ ءامَنَّا بِئَايَاتِ رَبّنَا لَمَّا جَاءتْنَا } قال الضحاك : وما تطعن علينا ، وقال غيره : وما تكره منا ،

وقال الزمخشري : وما تعيب منا ، و

قال ابن عطية : وما تعد علينا ذنباً وتؤاخذنا به وعلى هذه التأويلات يكون قوله { قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ } في موضع المفعول ويكون من الاستثناء المفرّغ من المفعول وجاء هذا التركيب في القرآن كقوله { قُلْ ياأَهْلَ أَهْلِ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا }{ وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ } وهذا الفعل في لسان العرب يتعدّى بعلى تقول نقمت على الرجل أنقم إذا غلب عليه والذي يظهر من تعديته بمن أنّ المعنى وما تنقم منا أي ما تنال منا كقوله فينتقم اللّه منه أي يناله بمكروه ويكون فعل وافتعل فيه بمعنى واحد كقدر واقتدر وعلى هذا يكون قوله { قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ } مفعولاً من أجله واستثناء مفرّغاً أي ما تنال منا وتعذّبنا لشيء من الأشياء إلا لأن آمنا بآيات ربنا وعلى هذا المعنى يدل تفسير عطاء ، قال عطاء : أي ما لنا عندك ذنب تعذّبنا عليه إلا أنّا آمنا ، والآيات المعجزات التي أتى بها موسى عليه السلام ومن جعل لما ظرفاً جعل العامل فيها { مِنَّا إِلاَّ } ومن جعلها حرفاً جعل جوابها محذوفاً لدلالة ما قبله عليه أي لما جاءتنا آمنا وفي كلامهم هذا تكذيب لفرعون في ادعائه الرّبوبية وانسلاخ منهم عن اعتقادهم ذلك فيه والإيمان باللّه هو أصل المفاخر والمناقب وهذا الاستثناء شبيه بقوله : ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم

بهنّ فلول من قراع الكتائب

وقرأ الحسن وأبو حيوة وأبو اليسر هاشم وابن أبي عبلة { وَمَا تَنقِمُ } بفتح القاف مضارع نقم بكسرها وهما لغتان والأفصح قراءة الجمهور .

{رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ } لما أوعدهم بالقطع والصلب سألوا اللّه تعالى أن يرزقهم الصبر على ما يحلّ بهم إن حل وليس في هذا السؤال ما يدل على وقوع هذا الموعد بهم خلافاً لمن قال يدلّ على ذلك ولا في قوله وتوفّنا مسلمين دليل على أنه لم يحلَّ بهم الموعود خلافاً لمن قال يدلّ على ذلك لأنهم سألوا اللّه أن يكون توفيهم من جهته لا بهذا القطع والقتل وتقدّم الكلام على جملة { رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا } سألوا الموت على الإسلام وهو الانقياد إلى دين اللّه وما أمر به .

١٢٧

وقال الملأ من . . . . .

{وَقَالَ الْمَلاَ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِى الاْرْضِ وَيَذَرَكَ وَءالِهَتَكَ} قال ابن عباس : لما آمنت السحرة اتبع موسى ستمائة ألف من بني إسرائيل ، قال مقاتل : ومكث موسى بمصر بعد إيمان السحرة عاماً أو نحوه يريهم الآيات وتضمن قول { الْمَلاَ } إغراء فرعون بموسى وقومه وتحريضه على قتلهم وتعذيبهم حتى لا يكون لهم خروج عن دين فرعون ويعني بقومه من اتبعه من بني إسرائيل فيكون الاستفهام على هذا استفهام إنكار وتعجّب ،

وقيل : هو استخبار والغرض به أن يعلموا ما في قلب فرعون من موسى ومن آمن به ، قال مقاتل : والإفساد هو خوف أن يقتلوا أبناء القبط ويستحيوا نساءهم على سبيل المقاصّة منهم كما فعلوا هي ببني إسرائيل ،

وقيل الإفساد دعاؤهم الناس إلى مخالفة فرعون وترك عبادته .

وقرأ الجمهور { وَيَذَرَكَ } بالياء وفتح الراء عطفاً على { لِيُفْسِدُواْ } أي للإفساد ولتركك وترك آلهتك وكان التّرك هو لذلك

وبدؤوا أوّلاً بالعلة العامة وهي الإفساد ثم اتبعوه بالخاصة ليدلّوا على أن ذلك الترك من فرعون لموسى وقومه هو أيضاً يؤول إلى شيء يختصّ بفرعون قدحوا بذلك زند تغيظه على موسى وقومه ليكون ذلك أبقى عليهم إذ هم الأشراف وبترك موسى وقومه بمصر يذهب ملكهم وشرفهم ، ويجوز أن يكون النصب على جواب الاستفهام والمعنى أنى يكون الجمع بين تركك موسى وقومه للإفساد وبين تركهم إياك وعبادة آلهتك أي إنّ هذا مما لا يمكن وقوعه ،

وقرأ نعيم بن ميسرة والحسن بخلاف عنه { وَيَذَرَكَ } بالرفع عطفاً على { أَتَذَرُ } بمعنى أتذره ويذرك أي أتطلق له ذلك أو على الاستئناف أو على الحال على تقدير وهو يذرك ،

وقرأ الأشهب العقيلي والحسن بخلاف عنه { وَيَذَرَكَ } بالجزم عطفاً على التوهّم كأنه توهم النطق يفسدوا جزماً على جواب الاستفهام كما قال { فَأَصَّدَّقَ وَنَبِيّا مّنَ الصَّالِحِينَ } أو على التخفيف من { وَيَذَرَكَ } ،

وقرأ أنس بن مالك ونذرك بالنون ورفع الراء توعدوه بتركه وترك آلهته أو على معنى الإخبار أي إنّ الأمر يؤول إلى هذا ،

وقرأ أبيّ وعبد اللّه { فِى الاْرْضِ } وقد تركوك أن يعبدوك { وَءالِهَتَكَ } ،

وقرأ الأعمش وقد تركك وآلهتك .

وقرأ الجمهور { وَءالِهَتَكَ } على الجمع والظاهر أنّ فرعون كان له آلهة يعبدها ، وقال سليمان التيمي : بلغني أنه كان يعبد البقر ،

وقيل : كان يعبد حجراً يعلقه في صدره كياقوتة أو نحوها ،

وقيل : الإضافة هي على معنى أنه شرع لهم عبادة آلهة من بقر وأصنام وغير ذلك وجعل نفسه الإله الأعلى فقوله على هذا { أَنَاْ رَبُّكُمُ الاْعْلَى } إنما هو بمناسبة بينه وبين سواه من المعبودات ، قيل : كانوا قبطاً يعبدون الكواكب ويزعمون أنها تستجيب دعاء من دعاها وفرعون كان يدعي أن الشمس استجابت له وملَّكته عليهم ،

وقرأ ابن مسعود وعليّ وابن عباس وأنس وجماعة غيرهم وإلهتك وفسروا ذلك بأمرين أحدهما أنّ المعنى وعبادتك فيكون إذ ذاك مصدراً ، قال ابن عباس : كان فرعون يعبد ولا يعبد ، والثاني أن المعنى ومعبودك وهي الشمس التي كان يعبدها والشمس تمسى إلهة علماً عليها ممنوعة الصرف .

{قَالَ سَنُقَتّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِى نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ } وإنما لم يعاجل موسى وقومه بالقتال لأنه كان مليء من موسى رعباً والمعنى أنه قال سعيد عليهم ما كنا فعلنا بهم قبل من قتل أبنائهم ليقل رهطه الذين يقع الإفساد بواسطتهم والفوقية هنا بالمنزلة والتمكّن في الدنيا و { قَاهِرُونَ } يقتضي تحقيرهم أي قاهرون لهم قهراً قلّ من أن نهتم به فنحن على ما كنا عليه من الغلبة أو أنّ غلبة موسى لا أثر لها في ملكنا واستيلائنا ولئلا يتوهم العامة أن المولود الذي تحدّث المنجمون عنه والكهنة بذهاب ملكنا على يده فيثبطهم ذلك عن طاعتنا ويدعوهم إلى اتباعه وإنه منتظر بعد وشدّد { سَنُقَتّلُ } ويقتلون الكوفيون والعربيان وخففهما نافع وخفف ابن كثير { سَنُقَتّلُ } وشدد ويقتلون .

١٢٨

قال موسى لقومه . . . . .

{قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُواْ بِاللّه وَاصْبِرُواْ } لما توعّدهم فرعون جزعوا وتضجّروا فسكنهم موسى عليه السلام وأمرهم بالاستعانة باللّه وبالصبر وسلاهم ووعدهم النصر وذكرهم ما وعد اللّه بني إسرائيل من إهلاك القبط وتوريثهم أرضهم وديارهم .

{إِنَّ الارْضَ للّه يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ} أي أرض مصر وأل فيه للعهد وهي { الاْرْضِ } التي كانوا فيها ،

وقيل :{ الاْرْضِ } أرض الدّنيا فهي على العموم ،

وقيل : المراد أرض الجنة لقوله { وَأَوْرَثَنَا الاْرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء } وتعدّى { اسْتَعِينُواْ } هنا بالباء وفي { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } بنفسه وجاء اللّهم إنا نستعينك .

{وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } قيل : النصر والظفر ،

وقيل : الدار الآخرة ، وقي : السعادة والشهادة ،

وقيل : الجنة ،

وقال الزمخشري : الخاتمة المحمودة { لّلْمُتَّقِينَ } منهم ومن القبط وإنّ المشيئة متناولة لهم انتهى ، وقرأت فرقة { يُورِثُهَا } بفتح الراء ،

وقرأ الحسن { يُورِثُهَا } بتشديد الراء على المبالغة ورويت عن حفص ،

وقرأ ابن مسعود وأبيّ{ وَالْعَاقِبَةُ } بالنصب عطفاً على { إِنَّ الارْضَ } وفي وعد موسى تبشير لقومه بالنصر وحسن الخاتمة ونتيجة طلب الإعانة توريث الأرض لهم ونتيجة الصبر العاقبة المحمودة والنصر على من عاداهم فلذلك كان الأمر بشيئين ينتج عنهما شيئان .

قال الزمخشري :

فإن قلت : لم أخليت هذه الجملة عن الواو وأدخلت على الذي قبلها ؟

قلت : هي جملة مبتدأة مستأنفة

وأما { وَقَالَ الْمَلاَ } فمعطوفة على ما سبقها من قوله { قَالَ الْمَلاَ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ } انتهى .

١٢٩

قالوا أوذينا من . . . . .

{قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا } أي بابتلائنا بذبح أبنائنا مخافة ما كان يتوقع فرعون من هلاك ملكه على يد المولود الذي يولد منا { مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا } ،

قال الزمخشري : من قبل مولد موسى إلى أن استنبأ { وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا } إعادة ذلك عليهم قاله ابن عباس وزاد الزمخشري : وما كانوا يستعبدون ويمتهنون فيه من أنواع الخدم والمهن ويمسّون به من العذاب انتهى ، و

قال ابن عطية : والذي من بعد مجيئه يعنون به وعيد فرعون وسائر ما كان خلال تلك المدة من الإخافة لهم ، وقال الحسن : بأخذ الجزية منهم قبل بعث موسى إليهم وبعد بعثه ما زاد على ذلك ، وقال الكلبي : كانوا يضربون له اللبن ويعطيهم التّبن فلما جاء موسى غرمهم التبن وكان النساء يغزلن له الكتان وينسجنه ، وقال جرير : استسخرهم من قبل إتيان موسى في أوّل النهار إلى نصف النهار فما جاء موسى استسخرهم النهار كله بلا طعام ولا شراب ، وقال علي بن عيسى { مِن قَبْلُ } بالاستعباد وقتل الأولاد { وَمِن بَعْدِ } بالتهديد والإبعاد ، وروي مثله عن عكرمة ،

وقيل من { قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا } بعهد اللّه بالخلاص { وَمِنْ بَعْدَمَا جِئْتَنَا } به قالوه في معرض الشكوى من فرعون واستعانة عليه بموسى ،

وقال ابن عباس والسدّي : قالوا ذلك حين اتبعهم واضطرّهم إلى البحر فضاقت صدورهم ورأوا بحراً أمامهم وعدوّاً كثيفاً وراءهم لما أسرى بهم موسى حتى هجموا على البحر التفتوا فإذا هم برهج دواب فرعون فقالوا هذه المقالة وقالوا هذا البحر أمامنا وهذا فرعون وراءنا قد رهقنا بمن معه انتهى . وهذا القول فيه بعد وسياق الآيات يدلّ على الترتيب وقد جاء بعد هذه { وَلَقَدْ أَخَذْنَا ءالَ فِرْعَوْنَ بِالسّنِينَ } ،

قال ابن عطية : وهو كلام يجري على المعهود من بني إسرائيل من اضطرابهم على أنبيائهم وقلة يقينهم وصبرهم على الدّين انتهى ، قيل ولا يدلّ قولهم ذلك على كراهة مجيء موسى لأن ذلك يؤدي إلى الكفر وإنما قالوه لأنه كان وعدهم بزوال المضار فظنوا أنها نزول على الفور فقولهم ذلك استعطاف لا نفرة .

{قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِى الاْرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } هذا رجاء من نبي اللّه موسى عليه السلام ومثله من الأنبياء يقوي قلوب أتباعهم فيصبرون إلى وقوع متعلق الرّجاء ولا تنافي بين هذا الرجاء وبين قوله { وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } من حيث إن الرجاء غير مقطوع بحصول متعلّقة والأخبار بأنّ العاقبة للمتقين واقع لا محالة لأن العاقبة إن كانت في الآخرة فظاهر جدّاً عدم التنافي وإن كانت في الدنيا فليس فيها تصريح بعاقبة هؤلاء القوم المخصوصين فسلك موسى طريق الأدب مع اللّه وساق الكلام مساق الرجاء ، وقال التبريزي يحتمل أن يكون قد أوحى بذلك إلى موسى فعسى للتحقيق أو لم يوح فيكون على الترجي منه ،

قال الزمخشري : تصريح بما رمز إليه من البشارة قبل وكشف عنه وهو إهلاك فرعون واستخلافهم بعده في أرض مصر ، وقال ابن عطية واستعطاف موسى لهم بقوله { عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ } ووعده لهم بالاستخلاف في الأرض يدلّ على أنه يستدعي نفوساً نافرة ويقوي هذا الظن في جهة بني إسرائيل وسلوكهم هذا السبيل في غير قصة والأرض هنا أرض مصر قاله ابن عباس وقد حقّق اللّه هذا الرجاء بوقوع متعلقة فأغرق فرعون وملكهم مصر ومات داود وسليمان ،

وقيل : أرض الشام فقد فتحوا بيت المقدس مع يوشع وملكوا الشام ومات داود وسليمان ومعنى { فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } أي في استخلافكم من الإصلاح والإفساد وهي جملة تجري مجرى البعث والتحريض

على طاعة اللّه تعالى وفي الحديث { أن الدنيا حلوة خضرة وأن اللّه مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون} ،

وقال الزمخشري : فيرى الكائن منكم من العمل حسنة وقبيحة وشكر النعمة وكفرانها ليجازيكم على حسب ما يوجد منكم انتهى ، وفيه تلويح الاعتزال ودخل عمرو بن عبيد وهو أحد كبار المعتزلة وزهادهم على المنصور ثاني خلفاء بني العباس قبل الخلافة وعلى مائدته رغيف أو رغيفان وطلب زيادة لعمرو فلم توجد فقرأ عمرو هذه الآية ، ثم دخل عليه بعد ما استخلف فذكر له ذلك وقال قد بقي { فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}

١٣٠

ولقد أخذنا آل . . . . .

{وَلَقَدْ أَخَذْنَا ءالَ فِرْعَوْنَ بِالسّنِينَ وَنَقْصٍ مّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } الأخذ التناول باليد ومعناه هنا الابتلاء في المدّة التي كان أقام بينهم موسى يدعوهم إلى اللّه ومعنى بالسنين بالقحوط والجدوب والسنة تطلق على الحول وتطلق على الجدب ضد الخصب وبهذا المعنى تكون من الأسماء الغالبة كالنجم والدّبران وقد اشتقوا منها بهذا المعنى فقالوا أسنت القوم إذا أجدبوا ومنه قوله :

ورجال مكة مسنتوون عجاف

وقال حاتم : فإنا نهين المال من غير ضنّة

ولا يستكينا في السنين ضريرها

وفي سنين لغتان أشهرهما إعرابها بالواو ورفعا والياء جرًّا ونصباً وقد تكلف النحاة علة لكونها جمعت هذا الجمع والأخرى جعل الإعراب في النون والتزام الياء في الأحوال الثلاثة نقلها أبو زيد والفراء ، وقال الفراء : هي في هذه اللغة مصروفة عند بني عامر وغير مصروفة عند غيرهم والكلام على ذلك أمعن في كتب النحو وكان هذا الجدب سبع سنين ، قال ابن عباس وقتادة : أما السّنون فكانت لباديتهم ومواشيهم

وأما نقص الثمرات فكان في أمصارهم وهذه سيرة اللّه في الأمم يبتليها بالنقم ليزدجروا ويتذكروا بذلك ما كانوا فيه من النعم فإنّ الشدة تجلب الإنابة والخشية ورقة القلب والرجوع إلى طلب لطف اللّه وإحسانه وكذا فعل بقريش حين دعا عليهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اللّهم اجعلها عليهم سنين كسنيّ يوسف وروي أنه يبس لهم كل شيء حتى نيل مصر ونقصوا من الثمرات حتى كانت النخلة تحمل الثمرة الواحدة ومعنى { لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } رجاء لتذكرهم وتنبههم على أن ذلك الابتلاء إنما هو لإصرارهم على الكفر وتكذيبهم بآيات اللّه فيزدجروا .

١٣١

فإذا جاءتهم الحسنة . . . . .

{فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَاذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ } ابتلوا بالجدب ونقص الثمرات رجاء التذكير فلم يقع المرجو وصاروا إذا أخصبوا وصحّوا

قالوا : نحن أحقاء بذلك وإذا أصابهم ما يسوءهم تشاءموا بموسى وزعموا أن ذلك بسببه واللام في { لَنَا } قيل للاستحقاق كما تقول السّرج للفرس وتشاؤمهم بموسى ومن معه معناه أنه لولا كونهم فينا لم يصبنا كما قال الكفار للرسول عليه السلام هذه من عندك في قوله { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ يَقُولُواْ هَاذِهِ مِنْ عِندِكَ } وأتى الشرط بإذا في مجيء الحسنة وهي لما تيقن وجوده لأنّ إحسان اللّه هو المعهود الواسع العام لخلقه بحيث أنّ إحسانه لخلقه عام حتى في حال الابتلاء وأتى الشرط بأن في إصابة السيئة وهي للممكن إبراز أن إصابة السيئة مما قد يقع وقد لا يقع وجهه رحمة اللّه أوسع ،

قال الزمخشري: { فإن قلت } : كيف قيل { فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ } بإذا وتعريف الحسنة { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ } بأن وتنكير السيئة { قلت} : لأن جنس الحسنة وقوعه كالواجب لكثرته واتساعه

وأما السيئة فلا تقع إلا في الندرة ولا يقع إلا يسير منها ومنه قول بعضهم وقد عددت أيام البلاء فهلا عددت أيام الرجاء انتهى ،

وقرأ عيسى بن عمرو طلحة بن مصرّف تطيروا بالتاء وتخفيف الطاء فعلاً ماضياً وهو جواب { وَإِن تُصِبْهُمْ } وهذا عند سيبويه مخصوص بالشعر أعني أن يكون فعل الشرط مضارعاً وفعل الجزاء ماضي اللفظ نحو قول الشاعر : من يكدني بسيىء كنت منه

كالشجى بين حلقه والوريد

وبعض النحويين يجوزه في الكلام وما روي من أن مجاهداً قرأ تشاءموا مكان تطيروا فينبغي أن يحمل ذلك على التفسير لا على أنه قرآن لمخالفته سواد المصحف .{ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللّه وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } قال ابن عباس { طَائِرُهُمْ } ما يصيبهم أي ما طار لهم في القدر مما هم لا قوة وهو مأخوذ من زجر الطير سمى ما عند اللّه من القدر للإنسان طائراً لما كان يعتقد أن كل ما يصيبه إنما هو بحسب ما يراه في الطائر فهي لفظة مستعارة قاله ابن عطية ،

وقال الزمخشري : أي سبب خيرهم وشرّهم عند اللّه تعالى وهو حكمه ومشيئته واللّه تعالى هو الذي يشاء ما يصيبهم من الحسنة والسيئة وليس شؤم أحدهم ولا يمنه بسبب فيه كقوله تعالى { قُلْ كُلٌّ مّنْ عِندِ اللّه } ويجوز أن يكون معناه ألا إنما سبب شؤمهم عند اللّه وهو عملهم المكتوب عنده يجري عليهم ما يسوءهم لأجله ويعاقبون له بعد موتهم بما وعدهم اللّه تعالى في قوله { النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا } الآية ولا طائر أشأم من هذا ،

وقرأ الحسن ألا إنما طيرهم وحكم بنفي العلم عن أكثرهم لأنّ القليل منهم علم كمؤمن آل فرعون وآسية امرأة فرعون ، و

قال ابن عطية : ويحتمل أن كون الضمير في { طَائِرُهُمْ } لضمير العالم ويجيء تخصيص الأكثر على ظاهره ويحتمل أن يريد و { لَكِنِ أَكْثَرُهُمْ } ليس قريباً أن يعلم لانعمارهم في الجهل وعلى هذا فيهم قليل معدّ لأن يعلم لو وفقه اللّه انتهى ، وهما احتمالان بعيدان وأبعد منه قوله

وإمّا أن يراد الجمع وتجوّز في العبارة .

١٣٢

وقالوا مهما تأتنا . . . . .

{وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن ءايَةٍ لّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ } الضمير في { وَقَالُواْ } عائد على آل فرعون لم يزدهم الأخذ بالجذوب ونقص الثمرات إلا طغياناً وتشدّداً في كفرهم وتكذيبهم ولم يكتفوا بنسبة ما يصيبهم من السيئات إلا أن ذلك بسبب موسى ومن معه حتى واجهوه بهذا القول الدالّ على أنه لو أتى بما أتى من الآيات فإنهم لا يؤمنون بها وأتوا بمهما التي تقتضي العموم ثم فسّروا بآية على سبيل الاستهزاء في تسميتهم ذلك آية كما قالوا في قوله { إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّه } وتسميه لها بآية أي على زعمك ولذلك علّلوا الإتيان بقولهم { لّتَسْحَرَنَا بِهَا } وبالغوا في انتفاء الإيمان بأن صدّروا الجملة بنحن وأدخلوا الباء في { بِمُؤْمِنِينَ } أي أنّ إيماننا لك لا يكون أبداً{ ومهما } مرتفع بالابتداء أو منتصب بإضمار فعل يفسره فعل الشرط فيكون من باب الاشتغال أيأيّ شيء يحضر تأتنا به والمضير في { تُحَرّكْ بِهِ } عائد على { مَهْمَا } وفي { بِهَا } عائد أيضاً على معنى مهما لأنّ المراد به أية آية كما عاد على ما في قوله { مَا نَنسَخْ مِنْ ءايَةٍ أَوْ نُنسِهَا } ، وكما قال زهير : ومهما تكن عند امرىء من خليقة

وإن خالها تخفى على الناس تُعلم

فأنث على المعنى ،

قال الزمخشري : وهذه الكلمة في عداد الكلمات التي يحرّفها من لا يد له في علم العربية فيضعها غير موضعها ويحسب مهما بمعنى متى ما ويقول مهما جئتني أعطيتك وهذا من وضعه وليس من كلام واضع العربية في شيء ثم يذهب فيفسر مهما تأتنا به من آية بمعنى الوقت فيلحد في آيات اللّه تعالى وهو لا يشعر وهذا وأمثاله مما يجوب الجثو بين يدي الناظر في كتاب سيبويه انتهى ، وهذا الذي أنكره الزمخشري من أن مهما لا تأتي ظرف زمان وقد ذهب إليه ابن مالك ذكره في التسهيل وغيره من تصانيفه إلا أنه لم يقصر مدلولها على أنها ظرف زمان بل قال وقد ترد ما ومهما ظرفي زمان وقال في أرجوزته الطويلة المسماة بالشافية الكافية : وقد أتت مهما وما ظرفين في

شواهد من يعتضد بها كفى

وقال في شرح هذا البيت جميع النحويين يجعلون ما ومهما مثل من في لزوم التجرّد عن الظرف مع أنّ استعمالها ظرفين ثابت في استعمال الفصحاء من العرب وأنشد أبياتاً عن العرب زعم منها أنّ ما ومهما ظرفا زمان وكفانا الرّد عليه فيها ابنه الشيخ بدر الدين محمد وقد تأوّلنا نحن بعضها وذكرنا ذلك في كتاب التكميل لشرح التسهيل من تأليفنا وكفاه ردّاً نقله عن جميع النحويين خلاف ما قاله لكن من يعاني علماً يحتاج إلى مثوله بين يدي الشيوخ

وأما من فسّر مهما في الآية بأنها ظرف زمان فهو كما

قال الزمخشري ملحد في آيات اللّه

وأما قول الزمخشري وهذا وأمثاله إلى آخر كلامه فهو يدلّ على أنه جثا بين يدي الناظر في كتاب سيبويه وذلك صحيح رحل من خوارزم في شيبته إلى مكة شرفها اللّه تعالى لقراءة كتاب سيبويه على رجل من أصحابنا من أهل جزيرة الأندلس كان مجاوراً بمكة وهو الشيخ الإمام العلاّمة المشاور أبو بكر عبد اللّه بن طلحة بن محمد بن عبد اللّه الأندلسي من أهل بابرة من بلاد جزيرة الأندلس فقرأ عليه الزمخشري جميع كتاب سيبويه وأخبره به قراءة عن الإمام الحافظ أبي علي الحسين بن محمد بن أحمد الغساني الجياني قال قرأته على أبي مروان عبد الملك بن سراج بن عبد اللّه بن سراج القرطبي قال قرأته على أبي القاسم بن الإفليلي عن أبي عبد اللّه محمد بن عاصم العاصمي عن الرباحي بسنده ، وللزمخشري قصيد يمدح به سيبويه وكتابه وهذا يدلّ على أنه ناظر في كتاب سيبويه بخلاف ما كان يعتقد فيه بعض أصحابنا من أنه إنما نظر في نتف من كلام

أبي علي الفارسي وابن جني وقد صنف أبو الحجاج يوسف بن معزوز كتاباً في الردّ على الزمخشري في كتاب المفصل والتنبيه على أغلاطه التي خالف فيها إمام الصناعة أبا بشر عمرو بن عثمان سيبويه رحم اللّه جميعهم .

١٣٣

فأرسلنا عليهم الطوفان . . . . .

{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ ءايَاتٍ مّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ } قال الأخفش الطوفان جمع طوفانة عند البصريين وهو عند الكوفيين مصدر كالرجحان ،

وحكى أبو زيد في مصدر طاف طوفاً وطوافاً ولم يحك طوفاناً وعلى تقدير كونه مصدراً فلا يراد به هنا المصدر ، قال ابن عباس هو الماء المغرق ، وقال قتادة والضحاك وابن جبير وأبو مالك ومقاتل هو المطر أرسل عليهم دائماً الليل والنهار ثمانية أيام واختاره الفراء وابن قتيبة ،

وقيل ذلك مع ظلمة شديدة لا يرون شمساً ولا قمراً ولا يقدر أحد أن يخرج من داره .

وقيل أمطروا حتى كادوا يهلكون وبيوت القبط وبني إسرائيل مشتبكة فامتلأت بيوت القبط ماء حتى قاموا فيه إلى تراقيهم فمن جلس غرق ولم يدخل بيوت بني إسرائيل قطرة وفاض الماء على وجه أرضهم وركد فمنعهم من الحرث والبناء والتصرّف ودام عليهم سبعة أيام ،

وقيل طم فيض النيل عليهم حتى ملأ الأرض سهلاً وجبلاً . و

قال ابن عطية : هو عام في كل شيء يطوف إلا أن استعمال العرب له أكثر في الماء والمطر الشديد . ومنه قول الشاعر : غير الجدّة من عرفانه

خرق الرّيح وطوفان المطر

ومد طوفان مبيد مددا

شهراً شآبيب وشهراً بردا

وقال مجاهد وعطاء ووهب وابن كثير هو هنا الموت الجارف وروته عائشة عن الرسول صلى اللّه عليه وسلم ولو صحّ وجب المصير إليه ونقل عن مجاهد ووهب أنه الطاعون بلغة اليمن ، وقال أبو قلابة هو الجدري وهو أول عذاب وقع فيهم فبقي في الأرض .

وقيل هو عذاب نزل من السماء فطاف بهم ، وروي عن ابن عباس أنه معمى عنى به شيء أطافه اللّه بهم فقالوا لموسى ادع لنا ربك يكشف عنا ونحن نؤمن بك فدعا فرفع عنهم فما آمنوا فنبت لهم في تلك السنة من الكلأ والزرع ما لم يعهد مثله فأقاموا شهرباً فبعث اللّه تعالى عليهم الجراد فأكلت عامة زرعهم وثمارهم ثم أكلت كل شيء حتى الأبواب وسقوف البيوت والثياب ولم يدخل بيوت بني إسرائيل منها شيء ففزعوا إلى موسى ووعدوه التوبة فكشف عنهم سبعة أيام وخرج موسى عليه السلام إلى الفضاء فأشار بعصاه نحو المشرق والمغرب فرجع الجراد إلى النواحي التي جئن منها وقالوا ما نحن بتاركي ديننا فأقاموا شهراً وسلّط عليهم القمل ، قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وعطاء : هو الدّبا وهو صغار الجراد قبل أن

تنبت له أجنحة ولا يطير ، وقال ابن جبير عن ابن عباس : هو السّوس الذي يقع في الحنطة ، وقال الحسن وابن جبير : دواب سود صغار ، وقال حبيب بن أبي : ثابت هو الجعلان ، وقال أبو عبيدة : هو الحمنان وهو ضرب من القردان ، وقال عطاء الخراساني وزيد بن أسلم : هو القمل المعروف وهو لغة فيه ويؤيده قراءة الحسن بفتح القاف وسكون الميم ،

وقيل هو البراغيث حكاه ابن زيد وروي أنّ موسى مشى إلى كثيب أهيل فضربه بعصاه فانتشر كله قملاً بمصر فأكل ما أبقاه الجراد ولحس الأرض وكان يدخل بين جلد القبطيّ وقميصه ويمتلىء الطعام ليلاً ويطحن أحدهم عشرة أجربة فلا يرد منها إلا يسيراً وسعى في أبشارهم وشعورهم وأهداب عيونهم ولزمت جلودهم فضجوا وفزعوا إلى موسى عليه السلام فرفع عنهم فقالوا قد تحققنا الآن أنك ساحر وعزّة فرعون لا نصدقك أبداً ، فأرسل اللّه عليهم بعد شهر الضفادع فملأت آنيتهم وأطعماتهم ومضاجعهم ورمت بأنفسها في القدور وهي تغلي وفي التنانير وهي تفور وإذا تكلم أحدهم وثبت إلى فيه ، قال ابن جبير : وكان أحدهم يجلس في الضفادع إلى ذقنه فقالوا لموسى ارحمنا هذه المرة ونحن نتوب التوبة النصوح ولا نعود فأخذ عليهم العهود فكشف عنهم فنقضوا العهد فأرسل اللّه عليهم الدم ، قال الجمهور : صار ماؤهم دماً حتى أنّ الإسرائيلي ليضع الماء في القبطي فيصير في فيه دماً وعطش فرعون حتى أشفى على الهلاك فكان يمصّ الأشجار الرطبة فإذا مضغها صار ماؤها الطيّب ملحاً أجاجاً ، وقال سعيد بن المسيب : سال عليهم النيل دماً ، وقال زيد بن أسلم : الدّم هو الرعاف سلطه اللّه عليهم ومعنى تفصيل الآيات تبيينها وإزالة أشكالها والتفصيل في الإجرام هو التفريق وفي المعاني يراد به أنه فرق بينها فاستبانت وامتاز بعضها من بعض فلا يشكل على العاقل أنها من آيات اللّه التي لا يقدر عليها غيره وأنها عبرة لهم ونقمة على كفرهم ، وقال ابن قتيبة سماها مفصلات لأن بين الآية والآية فصلاً من الزمان ، قيل كانت الآية تمكث من السبت إلى السبت ثم يبقون عقيب رفعها شهراً في عافية ،

وقيل ثمانية أيام ثم تأتي الآية الأخرى ، وقال وهب : كان بن كل آيتين أربعون يوماً ، وقال نوف البكالي مكث موسى عليه السلام في آل فرعون بعد إيمان السحرة عشرين سنة يريهم الآيات وحكمة التفصيل بالزمان أنه يمتحن فيه أحوالهم أيفون بما عاهدوا أم ينكثون فتقوم عليهم الحجة وانتصب { مّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ } على الحال والذي دلّت عليه الآية أنه أرسل عليهم ما ذكر فيها

وأما كيفية الإرسال ومكث ما أرسل عليهم من الأزمان والهيئات فمرجعه إلى النّقل عن الأخبار الإسرائيليات إذ لم ب { ثبت} من ذلك في الحديث النبوي شيء ومع إرسال جنس الآيات استكبروا عن الإيمان وعن قبول أمر اللّه تعالى ، و { كَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ } إخبار منه تعالى عنهم باجترامهم على اللّه وعلى عباده .

١٣٤

ولما وقع عليهم . . . . .

{وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرّجْزُ قَالُواْ يامُوسَى مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِى إِسْراءيلَ } الظاهر أنّ الرجز هنا هو ما كان أرسل عليهم من الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم فإن كان أريد الظاهر كان سؤالهم موسى بعد وقوع جميعها لا بعد وقوع نوع منها ويحتمل أن يكون المعنى { وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ } نوع من { الرّجْزَ } فيكون سؤالهم قد تخلّل بين نوع ونوع ومعنى { وَقَعَ عَلَيْهِمُ } نزل عليهم وثبت وقال قوم :

{الرّجْزَ } الطاعون نزل بهم مات منهم في ليلة سبعون ألف قبطي وفي قولهم { ادْعُ لَنَا رَبَّكَ } وإضافة الرب إلى موسى عدم إقرار بأنه ربهم حيث لم يقولوا ادعُ لنا ربنا ومعنى { بِمَا عَهِدَ عِندَكَ } بما اختصك به فنبأك أو بما وصّاك أن تدعو به ليجيبك كما أجابك في الآيات أو بما استودعك من العلم والظاهر تعلق { بِمَا عَاهَدَ } بأدع لنا ربك ومتعلق الدعاء محذوف تقديره { ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ } في كشف هذا الرّجز { وَلَئِنِ كَاشِفَاتُ } جواب لقسم محذوف في موضع الحال من قالوا أي قالوا ذلك مقسمين { لَئِن كَشَفْتَ } أو لقسم محذوف معطوف أي وأقسموا لئن كشفت وجوز الزمخشري وابن عطية وغيرهما أن تكون الباء في { بِمَا عَهِدَ عِندَكَ } باء القسم أي قالوا { ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ } في كشف الرجز مقسمين { بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ } أو وأقسموا { بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ } والمعنى { لَئِن كَشَفْتَ } بدعائك وفي قولهم لنؤمنن لك دلالة على أنه طلب منهم الإيمان كما أنه طلب منهم إرسال بني إسرائيل وقدّموا الإيمان لأنه المقصود الأعظم الناشىء منه الطواعية وفي إسناد الكشف إلى موسى حيدة عن إسناده إلى اللّه تعالى لعدم إقرارهم بذلك .

١٣٥

فلما كشفنا عنهم . . . . .

{فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ } في الكلام حذف دل عليه المعنى وهو فدعا موسى فكشف عنهم الرجز وأسند تعالى الكشف إليه لأنه هو الكاشف حقيقة فلما كان من قولهم أسندوه إلى موسى وهو إسناد مجازي ولما كان إخباراً من اللّه أسنده تعالى إليه لأنه إسناد حقيقي ولما كان الرجز من جملة أخرى غير مقولة لهم حسن إظهاره دون ضميره وكان جائزاً أن يكون التركيب في غير القرآن { فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ } ومعنى { إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ } إلى حد من الزمان هم بالغوه لا محالة فيعذبون فيه لا ينفعهم ما تقدّم لهم من الإمهال وكشف العذاب إلى حلوله قاله الزمخشري ، و

قال ابن عطية : يريد به غاية كل واحد منهم بما يخصّه من الهلاك والموت هذا اللازم من اللفظ كما تقول أخرت كذا إلى وقت كذا وأنت لا تريد وقتاً بعينه ، وقال يحيى بن سلام : الأجل هاهنا الغرق قال وإنما قال هذا القول لأنه رأى جمهور هذه الطائفة قد اتفق أن هلكت غرقاً فاعتقد أنّ الإشارة هاهنا إنما هي في الغرق وهذا ليس بلازم لأنه لا بد أنه مات منهم قبل الغرق عالم ومنهم من أخر وكشف العذاب عنهم إلى أجل بلغه انتهى وفي التحرير إلى أجل إلى انقضاء مدة إمهالهم وهي المدة المضروبة لإيمانهم ،

وقيل : الغرق ،

وقيل : الموت وإذا فسر الأجل بالموت أو بالغرق فلا يصحّ كشف العذاب إلى ذلك الوقت أي وقت حصول الموت أو الغرق لأنه قد تخلل بين الكشف والغرق أو الموت زمان وهو زمان النكث فينبغي أن يكون التقدير على هذا إلى أقرب أجل هم بالغوه أما إذا كان الأجل هو المدة المضروبة لإيمانهم وإرسالهم بني إسرائيل فلا يحتاج إلى حذف مضاف و { إِلَى أَجَلٍ } قالوا متعلق { بكشفنا } ولا يمكن حمله على التعلق به لأن ما دخلت عليه لما ترتب جوابه على ابتداء وقوعه والغاية تنافي التعليق على ابتداء الوقوع فلا بدّ من تعقل الابتداء والاستمرار حتى تتحقق الغاية ولذلك لا تصحّ الغاية في الفعل عن المتطاول لا تقول لما قتلت زيداً إلى يوم الخميس جرى كذا ولا لما وثبت إلى يوم الجمعة اتفق كذا وجعل بعضهم إلى أجل من تمام الرجز أي الرّجز كائناً إلى أجل والمعنى أنّ العذاب كان مؤجلاً ويقوي هذا التأويل كون جواب لما جاء بإذا الفجائية أي فلما كشفنا عنهم العذاب المقرر عليهم { أَخَّرْتَنِى إِلَى أَجَلٍ } فاجأوا بالنكث وعلى معنى تعيينه الكشف بالأجل المبلوغ لا تتأتى المفاجأة إلى على تأويل الكشف بالاستمرار المغيا ، فتكون المفاجأة بالنكث إذ ذاك ممكنة ،

وقال الزمخشري :{ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ } جواب لما يغيا فلما كشفا عنهم فاجأوا النكث وبادروه ولم يؤخّروه ولكن لما

كشف عنهم نكثوا انتهى ، ولا يمكن التغيية مع ظاهر هذا التقدير وهم بالغوه جملة في موضع الصفة لأجل وهي أفخم من الوصف بالمفرد لتكرر الضمير فليس في حسن التركيب كالمفرد لو قيل في غير القرآن إلى أجل بالغيه ومجيء إذا الفجائية جواباً للما مما يدل على أن لما حرف وجوب لوجوب كما يقول سيبويه لا ظرف كما زعم بعضهم لافتقاره إلى عامل فيه والكلام تام لا يحتمل إضماراً ولا يعمل ما بعد إذا الفجائية فيما قبلها ،

وقرأ أبو هاشم وأبو حيوة { يَنكُثُونَ } بكسر الكاف .

١٣٦

فانتقمنا منهم فأغرقناهم . . . . .

{فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ } أي أحللنا بهم النقمة وهي ضدّ النعمة فإن كان الانتقام هو الإغراق فتكون الفاء تفسيرية وذلك على رأي من أثبت هذا المعنى للفاء وإلا كان المعنى فأردنا الانتقام منهم والباء في { بِأَنَّهُمْ } سببية والآيات هي المعجزات التي ظهرت على يد موسى عليه السلام والظاهر عود الضمير في { عَنْهَا } إلى الآيات أي غفلوا عما تضمنته الآيات من الهدى والنجاة وما فكروا فيها وتلك الغفلة هي سبب التكذيب ،

وقيل يعود الضمير على النقمة الدالّ عليها { فَانتَقَمْنَا } أي كانوا عن النقمة وحلولها بهم غافلين والغفلة في القول الأول عنى به الإعراض عن الشيء لأنّ الغفلة عنه والتكذيب لا يجتمعان من حيث أن الغفلة تستدعي عدم الشعور بالشيء والتكذيب به يستدعي معرفته ولأنه لو أريد صفة الغفلة لكانوا معذورين لأنّ تلك ليست باختيار العبد .

١٣٧

وأورثنا القوم الذين . . . . .

{وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الاْرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا } لما قال موسى عليه السلام { عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِى الاْرْضِ } كان كما ترجى موسى فأغرق أعداءهم في اليم واستخلف بني إسرائيل في الأرض { وَالَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ } هم بنو إسرائيل كان فرعون يستعبدهم ويستخدمهم والاستضعاف طلب الضعيف بالقهر كثر استعماله حتى قيل استضعفه أي وجده ضعيفاً{ مَشَارِقَ الاْرْضِ وَمَغَارِبَهَا } قالت فرقة : هي الأرض كلها ، قال ابن عطية ذلك على سبيل المجاز لأنه تعالى ملكهم بلاداً كثيرة

وأما على الحقيقة فإنه ملك ذريّتهم وهو سليمان بن داود ، وقال الحسن أيضاً :{ مَشَارِقَ الاْرْضِ } الشام { وَمَغَارِبَهَا } ديار مصر ملكهم اللّه إياها بإهلاك الفراعنة والعمالقة وقاله الزمخشري قال : وتصرفوا فيها كيف شاؤوا في أطرافها ونواحيها الشرقية والغربية ، وقال الحسن أيضاً وقتادة وغيرهما : هي أرض الشام ، وفي كتاب النقاش عن الحسن : أرض مصر والبركة فيها بالماء والشجر قاله ابن عباس وذيله غيره فقال بالخصب والأنهار وكثرة الأشجار وطيب الثمار ،

وقيل : البركة بإقدام الأنبياء وكثرة مقامهم بها ودفنهم فيها وهذا يتخرج على من قال أرض الشام ،

وقيل :{ بَارَكْنَا } جعلنا الخير فيها دائماً ثابتاً وهذا يشير إلى أنها مصر . وقال الليث هي مصر بارك اللّه فيها بما يحدث عن نيلها من الخيرات وكثرة الحبوب والثمرات وعن عمر رضي اللّه عنه أن نيل مصر سيّد الأنهار في حديث طويل وروي أنه كانت الجنات بحافتي هذا النيل من أوله إلى آخره في البرين جميعاً ما بين أسوان إلى رشيد وكانت الأشجار متصلة لا ينقطع منها شيء عن شيء ، وقال أبو بصرة الغفاري : مصر خزائن الأرض كلها ، ألا ترى إلى قول يوسف عليه السلام { اجْعَلْنِى عَلَى خَزَائِنِ الاْرْضِ } ويروي أن عيسى عليه السلام أقام بها اثنتي عشرة سنة وذلك أن اللّه أوحى إلى مريم أن الحقي بمصر وأرضها وذكر أنها الرّبوة التي

قال تعالى :{ وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ءايَةً وَءاوَيْنَاهُمَا}

وقال ابن عمر : البركات عشر ففي مصر تسع وفي الأرض كلها واحدة ، وانتصاب مشارق على أنه مفعول ثان لأورثنا و { الَّتِى بَارَكْنَا } نعت لمشارق الأرض ومغاربها وقول الفرّاء إنّ انتصاب { مَشَارِقَ } والمعطوف عليها على الظرفية والعامل فيهما هو { يُسْتَضْعَفُونَ } و { الَّتِى بَارَكْنَا } هو المفعول الثاني أي الأرض التي باركنا فيها تكلف وخروج عن الظاهر بغير دليل ومن أجاز أن تكون { الَّتِى } نعتاً للأرض فقوله ضعيف للفصل بالعطف بين المنعوت ونعته .

{وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِى إِسْرءيلَ بِمَا صَبَرُواْ} أي مضت

واستمرت من قولهم تمّ على الأمر إذا مضى عليه ، قال مجاهد : المعنى ما سبق لهم في علمه وكلامه في الأزل من النجاة من عدوهم والظهور عليه ، وقال المهدوي وتبعه الزمخشري : الكلمة قوله تعالى { وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ فِى الاْرْضِ إِلَى قَوْلُهُ مَّا كَانُواْ يَحْذَرونَ}

وقيل :{ هِىَ قَوْلُهُ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ } الآية ،

وقيل : الكلمة النعمة والحسنى تأنيث الأحسن وهي صفة للكلمة وكانت الحسنى لأنها وعد بمحبوب قاله الكرماني والمعنى على من بقي من مؤمني بني إسرائيل { بِمَا صَبَرُواْ } أي بصبرهم ،

وقرأ الحسن كلمات على الجمع ورويت عن عاصم وأبي عمرو ،

قال الزمخشري : ونظيره { لَقَدْ رَأَى مِنْ ءايَاتِ رَبّهِ الْكُبْرَى } انتهى ، يعني نظير وصف الجمع بالمفرد المؤنث ولا يتعيّن ما قاله من أن الكبرى نعت لآيات ربه إذ يحتمل أن يكون مفعولاً لقوله رأى أيّ الآية الكبرى فيكون في الأصل نعتاً لمفرد مؤنث لا يجمع وهو أبلغ في الوصف .

{وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ } أي خربنا قصورهم وأبنيتهم بالهلاك والتدمير الإهلاك وإخراب الأبنية ،

وقيل : ما كان يصنع من التدبير في أمر موسى عليه السلام وإخماد كلمته .

وقيل : المراد إهلاك أهل القصور والمواضع المنيعة وإذا هلك الساكن هلك المسكون { وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ } أي يرفعون من الأبنية المشيدة كصرح هامان وغيره ، وقال الحسن : المراد عرش الكروم ومنه { وَجَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ } ،

وقرأ ابن عامر وأبو بكر بضم الراء وباقي السبعة والحسن ومجاهد وأبو رجاء بكسر الراء هنا وفي النحل وهي لغة الحجاز ، وقال اليزيدي : هي أفصح ،

وقرأ ابن أبي عبلة يعرشون بضم الياء وفتح العين وتشديد الراء وانتزع الحسن من هذه الآية أنه ينبغي أنه لا يخرج على ملوك السماء وإنما ينبغي أن نصبر لهم وعليهم فإنّ اللّه يدمّرهم ، وروي عنه وعن غيره إذا قابل الناس البلاء بمثله وكلهم اللّه إليه وإذا قابلوه بالصبر وانتظار الفرج أتى الفرج ،

قال الزمخشري : وبلغني أنه قرأ بعض الناس يغرسون من غرس الأشجار وما أحسبه إلا تصحيفاً وهذا آخر ما اقتصّ اللّه تعالى من نبأ فرعون والقبط وتكذيبهم بآيات اللّه وظلمهم ومعارضته ثم أتبعه اقتصاص نبأ بني إسرائيل وما أحدثوه بعد إنقاذهم من مملكة فرعون ، واستعباده ، ومعاينتهم الآيات العظام ومجاوزتهم البحر من عبادة البقر ، وطلب رؤية اللّه جهرة ، وغير ذلك من أنواع الكفر والمعاصي ليعلم حال الإنسان وأنه كما وصف ظلوم كفار جهول كفور إلاّ من عصمه اللّه تعالى و { قَلِيلٌ مّنْهُمْ عِبَادِىَ الشَّكُورُ } وليسلي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مما رأى من بني إسرائيل بالمدينة .

١٣٨

وجاوزنا ببني إسرائيل . . . . .

{وَجَاوَزْنَا بِبَنِى إِسْراءيلَ الْبَحْرَ } لما بين أنواع نعمه تعالى على بني إسرائيل بإهلاك عدوّهم اتبع بالنعمة العظمى من إراءتهم هذه الآية العظيمة وقطعهم البحر مع السلامة والبحر بحر القلزم ، وأخطأ من قال إنه نيل مصر ومعنى { جاوزنا } قطعنا بهم البحر يقال جاوز الوادي إذا قطعه والباء للتعدية يقال جاوز الوادي إذا قطعه ، وجاوز بغيره البحر عبر به فكأنه قال وجزنا ببني إسرائيل أي أجزناهم البحر وفاعل بمعنى فعل المجرد يقال جاوز وجاز بمعى واحد ،

وقرأ الحسن وابراهيم وأبو رجاء ويعقوب وجوزنا وهو مما جاء فيه فعل بمعنى فعل المجرد نحو قدّر وقدر وليس التضعيف للتعدية روي أنه عبر بهم موسى عليه السلام يوم عاشوراء بعدما أهلك اللّه فرعون وقومه فصاموا شكراً للّه وأعطى موسى التوراة يوم النحر فبيّن الأمرين أحد عشر شهراً .{ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ } قال قتادة وأبو عمرو الجوني : هم من لخم وجذام كانوا يسكنون الرّيف ،

وقيل : كانوا نزولاً بالرقة رقة مصر وهي قرية بريف مصر تعرف بساحل البحر يتوصل منها إلى الفيّوم

وقيل : هم الكنعانيون الذين أمر موسى بقتالهم ومعنى { فَاتُواْ } فمروا يقال أتت عليه سنون ، ومعنى { يَعْكُفُونَ } يقيمون ويواظبون على عبادة أصنام ،

وقرأ الأخوان وأبو عمر

وفي رواية عبد الوارث بكسر الكاف وباقي السبعة بضمها وهما فصيحتان والأصنام قيل : بقر حقيقة . وقال ابن جريج كانت تماثيل بقر من حجارة وعيدان ونحوه وذلك كان أول فتنة العجل .{ قَالُواْ يأَبَانَا مُوسَى اجْعَلْ لَّنَا إِلَاهًا كَمَا لَهُمْ ءالِهَةٌ } الظاهر أن طلب مثل هذا كفر وارتداد وعناد جروا في ذلك على عادتهم في تعنتهم على أنبيائهم وطلبهم ما لا ينبغي وقد تقدّم من كلامهم { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللّه جَهْرَةً } وغير ذلك مما هو كفر ، و

قال ابن عطية : الظاهر أنهم استحسنوا ما رأوا من آلهة أولئك القوم فأرادوا أن يكون ذلك في شرع موسى وفي جملة ما يتقرّب به إلى اللّه تعالى وإلا فبعيد أن يقولوا لموسى { اجْعَلْ لَّنَا إِلَاهًا } نفرده بالعبادة انتهى وفي الحديث مروا في غزوة حنين على روح سدرة خضراء عظيمة فقيل يا رسول اللّه إجعل لنا ذات أنواط وكانت ذات أنواط سرحة لبعض المشركين يعلقون بها أسحلتهم ولها يوم يجتمعون إليها فأراد قائل ذلك أن يشرع الرسول ذلك في الإسلام ورأى الرسول عليه السلام ذلك ذريعة إلى عبادة تلك السرحة فأنكره وقال { اللّه أَكْبَرُ قُلْتُمْ وَاللّه كَمَا قَالَ بَنِى إِسْراءيلَ }{ اجْعَلْ لَّنَا إِلَاهًا } خالقاً مدبراً لأن الذي يجعله موسى لا يمكن أن يجعله خالقاً للعالم ومدبّراً فالأقرب أنهم طلبوا أن يعين لهم تماثيل وصوراً يتقربون بعبادتها إلى اللّه تعالى وقد حكى عن عبادة الأوثان قولهم { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى اللّه زُلْفَى } وأجمع كلّ الأنبياء عليهم السلام على أن عبادة غير اللّه كفر سواء اعتقد كونه إلهاً للعالم أو أن عبادته تقرب إلى اللّه انتهى ، ويظهر أن ذلك لم يصدر من جميعهم فإنه كان فيهم السبعون المختارون ومن لا يصدر منه هذا السؤال الباطل لكنه نسب ذلك إلى بني إسرائيل لما وقع من بعضهم على عادة العرب في ذلك وما في { كَمَا }

قال الزمخشري كافة للكاف ولذلك وقعت الجملة بعدها وقال غيره موصولة حرفية أي كما ثبت لهم آلهة فتكون قد حذف صلتها على حدّ ما قال ابن مالك في أنه إذا حذفت صلة ما فلا بد من إبقاء معمولها كقولهم لا أكلمك ما إن في السماء نجماً أي ما ثبت أن في السماء نجماً ويكون { ءالِهَةً } فاعلاً يثبت المحذوفة ،

وقيل : موصولة اسمية ولهم صلتها والضمير عائد عليها مستكن في المجرور والتقدير كالذي لهم وآلهة بدل من ذلك الضمير المستكنّ .{ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } تعجب موسى عليه السلام من قولهم على أثر ما رأوا من الآيات العظيمة والمعجزات الباهرة ووصفهم بالجهل المطلق وأكده بأن لانه لا جهل أعظم من هذه المقالة ولا أشنع وأتى بلفظ { تَجْهَلُونَ } ولم يقل جهلتم إشعاراً بأن ذلك منهم كالطبع والغريزة لا ينتقلون عنه في ماض ومستقبل .

١٣٩

إن هؤلاء متبر . . . . .

{إِنَّ هَؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } الإشارة بهؤلاء إلى العاكفين على عبادة الأصنام ومعنى متبرّ مهلك مدمر مكسر وأصله الكسر ، وقال الكلبي : مبطل ، وقال أبو اليسع : مضلل ، وقال السدّي وابن زيد : مدمر رديء سيىء العاقبة وما هم فيه يعمّ جميع أحوالهم وبطل عملهم هو اضمحلاله بحيث لا ينتفع به وإن كان مقصوداً به التقرّب إلى اللّه تعالى { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً } ،

قال الزمخشري : وفي إيقاع { هَؤُلاء } إسماً ل { إن} وتقديم خبر المبتدأ من الجملة الواقعة خبراً لها واسم لعباده بأنهم هم المعرضون للتبار وأنه لا يعدوهم البتة وأنه لهم ضربة لازم ليحذرهم عاقبة ما طلبوا ويبغض لهم فيما أحبوا انتهى ولا يتعيّن ما قاله من أنه قد جزم خبر المبتدأ من الجملة

الواقعة خبراً لأنّ لأن الأحسن في إعراب مثل هذا أن يكون خبر { ءانٍ }{ مُتَبَّرٌ } وما بعده مرفوع على أنه مفعول لم يسمِّ فاعله وكذلك ما { كَانُواْ } هو فاعل بقوله { وَبَاطِلٌ } فيكون إذ ذاك قد أخبر عن اسم إنّ بمفرد لا جملة وهو نظير أن زيداً مضروب غلامه فالأحسن في الإعراب أن يكون غلامه مرفوعاً على أنه لم يسمّ فاعله ومضروب خبر أن والوجه الآخر وهو أن كون مبتدأ ومضروب خبره جائز مرجوح .

١٤٠

قال أغير اللّه . . . . .

{قَالَ أَغَيْرَ اللّه أَبْغِيكُمْ إِلَاهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ } ما أحسن ما خاطبهم موسى عليه السلام بدأهم أولاً بنسبتهم إلى الجهل ثم ثانياً أخبرهم بأن عبّاد الأصنام ليسوا على شيء بل مآل أمرهم إلى الهلاك وبطلان العمل وثالثاً أنكر وتعجب أن يقع هو عليه السلام في أن يبغي لهم غير اللّه إلهاً أي { أَغَيْرَ } المستحق للعبادة والألوهية أطلب لكم معبوداً وهو الذي شرفكم واختصكم بالنعم التي لم يعطها من سلف من الأمم لا غيره فكيف أبغي لكم إلهاً غيره ومعنى { عَلَى الْعَالَمِينَ } على عالمي زمانهم أو بكثرة الأنبياء فيهم ، قال ابن القشيري : بإهلاك عدوهم وبما خصّهم من الآيات وانتصب { غَيْرِ } مفعولاً بأبغيكم أي أبغي لكم غير اللّه، { وإلهاً } تمييز عن { مَّاء غَيْرِ } أو حال أو على الحال { وإلهاً } المفعول والتقدير أبغي لكم إلهاً غير اللّه فكان غير صفة فلما تقدم انتصب حالاً ، و

قال ابن عطية : وغير منصوبة بفعل مضمر هذا هو الظاهر ويحتمل أن ينتصب على الحال انتهى ، ولا يظهر نصبه بفعل مضمر لأن أبغي مفرّغ له أو لقوله إلهاً فإن تخيّل أنه منصوب بأبغي مضمرة يفسرها هذا الظاهر فلا يصحّ لأنّ الجملة المفسرة لا رابط فيها لا من ضمير ولا من ملابس يربطها بغير فلو كان التركيب أغير اللّه أبغيكموه لصحّ ويحتمل وهو فضلكم أن يكون حالاً وأن كون مستأنفاً .

١٤١

وإذ أنجيناكم من . . . . .

{وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مّنْ ءالِ فِرْعَونَ يَسُومُونَكُمْ سُوء الْعَذَابِ يُقَتّلُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذالِكُمْ بَلاء مّن رَّبّكُمْ عَظِيمٌ }

وقرأ الجمهور { أَنْجَيْنَاكُمْ } وفرقة نجّيناكم مشدداً وابن عامر أنجاكم فعلى أنجاكم يكون جارياً على قوله { وَهُوَ فَضَّلَكُمْ } خاطب بها موسى قومه وفي قراءة النون خاطبهم اللّه تعالى بذلك ، وقال الطبري : الخطاب لمن كان على عهد الرسول صلى اللّه عليه وسلم تقريعاً لهم بما فعل أوائلهم وبما جاؤوا به وتقدّم تفسير نظير هذه الآية في أوائل البقرة ،

وقرأ نافع { يَقْتُلُونَ } من قتل والجمهور من قتل مشدداً .

١٤٢

وواعدنا موسى ثلاثين . . . . .

{وَواعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً } روي أنّ موسى عليه السلام وعد بني إسرائيل وهو بمصر إن أهلك اللّه عدوهم أتاهم بكتاب من عند اللّه فيه بيان ما يأتون وما يذرون فلما هلك فرعون سأل موسى ربه تعالى لكتاب فأمره بصوم ثلاثين يوماً وهو شهر ذي القعدة فلما أتمّ الثلاثين أنكر خلوف فيه فتسوك ، فقالت الملائكة كنا نشم من فيك رائحة المسك فأفسدته بالسواك ،

وقيل أوحى اللّه إليه أما علمت أن خلوف فم الصائم عند اللّه أطيب من ريح المسك فأمره أن يزيد عليه عشرة أيام من ذي الحجة لذلك ،

وقيل أمره اللّه بأن يصوم ثلاثين يوماً وأن يعمل فيها بما يقربه من اللّه تعالى ثم أنزلت عليه التوراة في العشر وكلم فيها وأجمل ذكر

الأربعين في البقرة وفصل هنا ، وقال الكلبي : لما قطع موسى البحر ببني إسرائيل وغرق فرعون قالت بنو إسرائيل لموسى : ائتنا بكتاب من ربنا كما وعدتنا وزعمت أنك تأتينا به إلى شهر فاختار موسى من قومه سبعين رجلاً لينطلقوا معه فلما تجهّزوا قال اللّه تعالى لموسى أخبر قومك أنك لن تأتيهم أربعين ليلة وذلك حين أتمت بعشر فلما خرج موسى بالسبعين أمرهم أن ينتظروه أسفل الجبل وصعد موسى الجبل وكلمه اللّه أربعين يوماً وأربعين ليلة وكتب له الألواح ثم إنّ بني إسرائيل عدوا عشرين ليلة وعشرين يوماً وقالوا قد أخلفنا موسى الوعد وجعل لهم السّامري العجل فعبدوه ،

وقيل زيدت العشر بعد الشهر للمناجاة ،

وقيل : التفت في طريقه فزيدها ،

وقيل : زيدت عقوبة لقومه على عبادة العجل ،

وقيل : أعلم موسى بمغيبه ثلاثين ليلة فلما زاده العشر في مغيبه لم يعلموا بذلك ووجست نفوسهم للزيادة على ما أخبرهم فقال السامري هلك موسى وليس براجع وأضلّهم بالعجل فاتبعوه ، قاله ابن جريج وفائدة التفصيل قالوا : إنّ الثلاثين للتهيؤ للمناجاة والعشر لإنزال التوراة وتكليمه ، وقال أبو مسلم : بادر إلى ميقات ربه قبل قومه لقوله { وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ يامُوسَى مُوسَى } الآية فجائز أن يكون أتى الطور عند تمام الثلاثية فلما أعلم بخبر قومه مع السامري رجع إلى قومه قبل تمام مدة الوعد ثم عاد إلى الميقات في عشر أخر ، قيل : لا يمتنع أن يكون وعدان أول حضره موسى وثان حضره المختارون ليسمعوا كلام اللّه فاختلف الوعد لاختلاف الحاضرين والثلاثون هي شهر ذي القعدة والعشر من ذي الحجة قاله ابن عباس ومسروق ومجاهد وتقدّم الخلاف في قراءة ووعدنا وقالوا انتصب { ثَلَاثِينَ } على أنه مفعول ثان على حذف مضاف فقدره أبو البقاء إتيان ثلاثين أو تمام ثلاثين ، وقال ابن عطية { وثلاثين } نصب على تقدير جلناه أو مناجاة ثلاثين وليست منتصبة على الظرف والهاء في { لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا } عائدة على المواعدة المفهومة من { واعَدْنَا } ، وقال الحوفي الهاء والألف نصب باتممناها وهما راجعتان إلى { ثَلَاثِينَ } ولا يظهر لأنّ الثلاثين لم تكن ناقصة فتممت بعشر وحذف مميز عشر أي عشر ليال لدلالة ما قبله عليه وفي مصحف أبي وتممناها مشدّداً والميقات ما وقت له من الوقت وضربه له وجاء بلفظ ربه ولم يأتِ على { واعَدْنَا } فكان يكون للتركيب قتمّ ميقاتنا لأن لفظ { رَبَّهُ } دالّ على أنه مصلحة وناظر في أمره ومالكه والمتصرف فيه ، قيل : والفرق بين الميقات والوقت أنّ الميقات ما قدر فيه عمل من الأعمال والوقت وقت الشيء وانتصب { أَرْبَعِينَ } على الحال قاله الزمخشري ، الحال فيه فقال أتى ب { تم} بالغاً هذا العدد فعلى هذا لا يكون الحال { أَرْبَعِينَ } بل الحال هذا المحذوف فينا في قوله { وأربعين } ليلة نصب على الحال وقال ابن عطية أيضاً ويصح أن يكون أربعين ظرفاً من حيث هي عدد أزمنة ،

وقيل { وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ } مفعول به بتمّ لأن معناه بلغ والذي يظهر أنه تمييز محول من الفاعل وأصله فتم أربعون ميقات ربه أي كملت ثم أسند التمام لميقات وانتصب أربعون على التمييز والذي يظهر أن هذه الجملة تأكيد وإيضاح ،

وقيل : فائدتها إزالة توهم العشر من الثلاثين لأنه يحتمل إتمامها بعشر من الثلاثين ،

وقيل : إزالة توهم أن تكون عشر ساعات أي أتممناها بعشر ساعات .

{وَقَالَ مُوسَى لاِخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِى فِى قَوْمِى وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ } وقرء شاذاً{ هَارُونَ } بالضم على النداء أي يا هارون أمره حين أراد المضي للمناجاة والمغيب فيها أن يكون خليفته في قومه وأن يصلح في نفسه أو ما يجب أن يصلح من أمر قومه ونهاه أن يتبع سبيل من أفسد وفي النهي دليل على وجود المفسدين ولذلك نهاه عن اتباع سبيلهم وأمره إياه بالصلاح ونهيه عن اتباع سبيل المفسدين هو على سبيل التأكيد لا لتوهّم أنه يقع منه خلاف الإصلاح واتباع تلك السبيل لأن منصب النبوّة منزّه عن ذلك ومعنى

{اخْلُفْنِى } استبد بالأمر وذلك في حياته إذ راح إلى مناجاة ربه وليس المعنى أنك تكون خليفتي بعد موتي ألا ترى أن هارون عليه السلام مات قبل موسى عليهما السلام ، وليس في قول الرسول صلى اللّه عليه وسلم لعليّ { أنت مني كهارون من موسى} دليل على أنه خليفته بعد موته إذ لم يكن هارون خليفة بعد موت موسى وإنما استخلف الرسول عليًّا على أهل بيته إذ سافر الرسول عليه السلام في بعض مغازيه كما استخلف ابن أم مكتوم على المدينة فلم يكن في ذلك دليل على أنه يكون خليفة بعد موت الرسول . { وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلِمَةُ رَبَّهُ } أي للوقت الذي ضربه له أي لتمام الأربعين كما تقول أتيته لعشر خلون من الشهر ومعنى اللام الاختصاص والجمهور على أنه وحده خصّ بالتكليم إذ جاء للميقات ، وقال القاضي : سمع هو والسبعون كلام اللّه ،

قال ابن عطية : خلق له إدراكاً سمع به الكلام القائم بالذات القديمة الذي هو صفة ذات ،

وقال ابن عباس وابن جبير : أدنى اللّه تعالى موسى حتى سمع صريف الأقلام في اللوح المحفوظ

وقال الزمخشري :{ وَكَلِمَةُ رَبَّهُ } من غير واسطة كما يكلم الملك وتكليمه أنْ يخلق الكلام منظوقاً به في بعض الأجرام كما خلقه محفوظاً في اللوح وروي أن موسى كان يسمع الكلام في كل جهة ،

وعن ابن عباس كلمة أربعين يوماً وأربعين ليلة وكتب له الألواح ،

وقيل : إنما كلمة في أول الأربعين انتهى ، وقال وهب كلمه في ألف مقام وعلى أثر كل مقام يرى نور على وجهه ثلاثة أيام ولم يقرب النساء مذ كلّمه اللّه وقد أوردوا هنا الخلاف الذي في كلام اللّه وهو مذكور ودلائل المختلفين مذكور في كتب أصول الدين وكلّمه معطوف على جاء ،

وقيل حال وعدل عن قوله وكلمناه إلى قوله { وَكَلَّمَهُ } ربه للمعنى الذي عدل إلى قوله { فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبّهِ } وفلما تجلّى ربه .{ قَالَ رَبّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ} قال السدّي وأبو بكر الهذلي : لما كلمه وخصّه بهذه المرتبة طمحت همته إلى رتبة الرؤية وتشوّف إلى ذلك فسأل ربه أن يريه نفسه . قال الزجاج : شوّقه الكلام فعيل صبره فحمله على سؤال الرؤية ، وقال الرّبيع : لم يعهد إليه في الرؤية فظن أن السؤال في هذا الوقت جائز ، وقال السدي : غار الشيطان في الأرض فخرج بين يديه فقال إنما يكلمك شيطان فسأل الرؤية ولو لم تجز الرؤية ما سألها ؟

قال ابن عطية : ورؤية اللّه عند الأشعرية وأهل السنة جائزة عقلاً لأنه من حيث هو موجود تصحّ رؤيته وقررت الشريعة رؤية اللّه في الآخرة ومنعت من ذلك في الدنيا بظواهر الشرع فموسى عليه السلام لم يسأل محالاً وإنما سأل جائزاً وقوله { لَن تَرَانِى وَلَاكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ } الآية ليس بجواب من سأل محالاً وقد قال تعالى لنوح عليه السلام :{ فَلاَ تَسْأَلْنى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنّى أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ } فلو سأل موسى محالاً لكان في الجواب زجر ما وتيئيس ، وقال الكرماني وغيره : في الكلام محذوف تقديره لن تراني في الدنيا ،

وقيل لن تقدر أن تراني ،

وقيل لن تراني بسؤالك ،

وقيل لن تراني ولكن ستراني حين أتجلى للجبل ،

قال الزمخشري: { فإن قلت } : كيف طلب موسى عليه السلام ذلك وهو من أعلم الناس باللّه تعالى وصفاته وما يجوز عليه وما لا يجوز وبتعاليه عن الصفة التي هي إدراك ببعض الحواس وذلك إنما يصحّ فيما كان في جهة وما ليس بجسم ولا عرض فمحال أن يكون في جهة ومنع المجبرة إحالته في العقول غير لازم لأنه ليس بأول مكابرتهم وارتكابهم وكيف يكون طالبه وقد قال حين أخذتهم الرّجفة الذين { قَالُواْ أَرِنَا اللّه جَهْرَةً أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا } إلى قوله { تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء } فتبرأ من فعلهم ودعاهم سفهاء وضلالاً ، { قلت } : ما كان طلبه الرؤية إلا ليسكت هؤلاء الذين دعاهم سفهاء

وضلالاً وتبرأ من فعلهم وليلقمهم الحجة وذلك أنهم حين طلبوا الرؤية أنكر عليهم وأعلمهم الخطأ ونبّههم على الحق فلجّوا وتمادوا في لجاجهم وقالوا لا بدّ ولن نؤمن لك حتى نراه فأراد أن يسمعوا النص من عند اللّه باستحالة ذلك وهو قوله لن تراني ليتيقنوا وينزاح عنهم ما كان داخلهم من الشبهة فلذلك قال { رَبّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ  فإن قلت} : فهلا قال أرهم ينظرون إليك { قلت} : لأنّ اللّه سبحانه إنما كلم موسى وهم يسمعون فلما سمعوا كلام رب العزة أرادوا أن يرى موسى ذاته فيبصروه معه كما أسمعه كلامه فسمعوه معه إرادة مبنية على قياس فاسد فلذلك قال موسى أرني { أَنظُرْ إِلَيْكَ } ولأنه إذا زجر عما طلب وأنكر عليه مع نبوته واختصاصه وزلفته عند اللّه

وقيل له لن يكون ذلك كان غيره أولى بالإنكار ولأن الرسول إمام أمته فكان ما يخاطب به أو يخاطب راجعاً إليهم وقوله أنظر إليك وما فيه من معنى المقابلة التي هي محض التشبيه والتجسيم دليل على أنه ترجمة على مقترحهم وحكاية لقولهم وجلّ صاحب الجمل أن يجعل اللّه منظوراً إليه مقابلاً بحاسة النظر فكيف بمن هو أعرق في معرفة اللّه من واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد والنظام وأبي الهذيل والشيخين وجميع المسلمين ، وثاني مفعول أرني محذوف أي { أَرِنِى } نفسك اجعلني متمكناً من رؤيتك بأن تتجلى لي فأنظر إليك انتهى .{ قَالَ لَن تَرَانِى} قال ابن عطية نصّ على منعه الرؤية في الدنيا ولن تنفي المستقبل فلو بقينا على هذا النفي بمجرّده لتضمن أنّ موسى لا يراه أبداً ولا في الآخرة لكن ورد من جهة أخرى الحديث المتواتر أن أهل الإيمان يرون اللّه تعالى يوم القيامة فموسى عليه السلام أحرى برؤيته ،

قال الزمخشري: { فإن قلت } : ما معنى { لَنْ } ،{ قلت } : تأكيد النفي الذي تعطيه لا وذلك أن لا تنفي المستقبل تقول لا أفعل غداً فإذا أكدت نفيها قلت لن أفعل غداً والمعنى أن فعله ينافي حال كقوله { لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُواْ لَهُ } وقوله { لاَّ تُدْرِكُهُ الاْبْصَارُ } نفي للرؤية فيما يستقبل ولن تراني تأكيد وبيان { فإن قلت} : كيف قال لن تراني ولم يقل لن تنظر إليّ لقوله { أَنظُرْ إِلَيْكَ } ،{ قلت } : لما قال { أَرِنِى } بمعنى اجعلني متمكناً من الرؤية التي هي الإدراك علم أنّ الطلبة هي الرؤية لا النظر الذي لا إدراك معه فقيل لن تراني ولم يقل لن تنظر إليّ .

{وَلَاكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِى } قال مجاهد وغيره : ولكن سأتجلى للجبل الذي هو أقوى منك وأشدّ فإن استقرّ وأطاق الصبر لهيبتي فسيمكنك أنت رؤيتي ،

قال ابن عطية : فعلى هذا إنما جعل اللّه له الجبل مثالاً ، وقالت فرقة : إنما المعنى سأبتدىء لك على الجبل فإن استقرّ لعظمتي فسوف تراني انتهى ، وتعليق الرؤية على تقدير الاستقرار مؤذن بعدمها إن لم يستقر ونبّه بذلك على أنّ الجبل مع شدته وصلابته إذا لم يستقر فالآدمي مع ضعف بنيته أولى بأن لا يستقرّ وهذا تسكين لقلب موسى وتخفيف عنه من ثقل أعباء المنع .

وقال الزمخشري: { فإن قلت } : كيف اتصل الاستدراك في قوله تعالى { وَلَاكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ } بما قبله ، { قلت } : تصل به على معنى أنّ النظر إليّ محال فلا تطلبه ولكن عليك بنظر آخر وهو أن تنظر إلى الجبل الذي يرجف بك وبمن طلب الرؤية لأجلهم كيف أفعل به وكيف أجعله دكًّا بسبب طلبك للرؤية لتستعظم ما أقدمت عيه بما أريك من عظيم أثره كأنه عز وعلا حقّق عند طلب الرؤية ما مثله عند نسبة الولد إليه في قوله تعالى { وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَانِ وَلَداً }{ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ } كما كان مستقراً ثابتاً ذاهباً في جهانه { فَسَوْفَ تَرَانِى } تعريض لوجود الرؤية لوجود ما لا يكون من استقرار الجبل مكانه حتى يدكّه دكًّا ويسوّيه بالأرض وهذا كلام مدمج بعضه في بعض وأولاد على أسلوب عجيب ونظم بديع ألا ترى كيف تخلص من النظر إلى النظر بكلمة

الاستدراك ثم كيف ثنّى بالوعيد بالرّجفة الكائنة بسبب طلب النظر على الشريطة في وجود الرؤية أعني قوله { فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِى } انتهى وهو على طريقة المعتزلة في نفي رؤية اللّه تعالى ، ولهم في ذلك أقاويل أربعة :

أحدها : ما رووا عن الحسن وغيره أن موسى ما عرف أن الرؤية غير جائزة وهو عارف بعدله وبربه وبتوحيده فلم يبعد أن يكون العلم بامتناع الرؤية وجوازها موقوفاً على السماع ورد ذلك وبأنه يلزم أن تكون معرفته باللّه أقل درجة من معرفة أرذال المعتزلة وذلك باطل بالإجماع ،

الثاني : قال الجبائي وابنه أبو هاشم : سأل الرؤية على لسان قومه فقد كانوا مكثرين للمسألة عنها لا لنفسه فلما منع ظهر أن لا سبيل إليها وردّ بأنه لو كان كذلك لقال أرهم ينظروا إليك ولقيل لن تروني وأيضاً لو كان محالاً لمنعهم عنه كما منعهم عن جعل الآلهة لهم بقوله إنكم قوم تجهلون ، وقال الكعبي سأله الآيات الباهرة التي عندها تزول الخواطر والوساوس عن معرفته كما تقول في معرفة أهل الآخرة ، وردّ ذلك بأنه يقتضي حذف مضاف وسياق الكلام يأبى ذلك فقد أراه من الآيات ما لا غاية بعدها كالعصا وغيرها ، وقال الأصمّ المقصود أن يذكر من الدلائل السمعية ما يدل على امتناع الرؤية حتى يتأكد الدليل العقلي بالدليل السمعي وأل في الجبل للعهد وهو أعظم جبل بمدين يقال له ارريين قال ابن عباس تطاولت الجبال للتجلي وتواضع ارريين فتجلّى له .

١٤٣

ولما جاء موسى . . . . .

التجلي الظهور . الدّك مصدر دككت الشيء فتتة وسحقته مصدر في معنى المفعول والدّك والدقّ بمعنى واحد وقال يزدكاً مستوياً مع الأرض . الخرور السقوط . أفاق ثاب إليه حسّه وعقله . اللوح معروف وهو يعد للكتابة وغيرها وأصله اللمع تلمع وتلوح فيه الأشياء المكتوبة . الحلى معروف وهو ما يتزين به النساء من فضة وذهب وجوهر وغير ذلك من الحجر النفيس . الخوار صوت البقرة . الأسف الحزن يقال أسف يأسف . الجرّ الجذب . الإشمات السرور بما ينال الشخص من المكروه . السكوت والسكات الصمت .

{فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا } ترتب على التجلي أمران أحدهما تفتت الجبل وتفرّق أجزائه ، والثاني خرور موسى مغشياً عليه . قاله ابن زيد وجماعة المفسرين ، وقال السدّي ميتاً ويبعده لفظه أفاق والتجلّي بمعنى الظّهور الجسماني مستحيل على اللّه تعالى ، قال ابن عباس وقوم لما وقع نوره عليه تدكدك ، وقال المبرد : المعنى ظهر للجبل من ملكوت اللّه ما يدكدك به ،

وقيل ظهر جزء من العرش للجبل فتصرّع من هيبته ،

وقيل : ظهر أمره تعالى ،

وقيل :{ تَجَلَّى } لأهل الجبل يريد موسى والسبعين الذين معه ، وقال الضحاك : أظهر اللّه من نور الحجب مثل منخر الثور ، وقال عبد اللّه بن سلام : وكعب الأحبار ما تجلى من عظمة اللّه للجبل إلا مثل سم الخياط ،

وقال الزمخشري : فلما ظهر له اقتداره وتصدّى له أمره وإرادته انتهى ، وقال المتأولون المتكلمون كالقاضي أبي بكر بن الطيب وغيره : إن اللّه خلق للجبل حياة وحسًّا وإدراكاً يرى به ثم تجل له أي ظهر وبدا فاندك الجبل لشدة المطلع فلما رأى موسى ما بالجبل صعق وهذا المعنى مروي عن ابن عباس ، والظاهر نسبة التجلي إليه تعالى على ما يليق به من غير انتقال ولا وصف يدلّ على الجسمية ، قال ابن عباس صار تراباً . وقال مقاتل قطعاً متفرقة ،

وقيل صار ستة أجبل ثلاثة بالمدينة أحد وورقان ورضوى ، وثلاثة بمكة ثور وثبير وحرا ، رواه أنس عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ،

وقيل ذهب أعلاه وبقي أسفله ،

وقيل صار غباراً تذروه الرياح ، وقال سفيان : روى أنه انساح في الأرض وأفضى إلى البحر الذي تحت الأرضين ، قال ابن الكلبي : فهو يهوي فيه إلى يوم القيامة ، وقال الجمهور { دَكّاً } أي مدكوكاً أو ذا دك

وقرأ حمزة والكسائي دكاء على وزن حمراء والدكاء الناقة التي لا سنام لها والمعنى جعله أرضاً دكاء تشبيهاً بالناقة الدكاء ، وقال الربيع بن خيثم : ابسط يدك دكاء أي مدّها مستوية ،

وقال الزمخشري والدكاء اسم للرابية الناشرة من الأرض كالدكة

انتهى ، وهذا يناسب قول من قال إنه لم يذهب بجملته وإنما ذهب أعلاه وبقي أكثر ،

وقرأ يحيى بن وثاب { دَكّاً } أي قطعاً جمع دكاء نحو غز جمع غزاء ، وانتصب على أنه مفعول ثان لجعله ويضعف قول الأخفش إن نصبه من باب قعدت جلوساً{ وصعقاً } حال مقارنة ، ويقال صعقة فصعق وهو من الأفعال التي تعذّب بالحركة نحو شتر اللّه عينه فشترت ، والظاهر أن موسى والجبل لم يطيقا رؤية اللّه تعالى حين تجلى فلذلك اندكّ الجبل وصعق موسى عليه السلام ،

وحكى عياض بن موسى عن القاضي أبي بكر بن الطيّب : أن موسى اليه السلام رأى اللّه فلذلك خرّ صعقاً وأن الجبل رأى ربه فلذلك صار دكًّا بإدراك كلفة اللّه له وذكر أبو بكر بن أبي شيبة عن كعب قال إن اللّه تعالى قسم كلامه ورؤيته بين محمد وموسى صلى اللّه عليه وسلم فكلم موسى مرتين ورآه محمد صلى اللّه عليه وسلم مرتين وذكر المفسرون من رؤيته ملائكة السموات السبع وحملة العرش وهيئاتهم وإعدادهم ما اللّه أعلم بصحته .

{صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ} أي من مسألة الرؤية في الدنيا قاله مجاهد أو ومن سؤالها قبل الاستئدان أو عن صغائري حكاه الكرماني ، أو قال ذاك على سبيل الإنابة إلى اللّه تعالى والرجوع إليه عند ظهور الآيات على ما جرت به عادة المؤمن عند رؤية العظائم وليست توبة عن شيء معين أشار إليه ابن عطية ،

وقال الزمخشري { قَالَ سُبْحَانَكَ } أنزّهك عن ما لا يجوز عليك من الرؤية وغيرها { تُبْتُ إِلَيْكَ } من طلب الرؤية ، { فإن قلت } : فإن كان طلب الرؤية للغرض الذي ذكرته فمم تاب ،  { قلت } : عن إجرائه تلك المقالة العظيمة وإن كان لغرض صحيح على لسانه من غير إذن فيه من اللّه تعالى فانظر إلى إعظام اللّه تعالى أمر الرؤية في هذه الآية وكيف أرجف الجبل بطالبيها وجعله دكًّا وكيف أصعقهم ولم يخل كليمه من نفيان ذلك مبالغة في إعظام الأمر وكيف سبّح ربه ملتجئاً إليه وتاب من إجراء تلك الكلمة على لسانه وقال { أَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ } ، ثم تعجب من المتسمين بالإسلام بالمتسمين بأهل السنة والجماعة كيف اتخذوا هذه العظيمة مذهباً ولا يغرّنك تستّرهم بالبلكفة فإنه من منصوبات أشياخهم والقول ما قاله بعض العدلية فيهم : لجماعة سموا هواهم سنة

وجماعة حمر لعمري مؤكفه

قد شبّهوه بخلقه وتخوّفوا

شنع الورى فتستّروا بالبلكفه

وهو تفسير على طريقة المعتزلة وسبّ لأهل السنة والجماعة على عادته وقد نظم بعض علماء السنة على وزن هذين البيتين وبحرهما أنشدنا الأستاذ العلامة أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير بغرناطة إجازة إن لم يكن سماعاً ونقلته من خطّه ، قال أنشدنا القاضي الأديب العالم أبو الخطاب محمد بن أحمد بن خليل السكوني بقراءتي عليه عن أخيه القاضي أبي بكر من نظمه : شبهت جهلاً صدر أمة محمد

وذوي البصائر بالحمير المؤكفه

وزعمت أن قد شبّهوا معبودهم

وتخوّفوا فتستروا بالبلكفه

ورميتهم عن نبعة سويتها

رمْي الوليد غدا يمزق مصحفه

وجب الخسار عليك فانظر منصفا

في آية الأعراف فهي المنصفه

أترى الكليم أتى بجهل ما أتى

وأتى شيوخك ما أتوا عن معرفه

وبآية الأعراف ويك خذلتم

فوقفتم دون المراقي المزلفه

لو صحّ في الإسلام عقدك لم تقل

بالمذهب المهجور من نفي الصفه

إن الوجوه إليه ناظرة بذا

جاء الكتاب فقلتم هذا السّفه

فالنقي مختص بدار بعدها

لك لا أبا لك موعداً لن تخلفه

وأنشدنا قاضي القضاة أبو القاسم عبد الرحمن بن قاضي القضاة أبي محمد بن عبد الوهاب بن خلف العلامي بالقاهرة لنفسه : قالوا يريد ولا يكون مراده

عدلوا ولكن عن طريق المعرفه

{وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ } قال ابن عباس ومجاهد : من مؤمني بني إسرائيل ،

وقيل : من أهل زمانه إن كان الكفر قد طبق الآفاق ، وقال أبو العالية بأنك لا ترى في الدنيا ،

وقال الزمخشري : بأنك لست بمرئيّ ولا مدرك بشيء من الحواس ، وقال أيضاً بعظمتك وجلالك وأن شيئاً لا يقوم لبطشك وبأسك انتهى ، وتفسيره الأول على طريقة المعتزلة وقد ذكر متكلمو أهل السنة دلائل على رؤية اللّه تعالى سمعية وعقلية يوقف عليها وعلى حجج الخصوم في كتب أصول الدين .

١٤٤

قال يا موسى . . . . .

{قَالَ يَاء مُوسَى إِنّى اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا ءاتَيْتُكَ وَكُنْ مّنَ الشَّاكِرِينَ } لما طلب موسى عليه السلام الرؤية ومنعها عدد عليه تعالى وجوه ونعمة العظيمة عليه وأمره أن يشتغل بشكرها وهذه تسلية منه تعالى له والاصطفاء تقدّم شرحه وعلى الناس لفظ عام ومعناه الخصوص أي على أهل زمانك أو يبقى على عمومه ويعني في مجموع الدّرجتين الرسالة والكلام قاله ابن عطية وينبغي أن يحمل ذلك على وقوع الكلام في الأرض إذ ثبت أن آدم نبي مكلم وتؤوّل على أن ذلك في الجنة ورسولنا محمد صلى اللّه عليه وسلم ويظهر من حديث الإسراء أنه كلمه اللّه تعالى ويدلّ قوله { وَبِكَلَامِي } على أنه سمع الكلام من اللّه لا من غيره لأن الملائكة تنزل على الرسل بكلام اللّه وقدّم { بِرِسَالَاتِي } وعلي { وَبِكَلَامِي } لأن الرسالة أسبق في الزمان أو لأنه انتقل من شريف إلى أشرف ،

وقرأ الحرميان برسالتي على الإفراد وهو مراد به المصدر أي بإرسالي أو يكون على حذف مضاف أي بتبليغ رسالتي لأن مدلول الرسالة غير مدلول المصدر ،

وقرأ باقي السبعة بالجمع لأنّ الذي أرسل به ضروب وأنواع ،

وقرأ الجمهور { وَبِكَلَامِي } فاحتمل أن يكونن مصدراً أي وبتكليمي أو يكون على حذف مضاف أي وبسماع كلامي ،

وقرأ أبو رجاء برسالتي وبكلمي جمع كلمة أي وبسماع كلمي ،

وقرأ الأعمش برسالاتي وتكلمي ،

وحكى عنه المهدوي وتكليمي على وزن تفعيلي وأمره تعالى أن يأخذ ما آتاه من النبوّة لأنّ في الأمر بالأخذ مزيد تأكيد وحصول أجر بالامتثال والمعني خذ ما آتيتك باجتهاد في تبليغه وجدّ في النفع به { وَكُنْ مّنَ الشَّاكِرِينَ } على ما آتيناك وفي ذلك إشارة إلى القنع والرضا بما أعطاه اللّه والشكر عليه .

١٤٥

وكتبنا له في . . . . .

{وَكَتَبْنَا فِى الاْلْوَاحِ مِن كُلّ شَىْء } قيل : إنّ موسى عليه السلام صعق يوم الجمعة يوم عرفة وأفاق فيه وأعطى التوراة يوم النحر وظاهر قوله { وَكَتَبْنَا } نسبة الكتابة إليه . فقيل كتب بيده وأهل السماء يسمعون صرير القلم في اللوح ،

وقيل : أظهرها وخلقها في الألواح ،

وقيل : أمر القلم أن يخطَّ لموسى في الألواح ،

وقيل : كتبها جبريل عليه السلام بالقلم الذي كتب به الذكر واستمد من نهر النّور ففي هذين القولين أسند ذلك إلى نفسه تشريف إذ ذاك صادر عن أمره ،

وقيل : معنى { كَتَبْنَا } فرضنا كقوله تعالى { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ } والضمير في { لَهُ } عائد على موسى { والألواح } جمع قلة وأل فيها لتعريف الماهيّة فإن كان هو الذي قطعها وشققها فتكون أل فيها للعهد ، و

قال ابن عطية : عوض من الضمير الذي يقدر وصلة بين الألواح وموسى عليه السلام تقديره في

ألواحه وهذا كقوله تعالى { الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِىَ الْمَأْوَى } أي مأواه انتهى وكون أل عوضاً من الضمير ليس مذهب البصريين ولا يتعين أن يكون عوضاً من الضمير وليس ذلك كقوله فإن الجنة هي المأوى لأنّ الجملة خبر عن من فاحتاجت الجملة إلى رابط ، فقال الكوفيون : أل عوض من الضمير كأنه قيل مأواه ، وقال البصريون : الرابط محذوف أي هي المأوى له وظاهر الألواح الجمع ، فقيل كانت سبعة وروى ذلك عن ابن عباس ،

وقيل ثمانية ذكره الكرماني ،

وقيل : تسعة قاله مقاتل :

وقيل : عشرة قاله وهب بن منبه ،

وقيل اثنان وروي عن ابن عباس أيضاً واختاره الفرّاء ، وهذا ضعيف لأنّ الدلالة بالجمع على اثنين قياساً له شرط مذكور في النحو هو مفقود هنا ، وقال الربيع بن أنس : نزلت التوراة وهي وقر سبعين بعيراً يقرأ الجزء منها في سنة ولم يقرأها سوى أربعة نفر موسى ويوشع وعزير وعيسى ، وقد اختلفوا من أي شيء هي فعن ابن عباس وأبي العالية زبرجد ، وعن ابن جبير من ياقوت أحمر ،

وعن ابن عباس أيضاً ومجاهد من زمرد أخضر ، وعن أبي العالية أيضاً من برد ، وعن مقاتل من زمرد وياقوت ، وعن الحسن من خشب طولها عشرة أذرع ، وعن وهب من صخرة صماء أمر بقطعها ولانت له فقطعها بيده وشققها بأصابعه ،

وقيل : من نور حكاه الكرماني ، والمعنى من كل شيء محتاج إليه في شريعتهم { مَّوْعِظَةٌ } للازدجار والاعتبار { وَتَفْصِيلاً لّكُلّ شَىْء } من التكاليف الحلال والحرام والأمر والنهي والقصص والعقائد والإخبار والمغيبات ، وقال ابن جبير ومجاهد : لكل شيء مما أمروا به ونهوا عنه ، وقال السدّي الحلال والحرام ، وقال مقاتل كان مكتوباً في الألواح إني أنا اللّه الرحمن الرحيم لا تشركوا بي شيئاً ولا تقطعوا السبل ولا تحلفوا باسمي كاذبين فإن من حلف باسمي كاذباً فلا أزكيه ولا تقتلوا ولا تزنوا ولا تعقوا الوالدين والظاهر أن مفعول { كَتَبْنَا } أي كتبنا فيها { مَّوْعِظَةٌ }{ مِن كُلّ شَىْء }{ وَتَفْصِيلاً لّكُلّ شَىْء } قاله الحوفي قال نصب { مَّوْعِظَةٌ } بكتبنا { وَتَفْصِيلاً } عطف على { مَّوْعِظَةٌ }{ لّكُلّ شَىْء } متعلق بتفصيلاً انتهى ،

وقال الزمخشري :{ مِن كُلّ شَىْء } في محل النصب مفعول { وَكَتَبْنَا }{ وَمَوْعِظَةً } ،{ وَتَفْصِيلاً } بدل منه والمعنى كتبنا له كل شيء كان بنو إسرائيل يحتاجون إليه في دينهم من المواعظ وتفصيل الأحكام انتهى ، ويحتمل عندي وجه ثالث وهو أن يكون مفعول { كَتَبْنَا } موضع المجرور كما تقول أكلت { مِنْ } الرّغيف ، ومن للتبعيض أي كتبنا له أشياء من كل شيء وانتصب { مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً } على المفعول من أجله أي كتبنا له تلك الأشياء للاتعاظ والتفصيل لأحكامهم .

{فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ } أي فقلنا خذها عطفاً على { كَتَبْنَا } ويجوز أن يكون { فَخُذْهَا } بدلاً من قوله { فَخُذْ مَا ءاتَيْتُكَ } ، والضمير في { فَخُذْهَا } عائد على ما على معنى ما لا على لفظها

وأما إذا كان على إضمار فقلنا فيكون عائداً على { الاْلْوَاحِ } أي الألواح أو على { كُلّ شَىْء } لأنه في معنى الأشياء أو على التوراة أو على الرسالات وهذه احتمالات مقوّلة أظهرها الأول ، ومعنى { بِقُوَّةٍ } قال ابن عباس بجدّ واجتهاد فعل أولي العزم ، وقال أبو العالية والربيع بن أنس : بطاعة ، وقال جويبر : بشكر ، وقال ابن عيسى : بعزيمة وقوة قلب لأنه إذا أخذها بضعف النية أدّاه إلى الفتور ، وهذا القول راجع لقول ابن عباس : أمر موسى أن يأخذ بأشد مما أمر به قومه وقوله { بِأَحْسَنِهَا } ظاهره أنه أفعل التفضيل وفيها الحسن والأحسن كالقصاص والعفو والانتصار والصبر ،

وقيل : أحسنها الفرائض والنوافل وحسنها المباح ،

وقيل : أحسنها الناسخ وحسنها المنسوخ ولا يتصور أن يكون المنسوخ حسناً إلا باعتبار ما كان عليه قبل النسخ أما بعد النسخ فلا يوصف بأنه حسن لأنه ليس مشروعاً ،

وقيل الأحسن المأمور به دون المنهي عنه ،

قال الزمخشري : على قوله الصيف أحرّ من الشتاء انتهى ، وذلك على تخيّل أن في الشتاء حرّاً ويمكن الاشتراك فيهما في الحسن بالنسبة إلى الملاذ وشهوات

النفس فيكون المأمور به أحسن من حيث الامتثال وترتب الثواب عليه ويكون المنهي عنه حسناً باعتبار الملاذ والشهوة فيكون بينهما قدر مشترك في الحسن وإن اختلف متعلقه ،

وقيل أحسنها هو أشبه ما تحتمله الكلمة من المعاني إذا كان لها احتمالات فتحمل على أولاها بالحق وأقربها إليه ،

وقيل أحسن هنا ليست أفعل التفضيل بل المعنى بحسنها كما قال : بيتاً دعائمه أعز وأطول أي عزيزة طويلة قاله قطرب وابن الأنباري فعلى هذا أمروا بأن يأخذوا بحسنها وهو ما يترتب عليه الثواب دون المناهي التي يترتب على فعلها العقاب ،

وقيل أحسن هنا صلة والمعنى يأخذوا بها وهذا ضعيف لأنّ الأسماء لا تزاد وانجزم { يَأْخُذُواْ } على جواب الأمر وينبغي تأويل { وَأْمُرْ قَوْمَكَ } لأنه لا يلزم من أمر قومه بأخذ أحسنها أن { يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا } فلا ينتظم منه شرط وجزاء { وبأحسنها } متعلّق بيأخذوا وذلك على إعمال الثاني لأن { يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا } مقتضى لقوله { وَأَمَرُّ } ولقوله { يَأْخُذُواْ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ } مجزوماً على إضمار لام الأمر أي ليأخذوا لأنّ معنى { وَأْمُرْ قَوْمَكَ } قل لقومك وذلك على مذهب الكسائي ومفعول { يَأْخُذُواْ } محذوف لفهم المعنى أي { يَأْخُذُواْ } أنفسهم { بِأَحْسَنِهَا } ويحتمل أن تكون الباء زائدة أي يأخذوا أحسنها كقوله لا يقرأن بالسور ، والوجه الأوّل أحسن وانظر إلى اختلاف متعلق الأمرين أمر موسى بأخذ جميعها ، فقيل :{ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ } وأكّد الأخذ بقوله { بِقُوَّةٍ } وأمروا هم أن { يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا } ولم يؤكد ليعلم أن رتبة النبوة أشقّ في التكليف من رتبة التابع ولذلك فرض على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قيام الليل وغير ذلك من التكاليف المختصة به والإراءة هنا من رؤية العين ولذلك تعدَّت إلى اثنين و { دَارَ الْفَاسِقِينَ } مصر قاله عليّ وقتادة ومقاتل وعطية العوفي والفاسقون فرعون وقومه .

قال الزمخشري كيف أقفرت منهم ودمّروا لفسقهم لتعتبروا فلا تفسقوا مثل فسقهم فينكّل بكم مثل نكالهم انتهى ،

وقيل المعنى :

وقيل المعنى : سأريكم مصارع الكفار وذلك أنه لما أغرق فرعون وقومه أوحى إلى البحر أن اقذف أجسادهم إلى الساحل ففعل فنظر إليهم بنو إسرائيل فأراهم مصارع الفاسقين ، وقال الكلبي : ما مرّوا عليه إذا سافروا من مصارع عاد وثمود والقرون الذين أهلكوا ، وقال قتادة أيضاً الشام والمراد العمالقة الذين أمر موسى بقتالهم ، وقال مجاهد والحسن :{ دَارَ الْفَاسِقِينَ } جهنم والمراد الكفرة بموسى وغيره ، وقال ابن زيد :{ سأريكم } من رؤية القلب أي سأعلمكم سير الأولين وما حلّ بهم من النكال ،

وقيل { سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ } أي ما دار إليه أمرهم وهذا لا يدرك إلا بالأخبار التي يحدّث عنها العلم وهذا قريب من قول ابن زيد ، و

قال ابن عطية : ولو كان من رؤية القلب لتعدّى بالهمزة إلى ثلاثة ولو قال قائل المفعول الثالث يتضمنه المعنى فهو مقدّر أي مدمرة أو خربة أو مسعرة على قول من قال إنها جهنم قيل له : لا يجوز حذف هذا المفعول ولا الاقتصاد دونه لأنها

داخلة على الابتداء والخبر ولو جوز لكان على قبح في اللسان لا يليق بكتاب اللّه تعالى انتهى ، وحذف المفعول الثالث في باب أعلم لدلالة المعنى عليه جائز فيجوز في جواب هل أعلمت زيداً عمراً منطلقاً أعلمت زيداً عمراً ويحذف منطلقاً لدلالة الكلام السابق عليه

وأما تعليله لأنها داخلة على الابتداء والخبر لا يدل على المنع لأن خبر المبتدأ يجوز حذفه اختصاراً والثاني والثالث في بام أعلم يجوز حذف كل واحد منهما اختصاراً وفي قوله لأنها أي { سأريكم } داخلة على المبتدأ والخبر فيه تجوز ويعني أنها قبل النقل بالهمزة فكانت داخلة على المبتدأ والخبر ،

وقرأ الحسن :{ عَجَلٍ سَأُوْرِيكُمْ } بواو ساكنة بعد الهمزة على ما يقتضيه رسم المصحف ووجّهت هذه القراءة بوجهين ،

أحدهما : ما ذكره أبو الفتح وهو أنه أشبع الضمة ومطّلها فنشأ عنها الواو قال : ويحسن احتمال الواو في هذا الموضع أنه موضع وعيد وإغلاظ فمكن الصوت فيه انتهى ، فيكون كقوله أدنو فانظر رأى فانظر ، وهذا التوجيه ضعيف لأن الاشباع بابه ضرورة الشعر ،

والثاني : ما ذكره الزمخشري قال

وقرأ الحسن { سَأُوْرِيكُمْ } وهي لغة فاشية بالحجاز يقال : أورني كذا وأوريته فوجهه أن يكون من أوريت الزند كأن المعنى بينه لي وأثره لأستبينه انتهى ، وهي أيضاً في لغة أهل الأندلس كأنهم تلقفوها من لغة الحجاز وبقيت في لسانهم إلى الآن وينبغي أن ينظر في تحقق هذه اللغة أهي في لغة الحجاز أم لا ،

وقرأ ابن عباس وقسامة بن زهير سأورثكم ،

قال الزمخشري وهي قراءة حسنة يصححها قوله تعالى { وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ}

١٤٦

سأصرف عن آياتي . . . . .

{سَأَصْرِفُ عَنْ ءايَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الارْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ } لما ذكر { سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ } ذكر ما يفعل بهم تعالى من صرفه إياهم عن آياته لفسقهم وخروجهم عن طورهم إلى وصف ليس لهم ثم ذكر تعالى من أحوالهم ما استحقّوا به اسم الفسق ، قال ابن جبير سأصرفهم عن الاعتبار والاستدلال بالدلائل والآيات على هذه المعجزات وبدائع المخلوقات ، وقال قتادة : سأصدّهم عن الإعراض والطّعن والتحريف والتبديل والتغيير فالآيات القرآن فإنه مختص بصونه عن ذلك ، وقال سفيان بن عيينة سأمنعهم من تدبرها ونظرها النظر الصحيح المؤدّي إلى الحقّ ، وقال الزجاج : أجعل جزاءهم سأصرفهم عن دفع الانتقام أي إذا أصابتهم عقوبة لم يدفعها عنهم فالآيات على هذا ما حلّ بهم من المثلات التي صاروا بها مثلة وعبرة وعلى هذه الأقوال يكون { الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ } عام أي كل من قام به هذا الوصف ،

وقيل : هذا من تمام خطاب موسى ، والآيات هي التسع التي أعطيها والمتكبرون هم فرعون وقومه صرف اللّه قلوبهم عن الاعتبار بها بما انهمكوا فيه من لذّات الدنيا وأخذ الزمخشري بعض أقوال المفسرين فقال { سَأَصْرِفُ عَنْ ءايَاتِي } بالطبع على قلوب المتكبّرين وخذلانهم فلا يفكرون فيها ولا يعتبرون بها غفلة وانهماكاً فيما يشغلهم عنها من شهواتهم وفيه إنذار المخاطبين من عاقبة والذين يصرفون عن الآيات لتكبّرهم وكفرهم بها لئلا يكونوا مثلهم فيسلك بهم سبيلهم انتهى ، و { الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ } عن الإيمان

قال ابن عطيّة : هم الكفرة والمعنى في هذه الآية سأجعل الصّرف عن الآيات عقوبة المتكبّرين على تكبّرهم انتهى ،

وقيل هم الذين يحتقرون الناس ويرون لهم الفضل عليهم ، وفي الحديث الصحيح إنما الكبر أن تسفه الحق وتغمص الناس ويتعلق بغير الحق بيتكبرون أي بما ليس بحق وما هم عليه من دينهم وقد يكون التكبّر بالحقّ كتكبّر المحقّ على المبطل لقوله تعالى :{ اللّه عَلَى الْكَافِرِينَ } ويجوز أن يكون في موض الحال فيتعلق بمحذوف أي ملتبسين بغير الحقّ والمعنى غير مستحقّين لأنّ التكبر بالحق للّه وحده لأنه هو الذي له القدرة والفضل الذي ليس لأحد .

{وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ } وصفهم هذا الوصف الذّميم وهو التكبّر عن الإيمان حتى لو عرضت عليهم كل آية لم يروها آية فيؤمنوا بها وهذا ختم منه تعالى على الطائفة التي قدر أن لا يؤمنوا .

وقرأ مالك بن دينار : وإن { يَرَوْاْ } بضم الياء .

{وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَىّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} أُراهم اللّه السبيلين فرأوهما فآثروا الغيّ على الرشد كقوله { فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى}

وقرأ الأخوان { الرُّشْدِ } وباقي السبعة { الرُّشْدِ } ، وعن ابن عامر في رواية اتباع الشين ضمة الراء وأبو عبد الرحمن الرّشاد وهي مصادر كالسقم والسقم والسقام ، وقال أبو عمرو بن العلاء :{ الرُّشْدِ } الصّلاح في النظر وبفتحهما الدين ،

وقرأ ابن أبي عبلة لا يتخذوها ويتخذوها على تأنيث السبيل والسبيل تذكر وتؤنث ،

قال تعالى :{ قُلْ هَاذِهِ سَبِيلِى } ولما نفى عنهم الإيمان وهو من أفعال القلب استعار للرّشد والغي سبيلين فذكر أنهم تاركو سبيل الرشد سالكو سبيل الغي وناسب تقديم جملة الشرط المتضمنة سبيل الرشد على مقابلتها لأنها قبلها .

{وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ } فذكر موجب الإيمان وهو الآيات وترتّب نقيضه عليه وأتبع ذلك بموجب الرشد وترتب نقيضه عليه ثم جاءت الجملة بعدها مصرّحة بسلوكهم سبيل الغي ومؤكدة لمفهوم الجملة الشرطية قبلها لأنه يلزم من ترك سبيل الرّشد سلوك سبيل الغي لأنهما إما هدى أو ضلال فهما نقيضان إذا انتفى أحدهما ثبت الآخر .

{ذالِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ} أي ذلك الصرف عن الآيات هو سبب تكذيبهم بها وغفلتهم عن النظر فيها والتفكر في دلالتها والمعنى أنهم استمرّ كذبهم وصار لهم ذلك ديدناً حتى صارت تلك الآيات لا تخطر لهم ببال فحصلت الغفلة عنها والنسيان لها حتى كانوا لا يذكرونها ولا شيئاً منها والظاهر أنّ الصرف سببه التكذيب والغفلة ممن جميعهم ويُحتمل أن الصرف سببه التكذيب ويكون قوله :{ وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ } استئناف إخبار منه تعالى عنهم أي من شأنهم أنهم كانوا غافلين عن الأيات وتدبرها فأورثنهم الغفلة التكذيب بها والظاهر أن ذلك مبتدأ وخبره بأنهم أي ذلك الصرف كائن بأنهم كذبوا وجوّزوا أن يكون منصوباً فقدّره ابن عطية فعلنا ذلك ، وقدّره الزمخشري صرفهم اللّه ذلك الصّرف بعينه وفي قوله تعالى :{ سَأَصْرِفُ عَنْ ءايَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الارْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ } إشعار بأنّ الصرف سببه هذا التكبّر وفي قوله { ذالِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ } إعلام بأن ذلك الصّرف سببه التكذيب والجمع بينهما أن التكبر سبب أول نشأ عنه التكذيب فنسبه الصّرف إلى السبب الأول وإلى ما تسبب عنه .

١٤٧

والذين كذبوا بآياتنا . . . . .

{وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا وَلِقَاء الاْخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } ذكر تعالى ما يؤول إليه في الآخرة أمر المكذبين فذكر أنه يحبط أعمالهم أي لا يعبأ بها وأصل الحبْط أن يكون فيما تقدم صلاحه فاستعمل الحبوط هنا إذا كانت أعمالهم في معتقداتهم جارية على طريق صالح فكان الحبط فيها بحسب معتقداتهم إذ المكذّب بالآيات قد يكون له عمل فيه إحسان للناس وصفح وعفو عمن جنى عليه وكلّ ذلك لا يجازى عليه في الآخرة فشمل حبط الأعمال من له عمل برّ ومن عمله من أوّل مرة فاسد ونبّه بلقاء الآخرة على محلّ افتضاحهم وجزائهم وتهديداً لهم ووعيداً بها وأنها كائنة لا محالة وإضافة { لِقَاء } إلى { الاْخِرَةَ } إضافة المصدر إلى المفعول أي ولقائهم الآخرة .

قال الزمخشري : ويجوز أن يكون من إضافة المصدر إلى المفعول به أي ولقائهم الآخرة ومشاهدتهم أحوالها ومن إضافة المصدر إلى الظرف لأنّ الظرف هو على تقدير في والإضافة عندهم إنما هي على تقدير اللام أو تقدير من على ما بين في علم النحو فإنّ اتسع في العامل جاز أن ينصب الظرف نصب المفعول به وجاز إذ ذاك أن يُضاف مصدره إلى ذلك الظرف المتسع في عامله وأجاز بعض النحويين أن تكون الإضافة على تقدير في كما يفهمه ظاهر كلام الزمخشري ، وهو مذهب مردود في علم النحو . و { هَلْ يُجْزَوْنَ } استفهام بمعنى التقدير أي يستوجبون بسوء فعلهم العقوبة ،

قال ابن عطية : والظاهر أنه استفهام بمعنى النفي ولذلك دخلت { إِلا } والاستفهام الذي هو بمعنى التقرير هو موجب من حيث المعنى فيبعد دخول إلا ولعله لا يجوز .

١٤٨

واتخذ قوم موسى . . . . .

{وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ} إن كان الاتخاذ بمعنى اتخاذه إلهاً معبوداً فصح نسبته إلى القوم وذكر أنهم كلهم عبدوه غير هارون ولذلك { قَالَ رَبّ اغْفِرْ لِى وَلاخِى } ،

وقيل إنما عبده قوم منهم لا جميعهم لقوله :{ وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقّ } وإن كان بمعنى العمل كقوله { كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً } أي عملت وصنعت فالمتخذ إنما هو السامري واسمه موسى بن ظفر من قرية تسمى سامرة ونسب ذلك إلى قوم موسى مجازاً كما قالوا بنو تميم قتلوا فلاناً وإنما قتله واحد منهم ولكونهم راضين بذلك ومعنى { مِن بَعْدِهِ } من بعد مضيه للمناجاة ومن حليّهم متعلق باتخذ وبها يتعلق من بعده وإن كانا حر في جرّ بلفظ واحد وجاز ذلك لاختلاف مدلوليهما لأنّ من الأولى لابتداء الغاية والثانية للتبعيض وأجاز أبو البقاء أن يكون { مِنْ حُلِيّهِمْ } في موضع الحال فيتعلق بمحذوف لأنه لو تأخر لكان صفة أي { عِجْلاً } كائناً من حليهم .

وقرأ الأخوان من { حُلِيّهِمْ } بكسر الحاء اتباعاً لحركة اللام كما قالوا : عصى ، وهي قراءة أصحاب عبد اللّه ويحيى بن وثاب وطلحة والأعمش ،

وقرأ باقي السبعة والحسن وأبو جعفر وشيبة بضم الحاء وهو جمع حلى نحو ثدي وثدى ووزنه فعول اجتمعت ياء وواو وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت في الياء وكسر ما قبلها لتصحّ الياء ،

وقرأ يعقوب { مِنْ حُلِيّهِمْ } بفتح الحاء وسكون اللام وهو مفرد يراد به الجنس أو اسم جنس مفرده حلية كتمر وتمره ، وإضافة الحلى إليهم إما لكونهم ملكوه من ما كان على قوم فرعون حين غرقوا ولفظهم البحرفكان كالغنيمة ولذلك أمر هارون بجمعه حتى ينظر موسى إذا رجع في أمره أو ملكوه إذ كان من أموالهم التي اغتصبها القبط بالجزية التي كانوا وضعوها عليهم فتحيل بنو إسرائيل عل استرجاعها إليهم بالعارية

وإما لكونهم لم يملكوه لكن تصرفت أيديهم فيه بالعارية فصحت الإضافة إليهم لأنها تكون بأدنى ملابسة . روى يحيى بن سلام عن الحسن : أنهم استعاروا الحلى من القبط لعرس ،

وقيل : اليوم زينة ولما هلك فرعون وقومه بقي الحلى معهم وكان حراماً عليهم وأخذ بنو إسرائيل في بيعه وتمحيقه ، فقال السامريّ لهارون : إنه عارية وليس لنا فأمر هارون منادياً بردّ العارية ليرى فيها موسى رأيه إذا جاء فجمعه وأودعه هارون عند السامري وكان صائغاً فصاغ لهم صورة عجل من الحلى ،

وقيل : منعهم من ردّ العارية خوفهم أن يطلع القبط على سُراهم إذ كان تعالى أمر موسى أن يسري بهم ، والعجل ولد البقرة القريب الولادة ومعنى جسداً جثة جماداً ،

وقيل : بدناً بلا رأس ذهباً مصمتاً ،

وقيل : صنعه مجوفاً ، قال الزمشخري : جسداً بدناً ذا لحم ودم كسائر الأجساد ، قال الحسن : إنّ السامريّ قبض قبضة من تراب من أثر فرس جبريل عليه السلام يوم قطع البحر فقذفه في في العجل فكان عجلاً له خوار انتهى . وهذا ضعيف أعني كونه لحماً ودماً لأنّ الآثار وردت بأن موسى برده بالمبارد وألقاه في البحر ولا يبرد اللحم بل كان يقتل ويقطع ، وقال ابن الأنباري : ذكر الجسد دلالة على عدم الروح فيه انتهى ، وظاهر قوله له خوار يدلّ على أنه فيه روح لأنه لا يخور إلا ما فيه روح ،

وقيل : لما صنعه أجوف تحيل لتصويته بأن جعل في جوفه أنابيب على شكل مخصوص وجعله في مهبّ الرياح فتدخل في تلك الأنابيب فيظهر صوت يشبه الخوار ،

وقيل : جعل تحته من ينفخ فيه من حيث لا يشعر به فيسمع صوت من جوفه كالخوار ، وقال الكرماني : جعل في بطن العجل بيتاً يفتح ويغلق فإذا أراد أن يخور أدخله غلاماً يخور بعلامة بينهما إذا أراد ،

وقيل : يحتمل أن يكونن اللّه أخاره ليفتن بني إسرائيل وخواره ، قيل : مرة واحدة ولم يثنِ رواه أبو صالح عن ابن عباس ،

وقيل : مراراً فإذا خار سجدوا وإذا سكت رفعوا رؤوسهم ، وقاله ابن عباس وأكثر المفسرين ،

وقرأ علي وأبو السّمأل وفرقة جوار : بالجيم والهمز من جأر إذا صاح بشدّة صوت وانتصب { جَسَداً } ،

قال الزمخشري على البدل ، وقال الحوفي على النعت وأجازهما أبو

البقاء وأن يكون عطف بيان وإنما قال : { جَسَداً } لأنه يمكن أن يتخذ مخطوطاً أو مرقوماً في حائط أو حجر أو غير ذلك كالتماثيل المصوّرة بالرقم والخط والدّهان والنقش فبين تعالى أنه ذو جسد .

{أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً } ، إن كان اتخذ معناه عمل وصنع فلا بدّ من تقدير محذوف يترتب عليه هذا الإنكار وهو فعبدوه وجعلوه إلهاً لهم وإن كان المحذوف إلهاً أي اتخذوا { عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ } إلهاً فلا يحتاج إلى حذف جملة ، وهذا استفهام إنكار حيث عبدوا جماداً أو حيواناً عاجزاً عليه آثار الصّنعة لا يمكن أن يتكلم ولا يهدي وقد ركز في العقول أن من كان بهذه المثابة استحال أن يكون إلهاً وهذا نوع من أنواع البلاغة يسمّى الاحتجاج النظري وبعضهم يسميه المذهب الكلامي والظاهر أن يروا بمعنى يعلموا وسلب تعالى عنه هذين الوصفين دون باقي أوصاف الإلهية لأنّ انتفاء القدرة وانتفاء هذين الوصفين وهما العلم والقدرة يستلزمان باقي الأوصاف فلذلك حضّ هذان الوصفان بانتفائهما .

{اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ } أي أقدموا على ما أقدموا عليه من هذا الأمر الشنيع وكانوا واضعين الشيء في غير موضعه أي من شأنهم الظلم فليسوا مبتكرين وضع الشيء في غيره موضعه وليس عبادة العجل بأول ما أحدثوه من المناكر ، قال ابن عطية ويحتمل أن تكون الواو واو الحال انتهى يعني في { وَكَانُواْ } والوجه الأول أبلغ في الذمّ وهو الإخبار عن وصفهم بالظلم وإنّ شأنهم ذلك فلا يتقيد ظلمهم بهذه الفعلة الفاضحة .

١٤٩

ولما سقط في . . . . .

{وَلَمَّا سُقِطَ فَى أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} ذكر بعض النحويين أن قول العرب سقط في يده فعل لا يتصرف فلا يستعمل منه مضارع ولا اسم فاعل ولا مفعول وكان أصله متصرّفاً تقول سقط الشيء إذا وقع من علو فهو في الأصل متصرّف لازم ، وقال الجرجاني : سقط في يده مما دثر استعماله مثل ما دثر استعمال قوله تعالى :{ فَضَرَبْنَا عَلَىءاذَانِهِمْ }

قال ابن عطية : وفي هذا الكلام ضعف والسّقاط في كلام العرب كثرة الخطأ والندم عليه ومنه قول ابن أبي كاهل : كيف يرجون سقاطي بعدما

بقع الرأس مشيب وصلع

وحكي عن أبي مروان بن سراج أحد أئمة اللغة بالأندلس أنه كان يقول : قول العرب سقط في يده مما أعياني معناه ، وقال أبو عبيدة : يقال لمن ندم على أمر وعجز عنه سقط في يده ، وقال الزجاج : معناه سقط الندم في أيديهم أي في قلوبهم وأنفسهم ، كما يقال حصل في أيديهم مكروه وإن كان محالاً أن يكون في اليد تشبيهاً لما يحصل في القلب والنفس بما يحصل في اليد ويرى بالعين ، و

قال ابن عطيّة : العرب تقول لمن كان ساعياً لوجه أو طالباً غاية فعرض له ما صده عن وجهه ووقفه موقف العجز وتيقن أنه عاجز سقط في يد فلان وقد يعرض له الندم وقد لا يعرض ، قال : والوجه الذي يصل بين هذه الألفاظ وبين المعنى الذي ذكرناه هو أن السعي أو الصّرف أو الدفاع سقط في يد المشار إليه فصار في يده لا يجاوزها ولا يكون له في الخارج أثر ،

وقال الزمخشري لما اشتد ندمهم وحسرتهم على عبادة العجل لأنّ من شأن من اشتد ندمه وحسرته أن يعضّ يده غمًّا فتصير يده مسقوطاً فيها لأن فاه قد وقع فيها وسقط مسند إلى { فَى أَيْدِيهِمْ } وهو من باب الكناية انتهى ، والصواب وسقط مسند إلى ما { فَى أَيْدِيهِمْ }

وحكى الواحدي عن بعضهم أنه مأخوذ من السقيط وهو ما يغشى الأرض بالغذوات شبه الثلج يقال : منه سقطت الأرض كما يقال : من الثلج ثلجت الأرض وثلجنا أي أصابنا الثلج ومعنى سقط في يده والسّقيط والسقط يذوب بأدنى حرارة ولا يبقى ومن وقع في يده السّقيط لم يحصل منه على شيء فصار مثلاً لكل من خسر

في عاقبته ولم يحصل من بغيته على طائل وكانت الندامة آخر أمره ،

وقيل : من عادة النادم أن يطأطىء رأسه ويضع ذقنه على يده معتمداً عليها ويصبر على هيئتة لو نزعت يده لسقط على وجهه كان اليد مسقوطاً فيها ومعنى { فِى } على أي سقط على يده ومعنى { فَى أَيْدِيهِمْ } أي على أيديهم كقوله { وَلاصَلّبَنَّكُمْ فِى جُذُوعِ النَّخْلِ } انتهى . وكان متعلق سقط قوله في أيديهم لأنّ اليد هي الآلة التي يؤخذ بها ويضبط { وسقط } مبني للمفعول والذي أوقع موضع الفاعل هو الجار والمجرور كما تقول : جلس في الدار وصحك من زيد ،

وقيل : سقط تتضمن مفعولاً وهو هاهنا المصدر الذي هو الإسقاط كما يقال : ذهب بزيد انتهى ، وصوابه وهو هنا ضمير المصدر الذي هو السقوط لأنّ سقط ليس مصدره الإسقاط وليس نفس المصدر هو المفعول الذي لم يسمّ فاعله بل هو ضميره وقرأت فرقة منهم ابن السميقع { وَلَمَّا سُقِطَ فَى أَيْدِيهِمْ } مبنياً للفاعل ،

قال الزمخشريأي وقع الغضّ فيها ، وقال الزجاج : سقط الندم في أيديهم ،

قال ابن عطية : ويحتمل أنّ الخسران والخيبة سقط في أيديهم ،

وقرأ ابن أبي عبلة : أسقط في أيديهم رباعيًّا مبنياً للمفعول ورأوا أي علموا { أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ } ، قال القاضي : يجب أن يكون المؤخر مقدّماً لأنّ الندم والتحسر إنما يقعان بعد المعرفة فكأنه تعالى قال : ولما رأوا أنهم قد ضلوا وسقط في أيديهم لما نالهم من عظيم الحسرة انتهى ، ولا يحتاج إلى هذا التقدير بل يمكن تقدّم النّدم على تبين الضلال لأنّ الإنسان إذا شكّ في العمل الذي أقدم عليه أهو صواب أو خطأ حصل له الندم ثم بعد يتكامل النظر والفكر فيعلم أن ذلك خطأ ، قالوا :{ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا } انقطاع إلى اللّه تعالى واعتراف بعظيم ما أقدموا عليه وهذا كما قال : آدم وحواء { وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا } ولما كان هذا الذنب وهو اتخاذ غير اللّه إلهاً أعظم الذنوب بدأوا بالرحمة التي وسعت كل شيء ومن نتاجها غفران الذنب

وأما في قصة آدم فإنه جرت محاورة بينه تعالى وبينهما وعتاب على ما صدر منهما من أكل ثمر الشجرة بعد نهيه إياهما عن قربانها فضلاً عن أكل ثمرها فبادرا إلى الغفران وأتباه بالرحمة إذ غفران ما وقع العتاب عليه أكد ما يطلب أولاً ،

وقرأ الأخوان والشعبي وابن وثاب والجحدري وابن مصرف والأعمش وأيوب بالخطاب في ترحّمنا وتغفر ونداء ربنا ،

وقرأ باقي السبعة ومجاهد والحسن والأعرج وأبو جعفر وشيبة بن نصاح وغيرهم :{ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا } بالياء فيهما ورفع ربنا وفي مصحف أبي قالوا : ربنا لئن ترحمنا وتغفر لنا ، بتقديم المنادى وهو ربّنا ويحتمل أن يكون القولان صدراً منهم جميعهم على التعاقب أو هذا من طائفة وهذا من طائفة فمن غلب عليه الخوف وقوي على المواجهة خاطب مستقيلاً من ذنبه العظيم ومن غلب عليه الحياء أخرج كلامه مخرج المستحيي من الخطاب فأسند الفعل إلى الغائب وفي قولهم :{ رَبَّنَا } استعطاف حسن إذ الربّ هو المالك الناظر في أمر عبيده والمصلح منهم ما فسد .

١٥٠

ولما رجع موسى . . . . .

{وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِى مِن بَعْدِى أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبّكُمْ } ،أي رجع من المناجاة يروي أنه لما قرب من محلة بني إسرائيل سمع أصواتهم فقال هذه أصوات قوم لاهين فلما تحقق عكوفهم على عبادة العجل داخلة الغضب والأسف وألقى الألواح . وقال الطبري أخبره تعالى قبل رجوعه أنهم قد فتنوا بالعجل فلذلك رجع وهو غاضب ويدلّ على هذا القول قوله { إِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِىُّ } الآية وغضبان من صفات المبالغة والغضب غليان القلب بسبب حصول ما يؤلم وذكروا أنه عليه السلام كان من أسرع الناس غضباً وكان سريع الفيئة ، قال ابن القاسم : سمعت مالكاً يقول كان إذا غضب طلع الدخان من قلنسوته ورفع شعر بدنه جبته وأسفاً من أسف فهو أسف كما تقول فرق فهو فرْق يدلّ على ثبوت الوصف ولو ذهب به مذهب الزمان لكان على فاعل فيقال : آسف والآسف الحزين قاله ابن عباس

والحسن والسدي أو الجزع قاله مجاهد أو المتلهف أو الشديد الغضب قاله الزمخشري وابن عطية قال : وأكثر ما يكون بمعنى الحزين أو المغضب قاله ابن قتيبة أو النادم قاله القتبي أيضاً ، أو متقاربان قاله الواحدي قال : فإذا أتاك ما تكره ممن دونك غضبت أو ممن فوقك حزنت فأغضبه عبادتهم العجل وأحزنه فتنة اللّه إياهم وكان قد أخبره بذلك بقوله إنا قد فتنا قومك من بعدك وتقدّم الكلام على بئسما في أوائل البقرة والخطاب إما للسامري وعباد العجل أي بئسما قمتم مقامي حيث عبدتم العجل مكان عبادة اللّه تعالى

وأما لوجوه بني إسرائيل هارون والمؤمنين حيث لم يكفوا من عبد غير اللّه وخلفتموني يدلّ على البعدية في الزمان والمعنى هنا من بعد ما رأيتم مني توحيد اللّه تعالى ونفي الشركاء عنه وإخلاص العبادة له أو من بعدما كنت أحمل بني إسرائيل على التوحيد وأكفهم عن ما طمحت إليه أبصارهم من عبادة البقر ومن حق الخلف أن يسير سيرة المستخلف ولا يخالفه ويقال خلفه بخير أو شرّ إذا فعله عن ترك من بعده . أعجلتم استفهام إنكار

قال الزمخشري يقال : عجل عن الأمر إذا تركه غير تام ونقيضه تم عليه وأعجله عنه غيره ويضمن معنى سبق فيعدّى تعديته ، فيقال : عجلت الأمر والمعنى أعجلتم عن أمر ربكم وهو انتظار موسى حافظين لعهده وما وصاكم به فبنيتم الأمر على أن الميعاد قد بلغ آخره ، ولم أرجع إليكم فحدّثتم أنفسكم بموتي فغيرتم كما غيرت الأمم بعد أنبيائهم ، وروي أن السامري قال لهم أحين أخرج إليهم العجل هذا إلهكم وإله موسى أن موسى لن يرجع وأنه قد مات انتهى . و

قال ابن عطية : معناه أسابقتم قضاء ربكم واستعجلتم إتياني من قبل الوقت الذي قدّرته انتهى ، وقال يعقوب : يقال عجلت الشيء سبقته وأعجلت الرجل استعجلته أي حملته على العجلة انتهى ،

وقيل : معناه أعجلتم ميعاد ربكم أربعين ليلة ،

وقيل : أعجلتم سخط ربكم ،

وقيل : أعجلتم بعبادة العجل ،

وقيل : العجلة التقدّم بالشيء في غير وقته ، قيل : وهي مذمومة ويضعفه قوله وعجلت إليك ربّ لترضى والسرعة المبادرة بالشيء في غير وقته وهي محمودة .

{وَأَلْقَى الالْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ } أي الألواح التوراة وكان حاملاً لها فوضعها بالأرض غضباً على ما فعله قومه من عبادة العجل وحمية لدين اللّه وكان كما تقدم شديد الغضب وقالوا كان هارون ألين منه خلقاً ولذلك كان أحب إلى بني إسرائيل منه .

وقيل : ألقاها دهشاً لما دهمه من أمرهم ،

وعن ابن عباس : أن موسى عليه السلام لما ألقاها تكسرت فرفع أكثرها الذي فيه تفصيل كل شيء وبقي الذي في نسخته الهدى والرحمة وهو الذي أخذ بعد ذلك ، وروى أنه رفع ستة أسباعها وبقي سبع قاله جماعة من المفسرين ، وقال أبو الفرج بن الجوزيّ لا يصحّ أنه رماها رمي كاسر انتهى ، والظاهر أنه ألقاها من يديه لأنهما كانتا مشغولتين بها وأراد إمساك أخيه وجرّه ولا يتأتى ذلك إلا بفراغ يديه لجرّه وفي قوله ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح دليل على أنها لم تتكسر ودليل على أنه لم يرفع منها شيء والظاهر أنه أخذ برأسه أي أمسك رأسه جاره إليه ،

وقيل : بشعر رأسه ،

وقيل : بذوائبه ولحيته ،

وقيل : بلحيته ،

وقيل : بأذنه ،

وقيل : لم يأخذ حقيقة وإنما كان ذلك إشارة فخشي هارون أن يتوّهم الناظر إليهما أنه لغضب فلذلك نهاه ورغب إليه والظاهر أن سبب هذا الأخذ هو غضبه على أخيه وكيف عبدوا العجل وهو قد استخلفه فيهم وأمره بالإصلاح وأن لا يتبع سبيل من أفسد وكيف لم يزجرهم ويكفهم عن ذلك ويدلّ على هذا الظاهر قوله : ولما سكت عن موسى الغضب وقوله : لا

تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرّقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي ،

قال الزمخشري : أي بشعر رأسه يجره إليه بذوائبه وذلك لشدة ما ورده عليه من الأمر الذي استفزّه وذهب بفطنته وظنًّا بأخيه أن فرط في الكفّ ،

وقيل : ذلك الأخذ والجر كان ليسر إليه أنه نزل عليه الألواح في مناجاته وأراد أن يخفيها عن بني إسرائيل فنهاه هارون لئلا يشتبه سراره على بني إسرائيل بإذلاله

وقيل : ضمه ليعلم ما لديه فكره ذلك هارون لئلا يظنوا أهانته وبيّن له أخوه أنهم استضعفوه ،

وقيل : كان ذلك على سبيل الإكرام لا على سبيل الإهانة كما تفعل العرب من قبض الرجل على لحية أخيه .

{قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِى وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِى فَلاَ تُشْمِتْ بِىَ الاعْدَاء وَلاَ تَجْعَلْنِى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } ناداه نداء استضعاف وترفق وكان شقيقه وهي عادة العرب تتلطف وتتحنن بذكر الأمّ كما قال : يا ابن أمي ويا شقيق نفسي وقال آخر :

يا ابن أمي فدتك نفسي ومالي وأيضاً فكانت أمهما مؤمنة قالوا : وكان أبوه مقطوعاً عن القرابة بالكفر كما قال تعالى لنوح عليه السلام :{ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } وأيضاً لما كان حقها أعظم لمقاساتها الشدائد في حمله وتربيته والشفقة عليه ذكره بحقها ،

وقرأ الحرميان وأبو عمرو وحفص :{ ابْنَ أُمَّ } بفتح الميم ، فقال الكوفيون : أصله يا ابن أماه فحذفت الألف تخفيفاً كما حذفت في يا غلام وأصله يا غلاماً وسقطت هاء السكت لأنه درج فعلى هذا الاسم معرب إذ الألف منقلبة عن ياء المتكلم فهو مضاف إليه ابن ، وقال سيبويه : هما اسمان بنيا على الفتح كاسم واحد كخمسة عشر ونحوه فعلى قوله ليس مضافاً إليه ابن والحركة حركة بناء ،

وقرأ باقي السبعة بكسر الميم فقياس قول الكوفييّن أنه معرب وحذفت ياء المتكلم واجتزىء بالكسرة عنها كما اجتزؤوا بالفتحة عن الألف المنقلبة عن ياء المتكلم ، وقال سيبويه هو مبنيّ أضيف إلى ياء المتكلم كما قالوا يا أحد عشر أقبلوا وحذفت الياء واجتزؤوا بالكسرة عنها كما اجتزؤوا في { عَلَيْهِ قَوْمٌ } ولو كانا باقيين على الإضافة لم يجز حذف الياء لأنّ الاسم ليس بمنادى ولكنه مضاف إليه المنادى فلا يجوز حذف الياء منه ، وقرىء بإثبات ياء الإضافة وأجود اللغات الاجتزاء بالكسرة عن ياء الإضافة ثم قلب الياء ألفاً والكسرة قبلها فتحة ثم حذف التاء وفتح الميم ثم إثبات التاء مفتوحة أو ساكنة وهذه اللغات جائزة في ابنة أمي وفي ابن عمي وابنة عمي ، وقرىء يا ابن أمي بإثبات الياء وابن إمّ بكسر الهمزة والميم ومعمول القول المنادى والجملة بعده المقصود بها تخفيف ما أدرك موسى من الغضب والاستعذار له بأنه لم يقصّر في كفهّم من الوعظ والإنذار وما بلغته طاقته ولكنهم استضعفوه فلم يلتفتوا إلى وعظه بل قاربوا أن يقتلوه ودلّ هذا على أنه بالغ في الإنكار عليهم حتى همّوا بقتله ومعنى { اسْتَضْعَفُونِى } وجدوني فهي بمعنى إلفاء الشيء بمعنى ما صيغ منه أي اعتقدوني ضعيفاً ، وتقدّم ذلك في قوله { لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ } ولما أبدى له ما كان منهم من الاستضعاف له ومقاربة قتلهم إياه سأله ترك ما يسرهم بفعله فقال { فَلاَ تُشْمِتْ بِىَ الاعْدَاء } أي لا تسرّهم بما تفعل بي فأكون ملوماً منهم ومنك ، وقال الشاعر :

والموت دون شماتة الأعداء

وقرأ ابن محيصن { تُشْمِتْ } بفتح التاء وكسر الميم ونصب { الاعْدَاء } ومجاهد كذلك إلا أنه فتح الميم وشمت متعدّية كأشمت وخرّج أبو الفتح قراءة مجاهد على أن تكون لازمة والمعنى فلا تشمت أنت يا ربّ وجاز هذا ، كما قال اللّه يستهزىء بهم ونحو ذلك ثم عاد إلى المراد فأضمر فعلاً نصب به الأعداء كقراءة الجماعة انتهى ، وهذا خروج عن الظاهر وتكلّف في الإعراب وقد روي تعدّى شمت لغة فلا يتكلّف أنها لازمة مع نصب الأعداء وأيضاً قوله :{ اللّه يَسْتَهْزِىء بِهِمْ } إنما ذلك على سبيل المقابلة لقولهم { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ } فقال :{ اللّه يَسْتَهْزِىء بِهِمْ } وكقوله { وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّه } ولا يجوز ذلك ابتداءً من غير مقابلة وعن مجاهد { فَلاَ تُشْمِتْ } بفتح التاء والميم ورفع { الاعْدَاء } ، وعن حميد بن قيس كذلك إلا أنه كسر الميم جعلاه فعلاً لازماً فارتفع به الأعداء فظاهره أنه نهى الأعداء عن الشماتة به وهو من باب لا أرينك هنا والمراد نهيه أخاه أي لا تحلّ بي مكروهاً فيشمتوا بي وبدأ أوّلاً بسؤال أخيه أن لا يشمت به الأعداء لأنّ ما يوجب الشماتة هو فعل مكروه ظاهر لهم فيشمتوا به فبدأ بالأوكد ثم سأله أن لا يجعله ولا يعتقده واحداً من الظالمين إذ جعله معهم واعتقاده من جملتهم هو فعل قلبي وليس ظاهراً لبني إسرائيل أو يكون المعنى { وَلاَ تَجْعَلْنِى } في موجدتك عليّ قريناً لهم مصاحباً له . .

١٥١

قال رب اغفر . . . . .

{قَالَ رَبّ اغْفِرْ لِى وَلاخِى وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرحِمِينَ} لما اعتذر إليه أخوه استغفر لنفسه وله قالوا واستغفاره لنفسه بسبب فعلته مع أخيه وعجلته في إلقاء الألواح واستغفاره لأخيه من فعلته في الصبر لبني إسرائيل قالوا : ويمكن أن يكون الاستغفار مما لا يعلمه واللّه أعلم ،

وقال الزمخشري لما اعتذر إليه أخوه وذكر شماته الأعداء ، { قَالَ رَبّ اغْفِرْ لِى وَلاخِى } ليرضي أخاه ويظهر لأهل الشماتة رضاه عنه فلا يتمّ لهم شماتتهم واستغفر لنفسه مما فرط منه إلى أخيه ولأخيه أن عسى فرّط في حين الخلافة وطلب أن لا يتفرقا عن رحمته ولا تزال متضمنة لهما في الدنيا والآخرة انتهى ، وقوله ولأخيه أن عسى فرط إن كانت أن بفتح الهمزة فتكون المخففة من الثقيلة ويقرب معناه ، وإن كانت بكسر الهمزة فتكون للشرط ولا يصح إذ ذاك دخولها على عسى لأنّ أدوات الشرط لا تدخل على الفعل الجامد .

١٥٢

إن الذين اتخذوا . . . . .

{إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مّن رَّبّهِمْ وَذِلَّةٌ فِى الْحَيواةِ الدُّنْيَا وَكَذالِكَ تَجْزِى الْمُفْتَرِينَ} الظاهر أنه من كلام اللّه تعالى إخباراً عما ينال عباد العجل ومخاطبةً لموسى بما ينالهم .

وقيل : هو من بقية كلام موسى إلى قوله { وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ } وأصدقه اللّه تعالى بقوله :{ وَكَذالِكَ نَجْزِى الْمُفْتَرِينَ } والأول الظاهر لقوله { وَكَذالِكَ نَجْزِى الْمُفْتَرِينَ } في نسق واحد مع الكلام قبله والمعنى اتخذوه إلهاً لقوله { فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ فَقَالُواْ هَاذَا إِلَاهُكُمْ وَإِلَاهُ مُوسَى } ،قيل : والغضب في الأخرة والذلّة في الدنيا وهم فرقة من اليهود أُشربوا حبّ العجل فلم يتوبوا ،

وقيل : هم من مات منهم قبل رجوع موسى من الميقات ، وقال أبو العالية وتبعه الزمخشري : هو ما أمروا به من قتل أنفسهم ،

وقال الزمخشري والذلّة خروجهم من ديارهم لأن ذلّ الغربة مثلٌ مضروب انتهى ، وينبغي أن يقول استمرار انقطاعهم عن ديارهم لأنّ خروجهم كان سبق على عبادة العجل ، وقال عطية العوفيّ : هو في قتل بني قريظة وإجلاء بني النضير لأنهم تولوا متخذي العجل ،

وقيل : ما نال أولادهم على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من السبي والجلاء والجزية وغيرها ، وجمع هذين القولين الزمخشري فقال

هو ما نال أبناءهم وهم بنو قريضة والنضير من غضب اللّه تعالى بالقتل والجلاء ومن الذلة بضرب الجزية انتهى ، والغضب إن أخذ بمعنى الإرادة فهو صفة ذات أو بمعنى العقوبة فهو صفة فعل والظاهر أن قوله { وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ } متعلق بقوله { سَيَنَالُهُمْ } ، وكذلك أي مثل ذلك النيل من الغضب والذلّة نجزي من افترى الكذب على اللّه وأي افتراء أعظم من قولهم { هَاذَا إِلَاهُكُمْ وَإِلَاهُ مُوسَى } و { الْمُفْتَرِينَ } عامّ في كل مفتر ، وقال أبو قلابة ومالك وسفيان بن عيينة : كل صاحب بدعة أو فرية ذليل واستدلّوا على ذلك بالآية .

١٥٣

والذين عملوا السيئات . . . . .

{وَالَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيّئَاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَءامَنُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ }{ السَّيّئَاتِ } هي الكفر والمعاصي غيره { ثُمَّ تَابُواْ } أي رجعوا إلى اللّه { مِن بَعْدِهَا } أي من بعد عمل السيئات { وَءامَنُواْ } داموا على إيمانهم وأخلصوا فيه أو تكون الواو حالية أي وقد آمنوا أنّ ربك من بعدها أي من بعد عمل السيئات هذا هو الظاهر ، ويحتمل أن يكون الضمير في { مِن بَعْدِهَا } عائداً على التوبة أي { إِنَّ رَبَّكَ } من بعد توبتهم فيعود على المصدر المفهوم من قوله { ثُمَّ تَابُواْ } وهذا عندي أولى لأنك إذا جعلت الضمير عائداً على { السَّيّئَاتِ } ، احتجت إلى حذف مضاف وحذف معطوف إذ يصير التقدير من بعد عمل السيئات والتوبة منها وخبر { الَّذِينَ } قوله { إِنَّ رَبَّكَ } وما بعده والرابط محذوف أي { لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } لهم .

قال الزمخشري :{ لَغَفُورٌ } لستور عليهم محاء لما كان منهم { رَّحِيمٌ } منعم عليهم بالجنة وهذا حكم عام يدخل تحته متخذو العجل ومن عداهم عظم جنايتهم أوّلاً ثم أردفها بعظم رحمته ليعلم أنّ الذنوب وإن جلت وإن عظمت فإن عفوه تعالى وكرمه أعظم وأجلّ ولكن لا بد من حفظ الشريطة وهي وجوب التوبة والإنابة وما وراءه طمع فارغ وأشعبية باردة لا يلتفت إليها حازم انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال .

١٥٤

ولما سكت عن . . . . .

{وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الاْلْوَاحَ وَفِى نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لّلَّذِينَ هُمْ لِرَبّهِمْ يَرْهَبُونَ} سكوت غضبه كان واللّه أعلم بسبب اعتذار أخيه وكونه لم يقصر في نهي بني إسرائيل عن عبادة العجل ووعد اللّه إياه بالانتقام منهم وسكوت الغضب استعارة شبه خمود الغضب بانقطاع كلام المتكلم وهو سكوته . قال يونس بن حبيب : تقول العرب سال الوادي ثم سكت ، وقال الزجاج : مصدر { سَكَتَ } الغضب سكت ومصدر سكت الرجل سكوت وهذا يقتضي أنه فعل على حدّه وليس من سكوت الناس ،

وقيل هو من باب القلب أي ولمّا سكت موسى عن الغضب نحو أدخلت في فيّ الحجر ، وأدخلت القلنسوة في رأسي انتهى ، ولا ينبغي هذا لأنه من القلب وهو لم يقع إلاّ في قليل من الكلام والصحيح أنه لا ينقاس ،

وقال الزمخشري وهذا مثل كأنّ الغضب كان يغريه على ما فعل ويقول له قل لقومك كذا وألق الألواح وخذ برأس أخيك إليك فترك النطق بذلك وترك الإغراء ولم يستحسن هذه الكلمة ولم يستفصحها كل ذي طبع سليم وذوق صحيح إلا لذلك ولأنه من قبيل شعب البلاغة ، وإلا فما لقراءة معاوية بن قرة ولما سكن عن موسى الغضب لا تجد النفس عندها شيئاً من تلك الهزة وطرفاً من تلك الروعة ، وقرىء أسكت رباعيّاً مبنيّاً للمفعول ، وكذا هو في مصحف حفصة والمنوي عند اللّهأو أخوه باعتذاره إليه أو تنصله أي أسكت اللّهأو هارون ، وفي مصحف عبد اللّه ولما صبر ، وفي مصحف أبي ولما انشق والمعنى ولما طفى غضبه أخذ ألواح التوراة التي كان ألقاها من يده ، روي عن ابن عباس أنه ألقاها فتكسرت فصام أربعين يوماً فردّت إليه في لوحين ولم يفقد منها شيئاً وفي نسختها أي فيما نسخ من الألواح المكسرة أو فيما نسخ فيها أو فيما بقي منها بعد المرفوع وهو سبعها والأظهر أنّ المعنى وفيما نقل وحوّل منها واللام في { لِرَبّهِمُ } تقوية لوصول الفعل إلى مفعوله المتقدم ، وقال الكوفيّون : هي زائدة ، وقال الأخفش : هي لام المفعول له أي لأجل ربهم { يَرْهَبُونَ } لا رياء ولا سمعة ، وقال المبرد : هي متعلقة بمصدر المعنى الذين هم رهبتهم لربهم وهذا على طريقة البصريين لا يتمشّى لأنّ فيه حذف المصدر وإبقاء معموله وهو لا يجوز عندهم إلا في الشعر وأيضاً فهذا التقدير يخرج الكلام عن الفصاحة .

١٥٥

واختار موسى قومه . . . . .

{وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لّمِيقَاتِنَا}{ اختار } افتعل من الخير وهو التخير والانتقاء { يَرْهَبُونَ وَاخْتَارَ } من الأفعال التي تعدت إلى اثنين أحدهما بنفسه والآخر بوساطة حرف الجر وهي مقصورة على السماع وهي اختار واستغفر وأمر وكنّى ودعا وزوج وصدق ، ثم يحذف حرف الجر ويتعدّى إليه الفعل فيقول اخترت زيداً من الرجال واخترت زيداً الرجال . قال الشاعر : اخترتك الناس إذ رثت خلائقهم

واعتل من كل يرجى عنده السّول

أي اخترتك من الناس و { سَبْعِينَ } هو المفعول الأوّل ، و { قَوْمِهِ } هو المفعول الثاني وتقديره { مِن قَوْمِهِ } ومن أعرب { قَوْمِهِ } مفعولاً أوّل و { سَبْعِينَ } بدلاً منه بدل بعض من كلّ وحذف الضمير أي { سَبْعِينَ رَجُلاً } منهم احتاج إلى تقدير مفعول ثان وهو المختار منه فإعرابه فيه بعد وتكلف حذف في رابط البدل وفي المختار منه واختلفوا في هذا الميقات أهو ميقات

المناجاة ونزول التوراة أو غيره ، فقال نوف البكالي ورواه أبو صالح عن ابن عباس : وهو الأوّل بيّن فيه بعض ما جرى من أحواله وأنه اختار من كل سبط ستة رجال فكانوا اثنين وسبعين ، فقال ليتخلف اثنان فإنما أمرت بسبعين فتشاحوا ، فقال : من قعد فله أجر من حضر فقعد كالب بن يوقنا ويوشع بن نون واستصحب السبعين بعد أن أمرهم أن يصوموا ويتطهّروا ويطهروا ثيابهم ثم خرج بهم إلى طور سيناء لميقات ربه وكان أمره ربه أن يأتيه في سبعين من بني إسرائيل فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه عمود الغمام حتى تغشى الجبل كله ودنا موسى ودخل فيه وقال للقوم : ادنوا فدنوا حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجّداً فسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه افعل ولا تفعل ، ثم انكشف الغمام فأقبلوا إليه فطلبوا الرؤية فوعظهم وزجرهم وأنكر عليهم فقالوا : { قُلْتُمْ يَامُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللّه جَهْرَةً}

قال الزمخشري : فقال { رَبّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ } يريد أن يسمعوا الردّ والإنكار من جهته ، فأجيب : بلن تراني ورجف الجبل بهم وصعقوا انتهى ،

وقيل : هو ميقات آخر غير ميقات المناجاة ونزول التوراة ، فقال وهب بن منبه : قال بنو إسرائيل لموسى إن طائفةً تزعم أنّ اللّه لا يكلمك فخذ منا من يذهب معك ليسمعوا كلامه فيؤمنوا فأوحى اللّه تعالى إليه أن يختار من قومه سبعين من خيارهم ثم ارتقِ بهم الجبل أنت وهارون واستخلف يوشع ، ففعل فلما سمعوا كلامه سألوا موسى أن يريهم اللّه جهرة فأخذتهم الرجفة ، وقال السدّي : هو ميقات وقته اللّه تعالى لموسى يلقاه في ناس من بني إسرائيل ليعتذروا إليه من عبادة العجل ،

وقال ابن عباس فيما روى عنه عليّ بن طلحة هو ميقات وقته اللّه لموسى وأمره أن يختار من قومه سبعين رجلاً ليدعوا ربهم فدعوا فقالوا يا اللّه أعطنا ما لم تعطِ أحداً قبلنا ولا أحداً بعدنا فكره اللّه ذلك فأخذتهم الرّجفة ، وعن علي رضي اللّه عنه فيما روى ابن أبي شيبة أن موسى وهارون وابناه شبّر وشبير انطلقوا حتى انتهوا إلى جبل فيه سرير فقام عليه هارون فقبض روحه فرجع موسى إلى قومه فقالوا : أنت قتلته وحسدتنا على خلقه ولينه ، فقال : كيف أقتله ومعي ابناه ، قال : فاختاروا من شئتم فاختير سبعون فانتهوا إليه فقالوا من قتلك يا هارون قال ما قتلني أحد ولكنّ اللّه توفاني ، قالوا : يا موسى ما نعصي بعد فأخذتهم الرّجفة فجعلوا يتردّون يميناً وشمالاً انتهى ، ولفظ { لّمِيقَاتِنَا } في هذا القول الذي روي عن عليّ لأنه يقتضي أنه كان عن توقيت من اللّه تعالى ، وقال ابن السائب : كان موسى لا يأتي ربه إلا بإذن منه والذي يظهر أن هذا الميقات غير ميقات موسى الذي قيل طفيه :{ وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ } لظاهر تغاير القصتين وما جرى فيهما إذ في تلك أن موسى كلمه اللّه وسأله الرؤية وأحاله في الرؤية على تجليه للجبل وثبوته فلم يثبت وصار دكّاً وصعق موسى وفي هذه اختير السبعون لميقات اللّه وأخذتهم الرّجفة ولم تأخذ موسى ، وللفصل الكثير الذي بين أجزاء الكلام لو كانت قصة واحدة .

{فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مّن قَبْلُ وَإِيَّاىَ} سبب الرجفة مختلف فيه وهو مرتب على تفسير الميقات فهل الرّجفة عقوبة على سكوتهم وإغضائهم على عبادة العجل أو عقوبة على سؤالهم الرؤية أو عقوبة لتشططهم في الدعاء المذكور أو سببه سماع كلام هارون وهو ميت أقوال . وقال السدّي : عقوبة على عبادة هؤلاء السبعين باختيارهم العجل وخفي ذلك عن موسى في وقت الاختيار حتى أعلمه اللّه وأخذ الرّجفة يحتمل أن نشأ عنه الموت ويحتمل أن نشأ عنه الغشي وهما قولان ، وقال السدّي قال موسى : كيف أرجع إلى بني إسرائيل وقد أهلكت خيارهم فماذا أقول وكيف يأمنونني على أحد فأحياهم اللّه ،

وقيل أخذتهم الرّعدة حتى كادت تبين مفاصلهم وتنتقض ظهورهم وخاف موسى الموت فعند ذلك بكى ودعا فكشف عنهم ،

قال الزمخشري : وهذا تمنّ منه للإهلاك قبل أن يرى ما رأى من تبعة طلب الرؤية كما يقال النادم على الأمر إذا رأى سوء المغبّة لو شاء اللّه لأهلكني قبل هذا انتهى . فمعنى قوله { مِن قَبْلُ } سؤال الرّؤية وهذا بناء من الزمخشري على أنّ هذا الميقات هو ميقات المناجاة وطلب الرؤية وقد ذكرنا أنّ الأظهر خلافه ، وقال ابن عطية لما رأى موسى ذلك أسف عليهم وعلم أن أمر بني إسرائيل يتشعّب إن لم يأتِ بالقوم فجعل يستعطف ربه أن يا رب لو شئت أهلكتهم قبل هذه الحال وإياي لكان أخفّ عليّ وهذا وقت هلاكهم فيه مفسدة عليّ مؤذٍ لي انتهى ، ومفعول { شِئْتَ } محذوف تقديره لو شئت إهلاكنا وجواب { لَوْ أَهْلَكْتَهُم } وأتى دون لام وهو فصيح لكنه باللام أكثر كما قال { لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ }{ وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ } ، ولا يحفظ جاء بغير لام في القرآن ألا هذا وقوله { أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَاهُمْ } و { لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً } والمحذوف في { مِن قَبْلُ } أي من قبل الختيار وأخذ الرّجفة وذلك زمان إغضائهم على عبادة العجل أو عبادتهم هم أياه وقوله { وَإِيَّاىَ } أي وقت قتلي القبطي فأنت قد سترت وغفرت حينئذ فكيف الآن إذ رجوعي

دونهم فساد لبني إسرائيل قال أكثره ابن عطية وعطف وإياي على الضمير المنصوب في أهلكتهم وعطف الضمير مما يوجب فصله وبدأ بضميرهم لأنّهم الذين أخذتهم الرجفة فماتوا أو أغمي عليهم ولم يمت هو ولا أغمي عليه ولم يكتفِ بقوله أهلكتهم من قبل حتى أشرك نفسه فيهم وإن كان لم يشركهم في مقتضى الإهلاك تسليماً منه لمشيئة اللّه تعالى وقدرته وأنه لو شاء إهلاك العاصي والطائع لم يمنعه من ذلك مانع .

{أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا } قيل : هذا استفهام على سبيل الإدلاء بالحجة في صيغة استعطاف وتذلّل والضمير المنصوب في أتهلكنا له وللسبعين وبما فعل السفهاء فيه الخلاف مرتّباً على سبب أخذ الرّجفة من طلب الرؤية أو عبادة العجل أو قولهم قتلت هارون أو تشططهم في الدعاء أو عبادتهم بأنفسهم العجل ،

وقيل : الضمير في أتهلكنا له ولبني إسرائيل وبما فعل السفهاء أي بالتفرّق والكفر والعصيان يكون هلاكهم ،

وقال الزمخشري يعني نفسه وإياهم لأنه إنما طلب الرؤية زجراً للسفهاء وهم طلبوها سفهاً وجهلاً والذي يظهر لي أنه استفهام استعلام اتبع إهلاك المختارين وهم خير بني إسرائيل بما فعل غيرهم إذ من الجائز في العقل ذلك ألا ترى إلى قوله تعالى :{ وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً } وقوله عليه السلام ، وقد قيل له : أنهلك وفينا الصالحون قال : { نعم إذا كثر الخبث} . وكما ورد أن قوماً يخسف بهم قيل : وفيهم الصالحون فقيل : يبعثون على نيّاتهم أو كلاماً هذا معناه وروي عن عليّ أنهم أحيوا وجعلوا أنبياء كلهم .

{إِنْ هِىَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِى مَن تَشَاء } أي إن فتنتهم إلا فتنتك والضمير في هي يفسره سياق الكلام أي أنت هو الذي فتنتهم قالت فرقة لما أعلمه اللّه أنّ السبعين عبدوا العجل تعجب وقال إن هي إلا فتنتك ،

وقيل لما أعلم موسى بعبادة بني إسرائيل العجل وبصفته قال : يا ربّ ومن أخاره قال : أنا قال : لّموسى فأنت أضللتهم إن هي إلا فتنتك ،

قال ابن عطية : ويحتمل أن يشير به إلى قولهم أرنا اللّه جهرة إذ كانت فتنة من اللّه أوجبت الرّجفة وفي هذه الآية ردّ على المعتزلة ،

وقال الزمخشريأي محنتك وبلاؤك حين كلمتني وسمعت كلامك فاستدلوا بالكلام على الرؤية استدلالاً فاسداً حتى افتتنوا وضلوا تضلّ بها الجاهلين غير الثابتين في معرفتك وتهدي العالمين الثابتين بالقول الثابت ، وجعل ذلك إضلالاً من اللّه تعالى وهدى منه لأنّ محنته إنما كانت سبباً لأن ضلّوا واهتدوا فكأنه أضلّهم بها وهداهم على الاتساع في الكلام انتهى وهو على طريقة المعتزلة في نفيهم الإضلال عن اللّه تعالى .

{أَنتَ وَلِيُّنَا } القائم بأمرنا { فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} سأل الغفران له ولهم والرحمة لما كان قد اندرج قومه في قوله أنت وليّنا وفي سؤال المغفرة والرحمة له ولهم وكان قومه أصحاب ذنوب أكد استعطاف ربه تعالى في غفران تلك الذنوب فأكد ذلك ونبه بقوله وأنت خير الغافرين ولما كان هو وأخوه هارون عليه السلام من المعصومين من الذنوب فحين سأل المغفرة له ولأخيه وسأل الرحمة لم يؤكد الرحمة بل قال : وأنت أرحم الراحمين فنبه على أنه تعالى أرحم الراحمين ، ألا ترى إلى قوله :{ وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْء } وكان تعالى خير الغافرين لأنّ غيره يتجاوز عن الذنب طلباً للثناء أو الثواب أو دفعاً للصفة الخسيسة عن القلب وهي صفة الحقد والباري سبحانه وتعالى منزّه عن أن يكون غفرانه لشيء من ذلك .

١٥٦

واكتب لنا في . . . . .

{وَاكْتُبْ لَنَا فِى هَاذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الاْخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} أي وأثبت لنا عاقبةً وحياة طيبة أو عملاً صالحاً يستعقب ثناء حسناً في الدنيا وفي الآخرة الجنة والرؤية والثواب على حسنة الدنيا والأجود حمل الحسنة على ما يحسن من نعمة وطاعة وغير ذلك وحسنة الآخرة الجنة لا حسنة دونها وإنا هدنا تعليل لطلب الغفران والحسنة وكتب الحسنة أي تبنا إليك قاله ابن عباس ومجاهد وابن جبير وأبو العالية وقتادة والضحاك والسدّي : من هاد يهود ، وقال ابن بحر : تقرّ بالتوبة ،

وقيل : ملنا . ومنه قول الشاعر :

قد علمت سلمى وجاراتها

أني من اللّه لها هائد

أي مائل ،

وقرأ زيد بن علي وأبو وجزة هدنا بكسر الهاء من هاد يهيد إذا حرك أي حرّكنا أنفسنا وجذبناها لطاعتك فيكون الضمير فاعلاً ويحتمل أن يكون مفعولاً لم يسمَّ فاعله أي حركنا إليك وأملنا والضم في هدنا يحتملهما وتضمنت هذه الجمل كونه تعالى هو ربهم ووليهم وأنهم تائبون عبيد له خاضعون فناسب عزّ الرّبوبية أن يستعطف للعبيد التائبين الخاضعين بسؤال المغفرة والرّحمة والكتب .

{قَالَ عَذَابِى أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْء} الظاهر أنه استئناف إخبار عن عذابه ورحمته ويندرج في قوله : أصيب به من أشاء أصحاب الرّجفة ،

وقيل العذاب هنا هو الرّجفة ومن أشاء أصحابها والمعنى أنه لا اعتراض عليه أي من أشاء عذابه ،

وقيل : من أشاء أن لا أعفو عنه ،

وقيل : من أشاء من خلقي كما أصبت به قومك ،

وقيل : من أشاء من الكفار ،

وقيل المشيئة راجعة إلى التعجيل والإمهال لا إلى الترك والإهمال ،

وقال الزمخشري : ممن أشاء من وجب عليّ في الحكمة تعذيبه ولم يكن في العفو عنه مساغ لكونه مفسدة انتهى ، وهو على طريقة المعتزلة ،

وقال ابن عباس أصيب من أشاء على الذنب اليسير ، وقال أيضاً وسعت كل شيء من ذنوب المؤمنين ، وقال أبو روق هي التعاطف بين الخلائق ، وقال ابن زيد : هي التوبة على العموم ، وقال الحسن : هي في الدنيا بالرزق عامة وفي الآخرة بالمؤمنين خاصة ،

وقال الزمخشري :

وأما رحمتي فمن حالها وصفتها أنها واسعة كل شيء ما من مسلم ولا كافر ولا مطيع ولا عاص إلا وهو متقلب في نعمتي انتهى ، وهو بسط قول الحسن : هي في الدنيا بالرزق عامة ،

وقرأ زيد بن علي والحسن وطاووس وعمرو بن فائد من أساء من الإساءة ، وقال أبو عمرو والدّاني : لا تصحّ هذه القراءة عن الحسن وطاووس وعمرو بن فائد رجل سوء ،

وقرأ بها سفيان بن عيينة مرّة واستحسنها فقام إليه عبد الرحمن المقري وصاح به وأسمعه فقال سفيان : لم أدرِ ولم أفطن لما يقول أهل البدع وللمعتزلة تعلّق بهذه القراءة من جهة إنفاذ الوعيد ومن جهة خلق المرء أفعاله وإن أساء لا فعل فيه اللّه تعالى والانفصال عن هذا كالانفصال عن سائر الظواهر .

{وَاكْتُبْ لَنَا فِى هَاذِهِ الدُّنْيَا} أي أقضيها وأقدّرها والضمير عائد على الرحمة لأنها أقرب مذكور ويحتمل عندي أن يعود على حسنة في قوله واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة أي فسأكتب الحسنة وقاله ابن عباس ونوف البكالي وقتادة وابن جريج والمعنى متقارب لما سمع إبليس ورحمتي وسعت كل شيء تطاول لها إبليس فلما سمع فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة يئس ، وبقيت اليهود والنصارى فلما تمادت الصفة تبين أنّ المراد أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم ويئس النصارى واليهود من الآية ، وقال أهل التفسير : عرض اللّه هذه الخِلال على قوم موسى فلم يتحملوها ولما انطلق وفد بني إسرائيل إلى الميقات قيل : لهم خطت لكم الأرض مسجداً وطهوراً إلا عند مرحاض أو قبر أو حمام وجعلت السّكينة في قلوبهم فقالوا : لا نستطيع فاجعل السكينة في التابوت والصلاة في الكنيسة ولا نقرأ التوراة إلا عن نظر ولا نصلي إلا في الكنيسة فقال اللّه تعالى : فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة من أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم ، وقال نوف البكالي : إن موسى عليه السلام قال : يا رب جعلت وفادتي لأمة محمد ، قال نوف فاحمدوا اللّه الذي جعل وفادة بني إسرائيل لكم ومعنى

يتّقون قال ابن عباس : وفرقة الشّرك ، وقالت فرقة المعاصي فمن قال الشرك لا غير خرج إلى قول المرجئة ويردّ عليه من الآية شرط الإعمال بقوله ويؤتون الزكاة ، ومن قال : المعاصي ولا بدّ خرج إلى قول المعتزلة ،

قال ابن عطية : والصواب أن تكون اللفظة عامة ولكن لا نقول لا بدّ من اتقاء المعاصي بل نقول مواقع المعاصي في المشيئة ومعنى يتّقون يجعلون بينهم وبين المتقي حجاباً ووقاية ، فذكر تعالى الرتبة العالية ليتسابق السامعون إليها انتهى ، ويؤتون الزكاة الظاهر أنها زكاة المال وبه قال ابن عباس وروي عنه : ويؤتون الأعمال التي يزكون بها أنفسهم ، وقال الحسن : تزكية الأعمال بالإخلاص انتهى ، ولما كانت التكاليف ترجع إلى قسمين تروك وأفعال والأفعال قسمان راجعة إلى المال وراجعة إلى نفس الإنسان وهذان قسمان علم وعمل فالعلم المعرفة والعمل إقرار باللسان ، وعمل بالأركان فأشار بالاتقاء إلى التروك وبالفعل الراجح إلى المال بالزكاة وأشار إلى ما بقي بقوله : { وَالَّذِينَ هُم بِئَايَاتِنَا يُؤْمِنُونَ } وهذه شبيهة بقوله { هُدًى لّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } الآية وفهم المفسرون من قوله الذين يتقون إلى آخر الأوصاف إنّ المتصفين بذلك هم أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم ، ويحتمل أن يكون من باب التغاير بين المعطوف والمعطوف عليه فيكون قوله للذين يتّقون ويؤتون الزكاة لمن فعل ذلك قبل الرسول ويكون قوله والذين هم بآياتنا يؤمنون من فعل ذلك بعد البعثة وفسّر الآيات هنا بأنها القرآن وهو الكتاب المعجز .

١٥٧

الذين يتبعون الرسول . . . . .

التعزير قال يونس بن حبيب التعزير هو الثناء والمدح . الانبجاس العرق . قال أبو عمرو بن العلاء : انبجست عرقت وانفجرت سالت ، وقال الواحدي الانبجاس الانفجار يقال : نجس وانبجس ، الحوت معروف يجمع في القلة على أخوات وفي الكثرة على حيتان وهو قياس مطّرد في فعل واوي العين نحو عود وأعواد وعيدان .

{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِىَّ الامّىَّ الَّذِى يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِى التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} هذا من بقية خطابه تعالى لموسى عليه السلام وفيه تبشير له ببعثة محمد صلى اللّه عليه وسلم وذكر لصفاته وإعلام له أيضاً أنه ينزل كتاباً يسمى الإنجيل ومعنى الاتباع الاقتداء فيما جاء به اعتقاداً وقولاً وفعلاً وجمع هنا بين الرسالة والنبوة لأن الرسالة في بني آدم أعظم شرفاً من النبوة أو لأنها بالنسبة إلى الآدمي والملك أعم فبُدىء به والأميّ الذي هو على صفة أمة العرب إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب فأكثر العرب لا يكتب ولا يقرأ قاله الزجاج ، وكونه أمّياً من جملة المعجز ،

وقيل : نسبة إلى أم القرى وهي مكة ، وروي عن يعقوب وغيره أنه قرأ الأميّ بفتح الهمزة وخرج على أنه من تغيير النسب والأصل الضّم كما قيل في النسب إلى أميّة أموي بالفتح أو على أنه نسب إلى المصدر من أم ومعناه المقصود أي لأنّ هذا النبي مقصد للناس وموضع أم ، وقال أبو الفضل الرازي : وذلك مكة فهو منسوب إليه لكنها ذكرت إرادة للحرم أو الموضع ومعنى يجدونه أي يجدون وصفه ونعته ، قال التبريزي : في التوراة أي سأقيم له نبيًّا من إخوتهم مثلك وأجعل كلامي في فيه ويقول لهم كلما أوصيته وفيها

وأما النبي فقد باركت عليه جدًّا جدًّا وسأدخره لأمة عظيمة وفي الإنجيل يعطيكم الفارقليط آخر يعطيكم معلم الدهر كله ، وقال المسيح : أنا أذهب وسيأتيكم الفارقليط روح الحق الذي لا يتكلم من قبل نفسه ويمدحني ويشهد لي ويحتمل أن يكون بأمرهم بالمعروف إلى آخره متعلقاً بيجدونه فيكون في موضع الحال على سبيل التجوّز فيكون حالاً مقدرة ويحتمل أن يكون من وصف النبي كأنه قيل : الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر وكذا وكذا ، وقال أبو عليّ يأمرهم : تفسير لما كتب من ذكره كقوله : خلقه من تراب ولا يجوز أن يكون حالاً من الضمير في يجدونه لأن الضمير للذكر والاسم والاسم والذكر لا يأمران ، قال ابن عباس وعطاء : يأمرهم بالمعروف أي بخلع الأنداد ومكارم الأخلاق وصلة الأرحام ، وقال مقاتل : الإيمان ،

وقيل : الحق ، وقال الزجاج : كل ما عرف بالشّرع والمنكر ، قال ابن عباس : عبادة الأوثان وقطع الأرحام ، وقال مقاتل : الشّرك ،

وقيل : الباطل ،

وقيل : الفساد ومبادىء الأخلاق ،

وقيل : القول في صفات اللّه بغير علم والكفر بما أنزل وقطع الرحم والعقوق .

{وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ } تقدّم ذكر الخلاف في الطيّبات في قوله كلوا من طيبات أهي الحلال أو المستلذّ وكلاهما قيل هنا ،

وقال الزمخشريّ : ما حرّم عليهم من الأشياء الطيبة كالشحوم وغيرها أو ما طاب في الشريعة واللحم مما ذكر اسم اللّه عليه من الذبائح وما خلا كسبه من السحت انتهى ،

وقيل : ما كانت العرب تحرمه من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام واستبعد أبو عبد اللّه الرازي قول من قال : إنها المحلّلات لتقديره ويحلّ لهم المحللات قال وهذا محض التكذيب ، ولخروج

الكلام عن الفائدة لأنا لا ندري ما أحلّ لنا وكم هو قال : بل الواجب أن يراد المستطابة بحسب الطبع لأن تناولها يفيد اللذة والأصل في المنافع الحلّ فدلت الآية على أن كل ما تستطيبه النفس ويستلذه الطبع حلال إلا ما خرج بدليل منفصل .

{وَيُحَرّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَئِثَ } قيل : المحرمات ،

وقيل : ما تستخبثه العرب كالعقرب والحية والحشرات ،

وقيل : الدم والميتة والحم الخنزير ،

وعن ابن عباس ما في سورة المائدة إلى قوله ذلكم فسق .

{وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالاْغْلَالَ الَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ} قرأ طلحة ويذهب عنهم إصرهم وتقدم تفسير الإصر في آخر سورة البقرة ، وفسره هنا قتادة وابن جبير ومجاهد والضحاك والحسن وغيرهم بالثقل ،

وقرأ ابن عامر : آصارهم جمع إصر ، وقرىء أصرهم بفتح الهمزة وبضمها فمن جمع فباعتبار متعلّقات الإصر إذ هي كثيرة ومن وحد فلأنه اسم جنس ، والأغلال مثل لما كلفوا من الأمور الصعبة كقطع موضع النجاسة من الجلد والثوب وإحراق الغنائم والقصاص حتماً من القاتل عمداً كان أو خطأ وترك الاشتغال يوم السبت وتحريم العروق في اللحم وعن عطاء : أنّ بني إسرائيل كانوا إذا قاموا إلى الصلاة لبسوا المسوح وغلوا أيديهم إلى أعناقهم وربما ثقب الرجل ترقوته وجعل فيها طرف السلسلة وأوثقها إلى السارية يحبس نفسه على العبادة ، وروي أن موسى عليه السلام رأى يوم السبت رجلاً يحمل قصباً فضرب عنقه وهذا المثل كما قالوا جعلت هذا طوقاً في عنقك وقالوا طوقها طوق الحمامة ، وقال الهذلي : وليس كهذا الدار يا أمّ مالك

ولكن أحاطب بالرّقاب السلاسل

فصار الفتى كالكهل ليس بقابل

سوى العدل شيئاً واستراح العواذل

وليس ثمّ سلاسل وإنما أراد أنّ الإسلام ألزمه أموراً لم يكن ملتزماً لها قبل ذلك كما قال الإيمان قيد الفتك ، وقال ابن زيداً الأغلال يريد في قوله غلت أيديهم فمن آمن زالت عنه الدعوة وتغليلها .

{فَالَّذِينَ ءامَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِى أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وعزّروه أثنوا عليه ومدحوه .

قال الزمخشري : منعوه حتى لا يقوى عليه عدوّ ،

وقرأ الجحدري وقتادة وسليمان التيمي وعيسى بالتخفيف ،

وقرأ جعفر بن محمد وعزّزوه بزايين والنور القرآن قاله قتادة ، و

قال ابن عطية : هو كناية عن جملة الشريعة .

وقيل مع بمعنى عليه أي الذي أنزل عليه .

وقيل هو على حذف مضاف أي أنزل مع نبوته لأن استنباءه كان مصحوباً بالقرآن مشفوعاً به وعلى هذين القولين يكون العامل في الظرف أنزل ويجوز عندي أن كون معه ظرفاً في موضع الحال فالعامل فيه محذوف تقديره أنزل كائناً معه وهي حال مقدّرة كقوله مررت برجل معه صقر صائداً به غدا فحالة الإنزال لم يكن معه لكنه صار معه بعد كما إنّ الصيد لم يكن وقت المرور ، وقال الزمخشر : ويجوز أن يعلّق باتبعوا أي واتبعوا القرآن المنزل مع اتباع النبي صلى اللّه عليه وسلم والعمل بسنته وبما أمر به أي واتبعوا القرآن كما اتبعه مصاحبين له في اتباعه وفي قوله فالذين آمنوا به إلى آخره إشارة إلى من آمن من أعيان بني إسرائيل بالرسول كعبد اللّه بن سلام وغيره من أهل الكتابين .

١٥٨

قل يا أيها . . . . .

{قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا النَّاسُ إِنّى رَسُولُ اللّه إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ لا إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ يُحْىِ وَيُمِيتُ} لما ذكر تعالى لموسى عليه السلام صفة محمد صلى اللّه عليه وسلم وأخبر أن من أدركه وآمن به أفلح أمر تعالى نبيه بإشهار دعوته ورسالته إلى الناس كافة والدعاء إلى الإيمان باللّه ورسوله وكلماته واتباعه ودعوة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عامّة للإنس والجنّ قاله الحسن ، وتقتضيه الأحاديث والذي في موضع نصب على المدح أو رفع

وأجاز الزمخشري أن يكون مجروراً صفة للّه قال وإنْ حيل بين الصفة والموصوف بقوله إليكم ، وقال أبو البقاء : ويبعد أن يكون صفةً للّهأو بدلاً منه لما فيه من الفصل بينهما بإليكم وبالحال وإليكم متعلّق برسول وجميعاً حال من ضمير إليكم وهذا الوصف يقتضي الإذعان والانقياد لمن أرسله إذ له الملك فهو المتصرف بما يريد وفي حصر الإلهية له نفي الشركة لأن من كان له ملك هذا العالم لا يمكن أن يشركه أحد فهو المختص بالإلهية وذكر الإحياء والإماتة إذ هما وصفان لا يقدر عليهما إلا اللّه وهما إشارة إلى الإيجاد لكلّ شيء يريده الإعدام والأحسن أن تكون هذه جملاً مستقلة من حيث الإعراب وإن كانت متعلقاً بعضها ببعض من حيث المعنى .

وقال الزمخشري : لا إله إلا هو بدل من الصلة التي هي له ملك السموات والأرض وكذلك يحيي ويميت وفي لا إله إلا هو بيان للجملة قبلها لأن من ملك العالم كان هو الإله على الحقيقة وفي يحيي ويميت بيان لاختصاصه بالإلهية لأنه لا يقدر على الإحياء والإماتة غيره انتهى ، وإبدال الجمل من الجمل غير المشتركة في عامل لا نعرفه ، وقال الحوفي : يحيي ويميت في موضع الخبر لأن لا إله في موضع رفع بالابتداء وإلا هو بدل على الموضع قال : والجملة أيضاً في موضع الحال من اسم اللّه تعالى انتهى ، يعني من ضمير اسم اللّه وهذا إعراب متكلف .

{قُلْ ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنّى رَسُولُ اللّه إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَاواتِ} لما ذكر أنه رسول اللّه أمرهم بالإيمان باللّه وبه عدل عن ضمير المتكلم إلى الظاهر وهو الالتفات لما في ذلك من البلاغة بأنه هو النبي السابق ذكره في قوله الذين يتبعون الرسول النبي الأميّ وأنه هو المأمور باتباعه الموجود بالأوصاف السابقة والظاهر أن كلماته هي الكتب الإلهية التي أنزلت على من تقدمه وعليه ولما كان الإيمان باللّه هو الأصل يتفرع عنه الإيمان بالرسول والنبي بدأ به ثم أتبعه بالإيمان بالرسول ثم أتبع ذلك بالإشارة إلى المعجز الدّال على نبوّته وهو كونه أمّيّاً وظهر عنه من المعجزات في ذاته ما ظهر من القرآن الجامع لعلوم الأوّلين والآخرين مع نشأته في بلد عار من أهل العلم لم يقرأ كتاباً ولم يخطّ ولم يصحب عالماً ولا غاب عن مكة غيبة تقتضي تعلماً .

وقيل : وكلماته المعجزات التي ظهرت من خارج ذاته مثل انشقاق القمر ونبع الماء من بين أصابعه وهي تسمى بكلمات اللّه لما كانت أموراً خارقة غريبة كما سمّي عيسى عليه السلام لما كان حدوثه أمراً غريباً خارقاً كلمة ،

وقرأ مجاهد وعيسى : وكلمة وحد وأراد به الجمع نحو أصدق كلمة قالتها العرب قول لبيد وقد يقولون للقصيدة كلمة وكلمة فلان ، وقال مجاهد والسدّي : المراد بكلماته وكلمته أي بعيسى لقوله : وكلمته ألقاها إلى مريم ،

وقيل : كلمة كن التي تكون بها عيسى وسائر الموجودات ،

وقرأ الأعمش : الذي يؤمن باللّه وآياته بدل كلماته ولما أمروا بالإيمان باللّه ورسوله وذلك هو الإعتقاد أمروا بالاتباع له فيما جاء به وهو لفظ يدخل تحته جميع التزامات الشريعة وعلق رجاء الهداية باتباعه .

١٥٩

ومن قوم موسى . . . . .

{وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } لما أمر بالإيمان باللّه ورسوله وأمر باتباعه ذكر أنّ من قوم موسى من وفق للّهداية وعدل ولم يجر ولم تكن له هداية إلا باتباع شريعة موسى قبل مبعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وباتباع شريعة رسول اللّه بعد مبعثه فهذا إخبار عن من كان من قوم موسى بهذه الأوصاف فكان المعنى أنهم كلهم لم يكونوا ضلالاً بل كان منهم مهتدون ، قال السائب : هو قوم من أهل الكتاب آمنوا بنبينا صلى اللّه عليه وسلم كعبد اللّه بن سلام وأصحابه وقال قوم : هم أمة من بني إسرائيل تمسكوا بشرع موسى قبل نسخه ولم يبدّلوا ولم يقتلوا الأنبياء ،

وقال الزمخشري هم المؤمنون التائبون من بني إسرائيل لما ذكر الذين نزلوا منهم ذكر أمة مؤمنين تائبين يهدون الناس بكلمة الحق ويدلونهم على الاستقامة ويرشدونهم وبالحق يعدلون بينهم في الحكم ولا يجورون أو أراد الذين وصفهم ممن أدرك النبي صلى اللّه عليه وسلم وآمن به من أعقابهم انتهى ، و

قال ابن عطية : يحتمل أن يريد به الجماعة التي آمنت بمحمد صلى اللّه عليه وسلم على جهة الاستجلاب لإيمان جميعهم ويحتمل أن يريد به

وصف المؤمنين التائبين من بني إسرائيل ومن اهتدى واتقى وعدل انتهى ، وما روي عن ابن عباس والسدي وابن جريج أنهم قوم اغتربوا من بني إسرائيل ودخلوا سرباً مشوا فيه سنة ونصفاً تحت الأرض حتى خرجوا وراء الصين فهم هناك يقيمون الشرع في حكايات طويلة ذكرها الزمخشري وصاحب التحرير والتحبير يوقف عليها هناك لعله لا يصح

وفي قوله : ومن قوم موسى إشارة إلى التقليل وأنّ معظمعم لا يهدي بالحق ولا يعدل به وهم إلى الآن ، كذلك دخل في الإسلام من النصارى عالم لا يعلم عددهم إلا اللّه تعالى

وأما اليهود فقليل من آمن منهم .

١٦٠

وقطعناهم اثنتي عشرة . . . . .

{وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَىْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا } أي وقطعنا قوم موسى ومعناه فرّقناهم وميّزناهم وفي ذلك رجوع أمر كل سبط إلى رئيسة ليخفّ أمرهم على موسى ولئلا يتحاسدوا فيقع الهرج ولهذا فجّر لهم اثنتي عشرة عيناً لئلا يتنازعوا ويقتتلوا على الماء ولهذا جعل لكلّ سبط نقيباً ليرجع بأمرهم إليه وتقدّم تفسير الأسباط ،

وقرأ إبان بن تغلب عن عاصم بتخفيف الطاء وابن وثاب والأعمش وطلحة بن سليمان عشرة بكسر الشين ، وعنهم الفتح أيضاً وأبو حيوة وطلحة بن مصرف بالكسر وهي لغة تميم والجمهور بالإسكان وهي لغة الحجاز واثنتي عشرة حال وأجاز أبو البقاء أن يكون قطعنا بمعنى صيرنا وأن ينتصب اثنتي عشرة على أنه مفعول ثان لقطعناهم ولم يعد النحويون قطعنا في باب ظننت وجزم به الحوفي فقال اثنتي عشرة مفعول لقطعناهم أي جعلنا اثنتي عشرة وتمييز اثنتي عشرة محذوف لفهم المعنى تقديره اثنتي عشرة فرقة وأسباطاً بدل من اثنتي عشرة وأمماً . قال أبو البقاء نعت لأسباطاً أو بدل بعد بدل ولا يجوز أن يكون أسباطاً تمييزاً لأنه جمع وتمييز هذا النوع لا يكون إلا مفرداً وذهب الزمخشري إلى أن أسباطاً تمييز قال : { فإن قلت } : مميز ما بعد العشرة مفرد فما وجه مجيئه مجموعاً وهلا قيل : اثنتي عشر سبطاً ،  { قلت } : لو قيل ذلك لم يكن تحقيقاً لأنّ المراد وقطعناهم اثنتي عشرة قبيلة وكلّ قبيلة أسباط لا سبط فوضع أسباطاً موضع قبيلة ونظيره ، بين رماحي مالك ونهشل ، وأمماً بدل من اثنتي عشرة بمعنى وقطعناهم أمماً لأنّ كل أسباط كانت أمة عظيمة وجماعة كثيفة العدد وكل واحدة تؤمّ خلاف ما تؤمّه الأخرى لا تكاد تأتلف انتهى ، وما ذهب إليه من أن كل قبيلة أسباط خلاف ما ذكر الناس ذكروا أنّ الأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في العرب وقالوا : الأسباط جمع سبط وهم الفرق والأسباط من ولد إسحاق بمنزلة القبائل من ولد إسماعيل ويكون على زعمه قوله تعالى : { وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْراهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالاسْبَاطِ } معناه القبيلة وقوله ونظيره : بين رماحي مالك ونهشل ليس نظيره لأنّ هذا من تثنية الجمع وهو لا يجوز إلا في الضرورة وكأنه يشير إلى أنه لو لم يلحظ في الجمع كونه أريد به نوع من الرماح لم يصحّ تثنيته كذلك هنا لحظ هنا الأسباط وإن كان جمعاً معنى القبيلة فميز به كما يميز بالمفرد ، وقال الحوفي : يجوز أن يكون على الحذف والتقدير اثنتي عشرة فرقة ويكون أسباطاً نعتاً لفرقة ثم حذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه وأمماً نعت لأسباط وأنث العدد وهو واقع على الأسباط وهو مذكر لأنه بمعنى الفرقة أو الأمة كما قال : ثلاثة أنفس يعني رجالاً وعشر أبطن بالنظر إلى القبيلة انتهى ونظير وصف التمييز المفرد بالجمع مراعاة للمعنى . قول الشاعر :

فيها اثنتان وأربعون حلوبة

سوداً كحافته الغراب الأسحم

ولم يقل سوداء .

وقيل : جعل كل واحدة من اثنتي عشرة أسباطاً كما تقول لزيد دراهم ولفلان دراهم ولعمر دراهم فهذه عشرون دراهم ،

وقيل : التقدير وقطعناهم فرقاً اثنتي عشرة فلا يحتاج إلى تمييز ، وقال البغوي : في الكلام تأخير وتقديم تقديره وقطعناهم أسباطاً أمماً اثنتي عشرة وهذه كلها تقادير متكلّفة والأجرى على قواعد العرب القول الذي بدأنا به .

{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَىْ عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا} تقدم تفسير نظير هذه الجمل في البقرة وانبجست : إن كان معناه ما قال أبو عمرو بن العلاء فقيل : كان يظهر على كلّ موضع من الحجر فضربه موسى مثل ثدي المرأة فيعرق أولاً ثم يسيل وإن كان مرادفاً لانفجرت فلا فرق ،

وقال الزمخشري : هنا الأناس اسم جمع غير تكسير نحو رخاء وثناء وثؤام وأخوات لها ويجوز أن يقال : إنّ الأصل الكسر والتكسير والضمة بدل من الكسر كما أبدلت في نحو سكارى وغيارى من لفتحة انتهى ولا يجوز ما قال لوجهين ،

أحدهما : أنه لم ينطلق بإناس بكسر الهمزة فيكون جمع تكسير حتى تكون الضمة بدلاً من الكسرة بخلاف سكارى وغيار فإنّ القياس فيه فَعالى بفتح فاء الكلمة وهو مسموع فيهما ، { والثاني } : أنّ سكارى وغيارى وعجالى وما ورد من نحوها ليست الضمة فيه بدلاً من الفتحة بل نصّ سيبويه في كتابه على أنه جمع تكسير أصل كما أن فعالى جمع تكسير أصل وإن كان لا ينقاس الضمّ كما ينقاس الفتح ، قال سيبويه في حدّ تكسير الصفات : وقد يكسرون بعض هذا على فعالى ، وذلك قول بعضهم سكارى وعجالى ، وقال سيبويه في الأبنية أيضاً : ويكون فعالى في الاسم نحو حبارى وسماني ولبادي ولا يكون وصفاً إلا أن يكسر عليه الواحد للجمع نحو عجالى وكسالى وسمانى فهذان نصّان من سيبويه على أنه جمع تكسير وإذا كان جمع تكسير أصلاً لم يسغ أن يدّعي أن أصله فعالى وأنه أُبدلت الحركة فيه وذهب المُبرّد إلى أنه اسم جامع أعني فعالى بضم الفاء وليس بجمع تكسير فالزمخشري لم يذهب إلى ما ذهب إليه سيبويه ولا إلى ما ذهب إليه المبرد لأنه عند المبرّد اسم جمع فالضمة في فائه أصل ليست بدلاً من الفتحة بل أحدث قولاً ثالثاً .

وقرأ عيسى الهمداني من طيبات ما رزقتكم موحّداً للضمير .

١٦١

انظر تسفير الآية:١٦٢

١٦٢

وإذ قيل لهم . . . . .

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اسْكُنُواْ هَاذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُواْ حِطَّةٌ وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِى قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ } تقدّمت هذه القصة وتفسيرها في البقرة وكأن هذه مختصرة من تلك إلا أنّ هناك وإذ قلنا ادخلوا وإذ قيل لهم اسكنوا وهناك رغداً وسقط هنا وهناك وسنزيد وهنا سنزيد وهناك فأنزلنا على الذين ظلموا وهنا فأرسلنا عليهم وبينهما تغاير في بعض الألفاظ لا تناقض فيه فقوله : وإذ قيل لهم وهناك وإذ قلنا فهنا حذف الفاعل للعلم به وهو اللّه تعالى ، وهناك ادخلوا وهنا اسكنوا السّكنى ضرورة تتعقب الدخول فأمروا هناك بمبدأ الشيء وهنا بما تسبّب عن الدخول وهناك فكلوا بالفاء وهنا بالواو فجاءت الواو على أحد محتملاتها من كون ما بعدها وقع بعدما قبلها ،

وقيل الدخول حالة مقتضية فحسن ذكر فاء التعقيب بعده والسكنى حالة مستمرة فحسن الأمر بالأكل معه لا عقيبة

فحسنت الواو الجامعة للأمرين في الزمن الواحد وهو أحد محاملها ويزعم بعض النحويين أنه أولى بحاملها وأكثر .

وقيل ثبت رغداً بعد الأمر بالدخول لأنها حالة قدوم فالأكل فيها ألذ وأتم وهم إليه أحوج بخلاف السكنى فإنها حالة استقرار واطمئنان فليس الأكل فيها ألذّ ولا هم أحوج .

وأما التقديم والتأخير في وقولوا وادخلوا ، ف

قال الزمخشريّ : سواء قدّموا الحطة على دخول الباب وأخروها فهم جامعون في الإيجاد بينهما انتهى ، وقوله سواء قدّموا وأخّروها تركيب غير عربي وإصلاحه سواء أقدموا أم أخروها كما

قال تعالى : { سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا } ويمكن أن يقال : ناسب تقديم الأمر بدخول الباب سجّداً مع تركيب ادخلوا هذه القرية لأنه فعل دالّ على الخضوع والذلة وحطة قول والفعل أقوى في إظهار الخضوع من القول فناسب أن يذكر مع مبدأ الشيء وهو الدخول ولأنّ قبله ادخلوا فناسب الأمر بالدخول للقرية الأمر بدخول بابها على هيئة الخضوع ولأنّ دخول القرية لا يمكن إلا بدخول بابها فصار باب القرية كأنه بدل من القرية أعيد معه العامل بخلاف الأمر بالسّكنى

وأما سنزيد هنا ف

قال الزمخشري موعد بشيئين بالغفران والزيادة وطرح الواو لا يخلّ بذلك لأنه استئناف مرتب على تقدير قول القائل وماذا بعد الغفران فقيل له : سنزيد المحسنين وزيادة منهم بيان وأرسلنا وأنزلنا ويظلمون ويفسقون من واد واحد ،

وقرأ الحسن : حطة بالنصب على المصدر أي حطّة ذنوبنا حطة ويجوز أن ينتصب بقولوا : على حذف التقدير وقولوا قولاً حطّة أي ذا حطة فحذف ذا وصار حطّة وصفاً للمصدر المحذوف كما تقول : قلت حسناً وقلت حقّاً أي قولاً حسنا وقولاً حقًّا ،

وقرأ الكوفيون وابن كثير والحسن والأعمش نغفر بالنون لكم خطيئاتكم جمع سلامة إلا أن الحسن خفّف الهمزة وأدغم الياء فيها ،

وقرأ أبو عمرو نغفر بالنون لكم خطاياكم على وزن قضاياكم ،

وقرأ نافع ومحبوب عن أبي عمرو تغفر بالتاء مبنيًّا للمفعول لكم خطيئاتكم جمع سلامة ،

وقرأ ابن عامر تغفر بتاء مضمومة مبنيًّا للمفعول لكم خطيئتكم على التوحيد مهموزاً .

وقرأ ابن هرمز تغفر بتاء مفتوحة على معنى أنّ الحطّة تغفر إذ هي سبب الغفران ،

قال ابن عطية : وبدل غير اللفظ دون أن يذهب بجميعه وأبدل إذا ذهب به وجاء بلفظ آخر انتهى ، وهذه التفرقة ليست بشيء وقد جاء في القراءات بدل وأبدل بمعنى واحد قرىء :{ فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مّنْهُ زَكَواةً } و { عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْواجاً }{ عَسَى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مّنْهَا } بالتخفيف والتشديد والمعنى واحد وهو إذهاب الشيء والإتيان بغيره بدلاً منه ثم التشديد قد جاء حيث يذهب الشيء كله

قال تعالى :{ فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ اللّه سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } و { بَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّاتِهِمْ جَنَّتَيْنِ } ثم { بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيّئَةِ الْحَسَنَةَ } وعلى هذا كلام العرب نثرها ونظمها .

١٦٣

واسألهم عن القرية . . . . .

{وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِى كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِى السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ} الضمير في واسألهم عائد على من يحضره الرسول صلى اللّه عليه وسلم من اليهود وذكر أن بعض اليهود المعارضين للرسول صلى اللّه عليه وسلم قالوا له لم يكن من بني إسرائيل عصيان ولا معاندة لما أمروا به فنزلت هذه الآية موبّخة لهم ومقررة كذبهم ومعلمة ما جرى على أسلافهم من الإهلاك والمسخ وكانت اليهود تكتم هذه القصة فهي مما لا يعلم إلا بكتاب أو وحي فإذا أعلمهم بها من لم يقرأ كتابهم علم أنه من جهة الوحي ، وقوله عن القرية فيه حذف أي عن أهل لقرية والقرية إيلة قاله ابن مسعود وأبو صالح عن ابن عباس والحسن وابن جبير وقتادة والسدّي وعكرمة وعبد اللّه بن كثير والثوري ، أو مدين ورواه عكرمة عن ابن عباس أو ساحل مدين ، وروي عن قتادة وقال هي مقّنى بالقاف ساكنة ، وقال ابن زيد : هي مقناة ساحل مدين ،

ويقال : لها معنى بالعين مفتوحة ونون مشدّدة أو طبرية قاله الزهري أو أريحا أو بيت المقدس

وهو بعيد لقوله حاضرة البحر أو قرية بالشام لم تسمَّ بعينها وروي عن الحسن : ومعنى انتهى حاضرة البحر بقرب البحر مبنية بشاطئه ويحتمل أن يريد معنى الحاضرة على جهة التعظيم لها أي هي الحاضرة في قرى البحر فالتقدير حاضرة قرى البحر أي يحضر أهل قرى البحر إليها لبيعهم وشرائهم وحاجتهم إذ يعدون في السبت أي يجاوزون أمر اللّه في العمل يوم السبت وقد تقدم منه تعالى النهي عن العمل فيه والاشتغال بصيد أو غيره إلا أنه في هذه النازلة كان عصيانهم ، وقرىء يعدّون من الإعداد وكانوا يعدّون آلات الصيد يوم السبت وهم مأمورون بأن لا يشتغلوا فيه بغير العبادة

وقرأ شهر بن حوشب وأبو نهيك يعَدّون بفتح العين وتشديد الدال وأصله يعتدون فأدغمت التاء في الدال كقراءة من قرأ لا تعدوا في السبت إذ ظرف والعالم فيه . قال الحوفي : إذ متعلقة بسلهم انتهى ، ولا يتصور لأن إذ ظرف لما مضى وسلهم مستقبل ولو كان ظرفاً مستقبلاً لم يصحّ المعنى لأن العادين وهم أهل القرية مفقودون فلا يمكن سؤالهم والمسؤول عن أهل القرية العادين ،

وقال الزمخشري : إذ يعدون بدل من القرية والمراد بالقرية أهلها كأنه قيل وسلهم عن أهل القرية وقت عدوانهم في السبت وهو من بدل الاشتمال انتهى ، وهذا لا يجوز لأن إذ من الظروف التي لا تتصرف ولا يدخل عليها حرف جر وجعلها بدلاً يجوز دخول عن عليها لأن البدل هو على نيّة تكرار العامل ولو أدخلت عن عليها لم يجز وإنما تصرف فيها بأن أضيف إليها بعض الظروف الزمانية نحو يوم إذ كان كذا

وأما قول من ذهب إلى أنها يتصرّف فيها بأن تكون مفعولة باذكر فهو قول من عجز عن تأويلها على ما ينبغي لها من إبقائها ظرفاً ، وقال أبو البقاء عن القرية : أي عن خبر القرية وهذا المحذوف هو الناصب للظرف الذي هو إذ يعدون ،

وقيل هو ظرف للحاضرة وجوّز ذلك أنها كانت موجودة في ذلك الوقت ثم خربت انتهى ، والظاهر أن قوله في السبت ويوم سبتهم المراد به اليوم ومعنى اعتدوا فيه أي بعصيانهم وخلافهم كما قدمنا ،

وقال الزمخشري : السبت مصدر سبتت اليهود إذا عظمت سبتها بترك الصيد والاشتغال بالتعبّد فمعناه يعدون في تعظيم هذا اليوم وكذلك قوله تعالى يوم سبتهم يوم تعظيمهم ويدل عليه قوله { وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ وَإِذْ تَأْتِيَهُمُ } العامل في إذ يعدون أي إذ عدوا في السبت إذ أتتهم لأنّ إذ ظرف لما مضى يصرف المضارع للمضي .

وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون بدلاً بعد بدل انتهى ، يعني بدلاً من القرية بعد بدل إذ يعدون وقد ذكرنا أن ذلك لا يجوز وأضاف السبت إليهم لأنهم مخصوصون بأحكام فيه ،

وقرأ عمر بن عبد العزيز : حيتانهم يوم أسباتهم ، قال أبو الفضل الرازي في كتاب اللوامح وقد ذكر هذه القراءة عن عمر بن عبد العزيز : وهو مصدر من أسبت الرجل إذا دخل في السبت ،

وقرأ عيسى بن عمر وعاصم بخلاف لا يسبتون بضمّ كسرة الباء في قراءة الجمهور ،

وقرأ علي والحسن وعاصم بخلاف يسبتون بضم ياء المضارعة من أسبت دخل في السبت ،

قال الزمخشري : وعن الحسن لا يسبتون بضم الياء على البناء للمفعول أي لا يدار عليهم السبت ولا يؤمرون بأن يسبتوا والعامل في يوم قوله لا تأتيهم وفيه دليل على أنّ ما بعد لا للنفي يعمل فيما قبلها وفيه ثلاثة مذاهب الجواز مطلقاً والمنع مطلقاً والتفصيل بين أن يكون لا جواب قسم فيمتنع أو غير ذلك فيجوز وهو الصحيح كذلك أي مثل ذلك البلاء بأمر الحوت نبلوهم أي بلوناهم وامتحناهم ،

وقيل كذلك متعلق بما قبله أي ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك أي لا تأتيهم إتياناً مثل ذلك الإتيان وهو أن تأتي شرّعاً ظاهرة كثيرة بل يأتي ما أتى منها وهو قليل فعلى القول الأول في كذلك ينتفي إتيان الحوت مطلقاً ، كما روي في القصص

أنه كان يغيب بجملته وعلى القول الثاني كان يغيب أكثره ولا يبقى منه إلاّ القليل الذي يتعب بصيده قاله قتادة : وهذا الإتيان من الحوت قد يكون بإرسال من اللّه كإرسال السُّحاب أو بوحي إلهام كما أوحى إلى النحل أو بإشعار في ذلك اليوم على نحو ما يشعراللّه الدّواب يوم الجمعة بأمر الساعة حسبما جاء وما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة حتى تطلع الشمس فرقاً من الساعة ويحتمل أن يكون ذلك من الحوت شعوراً بالسلامة ومعنى شرّعاً مقبلة إليهم مصطفّة ، كما تقول أشرعت الرّمح نحوه أي أقبلت به إليه ،

وقال الزمخشري : شرّعاً ظاهرة على وجه الماء ، وعن الحسن : تشرّع على أبوابهم كأنها الكباش السّمن يقال : شرع علينا فلان إذا دنا منه وأشرف علينا وشرعت على فلان في بيته فرأيته يفعل كذا ، وقال رواة القصص : يقرب حتى يمكن أخذه باليد فساءهم ذلك وتطرّقوا إلى المعصية بأن حفروا حفراً يخرج إليها ماء البحر على أخدود فإذا جاء الحوت يوم السبت وحصل في الحفرة ألقوا في الأخدود حجراً فمنعوه الخروج إلى البحر فإذا كان الأحد أخذوه فكان هذا أول التطريق ، وقال ابن رومان : كانوا يأخذ الرجل منهم خيطاً ويضع فيه وهقة وألقاها في ذنب الحوت وفي الطرف الآخر من الخيط وتدٌ مضروب وتركه كذلك إلى أن يأخذه في الأحد ثم تطرق الناس حين رأوا من يصنع هذا لا يبتلي حتى كثر صيد الحوت ومشى به في الأسواق وأعلن الفسقة بصيده وقالوا ذهبت حرمة السبت .

{وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللّه مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}

١٦٤

وإذ قالت أمة . . . . .

أي جماعة من أهل القرية من صلحائهم الذين جرّبوا الوعظ فيهم فلم يروه يجدي والظاهر أن القائل غير المقول لهم لم تعظون قوماً فيكون ثلاث فرق اعتدوا وفرقة وعظت ونهت وفرقة اعتزلت ولم تنه ولم تعتد وهذه الطائفة غير القائلة للواعظة لم تعظون ، وروي أنهم كانوا فرقتين فرقة عصت وفرقة نهت ووعظت وأن جماعة من العاصية قالت للواعظة على سبيل الاستهزاء لم تعظون قوماً قد علمتم أنتم أنّ اللّه مهلكهم أو معذبهم .

قال ابن عطية : والقول الأوّل أصوب ويؤيده الضمائر في قوله معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون فهذه المخاطبة تقتضي مخاطباً انتهى ويعني أنه لو كانت العاصية هي القائلة لقالت الواعظة معذرة إلى ربهم ولعلهم أو بالخطاب معذرة إلى ربكم ولعلكم تتقون ومعنى مهلكهم مخترمهم ومطهّر الأرض منهم أو معذبهم عذاباً شديداً لتماديهم في العصيان ويحتمل أن يكون العذاب في الدنيا ويحتمل أن يكون في الآخرة وإن كانوا ثلاث فرق فالقائلة : إنما قالت ذلك حيث علموا أن الوعظ لا ينفع فيهم لكثرة تكرره عليهم وعدم قبولهم له ويحتمل أن يكونا فرقتين عاصية وطائعة وإنّ الطائعة قال بعضهم لبعض لما رأوا أنّ العاصية لا يجدي فيها الوعظ ولا يؤثر شيئاً : لم تعظون ؟

وقرأ الجمهور معذرة بالرفع أي موعظتنا إقامة عذر إلى اللّه ولئلا ننسب في النهي عن المنكر إلى بعض التفريط ولطمعنا في أن يتقوا المعاصي ،

وقرأ زيد بن علي وعاصم في بعض ما روى عنه وعيسى بن عمر وطلحة بن مصرف معذرة بالنصب أي وعظناهم معذرة ، قال سيبويه : لو قال رجل لرجل معذرة إلى اللّه وإليك من كذا لنصب انتهى ، ويختار هنا سيبويه الرفع قال لأنهم لم يريدوا أن يعتذروا اعتذاراً مستأنفاً ولكنهم قيل : لهم لم تعظون ؟ قالوا :

موعظتنا معذرة ، وقال أبو البقاء : من نصب فعلى المفعول له أي وعظنا للمعذرة ،

وقيل : هو مصدر أي نعتذر معذرة وقالهما الزمخشري .

١٦٥

فلما نسوا ما . . . . .

{فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوء وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ } الضمير في نسوا للمنهيين أي تركوا ما ذكرهم به الصالحون وجعل الترك نسياناً مبالغة إذ أقوى أحوال الترك أن ينسى المتروك وما موصولة بمعنى الذي .

قال ابن عطية : ويحتمل أن يراد به الذكر نفسه ويحتمل أن يراد به ما كان في الذكر انتهى ، ولا يظهر لي هذان الاحتمالان والسوء عام في المعاصي وبحسب القصص يختص هنا بصيد الحوت والذين ظلموا هم العاصون نبّه على العلة في أخذهم وهي الظلم . قال مجاهد : بئيس شديد موجع ، وقال الأخفش : مهلك ،

وقرأ أهل المدينة نافع وأبو جعفر وشيبة وغيرهما بيس على وزن جيد ، وابن عامر كذلك إلا أنه همز كبئر ووجهتا على أنه فعل سمّي به كما جاء أنهاكم عن قيل وقال ويحتمل أن يكون وضع وصفاً على وزن فعل كحلف فلا يكون أصله فعلاً ، وخرّجه الكسائي على وجه آخر وهو أنّ الأصل بيئس فخفف الهمزة فالتفت ياءآن فحذفت إحداهما وكسر أوله كما يقال رغيف وشهيد ، وخرّجه غيره على أن يكون على وزن فعل فكسر أوله اتباعاً ثم حذفت الكسرة كما قالوا فخذ ثم خففوا الهمزة

وقرأ الحسن بئيس بهمز وبغير همز عن نافع وأبي بكر مثله إلا أنه بغير همز عن نافع كما تقول بيس الرجل ، وضعفها أبو حاتم وقال : لا وجه لها قال لأنه لا يقال مررت برجل بيس حتى يقال بيس الرجل أو بيس رجلاً ، قال النحاس : هذا مردود من كلام أبي حاتم حكى النحويون إن فعلت كذا وكذا فبها ونعمت يريدون ونعمت الخصلة والتقدير بيس العذاب ، وقرىء بئس على وزن شهد حكاها يعقوب القارىء وعزاها أبو الفضل الرازي إلى عيسى . { سقط : بن عمر إلى صفحة ٤١٢ سطر ١٢ اختصار}

وقال أبو سليمان الدمشقي أعلم أنبياء بني إسرائيل { لَيَبْعَثَنَّ } ليرسلن وليسلطن لقوله { بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا } والضمير في { عَلَيْهِمْ } عائد على اليهود قاله الجمهور أو { عَلَيْهِمْ } وعلى النصارى قاله مجاهد ،

وقيل : نسل الممسوخين والذين بقوا منهم

وقيل : يهود خيبر وقريظة والنضير وعلى هذا ترتب الخلاف في من { يَسُومُهُمْ } ، فقيل : بختصر ومن أذلهم بعده إلى يوم القيامة ،

وقيل المجوس كانت اليهود تؤدي الجزية إليهم إلى أن بعث اللّه محمداً صلى اللّه عليه وسلم فضربها عليهم فلا تزال مضروبة عليهم إلى آخر الدهر ،

وقيل : العرب كانوا يجبون الخراج من اليهود قاله ابن جبير ، وقال السّدّي بعث اللّه عليهم العرب يأخذون منهم الجزية ويقتلونهم ،

وقال ابن عباس المبعوث عليهم محمد صلى اللّه عليه وسلم وأمته ولم يجب الخراج بني قط إلا موسى جباه ثلاث سنة ثم أمسك للنبي صلى اللّه عليه وسلم ، و { سُوء الْعَذَابِ } الجزية أو الجزية والمسكنة وكلاهما عن ابن عباس أو القتال حتى يسلموا أو يؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون ،

وقيل : الإخراج والإبعاد عن الوطن وذلك على قول من قال إن الضمير في { عَلَيْهِمْ } عائد على أهل خيبر وقريظة والنضير وهذه الآية تدلّ على أن لا دولة لليهود ولا عزّ وأن الذلّ والصغار فيهم لا يفارقهم ولما كان خبراً في زمان الرسول عليه السلام وشاهدنا الأمر كذلك كان خبراً عن مغيب صدقاً فكان معجزاً

وأما ما جاء في أتباع الدّجال أنهم هم اليهود فتسمية بما كانوا عليه ذ هم في ذلك الوقت دانوا بإلهية الدجال فلا تعارض بين هذا الخبر إن صح والآية ، وفي كتاب ابن عطية : ولقد حدثت أن طائفة من الروم أملقت في صقعها فباعت اليهود المجاورة لهم وتملكوهم .

{إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ} إخبار يتضمن سرعة إيقاع العذاب بهم .

{وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} ترجية لمن آمن منهم ومن غيرهم ووعد لمن تاب وأصلح { وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الاْرْضِ أُمَمًا مّنْهُمُ الصَّالِحُونَ } بن عمر وزيد بن علي ،

وقرأ جرية بن عائد ونصر بن عاصم في رواية { بأس} على وزن ' ضرب ' فعلاً ماضياً . وعن الأعمش ومالك بن دينار { بأس} أصله { بأس} فسكن الهمزة جعله فعلاً لا يتصرف . وقرأت فرقة { بيس} بفتح الباء والياء والسين .

وحكى الزهراوي عن ابن كثير وأهل مكة { بئس} بكسر الباء والهمز همزاً خفيفاً ولم يبين هل الهمزة مكسورة أو ساكنة ؟ وقرأت فرقة باس بفتح الباء وسكون الألف .

وقرأ خارجة عن نافع وطلحة { بيس} على وزن كيل لفظاً . وكان أصله ' فيعل ' مهموزاً إلا أنه خفف الهمزة بإبدالها ياء وأدغم ثم حذف كميت .

وقرأ نصر في رواية مالك بن دينار عنه { بأس} على وزن ' جبل ' . وأبو عبد الرحمن بن مصرف { بئس} على وزن كبد وحذرز وقال أبو عبد اللّه بن قيس الرقيات : ليتني ألقى رقية في

خلوة من غبر ما بئس

وقرأ ابن عباس وأبو بكر عن عاصم والأعمش { بيأس} على وزن ضيغم ، وقال امرؤ القيس بن عابس الكندي

كلاهما كان رئيساً بيأساً

يضرب في يوم الهياج القونسا

وقرأ عيسى بن عمر الأعمش بخلاف عنه { بيئس} على وزن ' صقيل ' اسم امرأة بكسر الهمزة وبكسر القاف وهما شاذان ، لأنه من بناء مختص بالمعتل كسيد وميت .

وقرأ نصر بن عاصم في رواية { بيس} على وزن ميت وخرج على أنه من البؤس ولا أصل له في الهمز ، وخرج أيضاً على أنه خفف الهمزة بإبدالها ياء ثم أدغمت وعنه أيضاً بئس القلب الياء همزة وادغامها في الهمزة ورويت هذه عن الأعمش . وقرأت فرقة { بأس} بفتح الثلاثة والهمزة مشددة ،

وقرأ باقي السبعة ونافع

وفي رواية أبي قرة وعاصم في رواية حفص وأبو عبد الرحمن ومجاهد والأعرج والأعمش في رواية وأهل الحجاز { بئيس} على وزن رئيس . وخرج على أنه وصف على وزن ' فعيل ' للمبالغة من بائسة على وزن فاعل ، وهي قراءة أبي رجاء عن علي ، أو على أنه مصدر وصف به كالنكير والقدير ، وقال أبو الأصبع العدواني : حنقاً علي ولا أرى

لي منهما شراً بئيساً

وقرأ أهل مكة كذلك إلا أنهم كسروا الباء ، وهي لغة تميم في ' فعيل ' حلقي العين يكسرون أوله ، وسواء كان اسماً أم صفة .

وقرأ الحسن والأعمش فيما زعم عصمة { بيئس} على وزن طريم وحزيم . فهذه اثنتان وعشرون قراءة وضبطها بالتلخيص أنها قرئت ثلاثية اللفظ ورباعيته فالثلاثي اسماً بئس وبيس وبيس وبأس وبيس وفعلاً بيس وبئس وبئس وبأس وبأس وبئس والرباعية اسماً بيأس وبيئس وبيئس وبييس وبئيس وبائس وفعلاً باءس .

١٦٦

فلما عتوا عن . . . . .

{فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين}

أي : استعصوا . والعتو : الاستعصاء والتأبي في الشيء . وباقي الآية تقدم تفسيره في البقرة ، والظاهر : أن العذاب ، والمسخ ، والهلاك ، إنما وقع بالمعتدين في السبت . والأمة القائلة لم تعظون قوماً : هم من فريق الناهين الناجين . وإنما سألوا إخوانهم عن علة وعظهم وهو لا يجدي فيهم شيئاً البتة ، إذ اللّه مهلكهم أو معذبهم ، فيصير الوعظ إذ ذاك كالعبث كوعظ المكاسين ، فإنهم يسخرون بمن يعظهم وكثير ما يؤدي إلى تنكيل الواعظ . وعلى قوم من زعم أن الأمة القائلة لم تعظون هم العصاة ، قالوا ذلك على سبيل الاستهزاء ، أي : تزعمون أن اللّه مهلكهم أو معذبهم . تكون هذه الأمة من الهالكين الممسوخين والظاهر من قوله { فلما عتوا} أنهم أولاً أخذوا بالعذاب حين نسوا ما ذكروا به ، ثم لما عتوا مسخوا .

وقيل ' { فلما عتوا} تكرير لقوله { فلما نسوا} والعذاب البئيس هو المسخ .

{وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب } إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم ، وقطعناهم في الأرض أمما منهم الصالحون ومنهم دون ذلك وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون ، فخلف من بعدهم

خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على اللّه إلا الحق ودرسوا ما فيه والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون ، والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين

١٦٧

وإذ تأذن ربك . . . . .

{وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب } لما ذكر تعالى قبح أفعالهم واستعصائهم . أخبر تعالى أنه حكيم عليهم بالذال والصغار إلى يوم القيامة { تأذن} أعلم من الأذان ، وهو الإعلام . قاله الحسن وابن قتيبة واختاره الزجاج أبو علي ، وقال عطاء{ تأذن } حتم ، وقال قطرب : ' وعد ' ، وقال أبو عبيدة : أخبر وهو راجع لمعنى أعلم ' . وقال مجاهد : ' أمر وعنه قال : وفيل : ' أقسم وروي عن الزجاج ،

قال الزمخشري : ' تأذن عزم ربك وهو تفعل من الإيذان وهو الإعلام ، لأن العازم على الأمر يحدث به نفسه ويؤذنها بفعله ، وأجرى مجرى فعل القسم ك { علم} اللّه ، وشهد اللّه ، ولذلك أجيب بما يجاب به المقسم ، وهو قوله { ليبعثن} والمعنى : إذ ختم ربك وكتب على نفسه ' . و

قال ابن عطية : بنية { تأذن} هي التي تقتضي التكسب من أذن . أي : علم ومكن ، فإذا كان مسنداً إلى غير اللّه لحقه معنى التكسب الذي يلحق المحدثين ، وإلى اللّه كان بمعنى علم صفة لا مكتسبة بل قائمة بالذات .

فالمعنى : وإذا علم اللّه ليبعثن . ويقتضي قوة الكلام أن ذلك العلم منه مقترن بإنفاذ وإمضاء كما تقول في أمر قد عزمت عليه غاية العزم . ' علم اللّه لأبعثن كذا ' نحا إليه أبو علي الفارسي ، وقال الطبري وغيره ' { تأذن} معناه ' أعلم ' وهو قلق من جهة التصريف ، إذ نسبة { تأذن} إلى الفاعل غير نسبة ' أعلم ' وبين ذلك فرق في التعدي وغيره ' . انتهى . وفيه بعض اختصار ، وقال أبو سليمان الدمشقي : أعلم أنبياء بني إسرائيل ليبعثن ليرسلن وليسلطن لقوله { بعثنا عليكم عبادا لنا } والضمير في عليهم عائد على اليهود قاله الجمهور أو عليهم وعلى النصارى . قاله مجاهد / وقيلب : نسل الممسوخين : والذين بقوا منهم /

وقيل اليهود خيبر وبني قريظة والنضير / وعلة هذا ترتب الخلاف في من يسمونهم فقيل بخنتصر من أذلهم بعده إلى يوم القيامة

وقيل المجوس كانت اليهود تؤدي الجزية ويقتلونهم / ، إلى أن بعث اللّه محمدا صلى اللّه عليه وسلم فضربها عليهم / فلا تزال مضروبة عليهم إلى آخر الدهر

وقيل العرب كانوا يجبون الخراج من اليهود قال ابن جبير وقال السدي : ' بعث اللّه عليهم العرب يأخذون منهم الجزية ويقتلونهم

وقال ابن عباس المبعوث عليهم محمد صلى اللّه عليه وسلم وأمته ولم يجب الخراج نبي قط إلا موسى جباه ثلاث عشرة سنة ثم أمسك لنبي صلى اللّه عليه وسلم { وسوء العذاب } الجزية أو الجزية والمسكنة وكلاهما عن ابن عباس أو القتال حتى يسلموا أو يودوا الجزية عن يد ةوهم صاغرون

وقيل الإخراج والإبعاد عن الوطن وذلك على قول من قال : / إن الضميرفي عليهم عائد على أهل خيبر وقريظه والنضير وهذه الآية تدل على أن لا دولة ولا عز وأن الذل والصغار فيهم لا يفاقهم ولما كان خيرا في زمان الرسول عليه السلام وشاهدنا الأمر كذلك كان خبررا عن مغيب صدقا فكان فلا تعارض بين هذا الخبر إن إن صح والآية وفي كتاب ابن عطية ولقد ح ثت أن طائفة من الروم أملقت في صفعها فباعت اليهود المجاورة لهم وتملكوهم { إن ربك لسريع العقاب} إخبار يتضمن سرعة إيفاع العذاب بهم { وإنه لغفور رحيم} ترجية لمن آمن منهم ومن غيرهم ووعد لمن تاب وأصلح

١٦٨

وقطعناهم في الأرض . . . . .

{وقطعناهم في الأرض أمما منهم الصالحون وَمِنْهُمْ دُونَ ذالِكَ} أي فرقاً متباينين في أقطار الأرض فقل أرض لا يكون منهم فيها شرذمة وهذا حالهم في كل مكان تحت الصغار والذلّة سواء كان أهل تلك الأرض مسلمين أم كفاراً وأمماً حال ، وقال الحوفي مفعول ثان وتقدم قوله هذا في قطعناهم اثنتي عشرة والصالحون من آمن منهم بعيسى ومحمد عليهما السلام أو من آمن بالمدينة ومنهم منحطون عن الصالحين وهم الكفرة وذلك إشارة إلى الصلاح أي ومنهم دون أهل الصلاح لأنه لا يعتدل التقسيم إلا على هذا التقدير من حذف مضاف أو يكون ذلك المعنى به أولئك فكأنه قال ومنهم قوم دون أولئك ، وقد ذكر النحويون أنّ اسم الإشارة المفرد قد يستعمل للمثنى والمجموع فيكون ذلك بمعنى أولئك على هذه اللغة ويعتدل التقسيم والصالحون ودون ذلك ألفاظ محتملة فإن أريد بالصلاح الإيمان فدون ذلك يُراد به الكفار وإن أريد بالصلاح العبادة والخير وتوابع الإيمان كان دون ذلك في مؤمنين لم يبلغوا رتبة الصلاح الذي لأولئك ، والظاهر الاحتمال الأول لقوله لعلهم يرجعون إذ ظاهر قوله وبلوناهم إنهم القوم الذين هم دون أولئك وهو من ثبت على اليهودية وخرج من الإيمان ودون ذلك ظرف أصله للمكان ثم يستعمل للانحطاط في المرتبة ، و

قال ابن عطية : فإن أريد بالصلاح الإيمان فدون ذلك بمعنى غير يراد به الكفرة انتهى ، فإن أراد أنّ دون ترادف غيراً فهذا ليس بصحيح وإن أراد أنه يلزم ممن كان دون شيء أن يكون غيراً فصحيح ودون ظرف في موضع رفع نعت لمنعوت محذوف ويجوز في التفصيل بمن حذف الموصوف وإقامة صفته مقامة نحو هذا ومنه قولهم منا ظعن ومنا أقام .

{وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيّئَاتِ} أي بالصحة والرخاء والسعة والسيئات مقابلاتها .{ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } إلى الطاعة ويتوبون عن المعصية

١٦٩

فخلف من بعدهم . . . . .

{فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَاذَا الاْدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} أي حدث من بعد المذكورين خلف ، قال الزجاج : يقال للقرن الذي يجيء بعد القرن خلف ، وقال الفراء : الخلف القرن والخلف من استخلفه ، وقال ثعلب : الناس كلهم يقولون خلف صدق للصالح وخلف سوء للطالح . ومنه قول الشاعر : ذهب الذين يعاش في أكنافهم

وبقيت في خلف كجلد الأجرب

والمثل : سكت ألفاً ونطق خلفاً أي سكت طويلاً ثم تكلّم بكلام فاسد ، وعن الفرّاء : الخلف يذهب به إلى الذمّ والخلف خلف صالح . وقال الشاعر : خلفت خلفاً ولم تدع خلفا

كنت بهم كان لا بك التلفا

وقد يكون في الرّدى خلف وعليه قوله :

ألا ذلك الخلف الأعور

وفي الصالح خلف وعلى هذا بيت حسان : لنا القدم الأولى عليهم وخلفنا

لأوّلنا في طاعة اللّه تابع

وقال ابن السّكيت : يقال هذا خلف صدق وهذا خلف سوء ويجوز هؤلاء خلف صدق وهؤلاء خلف سوء واحدة وجمعه سواء ، وقال الشاعر : إنا وحدنا خلفاً بئس الخلف

عبداً إذا ما ناء بالحمل وقف

وقد جمع في الردى بين اللغتين في هذا البيت ، وقال النضر بن شميل : التحريك والإسكان معاً في القرآن الردى

وأما الصالح فبالتحريك لا غير وأكثر أهل اللغة على هذا إلا الفرّاء وأبا عبيدة فإنهما أجازا الإسكان في الصالح والخلف أما مصدر خلف ولذلك لا يثنّي ولا يجمع ولا يؤنث وإن ثنى وجمع وأنّث ما قبله

وإما جمع خالف كراكب وركب وشارب وشرب قاله ابن الأنباري ، وليس بشيء لجريانه على المفرد واسم الجمع لا يجري على المفرد ، قال ابن عباس وابن زيد : هنا هم اليهود ،

قال الزمخشري : وهم الذين كانوا في زمان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : ورثوا الكتاب التوراة بقيت في أيديهم بعد سلفهم يقرأونها ويقفون على ما فيها من الأوامر والنواهي والتحريم والتحليل ولا يعملون بها ، وقال الطبري هم أبناء اليهود وعن مجاهد أنهم النصار وعنه أنهم هؤلاء الأمة ،

وقرأ الحسن : ورثوا بضم الواو وتشديد الراء وعلى الأقوال يتخرّج الكتاب أهو التوراة أو الإنجيل والقرآن وعرض هذا الأدنى هو ما يأخذونه من الرِّشا والمكاسب الخبيثة والعرض ما يعرض ولا يثبت

وفي قوله : عرض هذا الأدنى تخسيس لما يأخذونه وتحقير له وأنهم مع علمهم بما في كتابهم من الوعيد على المعاصي يقدّمون لأجل العامة على تبديل الكتاب وتحريفه كما

قال تعالى : { ثُمَّ يَقُولُونَ هَاذَا مِنْ عِندِ اللّه لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً } والأدنى من الدنو وهو القرب لأن ذلك قريب منقضٍ زائل ،

قال الزمخشري :

وإما من دنو الحال وسقوطها وقلّتها ، ويقولون سيغفر لنا قطع على اللّه بغفران معاصيهم أي لا يؤاخدنا اللّه بذلك والمناسب إذ ورثوا الكتاب أن يعملوا بما فيه وأنه إن قضي عليهم بالمعصية أن لا يجزموا بالمغفرة وهم مصرون على ارتكابها ، ولنا في موضع المفعول الذي لم يسمّ فاعله ،

وقيل ضمير مصدر يأخذون أي سيغفر هو أي الأخذ لنا .

{وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} الظاهر أن هذا استئناف إخبار عنهم بأنهماكهم في المعاصي وإن أمكنهم الرّشا والمكاسب الخبيثة لم يتوقفوا عن أخذها ثانية ، ودائماً فهم مصرُّون على المعاصي غير مكترثين بالوعيد كما جاء والفاجر من أتبع نفسه هواها وتمنى على اللّه والعرض بفتح الراء متاع الدنيا قاله أبو عبيدة ، يقال : إن الدنيا عرض حاضر يأخذ منها البرّ والفاجر ، والعرض بسكون الراء الدراهم والدنانير التي هي رؤوس الأموال وقيم المتلفات ، قال السدّي : كانوا يعيرون القاضي فإذا ولّى المعير ارتشى ،

وقيل كانوا لو أتاهم من الخصم الأجر رشوة أخذوها ونقضوا بالرشكوة الثانية ما قضوا بالرشوة الأولى . وقال الشاعر : إذا ما صبّ في القنديل زيت

تحوّلت القضية للمقندل

وقال آخر : لم يفتح الناس أبواباً ولا عرفوا

أجدى وأنجح في الحاجات من طبق

إذا تعمم بالمنديل في طبق

لم يخش نبوة بواب ولا غلق

ولهذه الأمة من هذه الآية نصيب وافر . قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { لتسلكنّ سنن من قبلكم } ومن اختبر حال علمائها وقضاتها ومفتيها شاهد بالعيان ما أخبر به الصادق ،

وقال الزمخشري : الواو للحال يعني في وإن يأتهم أي يرجون المغفرة وهم مصرّون عائدون إلى مثل قولهم غير ناسين وغفران الذنوب لا يصحّ إلا بالتوبة والمصرّ لا غفران له انتهى ، وجمله على جعل الواو للحال لا للعطف مذهب الاعتزال والظاهر ما قدّمناه ولا يردّ عليه بأن جملة الشرط لا تقع حالاً لأنّ ذلك جائز .

{أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللّه إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ} هذا توبيخ وتقرير لما تضمنه الكتاب من أخذ الميثاق لا يكذبون على اللّه . قال ابن زيد : كان يأتيهم المحقّ برشوة فيخرجون له كتاب اللّه ويحكمون له به فإذا جاء المبطل أخذوا منه الرشوة وأخرجوا كتابهم الذي كتبوه بأيديهم وحكموا له وأضيف الميثاق إلى الكتاب لأنه ذكر فيه أن لا يقولوا على اللّه إلا الحقّ ،

وقال بعضهم : هو قولهم سيغفر لنا ولا يتعين ذلك بل هو أعم من هذا القول وغيره فيندرج فيه الجزم بالغفران وغيره وأن لا يقولوا في موضع رفع على البدل من ميثاق الكتاب ،

وقال الزمخشري : هو عطف بيان لميثاق الكتاب ومعناه الميثاق المذكور في الكتاب وفيه إنّ إثبات المغفرة بغير توبة خروج عن ميثاق الكتاب وافتراء على اللّه تعالى وتقول ما ليس بحق عليه وإن فسّر ميثاق الكتاب بما تقدم ذكره كان أن لا يقولوا مفعولاً له ومعناه لئلا يقولوا ويجوز أن تكون مفسّرة ولا يقولوا إنهيا ، كأنه قيل ألم يقل لكم لا تقولوا على اللّه إلا الحق ، وقال أيضاً : قبل ذلك ميثاق الكتاب يعني قوله في التوراة من ارتكب ذنباً عظيماً فإنه لا يغفر له إلا بالتوبة ودرسوا ما فيه أي ما في الكتاب من اشتراط التوبة في غفران الذنوب والذي عليه هوى المجبر هو مذهب اليهود بعينه كما ترى ، وقال مالك بن دينار رحمه اللّه : يأتي على الناس زمان إن قصروا عما أمروا به قالوا : سيغفر لنا لن نشرك باللّه شيئاً كل أمرهم على الطمع خيارهم فيه المداهنة فهؤلاء من هذه الأمة أشباه الذين ذكرهم اللّه تعالى وتلا الآية انتهى ، وهو على الطمع خيارهم فيه المداهنة فهؤلاء من هذه الأمة أشباه الذين ذكرهم اللّه تعالى وتلا الآية انتهى ، وهو على طريقة المعتزلة وقوله : إلا الحقّ دليل على أنهم كانوا يقولون الباطل على تناولهم عرض الدنيا ودرسوا معطوف على قوله ألم يؤخذو وفي ذلك أعظم توبيخ وتقريع وهو أنهم كرّروا على ما في الكتاب وعرفوا ما فيه المعرفة التامة من الوعيد على قول الباطل والافتراء على اللّه وهذا العطف على التقرير لأنّ معناه قد أخذ عليهم ميثاق الكتاب ودرسوا ما فيه كقوله ألم نر بك فينا وليداً وليثبت معناه قد ربّيناك ولبثت ، وقال الطبري : وغيره هو معطوف على قوله ورثوا الكتاب وفيه بعد ،

وقيل هو على إضمار قد أي وقد درسوا ما فيه وكونه معطوفاً على التقرير هو الظاهر لأن فيه معنى إقامة الحجة عليهم في أخذ ميثاق الكتاب بكونهم حفظوا لفظه وكرّروه وما نسوه وفهموا معناه وهم مع ذلك لا يقولون إلا الباطل ،

وقرأ الجحدري أن لا تقولوا بتاء الخطاب ،

وقرأ علي والسلمي : وادّارسوا وأصله وتدارسوا كقوله فادارأتم أي تدارأتم وقد مر تقريره في العربية ، وهذه القراءة نوضح أن معنى ودرسوا ما فيه هو التكرار لقراءته والوقوف عليه وأنّ تأويل من تأوّل ودرسوا ما فيه أن معناه ومحوه بترك العمل والفهم له من قولهم درست بالريح الآثار إذا محتها فيه بعد ولو كان كما قيل لقيل ربع مدروس وخط مدروس ، وإنما قالوا : ربع دارس وخط دارس بمعنى دائر .

{وَالدَّارُ الاْخِرَةُ خَيْرٌ لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ يَعْقِلُونَ} أي ولثواب دار الآخرة خير من تلك الرشوة الخبيثة الخسيسة المعقبة خزي الدنيا والآخرة ومعنى يتقون محارم اللّه تعالى

وقرأ أبو عمرو وأهل مكة يعقلون بالياء جرياً على الغيبة في الضمائر السابقة ،

وقرأ الجمهور بالخطاب على طريقة الالتفات إليهم أو على طريق خطاب هذه الأمة كأنه قيل أفلا تعقلون حال هؤلاء وما هم عليه من سوء العمل ويتعجبون من تجارتهم على ذلك .

١٧٠

والذين يمسكون بالكتاب . . . . .

{وَالَّذِينَ يُمَسّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلَواةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْر الْمُصْلِحِينَ} الظاهر أنّ الكتاب هو السابق ذكره في ورثوا الكتاب فيجيء الخلاف فيه كالخلاف في ذلك وهو مبني على المراد في قوله خلف ورثوا ،

وقيل : الكتاب هنا للجنس أي الكتب الإلهية والتمسّك بالكتاب يستلزم إقامة الصلاة لكنها أفردت بالذكر تعظيماً لشأنها لأنها عماد الدين بين العبد وبين الشرك ترك الصلاة ،

وقرأ عمر وأبو العالية وأبو بكر عن عاصم يمسكون من أمسك والجمهور يمسكون مشدّداً من مسك وهما لغتان جمع بينهما كعب بن زهير فقال : فتما تمسّك بالعهد الذي زعمت

إلا كما يمسك الماء الغرابيل

وأمسك متعدّ قال :{ وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الاْرْضِ } فالمفعول هنا محذوف أي يمسكون أعمالهم أي يضبطونها والباء على هذا تحتمل الحالية والآلة ومسك مشدد بمعنى تمسّك والباء معها للآلة وفعل تأتّى بمعنى تفعل نصّ عليه التصريفيون ،

وقرأ عبد اللّه والأعم ٥ : استمسكوا وفي حرف أبي تمسكوا بالكتاب والظاهر أن قوله والذين استئناف إخبار لما ذكر حال من لم يتمسك بالكتاب ذكر حال من استمسك به فيكونن والذين على هذا مرفوعاً بالابتداء وخبره الجملة بعده كقوله { إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً } إذا جعلنا الرابط هو في من أحسن عملاً وهو العموم كذلك هذا يكون الرابط هو العموم في المصلحين ، وقال الحوفي وأبو البقاء : الرابط محذوف تقديره أجر المصلحين اعتراض والتقدير مأجورون أو نأجرهم انتهى ، ولا ضرورة إلى ادعاء الحذف وأجاز أبو البقاء أن يكون الرّابط هو المصلحين وضعه موضع المضمر أي لا نضيع أجرهم انتهى ، وهذا على مذهب الأخفش حيث أجاز الرابط بالظاهر إذا كان هو المبتدأ فأجاز زيد قام أبو عمرو إذا كان أبو عمرو وكنية زيد كأنه قال : زيد قام أي هو وأجاز الزمخشري أن يكون والذين في موضع جرّ عطفاً على الذين يتّقون ولم يذكر ابن عطية غيره والاستئناف هو الظاهر كما قلنا . { سقط : الآية وإذ نتقنا الجبل إلى الصفحة التالية وآخر الآية}

١٧١

وإذ نتقنا الجبل . . . . .

النّتق الجذب بشدة وفسّره بعضهم بغايته وهو القلع وتقول العرب نتقت الزبدة من فم القربة والناق الرّحم التي تقلع الولد من الرجل . وقال النابغة : لم يحرموا حسن الفداء وأمّهم

طفحت عليك بناتق مذكار

وفي الحديث عليكم بزواج الأبكار فإنهن انتق أرحاماً وأطيب أفواهاً وأرضى باليسير . الانسلاخ : التعري من الشيء حتى لا يعلق به منه شيء ومنه انسلخت الحية من جلدها . الكلب حيوان معروف ويجمع في القلة على أكلب وفي الكثرة على كلاب وشذوا في هذا الجمع فجمعوه بالألف والتاء فقالوا كلابات ، وتقدّمت هذه المادة في مكلبين وكرّرناها لزيادة فائدة ، لهث الكلب يلهث بفتح الهاءين ماضياً ومضارعاً والمصدر لهثاً ولهثاً بالضم أخرج لسانه وهي حالة له في التعب والراحة والعطش والريّ بخلاف غيره من الحيوان فإنه لا يلهث إلا من إعياء وعط ٥ ، لحد وألحد لغتان قيل بمعنى واحد هو العدول عن الحقّ والإدخال فيه ما ليس منه قاله ابن السكيت ، وقال غيره : العدول عن الاستقامة والرّباعي أشهر في الاستعمال من الثلاثي وقال الشاعر :

ليس الأمير بالشحيح الملحد

ومنه لحد القبر وهو الميل إلى أحد شقيه ومن كلامهم ما فعل الواحد قالوا : لحده اللاحد ،

وقيل ألحد

بمعنى مال وانحرف ولحد بمعنى ركن وانضوى قاله الكسائي ، متن متانة اشتدّ وقوي ، أيان ظرف زمان مبني لا يتصرف وأكثر استعماله في الاستفهام ويليه الاسم مرفوعاً بالابتداء والفعل المضارع لا الماضي بخلاف متى فإنهما يليانه

قال تعالى : { أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } و { أَيَّانَ مُرْسَاهَا } قال الشاعر : أيان تقضي حاجتي أيانا

أما ترى لفعلها إبانا

وتستعمل في الجزاء فتجزم المضارعين وذلك قليل فيها ولم يحفظ سيبويه لكن حفظه غيره وأنشدوا قول الشاعر : إذا النعجة العجفاء باتت بقفرة

فأيّان ما تعدل بها الريح تنزل

وقال غيره : أيان نؤمنك تأمن غيرنا وإذا

لم تدرك الأمن منا لم تزل حذرا

وكسر فتحة همزتها لغة سليم وهي عندي حرف بسيط لا مركب وجامد لا مشتق وذكر صاحب كتاب اللوامح أن أيّان في الأصل كان أيّ أوان فلما كثر دوره حذفت الهمزة على غير قياس ولا عوض وقلبت الواو ياء فاجتمعت ثلاث ياءات فحذفت إحداها فصارت على ما رأيت انتهى ، وزعم أبو الفتح أنه فعلان وفعلال مشتق من أي ومعناه أي وقت وأي فعل من أويت إليه لأنّ البعض آو إلى الكل متساند إليه وامتنع أن يكون فعالاً وفعالاً من أين لأن أيّان ظرف زمان وأين ظرف مكان فأوجب ذلك أن يكون من لفظ أي لزيادة النون ولأن أيان استفهام كما أن أياً كذلك والأصل عدم التركيب وفي أسماء الاستفهام والشرط الجمود كمتى وحيثما وأنى وإذا ، رسا يرسو ثبت . الحفي المستقصي للشيء المحتفل به المعتني ، وفلان حفي بي بارّ معتن . وقال الشاعر : فلما التقينا بين السيف بيننا

لسائلة عنا حفيّ سؤالها

وقال آخر : سؤال حفي عن أخيه كأنه

بذكرته وسنان أو متواسن

والإحفاء الاستقصاء ومنه احفاء الشارب والحافي أي حفيت قدميه للاستقصاء في السّير والحفاوة البر واللطف .

{وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ } أي جذبنا الجبل بشدة وفوقهم حال مقدرة والعامل فيها محذوف تقديره كائناً فوقهم إذ كانت حالة النتق لم تقارن الفوقية لكنه صار فوقهم ، وقال الحوفي وأبو البقاء : فوقهم ظرف لنتقنا ولا يمكن ذلك إلا أن ضمن نتقنا معنى فعل يمكن أن يعمل في فوقهم أي رفعنا بالنتق الجبل فوقهم فيكون كقوله ورفعنا فوقهم الطور والجملة من قوله كأنه ظلة في موضع الحال والمعنى كأنه عليهم ظلّة والظلّة ما أظلّ من سقيفة أو سحاب وينبغي أن يحمل التشبيه على أنه

بظلة مخصوصة لأنه إذا كان كلّ ما أظل يسمى ظلة فالجبل فوقهم صار ظلة وإذا صار ظلّة فكيف يشبه بظلة فالمعنى واللّه أعلم كأنه حالة ارتفاعه عليهم ظلة من الغمام وهي الظلة التي ليست تحتها عمد بل إمساكها بالقدرة الإلهية وإن كانت أجراماً بخلاف الظلّة الأرضية فإنها لا تكون إلا على عمد فلما دانت هذه الظلمة الأرضية فوقهم بلا عمد شبهت بظلة الغمام التي ليست بلا عمد ،

وقيل : اعتاد البشر هذه الأجرام الأرضية ظللاً إذ كانت على عمد فلما كان الجبل مرتفعاً على غير عمد قيل : كأنه ظله أي كأنه على عمد وقرىء طلة بالطاء من أطل عليه إذ أشرف وظنوا هنا باقية على بابها من ترجيح أحد الجائزين ،

وقال المفسّرون : معناه أيقنوا ،

وقال الزمخشري : علموا وليس كذلك بل هو غلبة ظن مع بقاء الرّجاء إلا أن قيد ذلك بقيد أن لا يعقلوا التوراة ، فإنه يكون بمعنى الإتقان ، وتقدّم ذكر سبب رفع الجبل فوقهم في تفسير قوله ورفعنا فوقكم الطور في البقرة فأغنى عن إعادته وقد كرره المفسرون هنا الزمخشري وابن عطية وغيرهما وذكر الزمخشري : هنا عند ذكر السبب أنه لما نشر موسى عليه السلام الألواح وفيها كتاب اللّه تعالى لم يبقَ شجر ولا جبل ولا حجر إلا اهتز فلذلك لا ترى يهوديًّا يقرأ التوراة إلاّ اهتز وأنغض لها رأسه انتهى ، وقد سرت هذه النزعة إلى أولاد المسلمين فيما رأيت بديار مصر تراهم في المكتب إذا قرأوا القرآن يهتزون ويحركون رؤوسهم

وأما في بلادنا بالأندلس والغرب فلو تحرّك صغير عند قراءة القرآن أدبه مؤدّب المكتب وقال له لا تتحرك فتشبه اليهود في الدراسة .

{خُذُواْ مَا ءاتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} قرأ الأعمش واذكروا بالتشديد من الإذكار ،

وقرأ ابن مسعود وتذكروا وقرىء وتذكروا بالتشديد بمعنى وتذكّروا وتقدّم تفسير هذه الجمل في البقرة .

١٧٢

وإذ أخذ ربك . . . . .

{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِىءادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بَلَى } روي في الحديث من طرق أخذ من ظهر آدم ذرّيته وأخذ عليهم العهد بأنه ربهم وأن لا إله غيره فأقروا بذلك والتزموه واختلفوا في كيفية الإخراج وهيئة المخرج والمكان والزمان وتقرير هذه الأشياء محلها ذلك الحديث والكلام عليه وظاهر هذه الآية ينافي ظاهر ذلك الحديث ولا تلتئم ألفاظه مع لفظ الآية وقد رام الجمع بين الآية والحديث جماعة بما هو متكلف في التأويل وأحسن ما تكلم به على هذه الآية ما فسره به الزمخشري قال من باب التمثيل والتخييل ومعنى ذلك أنه تعالى نصب لهم الأدلة على ربوبيته وواحدانيته وشهدت بها عقولهم وبصائرهم التي ركبها فيهم وجعلها مميزة بين الضلالة والهدى فكأنه سبحانه أشهدهم على أنفسهم وقررهم وقال ألست بربكم وكأنهم قالوا بلى أنت ربنا شهدنا على أنفسنا وأقررنا لوحدانيتك وباب التمثيل واسع في كلام اللّه تعالى ورسوله صلى اللّه عليه وسلم ، وفي كلام العرب ونظيره قول اللّه عز وجل { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}{ فَقَالَ لَهَا وَلِلاْرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} وقول الشاعر : إذا قالت الانساع للبطن الحقي

تقول له ريح الصّبا قرقار

ومعلوم أنه لا قول ثم وإنما هو تمثيل وتصوير للمعنى وأن تقولوا مفعول له أي فعلنا ذلك من نصب الأدلة الشاهدة على صحتها العقول كراهة أن تقولوا يوم القيامة وتقديره إنا كنا عن هذا غافلين لم ننبه عليه أو كراهة

أن تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم فاقتدينا بهم لأنّ نصب الأدلة على التوحيد وما نبهوا عليه قائم معهم فلا عذر لهم في الإعراض عنه والإقبال على التقليد والاقتداء بالآباء كما لا عذر لآبائهم في الشرك وأدلة التوحيد منصوبة لهم ،  { فإن قلت } : بنو آدم وذرياتهم من هم ،

قلت : عني ببني آدم أسلاف اليهود الذين أشركوا باللّه تعالى حيث قالوا : عزير ابن اللّه وبذرياتهم الذين كانوا في عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من أخلافهم المقتدين بآبائهم والدليل على أنها في المشركين وأولادهم قوله تعالى : {أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ ءابَاؤُنَا مِن قَبْلُ } والدليل على أنها في اليهود الآيات التي عطفت عليها هي والتي عطفت عليها وهي على نمطها وأسلوبها وذلك على قوله واسألهم عن القرية وإذ قالت أمة منهم وإذ تأذن ربّك وإذ نتقنا الجبل فوقهم واتلُ عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا انتهى كلام الزمخشري وهو بسط كلام من تقدمه ،

قال ابن عطية : قال قوم الآية مشيرة إلى هذا التأويل الذي في الدنيا وأخذ بمعنى أوجد وأن الاشهادين عند بلوغ المكلّف وهو قد أعطى الفهم ونصبت له الصفة الدالة على الصانع ونحالها الزجاج وهو معنى تحتمله الألفاظ انتهى ، والقول بظاهر الحديث يطرق إلى القول بالتناسخ فيجب تأويله ومفعول أخذ ذرياتهم قاله الحوفي ويحتمل في قراءة الجميع أن يكون مفعول أخذ محذوفاً لفهم المعنى وذرّياتهم بدل من ضمير ظهورهم كما أنّ من ظهورهم بدل من قوله بني آدم والمفعول المحذوف هو الميثاق كما قال :{ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مّيثَاقاً غَلِيظاً }{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِى إِسْرءيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّه } وتقدير الكلام : وإذ أخذ ربك من ظهور ذرّيات بني آدم ميثاق التوحيد للّه وإفراده بالعبادة واستعار أن يكون أخذ الميثاق من الظهر كان الميثاق لصعوبته وللارتباط به والوقوف عنده شيء ثقيل يحمل على الظهر وهذا من تمثيل المعنى بالجزم وأشهدهم على أنفسهم بما نصب لهم من الأدلة قائلاً ألست بربكم قالوا بلى ،

وقرأ العربيان ونافع : ذرياتهم بالجمع وتقدّم إعرابه ،

وقرأ باقي السبعة ذرّيتهم مفرداً بفتح التاء ويتعيّن أن يكون مفعولاً بأخذ وهو على حذف مضاف أي ميثاق ذرياتهم وإنما كان أخذ الميثاق من ذرية بني آدم لأنّ بني آدم لصلبه لم يكن فيهم مشرك وإنما حدث الإشراك في ذريتهم .

{شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَاذَا غَافِلِينَ} أي قال اللّه شهدنا عليكم أو قال اللّه والملائكة قاله السدّي ، أو قالت الملائكة أو شهد بعضهم على بعض أقوال ومعنى عن هذا عن هذا الميثاق والإقرار بالربوبيّة .

١٧٣

أو تقولوا إنما . . . . .

{أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ ءابَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرّيَّةً مّن بَعْدِهِمْ} المعنى أن الكفرة لو لم يؤخذ عليهم عهد ولا جاءهم رسول مذكر بما تضمنه العهد من توحيد اللّه وعبادته لكانت لهم حجتان إحداهما : كنا غافلين والأخرى : كنا أتباعاً لأسلافنا فكيف نهلك والذنب إنما هو لمن طرّق لنا وأضلّنا فوقعت الشهادة لتنقطع عنهم الحجج ،

وقرأ أبو عمرو إن يقولوا بالياء على الغيبة وباقي السبعة بالتاء على الخطاب .

{أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} هذا من تمام القول الثاني أي كانوا السبب في شركنا لتأسيسهم الشرك وتقدمهم فيه وتركه سنة لنا والمعنى أنه تعالى أزال عنهم الاحتجاج بتركيب العقول فيهم وتذكيرهم ببعثة الرسل إليهم فقطع بذلك أعذارهم .

١٧٤

وكذلك نفصل الآيات . . . . .

{وَكَذَلِكَ نفَصّلُ الاْيَاتِ } أي مثل هذا التفصيل الذي فصّلنا فيه الآيات السابقة نفصل الآيات اللاحقة فالكل على نمط واحد في التفصيل والتوضيح لأدلّة التوحيد وبراهينه .{ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } عن شركهم وعبادة غير اللّه إلى توحيده وعبادته بذلك التفصيل والتوضيح وقرأت فرقة يفصل بالياء أي يفصل هو أي اللّه تعالى

١٧٥

واتل عليهم نبأ . . . . .

{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِىءاتَيْنَاهُ ءايَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ } أي واتلُ على من كان حاضراً من كفار اليهود وغيرهم ولما كان تعالى قد ذكر أخذ الميثاق على توحيده تعالى وتقرير ربوبيته وذكر إقرارهم بذلك

وإشهادهم على أنفسهم ذكر حال من آمن به ، ثم بعد ذلك كفر كحال اليهود كانوا مقرين منتظرين بعثة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما أطلعوا عليه من كتب اللّه المنزلة وتبشيرها به ، وذكر صفاته فلما بعث كفروا به فذكروا أن ما صدر منهم هو طريقة لأسلافهم اتبعوها واختلف المفسرون في هذا الذي آتاه اللّه آياته فانسلخ منها فقال عكرمة : هو كل من انسلخ من الحق بعد أن أعطيه من اليهود والنصارى والحنفاء ، وقال عبادة بن الصامت : هم قريش أتتهم أوامر اللّه ونواهيه والمعجزات فانسلخوا من الآيات ولم يقبلوها فعلى هذين القولين يكون الذي مفرداً أريد به الجمع ، وقال الجمهور : هو شخص معين ، فقيل : هو بلعم ،

وقيل : هو بلعام وهو رجل من الكنعانيين أوتي بعض كتب اللّه ،

وقيل : كان يعلم اسم اللّه الأعظم واختلف في اسم أبيه . وقال ابن مسعود : هو أبره .

وقال ابن عباس باعوراء ، وقال مجاهد والسدّي : باعرويه روى أن قومه طلبوا إليه أن يدعو على موسى ومن معه فأبى وقال : كيف أدعو على من معه الملائكة فألحوا عليه حتى فعل وقد طول المفسرون في قصته وذكروا ما اللّه أعلم به ،

وقيل هو رجل من علماء بني إسرائيل ، وقال ابن مسعود : بعثه موسى عليه السلام نحو مدين داعياً إلى اللّه وإلى شريعته وعلم من آيات اللّه ما يدعونه فكان مجاب الدعوة فلما فارق دين موسى سلخ اللّه منه الآيات ،

وقيل : اسمه ناعم كان في زمن موسى وكان بحبت اسم بلد كان إذا نظر رأى العرش وكان في مجلسه اثنا عشر ألف محبرة للمتعلمين يكتبون عنه وهو أوّل من صنف كتاباً إنه ليس للعالم صانع ،

وقيل هو رجل من بني إسرائيل أعطى ثلاث دعوات مستجابة يدعو بها في مصالح العباد فجعلها كلها لامرأته وكانت قبيحة فسألته فدعا اللّه فجعلها جميلة فمالت إلى غيره فدعا اللّه عليها فصارت كلبة نباحة وكان لها منها بنون فتضرّعوا إليه فدعا اللّه فصارت إلى حالتها الأولى ، وقال عبد اللّه بن عمرو بن العاص وابن المسيّب وزيد بن أسلم وأبو روق : وهو أميّة بن أبي الصلت الثقفي قرأ الكتب وعلم أنه سيبعث نبي من العرب ورجا أن يكون إياه وكان ينظم الشعر في الحكم والأمثال فلما بعث محمد صلى اللّه عليه وسلم حسده ووفد على بعض الملوك وروي أنه جاء يريد الإسلام فوصل إلى بدر بعد الوقعة بيوم أو نحوه فقال من قتل هؤلاء فقيل : محمد فقال : لا حاجة لي بدين من قتل هؤلاء فارتد ورجع وقال : الآن حلت لي الخمر وكان قد حرم الخمر على نفسه فلحق بقوم من ملوك حمير فنادمهم حتى مات وقدّمت أخته فارعة على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم واستنشدها من شعره فأنشدته عدّة قصائد فقال صلى اللّه عليه وسلم : آمن شعره وكفر قلبه وهو الذي قال فيه تعالى واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ، وقال سعيد بن المسيب أيضاً : هو أبو عامر بن النعمان بن صيفي الراهب سماه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : الفاسق وكان ترهّب في الجاهلية ولبس المسوح وهو الذي بني له المنافقون مسجد الضرار جرت بينه وبين النبي صلى اللّه عليه وسلم محاورة فقال أبو عامر : أمات اللّه الكاذب منا طريداً وحيداً وأرسل إلى المنافقين أنِ استعدوا بالقوة والسلاح ثم أتى قيصر واستجاشه ليخرج محمداً صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه من المدينة فمات بالشام طريداً شريداً وحيداً ،

وقيل : غير هذا والأولى في مثل هذا إذا ورد عن المفسرين أن تحمل أقاويلهم على التمثيل لا على الحصر في معين فإنه يؤدي إلى الاضطراب والتناقض والخلاف في آتيناه آياتنا مترتب على من عنى الذي آتيناه أذلك اسم اللّه الأعظم أو الآيات من كتب اللّهأو حجج التوحيد أو من آيات موسى أو العلم بمجيء الرسول والانسلاخ من الآيات مبالغة في التبري منها والبعد أي لم يعمل بما اقتضته نعمتنا عليه من إتيانه آياتنا جعل كأنه كان ملتبساً بها كالثوب فانسلخ منها وهذا من إجراء المعنى مجرى الجزم وقول من قال : إنه من المقلوب أي إلا انسلخت الآيات عنه لا ضرورة تدعو إليه ، وقال سفيان : إن الرجل ليذنب ذنباً فينسى باباً من العلم ،

وقرأ الجمهور : فأتبعه الشيطان من أتبع رباعياً أي لحقه وصار معه وهي مبالغة في حقه إذ جعل كأنه هو إمام للشيطان يتبعه وكذلك فأتبعه شهاب ثاقب أي عدا وراءه ، قال القتبي تبعه من خلفه واتبعه أدركه ولحقه كقوله : فاتبعوهم مشرقين أي أدركوهم فعلى هذا يكون متعدياً إلى واحد وقد يكون اتبع متعدّياً إلى اثنين كما

قال تعالى : وأتبعناهم ذرّياتهم

بإيمان فيقدر هذا فأتبعه الشيطان خطواته أي جعله الشيطان يتبع خطواته فتكون الهمزة فيه للتعدي إذ أصله تبع هو خطوات الشيطان ،

وقرأ طلحة بخلاف والحسن فيما روى عنه هارون فاتبعه مشدّداً بمعنى تبعه ، قال صاحب كتاب اللوامح : بينهما فرق وهو أن تبعه إذا مشى في أثره واتبعه إذا واراه مشياً فأما فأتبعه بقطع الهمزة فمما يتعدّى إلى مفعولين لأنه منقول من تبعه وقد حذف في العامة أحد المفعولين ،

وقيل فأتبعه بمعنى استتبعه أي جعله له تابعاً فصار له مطيعاً سامعاً ،

وقيل معناه : تبعه شياطين الإنس أهل الكفر والضلال ، فكان من الغاوين يحتمل أن تكون كان باقية الدلالة على مضمون الجملة واقعاً في الزمان الماضي ويحتمل أن تكون كان بمعنى صار أي صار من الضالين الكافرين ، قال مقاتل : من الضالين ، وقال الزجاج : من الهالكين الفاسدين .

١٧٦

ولو شئنا لرفعناه . . . . .

{وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَاكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الاْرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} أي ولو أردنا أن نشرفه ونرفع قدره بما آتيناه من الآيات لفعلنا ولكنه أخلد إلى الأرض أي ترامى إلى شهوات الدنيا ورغب فيها واتبع ما هو ناشىء عن الهوى وجاء الاستدراك هنا تنبيهاً على السبب الذي لأجله لم يرفع ولم يشرف كما فعل بغيره ممن أوتي الهدى فآثره وأتبعه وأخلد معناه رمى بنفسه إلى الأرض أي إلى ما فيها من الملاذ والشهوات قال معناه ابن عباس ومجاهد والسدّي ، ويحتمل أن يريد بقوله أخلد إلى الأرض أي مال إلى السفاهة والرذالة كما يقال : فلان في الحضيض عبارة عن انحطاط قدره بانسلاخه من الآيات قال معناه الكرماني . قال أبو روق : غلب على عقله هواه فاختار دنياه على آخرته ، وقال قوم : معناه لرفعناه بها لأخذناه كما تقول رفع الظالم إذا هلك والضمير في بها عائد على المعصية في الانسلاخ وابتدىء وصف حاله بقوله ولكنه أخلد ، وقال ابن أبي نجيح لرفعناه لتوفيناه قبل أن يقع في المعصية ورفعناه عنها والضمير للآيات ثم ابتدىء وصف حاله والتفسير الأول أظهر وهو مرويّ عن ابن عباس وجماعة ولم يذكر الزمخشري غيره وهو الذي يقتضيه الاستدراك لأنه على قول الإهلاك بالمعصية أو التوفي قبل الوقوع فيها لا يصحّ معنى الاستدراك والضمير في لرفعناه في هذه الأقوال عائد على الذي أوتي الآيات وإن اختلفوا في الضمير في بها على ما يعود وقال قوم الضمير في لرفعناه على الكفر المفهوم مما سبق وفي بها عائد على الآيات أي ولو شئنا لرفعنا الكفر بالآيات وهذا المعنى روي عن مجاهد وفيه بعد وتكلّف ،

قال الزمخشري: { فإن قلت } : كيف علق رفعه بمشيئة اللّه تعالى ولم يعلق بفعله الذي يستحق به الرفع ،  { قلت } : المعنى ولو لزم العمل بالآيات ولم ينسلخ منها لرفعناه بها وذلك أن مشيئة اللّه تعالى رفعه تابعة للزومه الآيات فذكر المشيئة والمراد ما هي تابعة له ومسببة عنه كأنه قيل ولو لزمها لرفعناه بها ألا ترى إلى قوله ولكنه أخلد إلى الأرض فاستدرك المشيئة بإخلاده الذي هو فعله فوجب أن يكون ولو شئنا في معنى ما هو فعله ولو كان الكلام على ظاهره لوجب أن يقال : ولو شئنا لرفعناه ولكنا لم نشأ انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال .

{فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث } أي فصفته إن تحمل عليه الحكمة لم يحملها وإن تركته لم يحملها كصفة الكلب إن كان مطروداً لهث وإن كان رابضاً لهث قاله ابن عباس ،

وقيل : شبه المتهالك على الدنيا في قلقه واضطرابه على تحصيلها ولزومه ذلك بالكلب في حالته هذه التي هي ملازمة له حالة تهييجه وتركه وهي كونه لا يزال لا هنا وهي أخس أحواله وأرذلها كما أن المتهالك على الدنيا لا يزال تعباً قلقاً في تحصيلها قال الحسن هو مثل المنافق لا ينيب إلى الحق دعي أو لم يدع أعطي أو لم يعط كالكلب يلهث طرداً وتركاً انتهى ، وفي كتاب الحيوان دلت الآية على أن الكلب أخس الحيوان وأذله لضرب الخسة في المثل به في أخسّ أحواله ولو كان في جنس الحيوان ما هو أخس من الكلب ما ضرب المثل إلا به ،

قال ابن عطية : وقال الجمهور إنما شبه في أنه كان ضالاً قبل أن يؤتى الآيات

ثم أوتيها أيضاً ضالاً لم تنفعه فهو كالكلب في أنه لا يفارق اللّهث في حال حمل المشقة عليه أو تركه دون حمل عليه ، وقال السدّي وغيره هذا الرجل خرج لسانه على صدره وجعل يلهث كما يلهث الكلب ،

وقال الزمخشري : وكان حق الكلام أن يقال ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض فحططناه ووضعنا منزلته فوقع قوله : فمثله كمثل الكلب موقع فحططناه أبلغ حط لأن تمثيله بالكلب في أخسّ أحواله وأرذلها في معنى ذلك انتهى وفي قوله وكان حق الكلام إلى آخره سوء أدب على كلام اللّه تعالى

وأما قوله فوقع قوله فمثله إلى آخره فليس واقعاً موقع ما ذكر لكن قوله ولكنه أخلد إلى الأرض وقع موقع فحططناه إلا أنه لما ذكر الإحسان إليه أسند ذلك إلى ذاته الشريفة فقال آتيناه آياتنا ولو شئنا لرفعناه بها ولما ذكر ما هو في حق الشخص إساءة أسنده إليه فقال فانسلخ منها وقال : ولكنه أخلد إلى الأرض واللّه تعالى في الحقيقة هو الذي سلخه من الآيات وأخلده إلى الأرض فجاء على حد قوله فأردت أن أعيبها وقوله : فأراد ربك أن يبلغا في نسبة ما كان حسناً إلى اللّه ونسبة ما كان بخلافه إلى الشخص وهذه الجملة الشرطية في موضع الحال أي لاهثاً في الحالتين قاله الزمخشري وأبو البقاء ، وقال بعض شراح كتاب المصباح :

وأما الشرطية فلا تكاد تقع بتمامها موضع الحال فلا يقال جاءني زيد إن يسأل يعظ على الحال بل لو أريد ذلك لجعلت الجملة الشرطية خبراً عن ضمير ما أريد الحال عنه نحو جاء زيد هو وإن يسأل يعط فيكون الواقع موقع الحال هو الجملة الإسمية لا الشرطية ، نعم قد أوقعوا الجمل المصدرة بحرف الشرط موقع الحال ولكن بعد ما أخرجوها عن حقيقة الشرط وتلك الجملة لم تخلُ من أن يُعطف عليها ما يناقضها أو لم يعطف والأول ترك الواو مستمرّ فيه نحو أتيتك إن أتيتني وإن لم تأتني إذ لا يخفى أن النقيضين من الشرطين في مثل هذا الموضع لا يبقيان على معنى الشرط بل يتحولان إلى معنى التسوية كالاستفهامين المتناقضين في قوله أأنذرتهم أم لم تنذرهم

وأما الثاني فلا بدّ من الواو نحو أتيتك وإن لم تأتني ولو ترك الواو لالتبس بالشرط حقيقة انتهى فقوله { إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث } من قبيل الأول لأن الحمل عليه والترك نقيضان .

{ذالِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } أي ذلك الوصف وصف الذين كذبوا بآياتنا صفته كصفة الكلب لاهثاً في الحالتين فكما شبّه وصف المؤتى الآيات المنسلخ منها بالكلب في أخسّ حالاته كذلك شبّه به المكذبون بالآيات حيث أوتوها وجاءتهم واضحات تقتضي التصديق بها فقابلوها بالتكذيب وانسلخوا منها واحتمل ذلك أن يكون إشارة لمثل المنسلخ وأن يكون إشارة لوصف الكلب واحتمل أن تكون أداة التشبيه محذوفة من ذلك أي صفة ذلك صفة الذين كذبوا واحتمل أن تكون محذوفة من مثل القوم أي ذلك الوصف وصف المنسلخ أو وصف الكلب كمثل الذين كذبوا بآياتنا ويكون أبلغ في ذمّ المكذبين حيث جعلوا أصلاً وشبه بهم ،

قال ابن عطية : أي هذا المثل يا محمد مثل هؤلاء القوم الذين كانوا ضالّين قبل أن تأتيهم بالهدى والرسالة ثم جئتهم بذلك فبقوا على ضلالهم ولم ينتفعوا بذلك فمثلهم كمثل الكلب ،

وقال الزمخشري : كذبوا بآياتنا من اليهود بعدما قرأوا بعثة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في التوراة وذكر القرآن المعجز وما فيه وبشروا الناس باقتراب مبعثه وكانوا بستفتحون به ،

وقال ابن عباس : يريد كفار مكة لأنهم كانوا يتمنون هادياً يهديهم وداعياً يدعوهم إلى طاعة اللّه ثم جاءهم من لايشك في صدقه وديانته ونبوته فكذبوه فحصل التمثيل بينهم وبين الكلب الذي إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث لأنهم لم يهتدوا لما تركوا ولم يهتدوا لما جاءهم الرسول فبقوا على الضلال في كل الأحوال مثل الكلب الذي يلهث على كل حال انتهى ، وتلخص أهؤلاء القوم المكذبون بالآيات عامّ أم خاص باليهود أم بكفار مكة أقوال ثلاثة

والأظهر العموم .

{فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} أي فاسرد أخبار القرون الماضية كخبر بلعام أو من فسّر به المنسلخ إذ هو من القصص الذي لا يعلمه إلا من درس الكتب إذ هو من خفي أخبارهم ففي إخبارك بذلك أعظم معجز لعلهم يتفكرون فيما جرى على المكذبين فيكون ذلك عبرة لهم ورادعاً عن التكذيب وأن يكونوا أخباراً شنيعة تقصّ كما قصّ خبر ذلك المنسلخ .

١٧٧

ساء مثلا القوم . . . . .

{سَاء مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا } ساء بمعنى بئس وتقدم لنا أن أصلها التعدّي تقول : ساءني لشيء يسوءني ثم لما استعملت استعمال بئس بنيت على فعل وجرت عليها أحكام بئس ومثلاً تمييز للضمير المستكنّ في ساء فاعلاً وهو مفسر بهذا التمييز وهو من الضمائر التي يفسرها ما بعدها ولا يثنّي ولا يجمع على مذهب البصريين وعن الكوفيين خلاف مذكور في النحو ولا بد أن يكون المخصوص بالذمّ من جنس التمييز فاحتيج إلى تقدير حذف أما في التمييز أي ساء أصحاب مثل القوم

وأما في المخصوص أي ساء مثلاً مثل القوم وهذه الجملة تأكيد للجملة السابقة ، وقال أبو عبد اللّه الرازي ظاهره يقتضي أن يكون ذلك المثل موصوفاً بالسوء وذلك غير جائز لأن هذا المثل ذكره اللّه تعالى فكيف يكون موصوفاً بالسوء فوجب أن يكون الموصوف بالسوء ما أفاده المثل من تكذيبهم بآيات اللّه وإعراضهم عنها حتى صاروا في التمثيل لذلك بمنزلة الكلب اللاهث انتهى وليس كما ذكر ليس هنا ضرب مثل والمثل لفظ مشترك بين الوصف وبين ما يضرب مثلاً والمراد هنا الوصف فمعنى مثله كمثل الكلب أي وصفه وصف الكلب وليس هذا من ضرب المثل بل كما قال مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً أي صفتهم كصفة الذي استوقد وكقوله مثل الجنة التي وعد المتقون أي صفتها وإذا تقرر هذا فقوله ساء مثلاً معناه بئس وصفاً فليس من ضرب المثل في شيء ،

وقرأ الحسن وعيسى بن عمر والأعمش : ساء مثل بالرفع { الْقَوْمَ } بالخفض واختلف على الجحدري فقيل : كقراءة الأعمش ،

وقيل : بكسر الميم وسكون الثاء وضم اللام مضافاً إلى { الْقَوْمَ } والأحسن في قراءة المثل بالرفع أن يكتفى به ويجعل من باب التعجب نحو لقضو الرجل أي ما أسوأ مثل القوم ويجوز أن يكون كبئس على حذف التمييز على مذهب من يجيزه التقدير ساء مثل القوم أو على أن يكون المخصوص { الَّذِينَ كَذَبُواْ } على حذف مضاف أي بئس مثل القوم مثل { الَّذِينَ } كذبوا لتكون الذين مرفوعاً إذ قام مقام مثل المحذوف لا مجروراً صفة للقوم على تقدير حذف التمييز .

{وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ } يحتمل أن يكون معطوفاً على الصلة ويحتمل ن يكون استئناف إخبار عنهم بأنهم كانوا يظلمون أنفسهم والزمخشري على طريقته في أنّ تقديم المفعول يدلّ على الحصر فقدره وما ظلموا إلا أنفسهم بالتكذيب ، قال : وتقديم المفعول به لاختصاص كأنه قيل وخصُّوا أنفسهم بالظلم ولم يتعدّ إلى غيرها .

١٧٨

من يهد اللّه . . . . .

{مَن يَهْدِ اللّه فَهُوَ الْمُهْتَدِى وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } لما تقدم ذكر المهتدين والضالين حبر تعالى : أنه هو المتصرف فيهم بما شاء من هداية وضلال وتقرّر من مذهب أهل السنة أنه تعالى هو خالق الهداية والضلال في العبد وللمعتزلة في هذا ونظائره تأويلات ، قال الجبائي : وهو اختيار القاضي { مَن يَهْدِ اللّه } إلى الجنة والثواب في الآخرة { فَهُوَ الْمُهْتَدِى } في الدنيا السالك طريق الرشد فيما كلف فبين أنه لا يهدي إلى الثواب في الآخرة إلا من هذا وصفه ومن يضللّه عن طريق الجنة { فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } ،

وقال بعضهم : في الكلام حذف أي { مَن يَهْدِ اللّه } فيقبل ويهتدي بهداه { فَهُوَ الْمُهْتَدِى وَمَن يُضْلِلْ } بأن لم يقبل فهو الخاسر ،

وقال بعضهم : المراد من وصفه اللّه بأنه مهتدٍ{ فَهُوَ الْمُهْتَدِى } لأنّ ذلك مدح ومدح اللّه لا يحصل إلا في حق من كان موصوفاً بذلك { وَمَن يُضْلِلِ } أي ومن يصفه بكونه ضالاًّ فهو الخاسر ،

وقال بعضهم : من آتيناه الألطاف وزيادة الهدى { فَهُوَ الْمُهْتَدِى }{ وَمَن يُضْلِلِ } عن ذلك لما تقدم منه بسوء اختياره فأخرج لهذا السبب تلك الألطاف من أن تؤثر فيه فهو الخاسر وهذه التأويلات كلها متكلفة بعيدة وظاهر الآية يرد على القدرية والمعتزلة و { فَهُوَ الْمُهْتَدِى } حمل على لفظ من و { فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } حمل على معنى من وحسنه كونه فاصلة رأس آية .

١٧٩

ولقد ذرأنا لجهنم . . . . .

{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مّنَ الْجِنّ وَالإِنْسِ} هذا إخبار منه تعالى بأنه خلق لجهنم كثيراً من الصنفين ، ومناسبة هذا لما قبله أنه لما ذكر أنه هو الهادي وهو المضلّ أعقبه بذكر من خلق للخسران والنار وذكر أوصافهم فيما ذكر وفي ضمنه وعيد الكفار والمعنى لعذاب جهنم واللام للصيرورة على قول من أثبت لها هذا المعنى أو لما كان مآلهم إليها جعل ذلك سبباً على جهة المجاز فقد رد ابن عطية قول من زعم أنها للصيرورة ، فقال : وليس هذا بصحيح ولام العاقبة إنما يتصور إذا كان فعل الفاعل لم يقصد به ما يصير الأمر إليه ،

وأما هنا فالفعل قصد به ما يصير الأمر إليه من سكناهم لجهنم انتهى ، وإنما ذهب إلى أنها لام العاقبة والصيرورة لأنه تعالى قال { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } فإثبات كونها للعلة ينافي قوله { إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } وأنشدوا دليلاً على إثبات معنى الصيرورة للام قول الشاعر : ألا كل مولود فللموت يولد

ولست أرى حيّاً لحي يخلد

وقول الآخر : فللموت تغدو الوالدات سخالها

كما لخراب الدّر تبنى المساكن

ودعوى القلب فيه وإنّ تقديره ولقد ذرأنا جهنم لكثير غير سديد لأنّ القلب لا يكون إلا في الشعر على الصحيح ولفظة كثير لا تشعر بالأكثر ولكن ثبت في الحديث أن بعث النار أكثر لقول اللّه لآدم أخرج بعث النار من ذريتك فأخرج من كل ألف تسعة وتسعين وتسعمائة وهؤلاء المخلوقون لجهنم هم الذين طبع اللّه على قلوبهم فلا يتأتى منهم إيمان البتة وتفسير ابن جبير : انهم أولاد الزنا ليس بجيد .

{لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءاذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا} لما كانوا لا يتدبرون شيئاً من الآيات ولا ينظرون إليها نظر اعتبار ولا يسمعونها سماع تفكر جعلوا كأنهم فقدوا الفقه بالقلوب والإبصار بالعيون والسماع بالآذان وليس المراد نفي هذه الإدراكات عن هذه الحواس وإنما المراد نفي الانتفاع بها فيما طلب منهم من الإيمان . وقال مسكين الدرامي : أعمى إذا ما جارتي خرجت

حتى يواري جارتي الستر

وأصمّ عن ما كان بينهما

عمداً وما بالسمع لي وقر

وفسّر مجاهد هذا فقال :{ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا } شيئاً من أمور الآخرة { وَلاَ يُبْصِرُونَ بِهَا } الهدى { وَلاَ يَسْمَعُونَ بِهَا } الحق انتهى ، وفي قوله { لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا } دليل على أن القلب آلة للفقه والعلم كما أن العين آلة للإبصار والأذن آلة للسماع ،

وقال الزمخشري : وجعلهم لإغراقهم في الكفر وشدة شكائمهم فيه وإنه لا يتأتى منهم إلا أفعال أهل النار مخلوقين للنار دلالة على توغّلهم في الموجبات وتمكنهم فيما يؤهلهم لدخول النار ، ومنه كتاب عمر إلى خالد بن الوليد : بلغني أن أهل الشام اتخذوا لك دلوكاً عجن بخمر وإني لأظنكم يا آل المغيرة ذرء النار . ويقال لمن كان غريقاً في بعض الأمور ما خلق فلان إلا للنار والمراد وصف أحوالهم في عظم ما أقدموا عليه في تكذيب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم

مع علمهم أنه النبي الموعود وأنهم من جملة الكثير الذين لا يكاد الإيمان يتأتى منهم كأنهم خلقوا للنار انتهى ، وهو تكثير في الشرح .

{أُوْلَئِكَ كَالانْعَامِ } أي في عدم الفقه في العواقب والنظر للاعتبار والسماع للتفكر ولا يهتمون بغير الأكل والشرب .

{بَلْ هُمْ أَضَلُّ }

قال الزمخشري :{ بَلْ هُمْ أَضَلُّ } سبيلاً من الأنعام عن الفقه والاعتبار والتدبّر ،

وقيل الأنعام تبصر منافعها من مضارها فتلزم بعض ما تبصره وهؤلاء أكثرهم يعلم أنه معاند فيقدم على النار ، و

قال ابن عطية : حكم عليهم بأنهم أضل لأن الأنعام ركب في بنيتها وخلقتها أن لا تفكر في شيء وهؤلاء هم معدُّون للفهم وقد خلقت لهم قوى يصرفونها وأعطوا طرفاً من النظر فهم يغفلتهم وإعراضهم يلحقون أنفسهم بالأنعام فهم أضلّ على هذا انتهى ،

وقيل { هُمْ أَضَلُّ } لأنهم يعصون والأنعام لا تعصي ،

وقيل الأنعام تعرف ربها وتسبح له والكفار لا يعرفونه ولا يدعونه وروي : كل شيء أطوع للّه من ابن آدم ، وقال أبو عبد اللّه الرازي : الإنسان وسائر الحيوان يشاركه في قوى الطبيعة الغاذية والنامية والمولدة وفي منافع الحواس الخمس الظاهرة والباطنة وفي أحوال التخيل والتفكر والتذكر وإنما يحصل الامتياز بين الإنسان وغيره بالقوة العقلية والفكرية التي تهديه إلى معرفة الحق لذاته والخير لأجل العمل به فلما أعرض الكفار من أغراض أحوال العقل والفكر ومعرفة الحق والعمل بالخير كانوا كالأنعام ، ثم قال :{ بَلْ هُمْ أَضَلُّ } لأن الحيوانات لا قدرة لها على تحصيل الفضائل والإنسان أعطي القدرة على تحصيلها ومن أعرض عن اكتساب الفضئل العظيمة مع القدرة على تحصيلها كان أحسن حالاً ممن لم يكتسبها مع العجز فلهذا قال :{ بَلْ هُمْ أَضَلُّ } انتهى .

وقيل : الأنعام تفرّ إلى أربابها ومن يقوم بمصالحها والكافر يهرب عن ربه الذي أنعمه عليه لا تحصي ،

وقيل : الأنعام تضل إذا لم يكن معها مرشد وقلما تضلّ إذا كان معها وهؤلاء قد جاءتهم الرسل وأنزلت عليهم الكتب وهم يزدادون في الضلال انتهى ، وأقول هذا الإضراب ليس على جهة الإبطال للخبر السابق من تشبيههم بالأنعام ولا يجوز أن تكون جهة المبالغة في الضلال هي جهة التشبيه لأنه يؤدي إلى كذب أحد الخبرين وذلك مستحيل في حق اللّه تعالى وكلام من تقدم من المفسرين يدل على أنه تعالى شبّههم بالأنعام فيما ذكر وأنهم أضل من الأنعام فيما وقع التشبيه فيه وهو لا يجوز لما ذكرناه فالمعوّل عليه أن جهة التشبيه مخالفة لجهة المبالغة في الضلال وأن هذا الإضراب ليس على سبيل الإبطال بمدلول الجملة السابقة { بَلْ هُمْ أَضَلُّ } إضراب دال على الانتقال من إخبار إلى إخبار فالجملة الأولى شبههم بالأنعام في انتفاء منافع الإدراكات المؤدية إلى امتثال ما جاءت به الرسل والجملة الثانية أثبتت لهم المبالغة في ضلال طريقهم التي يسلكونها فالموصوف بالمبالغة في الضلال طريقهم وحذف التمييز وتقديره :{ بَلْ هُمْ أَضَلُّ } طريقاً منهم ويبين هذا قوله تعالى :{ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالاْنْعَامِ } أي في انتفاء السمع للتدبر والعقل { بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً } أي بل سبيلهم أضلّ فالمحكوم عليه أوّلاً غير المحكوم عليه آجراً والمحكوم به أيضاً مختلف .

{أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ } هذه الجملة بيّن تعالى بها سبب كونهم أضلّ من الأنعام وهو الغفلة . وقال عطاء : عن ما أعدّ اللّه لأوليائه من الثواب ولأعدائه من العقاب .

١٨٠

وللّه الأسماء الحسنى . . . . .

{وَللّه الاسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِى أَسْمَئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } قال مقاتل : دعا رجل اللّه تعالى في صلاته ومرة دعا الرحمن ، فقال أبو جهل : أليس يزعم محمد وأصحابه أنهم يعبدون ربّاً واحداً فما بال هذا يدعو اثنين فنزلت ، ومناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما ذكر أنه ذرأ كثيراً من الجنّ والإنس للنار ذكر نوعاً منهم وهم { الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِى أَسْمَئِهِ } وهم أشدّ الكفار عتباً أبو جهل وأضرابه وأيضاً لما نبه على أن دخولهم جهنم هو للغفلة عن ذكر اللّه والمخلص من العذاب هو ذكر اللّه أمر بذكر اللّه بأسمائه الحسنى وصفاته العلا والقلب إذا غفل عن ذكر اللّه وأقبل على الدنيا وشهواتها وقع في

الحرص ، وانتقل من رغبة إلى رغبة ومن طلب إلى طلب ومن ظلمة إلى ظلمة ، وقد وجدنا ذلك بالذوق حتى إن أحدهم ليصلي الصلوات كلها قضاء في وقت واحد فإذا انفتح على قلبه باب ذكر اللّه تعالى تخلص من آفات الغفلة وامتثل ما آمره اللّه به واجتنب ما نهى عنه .

قال الزمخشري : التي هي أحسن الأسماء لأنها لا تدل على معان حسنة من تحميد وتقديس وغير ذلك انتهى ، فالحسنى هي تأنيث الأحسن ووصف الجمع الذي لا يعقل بما يوصف به الواحدة كقوله { وَلِىَ فِيهَا مَأَرِبُ أُخْرَى } وهو فصيح ولو جاء على المطابقة للجمع لكان التركيب الحسن على وزن الأخر كقوله { فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } لأن جمع ما لا يعقل يخبر عنه ويوصف بجمع المؤنثات وإن كان المفرد مذكّراً ،

وقيل :{ الْحُسْنَى } مصدر وصف به ،

قال ابن عطية : و { الاْسْمَاء } هاهنا : بمعنى التسميات إجماعاً من المتأولين لا يمكن غيره انتهى . ولا تحرير فيما قال لأنّ التسمية مصدر والمراد هنا الألفاظ التي تطلق على اللّه تعالى وهي الأوصاف الدالة على تغاير الصفات لا تغاير الموصوف كما تقول جاء زيد الفقيه الشجاع الكريم وكون الاسم الذي أمر تعالى أن يدعى به حسناً هو ما قرره الشرع ونص عليه في إطلاقه على اللّه ومعنى { فَادْعُوهُ بِهَا } أي نادوه بها كقولك : يا اللّه يا رحمن يا مالك وما أشبه ذلك ،

وقال الزمخشري : فسمّوه بتلك الأسماء جعله من باب دعوت ابني عبد اللّه أي سميته بهذا الاسم واختلف في الاسم الذي يقتضي مدحاً خالصاً ولا تتعلق به شبهة ولا اشتراك إلا أنه لم يرد منصوصاً هل يطلق ويسمى اللّه تعالى به فنصّ القاضي أبو بكر الباقلاني على الجواز ونصّ أبو الحسن والأشعري على المنع ، وبه قال الفقهاء والجمهور وهو الصواب واختلف أيضاً في الأفعال التي في القرآن كقوله تعالى :{ اللّه يَسْتَهْزِىء بِهِمْ } و { يَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّه } هل يطلق عيه منه تعالى اسم فاعل مقيد بمتعلقه فيقال اللّه مستهزىء بالكافرين وماكر بالذين يمكرون فجوّز ذلك فرقة ومنعت منه فرقة وهو الصواب

وأما إطلاق اسم الفاعل بغير قيده فالإجماع على منعه ، وروى الترمذي في جامعه من حديث أبي هريرة النص على تسعة وتسعين اسماً مسرودة اسماً اسماً ،

قال ابن عطية : وفي بعضها شذوذ وذلك الحديث ليس بالمتواتر وإن كان قد قال فيه أبو عيسى هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من طريق حديث صفوان بن صالح وهو ثقة عند أهل الحديث وإنما المتواتر منه قول النبي صلى اللّه عليه وسلم : { إنّ للّه تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحد من أحصاها دخل الجنة} . ومعنى أحصاها عدّها وحفظها وتضمّن ذلك الإيمان بها والتعظيم لها والعبرة في معانيها وهذا حديث البخاري انتهى ، وتسمية هذا الحديث متواتراً ليس على اصطلاح المحدثين في المتواتر وإنما هو خبر آحاد .

وفي بعض دعاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { يا حنان يا منان} ولم يردا في جامع الترمذي وقد صنّف العلماء في شرح أسماء اللّه الحسنى كأبي حامد الغزالي وابن الحكم بن برجان وأبي عبد اللّه الرازي وأبي بكر بن العربي وغيرهم ،

قال الزمخشري : ويجوز أن يراد وللّه الأوصاف الحسنى وهي الوصف بالعدل والخير والإحسان وانتفاء شبه الخلق وصفوه بها { وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ } في صفاته فيصفونه بمشيئة القبائح وخلق الفحشاء والمنكر وبما يدخل في التشبيه كالرؤية ونحوها ،

وقيل : معنى قوله { وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِى أَسْمَئِهِ } اتركوهم ولا تحاجّوهم ولا تعرضوا لهم قاله ابن زيد فتكون الآية على هذا منسوخة بالقتال ،

وقيل : معناه الوعيد كقوله { ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً } وقوله { ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ }

وقال الزمخشري واتركوا تسمية الذيني يميلون عن الحق والصواب فيها فيسمونه بغير الأسماء الحسنى وذلك أن يسموه بما لا يجوز عليه كما سمعنا البدو بجهلهم يقولون : يا أبا المكارم يا أبيض الوجه يا سخيّ ، أو أن يأبوا تسميته ببعض أسمائه الحسنى نحو أن يقولوا : يا اللّه ولا يقولوا : يا رحمن ،

وقيل : معنى الإلحاد في أسمائه تسميتهم أوثانهم اللات نظراً إلى اسم اللّه تعالى والعزى نظراً إلى العزيز قاله مجاهد ، ويسمون اللّه أبا وأوثانهم أرباباً ونحو هذا ،

وقال ابن عباس : معنى { يُلْحِدُونَ } يكذّبون ، وقال قتادة :

يشركون ، وقال الخطابي : الغلط في أسمائه والزّيغ عنها إلحاد ،

وقرأ حمزة : { يُلْحِدُونَ } بفتح الياء والحاء وكذا في النحل والسجدة وهي قراءة ابن وثاب والأعمش وطلحة وعيسى ،

وقرأ باقي السبعة بضم اياء وكسر الحاء فيهنّ و { سَيُجْزَوْنَ } وعيد شديد واندرج تحت قوله { مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } الإلحاد في أسمائه وسائر أفعالهم القبيحة .

١٨١

وممن خلقنا أمة . . . . .

{وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } لما ذكر من ذرأ للنار ذكر مقابلهم وفي لفظة { وَمِمَّن } دلالة على التبعيض وأن المعظم من المخلوقين ليسوا هداة إلى الحق ولا عادلين به ، قيل : هم العلماء والدعاء إلى الدين ،

وقيل : هم مؤمنو أهل الكتاب قاله ابن الكلبي وروي عن قتادة وابن جريج ،

وقيل : هم المهاجرون والأنصار والتابعون لهم بإحسان ،

وقال ابن عباس : هم أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم وعليه أكثر المفسرين وروي في ذلك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان إذا قرأها قال : { هذه لكم ، وقد أعطى القوم بين أيديكم مثلها } {وَمِن قَوْمِ مُوسَى } الآية وعنه صلى اللّه عليه وسلم : { إن من أمتي قوماً على الحقّ حتى ينزل عيسى ابن مريم } والظاهر أن هذه الجملة أخبر فيها أن ممن خلق أمة موصوفون بكذا فلا يدل على تعيين لا في أشخاص ولا في أزمان وصلحت لكل هاد بالحقّ من هذه الأمة وغيرهم وفي زمان الرسول وغيره ، كما أنّ مقابلها في قوله { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ } لا يدلّ على تعيين أشخاص ولا زمان وإنما هذا تقسيم للمخلوق للنار والمخلوق للجنة ولذلك قيل : إنّ في الكلام محذوفاً تقديره { وَمِمَّنْ خَلَقْنَا } يدلّ عليه إثبات مقابله في قوله { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ}

وقال الجبائي : هذه الآية تدل على أن لا يخلو زمان البتة ممن يقوم بالحق ويعمل به ويهذي إليه وأنهم لا يجتمعون في شيء من الأزمنة على الباطل انتهى ، والآية لا تدل على ما زعم الجبائي وما قاله مخالف لما روي من أنه لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق ولا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض اللّه اللّه ولا تقوم الساعة حتى يسري على كتاب اللّه فلا يبقي منه حرف أو كما قال :

١٨٢

والذين كذبوا بآياتنا . . . . .

{وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ} قال الخليل بن أحمد : سنطوي أعمارهم في اغترار منهم ، وقال أبو عبيدة : الاستدراج أن تدرج إلى الشيء في خفية قليلاً قليلاً ولا تهجم عليه وأصله من الدرجة وذلك أنّ الراقي والنازل يرقى وينزل مرقاة مرقاة ومنه درج الكتاب طواه شيئاً بعد شيء ودرج القوم ماتوا بعضهم في أثر بعض ، وقال ابن قتيبة : هو أن يذيقهم من بأسه قليلاً قليلاً من حيث لا يعلمون ولا يتابعهم به ولا يجاهرهم ، وقال الأزهري سنأخذهم قليلاً قليلاً من حيث لا يحتسبون وذلك أن اللّه تعالى يفتح باباً من النعة يغتبطون به ويركنون إليه ثم يأخذهم على غرّتهم أغفل ما يكون انتهى ومنه درج الصبي إذا قارب بين خطاه والمعنى سنسترقهم شيئاً بعد شيء ودرجة بعد درجة بالنعم عليهم والإمهال لهم حتى يغترّوا ويظنّوا أنهم لا ينالهم عقاب ، وقال الجبائي سنستدرجهم إلى العقوبات حتى يقعوا فيها من حيث لا يعلمون استدراجاً لهم إلى ذلك فيجوز أن يكون هذا العذاب في الدنيا كالقتل ويجوز أن يكون عذاب الآخرة ،

وقال الزمخشري : ومعنى { سَنَسْتَدْرِجُهُم } سنستدينهم قليلاً قليلاً إلى ما يهلكهم ويضاعف عقابهم من حيث لا يعلمون ما يراد بهم وذلك أن يواتر اللّه نعمة عليهم مع انهماكهم في الغيّ فكلما جدّد عليهم نعمة ازدادوا بطراً وجدّدوا معصيةً فيتدرجون في المعاصي بسبب ترادف النعم ظانين أن مواترة النعم أثرة من اللّه وتقريب ، وإنما هي خذلان منه وتبعيد فهذا استدراج اللّه نعوذ باللّه تعالى منه ، من حيث لا يعلمون

قيل : بالاستدراج ،

وقيل : بالهلاك ،

وقرأ النخعي وابن وثاب : سيستدرجهم بالياء فاحتمل أن يكون من باب الالتفات واحتمل أن يكون الفاعل ضمير التكذيب المفهوم من كذّبوا أي سيستدرجهم هو أي التكذيب قال الأعشى : في الاستدراج : فلو كنت في جبّ ثمانين قامة

ورقيت أسباب السماء بسلم

ليستدرجنك القول حتى تهزه

وتعلم أني عنكم غير مفحم

١٨٣

وأملي لهم إن . . . . .

{وَأُمْلِى لَهُمْ إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ } معطوف على سنستدرجهم فهو داخل في الاستقبال وهو خروج من ضمير التكلم بنون العظمة إلى ضمير تكلم المفرد والمعنى أؤخرهم ملاوة من الدهر أي مدة فيها طول والملاوة بفتح الميم وضمها وكسرها ومنه واهجرني مليًّا أي طويلاً وسمى فعله ذلك بهم كيداً لأنه شبيه بالكيد من حيث أنه في الظاهر إحسان وفي الحقيقة خذلان ، قال ابن عباس : يريد أنّ مكري شديد ،

وقيل : إن عذابي وسماه كيداً لنزوله بالعباد من حيث لا يشعرون والمتين من كل شيء القوي يقال : متن متانه وهذا إخبار عن المكذبين عموماً ،

وقيل : نزلت في المستهزئين من قريش قتلهم اللّه في ليلة واحدة بعد أن أمهلهم مدة ،

وقرأ عبد الحميد عن ابن عامر أن كيدي بفتح الهمزة على معنى لأجل أنّ كيدي ،

وقرأ الجمهور بكسرها على الاستئناف .

١٨٤

أولم يتفكروا ما . . . . .

{أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } قال الحسن وقتادة : سبب نزولها أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم صعد ليلاً على الصفا فجعل يدعو قبائل قريش يا بني فلان يا بني يحذرهم ويدعوهم إلى اللّه تعالى ، فقال بعض الكفار حين أصبحوا : هذا مجنون بات يصوّت حتى الصباح ، وكانوا يقولون : شاعر مجنون فنفى اللّه عز وجل عنه ما قالوه ، ثم أخبر أنه محذر من عذاب اللّه والآية باعثة لهم على التفكر في أمر الرسول صلى اللّه عليه وسلم وانتفاء الجنة عنه وهذا الاستفهام قيل : معناه التوبيخ ،

وقيل : التحريض على التأمل والجنة كما قال تعالى { مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ } والمعنى من مس جنة أو تخبيط جنة ،

وقيل : هي هيئة كالجلسة والركبة أريد بها المصدر أي ما بصاحبهم من جنون والظاهر أن يتفكروا معلّق عن الجملة المنفيّة وهي في موضع نصب بيتفكروا بعد إسقاط حرف الجر لأن التفكر من أعمال القلوب فيجوز تعليقه والمعنى أو لم يتأملوا ويتدبروا في انتفاء هذا الوصف عن الرسول فإنه منتف لا محالة ولا يمكن لمن أنعم الفكر في نسبة ذلك إليه ،

وقيل ثم مضمر محذوف أي فيعلموا ما بصاحبهم من جنة قالوا الحوفي ، وزعم أن تفكّروا لا تعلّق لأنه لا يدخل على الجمل قال : ودلّ التفكر على العلم ، وقال أصحابنا : إذا كان فعل القلب يتعدى بحرف جر قدرت الجملة في موضع جر بعد إسقاط حرف الجر ومنهم من زعم أنه يضمن الفعل الذي تعدى بنفسه إلى واحد أو بحرف جر إلى واحد معنى ما يتعدى إلى اثنين فتكون الجملة في موضع المفعولين فعلى هذين الوجهين لا حاجة إلى هذا المضمر الذي قدّره الحوفي ،

وقيل تمّ الكلام على قوله يتفكروا ثم استأنف إخباراً بانتفاء الجنة وإثبات النذارة ، وقال أبو البقاء : في ما وجهان

أحدهما : أنها باقية وفي الكلام حذف تقديره أو لم يتفكروا في قولهم به جنة ، والثاني أنها استفهام أيأو لم يتفكروا أي شيء بصاحبهم من الجنون مع انتظام أقواله وأفعاله ،

وقيل هي بمعنى الذي تقديره أو لم يتفكروا في ما بصاحبهم وعلى هذا يكون الكلام خرج على زعمهم انتهى وهي تخريجات ضعيفة ينبغي أن ينزه القرآن عنها وتفكر مما ثبت في اللسان تعليقه فلا ينبغي أن يعدل عنه .

١٨٥

أولم ينظروا في . . . . .

{أَوَ لَمْ يَنظُرُواْ فِى مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا خَلَقَ اللّه مِن شَىْء } لما حضّهم على التفكر في حال الرسول وكان مفرعاً على تقرير دليل التوحيد أعقب بما يدل على التوحيد ووجود الصانع الحكيم والملكوت الملك العظيم وتقدّم شرح ذلك في قوله { وَكَذَلِكَ نُرِى إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ } ولم يتقصر على ذكر النظر في الملكوت بل نبه على أنّ كل فرد فرد من الموجودات محل للنظر والاعتبار والاستدلال على الصانع الحكيم ووحدانيته كما قال الشاعر : وفي كل شيء له آية

تدلّ على أنه الواحد

{وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ } وأن معطوف على ما في قوله وما خلق وبخوا على انتفاء نظرهم في ملكوت السموات والأرض وهي أعظم المصنوعات وأدلتها على عظمة الصانع ثم عطف عليه شيئاً عاماً وهو قوله وما خلق اللّه من شيء فاندرج السموات والأرض في ما خلق ثم عطف عليه شيئاً يخصّ أنفسهم وهو انتفاء نظرهم وتفكرهم في أنّ أجلهم قد اقترب فيبادرهم الموت على حالة الغفلة عن النظر في ما ذكر فيؤول أمرهم إلى الخسار وعذاب النار نبههم على الفكر في اقتراب الأجل لعلهم يبادرون إليه وإلى طلب الحق وما يخلّصهم من عذاب اللّه قبل مقانصة الأجل وأجلهم وقت موتهم ،

وقال الزمخشري : يجوز أن يراد باقتراب الأجل اقتراب الساعة وأن هي المخففة من الثقيلة واسمها محذوف ضمير الشأن وخبرها عسى وما تعلقت به وقد وقع خبر الجملة غير الخبرية في مثل هذه الآية وفي مثل { وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللّه عَلَيْهَا } فغضب اللّه عليها جملة دعاء وهي غير خبرية فلو كانت أن مشددة لم تقع عسى ولا جملة الدعاء لها لا يجوز علمت أن زيداً عسى أن يخرج ولا علمت أن زيداً لعنه اللّه وأنت تريد الدعاء وأجاز أبو البقاء أن تكون أن هي المخففة من الثقيلة وأن تكون مصدرية يعني أن تكون الموضوعة على حرفين وهي الناصبة للفعل المضارع وليس بشيء لأنهم نصوا على أنها توصل بفعل متصرّف مطلقاً يعنون ماضياً ومضارعاً وأمراً فشرطوا فيه التصرّف ، وعسى فعل جامد فلا يجوز أن يكون صلة لأن وعسى هنا تامة وأن يكون فاعل بها نحو قولك عسى أن تقوم واسم يكون . قال الحوفي : أجلهم وقد اقترب الخبر ،

وقال الزمخشري وغيره : اسم يكون ضمير الشأن فيكون قد اقترب أجلهم في موضع نصب في موضع خبر يكون وأجلهم فاعل باقترب وما أجازه الحوفي فيه خلاف فإذا قلت كان يقوم زيد فمن النحويين من زعم أنّ زيداً هو الاسم ويقوم في موضع نصب على الخبر ومنهم من منع ذلك ويجعل في ذلك ضمير الشأن والجواز اختيار ابن مالك والمنع اختيار ابن عصفور وقد ذكرنا هذه المسألة مستوفاة التقسيم والدلائل في شرحنا لكتاب التسهيل .

{فَبِأَيّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ } معنى هذه الجملة وما قبلها توقيفهم وتوبيخهم على أنه لم يقع منهم نظر ولا تدبّر في شيء من ملكوت السموات والأرض ولا في مخلوقات اللّه تعالى ولا في اقتراب آجالهم ثم قال فبأيّ حديث أو أمر يقع إيمانهم وتصديقهم إذ لم يقع بأمر فيه نجاتهم ودخولهم الجنة ونحوه قول الشاعر :

فعن أي نفس بعد نفسي أقاتل

والمعنى إذا لم أقاتل عن نفسي فكيف أقاتل عن غيرها ولذلك إذا لم يؤمنوا بهذا الحديث الذي هو الصدق المحض وفيه نجاتهم وخلاصهم فكيف يصدقون بحديث غيره والمعنى أنه ليس من طباعهم التصديق بما فيه

خلاصهم والضمير في بعده للقرآن أو الرسول وقصته وأمره أو الأجل إذ لا عمل بعد الموت أقوال ثلاثة .

قال الزمخشري{ فإن قلت } : بم يتعلق قوله فبأي حديث بعده يؤمنون ،  { قلت } : بقوله : عسى أن يكون قد اقترب أجلهم كأنه قيل : لعل أجلهم قد اقترب فما لهم لا يبادرون إلى الإيمان بالقرآن قبل الفوت ما ينتظرون بعد وضوح الحق وبأي حديث أحقّ منه يريدون أن يؤمنوا .

١٨٦

من يضلل اللّه . . . . .

{مَن يُضْلِلِ اللّه فَلاَ هَادِيَ لَهُ} نفى نفياً عامًّا أن يكون هاد لمن أضله اللّه فتضمن اليأس من إيمانهم والمقت بهم .{ وَيَذَرُهُمْ فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} قرأ الحسن وقتادة وأبو عبد الرحمن وأبو جعفر والأعرج وشيبة والحرميان وابن عامر ونذرهم بالنون ورفع الراء وأبو عمرو وعاصم بالياء ورفع الراء وهو استئناف إخبار قطع الفعل أو أضمر قبله ونحن فيكون جملة اسمية ،

وقرأ ابن مصرّف والأعمش والأخوان وأبو عمرو فيما ذكر أبو حاتم بالياء والجزم وروى خارجة عن نافع بالنون والجزم وخرج سكون الراء على وجهين أحدهما أنه سكن لتوالي الحركات كقراءة وما يشعركم وينصركم فهو مرفوع والآخر أنه مجزوم عطفاً على محل فلا هادي له فإنه في موضع جزم فصار مثل قوله فهو خير لكم ونكفر في قراءة من قرأ بالجزم في راء ونكفر . ومثل قول الشاعر : أنّى سلكت فإنني لك كاشح

وعلى انتقاصك في الحياة وازدد

١٨٧

يسألونك عن الساعة . . . . .

{يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا } الضمير في يسألونك لقريش قالوا يا محمد إنا قرابتك فأخبرنا بوقت الساعة ،

وقال ابن عباس : الضمير لليهود ، قال حسل بن أبي بشير وشمويل بن زيدان ان كنت نبيًّا فأخبرنا بوقت الساعة فإنا نعرفها فإن صدقت آمنا بك فنزلت ، ومناسبتها لما قبلها أنه لما ذكر التوحيد والنبوة والقضاء والقدر أتبع ذلك بذكر المعاد وأيضاً فلما تقدّم قوله وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم وكان ذلك باعثاً على المبادرة إلى التوبة أتى بالسؤال عن الساعة ليعلم أنّ وقتها مكتوم عن الخلق فيكون ذلك سبباً للمسارعة إلى التوبة والساعة القيامة موت من كان حينئذ حيًّا وبعث الجميع فيقع عليه اسم الساعة واسم القيامة والساعة من الأسماء الغالبة كالنجم للثريا ،

وقرأ الجمهور أيّان بفتح الهمزة والسلمي بكسرها حيث وقعت وتقدم أنها لغة قومه سليم ومرساها مصدر أي متى إرساؤها وإثباتها إقرارها والرّسو ثبات الشيء الثقيل ومنه رسا الجبل وأرسيت السفينة والمرسا المكان الذي ترسو فيه ،

وقال الزمخشري : مرساها إرساؤها أو وقت إرسائها أي إثباتها وإقرارها انتهى ، وتقديره أو وقت إرسائها ليس بجيد لأنّ أيان اسم استفهام عن الوقت فلا يصحّ أن يكون خبراً عن الوقت إلا بمجاز لأنه يكون التقدير في أي وقت وقت إرسائها وأيان مرساها مبتدأ

وحكى ابن عطية عن المبرّد أن مرساها مرتفع بإضمار فعل ولا حاجة إلى هذا الإضمار وأيان مرساها جملة استفهامية في موضع البدل من الساعة والبدل على نية تكرار العامل وذلك العامل معلق عن العمل لأنّ الجملة فيها استفهام ولما علق الفعل وهو يتعدى بعن صارت الجملة في موضع نصب على إسقاط حرف الجر فهو بدل في الجملة على موضع عن الساعة لأنّ موضع المجرور نصب ونظيره في البدل قولهم عرفت زيداً أبو من هو على أحسن المذاهب في تخريج هذه المسألة أعني في كون الجملة الاستفهامية تكون في موضع البدل .

{قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبّي لاَ يُجَلّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ} أي اللّه استأثر بعلمها ولما كان السؤال عن الساعة عموماً ثم خصص بالسؤال عن وقتها جاء الجواب عموماً عنها بقوله قل إنما علمها عند ربي ثم خصصت من حيث الوقت فقيل لا يجليها لوقتها إلا هو وعلم الساعة من الخمس التي نصّ عليها من الغيب أنه تعالى لا يعلمها إلا اللّه والمعنى لا يظهرها ويكشفها لوقتها الذي قدّر أن تكون فيه إلا هو قالوا : وحكمة إخفائها أنهم يكونون دائماً على حذر فإخفاؤها أدعى إلى الطاعة وأزجر عن المعصية كما أخفى الأجل الخاص وهو وقت الموت لذلك ،

وقال الزمخشري : لا يجليها لوقتها إلا هو أي لا تزال خفية ولا يظهر أمرها ولا يكشف خفاء علمها إلا هو وحده إذا جاء بها في وقتها بغتة لا يجليها بالخبر عنها ، قل : مجيئها أحد من خلقه لاستمرار الخفاء بها على غيره إلى وقت وقوعها انتهى ، وهو كلام فيه تكثير وعجمة .

{ثَقُلَتْ فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ } قال ابن جريج معناه ثقلت على السموات والأرض أنفسها لتفطر السموات وتبدّل الأرض ونسف الجبال ، وقال الحسن ثقلت لهيبتها والفزع منها على أهل السموات والأرض ، وقال السدي : معنى ثقلت خفيت في السموات والأرض فلم يعلم أحد من الملائكة المقرّبين والأنبياء المرسلين متى تكون وما خفي أمره ثقل على النفوس انتهى ، ويعبّر بالثقل عن الشدة والصعوبة كما قال : و { وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً } أي شديداً صعباً وأصله أن يتعدى بعلى تقول ثقل عليّ هذا الأمر ، وقال الشاعر :

ثقيل على الأعداء

فإما أن يدّعي أنّ في بمعنى على كما قال بعضهم في قوله ولأصلبنكم في جذوع النخل أي ويضمن ثقلت معنى يتعدى بفي ،

وقال الزمخشري : أي كل من أهلها من الملائكة والثقلين أهمه شأن الساعة وودّ أن يتجلى له علمها وشقّ عليه خفاؤها وثقل عليه أو ثقلت فيهما لأن أهلهما يتوقعونها ويخافون شدائدها وأهوالها ولأنّ كل شيء لا يطيقها ولا يقوم لها فهي ثقيلة فيهما .{ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً } أي فجأة على غفلة منكم وعدم شعور بمجيئها وهذا خطاب عام لكل الناس وفي الحديث أن الساعة لتهجم والرجل يصلح حوضه والرجل يسقي ماشيته والرجل يسوم سائمته والرجل يخفض ميزانه ويرفعه .{ يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ } قال ابن عباس والسدي ومجاهد : كأنك حفي بسؤالهم أي محبّ له

وعن ابن عباس أيضاً : كأنك يعجبك سؤالهم عنها وعنه أيضاً كأنك مجتهد في السؤال مبالغ في الإقبال على ما تسأل عنه ، وقال ابن قتيبة : كأنك طالب علمها ، وقال مجاهد أيضاً والضحاك وابن زيد : معناه كأنك حفي بالسؤال عنها والاشتغال بها حتى حصلت عليها أي تحبه وتؤثرة أو بمعنى أنك تكره السؤال لأنها من علم الغيب الذي استأثر اللّه به ولم يؤته أحداً . و

قال ابن عطية : أي محتف ومحتفل ،

وقال الزمخشري : كأنك عالم بها وحقيقته كأنك بليغ في السؤال عنها لأنّ من بالغ في السؤال عن الشيء والتنقير عنه استحكم علمه فيه وهذا التركيب معناه المبالغة ومنه إحفاء الشارب واحتفاء النعل استئصاله وأحفى في المسألة ألحف وحفي بفلان وتحفى به بالغ في البرّ به انتهى ، وعنها إما أن يتعلق بيسألونك أي يسألونك عنها وتكون صلة حفي محذوفة والتقدير كأنك حفي بها أي معتن بشأنها حتى علمت حقيقتها ووقت مجيئها أو كأنك حفيّ بهم أو معتن بأمرهم فتجيبهم عنها لزعمهم أن علمها عندك وحفي لا يتعدى بعن

قال تعالى :

{إِنَّهُ كَانَ بِى حَفِيّاً } فعداه بالباء

وإما أن يتعلق بحفي على جهة التضمين لأنّ من كان حفياً بشيء أدركه وكشف عنه فالتقدير كأنك كاشف بحفاوتك عنها

وإما أن تكون عن بمعنى الباء كما تكون الباء بمعنى عن في قوله ، فإن تسألوني بالنساء فإنني ، أي عن النساء ،

وقرأ عبد اللّه كأنك حفيّ بها بالباء مكان عن أي عالم بها بليغ في العلم بها .

{قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللّه} أي علم مجيئها في علم اللّه وظرفية عند مجازية كما تقول النحو عند سيبويه أي في علمه وتكرير السؤال والجواب على سبيل التوكيد ولما جاء به من زيادة قوله كأنك حفي عنها .{ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } قال الطبري : لا يعلمون أن هذا الأمر لا يعلمه إلا اللّه بل يظنّ أكثرهم أنه مما يعلمه البشر ،

وقيل : لا يعلمون أن القيامة حق لأنّ أكثر الخلق ينكرون المعاد ويقولون { إِنْ هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا } الآية .

وقيل : لا يعلمون أي أخبرتك أن وقتها لا يعلمه إلا اللّه .

وقيل لا يعلمون السبب الذي لأجله أخفيت معرفة وقتها والأظهر قول الطبري .

١٨٨

قل لا أملك . . . . .

{قُل لا أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلاَ ضَرّا إِلاَّ مَا شَاء اللّه} قال ابن عباس : قال أهل مكة ألا يخبرك ربك بالسعر الرخيص قبل أن يغلو فتشتري وتربح وبالأرض التي تجدب فترحل عنها إلى ما أخصب فنزلت ،

وقيل لما رجع من غزوة المصطلق جاءت ريح في الطريق فأخبرت بموت رفاعة وكان فيه غيظ المنافقين ، ثم قال انظروا أين ناقتي ، فقال عبد اللّه بن أبيّ : ألا تعجبون من هذا الرجل يخبر عن موت رجل بالمدينة ولا يعرف أين ناقته ، فقال عليه السلام إن ناساً من المنافقين قالوا كيت وكيت وناقتي في الشعب وقد تعلق زمامها بشجرة فردوها على فنزلت ، ووجه مناسبتها لما قبلها ظاهر جداً وهذا منه عليه السلام إظهار للعبودية وانتفاء عن ما يختص بالربوبية من القدرة وعلم الغيب ومبالغة في الاستسلام فلا أملك لنفسي اجتلاب نفع ولا دفع ضر فكيف أملك علم الغيب كما قال في سورة يونس { وَيَقُولُونَ مَتَى هَاذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِى ضَرّا وَلاَ نَفْعًا إِلاَّ مَا شَاء اللّه لِكُلّ أُمَّةٍ أَجَلٌ } وقدم هنا النفع على الضرّ لأنه تقدم من يهد اللّه فهو المهتدي ومن يضلل فقدّم الهداية على الضلال وبعده لاستكثرت من الخير وما مسّني السوء فناسب تقديم النفع وقدم الضرّ في يونس على الأصل لأن العبادة للّه تكون خوفاً من عقابه أولاً ثم طمعاً في ثوابه ولذلك قال { يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً } فإذا تقدم النفع فلسابقة لفظ تضمنه وأيضاً ففي يونس موافقة ما قبلها ففيها ما لا يضرّهم ولا ينفعهم ما لا ينفعنا ولا يضرّنا لأنه موصول بقوله ليس لها من دون اللّه ولي ولا شفيع وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منهاوفي يونس { وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّه مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ } وتقدمه { ثُمَّ نُنَجّى رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءامَنُواْ }{ كَذَلِكَ حَقّا عَلَيْنَا نُنجِى الْمُؤْمِنِينَ } وفي الأنبياء قال { أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّه مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلاَ يَضُرُّكُمْ } وتقدمه قول الكفار لإبراهيم في المحاجّة { لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاء يَنطِقُونَ } وفي الفرقان { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّه مَا لاَ يَنفَعُهُمْ وَلاَ يَضُرُّهُمْ}

وتقدمه ألم { تَرَى إِلَى رَبّكَ كَيْفَ مَدَّ الظّلَّ وَنِعْمَ كَثِيرَةٍ } وهذا النوع من لطائف القرآن العظيم وساطع براهينه والاستثناء متصل أي إلا ما شاء اللّه من تمكيني منه فإني أملكه وذلك بمشيئة اللّه ، و

قال ابن عطية : وهذا الاستثناء منقطع انتهى ، ولا حاجة لدعوى الانقطاع مع إمكان الاتصال .

{وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِىَ السُّوء } أي لكانت حالي على خلاف ما هي عليه من استكثار الخير واستغزار المنافع واجتناب السوء والمضارّ حتى لا يمسّني شيء منها وظاهر قوله ولو كنت أعلم الغيب انتفاء العلم عن الغيب على جهة عموم الغيب كما روي عنه لا أعلم ما وراء هذا الجدار إلا أن يعلمنيه ربي بخلاف ما يذهب إليه هؤلاء الذين يدعون الكشف وأنهم بتصفية نفوسهم يحصل لها اطلاع على المغيبات وإخبار بالكوائن التي تحدث ، وما أكثر ادعاء الناس لهذا الأمر وخصوصاً في ديار مصر حتى أنهم لينسبون ذلك إلى رجل متضمّخ بالنجاسة يظلّ دهره لا يصلي ولا يستنجي من نجاسته ويكشف عورته للناس حين يبول وهو عار من العلم والعمل الصالح وقد خصص قوم هذا العموم فحكى مكي عن ابن عباس : لو كنت أعلم السنة المجدبة لأعددت لها من المخصبة ، وقال قوم : أوقات النصر لتوخيتها ، وقال مجاهد وابن جريج : لو كنت أعلم أجلي لاستكثرت من العمل الصالح ،

وقيل : ولو كنت أعلم وقت الساعة لأخبرتكم حتى توقنوا ،

وقيل : ولو كنت أعلم الكتب المنزلة لاستكثرت من الوحي ،

وقيل : ولو كنت أعلم ما يريده اللّه مني قبل أن يعرفنيه لفعلته ، وينبغي أن تجعل هذه الأقوال وما أشبهها مثلاً لا تخصيصات لعموم الغيب والظاهر أن قوله وما مسني السوء معطوف على قوله لاستكثرت من الخير فهو من جواب لو ويوضح ذلك أنه تقدم قوله قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً فقابل النفع بقوله لاستكثرت من الخير وقابل الضرّ بقوله وما مسني السوء ولأنّ المترتب على تقدير علم الغيب كلاهما وهما اجتلاب النفع واجتناب الضرّ ولم نصحب ما النافية جواب لو لأن الفصيح أن لا يصحبهما كما في قوله تعالى { وَلَوْ سَمِعُواْ مَا اسْتَجَابُواْ لَكُمْ } والظاهر عموم الخبر وعدم تعيين السوء ،

وقيل : السوء تكذيبهم له مع أنه كان يدعي الأمين ،

وقيل : الجدب ،

وقيل : الموت ،

وقيل : الغلبة عند اللقاء ،

وقيل : الخسارة في التجارة ،

وقال ابن عباس : الفقر وينبغي أن تجعل هذه الأقوال خرجت على سبيل التمثيل لا الحصر فإن الظاهر في الغيب الخير والسوء عدم التعيين ،

وقيل : ثم الكلام عند قوله لاستكثرت من الخير ثم أخبر أنه ما مسّه السّوء وهو الجنون الذي رموه به ، وقال مؤرّج السدوسي : السوء الجنون بلغة هذيل وهذا القول فيه تفكيك لنظم الكلام واقتصار على أن يكون جواب لولا استكثرت من الخير فقط وتقدير حصول علم الغيب يترتب عليه الأمران لا أحدهما فيكون إذ ذاك جواباً قاصراً .

{إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } لما نفى عن نفسه علم الغيب أخبر بما بعث به من النذارة ومتعلقها المخوفات والبشارة ومتعلقها بالمحبوبات والظاهرة تعلقهما بالمؤمنين لأن منفعتهما معاً وجدوا هما لا يحصل إلا لهم

وقال تعالى :{ وَمَا تُغْنِى الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ}

وقيل معنى لقوم يؤمنون يطلب منهم الإيمان ويدعون إليه وهؤلاء الناس أجمع ،

وقيل : أخبر أنه نذير وتمّ الكلام ومعناه أنه نذير للعالم كلهم ثم أخبر أنه بشير للمؤمنين به فهو وعد لمن حصل له الإيمان ،

وقيل حذف متعلق النذارة ودلّ على حذفه إثبات مقابله والتقدير نذير للكافرين وبشير لقوم يؤمنون كما حذف المعطوف في قوله سرابيل تقيكم الحرّ أي والبرد وبدأ بالنذارة لأن السائلين عن الساعة كانوا كفاراً أما مشركو قريش

وأما اليهود فكان الاهتمام بذكر الوصف من قوله { إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ } آكد وأولى بالتقديم واللّه تعالى أعلم .

١٨٩

هو الذي خلقكم . . . . .

صمت يصمت بضم الميم صمتاً وصماتاً سكت وإصمت فلاة معروفة وهي مسماة بفعل الأمر قطعت همزته إذ ذاك قاعدة في تسمية بفعل فيه همزة وصل وكسرت الميم لأن التغيير يأنس بالتغيير ولئلا يدخل في وزن ليس في الأسماء . البطش الأخذ بقوة بطش يبطش بضم الطاء وكسرها ، النزع أدنى حركة ومن الشيطان أدنى وسوسة قاله الزجاج ، و

قال ابن عطية : حركة فيها فساد وقلما تستعمل إلا في فعل الشيطان لأن حركاته مسرعة مفسدة ،

وقيل هو لغة الإصابة تعرض عند الغضب ، وقال الفرّاء : الإغراء والإغضاب الإنصات ، قال الفراء : هو السكوت للاستماع يقال : نصت وأنصت وانتصت بمعنى واحد وقد ورد الإنصات متعدياً في شعر الكميت قال

أبوك الذي أجدى علي بنصره

فأنصت عني بعده كل قائل

قال : يريد فأسكت عني . الآصال جمع أصل وهو العشي كعنق وأعناق أو جمع أصيل كيمين وأيمان ولا حاجة لدعوى أنه جمع جمع كما ذهب إليه بعضهم إذ ثبت أن أصلاً مفرد وأن كان يجوز جمع أصيل على أصل فيكون جمعاً ككثيب وكثب ، ومن ذهب إلى أن آصالاً جمع أصل ومفرد أصل أصيل الفرّاء

ويقال : جئناهم موصلين أي عند الأصيل .

{هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما تقدم سؤال الكفار عن الساعة ووقتها وكان فيهم من لا يؤمن بالبعث ذكر ابتداء خلق الإنسان وإنشائه تنبيهاً على أن الإعادة ممكنة ، كما أن الإنشاء كان ممكناً وإذا كان إبرازه من العدم الصرف إلى الوجود واقعاً بالفعل وإعادته أحرى أن تكون واقعة بالفعل ،

وقيل : وجه المناسبة أنه لما بين الذين يلحدون في أسمائه ويشتقون منها أسماء لآلهتهم وأصنامهم وأمر بالنظر والاستدلال المؤدي إلى تفرده بالإلهية والربوبية بين هنا أن أصل الشرك من إبليس لآدم وزوجته حين تمنيا الولد الصالح وأجاب اللّه دعاءهما فأدخل إبليس عليهما الشرك بقوله سمياه عبد الحرث فإنه لا يموت ففعلا ذلك ، وقال أبو عبد اللّه الرازي ما ملخصه لما أمر بالنظر في الملكوت الدال على الوحدانية وقسم خلقه إلى مؤمن وكافر ونفى قدرة أحد من خلقه على نفع نفسه أو ضرّها رجع إلى تقرير التوحيد انتهى ، والجمهور على أن المراد بقوله من نفس واحدة آدم عليه السلام فالخطاب بخلقكم عام والمعنى أنكم تفرعتم من آدم عليه السلام وأن معنى وجعل منها زوجها هي حواء ومنها إما من جسم آدم من ضلع من أضلاعه

وإما أن يكون من جنسها كما قال تعالى { جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا } وقد مرّ هذان القولان في أول النساء مشروحين بأكثر من هذا ويكون الإخبار بعد هذه الجملة عن آدم وحواء ويأتي تفسيره إن شاء اللّه تعالى ، وعلى هذا القول فسّر الزمخشري الآية وقد رد هذا القول أبو عبد اللّه الرازي وأفسده من وجوه . الأول فتعالى اللّه عما يشركون فدل على أن الذين أتوا بهذا الشرك جماعة . الثاني أنه قال بعده أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يخلقون وهذا ردّ على من جعل الأصنام شركاء ولم يجر لإبليس في هذه الآية ذكر ، الثالث لو كان المراد إبليس لقال أيشركون من لا يخلق ثم ذكر الرازي ثلاثة وجوه أخر من جهة النظر يوقف عليها من كتابه ، وقال الحسن وجماعة الخطاب لجميع الخلق والمعنى في هو الذي خلقكم من نفس واحدة من هيئة واحدة وشكل واحد وجعل منها زوجها أي من جنسها ثم ذكر حال الذكر والأنثى من الخلق ومعنى جعلا له شركاء أي حرفاه عن الفطرة إلى الشرك كما جاء : { ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه هما اللذان يهوّدانه وينصرانه ويمجسانه} . وقال القفال نحو هذا القول قال هو الذي خلق كل واحد منكم من نفس واحدة وجعل من جنسها زوجها وذكر حال الزوج والزوجة وجعلا أي الزوج والزوجة ، للّه تعالى شركاء فيما آتاهما لأنهما تارة ينسبون ذلك الولد إلى الطبائع كما هو قول الطبائعيين وتارة إلى الكواكب كما هو قول المنجّمين وتارة إلى الأصنام والأوثان كما هو قول عبدة الأصنام انتهى ، وعلى هذا لا يكون لآدم وحوّاء ذكر في الآية ،

وقيل الخطاب بخلقكم خاص وهو لمشركي العرب كما يقرّبون المولود للات والعزى والأصنام تبركاً بهم في الابتداء وينقطعون بأملهم إلى اللّه تعالى في ابتداء خلق الولد إلى انفصاله ثم يشركون فحصل التعجب منهم ،

وقيل : الخطاب خاص أيضاً وهو لقريش المعاصرين للرسول صلى اللّه عليه وسلم ونفس واحدة هو قضى منها أي من جنسها زوجة عربية قرشية ليسكن إليها

والصالح الولد السوي جعلا له شركاء حيث سميا أولادهما الأربعة عبد مناف وعبد العزّى وعبد قصي وعبد الدار والضمير في يشركون لهما ولأعقابهما الذين اقتدوا بهما في الشرك انتهى . { لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا } ليطمئن ويميل ولا ينفر لأنّ الجنس إلى الجنس أمْيَل وبه آنس وإذا كان منها على حقيقته فالسكون والمحبة أبلغ كما يسكن الإنسان إلى ولده ويحبه محبة نفسه أو أكثر لكونه بعضاً منه وأنث في قوله منها ذهاباً إلى لفظ النفس ثم ذكر في قوله ليسكن حملاً على معنى النفس ليبين أن المراد بها الذكر آدم أو غيره على اختلاف التأويلات وكان الذكر هو الذي يسكن إلى الأنثى ويتغشاها فكان التذكير أحسن طباقاً للمعنى .

{فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ } إن كان الخبر عن آدم فخلق حواء كان في الجنة

وأما التغشّي والحمل فكانا في الأرض والتغشي والغشيان والإتيان كناية عن الجماع ومعنى الخفة أنها لم تلق به من الكرب ما يعرض لبعض الحبالى ويحتمل أن يكون حملاً مصدراً وأن يكون ما في البطن والحمل بفتح الحاء ما كان في بطن أو على رأس الشجرة وبالكسر ما كان على ظهر أو على رأس غير شجرة ،

وحكى يعقوب في حمل النخل ،

وحكى أبو سعيد في حمل المرأة حمل وحمل ، و

قال ابن عطية : الحمل الخفيف هو المني الذي تحمله المرأة في فرجها ،

وقرأ حماد بن سلمة عن ابن كثير حملاً بكسر الحاء ،

وقرأ الجمهور فمرت به ، قال الحسن : أي استمرت به ،

وقيل : هذا على القلب أي فمر بها أي استمر بها ،

وقال الزمخشري : فمضت به إلى وقت ميلاده من غير إخراج ولا إزلاق ،

وقيل : حملت حملاً خفيفاً يعني النطفة فمرت به فقامت به وقعدت فاستمرت به انتهى ،

وقرأ ابن عباس فيما ذكر النقاش وأبو العالية ويحيى بن يعمر وأيوب فمرت به خفيفة الراء من المرية أي فشكت فيما أصابها أهو حمل أو مرض ،

وقيل معناه استمرت به لكنهم كرهوا التضعيف فخففوه نحو وقرن فيمن فتح من القرار ،

وقرأ عبد اللّه بن عمرو بن العاصي والجحدري : فمارت به بألف وتخفيف الراء أي جاءت وذهبت وتصرفت به كما تقول مارت الريح موراً ووزنه فعل ،

وقال الزمخشري : من المرية كقوله تعالى { أَفَتُمَارُونَهُ } ومعناه ومعنى المخففة فمرت وقع في نفسها ظن الحمل وارتابت به ووزنه فاعل ،

وقرأ عبد اللّه فاستمرت بحملها ،

وقرأ سعد بن أبي وقاص وابن عباس أيضاً والضحاك فاستمرت به ،

وقرأ أبي بن كعب والجرمي فاستمارت به والظاهر رجوعه إلى المرية بني منها استفعل كما بنى منها فاعل في قولك ماريت .

{فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللّه} أي دخلت في الثقل كما تقول أصبح وأمسى أو صارت ذات ثقل كما تقول أتمر الرجل وألبن إذا صار ذا تمر ولبن ،

وقال الزمخشري : أي حان وقت ثقلها كقوله أقربت ، وقرىء أثقلت على البناء للمفعول ربهما أي مالك أمرهما الذي هو الحقيق أن يدعى ومتعلق الدعاء محذوف يدل عليه جملة جواب القسم أي دعوا اللّه ورغبا إليه في أن يؤتيَهما صالحاً ثم أقسما على أنهما يكونان من الشاكرين إن آتاهما صالحاً لأن إيتاء الصالح نعمة من اللّه على والديه كما جاء في الحديث : { إن عمل ابن آدم ينقطع إلا من ثلاث } فذكر الولد الصالح يدعو لوالده فينبغي الشكر عليها إذ هي من أجل النعم ومعنى صالحاً مطيعاً للّه تعالى أي ولداً طائعاً أو ولداً ذكراً لأنّ الذكورة من الصلاح والجودة ، قال الحسن : سمياه غلاماً ،

وقال ابن عباس : بشراً سوياً سليماً ، ولنكونن جواب قسم محذوف تقديره وأقسما لئن آتيتنا أو مقسمين لئن آتيتنا وانتصاب صالحاً على أنه مفعول ثان لآتيتنا وفي المشكل لمكي أنه نعت لمصدر أي ابناً صالحاً .

١٩٠

فلما آتاهما صالحا . . . . .

{فَلَمَّا ءاتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا } من جعل الآية في آدم وحواء جعل الضمائر والإخبار لهما وذكروا في ذلك محاورات جرت بين إبليس وآدم وحواء لم تثبت في قرآن ولا

حديث صحيح فأطرحت ذكرها ،

وقال الزمخشري : والضمير في آتيتنا ولنكونن لهما ولكلّ من تناسل من ذريتهما فلما آتاهما ما طلبا من الولد الصالح السويّ جعلا له شركاء أي جعل أولادهما له شركاء على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه وكذلك فيما آتاهما أي آتى أولادهما وقد دلّ على ذلك بقوله تعالى فتعالى اللّه عما يشركون حيث جمع الضمير ، وآدم وحواء بريئان من الشرك ومعنى إشراكهم فيما آتاهم اللّه بتسمية أولادهم بعبد العزّى وعبد مناف وعبد شمس وما أشبه ذلك مكان عبد اللّه وعبد الرحمن وعبد الرحيم انتهى ، وفي كلامه تفكيك للكلام عن سياقه وغيره ممن جعل الكلام لآدم وحواء جعل الشرك تسميتهما الولد الثالث عبد الحرث إذ كان قد مات لهما ولدان قبله كانا سمّيا كل واحد منهما عبد اللّه فأشار عليهما إبليس في أن يسميا هذا الثالث عبد الحرث فسمّياه به حرصاً على حياته فالشرك الذي جعلا اللّه هو في التسمية فقط ويكون الضمير في يشركون عائداً على آدم وحواء وإبليس لأنه مدبّر معهما تسمية الولد عبد الحرث ،

وقيل جعلا أي جعل أحدهما يعني حواء

وأما من جعل الخطاب للناس وليس المراد في الآية بالنفس وزوجها آدم وحواء أو جعل الخطاب لمشركي العرب أو لقريش على ما تقدم ذكره فيتّسق الكلام اتساقاً حسناً من غير تكلف تأويل ولا تفكيك ، وقال السدّي والطبري : ثم أخبر آدم وحواء في قوله فيما آتاهما وقوله { فَتَعَالَى اللّه عَمَّا يُشْرِكُونَ } كلام منفصل يراد به مشركو العرب ،

قال ابن عطية : وهذا تحكّم لا يساعده اللفظ انتهى ، والضمير في له عائد على اللّه ومن زعم أنه عائد على إبليس فقوله بعيد لأنه لم يجر له ذكر وكذا يبعد قول من جعله عائداً على الولد الصالح وفسّر الشرك بالنصيب من الرزق في الدنيا وكانا قبله يأكلان ويشربان وحدهما ثم استأنف فقال :{ فَتَعَالَى اللّه عَن مَّا يُشْرِكُونَ } يعني الكفار ،

وقرأ ابن عباس وأبو جعفر وشيبة وعكرمة ومجاهد وإبان بن ثعلب ونافع وأبو بكر عن عاصم شركاً على المصدر وهو على حذف مضاف أي ذا شرك ويمكن أن يكون أطلق الشرك على الشريك كقوله : زيد عدل ،

قال الزمخشري : أو أحدثا للّه إشراكاً في الولد انتهى ،

وقرأ الأخوان وابن كثير وأبو عمر وشركاء على الجمع ويبعد نوجيه الآية أنها في آدم وحواء على هذه القراءة وتظهر باقي الأقوال عليها ، وفي مصحف أبيّ فلما آتاهما صالحاً أشركا فيه ،

وقرأ السلمي عما تشركون بالتاء التفاتاً من الغيبة للخطاب وكان الضمير بالواو وانتقالاً من لتثنية للجمع وتقدم توجيه ضمير الجمع على من يعود .

١٩١

أيشركون ما لا . . . . .

{أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} أي أتشركون الأصنام وهي لا تقدر على خلق شيء كما يخلق اللّه وهم يُخلقون أي يخلقهم اللّه تعالى ويوجدهم كما يوجدكم أو يكون معناه وهم ينحتون ويصنعون فعبدتهم يخلقونهم وهم لا يقدرون على خلق شيء فهم أعجز من عبدتهم وهم عائد على معنى ما وقد عاد الضمير على لفظ ما في يخلق وعبّر عن الأصنام بقوله وهم كأنها تعقل على اعتقاد الكفار فيها وبحسب أسمائهم .

وقيل أتى بضمير من يعقل لأنّ جملة من عبد الشياطين والملائكة وبعض بني آدم فغلب من يعقل كل مخلوق للّه تعالى ويحتمل أن يكون وهم عائداً على ما عاد عليه ضمير الفاعل في أيشركون أي وهؤلاء المشركون يخلقون أي كان يجب أن يعتبروا بأنهم مخلوقون فيجعلوا إلههم خالقهم لا من لا يخلق شيئاً .

وقرأ السلمي أتشركون بالتاء من فوق فيظهر أن يكون وهم عائداً على ما على معناها ومن جعل ذلك في آدم وحواء قال : إنّ إبليس جاء إلى آدم وقد مات له ولد اسمه عبد اللّه فقال إن شئت أن يعيش لك الولد فسمّه عبد شمس فسماه كذلك فإياه عنى بقوله أتشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يخلقون عائد على آدم وحوّاء والابن المسمى عبد شمس .

١٩٢

ولا يستطيعون لهم . . . . .

{وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ } أي ولا تقدر الأصنام أن يعبدهم على نصر ولا

لأنفسهم إن حدث بهم حادث بل عبدتهم الذين يدفعون عنها ويحمونها ومن لا يقدر على نصر نفسه كيف يقدر على نصر غيره .

١٩٣

وإن تدعوهم إلى . . . . .

{وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ } الظاهر أن الخطاب للكفار انتقل من الغيبة إلى الخطاب على سبيل الالتفات والتوبيخ على عبادة غير اللّه ويدلّ على أنّ الخطاب للكفار قوله بعد إنّ الذين تدعون من دون اللّه عباد أمثالكم وضمير المفعول عائد على ما عادت عليه هذه الضمائر قبل وهو الأصنام والمعنى وإن تدعوا هذه الأصنام إلى ما هو هدى ورشاد أو إلى أن يهدوكم كما تطلبون من اللّه الهدي والخير لا يتبعوكم على مرادكم ولا يجيبوكم أي ليست فيهم هذه القابلية لأنها جماد لا تعقل ثم أكد ذلك بقوله سواء عليكم أي دعاؤكم إياهم وصمتكم عنهم سيّان فكيف يعبد من هذه حاله ؟

وقيل : الخطاب للرسول والمؤمنين وضمير النصب للكفار أي وإن تدعوا الكفار إلى الهدى لا يقبلوا منكم فدعاؤكم وصمتكم سيّان أي ليست فيهم قابلية قبول ولا هدى ،

وقرأ الجمهور لا يتبعوكم مشدداً هنا وفي { الشعراء يتبعهم الغاوون } من اتبع ومعناها لا يقتدوا بكم ،

وقرأ نافع فيهما لا يتّبعوكم مخففاً من تبع ومعناه لا يتبعوا آثاركم وعطفت الجملة الإسمية على الفعلية لأنها في معنى الفعلية والتقدير أم صمتم ، و

قال ابن عطية : وفي قوله أدعوتموهم أم أنتم عطف الاسم على الفعل إذ التقدير أم صمتم ومثل هذا قول الشاعر : سواء عليك النفر أم بت ليلة

بأهل القباب من نمير بن عامر

انتهى . وليس من عطف الاسم على الفعل إنما هو من عطف الجملة الإسمية على الجملة الفعلية

وأما البيت فليس من عطف الاسم على الفعل بل من عطف الجملة الفعلية على الاسم المقدّر بالجملة الفعلية إذ أصل التركيب سواء عليك أنفرت أم بت ليلة فأوقع النفر موقع أنفرت وكانت الجملة الثانية إسمية لمراعاة رؤوس الآي ولأنّ الفعل يشعر بالحدوث واسم الفاعل يشعر بالثبوت والاستمرار فكانوا إذا دهمهم أمر معضل فزعوا إلى أصنامهم وإذا لم يحدث بقوا ساكتين فقيل لا فرق بين أن تحدثوا لهم دعاء وبين أن تستمروا على صمتكم فتبقوا على ما أنتم عليه من عادة صمتكم وهي الحالة المستمرة .

من اتبع ومعناها لا يقتدوا بكم ،

وقرأ نافع فيهما لا يتّبعوكم مخففاً من تبع ومعناه لا يتبعوا آثاركم وعطفت الجملة الإسمية على الفعلية لأنها في معنى الفعلية والتقدير أم صمتم ، و

قال ابن عطية : وفي قوله أدعوتموهم أم أنتم عطف الاسم على الفعل إذ التقدير أم صمتم ومثل هذا قول الشاعر : سواء عليك النفر أم بت ليلة

بأهل القباب من نمير بن عامر

انتهى . وليس من عطف الاسم على الفعل إنما هو من عطف الجملة الإسمية على الجملة الفعلية

وأما البيت فليس من عطف الاسم على الفعل بل من عطف الجملة الفعلية على الاسم المقدّر بالجملة الفعلية إذ أصل التركيب سواء عليك أنفرت أم بت ليلة فأوقع النفر موقع أنفرت وكانت الجملة الثانية إسمية لمراعاة رؤوس الآي ولأنّ الفعل يشعر بالحدوث واسم الفاعل يشعر بالثبوت والاستمرار فكانوا إذا دهمهم أمر معضل فزعوا إلى أصنامهم وإذا لم يحدث بقوا ساكتين فقيل لا فرق بين أن تحدثوا لهم دعاء وبين أن تستمروا على صمتكم فتبقوا على ما أنتم عليه من عادة صمتكم وهي الحالة المستمرة .

١٩٤

إن الذين تدعون . . . . .

{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّه عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } هذه الجملة على سبيل التوكيد لما قبلها في انتفاء كون هذه الأصنام قادرة على شيء من نفع أو ضرّ أي الذين تدعونهم وتسمونهم آلهة من دون اللّه الذي أوجدها وأوجدكم هم عباد وسمّى الأصنام عباداً وإن كانت جمادات لأنهم كانوا يعتقدون فيها أنها تضرّ وتنفع فاقتضى ذلك أن تكون عاقلة وأمثالكم . قال الحسن في كونها مملوكة للّه ، وقال التبريزي في كونها مخلوقة ، وقال مقاتل : المراد طائفة من العرب من خزاعة كانت تعبد الملائكة فأعلمهم تعالى أنهم عباد أمثالهم لا آلهة انتهى ، فعلى هذا جاء الإخبار إخباراً عن العقلاء ،

وقال الزمخشري : عباد أمثالكم استهزاء بهم أي قصارى أمرهم أن يكونوا أحياء عقلاء ، فإن ثبت ذلك فمنهم عباد أمثالكم لا تفاضل بينكم ثم أبطل أن يكونوا عباداً أمثالكم فقال ألهم أرجل يمشون بها انتهى ؟ وليس كما زعم لأنه تعالى حكم على هؤلاء المدعوّين من دون اللّه أنهم عباد أمثال الداعين فلا يقال في الخبر من اللّه فإن ثبت ذلك لأنه ثابت ولا يصحّ أن يقال ثم أبطل أن يكونوا عباداً أمثالكم فقال ألهم أرجل لأن قوله ألهم أرجل ليس إبطالاً لقوله عباد أمثالكم لأن المثلية ثابتة أما في أنهم مخلوقون أو في أنهم مملوكون مقهورون وإنما ذلك تحقير لشأن الأصنام وأنهم دونكم في انتفاء الآلات التي أعدت للانتفاع بها مع ثبوت كونهم أمثالكم فيما ذكر ولا يدلّ إنكار هذه الآلات على انتفاء المثلية فيما ذكر وأيضاً فالأبطال لا يتصور بالنسبة إليه تعالى لأنه يدلّ على كذب أحد الخبرين وذلك مستحيل بالنسبة إلى اللّه تعالى ، وقد

بيّنا ذلك في قوله أولئك كالأنعام بل هم أضلّ

وقرأ ابن جبير إن خفيفة وعباداً أمثالكم بنصب الدال واللام واتفق المفسرون على تخريج هذه القراءة على أنّ إن هي النافية أعملت عمل ما الحجازية فرفعت الاسم ونصبت الخبر فعباداً أمثالكم خبر منصوب قالوا : والمعنى بهذه القراءة تحقير شأن الأصنام ونفي مماثلتهم للبشر بل هم أقل وأحقر إذ هي جمادات لا تفهم ولا تعقل وإعمال إن إعمال ما الحجازية فيه خلاف أجاز ذلك الكسائي وأكثر الكوفيين ومن البصريين ابن السّراج والفارسي وابن جني ومنع من إعماله الفرّاء وأكثر البصريين واختلف النقل عن سيبويه والمبرّد والصحيح أن إعمالها لغة ثبت ذلك في النثر والنظم وقد ذكرنا ذلك مشبعاً في شرح التسهيل وقال النحاس : هذه قراءة لا ينبغي أن يقرأ بها بثلاث جهات إحداها أنها مخالفة للسواد والثانية أن سيبويه يختار الرفع في خبر أن إذا كانت بمعنى ما فيقول : إن زيد منطلق لأن عمل ما ضعيف وإن بمعناها فهي أضعف منها والثالثة أن الكسائي رأى أنها في كلام العرب لا تكون بمعنى ما إلا أن يكون بعدها إيجاب انتهى وكلام النحاس هذا هو الذي لا ينبغي لأنها قراءة مروية عن تابعيّ جليل ولها وجه في العربية

وأما الثلاث جهات التي ذكرها فلا يقدح شيء منها في هذه القراءة أما كونها مخالفة للسواد فهو خلاف يسير جدًّا لا يضرّ ولعله كتب المنصوب على لغة ربيعة في الوقف على المنون المنصوب بغير ألف فلا تكون فيه مخالفة للسواد

وأما ما حكي عن سيبويه فقد اختلف الفهم في كلام سيبويه في أنّ

وأما ما حكاه عن الكسائي فالنقل عن الكسائي أنه حكى إعمالها وليس بعدها إيجاب والذي يظهر لي أن هذا التخريج الذي خرجوه من أن إن للنفي ليس بصحيح لأن قراءة الجمهور تدل على إثبات كون الأصنام عباداً أمثال عابديها وهذا التخريج يدل على نفي ذلك فيؤدي إلى عدم مطابقة أحد الخبرين الآخر وهو لا يجوز بالنسبة إلى اللّه تعالى ، وقد خرجت هذه القراءة في شرح التسهيل على وجه غير ما ذكروه وهو أن إن هي المخففة من الثقيلة وأعملها عمل المشددة وقد ثبت أن إن المخففة يجوز إعمالها عمل المشدّدة في غير المضمر بالقراءة المتواترة وإن كلا لما وبنقل سيبويه عن العرب لكنه نصب في هذه القراءة خبرها نصب عمر بن أبي ربيعة المخزومي في قوله : إذا اسود جنح الليل فلتأتِ ولتكن

خطاك خفافاً إن حرّاسنا أسدا

وقد ذهب جماعة من النحاة إلى جواز نصب أخبار إنّ وأخواتها واستدلوا على ذلك بشواهد ظاهرة الدلالة على صحة مذهبهم وتأولها المخالفون ، فهذه القراءة الشاذة تتخرّج على هذه اللغة أو تتأوّل على تأويل المخالفين لأهل هذا المذهب وهو أنهم تأولوا المنصوب على إضمار فعل كما قالوا في قوله :

يا ليت أيام الصّبا واجعا

إن تقديره أقبلت رواجعا فكذلك تؤول هذه القراءة على إضمار فعل تقديره أن الذين تدعون من دون اللّه تدعون عباداً أمثالكم ، وتكون القراءتان قد توافقتا على معنى واحد وهو الإخبار أنهم عباد ، ولا يكون تفاوت بينهما وتخالف لا يجوز في حقّ اللّه تعالى وقرىء أيضاً إن مخففة ونصب عباداً على أنه حال من الضمير المحذوف العائد من الصلة على الذين وأمثالكم بالرفع على الخبر أي أن الذين تدعونهم من دون اللّه في حال كونهم عباداً أمثالكم في

الخلق أو في الملك فلا يمكن أن يكونوا آلهة فادعوهم أي فاختبروهم بدعائكم هل يقع منهم إجابة أو لا يقع والأمر بالاستجابة هو على سبيل التعجيز أي لا يمكن أن يجيبوا كما قال : ولو سمعوا ما استجابوا لكم ومعنى إن كنتم صادقين في دعوى إلهيتهم واستحقاق عبادتهم كقول إبراهيم عليه السلام لأبيه { لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً}

١٩٥

ألهم أرجل يمشون . . . . .

{أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ ءاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ} هذا استفهام إنكار وتعجيب وتبيين أنهم جماد لا حراك لهم وأنهم فاقدون لهذه الأعضاء ومنافعها التي خلقت لأجلها فأنتم أفضل من هذه الأصنام أذلكم هذا التصرف وهذا الاستفهام الذي معناه الإنكار قد يتوجه الإنكار فيه إلى انتفاء هذه الأعضاء وانتفاء منافعها فيتسلط النفي على المجموع كما فسرناه لأنّ تصويرهم هذه الأعضاء للأصنام ليست أعضاء حقيقة وقد يتوجه النفي إلى الوصف أي وإن كانت لهم هذه الأعضاء مصوّرة فقد انتفت هذه المنافع التي للأعضاء والمعنى أنكم أفضل من الأصنام بهذه الأعضاء النافعة وأم هنا منقطعة فتقدر ببل والهمزة وهو إضراب على معنى الانتقال لا على معنى الأبطال وإنما هو تقدير على نفي كلّ واحدة من هذه الجمل وكان ترتيب هذه الجمل هكذا لأنه بدىء بالأهم ثم اتبع بما هو دونه إلى آخرها ،

وقرأ الحسن والأعرج ونافع بكسر الطاء ،

وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع بضمها وقال أبو عبد اللّه الرازي : تعلق بعض الأغمار بهذه الآية في إثبات هذه الأعضاء للّه تعالى فقالوا : جعل عدمها للأصنام دليلاً على عدم إلهيتها فلو لم تكن موجودة له تعالى لكان عدمها دليلاً على عدم الإلهية وذلك باطل فوجب القول بإثباتها له تعالى والجواب من وجهين ،

أحدهما : أن المقصود من الآية أن الإنسان أفضل وأكمل حالاً من الصم لأنه له رجل ماشية ويد باطشة وعين باصرة وأذن سامعة والصنم وإن صُوِّرت له هذه الأعضاء بخلاف الإنسان فالإنسان أكمل وأفضل فلا يشتغل بعبادة الأخس الأدون والثاني أن المقصود تقرير الحجة التي ذكرها قبل وهي لا يستطيعون لهم نصراً ولا أنفسهم ينصرون يعني كيف يحسن عبادة من لا يقدر على النفع والضرّ ثم قرر أنّ هذه الأصنام انتفت عنها هذه الأعضاء ومنافعها فليست قادرة على نفع ولا ضر فامتنع كونها آلهة أما اللّه تعالى فهو وإن كان متعالياً عن هذه الأعضاء فهو موصوف بكمال القدرة على النفع والضرّ وبكمال السمع والبصر انتهى ، وفيه بعض تلخيص .

{قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ } لما أنكر تعالى عليهم عبادة الأصنام وحقّر شأنها وأظهر كونها جماداً عارية عن شيء من القدرة أمر تعالى نبيه أن يقول لهم ذلك أي لا مبالاة بكم ولا بشركائكم فاصنعوا ما تشاؤون وهو أمر تعجيز أي لا يمكن أن يقع منكم دعاء لأصنامكم ولا كيد لي وكانوا قد خوّفوه آلهتهم ، ومعنى ادعوا شركاءكم استعينوا بهم على إيصال الضرّ إلى ثم كيدون أي امكروا بي ولا تؤخرون عما تريدون بي من الضرّ وهذا كما قال قوم هود أن نقول : إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد اللّه واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون وسمي الأصنام شركاءهم من حيث أن لهم نسبة إليهم بتسميتهم إياهم آلهة وشركاء اللّه تعالى ،

وقرأ أبو عمرو وهشام بخلاف عنه كيدوني بإثبات الياء وصلاً ووقفاً

وقرأ باقي السبعة بحذف الياء اجتزاء بالكسرة عنها .

١٩٦

إن وليي اللّه . . . . .

{إِنَّ وَلِيّىَ اللّه الَّذِى نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ } لما أحالهم على الاستنجاد بآلهتهم في ضره وأراهم أنّ اللّه هو القادر على كل شيء عقب ذلك بالاستناد إلى اللّه تعالى والتوكل عليه والإعلام أنه تعالى هو ناصره عليهم وبين جهة نصره عليهم بأن أوحى إليه كتابه وأعزّه برسالته ثم أنه تعالى يتولى الصالحين من عباده وينصرهم على أعدائه ولا يخذلهم ،

وقرأ الجمهور إن وليي اللّه بياء مشدّدة وهي ياء فعيل أدغمت في لام الكلمة وبياء المتكلم بعدها مفتوحة ،

وقرأ أبو عمرو في رواية عنه بياء واحدة مشددة مفتوحة ورفع الجلالة ، قال أبو علي لا يخلو من أن يدغم الياء التي هي لام الفعل في ياء الإضافة وهولا يجوز لأنه ينفك الإدغام الأول أو تدغم ياء فعيل في ياء الإضافة ، ويحذف لام الفعل فليس إلا هذا انتهى ويمكن

تخريج هذه القراءة على وجه آخر وهو أن لا يكون ولي مضافاً إلى ياء متكلم بل هو اسم نكرة اسم إنّ والخبر اللّه وحذف من وليّ التنوين لالتقاء الساكنين كما حذف من قوله قل هو اللّه أحد وقوله ولا ذاكر اللّه إلا قليلاً والتقدير أنّ وليًّا حقّ وليّ اللّه الذي نزل الكتاب وجعل اسم إنّ نكرة والخبر معرفة في فصيح الكلام . قال الشاعر : وإن حراماً أن أسب مجاشعا

بآبائي الشمّ الكرام الخضارم

وهذا توجيه لهذه القراءة سهل واختلف النقل عن الجحدري فنقل عنه صاحب كتاب اللوامح في شواذ القراءات إن وليّ بياء مكسورة مشدّدة وحذفت ياء المتكلم لما سكنت التقى ساكنان فحذفت ، كما تقول : إن صاحبي الرجل الذي تعلم ، ونقل عنه أبو عمرو الداني أنّ ولي اللّه بياء واحدة منصوبة مضافة إلى اللّه وذكرها الأخفش وأبو حاتم غير منصوبة وضعفها أبو حاتم وخرّج الأخفش وغيره هذه القراءة على أن يكون المراد جبريل ، قال الأخفش : فيصير الذي نزل الكتاب من صفة جبريل بدلالة قل نزله روح القدس ، وفي قراءة العامة من صفة اللّه تعالى انتهى ، يعني أن يكون خبر إن هو قوله الذي نزل الكتاب ، قال الأخفش : فأما وهو يتولى الصالحين فلا يكون إلا من الإخبار عن اللّه تعالى وتفسير هذه القراءة بأن المراد بها جبريل وإن احتملها لفظ الآية لا يناسب ما قبل هذه الآية ولا ما بعدها ويحتمل وجهين من الإعراب ولا يكون المعنى جبريل أحدهما أن يكون وليّ اللّه اسم إنّ والذي نزل الكتاب هو الخبر على تقدير حذف الضمير العائد على الموصول ، والموصول هو النبي صلى اللّه عليه وسلم ، والتقدير أنّ ولي اللّه الشخص الذي نزل الكتاب عليه فحذف عليه وإن لم يكن فيه شرط جواز الحذف المقيس لكنه قد جاء نظيره في كلام العرب . قال الشاعر : وإن لساني شهدة يشتفى بها

وهو على من صبه اللّه علقم

التقدير وهو على من صبه اللّه عليه علقم . وقال الآخر : فأصبح من أسماء قيس كقابض

على الماء لا يدري بما هو قابض

التقدير بما هو قابض عليه ، وقال الآخر

وتقدم قوله { ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون } [ الأعراف : ١٩٢ ] ، قال الواحدي : ' أعبد هذا المعنى ، لأن الأول مذكور على جهة التقريع ، وهذا مذكور على جهة الفرق بين من تجوز له العبادة وبين من لا تجوز ، كأنه قيل : الإله المعبود يجب أن يكون يتولى الصالحين وهذه الأصنام ليست كذلك ، فلا تكون صالحة للإلهية ' . انتهى ومعنى قوله : ' على جهة التقريع ' أن قوله { ولا يستطيعون} معطوف على قوله { ما لا يخلق} وهو في حيز الإنكار . والتقريع والتوبيخ على إشراكهم من لا يمكن أن يوجد شيئاً ، ولا ينشئه ، ولا ينصر نفسه ، فضلاً عن غيره . وهذه الآية كما ذكر جاءت على جهة الفرق ومندرجة تحت الأمر بقوله { قل ادعوا } [ الإسراء : ١١٠ ] ، فهذه الجمل مأمور بقولها ، وخطاب المشركين بها ، إذ كانوا يخوفون الرسول - عليه السلام - بآلهتهم ، فأمر أن يخاطبهم بهذه الجمل ، تحقيراً لهم ولأصنامهم ، وإخباراً لهم بأن وليه هو اللّه ، فلا مبالاة بهم ، ولا بأصنامهم .{ وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعون وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون } تناسق الضمائر يقتضي أن الضمير المنصوب في { وإن تدعهم} هو للأصنام . ونفى عنهم السماع ، لأنها جماد لا تحس وأثبت لهم النظر على سبيل المجاز . بمعنى : ' أنهم صوروهم ذوي أعين فهم يشبهون من لعلّ الذي أصعدتني أن يردني

إلى الأرض إن لم يقدر الخير قادره

يريد أصعدتني به . وقال الآخر : فأبلغن خالد بن نضله

والمرء معنى بلوم من يثق

يريد يثق به . وقال الآخر : ومن حسد يجور عليّ قومي

وأي الدّهر ذر لم يحسدوني

يريد لم يحسدوني فيه . وقال الآخر : فقلت لها لا والذي حج حاتم

أخونك عهداً إنني غير خوّان

قالوا يريد حج حاتم إليه فهذه نظائر من كلام العرب يمكن حمل هذه القراءة الشاذة عليها ، والوجه الثاني أن يكون خبر إن محذوفاً لدلالة ما بعده عليه التقدير إن وليّ اللّه الذي نزل الكتاب من هو صالح أو الصالح ، وحذف لدلالة وهو يتولى الصالحين عليه وحذف خبر إن وأخواتها لفهم المعنى جائز ومنه قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِالذّكْرِ لَمَّا جَاءهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ } الآية وقوله :{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّه وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } الآية وسيأتي تقدير حذف الخبر فيهما إن شاء اللّه .

١٩٧

والذين تدعون من . . . . .

{وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ } أي من دون اللّه ويتعيّن عود الضمير في من دونه على اللّه وبذلك يضعف من فسر { الَّذِى نَزَّلَ الْكِتَابَ } بجبريل ، وهذه الآية بيان لحال الأصنام وعجزها عن نصرة أنفسها فضلاً عن نصرة غيرها وتقدم قوله { ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون } [ الأعراف : ١٩٢ ] ، قال الواحدي : ' أعيد هذا المعنى ، لأن الأول مذكور على جهة التقريع ، وهذا مذكور على جهة الفرق بين من تجوز له العبادة وبين من لا تجوز ، كأنه قيل : الإله المعبود يجب أن يكون يتولى الصالحين وهذه الأصنام ليست كذلك ، فلا تكون صالحة للإلهية ' . انتهى ومعنى قوله : ' على جهة التقريع ' أن قوله { ولا يستطيعون } معطوف على قوله { ما لا يخلق } وهو في حيز الإنكار . والتقريع والتوبيخ على إشراكهم من لا يمكن أن يوجد شيئا ، ولا ينشئه ، ولا ينصر نفسه ، فضلا عن غيره . وهذه الآية كما ذكر جاءت على جهة الفرق ومندرجة تحت الأمر بقوله { قل ادعوا } [ الإسراء : ١١٠ ] ، فهذه الجمل مأمنور بقولها ، وخطاب المشركين بها ، إذ كانوا يخوفون الرسول - عليه السلام - بآلهتهم ، فأمر أن يخاطبهم بهذه الجمل ، تحقيرا لهم ولأصنامهم ، وإخبارا لهم بأن وليه هو اللّه ، فلا مبالاة بهم ، ولا بأصنامهم

١٩٨

وإن تدعوهم إلى . . . . .

{وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون } تناسق الضمائر يقتضي أن الضمير المنصوب في { وإن تدعوهم } هو للأصنام . ونفى عنهم السماع ، لأنها جماد لا تحس وأثبت لهم النظر على سبيل المجاز . بمعنى : ' أنهم صوروهم ذوي أعين فهم يشبهون من

وإن تدعوهم إلى . . . . .

ينظر من قلب حدقته ، للنظر ثم نفى عنهم الإبصار كقوله { يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً [ مريم : ٤٢ ] ومعنى } إليك { أيها الداعي وأفرد ، لأنه اقتطع قوله } وتراهم ينظرون إليك { من جملة الشرط ، واستأنف الإخبار عنهم بحالهم السيئ في انتفاء الإبصار كانتفاء السماع .

وقيل : ' المعنى في قوله { ينظرون إليك} أي : يحاذونك من قولهم : ' المنازل تتناظر ' إذا كانت متحاذية يقابل بعضها بعضاً . وذهب بعض المعتزلة إلى الاحتجاج بهذه الآٍ ية على أن العباد لا ينظرون إلى ربهم ولا يرونه . ولا حجة لهم في الآية ، لأن النظر في الأصنام مجاز محض ، وجعل الضمير للأصنام . اختار الطبري . قال : ' ومعنى الآية تبيين جمودها ، وصغر شأنها . ' . قال : ' وإنما تكرر القول في هذا وترددت الآيات فيه ، لأن أمر الأصنام وتعظيمها كان متمكناً من نفوس العرب في ذلك الزمن ومستولياً على عقولها لطفاً من اللّه تعالى بهم . وقال مجاهد والحسن والسدي : ' الضمير المنصوب في { تدعوهم} يعود على الكفار . ووصفهم بأنهم { لا يسمعون ولا يبصرون} إذ لم يتحصل لهم عن الاستماع والنظر فائدة ، ولا حصلوا منه بطائل . وهذا تأويل حسن . ويكون إثبات النظر حقيقة لا مجازاً ويحسن هذا التأويل الآية بعد هذه إذ في آخرها { وأعرض عن الجاهلين} أي : الذين من شأنهم أن تدعوهم لا يسمعون وينظرون إليك وهم لا يبصرون . فتكون مرتبة على العلة الموجبة لذلك وهي الجهل

١٩٩

خذ العفو وأمر . . . . .

{خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين } هذا خطاب لرسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم { - ويعم جميع أمته وهي أمر بجميع مكارم الأخلاق . وقال عبد اللّه بن الزبير ومجاهد وعروة والجمهور : أي : ' أقبل من الناس في أخلاقهم ، وأموالهم ، ومعاشرتهم ، بما أتى عفواً دون تكلف ، ولا تحرج ، والعفو : ضد الجهد . أي : لا تطلب منهم ما يشق عليهم حتى لا ينفروا وقد أمر بذلك رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم { - بقوله ' يسروا ولا تعسروا ' ، وقال حاتم : خذي العفو مني تستديمي مودتي

ولا تنطقي في سورتي حين أغضب

وقال الآخر : إذا ما بلغة جاءتك عفواً

فخذها فالغنى مرعى وشرب

إذا اتفق القليل وفيه سلم

فلا ترد الكثير وفيه حرب

وقال الشعبي : ' سأل الرسول - صلى اللّه عليه وسلم { - جبريل - عليه السلام - عن قوله تعالى { خذ العفو} فأخبره عن اللّه تعالى : انه يأمرك أن تعفو عمن ظلمك ، وتعطي من حرمك ، وتصل من قطعك ' .

وقال ابن عباس والضحاك والسدي : ' هي في الأموال قبل فرض الزكاة ، أمر أن يأخذ ما سهل من أموال الناس أي : ما فضل وزاد ثم فرضت الزكاة فنسخت هذه وتؤخذ طوعاً وكرهاً ' . وقال مكي عن مجاهد : ' إن العفو هو الزكاة المفروضة ' . وقال ابن زيد : ' الآية جميعها في مداراة الكفار ، وعدم مؤاخذتهم ، ثم نسخ ذلك بالقتال ' . انتهى . والذي يظهر : القول الأول من أنه أمر بمكارم الأخلاق وأن ذلك حكم مستمر في الناس ليس بمنسوخ . ويدل عليه حديث الحر بن قيس حين أدخل عيينة بن حصن على عمر ، فكلم عمر كلاماً فيه غلطة ، فأراد عمر أن يهم به ، فتلا الحر هذه الآية على عمر فقرها ووقف عندها ' . والعرف : المعروف والجميل من الأفعال والأقوال .

وقرأ عيسى بن عمر { بالعرف} بضم الراء . والأمر بالإعراض عن الجاهلين : حض على التخلق بالحلم ، والتنزه عن منازعة السفهاء ، وعلى الإغضاء عما يسوء . كقول من قال : ' إن هذه قسمة ما أريد بها وجه اللّه ' وقول الآخر : ' إن كان ابن عمتك ، وكالذي جذب رداءه حتى حز في عنقه وقال أعطني من

مال اللّه ' ، وخرج البزار في مسنده من حديث جابر بن سليم ما وصاه به الرسول - صلى اللّه عليه وسلم { - : ' اتق اللّه ولا تحقرن من المعروف شيئاً وأن تلقى أخاك بوجه منبسط ، وأن تفرغ من فضل دلوك في إناء المستسقى وإن امرؤ سبّك بما لا يعلم منك فلا تسبَّه بما تعلم فيه فإنّ اللّه جاعل لك أجراً وعليه وزراً ولا تسبن شيئاً مما خولك اللّه} . وقال جعفر الصادق : أمر اللّه تعالى نبيه بمكارم الأخلاق وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق منها .

٢٠٠

وإما ينزغنك من . . . . .

{وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّه إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } أي ينخسنك بأن يحملك بوسوسته على ما لا يليق فاطلب العياذة باللّه منه وهي اللواذ والاستجارة ، قيل : لما نزلت خذ العفو الآية قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : كيف والغضب فنزلت ومناسبتها لما قبلها ظاهرة وفاعل ينزغنك هو نزغ على حدّ قولهم جدجده أو على إطلاق المصدر ، والمراد به نازغ وختم بهاتين الصفتين لأنّ الاستعاذة تكون بالنسيان ولاتجدي إلا باستحضار معناها فالمعنى سميع للأقوال عليم بما في الضمائر ،

قال ابن عطية : الآية وصية من اللّه تعالى لنبيه صلى اللّه عليه وسلم تعم أمته رجلاً رجلاً ونزغ الشيطان عام في الغضب وتحسين المعاصي واكتساب الغوائل وغير ذلك وفي مصنف أبي عيسى الترمذي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : { إنّ للملك لمة وإن للشيطان لمة } وبهذه الآية تعلق ابن القاسم في قوله : إنّ الاستعاذة عند القراءة أعوذ باللّه السميع العليم من الشيطان الرجيم انتهى . واستنباط ذلك من الآية ضعيف لأن قوله : إنه سميع عليم جرى مجرى التعليل لطلب الاستجارة باللّه أي لا تستعذ بغيره فإنه هو السميع لما تقول أو السميع لما تقوله الكفار فيك حين يرومون إغضابك العليم بقصدك في الاستعاذة أو العليم بما انطوت عليه ضمائرهم من الكيد لك فهو ينصرك عليهم ويجيرك منهم .

٢٠١

إن الذين اتقوا . . . . .

{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَئِفٌ مّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ } النزغ من الشيطان أحفّ من مس الطائف من الشيطان لأن النزغ أدنى حركة والمس الإصابة والطائف ما يطوف به ويدور عليه فهو أبلغ لا محالة فحال المتقين تزيد في ذلك على حال الرسول ، وانظر لحسن هذا البيان حيث جاء الكلام للرسول كان الشرط بلفظ إن المحتملة للوقوع ولعدمه ، وحيث كان الكلام للمتقين كان المجيء بإذا الموضوعة للتحقيق أو للترجيح ، وعلى هذا فالنزغ يمكن أن يقع ويمكن أن لا يقع والمسّ واقع لا محالة أو يرجح وقوعه وهو إلصاق البشرة وهو هنا استعارة وفي تلك الجملة أمر هو صلى اللّه عليه وسلم بالاستعاذة ، وهنا جاءت الجملة خبريّة في ضمنها الشرط وجاء الخبر تذكروا فدكل على تمكن مسّ الطائف حتى حصل نسيان فتذكروا ما نسوه والمعنى تذكروا ما أمر به تعالى وما نهى عنه ، وبنفس التذكر حصل إبصارهم فاجأهم إبصار الحقّ والسداد فاتبعوه وطروا عنهم مسّ الشيطان الطائف ، واتقوا قيل : عامّة في كل ما يتقى ،

وقيل : الشرك والمعاصي ،

وقيل : عقاب اللّه ،

وقرأ النحويان وابن كثير : طيف فاحتمل أن يكون مصدراً من طاف يطيف طيفاً أنشد أبو عبيدة : أني ألمّ بك الخيال يطيف

ومطافه لك ذكره وشغوف

واحتمل أن يكون مخفّفاً من طيف كميت وميت أو كلين من لين لأنّ طاف المشددة يحتمل أن يكون من طاف يطيف ويحتمل أن يكون من طاف يطوف ،

وقرأ باقي السبعة طائف اسم فاعل من طاف ،

وقرأ ابن جبير طيف بالتشديد وهو فيعل وإلى أن الطيف مصدر مال الفارسي جعل الطيف كالخطرة والطائف

كالخاطر ، وقال الكسائي : الطيف اللمم والطائف ما طاف حول الإنسان .

قال ابن عطية : وكيف هذا ؟ وقد قال الأعشى : وتصبح عن غب السّرى وكأنها

ألمّ بها من طائف الجن أولق

انتهى . ولا يتعجب من تفسير الكسائي الطائف بأنه ما طاف حول الإنسان بهذا البيت لأنه يصح فيه معنى ما قاله الكسائي لأنه إن كان تعجبه وإنكاره من حيث خصّص الإنسان والذي قاله الأعشى تشبيه لأنه قال كأنها وإن كان تعجّبه من حيث فسّر بأنه ما طاف حول الإنسان ، فطائف الجن يصك أن يقال طاف حول الإنسان وشبه هو الناقة في سرعتها ونشاطها وقطعها الفيافي عجلة بحالتها إذا ألمّ بها أولق من طائف الجنّ ، وقال أبو زيد : طاف أقبل وأدبر يطوف طوفاً وطوافاً وأطاف استدار القوم وأتاهم من نواحيهم ، وطاف الخيال ألمّ يطيف طيفاً وزعم السهيلي أنه لم يقل اسم فاعل من طاف الخيال قال : لأنه تخيل لا حقيقة

وأما فطاف عليها طائف من ربك فلا يقال فيه طيف لأنه اسم فاعل حقيقة انتهى ، وقال حسّان : جنّيّة أرّقني طيفها

تذهب صبحاً وتُرى في المنام

وقال ابن عباس : هما بمعنى النزع ، وقال السدّي : الطيف الجنون ، والطائف الغضب ، وقال أبو عمرو : هما بمعنى الوسوسة ،

وقيل : هما بمعنى اللمم والخيال ،

وقيل : الطيف النخيل ، والطائف الشيطان ، وقال مجاهد : الطيف الغضب ويسمى الجنون والغضب والوسوسة طيفاً لأنه لمّة من الشيطان ، وقال عبد اللّه بن الزبير والسدّي : إذا زلوا تابوا ، وقال مجاهد : إذا همّوا بذنب ذكروا اللّه فتركوه ، وقال ابن جبير : إذا غضب كظم غيظه ، وقال مقاتل : إذا أصابه نزغ تذكر وعرف أنها معصية نزع عنها مخافة اللّه تعالى ، وقال أبو روق : ابتهلوا ، وقال ابن بحر : عاذوا بذكر اللّه ،

وقيل : تفكّروا فأبصروا وهذه كلها أقوال متقاربة وسب عصام بن المصطلق الشامي الحسين بن علي رضي اللّه عنه سبًّا مبالغاً وأباه إذ كان مبغضاً لأبيه فقال الحسين بن علي : أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم بسم اللّه الرحمن الرحيم خذ العفو وأمر بالعرف إلى قوله فإذا هم مبصرون ، ثم قال : خفض عليك أستغفر اللّه لي ولك ودعا له في حكاية فيها طول ظهر فيها من مكارم أخلاقه وسعة صدره وحوالة الأشياء على القدر ما صيّر عصاما أشد الناس حبا له ولأبيه وذلك باستعماله هذه الآية الكريمة وأخذ بها ، ومبصرون هنا من البصيرة لا من البصر ،

وقرأ ابن الزبير من الشيطان تأملوا وفي مصحف أبي إذا طاف من الشيطان طائف تأملوا فإذا هم مبصرون وينبغي أن يحمل هذا ، وقراءة ابن الزبير على أن ذلك من باب التفسير لا على أنه قرآن لمخالفته سواد ما أجمع المسلمون عليه من ألفاظ القرآن .

٢٠٢

وإخوانهم يمدونهم في . . . . .

{وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِى الْغَىِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ} الضمير في وإخوانهم عائد على الجاهلين أو على ما دل عليه قوله إن الذين اتقوا وهم غير المتقين لأن الشيء قد يدل على مقابله فيضمر ذلك المقابل لدلالة مقابله عليه وعنى بالإخوان على هذا التقدير الشياطين كأنه قيل : والشياطين الذين هم إخوان الجاهلين أو غير المتقين يمدّون الجاهلين أو غير المتقين في الغيّ فالواو وفي يمدّونهم ضمير الإخوان فيكون الخبر جارياً على من هو له والضمير المجرور والمنصوب للكفار وهذا قول قتادة ، و

قال ابن عطية : ويحتمل أن يعودا جميعاً على الشياطين ويكون المعنى وإخوان الشياطين في الغيّ بخلاف الأخوة في اللّه يمدون الشياطين أي بطاعتهم لهم وقبولهم منهم ولا يترتب هذا التأويل على أن يتعلق في الغيّ بالإمداد لأنّ

الإنس لا يعودون الشياطين انتهى ، ويمكن أن يتعلق في الغيّ على هذا التأويل بقوله يمدّونهم على أن تكون في للسببية أي يمدّونهم بسبب غوايتهم نحو دخلت امرأة النار في هرة أي بسبب هرة ، ويحتمل أن يكون في الغيّ حالاً فيتعلق بمحذوف أي كائنين ومستقرين في الغيّ فيبقى في الغيّ في موضعه لا يكون منعلقاً بقوله وإخوانهم وقد جوز ذلك ابن عطية وعندي في ذلك نظر فلو

قلت : مطعمك زيد لحماً تريد مطعمك لحماً زيد فتفصل بين المبتدأ ومعموله بالخبر لكان في جواز نظر لأنك فصلت بين العامل والمعمول بأجنبي لهما معاً وإن كان ليس أجنبياً لأحدهما الذي هو المبتدأ ويحتمل أن يختلف الضمير فيكون في وإخوانهم عائد على الشياطين الدالّ عليهم الشيطان أو على الشيطان نفسه باعتبار أنه يراد به الجنس نحو قوله : أولياؤهم الطاغوت المعنى الطواغيت ويكون في يمدّونهم عائد على الكفار والواو في يمدّونهم عائدة على الشياطين وإخوان الشياطين يمدّونهم الشياطين ويكون الخبر جرى على غير من هو له ، لأن الإمداد مسند إلى الشياطين لا لإخوانهم وهذا نظير قوله :

قوم إذا الخيل جالوا في كواثيها

وهذا الاحتمال هو قول الجمهور وعليه فسّر الطبري ،

وقال الزمخشري : هو أوجه لأن إخوانهم في مقابلة الذين اتقوا ،

وقرأ نافع يمدونهم مضارع أمدّ ، وباقي السبعة يمدونهم من مدّ وتقدم الكلام على ذلك في قوله ويمدّهم في طغيانهم يعمهون ،

وقرأ الجحدري يمادّونهم من مادّ على وزن فاعل ،

وقرأ الجمهور : لا يقصرون من أقصر أي كفّ . قال الشاعر : لعمرك ما قلبي إلى أهله بحر

ولا مقصر يوماً فيأتيني بقر

أي ولا هو نازع عما هو فيه ،

وقرأ ابن أبي عبلة وعيسى بن عمر ثم لا يقصّرون من قصر أي ثم لا ينقصون من إمدادهم وغوايتهم وقد أبعد الزجاج في دعواه أن قوله وإخوانهم الآية متصل بقوله { وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ } ولا حاجة إلى تكلف ذلك بل هو كلام متناسق أخذ بعضه بعنق بعض لما بين حال المتّقين مع الشياطين بين حال غير المتقين معهم وأن أولئك ينفس ما يمسهم من الشيطان ماس أقلعوا على الفور وهؤلاء في إمداد من الغيّ وعدم نزوع عنه .

٢٠٣

وإذا لم تأتهم . . . . .

{وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِئَايَةٍ قَالُواْ لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا} روى أنّ الوحي كان يتأخر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أحياناً فكان الكفار يقولون : هلا اجتبيتها ومعنى اللفظة في كلام العرب تخيرتها واصطفيتها ،

وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد وغيرهم : المراد هلا اخترعتها واختلقتها من قبلك ومن عند نفسك والمعنى أنّ كلامك كله كذلك على ما كانت قريش تدعيه كما قالوا ما هذا إلا إفك مفتري ، قال الفرّاء تقول العرب اجتبيت الكلام واختلقته وارتجلته إذا افتعلته من قبل نفسك ،

وقال الزمخشري : اجتبى الشيء بمعنى جباه لنفسه أي جمعه كقوله اجتمع أو جبى إليه فاجتباه أي أخذه كقولك : جليت العروس إليه

فاجتلاها والمعنى هلا اجتمعتها افتعالاً من قبل نفسك ،

وقال ابن عباس أيضاً والضحاك : هلا تلقيتها ،

وقال الزمخشري هلاّ أخذتها منزلة عليك مقترحة انتهى ، وهذا القول منهم من نتائج الإمداد في الغيّ كانوا يطلبون آيات معينة على سبيل التعنّت كقلب الصفا ذهباً وإحياء الموتى وتفجير الأنهار وكم جاءتهم من آية فكذبوا بها واقترحوا غيرها .

{قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَىَّ مِن رَّبّى } بيّن أنه ليس مجيء الآيات إليه إنما هو متبع ما أوحاه اللّه تعالى إليه ولست بمفتعلها ولا مقترحها .{ هَاذَا بَصَائِرُ مِن رَّبّكُمْ } أي هذا الموحى إليّ الذي أنا أتبعه لا أبتدعه وهو القرآن بصائر أي حجج وبينات يبصر بها وتتضح الأشياء الخفيّات وهي جمع بصيرة كقوله على بصيرة أنا ومن اتبعني أي على أمر جليّ منكشف وأخبر عن المفرد بالجمع لاشتماله على سور وآيات ،

وقيل : هو على حذف مضاف أي ذو بصائر .{ وَهُدًى وَرَحْمَةً لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } أي دلالة إلى الرّشد ورحمة في الدارين وفي الدين والدنيا وخصّ المؤمنين لأنهم الذين يستبصرون وهم الذين ينتفعون بالوحي يتبعون ما أمر به فيه ويجتنبون ما ينهون عنه فيه ويؤمنون بما تضمنه ، وقال أبو عبد اللّه الرازي : أصل البصيرة الإبصار لما كان القرآن سبباً لبصائر العقول في دلالة التوحيد والنبوة والمعاد أطلق عليه اسم البصيرة تسميةً للسبب باسم المسبّب والناس في معارف التوحيد والنبوة والمعاد ثلاثة أقسام ،

أحدها : الذين بالغوا في هذه المعارف إلى حيث صاروا كالمشاهدين لها وهم أصحاب عين اليقين فالقرآن في حقهم بصائر ،

والثاني : الذين وصلوا إلى درجات المستدلين وهم أصحاب علم اليقين فهو في حقهم هدى ، و

الثالث : من اعتقد ذلك الإعتقاد الجزم وإنْ لم يبلغ مرتبة المستدلّين وهم عامة المؤمنين فهو في حقهم رحمة ، ولما كانت هذه الفرق الثلاث من المؤمنين قال لقوم يؤمنون انتهى ، وفيه تكميل وبعض تلخيص .

٢٠٤

وإذا قرئ القرآن . . . . .

{وَإِذَا قُرِىء الْقُرْءانُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } لما ذكر أن القرآن بصائر وهدى ورحمة أمر باستماعه إذا شرع في قراءته وبالإنصات وهو السكوت مع الإصغاء إليه لأنّ ما اشتمل على هذه الأوصاف من البصائر والهدى والرحمة حريّ بأن يصغي إليه حتى يحصل منه للمنصت هذه النتائج العظيمة وينتفع بها فيستبصر من العمى ويهتدي من الضلال ويرحم بها والظاهر استدعاء الاستماع والإنصاب إذا أخذ في قراءة القرآن ومتى قرىء ، وقال ابن مسعود وأبو هريرة وجابر وعطاء وابن المسيب والزهري وعبيد اللّه بن عمر : إنها في المشركين كانوا إذا صلى الرسول صلى اللّه عليه وسلم يقولون : لا تسمعوا لهذا القرآن وألغوا فيه فنزلت جواباً لهم ، وقال عطاء أيضاً وابن جبير ومجاهد وعمرو بن دينار وزيد بن أسلم والقاسم بن عمخيمرة ومسلم بن يسار وشهر بن حوشب وعبد اللّه بن المبارك : هي في الخطبة يوم الجمعة وضعف هذا القول بأنّ ما يقرأ في الخطبة من القرآن قليل وبأنّ الآية مكية والخطبة لم تكن إلا بعد الهجرة من مكة ، وقال ابن جبير إنها في الأنصات يوم الأضحى ويوم الفطر ويوم الجمعة وفيما يجهر فيه الإمام من الصلاة ، وقال ابن مسعود أيضاً : كان يسلم بعضنا على بعض في الصلاة ويكلمه في حاجته فأمرنا بالسكوت في الصلاة بهذه الآية ،

وقال ابن عباس : قرأ في الصلاة المكتوبة

وقرأ الصحابة رافعي أصواتهم فخلطوا عليه فالآية فيهم ،

وقيل : هو أمر بالاستماع والإنصات إذ أدّى الوحي ، وقال جماعة منهم الزجاج : ليس المراد الصلاة ولا غيرها وإنما المراد بقوله فاستمعوا له وأنصتوا اعملوا بما فيه ولا تجاوزوه ، كقولك : سمع اللّه دعاءك أي أجابك ، وقال الحسن : هي على عمومها ففي أي موضع قرىء القرآن وجب على كل حاضر استماعه والسكوت والخطاب في قوله فاستمعوا إن كان للكفار فترجى لهم الرحمة باستماعه والإصغاء إليه بأن كان سبباً لإيمانهم وإن كان للمؤمنين

فرحمتهم هو ثوابهم على الاستماع والإنصات والعمل بمقتضاه ، وإن كان للجميع فرحمة كلّ منهم على ما يناسبه ولعلّ باقية على بابها من توقع الترجي ،

وقيل : هي للتعليل .

٢٠٤

واذكر ربك في . . . . .

{وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوّ وَالاْصَالِ وَلاَ تَكُنْ مّنَ الْغَافِلِينَ} لما أمرهم تعالى بالاستماع والإنصات إذا شرع في قراءة القرآن ارتقى من أمرهم إلى أمر الرسول صلى اللّه عليه وسلم أن يذكر ربه في نفسه أي بحيث يراقبه ويذكره في الحالة التي لا يشعر بها أحد وهي الحالة الشريفة العليا ، ثم أمره أن يذكره دون الجهر من القول أي يذكره بالقول الخفي الذي لا يشعر بالتذلّل والخشوع من غير صياح ولا تصويت شديد كما تناجى الملوك وتستجلب منهم الرغائب ، وكما قال للصحابة وقد جهروا بالدعاء إنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائباً اربؤوا على أنفسكم وكان كلام الصحابة رضي اللّه عنهم للرسول صلى اللّه عليه وسلم سراراً وكما

قال تعالى :{ إَنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ }

وقال تعالى :{ لاَ تَرْفَعُواْ أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِىّ وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِالْقَوْلِ } لأنّ في الجهر عدم مبالاة بالمخاطب وظهور استعلاء وعدم تذلّل والذكر شامل لكلّ من التهليل والتسبيح وغير ذلك وانتصب تضرّعاً وخيفة على أنهما مفعولان من أجلهما لأنهما يتسبب عنهما الذكر وهو التضرّع في اتصال الثواب والخوف من العقاب ويحتمل أن ينتصبا على أنهما مصدران في موضع الحال أي متضرعاً وخائفاً أو ذا تضرُّع وخيفة ، وقرىء وخفية والظاهر أن قوله واذكر خطاب للرسول صلى اللّه عليه وسلم ،

وقيل : خطاب لكلّ ذاكر ، و

قال ابن عطية : خطاب له ويعمّ جميع أمته ، والظاهر تعلّق الذكر بالرب تعالى لأنّ استحضار الذات المقدسة استحضار لجميع أوصافها ،

وقيل : هو على حذف مضاف أي واذكر نعم ربك في نفسك باستدامة الفكر حتى لا تنسى نعمه الموجبة لدوام الشكر ، وفي لفظة ربك من التشريف بالخطاب والإشعار بالإحسان الصادر من المالك للملوك ما لا خفاء فيه ولم يأت التركيب واذكر اللّه ولا غيره من الأسماء وناسب أيضاً لفظ الرب قوله تضرعاً وخيفة لأنّ فيه التصريح بمقام العبودية والظاهر أن قوله ودون الجهر من القول حالة مغايرة لقوله في نفسك لعطفها عليها والعطف يقتضي التغاير ، و

قال ابن عطية : والجمهور على أن الذكر لا يكون في النفس ولا يراعى إلا بحركة اللسان قال : ويدل عليه من هذه الآية قوله تعالى ودون الجهر من القول فهذه مرتبة السرّ والمخافتة باللفظ انتهى ، ولا دلالة في ذلك لما زعم بل الظاهر المغايرة بين الحالتين وأنهما ذكران نفساني ولساني ، ولذلك

قال الزمخشري ومتكلماً كلاماً دون الجهر لأن الإخفاء أدخل في الإخلاص وأقرب إلى جنس التفكر انتهى ، ولما ذكر حالتي الذكر وسببهما وهما التضرُّع والخفية ذكر أوقات الذكر فقيل : أراد خصوصية الوقتين لأنهم كانوا يصلون في وقتين قبل فرض الخمس ، وقال قتادة : الغدوّ صلاة الصبح والآصال : صلاة العصر ،

وقيل : خصهما بالذكر لفضلهما ،

وقيل : المعنى جميع الأوقات وعبر بالطرفين المشعرين بالليل والنهار والغدوّ ، قيل : جمع غدوة فعلى هذا تظهر المقابلة لاسم جنس بجمع ويكون المراد بالغدوات والعشايا وإن كان مصدر الغداء فالمراد بأوقات الغدوّ حتى يقابل زمان مجموع بزمان مجموع .

وقرأ أبو مجلز لاحق بن حميد السدوسي البصري والإيصال جعله مصدراً لقولهم آصلت أي دخلت في وقت الأصيل فيكون قد قابل مصدراً بمصدر ويكون كأعصر أي دخل في العصر وهو العشي وأعتم أي دخل في العتمة ، ولما أمره بالذكر أكد ذلك بالنهي عن أن يكون من الغافلين أي استلزم الذكر ولا تغفل طرفة عين ومعلوم أنه عليه السلام تستحيل عليه الغفلة لعصمته فهو نهي له صلى اللّه عليه وسلم والمراد أمته .

٢٠٦

إن الذين عند . . . . .

{إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ } هم الملائكة عليهم السلام ومعنى العنديّة الزّلفى والقرب منه تعالى بالمكانة لا بالمكان وذلك لتوفّرهم على طاعته وابتغاء مرضاته ولما أمر تعالى بالذكر ورغب في المواعيظ عليه ذكر من شأنهم ذلك فأخبر عنهم بأخبار ثلاثة ، الأول نفي : الاستكبار عن عبادته وذلك هو إظهار العبوديّة

ونفي الاستكبار هو الموجب للطاعات كما أن الاستكبار هو الموجب للعصيان لأنّ المستكبر يرى لنفسه شفوفاً ومزية فيمنعه ذلك من الطاعة ،

الثاني : إثبات التسبيح منهم له تعالى وهو التنزيه والتطهير عن جميع ما لا يليق بذاته المقدّسة ، و

الثالث : السجود له قيل : وتقديم المجرور يؤذن بالاختصاص أي لا يسجدون إلا له والذي يظهر أنه إنما قدم المجرور ليقع الفعل فاصلة فاخره لذلك ليناسب ما قبله من رؤوس الآي ولما كانت العبادة ناشئة عن انتفاء الاستكبار وكانت على قسمين عبادة قلبية وعبادة جسمانية ذكرهما ، فالقلبية تنزيه اللّه تعالى عن كل سوء والجسمانية السجود وهو الحال التي يكون العبد فيها أقرب إلى اللّه تعالى وفي الحديث أطّت السماء وحقّ لها أن تئط ما فيها موضع شبر إلا وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد وله يسجدون هو مكان سجدة

وقيل : سجود التلاوة أربع سجدات { الم تَنزِيلَ }{ مُّسْتَقِيمٍ تَنزِيلَ } والنجم والعلق وذكر عن ابن عباس أنها عشر أسقط آخر الحج وص وثلاثاً في المفصل وروي عن مالك إحدى عشرة أسقط آخرة الحج وثلاث المفصل ، وعن ابن وهب أربع عشرة أسقط ثانية الحجّ وهو قول أبي حنيفة والشافعي لكن أبو حنيفة أسقط ثانية الحج وأثبت ص وعكس الشافعي وعن ابن وهب أيضاً وابن حبيب خمس عشرة آخرها خاتمة العلق وعن بعض العلماء ست عشرة وزاد سجدة الحجر والجمهور على أنه ليس بواجب وقال أبو حنيفة هو واجب ولا خلاف في أن شرطه شرط الصلاة من طهارة خبث وحدث ونيّة واستقبال ووقت إلا ما روى البخاري عن ابن عمرو وابن المنكدر عن الشعبي أنه يسجد على غير طهارة وذهب الشافعي وأحمد وإسحاق إلى أنه يكبر ويرفع اليدين وقال مالك يكبر لها في الخفض ، والرفع في الصلاة

وأما في غير الصلاة فاختلف عنه ويسلّم عند الجمهور ، وقال جماعة من السلف وإسحاق : لا يسلم ووقتها سائر الأوقات مطلقاً لأنها صلاة بسبب وهو قول الشافعي وجماعة ،

وقيل : ما لم يسفر ولم تصفرّ الشمس ،

وقيل : لا يسجد بعد الصبح ولا بعد العصر

وقيل بعد الصبح لا بعد العصر ، وثلاثة الأقوال هذه في مذهب مالك ، وفي سنن ابن ماجه عن ابن عباس أنه عليه السلام : كان يقول في سجود التلاوة { اللّهم احطط عني بها وزراً واكتب لي بها أجراً واجعلها لي عندك ذخراً} ، ومشهور مذهب مالك أنه لا يسجد في الفريضة سرًّا كانت أو جهراً ومذهب أبي حنيفة أنه واجب على السامع قصد الاستماع أوّلاً . والحمد للّه أولاً وآخراً ، وظاهراً وباطناً .

﴿ ٠