سورة الأنفالمدنية بسم اللّه الرحمن الرحيم ١يسألونك عن الأنفال . . . . . النفل : الزيادة على الواجب وسميت الغنيمة به لأنها زيادة على القيام بحماية الحوزة قال لبيد إنّ تقوى ربّنا خير نفل وبإذن اللّه ريثي وعجل أي خير غنيمة وقال غيره : إنّا إذا احمرّ الوغى فروي القنا ونعف عند مقاسم الأنفال الوجَل الفزع . الشّوكة قال المبرد السلاح وأصله من الشوك النبت النبت الذي له خربشة السلاح به يقال رجل شاكي السلاح إذا كان حديد السّنان والنّصل وأصله شائك وهو اسم فاعل من الشوكة قال : لديّ أسد شاكي السلاح مقذف له لبد أظفاره لم تقلم وقال أبو عبيدة : الشاكي والشائك جميعاً ذو الشوكة وانجر في سلاحه ويوصف به السلاح كما يوصف به الرجل قال : وألبس من رضاه في طريقي سلاحاً يذعر الأبطال شاكا ويقال : رجل شاكٍ وسلاح شاكٍ وشاك فشاك أصله شوك نحو كبش صاف أي صوف وشاك إما محذوفة أو مقلوب وإيضاح هذا في علم النحو . الاستغاثة طلب الغوث والنصر غوث الرجل قال واغوثاه والاسم الغوث والغواث والغواث . وقيل الاستغاثة طلب سر الخلة وقت الحاجة ، وقيل الاستجارة . ردف وأردف بمعنى واحد تبع ويقال أردفته إياه أي اتبعته . العنق معروف وجعه في القلة على أعناق وفي الكثرة على عنوق . البنان الأصابع وهو اسم جنس واحده بنانة وقالوا فيه البنام بالميم بدل النون قال رؤبة : يا هال ذات المنطق التمتام وكفك المخضّب البنام {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الانفَالِ قُلِ الانفَالُ للّه وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللّه وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّه وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } هذه السورة مدنية كلها . قال ابن عباس : إلا سبع آيات أوّلها { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ } إلى آخر الآيات . وقال مقاتل غير آية واحدة وهي { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ } الآية نزلت في قصة وقعت بمكّة ويمكن أن تنزل الآية بالمدينة في ذلك ولا خلاف أنها نزلت في يوم بدر وأمر غنائمه وقد طول المفسرون الزمخشري وابن عطيّة وغيرهما في تعيين ما كان سبب نزول هذه الآيات وملخّصها : أنّ نفوس أهل بدر تنافرت ووقع فيها ما يقع في نفوس البشر من إرادة الأثَرة والاختصاص ، ونحن لا نسمي من أبلي ذلك اليوم فنزلت ورضي المسلمون وسلموا وأصلح اللّه ذات بينهم واختلف المفسّرون في المراد بالأنفال . فقال ابن عباس وعكرمة ومجاهد والضحاك وقتادة وعطاء وابن زيد : يعني الغنائم مجملة قال عكرمة ومجاهد : كان هذا الحكم من اللّه لدفع الشغب ثم نسخ بقوله : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مّن شَىْء } الآية . وقال أبو زيد لا نسخ إنما أخبر أنّ الغنائم للّه من حيث هي ملكه ورزقه وللرسول من حيث هو مبيّن لحكم اللّه والمضارع فيها ليقع التسليم فيها من الناس وحكم القسمة قاتل خلال ذلك ، وقال ابن عباس أيضاً : الأنفال في الآية ما يعطيه الإمام لمن أراد من سيف أو فرس أو نحوه ، وقال علي بن صالح وابن جني والحسن : الأنفال في الآية الخمس ، وقال ابن عباس وعطاء أيضاً : الأنفال في الآية ما شذّ من أموال المشركين إلى المسلمين كالفرس الغائر والعبد الآبق وهو للنبي صلى اللّه عليه وسلم يصنع فيه ما يشاء ، وقال ابن عباس أيضاً : الأنفال في الآية ما أصيب من أموال المشركين بعد قسمة الغنيمة . وهذه الأقوال الأربعة مخالفة لما تظافرت عليه أسباب النزول المروية والجيّد هو القول الأول وهو الذي تظاهرت الروايات به ، وقال الشعبي : الأنفال الأسرى وهذا إنما هو منه على جهة المثال وقد طول ابن عطية وغيره في أحكام ما ينقله الإمام وحكم السّلب وموضوع ذلك كتب الفقه وضمير الفاعل في يسألونك ليس عائداً على مذكور قبله إنما يفسّره وقعة بدر ، فهو عائد على من حضرها من الصحابة وكان السائل معلوم معين ذلك اليوم فعاد الضمير عليه والخطاب للرسول صلى اللّه عليه وسلم والسؤال قد يكون لاقتضاء معنى في نفس المسؤول فيتعدى إذ ذاك بعن كما قال : سلي إن جهلت الناس عنا وعنهم وقال تعالى :{ يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ }{ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ } وكذا هنا { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الانفَالِ } حكمها ولمن تكون ولذلك جاء الجواب { قُلِ الانفَالُ للّه وَالرَّسُولِ } وقد يكون السؤال لاقتضاء مال ونحوه فيتعدى إذ ذاك لمفعولين تقول سألت زياداً مالاً وقد جعل بعض المفسرين السؤال هنا بهذا المعنى وادعى زيادة عن ، وأن التقدير يسألونك الأنفال ، وهذا لا ضرورة تدعو إلى ذلك ، وينبغي أن تحمل قراءة من قرأ بإسقاط عن على إرادتها لأن حذف الحرف ، وهو مراد معنى ، أسهل من زيادته لغير معنى غير التوكيد وهي قراءة سعد بن أبي وقاص وابن مسعود وعلي بن الحسين وولديه زيد ومحمد الباقر وولده جعفر الصادق وعكرمة وعطاء والضحاك وطلحة بن مصرف . وقيل عن بمعنى من أي يسألونك من الأنفال ولا ضرورة تدعو إلى تضمين الحرف معنى الحرف ، وقرأ ابن محيصن علنفال نقل حركة الهمزة إلى لام التعريف وحذف الهمزة واعتدّ بالحركة المعارضة فأدغم نحو ، وقد تبين لكم ، ومعنى { قُلِ الانفَالُ للّه وَالرَّسُولِ } ليس فيها لأحد من المهاجرين ولا من الأنصار ولا فوض إلى أحد بل ذلك مفوض للّه على ما يريده وللرسول حيث هو مبلغ عن اللّه الأحكام وأمرهم بالتقوى ليزول عنهم التخاصم ويصيروا متحابين في اللّه وأمر بإصلاح ذات البَين وهذا يدلّ على أنه كانت بينهم مباينة ومباعدة ربما خيف أن تفضي بهم إلى فساد ما بينهم من المودة والمعافاة ، وتقدم الكلام على ذات في قوله بذات الصدور ، والبين هنا الفراق والتباعد وذات هنا نعت لمفعول محذوف أي وأصلحوا أحوالاً ذات افتراقكم لما كانت الأحوال ملابسةً للبين أُضيفت صفتها إليه كما تقول اسقني ذا إنائك أي ماء صاحب إنائك لما لابس الماء الإناء وصف بذا وأُضيف إلى الإناء والمعنى اسقني ما في الإناء من الماء . قال ابن عطية : وذات في هذا الموضع يُراد بها نفس الشيء وحقيقته والذي يفهم من بينكم هو معنى يعمّ جميع الوصل والالتحامات والمودّات وذات ذلك هو المأمور بإصلاحها أي نفسه وعينه فخضّ اللّه على إصلاح تلك الأجزاء وإذا حصلت تلك حصل إصلاح ما يعمها وهو البين الذي لهم ، وقد تُستعمل لفظة الذات على أنها لزيمة ما يضاف إليه وإن لم يكن نفسه وعينه وذلك في قوله { عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } م و { ذَاتِ الشَّوْكَةِ } ويحتمل ذات البين أن تكون هذه وقد يقال الذات أيضاً بمعنى آخر وإن كان يقرب من هذا وهو قولهم فعلت كذا ذات يوم ومنه قول الشاعر : لا ينبح الكلب فيها غير واحدة ذات العشاء ولا تسري أفاعيها وذكر الطبري عن بعضهم أنه قال ذات بينكم الحال التي بينكم كما ذات العشاء الساعة التي فيها العشاء ووجهه الطبري ، وهو قول بين الانتقاض انتهى وتلخص أن البين يطلق على الفراق ويطلق على الوصل وهو قول الزجاج هنا قال ومثله لقد تقطّع بينُكم ويكون ظرفاً بمعنى وسط ، ويحتمل ذات أن تضاف لكل واحد من هذه المعاني وإنما اخترنا في أنه بمعنى الفراق لأن استعماله فيه أشهر من استعماله في الوصل ولأن إضافة ذات إليه أكثر من إضافة ذات إلى بين الظرفية لأنها ليست كثيرة التصرف بل تصرّفها كتصرّف أمام وخلف وهو تصرّف متوسط ليس بكثير ، وأمر تعالى أولاً بالتقوى لأنها أصل للطاعات ثم بإصلاح ذات البين لأنّ ذلك أهم نتائج التقوى في ذلك الوقت الذي تشاجروا فيه ، ثم أمر بطاعته وطاعة رسوله فيما أمركم به من التقوى والإصلاح وغير ذلك ومعنى إن كنت مؤمنين أي كنتم كاملي الإيمان ، وتسنن هنا الزمخشري واضطرب فقال : وقد جعل التقوى وإصلاح ذات البين وطاعة اللّه تعالى والرسول صلى اللّه عليه وسلم من لوازم الإيمان وموجباته ليعلمهم أنّ كمال الإيمان موقوف على التوفر عليها ومعنى إن كنتم مؤمنين إن كنتم كاملي الإيمان . قال ابن عطية : كما يقول الرجل إن كنت رجلاً فافعل كذا أي إن كنت كاملَ الرجوليّة ، قال : وجواب تلشرط في قوله المتقدم وأطيعوا هذا مذهب سيبويه ومذهب أبي العباس أن الجوابَ محذوف متخر يدلّ عليه المتقدم تقديره إن كنتم مؤمنين أطيعوا ومذهبه في هذا أن لا يتقدّم الجواب على الشرط انتهى . والذي مخالف لكلام النحاة فإنهم يقولون إن مذهب سيبويه أن الجواب محذوف وأن مذهب أبي العباس وأبي زيد الأنصاري والكوفيين جواز تقديم جواب الشرط عليه وهذا النقل هو الصحيح . ٢إنما المؤمنون الذين . . . . . {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّه وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءايَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } قرىء وجلت بفتح الجيم وهي لغة وقرأ ابن مسعود فرقت ، وقرأ أبيّ فزعت وينبغي أن تُحمل هاتان القراءتان على التفسير ولما كان معنى ، إن كنتم مؤمنين ، قال : إنما المؤمنون أي الكاملو الإيمان ، ثم أخبر عنهم بموصول وصل بثلاث مقامات عظيمة مقام الخوف ، ومقام زيادة الإيمان ، ومقام التوكل ، ويحتمل قوله إذا ذكر اللّه أن يذكر اسمه ويلفظ به تفزع قلوبهم لذكره استعظاماً له وتهيباً وإجلالاً ويكون هذا الذكر مخالفاً للذكر في قوله { ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللّه } لأنّ ذكرَ اللّه هناك رأفته ورحمته وثوابه ويحتمل أن يكون ذكر اللّه على حذف مضاف أي ذكرت عظمة اللّه وقدرته وما خوف به من عصاه قاله الزجاج ، وقال السدّي : هو الرجل يهمّ بالمعصية فيذكر اللّه فيفزع عنها وفي الحديث في السبع الذين يُظلّهم اللّه تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله ، ورجل دعته امرأة ذات جمال ومنصب فقال إني أخاف اللّه ، ومعنى زادتهم إيماناً أي يقيناً وتثبيتاً لأن تظاهر الأدلة وتظافرها أقوى على الطمأنينة المدلول عليه وأرسخ لقدمه . وقيل المعنى أنه إذا كان لم يسمع حكماً من أحكام القرآن منزّل للنبيّ صلى اللّه عليه وسلم فآمن به زاد إيماناً إلى سائر ما قد آمن به إذ لكلّ حكم تصديق خاص ، ولهذا قال مجاهد عبر بزيادة الإيمان عن زيادة العلم وأحكامه . وقيل زيادة الإيمان كناية عن زيادة العمل ، وعن عمر بن عبد العزيز أن للإيمان سنة وفرائض وشرائع فمن استكملها استكمل الإيمان ، وقيل هذا في الظالم يوعظ فيقال له اتّقِ اللّه فيقلع فيزيده ذلك إيماناً والظاهر أن قوله { وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } داخل في صلة الذين كما قلنا قبل ، وقيل هو مستأنف وترتيب هذه المقامات أحسن ترتيب فبدأ بمقام الخوف إما خوف الإجلال والهيبة وإما خوف العقاب ، ثم ثانياً بالإيمان بالتكاليف الواردة ، ثم ثالثاً بالتفويض إلى اللّه والانقطاع إليه ورخص ما سواه . ٣الذين يقيمون الصلاة . . . . . {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَواةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } الأحسن أن يكون { الَّذِينَ } صفة للذين السابقة حتى تدخل في حيّز الجزئية فيكون ذلك إخباراً عن المؤمنين بثلاث الصفة القلبية وعنهم بالصفة البدنية والصفة المالية وجمع أفعال القلوب لأنها أشرف وجمع في أفعال الجوارح بين الصلاة والصدقة لأنهما عموداً أفعال وأجاز الحوفي والبريزي أن يكون { الَّذِينَ } بدلاً من الذين وأن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هم الذين والظاهر أن قوله و { مّمّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } عام في الزكاة ونوافل الصدقات وصلات الرحم وغير ذلك من المبار المالية ، وقد خصّ ذلك جماعة من المفسرين بالزكاة لاقترانها بالصلاة . ٤أولئك هم المؤمنون . . . . . {أُوْلئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً } قال ابن عطيّة { حَقّاً } مصدر مؤكد كذا نص عليه سيبويه وهو المصدر غير المنتقل والعامل فيه أحقّ ذلك حقاً انتهى ، ومعنى ذلك أنه تأكيد لما تضمنته الجملة من الإسناد الخبري وأنه لا مجاز في ذلك الإسناد . وقال الزمخشري حقاً صفة للمصدر المحذوف أي أولئك هم المؤمنون إيماناً حقًّا وهو مصدر مؤكد للجملة التي هي أولئك هم المؤمنون كقوله هو عبد اللّه حقاً أي حقّ ذلك حقاً . وعن الحسن أنه سأله رجل أمؤمن أنت قال : الإيمان إيمانان فإن كانت تسألني عن الإيمان باللّه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والجنة والنار والبعث والحساب ، فأنا مؤمن ، وإن كنت تسألني عن قوله إنما المؤمنون فواللّه لا أدري أمنهم أنا أم لا وأبعد من زعم أن الكلام ثم عند قوله أولئك هم المؤمنون وأنّ حقاً متعلق بما بعده أي حقاً لهم درجات وهذا لأنّ انتصابَ حقاً على هذا التقدير يكون عن تمام جملة الابتداء بمكان التأخير عنها لأنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة فلا يجوز تقديمه وقد أجازه بعضهم وهو ضعيف . {لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } لما تقدمت ثلاث صفات قلبية وبدنية ومالية ترتّب عليها ثلاثة أشياء فقوبلت الأعمال القلبية بالدرجات ، والبدنية بالغفران ، وفي الحديث أن رجلاً أتى من امرأة أجنبية ما يأتيه الرجل من أهله غير الوطء ، فسأله الرسول صلى اللّه عليه وسلم لما أخبر بذلك أصلّيت معنا فقال نعم فقال له : غفر اللّه لك وقوبلت المالية بالرزق بالكريم وهذا النوع من المقابلة من بديع علم البيان . وقال ابن عطية والجمهور : إنّ المراد مراتب الجنة ومنازلها ودرجاتها على قدر أعمالهم ، وحكى الطبري عن مجاهد أنها درجات أعمال الدنيا وقوله ورزق كريم يريد به مآكل الجنة ومشاربها وكريم صفة تقتضي رفع المقام كقوله ثوب كريم وحسب كريم ، وقال الزمخشري درجات شرف وكرامة وعلوّ منزلة ومغفرة وتجاوز لسيئاتهم ورزق كريم ونعيم الجنة منافع حسنة دائمة على سبيل التعظيم وهذا معنى الثواب انتهى . وقال عطاء درجات الجنة يرتقونها بأعمالهم ، وقال الربيع بن أنس سبعون درجة ما بين كل درجتين حضر الفرس المضمر سبعين سنة وقيل مراتب ومنازل في الجنة بعضها على بعض ، وفي الحديث أنّ أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف كما يتراءى الكوكب الدرّيّ وثلاثة الأقوال هذه تدل على أنه أريد الدرجات حقيقة وعن مجاهد درجات أعمال رفيعة . ٥انظر تسفير الآية:٦ ٦كما أخرجك ربك . . . . . {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقّ وَإِنَّ فَرِيقاً مّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقّ بَعْدَمَا مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ } اضطرب المفسرون في قوله { كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقّ } واختلفوا على خمسة عشر قولاً . أحدها أن الكاف بمعنى واو القسم وما بمعنى الذي واقعة على ذي العلم وهو اللّه كما وقعت في قوله وما خلق الذكر والأنثى وجواب القسم يجادلونك ، والتقدير واللّه الذي أخرجك من بيتك يجادلونك في الحق قاله أبو عبيدة وكان ضعيفاً في علم النحو ، وقال الكرماني هذا سهو ، وقال ابن الأنباري الكاف ليست من حروف القسم انتهى . وفيه أيضاً أن جواب القسم بالمضارع المثبت جاء بغير لام ولا نون توكيد ولا بدّ منهما في مثل هذا على مذهب البصريين أو من معاقبة أحدهما الآخر على مذهب الكوفيين ، أما خلوّه عنهما أو أحدهما فهو قول مخالف لما أجمع عليه الكوفيون والبصريون ، القول الثاني أن الكاف بمعنى إذ وما زائدة تقديره أذكر إذ أخرجك وهذا ضعيف لأنه لم يثبت أن الكاف تكون بمعنى إذ في لسان العرب ولم يثبت أن ما تزاد بعد هذا غير الشرطيّة وكذلك لا تزاد ما ادعى أنه بمعناها ، القول الثالث الكاف بمعنى على وما بمعنى الذي تقديره امض على الذي أخرجك ربك من بيتك وهذا ضعيف لأنه لم يثبت أنّ الكاف تكون بمعنى على ولأنه يحتاج الموصول إلى عائد وهو لا يجوز أن يحذف في مثل هذا التركيب ، القول الرابع قال عكرمة : التقدير وأطيعوا اللّه ورسوله إن كنتم مؤمنين كما أخرجك في الطاعة خير لكم كما كان إخراجك خيراً لهم ، القول الخامس قال الكسائي وغيره كما أخرجك ربك من بيتك على كراهة من فريق منهم كذلك يجادلونك في قتال كفار مكة ويودّون غير ذات الشوكة من بعدما تبين لهم أنك إنما تفعل ما أمرت به لا ما يريدون ، قال ابن عطية والتقدير على هذا التأويل يجادلونك في الحق مجادلةً لكراهتهم إخراج ربك إياك من بيتك فالمجادلة على هذا التأويل بمثابة الكراهة وكذا وقع التشبيه في المعنى وقائل هذا المقالة يقول إنّ المجادلين هم المشركون ، القول السادس قال الفراء : التقدير امض لأمرك في الغنائم ونفل من شئت إن كرهوا كما أخرجك ربك انتهى . قال ابن عطية : والعبارة بقوله إمضِ لأمرك ونفل من شئت غير محرّرة وتحرير هذا المعنى عندي أن يقال هذه الكاف شبهت هذه القصة التي هي إخراجه من بيته بالقصة المتقدمة التي هي سؤالهم عن الأنفال كأنهم سألوا عن النفل وتشاجروا فأخرج اللّه ذلك عنهم فكانت هذه الخيرة كما كرهوا في هذه القصة انبعاث النبي صلى اللّه عليه وسلم بإخراجه اللّه من بيته فكانت في ذلك الخيرة وتشاجرهم في النفل بمثابة كراهيتهم ههنا الخروج ، وحكم اللّه في النفل بأنه للّه والرسول فهو بمثابة إخراجه نبيه صلى اللّه عليه وسلم من بيته ثم كانت الخيرة في القصتين مما صنع اللّه وعلى هذا التأويل يمكن أن يكون قوله يجادلونك كلاماً مستأنفاً يراد به الكفار أي يجادلونك في شريعة الإسلام من بعدما تبين الحقّ فيها كأنما يساقون إلى الموت في الدعاء إلى الإيمان وهذا الذي ذكرت من أن يجادلونك في الكفار منصوص ، قال ابن عطية : فهذان قولان مطردان يتم بهما المعنى ويحسن وصف اللفظ انتهى . ونعني بالقولين قول الفراء وقول الكسائي وقد كثر الكلام في هاتين المقالتين ولا يظهران ولا يلتئمان من حيث دلالة العاطف ، القول السابع قال الأخفش : الكاف نعت لحقاً والتقدير هم المؤمنون حقًّا كما أخرجك ، قال ابن عطية والمعنى على هذا التأويل كما زاد لا يتناسق ، القول الثامن أن الكاف في موضع رفع والتقدير كما أخرجك ربك فاتقوا اللّه كأنه ابتداء وخبر . قال ابن عطية : وهذا المعنى وضعه هذا المفسر وليس من ألفاظ الآية في ورد ولا صدر ؛ القول التاسع قال الزجاج الكاف في موضع نصب والتقدير الأنفال ثابتة للّه ثباتاً كما أخرجك ربك وهذا الفعل أخذه الزمخشري وحسنه . فقال ينتصب على أنه صفة مصدر للفعل المقدّر في قوله الأنفال للّه والرسول أي الأنفال استقرت للّه والرسول وثبتت مع كراهتهم ثباتاً مثل ثبات إخراج ربك إياك من بيتك وهم كارهون انتهى ، وهذا فيه بعد لكثرة الفصل بين المشبّه والمشبّه به ولا يظهر كبير معنى لتشبيه هذا بهذا بل لو كانا متقاربين لم يظهر للتشبيه كبير فائدة ، القول العاشر أن الكاف في موضع رفع والتقدير لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم هذا وعد حقّ كما أخرجك وهذا في حذف مبتدأ وخبر ولو صرّح بذلك لم يلتئم التشبيه ولم يحسن ؛ القول الحادي عشر أنّ الكاف في موضع رفع أيضاً والمعنى وأصلحوا ذات بينكم ذلكم خير لكم كما أخرجك فالكاف نعت لخبر ابتدأ محذوف وهذا أيضاً فيه حذف وطول فصل بين قوله وأصلحوا وبين كما أخرجك ، القول الثاني عشر أنه شبه كراهية أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بخروجه من المدينة حين تحققوا خروج قريش للدفع عن أبي سفيان وحفظ غيره بكراهيتهم نزع الغنائم من أيديهم وجعلها للرسول أو التنفيل منها وهذا القول أخذه الزمخشري وحسّنه فقال : يرتفع محلّ الكاف على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره هذا الحال كحال إخراجك يعني أنّ حالهم في كراهة ما رأيت من تنفيل القراءة مثل حالهم في كراهة خروجهم للحرب وهذا النهي قاله هذا القائل وحسّنه الزمخشري هو ما فسر به ابن عطية قول الفراء بقوله هذه الكاف شبهت هذه القصة التي هي إخراجه من بيته بالقصة المتقدمة التي هي سؤالهم عن الأنفال إلى آخر كلامه ، القول الثالث عشر أن المعنى قسمتك للغنائم حق كما كان خروجك حقاً ؛ القول الرابع عشر أنّ التشبيه وقع بين إخراجين أي إخراجك ربك إياك من بيتك وهو مكة وأنت كاره لخروجك وكانت عاقبة ذلك الخير والنصر والظفر كإخراج ربك إياك من المدينة وبعض المؤمنين كاره يكون عقيب ذلك الظفر والنصر القول الخامس عشر الكاف للتشبيه على سبيل المجاز كقول القائل لعبده كما وجهتك إلى أعدائي فاستضعفوك وسألت مدداً فأمددتك وقويْتُك وأزحت عللك فخذْهم الآن فعاقبهم بكذا وكم كسوتك وأجريت عليك الرزق فاعمل كذا وكما أحسنت إليك ما شكرتني عليه فتقدير الآية كما أخرجك ربّك من بيتك بالحق وغشاكم النعاس أمنه منه يعني به إياه ومن معه وأنزل من السماء ماء ليطهركم به وأنزل عليكم من السماء ملائكة مردفين فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كلّ بنان كأنه يقول قد أزحت عللكم وأمددتكم بالملائكة فاضربوا منهم هذه المواضع وهو القتل لتبلغوا مراد اللّه في إحقاق الحق وإبطال الباطل ، وملخّص هذا القول الطويل أن { كَمَا أَخْرَجَكَ } يتعلق بقوله فاضربوا وفيه من الفصل والبعد ما لا خفاء به وقد انتهى ذكر هذه الأقوال الخمسة عشر التي وقفنا عليها . ومن دفع إلى حوك الكلام وتقلّب في إنشاء أفانينه وزاول الفصاحة والبلاغة لم يستحسن شيئاً من هذه الأقوال وإن كان بعض قائلها له إمامة في علم النحو ورسوخ قدم لكنه لم يحتط بلفظ الكلام ولم يكن في طبعه صوغه أحسن صوغ ولا التصرّف في النظر فيه من حيث الفصاحة وما به يظهر الإعجاز . وقبل تسطير هذه الأقوال هنا وقعت على جملة منها فلم يلق لخاطري منها شيء فرأيت في النوم أنني أمشي في رصيف ومعي رجل أباحثه في قوله { كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقّ } فقلت له ما مرّ بي شيء مشكل مثل هذا ولعل ثم محذوفاً يصح به المعنى وما وقفت فيه لأحد من المفسرين على شيء طائل ثم قلت له ظهر لي الساعة تخريجه وإن ذلك المحذوف هو نصرك واستحسنت أنا وذلك الرجل هذا التخريج ثم انتبهت من النوم وأنا أذكره ، والتقدير فكأنه قيل كما أخرجك ربك من بيتك بالحق أي بسبب إظهار دين اللّه وإعزاز شريعته وقد كرهوا خروجك تهيباً للقتال وخوفاً من الموت إذ كان أمر النبي صلى اللّه عليه وسلم لخروجهم بغتة ولم يكونوا مستعدين للخروج وجادلوك في الحق بعد وضوحه نصرك اللّه وأمدّك بملائكته ودلّ على هذا المحذوف الكلام الذي بعده وهو قوله تعالى إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم الآيات ، ويظهر أن الكاف في هذا التخريج المنامي ليست لمحض التشبيه بل فيها معنى التعليل ، ود نص النحويون على أنها قد تحدث فيها معنى التعليل وخرجوا عليه قوله تعالى : { وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ } وأنشدوا : لا تشتم الناس كما لا تشتم أي لانتفاء أن يشتمك الناس لا تشتمهم ومن الكلام الشائع على هذا المعنى كما تطيع اللّه يدخلك الجنة أي لأجل طاعتك اللّه يدخلك الجنة فكان المعنى إن خرجت لإعزاز دين اللّه وقتل أعدائه نصرك اللّه وأمدّك بالملائكة والواو في وإن فريقاً واو الحال والظاهر أن من بيتك هو مقام سكناه وقيل المدينة لأنها مهاجره ومختصة به ، وقيل مكة وفيه بعد لأن الظاهر أن هذا إخبار عن خروجه إلى بدر فصرفه إلى الخروج من مكة ليس بظاهر ومفعول لكارهون هو الخروج أي لكارهون الخروج معك وكراهتهم ذلك إما لنفرة الطبع أو لأنهم لم يستنفروا أو العدول من العير إلى النفير لما في ذلك من قوّة أخذ الأموال ولما في هذا من القتل والقتال ، أو لترك مكة وديارهم وأموالهم أقوال أربعة ، والظاهر أن ضمير الرفع في يجادلونك عائد على فريق المؤمنين الكارهين وجدالهم قولهم ما كان خروجنا إلا للعير ولو عرفنا لاستعددنا للقتال والحق هنا نصرة دين الإسلام ، وقيل الضمير يعود على المشركين وجدالهم في الحق هو في شريعة الإسلام . وقرأ عبد اللّه بعدما بين بضم الباء من غير تاء وفي قوله بعدما تبين إنكار عظيم عليهم لأنّ من جادل في شيء لم يتضح كان أخف عتباً أما من نازع في أمر واضح فهو جدير باللوم والإنكار ثم شبه حالهم في فرط فزعهم وهم يساريهم إلى الظفر والغنيمة بحال من يساق على الصفا إلى الموت وهو مشاهد لأسبابه ناظر إليها لا يشك فيها ، وقيل كان خوفهم لقلة العدد وأنهم كانوا رجالة ، وروي أنه ما كان فيهم إلا فارسان وكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر وكان المشركون في نحو ألف رجل وقصة بدر هذه مستوعبة في كتاب السير وقد لخص منها الزمخشري وابن عطية ما يوقف عليه في كتابيهما . ٧انظر تسفير الآية:٨ ٨وإذ يعدكم اللّه . . . . . {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّه إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّه أَن يُحِقَّ الحَقَّ } إحدى الطائفتين غير معينة والطائفتان هما كطائفة غير قريش وكانت فيهما تجارة عظيمة لهم ومعها أربعون راكباً فيها أبو سفيان وعمرو بن العاص وعمرو بن هشام وطائفة الذين استنفرهم أبو جهل وكانوا في العدد الذي ذكرناه وغير ذات الشوكة هي العير لأنها ليست ذات قتال وإنما هي غنيمة باردة ومعنى إثبات الحق تثبيته وإعلاؤه وبكلماته بآياته المنزلة في محاربة ذات الشوكة وبما أمر الملائكة من نزولهم للنصرة وبما قضى من أسرهم وقتلهم وطرحهم في قليب بدر وبما ظهر ما أخبر به صلى اللّه عليه وسلم وقطع الدابر عبارة عن الاستئصال والمعنى أنكم ترغبون في إبقاء العاجلة وسلامة الأحوال وسفساف الأمور وإعلاء الحق والفوز في الدارين ، وشتان ما بين المرادين ، ولذلك اختار لكم ذات الشوكة وأراكهم عياناً خذلهم ونصركم وأذلهم وأعزّكم وحصل لكم ما أربى على دائرة العير وما أدناه خير منهما ، وقرأ مسلمة بن محارب بعدكم بسكون الدال لتوالي الحركات وابن محيصن اللّه إحدى بإسقاط همزة إحدى على غير قياس ، وعنه أيضاً أحد على التذكير إذ تأنيث الطائفة مجاز ، وأدغم أبو عمرو الشوكة تكون ، وقرأ مسلم بن محارب بكلمته على التوحيد وحكاها ابن عطية عن شيبة وأبي جعفر ونافع بخلاف عنهم وأطلق المفر مراداً به الجمع للعلم به أو أريد به كلمة تكوين الأشياء وهو كن قيل وكلماته هي ما وعد نبيه في سورة الدخان فقال :{ يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ } أي من أبي جهل وأصحابه ، وقيل أوامره ونواهيه ، وقيل مواعيده النصر والظفر والاستيلاء على إحدى الطائفتين ، وقيل كلماته التي سبقت في الأزل ومعنى ليحقّ الحقّ ليظهر ما يجب إظهاره وهو الإسلام ويبطل الباطل فعل ذلك ؛ وقيل الحقّ القرآن والباطل إبليس وتتعلق هذه اللام بمحذوف تقديره ليحقّ الحقّ ويبطل الباطل فعل ذلك أي ما فعله إلا لهما وهو إثبات الإسلام وإظهاره وإبطال الكفر ومحوه وليس هذا بتكرير لاختلاف المعنيين الأول تبيين بين الإرادتين والثاني بيان لما فعل من اختيار ذات الشوكة على غيرها لهم ونصرتهم عليها وأنه ما نصرهم ولا خذل أولئك على كثرتهم إلا لهذا المقصد الذي هو أسنى المقاصد وتقدير ما تعلّق به متأخراً أحسن . قال الزمخشري ويجب أن يقدر المحذوف متأخراً حتى يفيد معنى الاختصاص وينطبق عليه المعنى انتهى ، وذلك على مذهبه في أنّ تقديم المفعول والمجرور يدل على الاختصاص والحصر وذلك عندنا لا يدل على ذلك إنما يدلّ على الاعتناء والاهتمام بما قدّم لا على تخصيص ولا حصر وتقدم الكلام معه في ذلك ؛ وقيل يتعلق ليحق بقوله ويقطع ؛ وقال ابن عطية ولو كره أي وكراهتكم واقعة فهي جملة في موضع الحال انتهى ، وقد تقدم لنا الكلام معه في ذلك وأن التحقيق فيه أن الواو للعطف على محذوف ذلك المحذوف في موضع الحال والمعطوف على الحال حال ومثّلنا ذلك بقوله أعطوا السائل ولو جاء على فرس أي على كل حال ولو على هذه الحالة التي تنافي الصدقة على السائل ، وأن ولو هذه تأتي لاستقصاء ما بطن لأنه لا يندرج في عموم ما قبله لملاقاة التي بين هذه الحال وبين المسند الذي قبلهما ، وقال الحسن هاتان الآيتان متقدمتان في النزول على قوله كما أخرجك ربك وفي القراءة بعدهما لتقابل الحق بالحق والكراهة بالكراهة انتهى ، وهذه دعوى لا دليل عليها ولا حاجة تضطرنا إلى تصحيحها . ٩إذ تستغيثون ربكم . . . . . {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مّنَ الْمَلَئِكَةِ مُرْدِفِينَ} استغاث طلب الغوث لما علموا أنه لا بدّ من القتال شرعوا في طلب الغوث من اللّه تعالى والدعاء بالنصرة والظاهر أنه خطاب لمن خوطب بقوله وإذ يعدكم وتودّون وأن الخطاب في قوله كما أخرجك ويجادلونك هو خطاب للرسول ولذلك أفرد فالخطابان مختلفان ، وقيل المستغيث هو النبي صلى اللّه عليه وسلم ، وروي عن ابن عباس أنه قال : حدثني عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه قال : لما كان يوم بدر نظر إلى أصحابه وهم ثلاثمائة ونيف وإلى المشركين وهم ألف فاستقبل القبلة ومدّ يده وهو يقول : اللّهم أنجزني ما وعدتني اللّهم إن تهلك هذه العصة بة لا تعبد في الأرض ولم يزل كذلك حتى سقط رداؤه فرده أبو بكر رضي اللّه عنه كفاك يا رسول اللّه مناشدتك اللّه فإنه سينجز لك ما وعدك ، قالوا فيكون من خطاب الواحد المعظّم خطاب الجميع ، وروي أن أبا جهل عندما اصطفّ القوم قال : اللّهم أولانا بالحق فانصره وإذ بدل من إذ يعدكم قاله الزمخشري وابن عطية وكان قد قدم أن العامل في إذ يعدكم اذكر ، وقال الطبري هي متعلقة بيحق ويبطل وأجاز هو والحوفي أن تكون منصوبة بيعدكم وأجاز الحوفي أن تكون مستأنفة على إضمار واذكروا وأجاز أبو البقاء أن تكون ظرفاً لتودون واستغاث يتعدى بنفسه كما هو في الآية ويتعدى بحرف جر كما جاء في لفظ سيبويه في باب الاستغاثة ، وفي باب ابن مالك في النحو المستغاث ولا يقول المستغاث به وكأنه لما رآه في القرآن تعدّى بنفسه قال المستغاث ولم يعده بالباء كما عداه سيبويه والنحويون وزعم أن كلام العرب بخلاف ذلك وكلامه مسموع من كلام العرب فما جاء معدى بالباء قول الشاعر : حتى استغاث بماء لا رشاء له من الأباطح في حاجاته البرك مكلّل بأصول النبت تنسجه ريح حريق لضاحي مائه حبك كما استغاث بشيء قبر عنطلة خاف العيون ولم ينظر به الحشك وقرأ الجمهور أني بفتح أي بأني وعيسى بن عمر ورواها عن أبي عمرو وإني بكسرها على إضمار القول على مذهب البصريين أو على الحكاية باستجاب لإجرائه مجرى الفعل إذ سوى في معناه وتقدم الكلام في شرح استجاب . وقرأ الجمهور بألف على التوحيد والجحدري بآلف على وزن أفلس وعنه وعن السدّي بآلف والجمع بين الأفراد والجمع أن يحمل الأفراد على من قاتل منهم أو على الوجوه الذين من سواهم اتباع لهم ؛ وقرأ نافع وجماعة من أهل المدينة وغيرهم مردفين بفتح الدال وباقي السبعة والحسن ومجاهد بكسرها أي متابعاً بعضهم بعضاً ، وروي عن ابن عباس : خلف كلَّ ملك ملك وراءه . وقرأ بعض المكيين فيما روى عنه الخليل بن أحمد وحكاه عن ابن عطية مردفين بفتح الراء وكسر الدال مشددة أصله مرتدفين فأدغم ؛ وقال أبو الفضل الرازي وقد يجوز فتح الراء فراراً إلى أخفّ الحركات أو لثقل حركة التاء إلى الراء عند الإدغام ولا يعرف فيه أثراً انتهى ؛ وروي عن الخليل أنه يضمّ الراء اتباعاً لحركة الميم لقولهم مخضم ؛ وقرىء كذلك إلا أنه بكسر الراء اتباعاً لحركة الدال أو حرّكت بالكسر على أصل التقاء الساكنين ؛ قال ابن عطية : ويحسن مع هذه القراءة كسر الميم ولا أحفظه قراءة كقولهم مخصم ، وتقدّم الكلام في عدد الملائكة وهل قاتلت أم لم تقاتل في آل عمران ولم تتعرض الآية لقتالهم والظاهر أن قراءة من قرأ مردفين بسكون الراء وفتح الدال أنه صفة لقوله بألف أي أردف بعضهم لبعض ؛ قال ابن عطية : ويحتمل أن يراد بالمردفين المؤمنين أي أردفوا بالملائكة فمردفين على هذا حال من الضمير قال الزمخشري وأردفته إياه إذا اتبعته ويقال أردفته كقولك اتبعته إذا جئت بعده فلا يخلو المسكور الدال أن يكون بمعنى متبعين أو متبعين فإن كان بمعنى متبعين فلا يخلو أن يكون بمعنى متبعين بعضهم بعضاً أو متبعين بعضهم لبعض أو بمعنى متبعين إياهم المؤمنون أي يتقدمونهم فيتبعونهم أنفسهم أو متبعين لهم يشيعوهم ويقدمونهم بين أيديهم وهم على ساقتهم ليكونوا على أعينهم وحفظهم أو بمعنى متبعين أنفسهم ملائكة آخرين أو متبعين غيرهم من الملائكة ويعضد هذا الوجه قوله تعالى في سورة آل عمران { بِثَلاَثَةِ ءالاَفٍ مّنَ الْمَلَئِكَةِ مُنزَلِينَ }{ بِخَمْسَةِ ءالافٍ مّنَ الْمَلَئِكَةِ مُسَوّمِينَ } انتهى . وهذا تكثير في الكلام وملّخصه أنّ اتّبع مشدداً يتعدى إلى واحد واتبع مخففاً يتعدى إلى اثنين وأردف أتى بمعناهما والمفعول ل { تبع} محذوف والمفعولان ل { تبع} محذوفان فيقدر ما يصح به المعنى وقوله أو متبعين إياهم المؤمنين هذا ليس من مواضع فصل الضمير بل مما يتصل وتحذف له النون لا يقال هؤلاء كاسون إياك ثوباً بل يقال كاسوك فتصحيحه أن يقول أو بمعنى متبعيهم المؤمنين أو يقول أو بمعنى متبعين أنفسهم المؤمنين ١٠وما جعله اللّه . . . . . {وَمَا جَعَلَهُ اللّه إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّه إِنَّ اللّه عَزِيزٌ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } تقدم تفسير نظير هذه الآية والمعنى إلا بشرى لكم واثبت في آل عمران لأنّ القصة فيها مسهبة وهنا موجزة فناسب هنا الحذف وهنا قدم وأخر هناك على سبيل التفنن والاتساع في الكلام وهنا جاء أنّ اللّه عزيز حكيم مراعاة لأواخر الآي وهناك ليست آخر آية لتعلق يقطع بما قبله فناسب أن يأتي العزيز الحكيم على سبيل الصفة وكلاهما مشعر بالعلية كما تقول أكرم زيداً العالم وأكرم زبداً أنه عالم والضمير في وما جعله عائد على الإمداد المنسبك من أني ممدكم أو على المدد أو على الوعد الدال عليه يعدكم إحدى الطائفتين أو على الألف أو على الاستجابة أو على الإرداف أو على الخبر بالإمداد أو على جبريل أقوال محتملة مقولة أظهرها الأول ولم يذكر الزمخشري غيره . ١١إذ يغشيكم النعاس . . . . . {إِذْ يُغَشّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مّنْهُ وَيُنَزّلُ عَلَيْكُم مّن السَّمَاء مَاء لّيُطَهّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبّتَ بِهِ } قال الزمخشري بدل ثان من إذ يعدكم أو منصوب بالنصر أو بما في عند اللّه من معنى الفعل أو بما جعله اللّهأو بإضمار اذكر انتهى . أما كونه بدلاً ثانياً من إذ يعدكم فوافقه عليه ابن عطية فإنّ العامل في إذ هو العامل في قوله وإذ يعدكم بتقدير تكراره لأنّ الاشتراك في العامل الأول نفسه لا يكون إلا بحرف عطف وإنما القصد أن يعدّد نعمه على المؤمنين في يوم بدر فقال واذكروا إذ فعلنا بكم كذا اذكروا إذ فعلنا كذا وأما كونه منصوباً بالنصر ففيه ضعف من وجوه : أحدها أنه مصدر فيه أل وفي إعماله خلاف ذهب الكوفيون إلى أنه لا يجوز إعماله ، الثاني أنه موصول وقد فصل بينه وبين معموله بالخبر الذي هو إلا من عند اللّه وذلك إعمال لا يجوز لا يقال ضرب زيد شديد عمراً ، الثالث أنه يلزم من ذلك إعمال ما قبل إلا في ما بعدها من غير أن يكون ذلك المفعول مستثنى أو مستنثى منه أو صفة له وإذ ليس واحداً من هذه الثلاثة فلا يجوز ما قام إلا زيد يوم الجمعة وقد أجاز ذلك الكسائي والأخفش ، وأما كونه منصوباً بما في عند اللّه من معنى الفعل فيضعفه المعنى لأنه يصير استقرار النصر مقيداً بالظرف والنصر من عند اللّه مطلقاً في وقت غشي النعاس وغيره وأما كونه منصوباً بما جعله اللّه فقد سبقه إليه الحوفيّ وهو ضعيف أيضاً لطول الفصل ولكونه معمول ما قبل إلا وليس أحد تلك الثلاثة ، وقال الطبري العامل في إذ قوله ولتطمئن . قال ابن عطية : وهذا مع احتماله فيه ضعف ، وقال أبو البقاء : ويجوز أن يكون ظرفاً لما دلّ عليه عزيز حكيم وقد سبقه إلى قريب من هذا ابن عطية فقال : ولو جعل العامل في إذا شيئاً فرنها بما قبلها لكان الأولى في ذلك أن يعمل في إذ حكيم لأن إلقاء النعاس عليهم وجعله أمة حكمة من اللّه عز وجل انتهى ، والأجود من هذه الأقوال أن يكون بدلاً وقرأ مجاهد وابن محيصن وأبو عمرو وابن كثير يغشاكم النعاس مضارع غشى والنعاس رفع به ، وقرأ الأعرج وابن نصاح وأبو حفص ونافع يغشيكم مضارع أغشى ، وقرأ عروة بن الزبير ومجاهد والحسن وعكرمة وأبو رجاء وابن عامر والكوفيون يغشيكم مضارع غشى والنعاس في هاتين القراءتين منصوب والفاعل ضمير اللّه وناسبت قراءة نافع قوله يغشى طائفة منكم وقراءة الباقين وينزل حيث لم يختلف الفاعل ومعنى يغشيكم يعطيكم به وهو استعارة جعل ما غلب عليهم من النعاس غشياناً لهم ، وتقدم شرح النعاس وأمنة في آل عمران والضمير في منه عائد على اللّه وانتصب أمنة ، قيل على المصدر أي فأمنتم أمنة والأظهر أنه انتصب على أنه مفعول له في قراءة يغشيكم لاتحاد الفاعل لأنّ المغشى والمؤمن هو اللّه تعالى ، وأما على قراءة يغشاكم فالفاعل مختلف إذ فاعل يغشاكم هو النعاس والمؤمن هو اللّه وفي جواز مجيء المفعول له مع اختلاف الفاعل خلاف ، وقال الزمخشري، { فإن قلت } : أما وجب أن يكون فاعل الفعل المعلل والعلة واحداً ، قلت بلى ولكن لما كان معنى يغشاكم النعاس تتغشون انتصب أمنة على أن النعاس والأمنة لهم والمعنى إذ تتغشون أمنة بمعنى أمنا أي لأمنكم ومنه صفة لها أي أمنة حاصلة لكم من اللّه تعالى ، { فإن قلت } : هل يجوز أن ينتصب على أن الأمنة للنعاس الذي هو يغشاكم أي يغشاكم النعاس لأمنه على أنّ إسناد الأمن إلى النعاس إسناد مجازي وهو لأصحاب النعاس على الحقيقة أو على أنه أمانكم في وقته كان من حق النعاس في ذلك الوقت المخوف أن لا يقدم على غشياكم وإنما غشاكم أمنة حاصلة من اللّه تعالى لولاها لم يغشكم على طريقة التمثيل والتخييل ، { قلتللّه} : لا تتعدى فصاحة القرآن عن احتماله وله فيه نظائر ولقد ألمّ به من قال : يهاب النوم أن يغشى عيونا تهابك فهو نفار شرود وقرىء أمنة بسكون الميم ونظير أمن أمنة حيي حياة ونحو أمن من أمنة رحم رحمه ، والمعنى أنّ ما كان بهم من الخوف كان يمنعهم من النوم فلما طامن اللّه تعالى قلوبهم أمنهم وأقروا ، وعن ابن عباس : النعاس في القتال أمنة من اللّه تعالى وفي الصلاة وسوسة من الشيطان انتهى ، وعن ابن مسعود شبيه هذا الكلام وقال النعاس عند حضور القتال علامة أمن من العدو وهو من اللّه تعالى وهو في الصلاة من الشيطان ، قال ابن عطية : وهذا إنما طريقة الوحي فهو لا محالة يسندها انتهى ، والذي قرأ أمنه بسكون الميم هو ابن محيصن ورويت عن النخعي ويحيى بن يعمر وغشيان النوم إياهم قيل حال التقاء الصفين ومضي مثل هذا في يوم أحد في آل عمران ، وقيل : الليلة التي كان القتال في غدها امتنّ عليهم بالنوم مع الأمر المهم الذي يرونه في غد ليستريحوا تلك الليلة وينشطوا في غدها للقتال ويزول رعبُهم ، ويقال : الأمن مُنيم والخوف مُسهر والأولى أن يكون ترتيب هذه الجمل في الزمان كترتيبها في التلاوة فيكون إنزال المطر تأخر عن غشيان النعاس ، وعن ابن نجيح أن المطر كان قبل النعاس واختاره ابن عطية قال ونزول الماء كان قبل تغشية النعاس ولم يترتب كذلك في الآية إذ القصد منها تعديد النعم فقط ، وقرأ طلحة وينزّل بالتشديد ، وقرأ الجمهور ماء بالمد ، وقرأ الشعبي ما بغير همز ، حكاه ابن جنّي ، صاحب اللوامح في شواذ القراءات ، وخرّجاه على أنّ ما بمعنى الذي ، قال صاحب اللوامح : وصلته حرف الجر الذي هو ليطهركم والعائد عليه هو ومعناه الذي هو ليطهركم به انتهى ، وظاهر هذا التخريج فاسد لأنّ لام كي لا تكون صلة ومن حيث جعل الضمائر هو وقال معناه الذي هو ليطهركم ولا تكون لام كي هي الصلة بل الصلة هو ولام الجر والمجرور ، وقال ابن جنّي ما موصولة وصلتها حرف الجر بما جره فكأنه قال ما للطهور انتهى . وهذا فيه ما قلنا من مجيء لام كي صلة ويمكن تخريج هذه القراءة على وجه آخر وهو أنّ ما ليس موصولاً بمعنى الذي وأنه بمعنى ماء المحدود وذلك أنهم حكوا أن العرب حذفت هذه الهمزة فقالوا ما يا هذا بحذف الهمزة وتنوين الميم فيمكن أن تُحرّج على هذا إلا أنهم أجروا الوصل مجرى الوقف فحذفوا التنوين لأنك إذا وقفت على شربت ما قلت شربت ما بحذف التنوين وإبقاء الألف إما ألف الوصل الذي هي بدل من الواو وهي عين الكلمة وإما الألف التي هي بدل من التنوين حالة النصب ، وقرأ ابن المسيّب ليطهرّكم بسكون الطاء ومعنى ليطهركم من الجنابات وكان المؤمنون لحق أكثرهم في سفرهم الجنابات وعدموا الماء وكانت بينهم وبين ماء بدر مسافة طويلة من رمل دهس لين تسوخ فيه الأرجل وكان المشركون قد سبقوهم إلى ماء بدر ، وقيل بل المؤمنون سبقوا إلى الماء ببدر وكان نزول المطر قبل ذلك ، والمرويّ عن ابن عباس وغيره أن الكفار يوم بدر سبقوا المؤمنين إلى ماء بدر فنزلوا عليه وبقي المؤمنون لا ماء لهم فوجست نفوسهم وعطشوا وأجنبوا وصلوا كذلك ، فقال بعضهم في نفوسهم بإلقاء الشيطان إليهم نزعم أنا أولياء اللّه وفينا رسول اللّه ، وحالنا هذه ، والمشركون على الماء فأنزل اللّه المطر ليلة بدر السابعةَ عشر من رمضان حتى سالت الأودية فشرب الناس وتطهّروا وسقوا الظهر وتلبدت السبخة التي كانت بينهم وبين المشركين حتى ثبتت فيها أقدام المسلمين وقت القتال وكانت قبل المطر تسوخ فيها الأرجل فلما نزل تلبدت قالوا فهذا معنى قوله ليطهركم به أي من الجنابات ويذهب عنكم رجز الشيطان أي عذابه لكم بوسواسه والرجز العذاب ، وقيل رجزه كيده ووسوته ، وقيل الجنابة من الاحتلام فإنها من الشيطان ، وورد ما احتلم نبي قط إنما الاحتلام يكون من الشيطان ، وقرأ عيسى بنُ عمرو يذهب بجزم الباء ، وقرأ ابن محيصن رجز بضم الراء وأبو العالية رجس بالسين ومعنى الربط على القلب هو اجتماع الرأي والتشجيع على لقاء العدو والصبر على مكافحة العدو والربط الشد هو حقيقة في الأجسام فاستعير منها لما حصل في القلب من الشدة والطمأنينة بعد التزلزل ، ومقتضى ذلك الربط قال ابن عباس الصبر ، وقال مقاتل الإيمان ، وقيل نزول المطر ، وهو الظاهر ، لأن قوله ليطهّركم وما بعده تعليل لإنزال المطر والظاهر أن تثبيت الأقدام هو حقيقة لأن المكان الذي وقع فيه اللقاء كان رملاً تغوص فيه الأرجل فلبده المطر حتى ثبتت عليه الأقدام والضمير في به عائد على المطر ، وقيل التثبيت للأقدام معنوي والمراد به كونه لا يفر وقت القتال والضمير في به عائد على المصدر الدال عليه وليربط وانظر إلى فصاحة مجيء هذه التعليلات بدأ أولاً منها بالتعليل الظاهر وهو تطهيرهم من الجنابة ، وهو فعل جسماني أعني اغتسالهم من الجنابة ، وعطف عليه بغير لام العلة ما هو من لازم التطهير وهو إذهاب رجز الشيطان حيث وسوس إليهم بكونهم يصلون ولم يغتسلوا من الجنابة ثم عطف بلام العلة ما ليس بفعل جسماني ، وهو فعل محله القلب ، وهو التشجيع والاطمئنان والصبر على اللقاء وعطف عليه بغير لام العلة ما هو من لازمه وهو كونهم لا يقرّون وقت الحرب فحين ذكر التعليل الظاهر الجسماني والتعليل الباطن القلبيّ ظهر حرف التعليل وحين ذكر لازمها لم يؤكد بلام التعليل وبدأ أولاً بالتطهير لأنه الآكد والأسبق في الفعل ولأنه الذي تؤدي به أفضل العبادات وتحيا به القلوب . ١٢إذ يوحي ربك . . . . . {إِذْ يُوحِى رَبُّكَ إِلَى الْمَلَئِكَةِ أَنّي مَعَكُمْ فَثَبّتُواْ الَّذِينَ ءامَنُواْ سَأُلْقِى فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الاعْنَاقِ } هذا أيضاً من تعدد النعم إذ الإيحاء إلى الملائكة بأنه تعالى معهم أي ينصرهم ويعينهم وأمرهم بتثبيت المؤمنين والإخبار بما يأتي بعد من إلقاء الرعب في قلوب أعدائهم والأمر بالضرب فوق أعناقهم وكلّ بنان منهم من أعظم النعم ، وفي ذلك إعلام بأنّ الغلبة والظفر والعاقبة للمؤمنين ، وقال الزمخشري : إذ يوحى يجوز أن يكون بدلاً ثالثاً من إذ يعدكم وأن ينتصب بثبت ، و قال ابن عطية : العامل في إذ العامل الأول على ما تقدم فيما قبلها ولو قدّرناه قريباً لكان قوله ويثبت على تأويل عود الضمير على الرّبط وأما عوده على الماء فيمكن أن يعمل ويثبت في إذ انتهى وإنما يمكن ذلك عنده لاختلاف زمان التثبيت عنده وزمان هذا الوحي لأنّ زمان إنزال المطر وما تعلق به من تعاليله متقدم على تغشية النعاس والإيحاء كانا وقت القتال وهذا الوحي إما بإلهام وإما بإعلام ، وقرأ عيسى بن عمر بخلاف عنه إذ معكم الهمزة على إضمار القول على مذهب البصريين أو على إجراء يوحي مجرى تقول على مذهب الكوفيين والملائكة هم الذين أمدّ المؤمنون بهم ، ولما كان ما تقدم من تعداد النعم على المؤمنين جاء الخطاب لهم بيغشاكم وينزل عليكم ويطهّركم ويذهب رجز وليربط على قلوبكم إذ كان في هذه أشياء لا تناسب منصب الرسالة ولما ذكر الوحي إلى الملائكة أتى بخطاب الرسول وحده فقال إذ يوحى ربك ففي ذلك تشريف بمواجهته بالخطاب وحدَه أي مربيك والناظر في مصلحتك ويثبت الذين آمنوا . قال الحسن بالقتال أي فقاتلوا ، وقال مقاتل بشّروهم بالنصر فكان الملك يسير أمام الصف في صورة الرجل فيقول أبشروا فإن اللّه ناصركم وذكر الزجاج أنهم يثبتونهم بأشياء يلقونها في قلوب تقوى بها ، وذكر الثعلبي ونحوه قال : صححوا عزائمهم ونياتهم على الجهاد ، وقال ابن عطية نحوه قال : ويحتمل أيضاً أن يكون التثبيت الذي أمر به ما يلقيه الملك في قلب الإنسان من توهم الظفر واحتقار الكفار ويجري عليه من خواطر تشجيعه ويقوي هذا التأويل مطابقة قوله {سَأُلْقِى فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ } وأن كان إلقاء الرعب يطابق التثبيت على أي صورة كان التثبيت ولكنه أشبه بهذا إذ هي من جنس واحد وعلى هذا التأويل يجيء قوله سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب مخاطبة للملائكة ثم يجيء قوله فاضربوا فوق الأعناق لفظه لفظ الأمر ومعناه الخبر عن صورة الحال كما تقول إذا وصفت لمن تخاطبه لقبنا القوم وهزمناهم فاضرب بسيفك حيث شئت واقتل وخذ أسيرك ، أي هذه كانت صفة الحال ويحتمل أن يكون سألقي إلى آخر الآية خبراً يخاطب به المؤمنين عما يفعله بالكفار في المستقبل كما فعله في الماضي ثم أمرهم بضرب الرقاب والبنان تشجيعاً لهم وحضًّا على نصرة الدين ، وقال الزمخشري والمعني أني معينكم على التثبت فثبتوهم فقوله سألقي فاضربوا يجوز أن يكون تفسيراً لقوله أني معكم فثبتوا ولا معونة أعظم من إلقاء الرعب في قلوب الكفرة ولا تثبيت أبلغ من ضرب أعناقهم واجتماعهما غاية النصرة ويجوز أن يكون غير تفسير وأن يُراد بالتثبيت أن يخطروا ببالهم ما تقوى به قلوبهم وتصحّ عزائمهم ونياتهم وأن يظهروا ما يتيقنون به أنهم ممدون بالملائكة ، وقيل كان الملك يتشبه بالرجل الذي يعرفون وجهه فيأتي فيقول إني سمعت المشركين يقولون واللّه لئن حملوا علينا لننكشفن ويمشي بين الصفّين فيقول ابشروا فإن اللّه ناصركم لأنكم تعبدونه وهؤلاء لا يعبدونه انتهى ، ثم قال ويجوز أن يكون قوله سألقي إلى قوله كل بنان عقيب قوله فثبتوا الذين آمنوا تلقينا للملائكة وما يثبتونهم به كأنه قال قولوا لهم سألقي والضاربون على هذا هم المؤمنون انتهى ، والذي يظهر أن ما بعد { يُوحِى رَبُّكَ إِلَى الْمَلَئِكَةِ } هو من جملة الموحى به وأن الملائكة هم المخاطبون بتثبيت المؤمنين وبضرب فوق الأعناق وكل بنان ، وقال السائب بن يسار : كنا إذا سألنا يزيد بن عامر السّواري عن الرّعب الذي ألقاه اللّه في قلوب المشركين كيف كان يأخذ الحصا ويرمي به الطست فيظن فيقول : كنا نجد في أجوافنا مثل هذا ، وقرأ ابن عامر والكسائي والأعرج الرّعب بضم العين وفوق قال الأخفش : زائدة أي فاضربوا الأعناق وهو قول عطية والضحاك فيكون الأعناق هي المفعول باضربوا هذا ليس بجيد لأن فوق اسم ظرف والأسماء لا تزاد ، وقال أبو عبيدة : فوق بمعنى على تقول ضربته فوق الرأس وعلى الرأس ويكون مفعول فاضربوا على هذا محذوفاً أي فاضربوهم فوق الأعناق وهذا قول حسن لا بقاء فوق على معناها من الظرفية . وقال ابن قتيبة فوق بمعنى دون قال ابن عطية : وهذا خطأ بيّن وإنما دخل عليه اللبس من قوله بعوضة فما فوقها في القلّة والصغر فأشبه المعنى دون انتهى . وعلى قولا بن قتيبة يكون المفعول محذوفاً أي فاضربوهم ، وقال عكرمة : فوق على بابها وأراد الرؤوس إذ هي فوق الأعناق ، قال الزمخشري : يعني ضرب الهام . قال الشاعر : واضرب هامة البطل المشيح وقال آخر : غشيته وهو في جأواء باسلة عضباً أصاب سوء الرأس فانفلقا انتهى . و قال ابن عطية : وهذا التأويل أنبلها ويحتمل عندي أن يريد بقوله فوق الأعناق بوصف أبلغ ضربات العنق وأحكمها وهي الضربة التي تكون فوق عظم العنق ودون عظم الرأس في المفصل ، وينظر إلى هذا المعنى قول دريد بن الصمّة الجشمي لابن الدّغنة السلمي حين قال له أخذ سيفي وأرفع عن العظم وأخفض عن الدماغ فهكذا كنت أضرب أعناق الأبطال ومنه قول الشاعر : جعل السيف بين الجيد منه وبين أسيل خديه عذارا فيجيء على هذا فوق الأعناق متمكّناً انتهى . فإن كان قول عكرمة تفسير معنى فحسن ويكون مفعول فاضربوا محذوفاً وإن كان أراد أنّ فوق هو المضروب فليس بجيّد لأن فوق من الظروف التي لا يتصرف فيها لا تكون مبتدأة ولا مفعولاً بها ولا مضافاً إليها إنما يتصرف فيها بحرف جر كقوله من فوقهم ظلل هذا هو الصحيح في فوق وقد أجاز بعضهم أن يكون فوق في الآية مفعولاً به وأجاز فيها التصرّف قال : تقول فوقك رأسك بالرفع وفوقك قلنسوتك بالنصب ويظهر هذا القول من الزمخشري قال : فوق الأعناق أراد أعالي الأعناق التي هي المذابح لأنها مفاصل فكان إيقاع الضرب فيها جزّاً وتطييراً للرأس انتهى ، والبنان تقدم الكلام فيها في المفردات ، وقالت فرقة منهم الضحاك البنان هي المفاصل حيث كانت من الأعضاء ، وقالت فرقة البنان الأصابع من اليدين والرّجلين . وقيل الأصابع وغيرها من الأعضاء والمختار أنها الأصابع . وقال عنترة العبسي : وكان فتى الهيجاء يحمي ذمارها ويضرب عند الكرب كلّ بنان وقال أيضاً : وأن الموت طرح يدي إذا ما وصلت بنانها بالهندواني وضرب الكفار مشروع في كلّ موضع منهم وإنما قصد أبلغ المواضع وأثبت ما يكون المقاتل لأنه إذا عمد إلى الرأس أو الأطراف كانت ثابت الجأش متبصراً فيما يضع فيه آلة قتاله من سيف ورمح وغيرهما مما يقع به اللقاء إذ ضرب الرأس فيه أشغل شاغل عن القتال وكثيراً ما يؤدّي إلى الموت وضرب البنان فيه تعطيل القتال من المضروب بخلاف سائر الأعضاء . قال الفراء : علمهم مواضع الضرب فقال : اضربوا الرؤوس والأيدي والأرجل فكأنه قال فاضربوا الأعالي إن تمكّنتم من الضرب فيها فإن لم تقدروا فاضربوهم في أوساطهم فإن لم تقدروا فاضربوهم في أسافلهم فإنّ الضرب في الأعالي يسرع بهم إلى الموت والضرب في الأوساط يسرع بهم إلى عدم الامتناع والضرب في الأسافل يمنعم من الكرّ والفرّ فيحصل من ذلك إما إهلاكهم بالكلية وإما الاستيلاء عليهم انتهى ، وفي قول الفرّاء هذا تحميل ألفاظ القرآن ما لا يحتمله ، وقال الزمخشري والمعنى فاضربوا المقاتل والشوى لأنّ الضرب إما واقع على مقتل أو غير مقتل فأمرهم بأن يجمعوا عليهم النوعين معاً انتهى . {ذالِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ اللّه وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ اللّه وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللّه شَدِيدُ الْعِقَابِ ذالِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ } ١٣ذلك بأنهم شاقوا . . . . . {ذالِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّواْ اللّه وَرَسُولَهُ } الإشارة إلى ما حلّ بهم من إلقاء الرعب في قلوبهم وما أصابهم من الضرب والقتل ، والكاف لخطاب الرسول أو لخطاب كل سامع أو لخطاب الكفار على سبيل الالتفات وذلك مبتدأ وبأنهم هو الخبر والضمير عائد على الكفار وتقدّم الكلام في المشاقّة في قوله فإنما هم في شقاق والمشاقّة هنا مفاعلة فكأنه تعالى لما شرع شرعاً وأمر بأوامر وكذبوا بها وصدّوا تباعد ما بينهم وانفصل وانشق وعبّر المفسرون في قوله شاقّوا اللّه أي صاروا في شقّ غير شقّه .{ وَمَن يُشَاقِقِ اللّه وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللّه شَدِيدُ الْعِقَابِ } أجمعوا على الفكّ في يشاقق اتباعاً لخط المصحف وهي لغة الحجاز والإدغام لغة تميم كما جاء في الآية الأخرى ومن يشاق اللّه ، وقيل فيه حذف مضاف تقديره شاقّوا أولياء اللّه ومن شرطية والجواب فإن وما بعدها والعائد على من محذوف أي شديد العقاب له وتضمن وعيداً وتهديداً وبدأهم بعذاب الدنيا من القتل والأسر والاستيلاء عليهم ١٤ذلكم فذوقوه وأن . . . . . {ذالِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ } جمع بين العذابين عذاب الدنيا وهو المعجّل وعذاب الآخرة وهو المؤجّل والإشارة بذلكم إلى ما حلّ بهم من عذاب الدنيا والخطاب للمشاقّين ولما كان عذاب الدنيا بالنسبة إلى عذاب الآخرة يسيراً سمى ما أصابهم منه ذوقاً لأنّ الذّوق يعرف به الطعم وهو يسير ليعرف به حال الطعم الكثير كما قال تعالى :{ ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذّبُونَ لاَكِلُونَ مِن شَجَرٍ مّن زَقُّومٍ فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ } فما حصل لهم من العذاب في الدنيا كالذوق القليل بالنسبة إلى ما أعدّ لهم في الآخرة من العذاب العظيم وذلكم مرفوع إما على ابتداء والخبر محذوف أي ذلكم العقاب أو على الخبر والمبتدأ محذوف أي العقاب ذلكم وهما تقديران للزمخشري . و قال ابن عطية : أي ذلكم الضّرب والقتل وما أوقع اللّه بهم يوم بدر فكأنه قال الأمرد ذلكم فذوقوه انتهى . وهذا تقدير الزجاج ، وقال الزمخشري ويجوز أن يكون نصباً على عليكم ذلكم فذوقوه كقولك زيداً فاضربه انتهى ، ولا يجوز هذا التقدير لأنّ عليكم من أسماء الأفعال وأسماء الأفعال لا تضمر وتشبيهه له بقولك زيداً فاضربه ليس بجيد لأنهم لم يقدروه بعليك زيداً فاضربه وإنما هذا منصوب على الاشتغال وقد أجاز بعضهم في ذلك أن يكون منصوباً على الاشتغال وقال بعضهم لا يجوز أن يكون ذلكم مبتدأ أو فذوقوه خبراً لأنّ ما بعد الفاء لا يكون خبراً لمبتدأ إلا أن يكون المبتدأ اسماً موصولاً أو نكرة موصوفة نحو الذي يأتيني فله درهم وكل رجل في الدار فمكرم انتهى ، وهذا الذي قاله صحيح ومسألة الاشتغال تنبني على صحة جواز أن يكون ذلكم يصحّ فيه الابتداء إلا أن قولهم زيداً فاضربه وزيد فاضربه ليست الفاء هنا كالفاء في الذي يأتيني فله درهم لأكن هذه الفاء دخلت لتضمن المبتدأ معنى اسم الشرط ولذلك شروط ذكرت في النحو والفاء في زيد فاضربه هي جواب لأمر مقدّر ومؤخرة من تقديم والتقدير تنبه فزيداً ضربه وقالت العرب زيداً فاضربه وقدره النحاة تنبه فاضرب زيداً وابتنى الاشتغال في زيداً فاضربه على هذا التقدير فقد بان الفرق بين الفاءين ولولا هذا التقدير لم يجز زيداً فاضرب بل كان يكون التركيب زيداً اضرب كما هو إذا لم يقدر هناك أمر بالتنبيه محذوف . وقرأ الجمهور وأن بفتح الهمزة . قال الزمخشري عطف على ذلكم في وجهيه أو نصب على أن الواو بمعنى مع ذوقوا هذا العذاب العاجل مع الآجل الذي لكم في الآخرة فوضع الظاهر موضع الضمير أي مكان وأنّ لكم وأنّ للكافرين . وقال ابن عطية إما على تقدير وحتم أن فتقدير ابتداء محذوف يكون خبره . وقال سيبويه التقدير الأمر ذلكم وأما على تقدير واعلموا أن فهي في موضع نصب انتهى . وقرأ الحسن وزيد بن علي وسليمان التيمي وإن بكسر الهمزة على استئناف الأخبار . ١٥يا أيها الذين . . . . . قال الليث : الجماعة يمشون إلى عدوهم هو الزحف . قال الأعشى : لمن الظعائن سيرهن تزحف منك السفين إذا تقاعس تجرف وقال الفرّاء : الزحف الدّنو قليلاً يقال زحف إليه يزحف زحفاً إذا مشى ، وأزحفت القوم دنوت لقتالهم وكذلك تزحف وتزاحف وازحف لنا عدونا ازحافاً صاروا يزحفون لقتالنا فازدجف القوم ازدحافاً مشى بعضهم إلى بعض ، وقال ثعلب ومنه الزّحاف في الشعر وهو أن يسقط من الحرفين حرف ويزحف أحدهما إلى الآخر وسُمّي الجيش العرمرم بالزحف لكثرته كأنه يزحف إليّ يدبّ دبيباً من زحف الصبي إذا دبّ على إليته قليلاً قليلاً وأصله مصدر زحف وقد جمع أزحف على زحوف . وقال الهذليّ يصف منهلاً : كان مزاحف الحيّات فيه قبيل الصبح آثار السّياط المتحيّز المنضم إلى جانب ، وقال أبو عبيدة : التحيّز والتحوّز التنحّي ، وقال الليث : ما لك متحوز إذا لم تستقرّ على الأرض وأصله من الحوز وهو الجمع يقال خرته في الطرس فانحار وتحيّز انضمّ واجتمع وتحوّزت الحية انطوت واجتمعت وسمى التنحّي تحيزاً لأن المتنحي عن جانب ينضمّ عنه ويجتمع إلى غيره وتحيز تفيعل أصله تحيوز اجتمعت ياء وواو وسُبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمَتْ فيها الياء وتحوّز تفعل ضعفت عينه . الرمي معروف ويكون بالسهم والحجر والتراب . المكاء الصفير . وقال عنترة : وخليل غانية تركت مجندلا تمسكوا فريصته كشدق الأعلم أي تصوت ومنه مكت است الدابة إذا نفخت بالريح . وقال السدي : المكاء الصفير على لحن طائر أبيض بالحجاز يقال له المكاء ، قال الشاعر : إذا غرّد المكاء في غير روضة فويل لأهل السّقاء والحمرات وقال أبو عبيدة : وغيره مكا يمكو مكاء إذا صفر والكثير في الأصوات أن تكون على فعال كالصّراخ والخوار والدعاء والنباح . التصدية التصفيق صدى يصدي تصدية صفق وهو فعل من الصدى وهو الصوت الركم . قال الليث : جمعك شيئاً فوق شيء حتى تجعله ركاماً مركوماً كركام الرمل والسحاب . مضى تقدم والمصدر المضي . {النَّارِ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الادْبَارَ } مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما أخبر أنه سيلقي الرّعب في قلوب الكفار وأمر من آمن بضرب فوق أعناقهم وبنانهم حرضهم على الصير عند مكافحة العدوّ ونهاهم عن الانهزام وانتصب زحفاً على الحال ، فقيل من المفعول أي لقيتموهم وهم جمع كثير وأنتم قليل فلا تفرّوا فضلاً عن أن تدانوهم في العدد أو تساووهم ، وقيل من الفاعل أي وأنتم زحف من الزحوف وكان ذلك إشعاراً بما سيكون منهم يوم حنين حين انهزاموا وهم اثنا عشر ألفاً بعد أن نهاهم عن الفرار يومئذ ، وقيل حال من الفاعل والمفعول أي متزاحفين ولم يذكر ابن عطية إلا ما يدل على أنه خال منهما قال زحفاً يراد به متقابلي الصفوف والأشخاص أي يزحف بعضهم إلى بعض . وقيل انتصب زحفاً على المصدر بحال محذوفة أي زاحفين زحفاً وهذا الذي قيل محكم فحرم الفرار عند اللقاء بكلّ حال . وقيل كان هذا في الابتداء الإسلام حيث كان الأمر بالمصابرة أن يواقف مسلم عشرة كفار ثم خفّف فجعل واحد في مقابلة اثنين ويأتي حكم المؤمنة الفارّة من ضعفها في آية التخفيف وعدل عن الظهور إلى لفظ الأدبار تقبيحاً لفعل الفار وتبشيعاً لانهزامه وتضمّن هذا النهي الأمر بالثبات والمصابرة . {وَمَن يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرّفاً لّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مّنَ اللّه وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ } لما نهى تعالى عن تولي الأدبار توعّد من ولّى دبره وقت لقاء العدوّ وناسب قوله ومن يولهم فقد باء بغضب كان المعنى فقد ولّى مصحوباً بغضب اللّه وعدل أيضاً عن ذكر الظهر إلى الدبر مبالغة في التقبيح والذمّ إذ تلك الحالة من الصفات القبيحة المذمومة جدًّا ألا ترى إلى قول الشاعر : فلسنا على الأعقاب تجري كلومنا ولكن على أقدامنا تقطر الدما قال في التحرير : وهذا النوع من علم البيان يُسمى بالتعريض عرض بسوء حالهم وقبح فعالهم وخساسة منزلتهم وبعضهم يسميه الإيماء وبعضهم يسميه الكنانة وهذا ليس بشيء فإنّ الكناية أن تصرّح باللفظ الجميل على المعنى القبيح انتهى ، والظاهر أنّ الجملة المحذوفة بعد إذ وعوض منها التنوين هي قوله إذ لقيتم الكفار فقيل المراد يوم بدر وما وليه في ذلك اليوم وقع الوعيد بالغضب على من فرّ ونسخ بعد ذلك حكم الآية بآية الضعف وبقي الفرار من الزحف ليس كبيرة وقد فرّ الناس يوم أحد فعفا اللّه عنهم وقال اللّه فيهم ويوم حنين ثم وليتم مدبرين ولم يقع على ذلك تعنيف انتهى ، وهذا القول بأن الإشارة بقوله يومئذ لا يظهر إلى يوم بدر لا يظهر لأنّ ذلك في سياق الشرط وهو مستقبل فإن كانت الآية نزلت يوم بدر قبل انقضاء القتال فيوم بدر فرد من أفراد لقاء الكفار فيندرج فيه ولا يكون خاصاً به وإن كانت نزلت بعده فلا يدخل يوم بدر فيه بل يكون ذلك استئناف حكم في الاستقبال . قال ابن عطية والجمهور على أنه إشارة إلى يوم اللقاء الذي تضمنه قوله إذا لقيتم وحكم الآية باق إلى يوم القيامة بسبب الضعف الذي بيّنه اللّه في آية أخرى وليس في الآية نسخ وأما يوم أحد فإنما فرّ الناس من مراكزهم من ضعفهم ومع ذلك عنفو لكون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيهم وفرارهم عنه ، وأما يوم حنين فكذلك من فرّ إنما انكشف أمام الكرة ويحتمل أن عفو اللّه عن مَن فرّ يوم أحد كان عفواً عن كثرة انتهى ، وقرأ الحسن دبره بسكون الباء وانتصب متحرفاً ومتحيزاً عن الحال من الضمير المستكن في قولهم العائد على من . قال الزمخشري : وإلا لغو أو عن الاستثناء من المولين أي ومن يولهم إلا رجلاً منهم متحرفاً أو متحيزاً انتهى ، و قال ابن عطية : وأما الاستثناء فهو من المولين الذين يتضمنهم من انتهى ولا يريد الزمخشري بقوله ولا لغو إنها زائدة إنما يريد أن العامل الذي هو يولهم وصل إلى العمل فيما بعدها كما قالوا في لا من قولهم جئت بلا زاد أنها لغو وفي الحقيقة هو استثناء من حالة محذوفة والتقدير : ومن يولهم ملتبساً بأية حالة إلا في حال كذا وإن لم يقدّر حال غاية محذوفة لم يصحّ دخول إلا لأن الشرط عندهم واجب وحكم الواجب لا تدخل إلا فيه لا في المفعول ولا في غيره من الفضلات لأنه يكون استثناء مفرغاً والاستثناء المفرغ لا يكون في الواجب لو قلت ضربت إلا زيداً وقمت إلا ضاحكاً لم يصحّ والاستثناء المفرغ لا يكون إلا مع النفي أو النهي أو المؤول بهما فإن جاء ما ظاهره خلاف ذلك قدر عموم قبل إلا حتى يصح الاستثناء من ذلك العموم فلا يكون استثناء غير مفرغ ، وقال قوم الاستثناء هو من أنواع التّولي وردّ بأنه لو كان ذلك لوجب أن يكون إلا تحرفاً أو تحيّزاً والتحرّف للقتال هو الكرّ بعد الفرّ يخيل عدوّه أنه منهزم ثم ينعطف عليه وهو عين باب خِدَع الحرب ومكائدها قاله الزمخشري ، وقال يراد به الذي يرى أن فعله ذلك أنكى للعدوّ وأعود عليه بالشر ، والفئة هنا قال الجمهور هي الجماعة من الناس الحاضرة للحرب فاقتضى هذا الإطراق أن تكون هذه الفئة من الكفار أي لكونه يرى أنه يُنكي فيها العدوّ ويبلي أكثر من إبلائه فيما قابله من الكفار إما لعدم مقاومته أو لكون غيره يعنى فيمن قاتله منهم فتحيّز إلى فئة أخرى من الكفار ليبلى فيها واقتضى أيضاً أن تكون هذه الفئة من المسلمين أي تحيّز إليها لينصرها ويقويها إذا رأى فيها ضعفاً وأغنى غيره في قتال من قاتله من الكفار وبهذا فسر الزمخشري قال إلى فئة جماعة أخرى من المسلمين سوى الفئة التي هو فيها ، وقيل الفئة هنا المدينة والإمام وجماعة المسلمين أينما كانوا ، وروي هذا عن عمر : انهزم رجل من القادسيّة فأتى المدينة إلى عمر رضي اللّه عنه فقال يا أمير المؤمنين هلكت فررت من الزحف ، فقال عمر رضي اللّه عنه عنه : أنا فئتك . وعن ابن عمر رضي اللّه عنه : خرجت سرية وأنا فيهم ففرّوا فلما رجعوا إلى المدينة استحيوا فدخلوا البيوت فقلت : يا رسول اللّه نحن الفرارون . فقال : بل أنتم العكارون وأنا فئتكم . قال ثعلب العكارون العطّافون ، وقال غيره : يقال للرجل الذي يولّي عن الحرب لم يكن راجعاً عكر واعتكر ، وعن ابن عباس رضي اللّه عهما : الفرار من الزحف من أكبر الكبائر وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة قال : سمعت النبي صلى اللّه عليه وسلم اتقوا السبع الموبقات وعد فيها الفرار من الزحف وفي التحرير التولّي الذي وقع عليه الوعيد هو الفرار مع المصابرة على الثبات فأما إذا جاءه من لا يستطيع معه الثبات فليس ذلك بالفرار انتهى . وما أحسن ما استعذر الحارث بن هشام إذ فرّ فقيل فيه : ترك الأحبة أن يقاتل دونهم ونجا برأس طمره ولجام وقال الحرث من أبيات : وعلمت أني إن أقاتل واحدا أقتل ولم يضرر عدوّي مشهدي واستدلّ القاضي بهذه الجملة الشرطية على وعيد الفسّاق من أهل الصلاة لأنها دلّت على أن من انهزم إلا في هاتين الحالتين استوجب غضب اللّه ومأواه جهنم . قال : وليس للمرجئة أن يحملوا ذلك على الكفار كما فعلوا في آيات الوعيد لأن ذلك مفتتح بأهل الصلاة وهو قوله يا أيها الذين آمنوا انتهى ، ولا حجة في ذلك لأنه عامّ مخصوص والظاهر أنه يجوز التحيّز سواء عظم العسكر أم لا ، وقيل لا يجوز إذا عظم والظاهر أنّ الفرار من الزحف بغير شروطه كبيرة للتوعد ولذلك قال ابن القاسم لا تقبلوا شهادة مَن فرّ مِن الزّحف وإن فر أمامهم ومَنن فرّ فليستغفر اللّه ففي الترمذي : من قال أستغفر اللّه الذي لا إله إلا هو الحي القيُّوم غفر له وإن كان قد فرّ من الزحف . ١٧فلم تقتلوهم ولكن . . . . . {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَاكِنَّ اللّه قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَاكِنَّ اللّه رَمَى وَلِيُبْلِىَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَنًا إِنَّ اللّه} لما رجع الصحابة من بدر ذكروا مفاخرهم فيقول القائل قتلت وأسرت فنزلت . قال الزمخشري : والفاء جواب شرط محذوف تقديره إن افتخرتم بقتلهم فأنتم لم تقتلوهم ولكنّ اللّه قتلهم لأنه هو الذي أنزل الملائكة وألقى الرعب في قلوبهم وشاء النصر والظفر وقوى قلوبكم وأذهب عنها الفزع والجزع انتهى ، وليست الفاء جواب شرط محذوف كما زعم وإنما هي للربط بين الجمل لأنه لما قال فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان كان امتثال ما أمروا به سبباً للقتل فقيل فلم تقتلوهم أي لستم مستبدين بالقتل لأنّ الأقدار عليه والخالق له إنما هو اللّه ليس للقاتل فيها شيء لكنه أجرى على يده فنفى عنهم إيجاد القتل وأثبت للّه وفي ذلك ردّ على من زعم أن أفعال العباد خلق لهم ، ومجيء لكن هنا أحسن مجيء لكونها بين نفي وإثبات فالمثبت للّه هو المنفيّ عنهم وهو حقيقة القتل ومن زعم أنّ أفعال العباد مخلوقة لهم أوّل الكلام على معنى فلم يتسببوا لقتلكم إياهم ولكنّ اللّه قتلهم لأنه هو الذي أنزل الملائكة إلى آخر كلامه ، وعطف الجملة المنفية بما على الجملة المنفيّة يلم لأنّ لم نفي للماضي وإن كان بصورة المضارع لأنّ لنفي الماضي طريقين إحداهما أن تدخل ما على لفظه والأخرى أن تنفيهَ بلم فتأتي بالمضاع والأصل هو الأول لأن النفي ينبغي أن يكون على حسب الإيجاب وفي الجملة مبالغة من وجهين أحدهما أن النفي جاء على حسب الإيجاب لفظاً ؛ الثاني إن نفي ما صرح بإثباته وهو قوله وما رميْت إذ رميت ولم يصرّح في قوله فلم تقتلوهم بقوله إذ قتلتموهم وإنما بولغ في هذا لأن الرمي كان أمراً خارقاً للعادة مُعجزاً آية من آياتِ اللّه على أي وجه فسر الرمي لأنهم اختلفوا فيه ، فقال ابن عباس قبض رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم بدر قبضة من تراب فقال شاهت الوجوه أي قبحت فلم يبقَ مشرك إلا دخل في عينيه وفيه ومنخريه منها شيء ، وقال حكيم بن حرام فسمعنا صوتاً من السماء كأنه صوت حصاة وقعت في طست فرمى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تلك الرّمية فانهزموا ، وقال أنس : رمى ثلاث حصيات يوم بدر واحدة في ميمنة القوم واحدة في ميسرتهم وثالثة بين أظهرهم ، وقال : شاهت الوجوه فانهزموا ، وقيل الرمي هنا رمي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بحربة على أبيّ بن خلف يوم أحد ، قال ابن عطية : وهذا ضعيف لأنّ الآية نزلت عقب بدر وعلى هذا القول تكون أجنبية مما قبلها وبعدها وذلك بعيد ، وقيل المراد السهم الذي رمى به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في حصن خيبر فسار في الهوى حتى أصاب ابن أبي الحقيق وهذا فاسدو والصحيح في صورة قتل ابن أبي الحقيق غير هذا وقوله وما رميت نفي وإذ رميت إثبات فاحتيج إلى تأويل وهو أن يغاير بين الرميين فالمنفيّ الإصابة والظفر والمثبت الإرسال ، وقيل المنفيّ إزهاق الروح والمثبت أثر الرّمي وهو الجرح وهذان القولان متقاربان ، وقيل ما استبددت بالرمي إذ أرسلت التراب لأنّ الاستبداد به هو فعل اللّه حقيقة وإرسال التراب منسوب إليه كسباً كان المعنى ، وما رميت الرمي الكافي إذ رميت ونحوه قول العباس بن مرداس : وقد كنت في الحرب ذا تدرإ فلم أعط شيئاً ولم أمنع أي لم أعط شيئاً مرضيًّا . وقيل متعلق المنفي الرّعب ومتعلق المنبت الحصيات أي وما رميت الرعب في قلوبهم إذ رميت الحصيات ، وقال الزمخشري يعني أنّ الرمية التي رميتها لم ترمِها أنت على الحقيقة لأنك لو رميتها لما بلغ أثرها إلا ما يبلغه رمي البشر ولكنها كانت رمية اللّه حيث أثرت ذلك الأثر العظيم فأثبت الرّمي لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لأن صورة الرمي وجدت منه ونفاها عنه لأنّ أثرها الذي لا يطيقه البشر فعل اللّه فكان اللّه تعالى هو فاعل الرمي حقيقة وكأنها لم توجد من الرسول أصلاً انتهى ، وهو راجع لمعنى القولين أولاً وتقدّم خلاف الفرّاء في لكن وما بعدها عند قوله : { وَلَاكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ وَلِيُبْلِىَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَنًا} قال السدي ينصرهم وينعم عليهم يقال أبلاه إذا أنعم عليه وبلاه إذا امتحنه والبلاء يستعمل للخير والشر ووصفه بحسن يدل على النصر والعزة ، قال الزمخشري : وليعطيهم عطاء جميلاً كما قال ، فأبلاهما خير البلاء الذي يبلو . انتهى ، والبلاء الحسن قيل بالنصر والغنيمة ، وقيل بالشهادة لمن استشهد يوم بدر وهم أربعة عشر رجلاً منهم عبيدة بن الحرث بن عبد المطلب ومهجع مولى عمر ومعاذ وعمر وإبنا عفراء أنه قال : لولا أن المفسرين اتفقوا على حمل البلاء هنا على النعمة لكان يحتمل المحنة للتكليف بما بعده من الجهاد حتى يقال إنّ الذي فعله تعالى يوم بدر كان السبب في حصول تكليف شاق عليهم فيما بعد ذلك من الغزوات انتهى . وسياق الكلام ينفي أن يراد بالبلاء المحنة لأنه قال : وليبلى المؤمنين منه بلاء حسناً ، فعل ذلك أي قتل الكفار ورميهم ونسبة ذلك إلى اللّه وكان ذلك سبب هزيمتهم والنصر عليهم وجعلهم نهبة للمؤمنين وهذا ليس محنة بل منحة إن اللّه سميع عليم لما كاوا قد أقبلوا على المفاخر بقتل من قتلوا وأسر من أسروا وكان ربما قد لا يخلص العمل من بعض المقاتلين إما لقتال حميّة وإما لدفع عن نفس أو ما ختمت بهاتين الصفتين فقيل إن اللّه سميع عليم لكلامكم وما تفخرون به عليم بما انطوت عليه الضمائر ومن يقاتل لتكون كلمة اللّه هي العليا . ١٨ذلكم وأن اللّه . . . . . {ذالِكُمْ وَأَنَّ اللّه مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ } قال : ذلكم إشارة إلى البلاء الحسن ومحله الرفع وأنّ اللّه موهن معطوف على وليبلي يعني أنّ الغرض إبلاء المؤمنين وتوهين كيد الكافرين انتهى ، وقال ابن عطية ذلكم إشارة إلى ما تقدم من قتل اللّه ورميه إياهم وموضع ذلك من الإعراب رفع قال سيبويه : التقدير الأمر ذلكم ، وقال بعض النحويين يجوز أن يكون في موضع نصب بتقدير فعل ذلك وأنّ معطوف على ذلكم ويحتمل أن يكون خبر مبتدأ مقدّر تقديره وحتم وسابق وثابت ونحو هذا انتهى ، وقال الحوفي ذلكم رفع بالابتداء والخبر محذوف والتقدير ذلكم الأمر ويجوز أن يكون ذلكم الخبر والأمر الابتداء ويجوز أن يكون في موضع نصب تقديره فعلنا ذلكم والإشارة إلى القتل و إلى إبلاء المؤمنين بلاء حسناً وفي فتح أن وجهان النصب والرفع عطفاً على ذلكم على حسب التقديرين أو على إضمار فعل تقديره واعلموا أنّ اللّه موهن انتهى ، وقرأ الحرميان وأبو عمر وموهن من وهن والتعدية بالتضعيف فيما عينه حرف حلق غير الهمزة قليل نحو ضعفت ووهنت وبابه أن يعدى بالهمزة نحو أذهلته وأوهنته وألحمته ، وقرأ باقي السبعة والحسن وأبو رجاء والأعمش وابن محيصن من أوهن وأضافه حفص . ١٩إن تستفتحوا فقد . . . . . {إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِىَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ } تقدّم ذكر المؤمنين والكافرين وسبق الخطاب للمؤمنين بقوله فلم تقتلوهم وبقوله ذلكم فحملة قوم على أنه خطاب للمؤمنين ويؤيده قوله فقد جاءكم الفتح إذ لا يليق هذا الخطاب إلا بالمؤمنين على إرادة النصر بالاستفتاح وأنّ حمله على البيان والحكم ناسب أن يكون خطاباً للكفار والمؤمنين فإذا كان خطاباً للمؤمنين فالمعنى أن تستنصروا فقد جاءكم النصر وإن تنتهوا عن مثل ما فعلتموه في الغنائم والأسرى قبل الإذن فهو خير لكم وإن تعودوا إلى مثل ذلك نعد إلى توبيخكم كما قال لولا كتاب من اللّه سبق الآية ثم أعلمهم أنّ الفئة وهي الجماعة لا تغني وإن كثرت إلا بنصر اللّه ومعونته ثم آنسهم بإخباره أنه تعالى مع المؤمنين ، وقال الأكثرون هي خطاب لأهل مكة على سبيل التهكم وذلك أنه حين أرادوا أن ينفروا تعلّقوا بأستار الكعبة وقالوا : اللّهم انصر أقرانا للضيف وأوصلنا للرحم وأفكنا للعاني إن كان محمد على حقّ فانصره وإن كنا على حقّ فانصرنا ، ورُوي أنهم قالوا : اللّهم انصر أعلى الجندين وأهدى الفئتين وأكرم الحزبين ، ورُوي أن أبا جهل قال صبيحة يوم بدر : اللّهم أينا كان أهجر وأقطع للرحم فاحِنه اليوم أي فأهلكه ، وروي عنه دعا شبه هذا ، وقال الحسن ومجاهد وغيرهما : كان هذا القول من قريش وقت خروجهم لنصرة العير ، وقال النضر بن الحرث : اللّهم إن كان هذا هو الحقّ من عندك الآية وهو ممن قتل يوم بدر ، وعلى هذا القول يكون معنى قوله فقد جاءكم الفتح ولكنه كان للمسلمين عليكم ، وقيل معناه : فقد جاءكم ما بان لكم به الأمر واستقرّ به الحكم وانكشف لكم الحقّ به ، ويكون الاستفتاح على هذا بمعنى الحكم والقضاء وإن انتهوا عن الكفر وإن تعودوا إلى هذا القول وقتال محمد بعد نعد إلى نصر المؤمنين وخذلانكم ، وقالت فرقة : إن تستفتحوا خطاب للمؤمنين وإن تنتهوا خطاب للكافرين أي وإن تنتهوا عن عداوة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فهو خير لكم وإن تعودوا لمحاربته نعد لنصرته عليكم ، وقال الكرماني : وإن تنتهوا عن أمر الأنفال وفداء الأسرى ببدر وإن تعودوا إلى معصية اللّه نعد إلى الإنكار وقرىء : ولن يغني بالياء لأنّ التأنيث مجاز وحسنه الفصل ، وقرأ الصاحبان وحفص : وأن اللّه بفتح الهمزة وباقي السبعة بكسرها وابن مسعود واللّه مع المؤمنين . ٢٠يا أيها الذين . . . . . {أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ أَطِيعُواْ اللّه وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ } لما تقدّم قوله وإن تنتهوا وكان الضمير ظاهره العود على المؤمنين ناداهم وحرّكهم إلى طاعة اللّه ورسوله والظاهر أنه نداء وخطاب للمؤمنين الخلّص حثّهم بالأمر على طاعة اللّه ورسوله ولما كانت الآية قبلها مسوقة في أمر الجهاد . قيل معنى أطيعوه فيما يدعوكم إليه من الجهاد ، وقيل في امتثال الأمر والنهي وأفردهم بالأمر رفعاً لأقدارهم وإن كان غيرهم مأموراً بطاعة اللّه ورسوله وهذا قول الجمهور ، وأما من قال إنّ قوله وإن تنتهوا خطاب للكفار فيرى أن هذه الآية نزلت بسبب اختلافهم في النفل ومجادلتهم في الحق وتفاخرهم بقتل الكفار والنكاية فيهم وأبعد من ذهب إلى أنه نداء وخطاب للمنافقين أي يا أيها الذين آمنوا بألسنتهم وهذا لا يناسب لأنّ وصفهم بالإيمان وهو التصديق وليس المنافقون من التصديق في شيء وأبعد من ذهب إلى أنه نداء وخطاب لبني إسرائيل لأنه أيضاً يكون أجنبياً من الآيات وأصل ولا تولوا ولا تتولوا ، وتقدّم الخلاف في حرف التاء في نحو هذا أهي حرف المضارعة أم تاء تفعل والضمير في عنه قال الزمخشري لرسول اللّه لأنّ المعنى وأطيعوا رسول اللّه كقوله واللّه ورسوله أحق أن ترضوه ولأن طاعة الرسول وطاعة اللّه شيء واحد من يطع الرسول فقد أطاع اللّه فكان رجوع الضمير إلى أحدهما كرجوعه إليهما كقولك الإحسان والإجمال لا ينفع في فلان ويجوز أن يرجع إلى الأمر بالطاعة ولا تولوا عن هذا الأمر وامتثاله وأنتم تسمعونه أو ولا تتولوا عن رسول اللّه ولا تخالفوه وأنتم تسمعون أي تصدّقون لأنكم مؤمنون لستم كالصمّ المكذبين من الكفرة انتهى ، وإنما عاد على الرسول لأنّ التولي إنما يصح في حقّ الرسول بأن يعرضوا عنه وهذا على أن يكون التولي حقيقة وإذا عاد على الأمر كان مجازاً ، وقيل هو عائد على الطاعة ، وقيل هو عائد على اللّه ، وقال الكرماني ما معناه إنه لما لم يطلق لفظ التثنية على اللّه وحده لم يجمع بينه تعالى وبين غيره في ضميرها بخلاف الجمع فإنه أطلق على لفظة تعظيماً فجمع بينه وبين غيره في ضميره ولهذا نظائر في القرآن منها إذا دعاكم ومنها أن يرضوه ففي الحديث ذمّ من جمع في التثنية بينهما في الضمير وتعليمه أن يقول : ومن عصى اللّه ورسوله وأنتم تسمعون جملة حالية أي لا يناسب سماعكم التولي ولا يجامعه وفي متعلقه أقوال : أحدها وعظ اللّه لكم ، الثاني : الأمر والنهي ، الثالث : التعبير بالسماع عن العقل والفهم ، الرابع : التعبير عن التصديق وهو الإيمان . ٢١ولا تكونوا كالذين . . . . . {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُواْ سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ } نهي عن أن يكونوا كالذين ادّعوا السماع والمشبّه بهم اليهود أو المنافقون أو المشركون أو الذين قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا ، أو بنو عبد الدار بن قصيّ ولم يسلم منهم إلا رجلان مصعب بن عمير وسويد بن حرملة أو النضر بن الحارث ومن تابعه ستة أقوال ، ولما لم يجد سماعهم ولا أثر فيهم نفى عنهم السّماع لانتفاء ثمرته إذ ثمرة سماع الوحي تصديقه والإيمان به والمعنى أنكم تصدّقون بالقرآن والنبوة فإذا صدر منكم تولِّ عن الطاعة كان تصديقكم كلا تصديق فأشبه سماعكم سماع من لا يصدق ، وجاءت الجملة النافية على غير لفظ المثبتة إذ لم تأتِ وهم ما سمعوا لأنّ لفظ المضي لا يدلّ على استمرار الحال ولا ديمومته بخلاف نفي المضارع فكما يدل إثباته على الدّيمومة في قولهم هو يعطي ويمنع كذلك يجيء نفيه وجاء حرف النفي لا لأنها أوسع في نفس المضارع من ما وأدلّ على انتفاء السماع في المستقبل أي هم ممن لا يقبل أن يسمع . ٢٢إن شر الدواب . . . . . {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابّ عِندَ اللّه الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ } لما أخبر تعالى إنّ هؤلاء المشبّه بهم لا يسمعون أخبر أنّ شرّ الحيوان الذي يدبّ الصمّ أو أن شرّ البهائم فجمع بين هؤلاء وبين جمع الدواب وأخبر أنهم شرّ الحيوان مطلقاً ومعنى الصم عن ما يلقى إليهم من القرآن البَكم عن الإقرار بالإيمان وما فيه نجاتهم ثم جاء بانتفاء الوصف المنتج لهم الصمم والبكم الناشئين عنه وهو العقل وكان الابتداء بالصمم لأنه ناشىء عنه البكم إذ يلزم أن يكون كلّ أصم خلقه أبكم لأنّ الكلام إنما يتلقنه ويتعلمه من كان سالم حاسة السمع وهذا مطابق لقوله تعالى صمّ بكم عمي فهم لا يعقلون إلا أنه زاد في هذا وصف العمى وكلّ هذه الأوصاف كناية عن انتفاء قبولهم للإيمان وإعراضهم عما جاء به الرسول صلى اللّه عليه وسلم وظاهر هذه الأخبار العموم ، وقيل : نزلت في طائفة من بني عبد الدار كانوا يقولون : نحن صم بكم عمي عما جاء به محمد لا نسمعه ولا نجيبه فقتلوا جميعاً ببدر وكانوا أصحاب اللواء ، وقال ابن جريج هم المنافقون ، وقال الحسن : هم أهل الكتاب . ٢٣ولو علم اللّه . . . . . {وَلَوْ عَلِمَ اللّه فِيهِمْ خَيْرًا لاسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ } قال ابن عطية : أخبر تعالى بأنّ عدم سماعهم وهداهم إنما هو بما علمه اللّه منهم وسبق من قضائه عليهم فخرج ذلك في عبارة بليغة في ذمّهم ولو علم اللّه فيهم خيراً لأسمعهم والمراد لأسمعهم إسماع تفهم وهدى ثم ابتدأ عزّ وجل الخبر عنهم بما هو عليه من ختمه عليهم بالكفر فقال : ولو أسمعهم أي ولو فهمهم لتولوا وهم معرضون بالقضاء السابق فيهم ولأعرضوا عما تبيّن لهم من الهدي ، وقال الزمخشري : ولو علم اللّه في هؤلاء الصمّ البكم خيراً أي انتفاعاً باللطف لأسمعهم اللطف بهم حتى سمعوا سماع المصدقين ثم قال ولو أسمعهم لتولّوا يعني ولو لطف بهم لما نفعهم اللطف فلذلك منعهم ألطافه أي ولو لطف أي ولو لطف بهم فصدّقوا لارتدّوا بعد ذلك وكذبوا ولم يستقيموا ، وقال الزجاج : لأسمعهم جواب كلما سألوا ، وحكى ابن الجوزي : لأسمعهم كلام الموتى الذين طلبوا إحياءهم لأنهم طلبوا إحياء قُصيّ بن كلاب وغيره ليشهدوا بنبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم ، وقال أبو عبد اللّه الرازي : التعبير عن عدمه في نفسه بعدم علم اللّه بوجوده وتقدير الكلام لو حصل فيهم خير لأسمعهم اللّه الحجج والمواعظ سماع تعليم مفهم ولو أسمعهم إذ علم أنه لا خير فيهم لم ينتفعوا بها وتولوا وهم معرضون ، وقال أيضاً : معلومات اللّه على أربعة أقسام . أحدها : جملة الموجودات ، الثاني : جملة المعدومات ، الثالث : إن كان كل واحد من الموجودات لو كان معدوماً فكيف حاله ، الرابع : إن كان كلّ واحد من المعدومات لو كان موجوداً فكيف حاله فالقسمان الأولان علم بالواقع والقسمان الثانيان علم بالمقدور الذي هو غير واقع فقوله ولو علم اللّه فيهم خيراً لأسمعهم من القسم الثاني وهو العلم بالمقدورات وليس من أقسام العلم بالواقعات ، ونظيره قوله تعال حكاية عن المنافقين لئن أخرجتم لنخرجنّ معكم وإن قوتلتم لننصرنكم فقال تعالى لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولنّ الأدبار ثم لا ينصرون فعلم اللّه تعالى في المعدوم أنه لو كان موجوداً كيف يكون حاله وأيضاً قوله ولو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه أخبر عن المعدوم أنه لو كان موجوداً كيف يكون حاله انتهى . وأقول : ظاهر هاتين الملازمتين يحتاج إلى تأويل لأنه أخبر أنه كان يقع إسماع منه لهم على تقدير علمه خيراً فيهم ثم أخبر إنه كان يقع توليهم على تقدير إسماعهم إياهم فأنتج أنه كان يقع توليهم على تقدير علمه تعالى خيراً فيهم وذلك بحرف الواسطة لأن المرتب على شيء يكون مرتّباً على ما رتب عليه ذلك الشيء وهذا لا يكون لأنه لا يقع التولّي على تقدير علمه فيهم خيراً ويصير الكلام في الجملتين في تقدير كلام واحد فيكون التقدير ولو علم اللّه فيهم خيراً فأسمعهم لتولّوا ومعلوم أنه لو علم فيهم خيراً ما تولّوا . ٢٤يا أيها الذين . . . . . {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اسْتَجِيبُواْ للّه وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ } تقدم الكلام في استجاب في فليستجيبوا لي وأفرد الضمير في دعاكم كما أفرده في ولا تولوا عنه لأنّ ذكر أحدهما مع الآخر إنما هو على سبيل التوكيد والاستجابة هنا الامتثال والدعاء بمعنى التحريض والبعث على ما فيه حياتهم وظاهر استجيبوا الوجوب ، ولذلك قال صلى اللّه عليه وسلم : لأبيّ حين دعاه وهو في الصلاة متلبث : ما منعك عن الاستجابة ألم تخبر فيما أوحي إليّ استجيبوا اللّه وللرسول ؟ والظاهر تعلق لما بقوله دعاكم ودعا يتعدى باللام . قال : دعوت لما نابني مسوراً وقال آخر : وإن أدع للحلى أكن من حماتها وقيل : اللام بمعنى إلى ويتعلّق باستجيبوا فلذلك قدّره بإلى حتى يتغاير مدلول اللام فيتعلق الحرفان بفعل واحد ، قال مجاهد والجمهور : المعنى استجيبوا للطاعة وما تضمنه القرآن من أوامر ونواهي ففيه الحياة الأبدية والنّعمة السرمديّة ، وقيل : ما يحييكم هو مجاهدة الكفار لأنهم لو تركوها لغلبوهم وقتلوهم ولكم في القصاص حيا ، وقيل : الشهادة لقوله : { بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ } قاله ابن إسحاق ، وقيل : لما يحييكم من علوم الديانات والشرائع لأنّ العلم حياة كما أنّ الجهل موت . قال الشاعر : لا تعجبن الجهول حليته فذاك ميّت وثوبه كفن وهذا نحو من قول الجمهور ومجاهد ، وقال مجاهد أيضاً : ما يحييكم هو الحقّ ، وقيل : هو إحياء أمورهم وطيب أحوالهم في الدنيا ورفعتهم ، يقال : حييت حاله إذا ارتفعت ، وقيل : ما يحصل لكم من الغنائم في الجهاد ويعيشون منها ، وقيل : الجثة والذي يظهر هو القول الأوّل لأنه في سياق قوله ولو علم اللّه فيهم خيراً لأسمعهم فالذي يحيا به من الجهل هو سماع ما ينفع مما أمر به ونهى عنه فيمتثل المأمور به ويجتنب المنهي عنه فيؤول إلى الحياتين الطيبتين الدنيوية والأخروية . {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّه يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْء وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } المعنى : أنه تعالى هو المتصرّف في جميع الأشياء والقادر على الحيلولة بين الإنسان وبين ما يشتهيه قلبه فهو الذي ينبغي أن يستجاب له إذا دعاه إذ بيده تعالى ملكوت كل شيء وزمامه وفي ذلك حضّ على المراقبة والخوف من اللّه تعالى والبدار إلى الاستجابة له ، وقال ابن عباس وابن جبير والضحاك : يحول بين المؤمن والكفر وبين الكافر والإيمان ، وقال مجاهد : يحول بين المرء وعقله فلا يدري ما يعمل عقوبة على عناده ففي التنزيل إنّ في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أي عقل ، وقال السدي : يحول بين كل واحد وقلبه فلا يقدر على إيمان ولا كفر إلا بإذنه ، وقال ابن الأنباري : بينه وبين ما يتمناه ، وقال ابن قتيبة : بينه وبين هواه وهذان راجعان إلى القول الأول ، وقال علي بن عيسى : هو أن يتوفاه ولأنّ الأجل يحول بينه وبين أمل قلبه وهذا حثّ على انتهاز الفرصة قبل الوفاة التي هو واجدها وهي التمكن من إخلاص القلب ومخالجة أدوائه وعللّه وردّه سليماً كما يريده اللّه فاغتنموا هذه الفرصة وأخلصوا قلوبكم لطاعة اللّه ورسوله انتهى ، وهو على طريقة المعتزلة وعلي بن عيسى هو الرماني وهو معتزلي ، وقال الزمخشري أيضاً . وقيل معناه : أنّ اللّه قد يملك على العبد قلبه فيفسخ عزائمه ويغير نيّاته ومقاصده ويبدله بالخوف أمناً وبالأمن خوفاً وبالذكر نسياناً وبالنسيان ذكراً وما أشبه ذلك مما هو جائز على اللّه تعالى ، فأما ما يثاب عليه العبد ويعاقب من أفعال القلوب فلا والمجبرة على أنه يحول بين المرء والإيمان إذا كفر وبينه وبين الكفر إذا آمن تعالى اللّه عما يقول الظالمون علوًّا كبيراً انتهى ، وجعل هذا المسكين صدر هذه الأمة ظالمين إذ قائل ذلك هو ابن عباس ترجمان القرآن ومن ذكر معه من سادات التابعين ، وقيل : يبدل الجبن جراءة وهو تحريض على القتال بعد الأمر به بقوله استجيبوا ويكشف حقيقته قوله صلى اللّه عليه وسلم : { قلب ابن آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلّبه كيف يشاء وتأويله بين أثرين من آثار ربوبيته} . وقيل : يحول بين المؤمن وبين المعاصي التي يهمّ بها قلبه بالعصمة ، وقيل : معناه أنه يطلع على كل ما يخطر المرء بباله لا يخفى عليه شيء من ضمائره فكأنه بينه وبين قلبه واختار الطبري أن يكون المعنى أنّ اللّه أخبر أنه أملك لقلوب العباد منهم وأنه يحول بينهم وبينهما إذا شاء حتى لا يدرك الإنسان شيئاً إلا بمشيئته تعالى ، وقرأ ابن أبي إسحاق : بين المرء بكسر الميم اتباعاً لحركة الإعراب إذ في المرء لغتان : فتح الميم مطلقاً واتباعها حركة الإعراب ، وقرأ الحسن والزهري : بين المرّ بتشديد الراء من غير همز ووجهه أنه نقل حركة الهمزة إلى الراء وحذف الهمزة ثم شدّدها كما تشدّد في الوقف وأجرى الوصل مجرى الوقف وكثيراً ما تفعل العرب ذلك تُجري الوصل مجرى الوقف ، وهذا توجيه شذوذ وأنه إليه تحشرون الظاهر أن الضمير في أنه عائد إلى اللّه ويحتمل أن يكون ضمير الشأن ولما أمرهم بأن يعلموا قدرة اللّه وحيلولته بين المرء ومقاصد قلبه أعلمهم بأنه تعالى إليه يحشرهم فيثيبهم على أعمالهم فكان في ذلك تذكار لما يؤول إليه أمرهم من البعث والجزاء بالثواب والعقاب . ٢٥واتقوا فتنة لا . . . . . {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً } هذا الخطاب ظاهره العموم باتقاء الفتنة التي لا تختصّ بالظالم بل تعمّ الصالح والطالح وكذلك روي عن ابن عباس قال : أمر المؤمنين أن لا يقرُّوا المنكر بين أظهرهم فيعمّهم اللّه بالعذاب ففي البخاري والترمذي أن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم اللّه بعذاب من عنده ، وفي مسلم من حديث زينب بنت جحش سألت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : نعم إذا كثر الخبث ، وقيل الخطاب للصحابة ، وقيل لأهل بدر ، وقيل لعلي وعمار وطلحة والزبير ، وقيل لرجلين من قريش قاله أبو صالح عن ابن عباس ولم يسمّهما والفتنة هنا القتال في وقعة الجمل أو الضلالة أو عدم إنكار المنكر أو بالأموال والأولاد أو بظهور البدع أو العقوبة أقوال ، وقال الزبير بن العوام يوم الجمل : ما علمت أنا أُردنا بهذه الآية إلا اليوم وما كنت أظنها إلا فيمن خوطب بها في ذلك الوقت والجملة من قوله لا تصيبن خبريّة صفة لقوله فتنة أي غير مصيبة الظالم خاصة إلا أن دخول نون التوكيد على المنفى بلا مختلف فيه ، فالجمهور لا يجيزونه ويحملون ما جاء منه على الضرورة أو الندور والذي نختاره الجواز وإليه ذهب بعض النحويين وإذا كان قد جاء لحاقها الفعل مبنياً بلا مع الفصل نحو قوله : فلاذا نعيم يتركن لنعيمه وإن قال قرظني وخذ رشوة أبي ولا ذا بئيسن يتركن لبؤسه فينفعه شكوى إليه إن اشتكى فلان يلحقه مع غير الفصل أولى نحو لا تصيبنّ وزعم الزمخشري أنّ الجملة صفة وهي نهي قال وكذلك إذا جعلته صفة على إرادة القول كأنه قيل واتقوا فتنة مقولاً فيها لا تصيبنّ ونظيره قوله : حتى إذا جنّ الظلام واختلط جاءوا بمذق هل رأيت الذئب قط أي بمذق مقول فيه هذا القول لأنّ فيه لون الزّرقة التي هي معنى الذئب انتهى . وتحريره أن الجملة معمولة لصفة محذوفة وزعم الفرّاء أن الجملة جواب للأمر نحو قولك : إنزل عن الدابة لا تطرحنّك أي إن تنزل عنها لا تطرحنكّ ، قال : ومنه لا يحطّكمنّكم سليمان أي إن تدخلوا لا يحطمنّكم فدخلت النون لما فيها من معنى الجزاء انتهى ، وهذا المثال بقوله ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم ليس نظير واتقوا فتنة لأنه ينتظم من المثال والآية شرط وجزاء كما قدر ولا ينتظم ذلك هناك ألا ترى أنه لا يصحّ تقدير إن تتقوا فتنة لا تصيب الذين ظلموا منكم خاصة لأنه يترتب إذ ذاك على الشرط مقتضاه من جهة المعنى وأخذ الزمخشري قول الفرّاء وزاده فساداً وخبط فيه فقال وقوله لا تصيبن لا يخلو من أن يكون جواباً للأمر أو نهياً بعد أمر أو صفة لفتنة فإذا كان جواباً فالمعنى إن أصابتكم لا تصب الظالمين منكم خاصة ولكنها تعمكم انتهى . تقرير هذا القول فانظر كيف قدّر أن يكون جواباً للأمر الذي هو اتقوا ثم قدّر أداة الشرط داخلة على غير مضارع اتقوا فقال فالمعنى إن أصابتكم يعني الفتنة وانظر كيف قدّر الفراء في أنزل عن الدابة لا تطرحنك وفي قوله ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم فأدخل أداة الشرط على مضارع فعل الأمر وهكذا يقدر ما كان جواباً للأمر وزعم بعضهم أن قوله لا تصيبنّ جواب قسم محذوف ، وقيل لا نافية وشبه النفي بالموجب فدخلت النون كما دخلت في لتضربنّ التقدير : واللّه لا تصيبن فعلى القول الأوّل بأنها صفة أو جواب أمر أو جواب قسم تكون النون قد دخلت في المنفى بلا وذهب بعض النحويين إلى أنها جواب قسم محذوف والجملة موجبة فدخلت النون في محلها ومطلت اللام فصارت لا والمعنى لتصيبنّ ويؤيد هذا قراءة ابن مسعود وعلى وزيد ان ثابت والباقر والربيع بن أنس وأبي العالية لتصيبن وفي ذلك وعيد للظالمين فقط وعلى هذا التوجيه خرّج ابن جنّي أيضاً قرا ٠ ءة الجماعة لا تصيبن وكون اللام مطلت فحدثت عنها الألف إشباعاً لأن الإشباع بابه الشعر ، وقال ابن جني في قراءة ابن مسعود ومن معه يحتمل أن يراد بهذه القراءة لا تصيبنّ فحذفت الألف تخفيفاً واكتفاء بالحركة كما قالوا أم واللّه . قال المهدوي كما حذفت من ما وهي أخت لا في قوله أم واللّه واللّه لأفعلنّ وشبهه انتهى وليست للنفي ، وحكى النقاش عن ابن مسعود أنه قرأ فتنة أن تصيب ، وعن الزبير : لتصيبنّ وخرّج المبرّد والفراء والزجاج قراءة لا تصيبنّ على أن تكون ناهية وتمّ الكلام عند قوله واتقوا فتنة وهو خطاب عام للمؤمنين تم الكلام عنده ثم ابتدىء نهي الظلمة خاصة عن التعرض للظلم فتصيبهم الفتنة خاصة وأخرج النهي على جهة إسناده للفتنة فهو نهي محول كما قالوا لا أرينّك ههنا أي لا تكن هنا فيقع مني رؤيتك والمراد هنا لا يتعرض الظالم للفتنة فتقع إصابتها له خاصة ، وقال الزمخشري في تقدير هذا الوجه وإذا كانت نهياً بعد أمر فكأنه قيل واحذروا ذنباً أو عقاباً ثم قيل لا تتعرضوا للظلم فيصيب العقاب أو أثر الذنب من ظلم منكم خاصّة ، وقال الأخفش لا تصيبنّ هو على معنى الدعاء انتهى والذي دعاه إلى هذا واللّه أعلم استبعاد دخول نون التوكيد في المنفي بلا واعتياض تقريره نهياً فعدل إلى جعله دعاء فيصير المعنى لا أصابت الفتنة الظالمين خاصّة واستلزمت الدعاء على غير الظالمين فصار التقدير لا أصابت ظالماً ولا غير ظالم فكأنه واتقوا فتنة ، لا أوقعها اللّه بأحد ، فتلخص في تخريج قوله لا تصيبن أقوال الدعاء والنهي على تقديرين وجواب أمر على تقديرين وصفة . قال الزمخشري، { فإن قلت } : كيف جاز أن تدخل النون المؤكدة في جواب الأمر ، { قلت } : لأن فيه معنى التمني إذا قلت إنزل عن الدابة لا تطرحك فلذلك جاز لا تطرحنك ولا تصيبن ولا يحطمنكم انتهى ، وإذا قلت لا تطرحك وجعلته جواباً لقولك إنزل وليس فيه نهي بل نفي محض جواب الأمر نفي بلا وجزمه على الجواب على الخلاف الذي في جواب الأمر والستة معه هل ثم شرط محذوف دل عليه الأمر وما ذكر معه معنى الشرط وإذا فرعنا على مذهب الجمهور في أن الفعل المنفي بلا لا تدخل عليه النون للتوكيد لم يجز أنزل عن الدابة لا تطرحنّك ، وقال الزمخشري، { فإن قلت } : ما معنى من في قوله الذين ظلموا منكم خاصّة ، { قلت } : التبعيض على الوجه الأول فالتبيين على الثاني لأن المعنى لا تصيبكم خاصة على ظلمكم لأن الظلم منكم أقبح من سائر الناس انتهى ، ويعني بالأول أن يكون جواباً بعد أمر وبالثاني أن يكون نهياً بعد أمر وخاصة أصله أن يكون نعتاً لمصدر محذوف أي إصابة خاصة وهي حال من الفاعل المستكن في لا تصيبنّ ويحتمل أن يكون حالاً من الذين ظلموا أي مخصوصين بها بل تعمهم وغيرهم ، وقال ابن عطية ويحتمل أن تكون خاصة حالاً من الضمير في ظلموا ولا أتعقل هذا الوجه . {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّه شَدِيدُ الْعِقَابِ } هذا وعيد شديد مناسب لقوله لا تصيبنّ الذين ظلموا منكم خاصة إذ فيه حثّ على لزوم الاستقامة خوفاً من عقاب اللّه لا يقال كيف يوصل الرحيم الكريم الفتنة والعذاب لمن لم يذنب ، { قلت } : لأنه تصرّف بحكم الملك كما قد ينزل الفقر والمرض بعبده ابتداءً فيحسن ذلك منه أو لأنه علم اشتمال ذلك على مزيد ثواب لمن أوقع به ذلك . ٢٦واذكروا إذ أنتم . . . . . {وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِى الاْرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مّنَ الطَّيّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } نزلت عقب بدر ، فقيل خطاب للمهاجرين خاصة كانوا بمكة قليلي العدد مقهورين فيها يخافون أن يسلبهم المشركون ، قال ابن عباس فآتوا هم بالمدينة وأيدهم بالنصر يوم بدر والطيبات الغنائم وما فتح به عليهم ، وقيل الخطاب للرسول والصحابة وهي حالهم يوم بدر والطيبات الغنائم والناس عسكر مكة وسائر القبائل المجاورة والتأييد هو الإمداد بالملائكة والتغلب على العدد ، وقال وهب وقتادة الخطاب للعرب قاطبة فإنها كانت أعرى الناس أجساماً وأجوعهم بطوناً وأقلّهم حالاً حسنة والناس فارس والروم والمأوى النبوة والشريعة والتأييد بالنصر فتح البلاد وغلبة الملوك والطيبات تعم المآكل والمشارب والملابس ، قال ابن عطية : هذا التأويل يردّه أن العرب كانت في وقت نزول هذه الآية كافرة إلا القليل ولم تترتب الأحوال التي ذكر هذا المتأول وإنما كان يمكن أن يخاطب العرب بهذه الآية في آخر زمان عمر رضي اللّه عنه فإن تمثّل أحد بهذه الآية بحال العرب فتمثيله صحيح وإما أن يكون حالة العرب هي سبب نزول الآية فبعيد لما ذكرناه انتهى ، وهذه الآية تعديل لنعمه تعالى عليهم ، قال الزمخشري : إذ أنتم نصب على أنه مفعول به لاذكروا ظرف أي اذكروا وقت كونكم أقِلّة أذِلّة انتهى ، وفيه التصرّف في إذ بنصبها مفعولة وهي من الظروف التي لا تتصرّف إلا بأن أضيف إليها الأزمان ، و قال ابن عطية : وإذ ظرف لمعمول واذكروا تقديره واذكروا حالكم الكائنة أو الثابتة إذ أنتم قليل ولا يجوز أن تكون إذ ظرفاً ل { ذكروا} وإنما تعمل اذكر في إذ لو قدّرناها مفعوله انتهى ، وهو تخريج حسن . وقال الحوفي إذ أنتم ظرف العامل فيه اذكروا انتهى ، وهذا لا يتأتى أصلاً لأنّ اذكر للمستقبل فلا يكون ظرفه إلا مستقبلاً وإذ ظرف ماضٍ يستحيل أن يقع فيه المستقبل ولعلكم تشكرون متعلق بقوله فآواكم وما بعده أي فعل هذا الإحسان لإرادة الشكر . ٢٧يا أيها الذين . . . . . {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّه وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } قال ابن عباس والأكثرون : نزلت في أبي لبابة حين استنصحته قريظة لما أتى الرسول صلى اللّه عليه وسلم أن يسيّرهم إلى أذرعات وأريحا كفعله ببني النصير فأشار أبو لبابة إلى حلقه أي ليس عند الرسول إلا الذبح فكانت هذه خيانته في قصّة طويلة ، وقال جابر في رجل من المنافقين كتب إلى أبي سفيان بشيء من إخبار الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، وقال المغيرة بن شعبة في قتل عثمان . قال ابن عطية ويشبه أن يتمثل بالآية في قتله فقد كان قتله خيانة للّه ورسوله والأمانات انتهى ، وقيل في حاطب بن أبي بلتعة حين كتب إلى أهل مكة يعلمهم بخروج الرسول صلى اللّه عليه وسلم إليها ، وقيل في قوم كانوا يسمعون الحديث من الرسول فيفشونه حتى يبلغ المشركين وخيانتهم اللّه في عدم امتثال أوامره وفعل ما نهي عنه في سرّ وخيانة الرسول فيما استحفظ وخيانة الأمانات إسقاطها وعدم الاعتبار بها ، وقيل وتخونوا ذوي أماناتكم وأنتم تعلمون جملة حالية أي وأنتم تعلمون تبعة ذلك ووباله فكان ذلك أبعد لكم من الوقوع في الخيانة لأن العالم بما يترتب على الذنب يكون أبعد الناس عنه ، وقيل وأنتم تعلمون أن الخيانة توجد منكم عن تعمّد لا عن سهو ، وقيل وأنتم عالمون تعلمون قبح القبيح وحسن الحسن وجوّزوا في وتخونوا أن يكون مجزوماً عطفاً على لا تخونوا ومنصوباً على جواب النهي وكونه مجزوماً هو الراجح لأن النصب يقتضي النهي عن الجمع والجزم يقتضي النهي عن كل واحد ، وقرأ مجاهد أمانتكم على التوحيد وروى ذلك عن أبي عمرو . ٢٨واعلموا أنما أموالكم . . . . . {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللّه عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } أي سبب الوقوع في الفتنة وهي الإثم أو العذاب أو محنة واختبار لكم وكيف تحافظون على حدوده فيها ففي كون الأجر العظيم عنده إشارة إلى أن لا يُفتن المرء بماله وولده فيؤثر محبته لهما على ما عند اللّه فيجمع المال ويحب الولد حتى يؤثر ذلك كما فعل أبو لبابة لأجل كون ماله وولده كانوا عند بني قريظة . ٢٩يا أيها الذين . . . . . {يِاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّه يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفّرْ عَنكُمْ سَيّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّه ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } فرقاناً قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والضحاك والسدّي وابن قتيبة ومالك فيما روي عن ابن وهب وابن القاسم وأشهب مخرجاً ، وقرأ مالك ومن يتّقِ اللّه يجعل له مخرجاً والمعنى مخرجاً في الدّين من الضلال ، وقال مزرد بن ضرار : بادر الأفق أن يغيب فلما أظلم الليل لم يجد فرقانا وقال الآخر : مالك من طول الأسى فرقان بعد قطين رحلوا وباتوا وقال الآخر وكيف أرجى الخلد والموت طالبي وما لي من كأس المنية فرقان وقال ابن زيد وابن إسحاق فصلاً بين الحق والباطل ، وقال قتادة وغيره : نجاة ، وقال الفرّاء فتحاً ونصراً وهو في الآخرة يدخلكم الجنة والكفار النار ، و قال ابن عطية : فرقاً بين حقّكم وباطل من ينازعكم أي بالنصر والتأييد عليهم والفرقان مصدر من فرق بين الشيئين حال بينهما ، وقال الزمخشري : نصراً لأنه يفرّق بين الحق والباطل وبين الكفر بإذلال حزبه والإسلام بإعزاز أهله ومنه قوله تعالى يوم الفرقان أو بياناً وظهوراً يشهد أمركم ويثبت صيتكم وآثاركم في أقطار الأرض تقول بت أفعل كذا حتى سطع الفرقان أي طلع الفجر أو مخرجاً من الشبهات وتوفيقاً وشرحاً للصدور أو تفرقة بينكم وبين غيركم من أهل الأديان وفضلاً ومزية في الدنيا والآخرة انتهى ، ولفظ فرقاناً مطلق فيصلح لما يقع به فرق بين المؤمنين والكافرين في أمور الدنيا والآخرة والتقوى هنا إن كانت من اتقاء الكبائر كانت السيئات الصغائر ليتغاير الشرط والجواز وتكفيرها في الدنيا ومغفرتها إزالتها في القيامة وتغاير الظرفان لئلا يلزم التكرار ، وتقدّم تفسير واللّه ذو الفضل العظيم في البقرة . ٣٠وإذ يمكر بك . . . . . {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّه وَاللّه خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } لما ذكر المؤمنين نعمه عليهم ذكره صلى اللّه عليه وسلم نعمه عليه في خاصة نفسه وكانت قريش قد تشاوروا في دار الندوة بما تفعل به فمن قائل : يحبس ويقيّد ويتربّص به ريب المنون ومن قائل : يخرج من مكة تستريحوا منه وتصور إبليس في صورة شيخ نجدي وقيل هذين الرأيين ومن قائل : يجتمع من كل قبيلة رجل ويضربونه ضربة واحدة بأسيافهم فيتفرق دمه في القبائل فلا تقدر بنو هاشم لمحاربة قريش كلها فيرضون بأخذ الدية فصوّب إبليس هذا الرأي فأوحى اللّه تعالى إلى نبيه صلى اللّه عليه وسلم بذلك وأمره أن لا يبيت في مضجعه وأذن له بالخروج إلى المدينة وأمر عليًّا أن يبيت في مضجعه ويتّشح ببردته وباتوا راصدين فبادروا إلى المضجع فأبصروا عليًّا فبُهتوا وخلف عليًّا ليردّ ودائع كانت عنده وخرج إلى المدينة . قال ابن عباس ومجاهد : ليثبتوك أي يقيّدوك ، وقال عطاء والسدّي : ليثخنوك بالجرح والضرب من قولهم ضربوه حتى أثبتوه لا حراك به ولا براح ورمي الطائر فأثبته أي أثخنه . قال الشاعر : فقلت ويحك ماذا في صحيفتكم قال الخليفة أمسى مثبتاً وجعا أي مثخناً . وقرأ النخعي ليبيتوك من البيات وهذا المكر هنا هو بإجماع المفسّرين ما اجتمعت عليه قريش في دار الندوة كما أشرنا إليه وهذه الآية مدنيّة كسائر السورة وهو الصواب ، وعن عكرمة ومجاهد إنها مكية وعن ابن زيد نزلت عقيب كفاية اللّه رسوله المستهزئين ويتأوّل قول عكرمة ومجاهد على أنهما أشارا إلى قصة الآية إلى وقت نزولها وتكرر ويمكرون إخباراً باستمرار مكرهم وكثرته وتقدم شرح مثل باقي الآية في آل عمران . ٣١وإذا تتلى عليهم . . . . . {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءايَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَاذَا} قائل ذلك هو النضر بن الحارث واتبعه قائلون كثيرون وكان من مردة قريش سافر إلى فارس والحيرة وسمع من قصص الرهبان والأناجيل وأخبار رستم واسفنديار ويرى اليهود والنصارى يركعون ويسجدون ، قتله رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم صبراً بالصفراء بالأنيل منها منصرفه من بدر ، وفي هذا التركيب جواز وقوع المضارع بعد إذا وجوابه الماضي جوازاً فصيحاً بخلاف أدوات الشرط فإنه لا يجوز ذلك فيها إلا في الشعر نحو من يكدني بشيء كنت منه ومعنى قد سمعنا قد سمعنا ولا نطيع أو قد سمعنا منك هذا وقولهم لو نشاء أي لو نشاء القول لقلنا مثل هذا الذي تتلوه وذكر على معنى المتلو وهذا القول منهم على سبيل البهت والمصادمة وليس ذلك في استطاعهم فقد طولبوا بسورة منه فعجزوا وكان أصعب شيء إليهم الغلبة وخصوصاً في باب البيان فقد كانوا يتمالطون ويتعارضون ويحكم بينم في ذلك وكانوا أحرص الناس على قهر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فكيف يحيلون المعارضة على المشيئة ويتعللون بأنهم لو أرادوا لقالوا مثل هذا القول . {إِنْ هَاذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الاْوَّلِينَ} تقدم شرحه في الأنعام . ٣٢وإذ قالوا اللّهم . . . . . {وَإِذْ قَالُواْ اللّهمَّ إِن كَانَ هَاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السَّمَاء أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } قائل ذلك النضر ، وقيل أبو جهل رواه البخاريّ ومسلم ، وقال الجمهور : قائل ذلك كفار قريش والإشارة في قوله إن كان هذا إلى القرآن أو ما جاء به الرسول صلى اللّه عليه وسلم من التوحيد وغيره أو نبوّة محمد صلى اللّه عليه وسلم من بين سائر قريش أقوال وتقدّم الكلام على اللّهم ، وقرأ الجمهور هو الحقّ بالنصب جعلوا هو فصلاً ، وقرأ الأعمش وزيد بن عليّ بالرفع وهي جائزة في العربية فالجملة خبر كان وهي لغة تميم يرفعون بعد هو التي هي فصل في لغة غيرهم كما قال : وكنت عليها بالملا أنت أقدر وتقدّم الكلام على الفصل وفائدته في أول البقرة ، وقال ابن عطية ويجوز في العربيّة رفع الحقّ على أنه خبر والجملة خبر كان . قال الزجاج ولا أعلم أحداً قرأ بهذا الجائز ، وقراءة الناس إنما هي بنصب الحق انتهى ، وقد ذكر من قرأ بالرفع وهذه الجملة الشرطيّة فيها مبالغة في إنكار الحق عظيمة أي إن كان حقًّا فعاقبنا على إنكاره بأمطار الحجارة علينا أم بعذاب آخر ، قال الزمخشري ومراده نفي كونه حقًّا فإذا انتفى كونه حقًّا لم يستوجب منكره عذاباً فكان تعليق العذاب بكونه حقاً مع اعتقاد أنه ليس بحق كتعليقه بالمحال في قوله إن كان الباطل حقًّا مع اعتقاده أنه ليس بحق وقوله هو الحق تهكم بمن يقول على سبيل التخصيص والتعيين هذا هو الحق ويقال أمطرت كأنجمت وأسبلت ومطرت كهتفت وكثر الأمطار في معنى العذاب ، { فإن قلت } : فما فائدة قوله من السماء والأمطار لا تكون إلا منها ، { قلت } : كأنه أراد أن يقال فأمطر علينا السجّيل وهي الحجارة المسوّمة للعذاب موضع حجارة من السماء موضع السجّيل ، كما يقال صبّ عليه مسرودة من حديد يريد درعاً انتهى ، ومعنى جوابه أن قوله من السماء جاء على سبيل التأكيد كما أن قوله من حديد معناه التأكيد لأنّ المسرودة لا تكون إلا من حديد كما أنّ الأمطار لا تكون إلا من السماء ، و قال ابن عطية : وقولهم من السماء مبالغة وإغراق انتهى . والذي يظهر لي أن حكمة قولهم من السماء هي مقابلتهم مجيء الأمطار من الجهة التي ذكر صلى اللّه عليه وسلم أنه يأتيه الوحي من جهتها أي إنك تذكر أنه يأتيك الوحي من السماء فأتنا بعذاب من الجهة التي يأتيك منها الوحي إذ كان يحسن أن يعبّر عن إرسال الحجارة عليهم من غير جهة السماء بقولهم : فأمطر علينا حجارة ، وقالوا ذلك على سبيل الاستبعاد والاعتقاد أن ما أتي به ليس بحق ، وقيل على سبيل الحسد والعناد مع علمهم أنه حق واستبعد هذا الثاني ابن فورك قال : ولا يقول هذا على وجه العناد عاقل انتهى ، وكأنه لم يقرأ وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم وقصّة أمية بن أبي الصلت وأحبار اليهود الذين قال اللّه تعالى فيهم : فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ، وقول الرسول صلى اللّه عليه وسلم لهم واللّه إنكم لتعلمون أني رسول اللّهأو كلام يقاربه واقتراحهم هذين النوعين هو على ما جرى عليه اقتراح الأمم السالفة ، وسأل يهودي ابن عباس ممن أنت قال من قريش فقال أنت من الذين قالوا إن كان هذا هو الحق من عندك الآية ، فهلا قالوا فاهدنا إليه ، فقال ابن عباس فأنت يا إسرائيلي من الذين لم تجفَّ أرجلهم من بلل البحر الذي أغرق فيه فرعون وقومه ونجا موسى وقومه حتى قالوا اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة فقال له موسى إنكم قوم تجهلون فأطرق اليهودي مفحماً ، وعن معاوية أنه قال لرجل من سبأ ما أجهل قومك حين ملّكوا عليهم امرأة فقال أجهل من قومي قومك قالوا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين دعاهم إلى الحقّ إن كان هذا هو الحق الآية ، ولم يقولوا : فاهدنا له . ٣٣وما كان اللّه . . . . . {وَمَا كَانَ اللّه لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } نزلت هذه إلى يعلمون بمكة ، وقيل بعد وقعة بدر حكاية عما حصل فيها . وقال ابن ابزي : الجملة الأولى بمكة إثر قوله بعذاب أليم ، والثانية عند خروجه من مكة في طريقه إلى المدينة وقد بقي بمكة مؤمنون يستغفرون ، والثالثة بعد بدر عند ظهور العذاب عليهم ولما علقوا أمطار الحجارة أو الإتيان بعذاب أليم على تقدير كينونة ما جاء به الرسول صلى اللّه عليه وسلم حقاً أخبر تعالى أنهم مستحقو العذاب لكنه لا يعذبهم وأنت فيهم إكراماً له وجرياً على عادته تعالى مع مكذّبي أنبيائه أن لا يعذبهم وأنبياؤهم مقيمون فيهم عذاباً يستأصلهم فيه ، قال ابن عباس لم تعذّب أمة قط ونبيها فيها وعليه جماعة المتأولين فالمعنى فما كانت لتعذب أمتك وأنت فيهم بل كرامتك عند ربك أعظم وقال تعالى وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ومن رحمته تعالى أن لا يعذّبهم والرسول فيهما ولما كان الإمطار للحجارة عليهم مندرجاً تحت العذاب كان النفي متسلّطاً على العذاب الذي إمطار الحجارة نوع منه فقال تعالى وما كان اللّه ليعذبهم ولم يجيء التركيب ، وما كان اللّه ليمطر أوليائي بعذاب وتقييد نفي العذاب بكينونة الرسول فيهم إعلام بأنه إذا لم يكن فيهم وفارقهم عذّبهم ولكنه لم يعذبهم إكراماً له مع كونهم بصدد من يعذب لتكذيبهم . قال ابن عطية عن أبي زيد : سمعت من العرب من يقول وما كان اللّه ليعذبهم بفتح اللام وهي لغة غير معروفة ولا مستعملة في القرآن انتهى ، وبفتح اللام في ليعذبهم قرأ أبو السّمال ، وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو بالفتح في لام الأمر في قوله فلينظر الإنسان إلى طعامه ، وروى ابن مجاهد عن أبي زيد أن من العرب من يفتح كلّ لام إلا في نحو : الحمد للّه انتهى ، يعني لام الجرّ إذا دخلت على الظاهر أو على ياء المتكلم والظرفية في فيهم مجاز والمعنى : وأنت مقيم بينهم غير راجل عنهم . {وَمَا كَانَ اللّه مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} أنظر إلى حُسن مساق هاتين الجملتين لما كانت كينونته فيهم سبباً لانتفاء تعذيبهم أكّد خبر كان باللام على رأي الكوفيين أو جعل خبر كان الإرادة المنفية على رأي البصريين وانتفاء الإرادة للعذاب أبلغ من انتفاء العذاب ولما كان استغفارهم دون تلك الكينونة الشريفة لم يؤكد باللام بل جاء خبر كان قوله معذبهم ، فشتّان ما بين استغفارهم وكينونته صلى اللّه عليه وسلم فيهم والظاهر أن هذه الضمائر كلها في الجمل عائدة على الكفار وهو قول قتادة ، وقال ابن عباس وابن أبزي وأبو مالك والضحاك ما مقتضاه : إن الضمير في قوله معذّبهم عائد على كفار مكة والضمير في قوله وهم عائد على المؤمنين الذين بقوا بعد الرسول صلى اللّه عليه وسلم بمكة أي وما كان اللّه ليعذب الكفار والمؤمنون بينهم يستغفرون ، قال ابن عطية : ويدفع في صدر هذا القول أنّ المؤمنين الذين ردّ الضمير إليهم لم يجر لهم ذكر ، وقال ابن عباس أيضاً ما مقتضاه إنّ الضمير بن عائدان على الكفار وكانوا يقولون في دعائهم غفرانك ويقولون لبّيك لا شريك لك ونحو هذا مما هو دعاء واستغفار فجعله اللّه أمنة من عذاب الدنيا على هذا تركب قول أبي موسى الأشعري وابن عباس إنّ اللّه جعل من عذاب الدنيا أمنتين كون الرسول صلى اللّه عليه وسلم مع الناس والاستغفار فارتفعت الواحدة وبقي الاستفغار إلى يوم القيامة ، وقال الزّجاج وحكى عن ابن عباس وهم يستغفرون عائد على الكفار والمراد به من سبق له في علم اللّه أن يسلم ويستغفر فالمعنى وما كان اللّه ليعذب الكفار ومنهم من يستغفر ويؤمن في ثاني حال ، وقال مجاهد وهم يستغفرون أي وذريتهم يستغفرون ويؤمنون فأسند إليهم إذ ذريتهم منهم والاستغفار طلب الغفران ، وقال الضحّاك ومجاهد : معنى يستغفرون يصلون ، وقال عكرمة ومجاهد أيضاً : يسلمون وظاهر قوله وهم يستغفرون أنهم ملتبسون بالاستغفار أي هم يستغفرون فلا يعذّبون كما أن الرسول فيهم فلا يعذبون فكلا الحالين موجود كون الرسول فيهم واستغفارهم ، وقال الزمخشري وهم يستغفرون في موضع الحال ومعناه نفي الاستغفار عنهم أي ولو كانوا ممن يؤمن ويستغفر من الكفر لما عذبهم كقوله تعالى { وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ } ولكنهم لا يستغفرون ولا يؤمنون ولا يتوقع ذلك منهم انتهى ، وما قاله تقدّمه إليه غيره ، فقال : المعنى وهم بحال توبة واستغفار من كفرهم أن لو وقع ذلك منهم ، واختاره الطبري وهو مرويّ عن قتادة وابن زيد . ٣٤وما لهم ألا . . . . . {وَمَا لَهُمْ أَن لا يُعَذّبَهُمُ اللّه وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ إِنْ أَوْلِيَاءهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} الظاهر أن ما استفهامية أيأيّ شيء لهم في انتفاء العذاب وهو استفهام معناه التقرير أي كيف لا يعذبون وهم متّصفون بهذه الحالة المتقضية للعذاب وهي صدّهم المؤمنين عن المسجد الحرام وليسوا بولاة البيت ولا متأهّلين لولابته ومن صدّهم ما فعلوا بالرسول صلى اللّه عليه وسلم عام الحديبية وإخراجه مع المؤمنين داخل في الصدّ كانوا يقولون نحن ولاة البيت نصدّ من نشاء وندخل من نشاء وأنْ مصدرية ، وقال الأخفش : هي زائدة ، قال النّحّاس : لو كان كما قال لرفع تعذيبهم انتهى ، فكان يكون الفعل في موضع الحال كقوله : وما لنا لا نؤمن باللّه وموضع إن نصب أو جر على الخلاف إذ حذف منه اني وهي تتعلق بما تعلّق به لهم أيأيّ شيء كائن أو مستقرّ لهم في أن لا يعذبهم اللّه والمعنى لا حظ لهم في انتفاء العذاب وإذا انتفى ذلك فهم معذبون ولا بدّ وتقدير الطبري وما يمنعهم من أن يعذبوا هو تفسير معنى لا تفسير إعراب وكذلك ينبغي أن يتأوّل كلام ابن عطية أنّ التقدير وما قدرتهم ونحوه من الأفعال موجب أن يكون في موضع نصب والظاهر عود الضمير في أولياءه على المسجد لقربه وصحّة المعنى ، وقيل ما للنفي فيكون إخباراً أي وليس لهم أن لا يعذبهم اللّه أي ليس ينتفي العذاب عنم مع تلبّسهم بهذه الحال ، وقيل الضمير في أولياءه عائد على اللّه تعالى ، وروي عن الحسن والظاهر أن قوله وما كانوا أولياءه استئناف إخبار أي وما استحقوا أن يكونوا ولاة أمره إن أولياؤه إلا المتقون أي المتقون للشرك وقال الزمخشري : إلا المتقون من المسلمين ليس كل مسلم أيضاً ممن يصلح أن يلي أمره إنما يستأهل ولايته من كان براً تقياً فكيف عبدة الأصنام انتهى ؟ ويجوز أن يكون وما كانوا أولياءه معطوفاً على وهم يصدّون فيكون حالاً والمعنى كيف لا يعذبهم اللّه وهم متّصفون بهذين الوصفين صدّهم عن المسجد الحرام وانتفاء كونهم أولياءه أو أولياءه أي أولياء المسجد أي ليسوا ولاته فلا ينبغي أن يصدّوا عنه أو أولياء اللّه فهو كفار فيكون قد ارتقى من حال إلى أعظم منها وهو كونهم ليسوا مؤمنين فمن كان صادًّا عن المسجد كافراً باللّه فهو حقيق بالتعذيب والضمير في أنّ أولياؤه مترتب على ما يعود عليه في قوله : وما كانوا أولياءه واختلفوا في هذا التعذيب فقال قوم : هو الأول إلا أنه كان امتنع بشيئين كون النبي صلى اللّه عليه وسلم فيهم واستغفار من بينهم من المؤمنين فلما وقع التمييز بالهجرة وقع بالباقين يوم بدر ، وقيل : بل وقع بفتح مكة ، وقال قوم : هذا التعذيب غير ذلك ف الأوّل : استئصال كلهم فلم يقع لما علم من إسلام بعضهم وإسلام بعض ذراريهم ، والثاني : قتل بعضهم يوم بدر ، وقال ابن عباس : الأوّل عذاب الدنيا ، والثاني : عذاب الآخرة ، فالمعنى وما كان اللّه معذب المشركين لاستغفارهم في الدنيا وما لهم أن لا يعذبهم اللّه في الآخرة ومتعلّق لا يعلمون محذوف تقديره لا يعلمون أنهم ليسوا أولياءه بل يظنون أنهم أولياؤه والظاهر استدراك الأكثر في انتفاء العلم إذ كان بينهم وفي خلالهم من جنح إلى الإيمان فكان يعلم أن أولئك الصادّين ليسوا أولياء البيت أو أولياء اللّه فكأنه قيل ولكن أكثرهم أي أكثر المقيمين بمكة لا يعلمون لتخرج منهم العباس وأم الفضل وغيرهما ممن وقع له علم أو إذ كان فيهم من يعلمه وهو يعاند طلباً للرياسة أو أريد بالأكثر الجميع على سبيل المجاز فكأنه قيل ولكنهم لا يعلمون كما قيل : قلما رجل يقول ذلك في معنى النفي المحض وإبقاء الأكثر على ظاهره أولى وكونه أريد به الجميع هو تخريج الزمخشري وابن عطية . ٣٥وما كان صلاتهم . . . . . {وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} لما نفي عنهم أن يكونوا ولاة البيت ذكر من فعلهم القبيح ما يؤكد ذلك وأنّ من كانت صلاته ما ذكر لا يستأهل أن يكونوا أولياءه فالمعنى واللّه أعلم أن الذي يقوم مقام صلاتهم هو المكاء والتصدية وضعوا مكان الصلاة والتقرّب إلى اللّه التصفير والتصفيق كانوا يطوفون غراة ، رجالهم ونساؤهم مشبكين بين أصابعهم يصفرون ويصفّقون يفعلون ذلك إذا قرأ الرسول صلى اللّه عليه وسلم يخلطون عليه في صلاته ونظير هذا المعنى قولهم كانت عقوبتك عزلتك أي القائم مقام العقوبة هو العزل . وقال الشاعر : وما كنت أخشى أن يكون عطاؤه أداهم سوداً أو مدحرجة سمرا أقام مقام العطاء القيود والسّياط كما أقاموا مقام الصلاة المكاء والتصدية ، وقال ابن عباس : كان ذلك عبادة في ظنهم ، قال ابن عطية لما نفى تعالى ولايتهم للبيت أمكن أن يعترض معترض بأن يقول كيف لا نكون أولياءه ونحن نسكنه ونصلي عنده فقطع اللّه هذا الاعتراض ، وما كان صلاتهم إلا المكاء والتصدية كما يقال الرجل : أنا أفعل الخير ، فيقال له : ما فعلك الخير إلا أن تشرب الخمر وتقتل أي هذه عادتك وغايتك قال : والذي مر بي من أمر العرب في غير ما ديوان أنّ المكاء والتصدية كانا من فعل العرب قديماً قبل الإسلام على جهة التقرب والتشرع ، وروي عن بعض أقوياء العرب أنه كان يمكو على الصفا فيسمع من جبل حراء وبينهما أربعة أميال وعلى هذا يستقيم تعييرهم وتنقيصهم بأن شرعهم وصلاتهم وعبادتهم لم تكن رهبة ولا رغبة إنما كانت مكاء وتصدية من نوع اللعب ، ولكنهم كانوا يتزيّدون فيها وقت قراءة النبي صلى اللّه عليه وسلم ليشغلوه وأمته عن القراءة والصلاة ، قال ابن عمر ومجاهد والسدّي : والمكاء : الصفير ، والتصدية : التصفيق ، وعن مجاهد أيضاً المكاء إدخالهم أصابعهم في أفواههم والتصدية الصفير والصفير بالفم وقد يكون بالأصابع والكف في الفم قاله مجاهد وأبو سلمة بن عبد الرحمن ، وقد يشارك الأنف يريدون أن يشغلوا بذلك الرسول عن الصلاة ، وقال ابن جبير وابن زيد : التصدية صدهم عن البيت ، وقال ابن بحر : إنّ صلاتهم ودعاءهم غير رادّين عليهم ثواباً إلا كما يجيب الصدى الصائح فتلخص في معنى الآية ثلاثة أقوال : أحدها : ما ظاهره أن الكفار كانت لهم صلاة وتعبّد وذلك هو المكاء والتصدية ، والثاني : أنه كانت لهم صلاة ولا جدوى لها ولا ثواب فجعلت كأنها أصوات الصدا حيث لها حقيقة ، و الثالث : أنه لا صلاة لهم لكنهم أقاموا مقامها المكاء والتصدية ، وقال بعض شيوخنا : أكثر أهل العلم على أنّ الصلاة هنا هي الطواف وقد سمّاه الرسول صلى اللّه عليه وسلم صلاة ، وقرأ إبان بن تغلب وعاصم والأعمش بخلاف عنهما صلاتهم بالنصب الإمكاء وتصدية بالرفع وخطا قوم منهم أبو علي الفارسي هذه القراءة لجعل المعرفة خبراً والنكرة اسماً قالوا : ولا يجوز ذلك إلا في ضرورة كقوله : يكون مزاجها عسل وماء وخرّجها أبو الفتح على أنّ المكاء والتصدية اسم جنس واسم الجنس تعريفه وتنكيره واحد انتهى ، وهو نظير قول من جعل نسلخ صفة لليل في قوله { وَءايَةٌ لَّهُمُ الَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ } ويسبني صفة للئيم في قوله : ولقد أمر على اللئيم يسبني وقرأ أبو عمر وفيما روي عنه إلا مكاباً لقصر منوّناً فمن مدّ فكالثغاء والرغاء ومن قصّر فكالبكا في لغة من قصّر والعذاب في قوله فذوقوا العذاب ، قيل هو في الآخرة ، وقيل هو قتلهم وأخذ غنائمهم ببدر وأسرهم ، قال ابن عطية : فيلزم أن تكون هذه الآية الأخيرة نزلت بعد بدر ولا بدّ ، والأشبه أنّ الكلّ بعد بدر حكاية عن ماض وكون عذابهم بالقتل يوم بدر هو قول الحسن والضحاك وابن جريج . ٣٦إن الذين كفروا . . . . . {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّه فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ } قال مقاتل والكلبي ّ نزلت في المطعمين يوم بدر وكانوا اثنى عشر رجلاً أبو جهل بن هشام وعتبة وشيبة ابنا ربيعة ونبيه ومنبه ابنا حجّاج وأبو البحتري بن هشام والنضر بن الحرث وحكيم بن حرام وأبيّ بن خلف وزمعة بن الأسود والحارث بن عامر بن نوفل والعباس بن عبد المطلب ، وكلهم من قريش وكان يطعم كلّ واحد منهم كل يوم عشر جزائر ، وقال مجاهد والسدّي وابن جبير وابن ابزي : نزلت في أبي سفيان بن حرب استأجر يوم أحد ألفين من الأحابيش يقاتل بهم النبي صلى اللّه عليه وسلم سوى من استجاش من العرب ، وفيهم يقول كعب بن مالك : فجئنا إلى موج من البحر وسطه أحابيش منهم حاسر ومقنع ثلاثة آلاف ونحن بقيّة ثلاث مئين إن كثرنا وأربع وقال الحكم بن عيينة : أنفق على الأحابيش وغيرهم أربعين أوقية من ذهب ، وقال الضحّاك وغيره : نزلت في نفقة المشركين الخارجين إلى بدر كانوا ينحرون يوماً عشراً من الإبل ويوماً تسعاً وهذا نحو من القول الأوّل ، وقال ابن إسحاق عن رجاله لما رجع فل قريش إلى مكة من بدر ورجع أبو سفيان بعيره كلم أبناء من أصيب ببدر وغيرهم أبا سفيان وتجّار العِير في الإعانة بالمال الذي سلم لعلّنا ندرك ثاراً لمن أصيب ففعلوا فنزلت ، وروي نحوه عن ابن شهاب ومحمد بن يحيى بن حيان وعاصم بن عمرو بن قتادة والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ ، ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر من شرح أحوالهم في الطاعات البدنية وهي صلاتهم شرح حالهم في الطاعات المالية وهي إنفاقهم أموالهم للصدّ عن سبيل اللّه ، والظاهر الإخبار عن الكفار بأنّ إنفاقهم ليس في سبيل اللّه بل سببه الصدّ عن سبيل اللّه فيندرج هؤلاء الذين ذكروا في هذا العموم وقد يكون اللفظ عاماً والسبب خاصاً والمعنى أنّ الكفار يقصدون بنفقتهم الصدّ عن سبيل اللّه وغلبة المؤمنين فلا يقع إلا عكس ما قصدوا وهو تندمهم وتحسّرهم على ذهاب أموالهم ثم غلبتهم والتمكن منهم أسراً وقتلاً وغنماً والعطف بثم يقوّي أنّ الحسرة في الدنيا ، وقيل الحسرة في الآخرة ، وفي الآخرة فسينفقونها إلى آخره من الإخبار بالغيوب لأنه أخبر بما يكون قبل كونه ثم كان أخبروا الإخبار بين الاستقبال يدل على إنفاق متأخر عن وقعة أحد وبدر وأنّ ذلك إخبار عن علو الإسلام وغلبة أهله ، وكذا وقع فتحوا البلاد ودوّخوا العباد وملأ الإسلام معظم أقطار الأرض واتسعت هذه الملة اتساعاً لم يكن لشيء من الملل السابقة . {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ لِيَمِيزَ اللّه الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِى جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } هذا إخبار بما يؤول إليه حال الكفار في الآخرة من حشرهم إلى جهنم إذ أخبر بما آل إليه حالهم في الدنيا من حسرتهم وكونهم مغلوبين ومعنى قوله والذين كفروا من وافى على الكفر وأعاد الظاهر لأنّ من أنفق ماله من الكفار أسلم منهم جماعة ٣٧ليميز اللّه الخبيث . . . . . ولام ليميز متعلقة بقوله يحشرون ، والخبيث والطيب وصفان يصلحان للآدميين وللمال وتقدّم ذكرهما في قوله إن الذين كفروا ينفقون أموالهم فمن المفسرين من تأوّل الخبيث والطيب على الآدميين ، فقال ابن عباس : ليميز أهل السعادة من أهل الشقاوة ونحوه ، قال السدّي ومقاتل قالا : أراد المؤمن من الكفار وتحريره ليميز أهل الشقاوة من أهل السعادة والكافر من المؤمن ، وقدّره الزمخشري : الفريق الخبيث من الكفار من الفريق الطيّب من المؤمنين ، ومعنى جعل الخبيث بعضه على بعض وركمه ضمّه وجمعه حتى لا يفلت منهم أحد واحتمل الجعل أن يكون من باب التصيير ومن باب الإلقاء ، وقال ابن القشيري : ليميز اللّه الخبيث من الطيب بتأخير عذاب كفار هذه الأمة إلى يوم القيامة ليستخرج المؤمنين من أصلاب الكفار انتهى ، فعلى ما سبق يكون التمييز في الآخرة وعلى القول الأخير يكون في الدنيا ومن المفسرين من تأوّل الخبيث والطيب على الأموال ، فقال ابن سلام والزجاج : المعنى بالخبيث المال الذي أنفقه المشركون كمال أبي سفيان وأبي جهل وغيرهما المنفَق في عداوة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والإعانة عليه في الصد عن سبيل اللّه والطيب هو ما أنفقه المؤمنون في سبيل اللّه كمال أبي بكر وعمر وعثمان ولام ليميز على هذا متعلقة بقوله يغلبون قاله ابن عطية ، وقال الزمخشري بقوله ثم تكون عليهم حسرة والمعنى ليميز اللّه الفرق بين الخبيث والطيب فيخذل أهل الخبث وينصر أهل الطيب ويكون قوله فيجعله في جهنم من جملة ما يعذبون به كقوله فتكوي بها جباههم إلى قوله فذوقوا ما كنتم تكنزون قاله الحسن ، وقيل الخبيث ما أُنفق في المعاصي والطيب ما أنفق في الطاعات ، وقيل المال الحرام من المال الحلال ، وقيل ما لم تؤدّ زكاته من الذي أُدِّيت زكاته ، وقيل هو عامّ في الأعمال السيئة وركمها ختمها وجعلها قلائد في أعناق عمالها في النار ولكثرتها جعل بعضها فوق بعض وإن كان المعنى بالخبيث الأموال التي أنفقوها في حرب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقيل : الفائدة في إلقائها في النار أنها لما كانت عزيزة في أنفسها عظيمة بينهم ألقاها اللّه في النار ليريهم هو أنها كما تلقى الشمس والقمر في النار ليرى من عبدهما ذلهما وصغارهما والذي يظهر من هذه الأقوال هو الأول ، وهو أن يكون المراد بالخبيث الكفار وبالطيب المؤمنون إذ الكفار أولاهم المحدّث عنهم بقوله ينفقون أموالهم ، وقوله فسينفقونها وبقوله ثم إلى جهنم يحشرون وأخراهم المشار إليهم بقوله أولئك هم الخاسرون ولما كان تغلب الإنسان في ماله وتصرفه فيه يرجو بذلك حصول الربح له أخبر تعالى أن هؤلاء هم الذين خسروا في إنفاقهم وأخفقت صفقتهم حيث بذل أعزّ ما عنده في مقابلة عذاب اللّه ولا خسران أعظم من هذا ، وتقدم ذكر الخلاف في قراءة ليميز في قوله حتى يميز الخبيث من الطيب ويقال ميزته فتميز وميزته فانماز حكاه بعقوب ، وفي الشاذ وانمازوا اليوم وأنشد أبو زيد قول الشاعر : لما ثنى اللّه عني شرّ عذرته وانمزت لا مشيا دعراً ولا رجلا ٣٨قل للذين كفروا . . . . . {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ } لما ذكر ما يحل بهم من حشرهم إلى النار وجعلهم فيها وخسرهم تلطّف بهم وأنهم إذا انتهوا هن الكفر وآمنوا غفرت لهم ذنوبهم السالفة وليس ثم ما يترتب على الانتهاء عنه غفران الذنوب سوى الكفر فلذلك كان المعنى إن ينتهوا عن الكفر واللام في للذين الظاهر أنها للتبليغ وأنه أمر أن يقول لهم هذا المعنى الذي تضمنته ألفاظ الجملة المحكية بالقول وسواء قاله بهذه العبارة أم غيرها ، وجعل الزمخشري اللام لام العلة ، فقال : أي قل لأجلهم هذا القول إن ينتهوا ولو كان بمعنى خاطبهم به لقيل إن تنتهوا نغفر لكم ، وهي قراءة ابن مسعود ونحوه ، وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيراً ما سبقونا إليه خاطبوا به غيرهم ليسمعوه انتهى ، وقرىء يغفر مبنياً للفاعل والضمير للّه تعالى . {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ} العود يقتضي الرجوع إلى شيء سابق ولا يكون الكفر لأنهم لم ينفصلوا عنه فالمعنى عَوْدهم إلى ما أمكن انفصالهم منه وهو قتال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وقيل وإن يعودوا إلى الارتداد بعد الإسلام ، وبه فسّر أبو حنيفة وإن يعودوا واحتج بالآية على أن المرتد إذا أسلم فلا يلزمه قضاء العبادات المتروكة في حال الردّة وقبلها وأجمعوا على أن الحربي إذا أسلم لم تبقَ عليه تبعة وأما إذا أسلم الذميّ فيلزمه قضاء حقوق الآدميين لا حقوق اللّه تعالى والظاهر دخول الزنديق في عموم قوله قل للذين كفروا فتقبل توبته وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وقال مالك لا تقبل ، وقال يحيى بن معاذ الرازي : التوحيد لا يعجز عن هدم ما قبله من كفر فلا يعجز عن هدم ما بعده من ذنب وجواب الشرط قالوا : فقد مضت سنة الأولين ، ولا يصح ذلك على ظاهره بل ذلك دليل على الجواب والتقدير وإن يعودوا انتقمنا منهم وأهلكناهم فقد مضت سنّة الأوّلين في أنا انتقمنا منهم وأهلكناهم بتكذيب أنبيائهم وكفرهم ويحتمل سنة الأولين أن يراد بها سنة الذين حاق بهم مكرهم يوم بدر وسنة الذين تحزّبوا على أنبيائهم فدمّروا فليتوقعوا مثل ذلك وتخويفهم بقصة بدر أشدّ إذ هي قريبة معاينة لهم وعليها نص السدّيّ وابن إسحاق ، ويحتمل أن يراد بقوله سنة الأولين مَن تقدّم مِن أهل بدر والأمم السالفة والمعنى فقد عاينتم قصة بدر وسمعتم ما حلّ بهم . ٣٩وقاتلوهم حتى لا . . . . . {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدّينُ كُلُّهُ للّه} تقدم تفسير نظير هذه الآية وهنا زيادة كله توكيداً للدّين . وقرأ الأعمش : ويكون برفع النون والجمهور بنصبها . {فَإِنِ انْتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّه بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أي فإن انتهوا عن الكفر ومعنى بصير بإيمانهم فيجازيهم على ذلك ويثيبهم ، وقرأ الحسن ويعقوب وسلام بن سليمان بما تعملون بالتاء على الخطاب لمن أمروا بالمقاتلة أي بما تعملون من الجهاد في سبيله والدعاء إلى دينه يصير يُجازيكم عليه أحسن الجزاء . ٤٠وإن تولوا فاعلموا . . . . . {وَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّه مَوْلاَكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} أي مواليكم ومعينكم وهذا وعد صريح بالظّفر والنصر والأعرق في الفصاحة أن يكون مولاكم خبر أنّ ويجوز أن يكون عطف بيان والجملة بعده خبر أنّ والمخصوص بالمدح محذوف أي اللّهأو هو والمعنى فثقوا بموالاته ونصرته واستدلّ بقوله وقاتلوهم على وجوب قتال أصناف أهل الكفر إلا ما خصّه الدليل وهم أهل الكتاب والمجوس فإنهم يقرّون بالجزية وإنه لا يقرّ سائر الكفار على دينهم بالذّمة إلا هؤلاء الثلاثة لقيام الدليل على واز إقرارها بالجزية . ٤١واعلموا أنما غنمتم . . . . . لقصوّ البعد والقصوى تأنيث الأقصى ومعظم أهل التصريف فصلوا في الفعلى مما لامه واو فقالوا إن كان اسماً أبدلت الواو ياء ثم يمثّلون بما هو صفة نحو الدنيا والعليا والقصيا وإن كان صفة أقرت نحو الحلوى تأنيث الأحلى ، ولهذا قالوا شذّ القصوى بالواو وهي لغة الحجاز والقصيا لغة تميم وذهب بعض النحويين إلى أنه إن كان اسماً أقرت الواو نحو حزوى وإن كان صفة أبدلت نحو الدنيا والعليا وشذّ إقرارها نحو الحلوى ونص على ندور القصوى ابن السكيت ، وقال الزمخشريّ فأما القصوى فكالقود في مجيئه على الأصل وقد جاء القصيا إلا أن استعمال القصوى أكثر مما كثر استعمال استصوب مع مجيء استصاب وأغيلت مع أغالت والترجيح بين المذهبين مذكور في النحو ، البطر قال الهروي : الطغيان عند النعمة ، وقال ابن الأعرابي : سوء احتمال الغي ، وقال الأصمعي : الحيرة عند الحق فلا يراه حقاً ، وقال الزجاج : يتكبر عند الحق فلا يقبله ، وقال الكسائي : مأخوذ من قول العرب ذهب دمه بطراً أي باطلاً ، و قال ابن عطية : البطر الأشر وغمط النعمة والشغل بالمرح فيها عن شكرها ، نكص قال النضر بن شميل : رجع القهقرى هارباً ، وقال غيره : هذا أصله ثم استعمل في الرجوع من حيث جاء . وقال الشاعر : هم يضربون حبيك البيض إذ لحقوا لا ينكصون إذا ما استلحموا وحموا ويقال أراد أمراً ثم نكص عنه . وقال تأبط شرًّا : ليس النكوص على الأدبار مكرمة إنّ المكارم إقدام على الأسل ليس هنا قهقرى بل هو فرار ، وقال مؤرج : نكص رجع بلغة سليم . شرّد فرّق وطرّد والمشرّد المفرّق المبعد وأما شرذ بالذال فسيأتي إن شاء اللّه تعالى عند ذكر قراءة من قرأ بالذال ، التحريض المبالغة في الحثّ وحركه وحرّسه وحرّضه بمعنى ، وقال الزمخشريّ من الحرض وهو أن ينهكه المرض ويتبالغ فيه حتى يشفي على الموت أو أن يسميه حرضاً ويقول له ما أزال إلا حرضاً في هذا الأمر وممرضاً فيه ليهيجه ويحرّكه منه ، وقالت فرقة : المعنى حرض على القتال حتى يتبين لك فيمن تركه إنه حارض ، قال النقاش : وهذا قول غير ملتئم ولا لازم من اللفظ ونحا إليه الزّجاج والحارض الذي هو القريب من الهلاك لفظة مباينة لهذه ليست منها في شيء ، أثخنته الجراحات أثبتته حتى تثقل عليه الحركة وأثخنه المرض أثقله من الثخانة التي هي الغلظ والكثافة والإثخان المبالغة في القتل والجراحات . {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مّن شَىْء فَأَنَّ للّه خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ ءامَنْتُم بِاللّه} قال الكلبي : نزلت بدر ، وقال الواقدي : كان الخمس في غزوة بني قينقاع بعد بدر بشهر وثلاثة أيام للنصف من شوّال على رأس عشرين شهراً من الهجرة ، ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما أمر تعالى بقتال الكفار حتى لا تكون فتنة اقتضى ذلك وقائع وحروباً فذكر بعض أحكام الغنائم وكان في ذلك تبشير للمؤمنين بغلبتهم للكفار وقسم ما تحصّل منهم من الغنائم ، والخطاب في واعلموا للمؤمنين والغنيمة عرفاً ما يناله المسلمون من العدوّ بسعي وأصله الفوز بالشيء يقال غنم غنماً . قال الشاعر : وقد طوّفت في الآفاق حتى رضيت من الغنم بالإياب ويوم الغنم يوم الغنم مطعمه أني توجه والمحروم محروم والغنيمة والفيء هل هما مترادفان أو متباينان قولان وسيأتي ذلك عند ذكر الفيء إن شاء اللّه تعالى . والظاهر أن ما غنم يخمس كائناً ما كان فيكون خمسة لمن ذكر اللّه فأما قوله فإن للّه خمسه فالظاهر أن ما نسب إلى اللّه يصرف في الطاعات كالصدقة على فقراء المسلمين وعمارة الكعبة ونحوهما ، وقال بذلك فرقة وأنه كان الخمس يُقسم على ستة فما نسب إلى اللّه قسّم على من ذكرنا ، وقال أبو العالية سهم اللّه يصرف إلى رتاج الكعبة وعنه كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يأخذ الخمس فيضرب بيده فيه فيأخذ بيده قبضة فيجعلها للكعبة وهو سهم اللّه تعالى ثم يقسم ما بقي على خمسه ، وقيل سهم اللّه لبيت المال ، وقال ابن عباس والحسن والنخعي وقتادة والشافعي قوله فإن للّه خمسه استفتاح كلام كما يقول الرجل لعبده : أعتقك اللّه وأعتقتك على جهة التبرك وتفخيم الأمر والدنيا ، كلها للّه وقسم اللّه وقسم الرسول واحد وكان الرسول صلى اللّه عليه وسلم يقسم الخمس على خمسة أقسام ، وهذا القول هو الذي أورده الزمخشري احتمالاً ، فقال : يحتمل أن يكون معنى للّه وللرسول كقوله تعالى واللّه ورسوله أحقّ أن يرضوه وأن يراد بقوله فإن للّه خمسه أي من حقّ الخمس أن يكون متقرّباً به إليه لا غير ثم خصّ من وجوه القرب هذه الخمسة تفضيلاً لها على غيرها كقوله تعالى وجبريل وميكال والظاهر أن للرسول عليه الصلاة والسلام سهماً من الخمس . وقال ابن عباس فيما روى الطبري : ليس للّه ولا للرسول شيء وسهمه لقرابته يقسم الخُمس على أربعة أقسام ، وقالت فرقة : هو مردود على الأربعة الأخماس ، وقال علي يلي الإمام سهم اللّه ورسوله والظاهر أنه ليس له عليه السلام غير سهم واحد من الغنيمة ، و قال ابن عطية : كان مخصوصاً عليه السلام من الغنيمة بثلاثة أشياء ، كان له خمس الخمس ، وكان له سهم رجل في سائر الأربعة الأخماس ، وكان له صفي يأخذه قبل قسم الغنيمة دابة أو سيفاً أو جارية ولا صفي بعده لا حد بالإجماع إلا ما قاله أبو ثور من أن الصفي إلى الإمام ، وهو قول معدود في شواذ الأقوال انتهى ، وقالت فرقة : لم يورث الرسول صلى اللّه عليه وسلم فسقط سهمه ، وقيل سهمه موقوف على قرابته وقد بعثه إليهم عمر بن عبد العزيز ، وقالت فرقة : هو لقرابة القائم بالأمر بعده ، وقال الحسن وقتادة : كان للرسول صلى اللّه عليه وسلم في حياته فلما توفي جعل لولي الأمر من بعده انتهى ، وذوو القربى معناه قربى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والظاهر عموم قرباه ، فقالت فرقة : قريش كلها بأسرها ذوو قربى ، وقال أبو حنيفة والشافعي : هم بنو هاشم وبنو المطلب استحقوه بالنصرة والمظاهرة دون بني عبد شمس وبني نوفل ، وقال علي بن الحسين وعبد اللّه بن الحسن وابن عباس : هم بنو هاشم فقط ، قال مجاهد : كان آل محمد لا تحل لهم الصدقة فجعل له خمس الخمس ، قال ابن عباس : ولكن أبى ذلك علينا قومنا وقالوا قريش كلها قربى والظاهر بقاء هذا السهم لذوي القربى وأنه لغنيّهم وفقيرهم ، وقال ابن عباس كان على ستة للّه وللرسول سهمان وسهم لأقاربه حتى قبض فأجرى أبو بكر الخمس على ثلاثة ، ولذلك روي عن عمرو من بعده من الخلفاء ، وروي أن أبا بكر منع بني هاشم الخمس وقال إنما لكم أن يعطى فقيركم ويزوج أيمكم ويخدم من لا خادم له منكم وإنما الغنيّ منكم فهو بمنزلة ابن السبيل الغنيّ لا يعطى من الصدقة شيئاً ولا يتيم موسر ، وعن زيد بن علي : ليس لنا أن نبني منه قصوراً ولا أن نركب منه البراذين ، وقال قوم : سهم ذوي القربى لقرابة الخليفة والظاهر أنّ اليتامى والمساكين وابن السبيل عامّ في يتامى المسلمين ومساكينهم وابن السبيل منهم ، وقيل : الخمس كله للقرابة ، وقيل : لعلي إن اللّه تعالى قال : واليتامى والمساكين فقال : أيتامنا ومساكيننا ، وروي عن علي بن الحسين وعبد اللّه بن محمد بن علي أنهما قالا : الآية كلها في قريش ومساكينها وظاهر العطف يقتضي التشريك فلا يحرم أحد قاله الشافعي ، قال : وللإمام أن يفضل أهل الحاجة لكن لا يحرم صنفاً منهم ، وقال مالك : للإمام أن يعطي الأحوج ويحرم غيره من الأصناف ، ولم تتعرض الآية لمن يصرف أربعة الأخماس والظاهر أنه لا يقسم لمن لم يغنم فلو لحق مدد للغانمين قبل حوز الغنيمة لدار الإسلام فعند أبي حنيفة هم شركاؤهم فيها ، وقال مالك والثوري والأوزاعي والليث والشافعي ، لا يشاركونهم والظاهر أن من غنم شيئاً خمس ما غنم إذا كان وحده ولم يأذن الإمام ، وبه قال الثوري والشافعي ، وقال أصحاب أبي حنيفة : هو له خاصة ولا يخمس وعن بعضهم فيه تفصيل ، وقال الأوزاعي إن شاء الإمام عاقبه وحرمه وإن شاء خمس والباقي له ، والظاهر أن قوله غنمتم خطاب للمؤمنين فلا يسهم لكافر حضر بإذن الإمام وقاتل ويندرج في الخطاب العبيد المسلمون فما يخصّهم لساداتهم ، وقال الثوري والأوزاعي إذا استعين بأهل الذمة يسهم لهم ، وقال أشهب إذا خرج المقيّد والذميّ من الجيش وغنماً فالغنيمة للجيش دونهم والظاهر أن قوله { أَنَّمَا غَنِمْتُم مّن شَىْء فَأَنَّ للّه خُمُسَهُ } عامّ في كل ما يغنم من حيوان ومتاع ومعدن وأرض وغير ذلك فيخمس جميع ذلك وبه قال الشافعي إلا الرجال البالغين ، فقال الإمام فيهم مخير بين أن يمنّ أو يقتل أو يسبى ومن سبي منهم فسبيله سبيل الغنيمة ، وقال مالك إن رأى الإمام قسمة الأرض كان صواباً أو إن أدّاه الاجتهاد إلى أن لا يقسمها لم يقسمها والظاهر أنه لا يخرج من الغنيمة غير الخمس فسلب المقتول غنيمة لا يختصّ به القاتل إلا أن يجعل له الأمير ذلك على قتله وبه قال مالك وأبو حنيفة والثوري ، وقال الأوزاعي والليث والشافعي وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد والطبري وابن المنذر : السّلب للقاتل ، قال ابن سريج وأجمعوا على أنّ من قتل أسيراً أو امرأة أو شيخاً أو ذفف على جريج أو قتل من قطعت يداه ورجله أو منهزماً لا يمنع في انهزامه كالمكتوف ليس له سلب واحد من هؤلاء والخلاف هل من شرطه أن يكون القاتل مقبلاً على المقتول وفي معركة أم ليس ذلك من شرطه ودلائل هذه المسائل مستوفاة في كتب الفقه وفي كتب مسائل الخلاف وفي كتب أحكام القرآن والظاهر أنّ ما موصولة بمعنى الذي وهي اسم أن وكتبت أن متصلة بما وكان القياس أن تكتب مفصولة كما كتبوا إن ما توعدون لآت مفصولة وخبر إن هو قوله : فإنّ للّه خمسة وإن للّه في موضع رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي فالحكم إن للّه ودخلت الفاء في هذه الجملة الواقعة خبراً لأن ، كما دخلت في خبر أن في قوله { إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُواْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ } وقال الزمخشري : فإن للّه مبتدأ خبره محذوف تقديره حقّ أو فواجب أمن للّه خمسة انتهى ، وهذا التقدير الثاني الذي هو أو فواجب أنّ للّه خمسه تكون أن ومعمولاها في موضع مبتدأ خبره محذوف وهو قوله فواجب وأجاز الفرّاء أن تكون ما شرطية منصوبة بغنمتم واسم أن ضمير الشأن محذوف تقديره أنه وحذف هذا الضمير مع أنّ المشددة مخصوص عند سيبويه بالشعر ، وروى الجعفي عن هارون عن أبي عمرو فإن للّه بكسر الهمزة ، وحكاها ابن عطية عن الجعفي عن أبي بكر عن عاصم ، ويقوّي هذه القراءة قراءة النخعي فللّه خمسه ، وقرأ الحسن وعبد لوارث عن أبي عمرو : خمسه بسكون الميم ، وقرأ النخعي خمسه بكسر الخاء على الاتباع يعني اتباع حركة الخاء لحركة ما قبلها كقراءة من قرأ { وَالسَّمَاء ذَاتِ الْحُبُكِ } بكسر الحاء اتباعاً لحركة التاء ولم يعتد بالساكن لأنه ساكن غير حصين ، وانظر إلى حسن هذا التركيب كيف أفرد كينونة الخمس للّه وفصل بين اسمه تعالى وبين المعاطيف بقوله خمسه ليظهر استبداده تعالى بكينونة الخمس له ثم أشرك المعاطيف معه على سيل التبعية له ولم يأتِ التركيب فإن للّه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل خمسه ، وجواب الشرط محذوف أي إن كنتم آمنتم باللّه فاعلموا أن الخمس من الغنيمة يجب التقرّب به ولا يراد مجرد العلم بل العلم والعمل بمقتضاه ولذلك قدّر بعضهم إن كنتم آمنتم باللّه فاقبلوا ما أمرتم به في الغنائم وأبعد من ذهب إلى أن الشرط متعلق معناه بقوله فنعم المولى ونعم النصير والتقدير فاعلموا أنّ اللّه مولاكم وما أنزلنا معطوف على باللّه ، ويوم الفرقان يوم بدر بلا خلاف فرق فيه بين الحق والباطل والجمعان جمع المؤمنين وجمع الكافرين قتل فيها صناديد قريش نصّ عليه ابن عباس ومجاهد ومقسم والحسن وقتادة وكانت يوم الجمعة سابع عشر رمضان في السنة الثانية من الهجرة هذا قول الجمهور ، وقال أبو صالح لتسعة عشر يوماً والمنزل : الآيات والملائكة والنصر وختم بصفة القدرة لأنه تعالى أدال المؤمنين على قلتهم على الكافرين على كثرتهم ذلك اليوم ، وقرأ زيد بن علي عبدنا بضمتين كقراءة من قرأ وعبد الطاغوت بضمتين فعلى عبدنا هو الرسول صلى اللّه عليه وسلم وعلى عبدنا هو الرسول ومن معه من المؤمنين وانتصاب يوم الفرقان على أنه ظرف معمول لقوله وما أنزلنا ، وقال الزجاج ويحتمل أن ينتصب بغنمتم أي إنّ ما غنمتم يوم الفرقان يوم التقى الجمعان فإن خمسه لكذا وكذا ، أي كنتم آمنتم باللّه أي فانقادوا لذلك وسلّموا ، قال ابن عطية : وهذا تأويل حسن في المعنى ويعترض فيه الفضل بين الظرف وبين ما تعلقه به بهذه الجملة الكثيرة من الكلام انتهى ، ولا يجوز ما قاله الزجاج لأنه إن كانت ما شرطية على تخريج الفرّاء لزم فيه الفصل بين فعل الشرط ومعموله بجملة الجزاء ومتعلقاتها وإن كانت موصولة فلا يجوز الفصل بين فعل الصلة ومعموله بخبر أنّ . ٤٢إذ أنتم بالعدوة . . . . . {إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ } العدوة شطّ الوادي وتسمي شفيراً وضفّة سميت بذلك لأنها عدت ما في الوادي من ماء أن يتجاوزه أي منعته . وقال الشاعر : عدتني عن زيارتها العوادي وقالت دونها حرب زبون وتسمى الفضاء المساير للوادي عدوة للمجاورة ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالعدوة بكسر العين فيهما وباقي السبعة بالضم والحسن وقتادة وزيد بن علي وعمرو بن عبيد بالفتح وأنكر أبو عمر والضم ، وقال الأخفش لم يسمع من العرب إلاّ الكسر ، وقال أبو عبيد الضمّ أكثرهما ، وقال اليزيدي الكسر لغة الحجاز انتهى ، فيحتمل أن تكون الثلاث لغى ويحتمل أن يكون الفتح مصدراً سمي به وروي بالكسر والضمّ بيت أوس : وفارس لم يحلّ اليوم عدوته ولو إسراعاً وما هموا بإقبال وقرىء بالعدية بقلب الواو لكسرة العين ولم يعتدّوا بالساكن لأنه حاجز غير حصين كما فعلوا ذلك في صبية وقنية ودنيا من قولهم هو ابن عمي دنيا والأصل في هذا التصحيح كالصفوة والذروة والربوة وفي حرف ابن مسعود بالعدوة العليا وهم بالعدوة السفلى ووادي بدر آخذين الشرق والقبلة منحرف إلى البحر الذي هو قريب من ذلك الصقع والمدينة من الوادي من موضع الوقعة منه في الشرق وبينهما مرحلتان ، وقرأ زيد بن علي القصيا وقد ذكرنا أنه القياس وذلك لغة تميم والأحسن أن يكون وهم والركب معطوفان على أنتم فهي مبتدآت تقسيم لحالهم وحال أعدائهم ويحتمل أن تكون الواوان فيهما واوي الحال وأسفل ظرف في موضع الخبر ، وقرأ زيد بن علي أسفل بالرفع اتسع في الظرف فجعله نفس المبتدأ مجازاً والركب هم الأربعون الذين كانوا يقودون العِير عير أبي سفيان ، وقيل الإبل التي كانت تحمل أزواد الكفار وأمتعتهم كانت في موضع يأمنون عليها ، قال الزمخشري: { فإن قلت } : ما فائدة هذا التوقيت وذكر مراكز الفريقين وإن العِير كانت أسفل منهم { قلت} : الفائدة فيه الإخبار عن الحالة الدالة على قوّة شأن العدوّ وشوكته وتكامل عدّته وتمهد أسباب الغلبة له وضعف شأن المسلمين وشتات أمرهم وإن غلبتهم في مثل هذه الحال ليست إلا صنعاً من اللّه تعالى ودليل على أن ذلك أمر لم يتيسّر إلا بحوله تعالى وقوته وباهر قدرته ، وذلك أن العدوة القصوى التي أناخ بها المشركون كان فيها الماء وكانت أرضاً لا بأس بها ولا ماء بالعدوة الدنيا وهي خبار تسوخ فيها الأرجل ولا يمشى فيها إلا بتعب ومشقة وكانت العِير وراء ظهور العدو مع كثرة عددهم وكانت الحماية دونها تضاعف حميتهم وتشحذ في المقاتلة عنها نياتهم ولهذا كانت العرب تخرج إلى الحرب بظعنهم وأموالهم ليبعثهم الذبّ عن الحرم والغيرة على الحرم على بذل تجهيداتهم في القتال أن لا يتركوا وراءهم ما يحدثون أنفسهم بالانحياز إليه فيجمع ذلك قلوبهم ويضبط هممهم ويوطن نفوسهم على أن لا يبرحوا مواطئهم ولا يخلو مراكزهم ويبذلوا منتهى نجدتهم وقصارى شدتهم وفيه تصوير ما دبّر سبحانه من أمر وقعة بدر انتهى ، وهو كلام حسن . و قال ابن عطية : كان الرّكب ومدبّر أمره أبو سفيان قد نكب عن بدر حين ندر بالنبي صلى اللّه عليه وسلم وأخذ سيف البحر فهو أسفل بالإضافة إلى أعلى الوادي من حيث يأتي . {وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَاكِن لّيَقْضِيَ اللّه أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَةٍ وَيُحْىِ مَنْ حَىَّ عَن بَيّنَةٍ وَإِنَّ اللّه لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} كان الالتقاء على غير ميعاد . قال مجاهد : أقبل أبو سفيان وأصحابه من الشام تجاراً لم يشعروا بأصحاب بدر ولم يشعر أصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم بكفار قريش ولا كفار قريش بمحمد صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه حتى التقوا على ماء بدر للسّقي كلهم فاقتتلوا فعليهم أصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم فأسروهم ، قال الطبريّ وغيره : المعنى لو تواعدتم على الاجتماع ثم علمتم كثرتهم وقلتكم لخالفتم ولم تجتمعوا معهم وقال معناه الزمخشري ، قال : ولو تواعدتم أنتم وأهل مكة وتواضعتم بينكم على موعد تلتقون فيه للقتال لخاف بعضكم بعضاً فثبطكم قلتكم وكثرتهم عن الوفاء بالموعد وثبطهم ما في قلوبهم من تهيب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمسلمين فلم يتفق لكم من التلاقي ما وفقه اللّه وسببه له ، وقال المهدوي : المعنى لاختلفتم بالقواطع والعوارض القاطعة بالناس ، قال ابن عطية : وهذا أنبل يعني من قول الطبري وأصحّ وإيضاحه أن المقصد من الآية تبين نعمة اللّه وقدرته في قصة بدر وتيسيره ما تيسر من ذلك فالمعنى إذ هيّأ اللّه لكم هذه الحال ولو تواعدتم لها لاختلفتم إلا مع تيسير اللّه الذي تمّم ذلك وهذا كما تقول لصاحبك في أمر شاءه اللّه دون تعب كثير لو ثبنا على هذا وسعينا فيه لم يتم هكذا انتهى ، وقال الكرماني ولو تواعدتم أنتم والمشركون للقتال لاختلفتم في الميعاد أي كانوا لا يصدّقون مواعدتكم طلباً لغرتكم والجيلة عليكم ، وقيل المعنى ولو تواعدتم من غير قضاء اللّه أمر الحرب لاختلفتم في الميعاد لأنه تعالى اذا لم يقدر امرا لم يقع انتهى { وَلَاكِن لّيَقْضِيَ اللّه } ولكن تلاقيتم على غير ميعاد ليقضي اللّه أمراً من نصر دينه وإعزاز كلمته وكسر الكفار وإذلالهم كان مفعولاً أي موجوداً متحققاً واقعاً وعبّر بقوله مفعولاً لتحقّق كونه ، قال ابن عطية : ليقضي أمراً قد قدّره في الأزل مفعولاً لكم بشرط وجودكم في وقت وجودكم وذلك كله معلوم عنده ، وقال الزمخشري : ليقضي اللّه متعلق بمحذوف أي ليقضي اللّه أمراً كان واجباً أن يفعل وهو نصر أوليائه وقهر أعدائه دبر ذلك ، وقيل كان بمعنى صار ليهلك بدل من ليقضي فيتعلق بمثل ما تعلق به ليقضي ، وقيل يتعلق بقوله مفعولاً ، وقيل الأصل وليهلك فحذف حرف العطف والظاهر أن المعنى ليقتل من قتل من كفار قريش وغيرهم عن بيان من اللّه وإعذار بالرسالة ويعيش من عاش عن بيان منه وأعذار لا حجة لأحد عليه ، وقال ابن إسحاق وغيره : ليكفر ويؤمن فالمعنى أنّ اللّه تعالى جعل قصة بدر عبرة وآية ليؤمن مَن آمن عن وضوح وبيان ويكفر من كفر عن مثل ذلك ، وقرأ الأعمش وعصمة عن أبي بكر عن عاصم : ليهلك بفتح اللام ، وقرأ نافع والبزي وأبو بكر من حيي بالفكّ وباقي السبعة بالإدغام وقال المتلمس : فهذا أوان العرض حيّ ذبابه والفكّ والإدغام لغتان مشهورتان وختم بهاتين الصفتين لأنّ الكفر والإيمان يستلزمان النطق اللساني والاعتقاد الجناني فهو سميع لأقوالكم عليم بنياتكم . ٤٣إذ يريكهم اللّه . . . . . {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّه فِى مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِى الاْمْرِ وَلَاكِنَّ اللّه سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ } الخطاب للرسول صلى اللّه عليه وسلم وتظاهرت الروايات أنها رؤيا منام رأى الرسول صلى اللّه عليه وسلم فيها الكفار قليلاً فأخبر بها أصحابه فقويت نفوسهم وشجعت على أعدائهم ، وقال النبي صلى اللّه عليه وسلم لأصحابه حين انتبه : { أبشروا لقد نظرت إلى مصارع القوم } والمراد بالقلّة هنا قلة القدر واليأس والنجدة وأنهم مهزومون مصروعون ولا يحمل على قلة العدد لأنه صلى اللّه عليه وسلم رؤياه حق وقد كان علم أنهم ما بين تسعمائة إلى ألف فلا يمكن حمل ذلك على قلّة العدد وروي عن الحسن أن معنى في منامك في عينك لأنها مكان النوم كما قيل للقطيفة المنامة لأنه ينام فيها فتكون الرؤية في اليقظة وعلى هذا فسّر النقاش وذكره عن المازني وما روي عن الحسن ضعيف ، قال الزمخشري وهذا تفسير فيه تعسّف وما أحسب الرواية فيه صحيحة عن الحسن وما يلائم علمه بكلام العرب وفصاحته والمعنى : ولو أراكهم في منامك كثيراً لفشلتم أي لخرتم وجبنتم عن اللقاء ولتنازعتم في الأمر أي تفرّقت آراؤكم في أمر القتال فكان يكون ذلك سبباً لانهزامكم وعدم إقدامكم على قتال أعدائكم لأنه لو رآهم كثيراً أخبركم برؤياه ففشلتم ولما كان الرسول عليه السلام محميًّا من الفشل معصوماً من النقائص أسند الفشل إلى مَن يمكن ذلك في حقّه فقال تعالى لفشلتم وهذا من محاسن القرآن ولكن اللّه سلم من الفشل والتنازع والاختلاف بإرايته له صلى اللّه عليه وسلم الكفار قليلاً فأخبرهم بذلك فقويت به نفوسهم إنه عليم بذات الصدور يعلم ما سيكون فيها من الجرأة والجبن والصبر والجزع وإذ بدل من إذ وانتصب قليلاً . قال الزمخشري على الحال وما قاله ظاهر لأنّ أرى منقولة بالهمزة من رأى البصرية فتعدت إلى اثنين الأوّل كاف خطاب الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، والثاني ضمير الكفار فقليلاً وكثيراً منصوبان على الحال وزعم بعض النحويين أن أرى الحلمية تتعدى إلى ثلاثة كأعلم وجعل من ذلك قوله تعالى : { إِذْ يُرِيكُمْ اللّه فِى مَنَامِكَ قَلِيلاً } فانتصاب قليلاً عنده على أنه مفعول ثالث وجواز حذف هذا المنصوب اقتصاراً يبطل هذا المذهب . تقول رأيت زيداً في النوم وأراني اللّه زيداً في النوم . ٤٤وإذ يريكموهم إذ . . . . . {وَإِذَا يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِى أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلّلُكُمْ فِى أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِىَ اللّه أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللّه تُرْجَعُ الامُورُ} هذه الرؤية هي يقظة لا منام وقلل الكفار في أعين المؤمنين تحقيراً لهم ولئلا يجبنوا عن لقائهم . قال ابن مسعود : لقد قلّلوا في أعيننا حتى قلت لرجل : إلى جنبي أتراهم سبعين ، قال : أراهم مائة وهذا من عبد اللّه لكونه لم يسمع ما أعلم به الرسول صلى اللّه عليه وسلم من عددهم وقلّل المؤمنون في أعين الكفار حتى قال قائل منهم : إنما هم أكلة جزور وذلك قبل الالتقاء وذلك ليجترئوا على المؤمنين فتقع الحرب ويلتحم القتال ، إذ لو كثروا قبل اللقاء لا حجموا وتحيّلوا في الخلاص أو استعدوا واستنصروا ولما التحم القتال كثر اللّه المؤمنين في أعين الكفار فبهتوا وهابوا وفلت شوكتهم ورأوا ما لم يكن في حسابهم كما قال يرونهم مثليهم رأي العين وعظم الاحتجاج عليهم استيضاح الآية البينة من قلتهم أولاً وكثرتهم رخراً ورؤية كل من الطائفتين يكون بأن ستر اللّه بعضها عن بعض أو بأن أحدث في أعينهم ما يستقلّون به الكثير هذا إذا كانت الرؤية حقيقة وأما إذا كانت بمعنى التّخمين والحذر الذي يستعمله الناس فيمكن ذلك ، وعلى التقديرين لا يندرج الرسول في خطاب وإذ يريكموهم لأنه لا يجوز على أن يرى الكثير قليلاً لا حقيقة ولا تخميناً على أنه يحتمل أن يكون من باب تقليل القدر والمهابة والنجدة لا من باب تقليل العدد ألا ترى قولهم المرء كثيراً بأخيه وإلى قول الشاعر : أروح وأغتدي سفها أكثر من أقلّ به فهذا من باب التقليل والتكثير في المنزلة والقدر ، لا من باب تقليل العدد ليقضي أي فعل ذلك ليقضي والمفعول في الآيتين هو القصة بأسرها ، وقيل هما المعنيين من معاني القصة أريد بالأوّل الوعد بالنصرة يوم بدر وبالثاني الاستمرار عليها وتقدم تفسير وإلى اللّه ترجع الأمور واختلاف القراء في ترجع في سورة البقرة . ٤٥يا أيها الذين . . . . . {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّه كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أي فئة كافرة حذف الوصف لأن المؤمنين ما كانوا يلقون إلا الكفار واللقاء اسم للقتال غالب وأمرهم تعالى بالثبات وهو مقيد بآية الضعف وفي الحديث : { لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا اللّه العافية فإذا ليقتموهم فاثبتوا} . وأمرهم بذكره تعالى كثيراً في هذا الموطن العظيم من مصابرة العدو والتلاحم بالرماح وبالسيوف وهي حالة يقع فيها الذهول عن كل شيء فأمروا بذكر اللّه إذ هو تعالى الذي يفزع إليه عند الشدائد ويستأنس بذكره ويستنصر بدعائه ومن كان كثير التعلق باللّه ذكره في كل موطن حتى في المواضع التي يذهل فيها عن كل شيء ويغيب فيها الحسّ{ إِلا اللّه تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} وحكى لي بعض الشجعان أنه حالة التحام القتال تأخذ الشجاع هزة وتعتريه مثل السكر لهول الملتقى فأمر المؤمنين بذكراللّه في هذه الحالة العظيمة وقد نظم الشعراء هذا المعنى فذكروا أنهم في أشقّ الأوقات عليهم وأشدّها لم ينسوا مَحبوبَهم وأكثروا في ذلك فقال بعضهم : ذكرت سليمى وحرّ الوغى كقلبي ساعة فارقتها وأبصرت بين القنا قدّها وقد ملن نحوي فعانقتها قال قتادة : افترض اللّه ذكره أشغل ما يكون العبد عند الضراب والسيوف ، وقال الزمخشري : فيه إشعار بأنّ على العبد أن لا يفتر عن ذكر اللّه أشغل ما يكون قلباً وأكثر ما يكون همًّا وأن يكون نفسه مجتمعة لذلك وإن كانت متوزّعة عن غيره ، وذكر أن الثبات وذكر اللّه سببا الفلاح وهو الظفر بالعدو في الدنيا والفوز في الآخرة بالثواب ، والظاهر أن الذكر المأمور به هو باللسان فأمر بالثبات بالجنان وبالذكر باللسان والظاهر أن لا يعين ذكر ، وقيل هو قول المجاهدين : اللّه أكبر اللّه أكبر عند لقاء الكفار ، وقيل الدعاء عليهم : اللّهم اخذلهم اللّهم دمرهم وشبهه ، وقيل دعاء المؤمنين لأنفسهم بالنصر والظفر والتثبيت كما فعل قوم طالوت فقالوا { رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } وقيل : هم لا ينصرون وكان هذا شعار المؤمنين عند اللقاء ، وقال محمد بن كعب : لو رخص ترك الذكر لرخص في الحرب ولذكرنا حيث أمر بالصمت ثم قيل له : واذكر ربك كثيراً ، وحكم هذا الذكر أن يكون خفياً إلا إن كان من الجميع وقت الحملة فحسن رفع الصوت به لأنه يفت في أعضاد الكفار وفي سنن أبي داود كان أصحاب الرسول صلى اللّه عليه وسلم يكرهون الصوت عند القتال وعند الجنازة ، وقال ابن عباس : يكره التلثم عند القتال . ٤٦وأطيعوا اللّه ورسوله . . . . . {وَأَطِيعُواْ اللّه وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّه مَعَ الصَّابِرِينَ } ، أمرهم تعالى بالطاعة للّه ولرسوله ونهاهم عن التنازع وهو تجاذب الآراء وافتراقها والأظهر أن يكون فتفشلوا جواباً للنهي فهو منصوب ولذلك عطف عليه منصوب لأنه يتسبب عن التنازع الفشل وهو الخور والجبن عن لقاء العدو وذهاب الدولة باستيلاء العدو ويجوز أن يكون فتفشلوا مجزوماً عطفاً على ولا تنازعوا وذلك في قراءة عيسى بن عمر ويذهب بالياء وجزم الباء ، وقرأ أبو حيوة وإبان وعصمة عن عاصم ويذهب بالياء ونصب الباء ، وقرأ الحسن وابراهيم فتفشِلوا بكسر الشين ، قال أبو حاتم : وهذا غير معروف ، وقال غيره : هي لغة . قال مجاهد : الريح والنصرة والقوة وذهبت ريح أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين ناغوه بأحد ، وقال الزمخشري : والريح الدّولة شبهت لنفوذ أمرها وتشبيه بالريح وهبوبها ، فقيل : هبت رياح فلان إذا دالت له الدولة ونفذ أمره . ومنه قوله : أتنظر إن قليلاً ريث غفلتهم أم تعدوان فإنّ الريح للعادي انتهى وهو قول أبي عبيدة إن الريح هي الدولة ومن استعارة الريح قول الآخر : إذا هبت رياحك فاغتنمها فإن لكلّ عاصفة سكونا ورواه أبو عبيدة ركوداً . وقال شاعر الأنصار : قد عودتهم صباهم أن يكون لهم ريح القتال وأسلاب الذين لقوا وقال زيد بن علي ويذهب ريحكم معناه الرّعب من قلوب عدوكم ومنه قيل للخائف انتفخ سحره . قال ابن عطية : وهذا حسن بشرط أن يعلم العدوّ بالتنازع فإذا لم يعلم فالذاهب قوة المتنازعين فينهزمون انتهى ، وقال ابن زيد وغيره الريح على بابها وروي في ذلك أن النصر لم يكن قط إلا بريح تهب فتضرب في وجوه الكفار واستند بعضهم في هذه المقالة إلى قوله صلى اللّه عليه وسلم نصرت بالصبا ، وقال الحكم وتذهب ريحكم يعني الصّبا إذ بها نصر محمد صلى اللّه عليه وسلم وأمته ، وقال مقاتل ريحكم حدتكم ، وقال عطاء جلدكم ، وحكى التبريزي هيبتكم ، ومنه قول الشاعر : كما حميناك يوم النّعف من شطط والفضل للقوم من ريح ومن عدد ٤٧ولا تكونوا كالذين . . . . . {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَاء النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّه وَاللّه بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} نزلت في أبي جهل وأصحابه خرجوا النصرة العِير بالقينات والمعازف ووردوا الجحفة فبعث خفاف الكناني وكان صديقاً له بهدايا مع ابنه وقال : إن شئت أمددناك بالرجال وإن شئت بنفسي مع من خفّ من قومي ، فقال أبو جهل : إن كنا نقاتل اللّه كما يزعم محمد فواللّه ما لنا باللّه طاقة وإن كنا نقاتل الناس فواللّه إن بنا على الناس لقوة واللّه ، لا نرجع عن قتال محمد حتى نرد بدراً فنشرب فيها الخمور وتعزف علينا القينات فإنّ بدراً مركز من مراكز العرب وسوق من أسواقهم حتى تسمع العرب مخرجنا فتهابنا آخر الأبد فوردوا بدراً فسقوا كؤوس المنايا مكان الخمر وناحت عليهم النوائح مكان القينات ، فنهى اللّه المؤمنين أن يكون مثل هؤلاء بطرين طربين مرائين بأعمالهم صادين عن سبيل اللّه ، وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : اللّهم إن قريشاً أقبلت بفخرها وخيلائها تجادل وتكذب رسولك اللّهم خاضها الغداة وفي قوله واللّه بما يعملون محيط وعيد وتهديد لمن بقي من الكفار . ٤٨وإذ زين لهم . . . . . {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ} أعمالهم ما كانوا فيه من الشرك وعبادة الأصنام ومسيرهم إلى بدر وعزمهم على قتال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهذا التزيين والقول والنكوص هل ذلك على سبيل المجاز أو الحقيقة قولان للمفسرين بدأ الزمخشري بالأوّل فقال : وسوس إليهم أنهم لا يغلبون ولا يطاقون وأوهمهم أنّ اتباع خطوات الشيطان وطاعته مما تحبرهم فلما تلاقى الفريقان نكص الشيطان وتبرأ منهم ، أي بطل كيده حين نزلت جنود اللّه وكذا عن الحسن كان ذلك على سبيل الوسوسة ولم يتمثل لهم انتهى ، ويكون ذلك من باب مجاز التمثيل ، وقال المهدويّ يضعف هذا القول إنّ قوله : وإنّي جار لكم ليس مما يلقى بالوسوسة انتهى ، ويمكن أن يكون صدور هذا القول على لسان بعض الغواة من الناس قال لهم ذلك بإغواء إبليس له ونسب ذلك إلى إبليس لأنه هو المتسبب في ذلك القول فيكون القول والنكوص صادرين من إنسان حقيقة والجمهور على أنّ إبليس تصور لهم فعن ابن عباس في صورة رجل من بني مدلج في جند من الشياطين معه راية ، وقيل جاءهم في طريقهم إلى بدر في صورة سراقة بن مالك بن جعشم وقد خافوا من بني بكر وكنانة لدخول كانت بينهم وكان من أشراف كنانة فقال : ما حكى اللّه عنه ومعنى جار لكم مجيركم من بني كنانة فلما رأى الملائكة تنزل نكص ، وقيل كانت يده في يد الحارث بن هشام فلما نكص قال له الحرث : إلى أن أتخذ لنا في هذه الحال فقال إني أرى ما لا ترون ودفع في صدر الحرث وانطلق وانهزموا فلما بلغوا مكة قالوا هزم الناس سراقة بن مالك فبلغ ذلك سراقة فقال : واللّه ما شعرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتكم فلما أسلموا علموا أنه الشيطان وفي الموطأ وغيره ما رؤي الشيطان في يوم أقل ولا أحقر ولا أصفر في يوم عرفة لما يرى من نزول الرحمة إلا ما رأى يوم بدر قيل : وما رأى يا رسول اللّه قال : رأى الملائكة يريحها جبريل ، وقال الحسن : رأى إبليس جبريل يقود فرسه بين يدي النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو معتجر ببردة وفي يده اللجام ولكم ليس متعلقاً بقوله : لا غالب لأنه كان يلزم تنوينه لأنه يكون اسم لا مطولاً والمطول يعرب ولا يبنى بل لكم في موضع رفع على الخبر أي كائن لكم وبما تعلق المجرور تعلّق الظرف واليوم عبارة عن يوم بدر ويحتمل أن يكون قوله وإني جار لكم معطوفاً على لا غالب لكم اليوم ويحتمل أن تكون الواو للحال أي لا أحد يغلبكم وأنا جار لكم أعينكم وأنصركم بنفسي وبقومي والفئتان جمعاً المؤمنين والكافرين ، وقيل فئة المؤمنين وفئة الملائكة نكص على عقبيه رجع في ضد إقباله وقال : إني بريء منكم مبالغة في الخذلان والانفصال عنهم لم يكتفِ بالفعل حتى أكد ذلك بالقول ما لا ترون رأي خرق العادة ونزول الملائكة إني أخاف اللّه ، قال قتادة وابن الكلبي معذرة كاذبة لم يخف اللّه قط ، وقال الزجاج وغيره : بل خاف مما رأى من الهول إنه يكون اليوم الذي أنظر إليه انتهى وينظر إلى هذه الآية قوله تعالى { كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ } ويحتمل أنّ يكون واللّه شديد العقاب معطوفاً على معمول القول قال : ذلك بسطاً لعذره عندهم وهو متحقق أنّ عذاب اللّه شديد ويحتمل أن يكون من كلام اللّه استأنف تهديداً لإبليس ومن تابعه من مشركي قريش . ٤٩إذ يقول المنافقون . . . . . {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ } ، العامل في إذ زيّن أو نكص أو سميع عليم أو اذكروا أقوال وظاهر العطف التغاير . فقيل المنافقون هم من الأوس والخزرج لما خرج الرسول صلى اللّه عليه وسلم قال بعضهم : نخرج معه ، وقال بعضهم : لا نخرج غرّ هؤلاء أي المؤمنين دينهم فإنهم يزعمون أنهم على حق وأنهم لا يغلبون هذا معنى قول ابن عباس ، والذين في قلوبهم مرض قوم أسلموا ومنهم أقرباؤهم من الهجرة فأخرجتهم قريش معها كرهاً فلما نظروا إلى قلة المسلمين ارتابوا وقالوا غرّ هؤلاء دينهم فقتلوا جميعاً ، منهم قيس بن الوليد بن المغيرة وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة والحرث بن زمعة بن الأسود وعلي بن أمية والعاصي بن منبه بن الحجاج ولم يذكر أنّ منافقاً شهد بدراً مع المسلمين إلا معتب بن قشير فإنه ظهر منه يوم أحد قوله : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا ، وقيل والذين في قلوبهم مرض هو من عطف الصّفات وهي لموصوف واحد وصفوا بالنفاق وهو إظهار ما يخفيه من المرض كما قال تعالى في قلوبهم مرض وهم منافقو المدينة ، وعن الحسن هم المشركون ويبعد هذا إذ لا يتّصف المشركون بالنفاق لأنهم مجاهرون بالعداوة لا منافقون ، وقال ابن عطية ، قال المفسّرون : إنّ هؤلاء الموصوفين بالنفاق ومرض القلوب إنما هم من أهل عسكر الكفار لما أشرفوا على المسلمين ورأوا قلّة عددهم قالوا مشيرين إلى المسلمين غرّ هؤلاء دينهم أي اغترّوا فأدخلوا أنفسهم فيما لا طاقة لهم به وكنّى بالقلوب عن العقائد والمرض أعمّ من النفاق إذ يطلق مرض القلب على الكفر . {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّه فَإِنَّ اللّه عَزِيزٌ حَكِيمٌ } هذا يتضمن الردّ على من قال غرّ هؤلاء دينهم فكأنه قيل هؤلاء في لقاء عدوّهم هم متوكلون على اللّه فهم الغالبون ، ومن يتوكل على اللّه ينصره ويعزَّه فإن اللّه عزيز لا يغالب بقوة ولا بكثرة حكيم يضع الأشياء مواضعها أو حاكم بنصره من يتوكل عليه فيديل القليل على الكثير . ٥٠ولو ترى إذ . . . . . {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ ذالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّه لَيْسَ بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ} لو التي ليست شرطاً في المستقبل تقلب المضارع للمضي فالمعنى لو رأيت وشاهدت وحذف جواب لو جاز بليغ حذفه في مثل هذا لأنه يدلّ على التعظيم أي لرأيت أمراً عجيباً وشأناً هائلاً كقوله ولو ترى إذ وقفوا على النار ، والظاهر أنّ الملائكة فاعل يتوفى ويدلّ عليه قراءة ابن عامر والأعرج تتوفى بالتاء وذكر في قراءة غيرهما لأن تأنيث الملائكة مجاز وحسنه الفضل ، وقيل : الفاعل في هذه القراءة الفاعل ضمير اللّه والملائكة مبتدأ والجملة حاليّة ، كهي في يضربون ، قال ابن عطية : ويضعفه سقوط واو الحال فإنها في الأغلب تلزم مثل هذا انتهى ، ولا يضعفه إذ جاء بغير واو في كتاب اللّه وفي كثير من كلام العرب والملائكة ملك الموت وذكر بلفظ الجمع تعظيماً أو هو وأعوانه من الملائكة فيكون التوفي قبض أرواحهم أو الملائكة الممدّ بهم يوم بدر ، والتوفي قتلهم ذلك اليوم أو ملائكة العذاب فالتوفي سوقهم إلى النار أقوال ثلاثة ، والظاهر حقيقة الوجوه والإدبار كناية عن الأستاه . قال مجاهد : وخصا بالضرب لأن الخزي والنكال فيهما أشد ، وقيل : ما أقبل منهم وما أدبر فيكون كناية عن جميع البدن وإذا كان ذلك يوم بدر فالظاهر أن الضّاربين هم الملائكة . وقيل : الضمير عائد على المؤمنين أي يضرب المؤمنون فمن كان أمامهم من المؤمنين ضربوا وجوههم ومن كان وراءهم ضربوا أدبارهم فإن كان ذلك عند الموت ضربتهم الملائكة بسياط من نار ، وقوله ذوقوا هذا على إضمار القول من الملائكة أي ويقولون لهم ذوقوا عذاب الحريق ويكون ذلك يوم بدر وكانت لهم أسواط من نار يضربونهم بها فتشتغل جراحاتهم ناراً أو يقال لهم ذلك في الآخرة وهو كلام مستأنف من اللّه على سبيل التقريع للكافرين أما في الدنيا حالة الموت أي مقدّمة عذاب النار ، وأما في الآخرة ويحتمل ذلك وما يعده أن يكون من كلام الملائكة أو من كلام اللّه ، ذلك أي ذلك العذاب وهو مبتدأ خبره بما قدّمت أيديكم وأنّ اللّه عطف على ما أي ذلك العذاب بسبب كفركم وبسبب أنّ اللّه لا يظلمكم إذ أنتم مستحقّون العذاب فتعذيبكم عدل منه وتقدّم تفسير هذه الجملة في أواخر سورة آل عمران . ٥٢كدأب آل فرعون . . . . . {كَدَأْبِ ءالِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّه فَأَخَذَهُمُ اللّه بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللّه قَوِىٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ } تقدّم تفسير نظير هذه الآية في أوائل سورة آل عمران . ٥٣ذلك بأن اللّه . . . . . {ذالِكَ بِأَنَّ اللّه لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ} ذلك مبتدأ وخبره بأن اللّه لم يكُ أي ذلك العذاب أو الانتقام بسبب كذا وظاهر النعمة أنه يُراد به ما يكونون فيه من سعة الحال والرفاهية والعزّة والأمن والخصب وكثرة الأولاد والتغيير قد يكون بإزالة الذات وقد يكون بإزالة الصفات فقد تكون النعمة أذهبت رأساً وقد تكون قلّلت وأضعفت ، وقال القاضي أنعم اللّه عليهم بالعقل والقدرة وإزالة الموانع وتسهيل السبيل والمقصو أنْ يشتغلوا بالعبادة والشكر ويعدلوا عن الكفر فإذا صرفوا هذه الأمور إلى الكفر والفسق فقد غيّروا أنعم اللّه على أنفسهم فلا جرم استحقوا تبديل النعم بالنقم والمنح بالمحن وهذا من أوكد ما يدلّ على أنه تعالى لا يبتدىء أحداً بالعذاب والمضرّة وأنّ الذي يفعله لا يكون إلا جزاءً على معاص سلفت ولو كان تعالى خلقهم وخلق حياتهم وعقولهم ابتداءً للنار كما يقوله القوم لما صحّ ذلك انتهى ، قيل : وظاهر الآية يدلّ على ما قاله القاضي إلا أنه يمكن الحمل على الظاهر لأنه يلزم من ذلك أن يكون صفة اللّه معلّلة بفعل الإنسان ومتأثرة له وذلك محال في بديهة العقل وقد قام الدليل على أنّ حكمه وقضاءه سابق أوّلاً فلا يمكن أن يكون فعل إلا بقضائه وإرادته . وقيل أشار بالنعمة إلى محمد صلى اللّه عليه وسلم بعثه رحمة فكذّبوه فبدّل اللّه ما كانوا فيه من النعمة بالنقمة في الدنيا وبالعقاب في الآخرة قاله السدّي والظاهر من قوله على قوم العموم في كل من أنعم اللّه عليه من مسلم وكافر وبرّ وفاجر وأنه تعالى متى أنعم على أحد فلم يشكر بدّله عنها بالنقمة ، وقيل القوم هنا قريش أنعم اللّه تعالى عليهم ليشكروا ويفردوه بالعبادة فجحدوا وأشركوا في ألوهيته وبعث إليهم الرسول صلى اللّه عليه وسلم فكذّبوه فلما غيروا ما اقتضته نعمة وحدّثتهم أنفسهم بأنّ تلك النِّعم من قبل أوثانهم وأصنامهم غير تعالى عليهم بنقمة في الدنيا وأعدّ لهم العذاب في العقبى ، و قال ابن عطية : ومثال هذا نعمة اللّه على قريش بمحمد صلى اللّه عليه وسلم فكفروا وغيّروا ما كان يجب أن يكونوا عليه فغير اللّه تلك النعمة بأن نقلها إلى غيرهم من الأنصار وأحلّ بهم عقوبته انتهى . وتغيير آل فرعون ومشركي مكة ومن يجري مجراهم بأن كانوا كفاراً ولم تكن لهم حالة مرضية فغيّروا تلك الحالة المسخوطة إلى أسخط منها من تكذيب الرّسل والمعاندة والتخريب وقتل الأنبياء والسعي في إبطال آيات اللّه فغير اللّه تعالى ما كان أنعم عليهم به وعاجلهم ولم يمهلهم وفي قول الزمخشري ذلك العذاب أو الانتقام بسبب أن اللّه تعالى لم ينبغ له ولم يصحّ في حكمته أن يغير نعمه عند قوم حتى يغيّروا ما بهم من الحال دسيسة الاعتزال وأن اللّه سميع لأقوال مكذّبي الرسول ، عليم بأفعالهم فهو مجازيهم على ذلك . ٥٤كدأب آل فرعون . . . . . {كَدَأْبِ ءالِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا ءالَ فِرْعَونَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ } قال قوم : هذا التكرير للتأكيد ، و قال ابن عطية : هذا التكرير لمعنى ليس للأوّل أو الأوّل أو الأوّل دأب في أنْ هلكوا لما كفروا وهذا الثاني دأب في أن لم يغير نعمتهم حتى يغيّروا ما بأنفسهم انتهى ، وقال قوم : كرّر لوجوه منها أن الثاني جرى مجرى التفصيل للأول لأنّ في ذلك ذكر إجرامهم وفي هذا ذكر إغراقهم وأُريد بالأول ما نزل بهم من العقوبة حال الموت وبالثاني ما نزل بهم من العذاب في الآخرة وفي الأوّل بآيات اللّه إشارة إلى إنكار دلائل الإلهية وفي الثاني بآيات ربهم إشارة إلى إنكار نعم من ربّاهم ودلائل تربيته وإحسانه علي كثرتها وتواليها وفي الأوّل اللام منه الأخذ ، وفي الثاني اللازم منه الهلاك والإغراق ، وقال الزمخشري في قوله تعالى : بآيات ربهم زيادة دلالة على كفران النعم وجحود الحقّ وفي ذكر الإغراق بيان للأخذ بالذنوب ، وقال الكرماني يحتمل أن يكون الضمير في الآية الأولى في كفروا عائداً على قريش وفي الأخيرة في كذّبوا عائد على آل فرعون والذين من قبلهم انتهى ، وقيل فأهلكناهم هم الذين أهلكوا يوم بدر فيلزم من هذا القول أن يكون كذّبوا عائداً على كفار قريش ، وقال التبريزي فأهلكناهم قوم نوح بالطّوفان وعادا بالريح وثموداً بالصّيحة وقوم لوط بالخسف ، وفرعون وآله بالغرق ، وقوم شعيب بالظلّة ، وقوم داود بالمسخ وأهلك قريشاً وغيرها بعضهم بالفزغ وبعضهم بالسيف وبعضهم بالعدسة كأبي لهب ، وبعضهم بالغدة كعامر بن الطّفيل ، وبعضهم بالصاعقة كأويد بن قيس انتهى ، فيظهر من هذه الكلام أن الضمير في كذّبوا وأهلكناهم عائد على المشبه والمشبه به في كدأب إذ عمّ الضمير القبيلتين وإنما خصّ آل فرعون بالذكر وذكر الذي أهلكوا به وهو إغراقهم لأنه انضم إلى كفرهم دعوى الإلهية والرّبوبية لغير اللّه تعالى فكان ذلك أشنع الكفر وأفظعه ومراعاة لفظ كلّ إذا حذف ما أضيف إليه ومعناه جائزة واختير هنا مراعاة المعنى لأجل الفواصل إذ لو كان التركيب وكلّ كان ظالماً لم يقع فاصلة ، وقال الزمخشري وكلهم من غرقى القبط وقتلى قريش كانوا ظالمين أنفسهم بالكفر والمعاصي انتهى ، ولا يظهر تخصيص الزمخشري كلاًّ بغرقى القبط وقتلى قريش إذ الضمير في كذبوا وفي فأهلكناهم لا يختصّ بهما فالذي يظهر عموم المشبه به وهم آل فرعو والذين من قبلهم أو عموم المشبّه والمشبّه بهم . ٥٥انظر تسفير الآية:٥٦ ٥٦إن شر الدواب . . . . . {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابّ عِندَ اللّه الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ عَاهَدْتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ} نزلت في بني قريظة منهم كعب بن الأشرف وأصحابه عاهدهم الرسول أن لا يمالئوا عليه فنكثوا بأن أعانوا مشركي مكة بالسلاح وقالوا نسينا وأخطأنا ثم عاهدهم فنكثوا مالؤوا معهم يوم الخندق وانطلق كعب بن الأشرف إلى مكة فحالفهم قال البغوي من روى أنه كعب بن الأشرف أخطأ ووهم بل يحتمل أنه كعب بن أسد فإنه كان سيّد قريظة ، وقيل : هم بنو قريظة والنضير ، وقيل : نفر من قريش من عبد الدّار حكاه التبريزي في تفسيره فهم لا يؤمنون إخبار منه تعالى أنهم لا يؤمنون فلا يمكن أن يقع منهم إيمان ، قال ابن عباس شرّ الناس الكفار وشرّ الكفار المصرّون منهم وشرّ المصرّين الناكثون للعهود فأخبر تعالى أنهم جامعون لأنواع الشرّ الذين عاهدت بدل من الذين كفروا قاله الحوفي والزمخشري وأجاز أبو البقاء أن يكون خبر المبتدأ محذوف وضمير الموصول محذوف أي عاهدتهم منهم أي من الذين كفروا ، قال ابن عطية : يحتمل أن يكون شرّ الدّواب بثلاثة أوصاف : الكفر والموافاة عليه والمعاهدة مع النقض ، والذين على هذا بدل بعض من كلّ ويحتمل أن يكون الذين عاهدت فرقة أو طائفة ثم أخط يصف حال المعاهدين بقوله ثم ينقضون عهدهم في كل مرة انتهى ، فعل هذا الاحتمال يكون الذين مبتدأ ويكون الخبر قوله فإما تثقفنهم ودخلت الفاء لتضمن المبتدأ معنى اسم الشرط فكأنه قيل من يعاهد منهم أي من الكفار فإن تظفر بهم فاصنع كذا أو من للتّبعيض لأنّ المعادين بعض الكفار وهي في موضع الحال أي كائنين منهم ، وقيل : بمعنى مع ، وقيل : الكلام محمول على المعنى أي أخذت منهم العهد فتكون من على هذا التقدير لابتداء الغاية ، وقيل : من زائدة أي عاهدتهم وهذه الأقوال الثلاثة ضعيفة وأتى ثم ينقضون بالمضارع تنبيهاً على أنّ من شأنهم نقض العهد مرة بعد مرة تقديره وهم لا يتّقون لا يخافون عاقبة العدوّ ولا يبالون بما في نقض العهد من العار واستحقاق النار . ٥٧فإما تثقفنهم في . . . . . {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِى الْحَرْبِ فَشَرّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } أي فإن تظفر بهم في الحرب وتتمكن منهم فشرّد بهم من خلفهم ، قال ابن عباس فنكّل بهم من خلفهم ، وقال ابن جبير : أنذر من خلفهم عن قتل من ظفر به وتنكيله فكان المعنى فإن تظفر بهم فاقتلهم قتلاً ذريعاً حتى يفرّ عنك من خلفهم ويتفرّق ولما كان التّشريد وهو التّطريد والإبعاد ناشئاً عن قتل من ظفر به في الحرب من المعاهدين الناقضين جعل جواباً للشرط إذ هو يتسبب عن الجواب ، وقالت فرقة فسمع بهم وحكاه الزهراوي عن أبي عبيدة ، وقال الزمخشري : من وراءهم من الكفرة حتى لا يجسر عليك بعدهم أحد اعتباراً بهم واتعاظاً بحالهم ، وقال الكرماني : قيل التّشريد التخويف الذي لا يبقى معه القرار أي لا ترضَ منهم إلاّ الإيمان أو السيف . وقرأ الأعمش بخلاف عنه فشرّذ بالذال وكذا في مصحف عبد اللّه قالوا ولم تحفظ هذه المادة في لغة العرب ، فقيل : الذال بدل من الدال كما قالوا لحم خراديل وخزاذيل ، وقال الزمخشري : فشرّذ بالذال المعجمة بمعنى ففرّق وكأنه مقلوب شذر من قولهم ذهبوا شذر ومنه الشّذَر الملتقط من المعدن لتفرّقه انتهى . وقال الشاعر : غرائر في كن وصون ونعمة تحلين ياقوتاً وشذراً مفقراً وقال قطرب : بالذال المعجمة التنكيل وبالمهملة التفريق ، وقرأ أبو حيوة والأعمش بخلاف عنه من خلفهم جاراً ومجروراً ومفعول فشرد محذوف أي ناساً من خلفهم والضمير في لعلّهم يظهر أنه عائد على من خلفهم وهم المشرّدون أي لعلّهم يتعظون بما جرى لنا قضي العهد أو يتذكرون بوعدك إياهم وقيل : الضمير عائد إلى المثقوفين وفيه بعد لأن من قُتل لا يتذكر . ٥٨وإما تخافن من . . . . . {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّه لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ} الظاهر أنّ هذا استئناف كلام أخبره اللّه تعالى بما يصنع في المستقبل مع من يخاف منه خيانة إلى سالف الدهر . وقال مجاهد هي في بني قريظة ولا يظهر ما قال لأن بني قريظة لم يكونوا في حد من خاف منه خيانة لأن خيانتهم كانت ظاهرة مشهورة ، ولقوله من قوم فلو كانت في بني قريظة وإما تخافنّ منهم ، وقال يحيى بن سلام : تخافنّ بمعنى تعلم وحكاه بعضهم أنه قول الجمهور ، وقيل الخوف على بابه فالمعنى أنه يظهر منهم مبادىء الشرّ وينقل عنهم أقوال تدلّ على الغدر فالمبادىء معلومة والخيانة التي هي غاية المبادىء مخوفة لا متيقنة ولفظ الخيانة دالّ على تقدم عهد لأنه من لا عهد بينك وبينه لا تكون محاربته خيانة فأمر اللّه تعالى نبيه إذا أحسّ من أهل عهد ما ذكرنا وخاف خيانتهم أن يلقي إليهم عهدهم وهو النّبذ ومفعول فانبذ محذوف التقدير فانبذ إليهم عهدهم أي ارمه واطرحه ، وفي قوله فانبذ عدم اكتراث به كقوله فنبذوه وراء ظهورهم فنبذناهم في اليم كما قال ، نبذ الحذاء المرقع ، وكأنه لا ينبذ ولا يرمي إلا الشيء التافه الذي لا يبالي به وقوّة هذا اللفظ تقتضي حربهم ومناجزتهم أن يستقصوا ومعنى على سواء أي على طريق مستو قصد وذلك أن تظهر لهم نبذ العهد وتخبرهم إخباراً مكشوفاً بيّناً إنك قطعت ما بينك وبينهم ولا تناجزهم الحرب وهم على توهم بقاء العهد فيكون ذلك خيانة منك إنّ اللّه لا يحب الخائنين فلا يكن منك إخفاءً للعهد قاله الزمخشري بلفظه وغيره كابن عباس بمعناه ، وقال الوليد بن مسلم : على سواء على مهل كما قال تعالى : { بَرَاءةٌ مّنَ اللّه وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مّنَ الْمُشْرِكِينَ } الآية . وقال الفرّاء المعنى فانبذ إليهم على اعتدال وسواء من الأمر أي بيّن لهم على قدر ما ظهر منهم لا تفرط ولا تفجأ بحرب بل افعل بهم مثل ما فعلوا بك يعني موازنة ومقايسة . وقرأ زيد بن علي سواء بكسر السين وظاهر أنّ اللّه أن يكون تعليلاً لقوله : فانبذ أي فانبذ إليهم على سواء على تبعد من الخيانة إنّ اللّه لا يحبّ الخائنين ويحتمل أن يكون طعناً على الخائنين الذين عاهدهم الرسول ويحتمل على سواء أن يكون في موضع الحال من الفاعل في فانبذ أي كائناً على طريق قصد أو من الفاعل والمجرور أي كائنين على استواء في العلم أو في العداوة . ٥٩ولا يحسبن الذين . . . . . {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ } قال الزهري : نزلت فيمن أفلت من الكفار في بدر فالمعنى لا تظنهم ناجين مفلتين فإنهم لا يعجزون طالبهم بل لا بد من أخذهم ، قيل : وذلك في الدّنيا ولا يفوتون بل يظفرك اللّه بهم ، وقيل : في الآخرة قاله الحسن وقيل : الذين كفروا عام قاله ابن عباس وأعجز غلب وفات ، قال سويد : وأعجزنا أبو ليلى طفيل صحيح الجلد من أثر السلاح وقرأ ابن عامر وحمزة وحفص ولا يحسبنّ بالياء أي ولا يحسبن الرسول أو حاسب أو المؤمن أو فيه ضمير يعود على من خلفهم فيكون مفعولاً يحسبنّ الذين كفروا وسبقوا القراءة باقي السبعة بالتاء خطاباً للرسول أو للسامع وجوّزوا أن يكون في قراءة الياء فاعل لا يحسبنّ هو الذين كفروا وخرج ذلك على حذف المفعول الأوّل لدلالة المعنى عليه تقديره أنفسهم سبقوا وعلى إضمار أن قبل سبقوا فحذفت وهي مرادة فسدّت مسدّ مفعولي يحسبنّ ويؤيّده قراءة عبد اللّه أنهم سبقوا ، وقيل التقدير ولا تحسبنهم الذين كفروا فحذف الضمير لكونه مفهوماً وقد ردّدنا هذا القول في أواخر آل عمران ، وعلى أنّ الفاعل هو الذين كفروا خرّج الزمخشري قراءة الياء وذكر نقل توجيهها على حذف المفعول إما الضمير وإما أنفسهم وإما حذف أن وإما أنّ الفعل وقع على أنهم لا يعجزون على أن لا صلة وسبقوا في موضع الحال يعني سابقين أو مفلتين هاربين وعلى ولا تحسبن قتيل المؤمنين الذين كفروا سبقوا ثم قال وهذه الأقاويل كلّها متمحلة وليست هذه القراءة التي تفرد بها حمزة بنيرة انتهى ، ولم يتفرّد بها حمزة كما ذكر بل قرأ بها ابن عامر وهو من العرب الذين سبقوا اللّحن وقرأ علي وعثمان وحفص عن عاصم وأبو جعفر يزيد بن القعقاع وأبو عبد الرحمن وابن محيصن وعيسى والأعمش ، وتقدم ذكر توجيهها على غير ما نقل مما هو جيّد في العربية فلا التفات لقوله وليست بنيرة وتقدّم ذكر في فتح السين وكسرها في قوله يحسبهم الجاهل أغنيا وأما قوله : وقيل وقع على أنهم لا يعجزون على أن لا صلة فهذا لا يتأتى على قراءة حمزة لأنه يقرأ بكسر الهمزة ولو كان واقعاً عليه لفتح أن وإنما فتحها من السبعة ابن عامر وحده واستبعد أبو عبيد وأبو حاتم قراءة ابن عامر ولا استبعاد فيها لأنها تعليل للنهي أي لا تحسبنّهم فائتين لأنهم لا يعجزون أي لا يقع منك حسبان لفوتهم لأنهم لا يعجزون أي لا يفوتون ، وقرأ الأعمش ولا يحسب بفتح السين والياء من تحت وحذف النون وينبغي أن يخرج على حذف النون الخفيفة لملاقاة الساكن فيكون كقوله : لا تهين الفقير علّك أن تركع يوماً والدهر قد رفعه وقرأ ابن محيصن لا تعجزوني بكسر النون وياء بعدها ، وقال الزجاج : الاختيار فتح النون ويجوز كسرها على أن المعنى أنهم لا يعجزونني وتحذف النون الأولى لاجتماع النونين كما قال الشاعر : تراه كالثّغام يعل مسكا يسوء الغالبات إذا فليني البيت لعمرو بن معدي كرب ، وقال أبو الحسن الأخفش في قول متمم بن نويرة : ولقد علمت ولا محالة أنّني للحادثات فهل تريني أجزع فهذا يجوز على الاضطرار فقال قوم : حذف النون الأولى وحذفها لا يجوز لأنها في موضع الإعراب ، وقال المبرّد أرى فيما كان مثل هذا حذف الثانية وكذا كان يقول في بيت عمرو ، وقرأ طلحة بكسر النون من غير تشديد ولا ياء ، وعن ابن محيصن تشديد النون وكسرها أدغم نون الإعراب في نون الوقاية وعنه أيضاً بفتح النون وتشديد الجيم وكسر النون ، قال النحاس : وهذا خطأ من وجهين أحدهما إنّ معنى عجزه ضعفه وضعف أمره والآخر أنه كان يجب أن يكون بنونين انتهى ، أما كونه بنون واحدة فهو جائز لا واجب وقد قرىء به في السبعة وأما عجزني مشدّداً فذكر صاحب اللوامح أن معناه بطأ وثبط قال وقد يكون بمعنى نسبني إلى العجز والتشديد في هذه القراءة من هذا المعنى فلا تكون القراءة خطأ كما ذكر النحاس . ٦٠وأعدوا لهم ما . . . . . {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مّن قُوَّةٍ وَمِن رّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّه وَعَدُوَّكُمْ وَءاخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ} لما اتفق في قصة بدر أن قصدوا الكفار بلا تكميل آلة ولا عدة وأمره تعالى بالتشريد وبنبذ العهد للناقضين كان ذلك سببلاً للأخذ في قتاله والتمالؤ عليه فأمره تعالى للمؤمنين بإعداد ما قدروا عليه من القوة للجهاد والإعداد الارصاد وعلّق ذلك بالاستطاعة لطفاً منه تعالى والمخاطبون هم المؤمنون والضمير في لهم عائد على الكفار المتقدّمي الذكر وهم المأمور بحربهم في ذلك الوقت ويعمّ من بعده . وقيل : يعود على الذين ينبذ إليهم العهد والظاهر العموم في كل ما يتوقى به على حرب العدوّ مما أورده المفسّرون على سبيل الخصوص والمراد به التمثيل كالرّمي وذكور الخيل وقوّة القلوب واتفاق الكلمة والحصون المشيدة وآلات الحرب وعددها والأرواد والملابس الباهية حتى أنّ مجاهداً رؤي يتجهز للجهاد وعنده جوالق فقال هذا من القوة وأما ما ورد في صحيح مسلم عن عقبة بن عامر قال : سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو على المنبر يقول وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة ألا وإنّ القوة الرّمي ألا إن القوة الرمي فمعناه واللّه أعلم أنّ معظم القوة وأنكاها للعدو الرمي كما جاء الحجّ عرفة وجاء في فضل الرمي أحاديث وعلى ما اخترناه من عموم القوة يكون قوله ومن رباط الخيل تنصيص على فضل رباط الخيل إذا كانت الخيل هي أصل الحروب والخير معقود بنواصيها وهي مراكب الفرسان الشجعان ، وقال أبو زيد الرّباط من الخيل الخمس فما فوقها وجماعة ربط وهي التي ترتبط يقال : منه ربط ربطاً وارتبط انتهى ، قال : تلوم على ربط الجياد وحبسها وأوصى بها اللّه النبيّ محمداً قال ابن عطية : ورباط الخيل جمع ربط ككلب وكلاب ولا يكثر ربطها إلاّ وهي كثيرة ويجوز أن يكون الرّباط مصدراً من ربط كصاح صياحاً لأنّ مصادر الثلاثي غير المزيد لا تنقاس وإن جعلناه مصدراً من رابط وكان ارتباط الخيل واتخاذها يفعله كل واحد لفعل آخر فيرابط المؤمنون بعضهم بعضاً فإذا ربط كل واحد منهم فرساً لأجل صاحبه فقد حصل بينهم رباط وذلك الذي حضّ في الآية عليه وقال قال صلى اللّه عليه وسلم : من ارتبط فرساً في سبيل اللّه فهو كالباسط يده بالصدقة لا يقبضها والأحاديث في هذا المعنى كثيرة انتهى ، فجوّز في رباط أن يكون جمعاً لربط وأن يكون مصدراً لربط والرابط وقوله : لأنّ مصادر الثلاثي غير المزيد لا تنقاس ليس بصحيح بل لها مصادر مُنقاسة ذكرها النحويون ، وقال الزمخشري والرّباط اسم للخيل التي تربط في سبيل اللّه ويجوز أن تسمى بالرّباط الذي هو بمعنى المرابطة ويجوز أن يكون جمع ربيط كفصيل وفصال ، وقرأ الحسن وأبو حيوة وعمرو بن دينار ومن ربط بضمّ الراء والباء وعن أبي حيوة والحسن أيضاً ربط بضمّ الراء وسكون الباء وذلك نحو كتاب وكتب وكتب ، قال ابن عطية : وفي جمعه وهو مصدر غير مختلف نظر انتهى ، ولا يتعيّن كونه مصدراً ألا ترى إلى قول أبي زيد إنه من الخيل الخمس فما فوقها وإنّ جماعها ربط وهي التي ترتبط والظاهر عموم الخيل ذكورها وإناثها ، وقال عكرمة : رباط الخيل إناثها وفسّر القوة بذكورها واستحبّ رباطها بعض العلماء لما فيها من النّتاج كما قال : بطونها كنز ، وقيل : رباط الخيل الذكور منها لما فيها من القوة والجلَد على القتال والكفاح والكرّ والفرّ والعدو والضمير في به عائد على ما من قوله ما استطعتم ، وقيل : على الإعداد ، وقيل : على القوّة ، وقيل : على رباط وترهبون ، قالوا : حال من ضمير وأعدّوا أو من ضمير لهم ويحصل بهذا الارتباط والإرهاب فوائد منها : إنهم لا يقصدون دخول دار الإسلام وباشتداد الخوف قد يلتزمون الجزية أو يسلمون أو لا يعينون سائر الكفار ، وقرأ الحسن ويعقوب وابن عقيل لأبي عمرو وترهبون مشدّداً عدي بالتضعيف كما عدى بالهمزة ، قال أبو حاتم وزعم عمرو أن الحسن قرأ يرهبون بالياء من تحت وخفّفها انتهى ، والضمير في يرهبون عائد على ما عاد عليه لهم وهم الكفار والمعنى أنّ الكفار إذا علموا بما أعددتم للحرب من القوة ورباط الخيل خوفوا من يليهم من الكفار وأرهبوهم إذ يعلمونهم ما أنتم عليه من الإعداد للحرب فيخافون منكم وإذا كانوا قد أخافوا من يليهم منكم فهو أشد خوفاً لكم ، وقرأ ابن عباس وعكرمة ومجاهد : تخزون به مكان ترهبون به وذكرها الطبري على جهة التفسير لا على جهة القراءة وهو الذي ينبغي لأنه مخالف لسواد المصحف ، وقرأ السلمي عدوًّا للّه بالتنوين ولام الجر ، قال صاحب اللوامح : فقيل أراد به اسم الجنس ومعناه أعداء اللّه وإنما جعله نكرة بمعنى العامّة لأنها نكرة أيضاً لم تتعرف بالإضافة إلى المعرفة لأنه اسم الفاعل ومعناه الحال والاستقبال ولا يتعرف ذلك وإن أضيف إلى المعارف وأما عدوّكم فيجوز أن يكون كذلك نكرة ويجوز أن يكون قد تعرّف لإعادة ذكره ومثله رأيت صاحباً لكم فقال لي صاحبكم واللّه أعلم انتهى ، وذكر أولاً عدوّ اللّه تعظيماً لما هم عليه من الكفر وتقوية لذمّهم وأنه يجب لأجل عداوتهم للّه أن يقاتلوا ويبغضوا ثم قال وعدوّكم على سبيل التحريض على قتالهم إذ في الطبع أن يعادي الإنسان من عاداه وأن يبغي له الغوائل والمراد بهاتين الصفتين من قرب من الكفار من ديار الإسلام من أهل مكة ومشركي العرب ، قيل ويجوز أن يراد جميع الكفار وآخرين من دونهم أصل دون أن تكون ظرف مكان حقيقة أو مجاز . قال ابن عطية : من دونهم بمنزلة قولك دون أن تكون هؤلاء فدون في كلام العرب ومن دون تقتضي عدم المذكور بعدها من النازلة التي فيها القول ومنه المثل : وأمر دون عبيدة الوزم ، قال مجاهد وآخرين : بنو قريظة ، وقال مقاتل : اليهود ، وقال السدّي : أهل فارس ، وقالت فرقة : كفار الجن ورجّحه الطبري واستند في ذلك إلى ما روي من أنّ صهيل الخيل تنفر الجنّ منه وأنّ الشياطين لا تدخل داراً فيها فرس الجهاد ونحو هذا ، وقالت فرقة : هم كل عدوّ للمسلمين غير الفرقة التي أمر النبي صلى اللّه عليه وسلم أن يشرّد بهم من خلفهم ، وقال ابن زيد : هم المنافقون وهذا أظهر لأنه قال لا تعلمونهم اللّه يعلمهم أي لا تعلمون أعيانهم وأشخاصهم إذ هم متسترون عن أن تعلموهم بالإسلام فالعلم هنا كالمعرفة تعدى إلى واحد وهو متعلّق بالذوات وليس متعلقاً بالنسبة ومن جعله متعلقاً بالنسبة فقدّر مفعولاً ثانياً محذوفاً وقدره محاربين فقد أبعد لأنّ حذف مثل هذا دون تقدّم ذكر ممنوع عند بعض النحويين وعزيز جداً عند بعضهم فلا يحمل القرآن عليه مع إمكان حمل اللفظ على غيره وتمكنه من المعنى وقدّره بعضهم لا تعلمونهم فازغين راهِبين اللّه يعلّمهم بتلك الحالة والظاهر أن يكون إشارة إلى المنافقين كما قلنا على جهة الطّعن عليهم والتنبيه على سوء حالهم وليستريب بنفسه كلّ من يعلم منها نفاقاً إذا سمع الآية وبفزعهم ورهبتهم غنى كبير في ظهور الإسلام وعلوّه ، وقال القرطبي ما معناه لا ينبغي أن يعين قوله وآخرين لأنه تعالى قال لا تعلمونهم اللّه يعلمهم فكيف يدّعي أحد علماً بهم إلا أن يصحّ حديث فيه عن الرسول صلى اللّه عليه وسلم انتهى ، ثم حضّ تعالى على النفقة في سبيل اللّه من جهاد وغيره وكان الصحابة يحمل واحد الجماعة على الخيل والإبل وجهّز عثمان جيش العسرة بألف دينار يوفّ إليكم جزاؤه وثوابه من غير نقص ، وقيل هذه التوفية في الدنيا على ما أنفقوا مع ما أعدّ لهم في الآخرة من الثواب . ٦١وإن جنحوا للسلم . . . . . {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّه إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} جنح الرّجل إلى الآخر مال إليه وجنحت الإبل مالت أعناقها في السير . قال ذو الرمة : إذا مات فوق الرحل أحييت روحه بذكراك والعيس المراسيل جنح وجنح الليل أقبل وأمال أطنابه إلى الأرض . وقال النابغة يصف طيوراً تتبع الجيش : جوانح قد أيقنّ أنّ قبيله إذا ما التقى الجيشان أوّل غالب ومنه قيل للأضلاع جوانح لأنها مالت على الحشوة ومنه الجناح لميله ، وقال النضر بن شميل : جنح الرّجل إلى فلان وجنح له إذا تابعه وخضع له والضمير في جنحوا عائد على الذين نبذ إليهم على سواء وهم بنو قريظة والنضير ، وقيل على مشركي قريش والعرب ، وقيل على قوم سألوا من الرسول صلى اللّه عليه وسلم قبول الجزية منهم وجنح يتعدى بإلى وباللام والسّلم يذكر ويؤنّث . فقيل : التأنيث لغة ، وقيل على معنى المسالمة ، وقيل حملاً على النقيض وهو الحرب ، وقال الشاعر : وأفنيت في الحرب آلاتها وعددت للسلم أوزارها وتقدّم الخلاف في قراءة السين وكسرها والسّلم الصّلح لغة ، فقال قتادة هي موادعة المشركين ومهادنتهم وهذا راجع إلى رأي الإمام فإن رآه مصلحة فعل وإلا فلا ، وقيل نزلت في قوم معتب سألوا الموادعة فأمر اللّه نبيه الإجابة إليها ثم نسخت بقوله : قاتلوا الذين لا يؤمنون ، وقيل : أداء الجزية ، وقال الحسن : السلم الإسلام ، وعن ابن عباس نسخت بقوله : قاتلوا الذين لا يؤمنون ، وعن مجاهد بقوله اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ، قال الزمخشري : والصحيح أنّ الأمر موقوف على ما يرى فيه الإمام صلاح الإسلام وأهله من حرب أو سلم وليس بحتم أن يقاتلوا أبداً أو يجابوا إلى الهدنة أبداً ، وقرأ الأشهب العقيلي فاجنح بضمّ النون وهي لغة قيس والجمهور بفتحها وهي لغة تميم ، وقال ابن جني : القياس في فعل اللازم ضم عين الكلامة في المضارع وهي أقيس من يفعل بالكسر وأمره تعالى بالتوكل عليه فلا يبالي بهم وإن أبطنوا الخديعة في جنوحهم إلى السلم فإنّ اللّه كاف من توكّل عليه وهو السميع لأقوالهم العليم بنياتهم . ٦٢وإن يريدوا أن . . . . . {وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّه هُوَ الَّذِى أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِى الاْرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَاكِنَّ اللّه أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ} أي وإن يرد الجانحون للسّلم بأن يظهروا السلم ويبطنوا الخيانة والغدر مخادعة فاجنح لها فما عليك من نياتهم الفاسدة فإنّ حسبك وكافيك هو اللّه ومن كان اللّه حسبه لا يبالي بمن ينوي سوءً ثم ذكره بما فعل معه أولاً من تأييده بالنّصر وبائتلاف المؤمنين على إعانته ونصره على أعدائه فكما لطف بك أوّلاً يلطف بك آخراً والمؤمنون هنا الأوس والخزرج وكان بين الطائفتين من العداوة للحروب التي جرت بينهم ما كان لولا الإسلام لينقضي أبداً ولكنه تعالى منّ عليهم بالإسلام فأبدلهم بالعداوة محبة وبالتباعد قرباً ، ومعنى لو أنفقت ما في الأرض جميعاً على تأليف قلوبهم واجتماعها على محبة بعضها بعضاً وكونها في الأوس والخزرج ، تظاهر به أقوال المفسرين ، وقال ابن مسعود : نزلت في المتحابّين في اللّه ، قال ابن عطية ولو ذهب ذاهب إلى عموم المؤمنين في المهاجرين والأنصار وجعل التأليف ما كان بين جمعهم فكل يألف في اللّه . وقال الزمخشري : التأليف بين قلوب من بعث إليهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما رأوا من الآيات الباهرة لأنّ العرب لما فيهم من الحمية والعصبية والانطواء على الضغينة في أدنى شيء وإلقائه بين أعينهم إلى أن ينتقموا لا يكاد يأتلف منهم قلبان ثم ائتلفت قلوبهم على اتباع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم واتحدوا وذلك لما نظم اللّه من ألفتهم وجمع من كلمتهم وأحدث بينهم من التحابّ والتوادّ وأماط عنهم من التباغض وكلفهم من الحب في اللّه والبغض في اللّه ولا يقدر على ذلك إلاّ من يملك القلوب فهو يقلبها كما يشاء ويصنع فيها ما أراد انتهى ، وكلامه آخراً قريب من كلام أهل السنة لأنهم قالوا في هذه الآية دليل على أنّ العقائد والإرادات والكراهات من خلق اللّه لأنّ ما حصل من الألف هو بسبب الإيمان ومتابعة الرسول صلى اللّه عليه وسلم فلو كان الإيمان فعلاً للعبد لكانت المحبّة المترتبة عليه فعلاً للعبد وذلك خلاف صريح الآية ، وقال القاضي : لولا ألطاف اللّه تعالى ساعة ساعة ما حصلت هذه الأحوال فأضيفت إلى اللّه على هذا التأويل ونظيره أنه يضاف علم الولد وأدبه إلى أبيه لأجل أنه لم يحصل ذلك إلا بمعونة الأب وتربيته فكذلك هنا انتهى ، وهذا هو مذهب المعتزلة . ٦٣وألف بين قلوبهم . . . . . {يَاأَيُّهَا النَّبِىُّ حَسْبُكَ اللّه وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } نزلت بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال ، وقال ابن عباس وابن عمر وأنس : في إسلام عمر ، قال ابن جبير : أسلم ثلاثة وثلاثون رجلاً وست نسوة ثم أسلم عمر فنزلت ، والظاهر رفع ومن عطفاً على ما قبله وعلى هذا فسّره الحسن وجماعة أي حسبك اللّه والمؤمنون ، وقال الشعبي وابن زيد معنى الآية : حسبك اللّه وحسب من اتبعك ، قال ابن عطية : فمن في هذا التأويل في موضع نصب عطفاً على موضع الكاف لأنّ موضعها نصب على المعنى بيكفيك الذي سدّت حسبك مسدّها انتهى ، وهذا ليس بجيّد لأنّ حسبك ليس مما تكون الكاف فيه في موضع نصب بل هذه إضافة صحيحة ليست من نصب وحسبك مبتدأ مضاف إلى الضمير وليس مصدراً ولا اسم فاعل إلا أنّ قيل إنه عطف على التوهم كأنه توهم أنه قيل يكفيك اللّهأو كفاك اللّه ، ولكنّ العطف على التوهم لا ينقاس فلا يحمل عليه القرآن ما وجدت مندوحة عنه والذي ينبغي أن يحمل عليه كلام الشعبي وابن زيد هو أن يكون ومن مجرورة على حذف وحسب لدلالة حسبك عليه فيكون كقوله : أكل امرىء تحسبين امرأ ونار توقد بالليل نارا أي وكلّ نار فلا يكون من العطف على الضمير المجرور ، و قال ابن عطية : وهذا الوجه من حذف المضاف مكروه بأنه ضرورة الشعر انتهى ، وليس بمكروه ولا ضرورة وقد أجاز سيبوبه في الكلام وخرج عليه البيت وغيره من الكلام الفصيح ، قال الزمخشري ومن اتبعك الواو بمعنى مع وما بعده منصوب تقول وحسبك وزيداً درهم ولا يجرّ لأنّ عطف الظاهر المجرور على المكنى ممتنع . قال : فحسبك والضحّاك سيف مهند والمعنى كفاك وكفى أتباعك من المؤمنين اللّه ناصراً انتهى ، وهذا الذي قاله الزمخشري مخالف لكلام سيبويه ، قال سيبويه : قالوا حسبك وزيداً درهم لما كان فيه من معنى كفاك وقبح أن يحملوه على المضمر نووا الفعل كأنه قال حسبك ويحسب أخاك درهم ولذلك كفيك انتهى ، كفيك هو من كفاه يكفيه وكذلك قطّك تقول كفيك وزيداً درهم وقطّك وزيداً درهم وليس هذا من باب المفعول معه وإنما جاء سيبويه به حجة للحمل على الفعل للدلالة فحسبك يدلّ على كفاك ويحسبني مضارع أحسبني فلان إذا أعطاني حتى أقول حسبي فالناصب في هذا فعل يدلّ عليه المعنى وهو في كفيك وزيداً درهم أوضح لأنه مصدر للفعل المضمر أي ويكفي زيداً وفي قطّك وزيداً درهم التقدير فيه أبعد لأنّ قطّك ليس في الفعل المضمر شيء من لفظه إنما هو مفسر من حيث المعنى فقط وفي ذلك الفعل المضمر فاعل يعود على الدرهم والنية بالدرهم التقديم فيصير من عطف الجمل ولا يجوز أن يكون من باب الأعمال لأن طلب المبتدأ للخبر وعمله فيه ليس من قبيل طلب الفعل أو ما جرى مجراه ولا عمله فلا يتوهم ذلك ، وقال الزّجاج : حسب اسم فعل والكاف نصب والواو بمعنى مع انتهى ، فعالى هذا يكون اللّه فاعلاً لحسبك وعلى هذا التقدير يجوز في ومن أن يكون معطوفاً على الكاف لأنها مفعول باسم الفعل لا مجرور لأن اسم الفعل لا يضاف إلا أنّ مذهب الزُّجاج خطأ لدخول العوامل على حسبك تقول بحسبك درهم وقال تعالى : فإنّ حسبك اللّه ، ولم يثبت كونه اسم فعل في مكان فيعتقد فيه أنه يكون اسم فعل واسماً غير اسم فعل كرويد وأجاز أبو البقاء رفع ومن على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره وحسبك من اتبعك وعلى أنه مبتدأ محذوف الخبر تقديره ومن اتبعك من المؤمنين كذلك أي حسبهم اللّه ، وقرأ الشعبي ومن أتبعك بإسكان النون وأتبع على وزن أكرم . ٦٤انظر تسفير الآية:٦٦ ٦٥انظر تسفير الآية:٦٦ ٦٦يا أيها النبي . . . . . {يَاأَيُّهَا النَّبِىُّ حَرّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ وَإِن يَكُنْ مّنكُمْ مّاْئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مّنَ الَّذِينَ} هاتان الجملتان شرطيّتان في ضمنهما الأمر بصبر عشرين لمائتين وبصبر مائة لألف ولذلك دخلها النسخ إذ لو كان خبراً محضاً لم يكن فيه النسخ لكنّ الشرط إذا كان فيه معنى التكليف جاز فيه النّسخ وهذا من ذلك ولذلك نسخ بقوله الآن خفف اللّه عنكم والتقييد بالصبر في أول كلّ شرط لفظاً هو محذوف من الثانية لدلالة ذكره في الأولى وتقييد الشرط الثاني بقوله : من الذين كفروا لفظاً هو محذوف من الشرط الأول في قوله : يغلبوا مائتين فانظر إلى فصاحة هذا الكلام حيث أثبت قيد من الجملة الأولى وحذف نظره من الثانية وأثبت قيد في الثانية وحذف من الأولى ولما كان الصبر شديد المطلوبيّة أثبت في أولى جملتي التخفيف وحذف من الثانية لدلالة السابقة عليه ثم ختمت الآية بقوله واللّه مع الصابرين مبالغةً في شدّة المطلوبيّة ولم يأتِ في جملتي التخفيف قيد الكفر اكتفاءً بما قبل ذلك وتظاهرت الروايات عن ابن عباس وغيره من الصحابة أنّ ثبات الواحد للعشرة كان فرضاً لما شقّ عليهم انتقل إلى ثبات الواحد للاثنين على سبيل التقرّب أيضاً ، وسواء كان فرضاً أم ندباً هو نسخ وقول من قال : إنه تخفيف لا نسخ كمكي بن طالب ضعيف ، قال مكي : إنما هو كتخفيف الفطر في السفر ولو صام لم يأتم وأجزأه ومناسبة هذه الأعداد أنّ فرضيّة الثبات أو نديبته كان أولاً في ابتداء الإسلام فكان العشرون تمثيلاً للسرية والمائة تمثيلاً للجيش فلما اتسع نطاق الإسلام وذلك بعد زمان كان المائة تمثيلاً للسّرايا والألف تمثيلاً للجيش وليس في أمره تعالى نبيه بتحريض المؤمنين على القتال دليل على ابتداء فرضية القتال بل كان القتال مفترضاً قبل هذه الآية وإنما جاءت هذه حثًّا على أمر كان وجب عليهم ونصّ تعالى على سبب الغلبة بأن الكفار قوم لا يفقهون ، والمعنى أنهم قوم جهلة يقاتلون على غير احتساب وطلب ثواب كالبهائم فتفل نياتهم ويعدمون لجهلهم باللّه نصرته فهو تعالى يخذلهم وذلك بخلاف من يقاتل على بصيرة وهو موعود من اللّه بالنصر والغلبة ، وعن ابن جريج : كان عليهم أن لا يفرّوا ويثبت الواحد للعشرة ، وكان رسول للّه صلى اللّه عليه وسلم قد بعث حمزة في ثلاثين راكباً فلقي أبا جهل في ثلاثمائة راكب ، قيل ثم ثقل عليهم ذلك وضجّوا منه وذلك بعد مدّة طويلة فنسخ وخفّف عنهم بمقاومة الواحد للاثنين ، وقال بعض العلماء الذي استقرّ حكم التكليف عليه بمقتضي هذه الآية إنّ كل مسلم بالغ وقف بإزاء المشركين عبداً كان أو حرًّا فالهزيمة عله محرّمة ما دام معه سلاحه يقاتل به فإن كان ليس معه سلاح فله أن ينهزم وإن قابله ثلاثة حلّت له الهزيمة والصبر أحسن ، وروى البيهقي وغيره : أنّ جيش مؤتة وكانوا ثلاثة آلاف من المسلمين وقفوا لمائتي ألف مائة ألف من الروم ومائة ألف من الأنباط وروي أنهم وقفوا لأربعمائة ألف والأوّل هو الصحيح وفي تاريخ فتح الأندلس أن طارقاً مولى موسى بن نصير سار في ألف رجل وسبعمائة رجل إلى الأندلس وذلك في رجب سنة ثلاث وتسعين من الهجرة فالتقى هو وملك الأندلس لذريق وكان في سبعين ألف عنان فزحف إليه طارق وصبر له فهزم اللّه الطاغية لذريق وكان الفتح انتهى وما زالت جزيرة الأندلس تلتقي الشرذمة القليلة منهم بالعدد الكثير من النصارى فيغلبونهم ، وأخبرنا من حضر الوقعة التي كانت في الديموس الصغير على اثني عشر ميلاً من مدينة غرناطة سنة تسع عشرة وسبعمائة وكان المسلمون ألفاً وسبعمائة فارس من الأندلسيين والبربر وكان النصارى مائة ألف راجل وستين ألف رامٍ وخمسة عشر ألف فارس بين رامٍ ومدرّع فصبروا لهم وأسروا أكابرهم وقتلوا ملك قشتالة دون جوان ونجا أخوه دون بطر مجروحاً وكان ملوك النصارى ملك قشتالة المذكور وملك إفرنسة وملك يوطقال وملك غلسية وملك قلعة رباح قد خرجوا عازمين على استئصال المسلمين من الجزيرة فهزمهم اللّه ، قال الزمخشري: { فإن قلت } : لم كرر المعنى الواحد وهو مقاومة الجماعة لالأكثر منها مرتين قبل التخفيف وبعده ، { قلت } : للدلالة على أن الحال مع القلة والكثرة واحدة ولا تتفاوت لأن الحال قد تتفاوت بين مقاومة العشرين للمائتين والمائة للألف فكذلك بين المائة للمائتين والألف للألفين انتهى ، ومعنى بإذن اللّه بإرادته وتمكينه وفي قوله واللّه مع الصابرين ترغيب في الثبات للقاء العدوّ وتبشير بالنصر والغلبة لأنه من كان اللّه معه هو الغالب ، وقرأ الأعمش حرص بالصاد المهملة وهو من الحرص وهو قريب من قراءة الجمهور بالضّاد ، وقرأ الكوفيون يكن منكم مائة على التذكير فيهما ورواها خارجة عن نافع ، وقرأ الحرميان وابن عامر على التأنيث ، وقرأ أبو عمر وعلى التذكير في الأول ولحظ يغلبوا والتأنيث في الثانية ولحظ صابرة ، وقرأ الأعرج على التأنيث كلها إلا قوله : وإن يكن منكم ألف فإنه على التذكير بلا خلاف ، وقرأ المفضل عن عاصم وعلم مبنيًّا للمفعول ، وقرأ الحرميان والعربيّان والكسائي وابن عمر والحسن والأعرج وابن القعقاع وقتادة وابن أبي إسحاق ضعفاً وفي الرّوم بضمّ الضاد وسكون العين وعيسى بن عمر بضمّهما وحمزة وعاصم بفتح الضاد وسكون العين وهي كلها مصادر ، وعن أبي عمرو بن العلاء ضمّ الضاد لغة الحجاز وفتحها لغة تميم ، وقرأ ابن القعقاع ضعفاً جمع ضعيف كظريف وظرفاء وحكاها النّقّاس عن ابن عباس ، فقيل الضّعف في الأبدان ، وقيل في البصيرة والاستقامة في الذين وكانوا متفاوتين في ذلك ، وقال الثعالبي الضّعف بفتح الضّاد في العقل والرأي والضعف في الجسم ، وقال ابن عطية وهذا قول تردّه القراءة انتهى . ٦٧ما كان لنبي . . . . . {مَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الاْرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّه يُرِيدُ الاْخِرَةَ وَاللّه عَزِيزٌ} {لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّه سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَآ أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالاً طَيِّباً وَاتَّقُواْ اللّه إِنَّ اللّه غَفُورٌ رَّحِيمٌ } {لَّوْلاَ كِتَابٌ مّنَ اللّه سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالاً طَيّباً وَاتَّقُواْ اللّه إِنَّ اللّه غَفُورٌ رَّحِيمٌ} نزلت في أسرى بدر وكان الرسول صلى اللّه عليه وسلم قد استشار أبا بكر وعمر وعليًّا فأشار أبو بكر بالاستحياء وعمر بالقتل في حديث طويل يوقف عليه في صحيح مسلم ، وقرأ أبو الدرداء وأبو حيوة ما كان للنبي معرّفاً والمراد به في التنكير والتعريف الرسول صلى اللّه عليه وسلم ولكن في التنكير إبهام في كون النفي لم يتوجه عليه معيناً وتقدّم مثل هذا التركيب وكيفية هذا النفي وهو هنا على حذف مضاف أي ما كان لأصحاب نبي أو لأتباع نبيّ فحذف اختصاراً ولذلك جاء الجمع في قوله تريدون عرض الدنيا ولم يجيء التركيب تريد أو يريد عرض الدنيا لأنه صلى اللّه عليه وسلم لم يأمر باستبقاء الرجال وقت الحرب ولا أراد عرض الدنيا قط ، وإنما فعله جمهور مباشري الحرب وقد طول المفسرون في قصّة هؤلاء الأسارى ، وذلك مذكور في السّير وحذفناه نحن لان في بعضه ما لا يناسب ذكره بالنسبة إلى مناصب الرسل ، وقرأ أبو عمرو أن تكون على تأنيث لفظ الجمع وباقي السبعة والجمهور على التذكير على المعنى ، وقرأ الجمهور والسبعة أسرى على وزن فعلى وهو قياس فعيل بمعنى مفعول إذا كان آفة كجريج وجرحى ، وقرأ يزيد بن القعقاع والمفضل عن عاصم أسارى وشبه فعيل بفعلان نحو كسلان وكسالى كما شبهوا كسلان بأسير فقالوا فيه جمعاً كسلى قاله سيبويه وهما شاذّان ، وزعم الزجاج أن أسارى جمع أسرى فهو جمع جمع وقد تقدم لنا ذكر الخلاف في فعلى أهو جمع أو اسم جمع وأنّ مذهب سيبويه أنه من أبنية الجموع ومدلول أسرى وأسارى واحد ، وقرأ أبو عمرو بن العلاء الأسرى هم غير الموثوقين عندما يؤخذون والأسارى هم الموثقون ربطاً ، وحكى أبو حاتم أنه سمع ذلك من العرب وقد ذكره أيضاً أبو الحسن الأخفش ، وقال العرب : لا تعرف هذا كلاهما عندهم سواء ، وقرأ أبو جعفر ويحيى بن يعمر ويحيى بن وثاب حتى يثخن مشدّداً عدوه بالتضعيف والجمهور بالتخفيف وعدوّه بالهمزة إذ كان قبل التعدية ثخن ومعنى عرض الدنيا ما أخذتم في فداء الأساري وكان فداء كل رجل عشرين أوقية ، وفداء العباس أربعون أوقية وعن ابن سيرين مائة أوقية ، والأوقية أربعون درهماً وستة دنانير ، وكانوا مالوا إلى الفداء ليقووا ما يصيبونه على الجهاد وإيثاراً للقرابة ورجاء الإسلام وكان الإثخان والقتل أهيب للكفار وأرفع لمنار الإسلام وكان ذلك إذ المسلمون قليل فلما اتسع نطاق الإسلام وعزّ أهله نزل فإما منا بعد وإما فداء ، وقرىء يريدون بالياء من تحت وسمى عرضاً لأنه حدث قليل اللبث ، وقرأ الجمهور الآخرة بالنصب ، وقرأ سليمان بن جمار المدنيّ بالجرّ واختلفوا في تقدير المضاف المحذوف فمنهم من قدّره عرض الآخرة ، قال : وحذف لدلالة عرض الدنيا عليه ، قال بعضهم : وقد حذف العرض في قراءة الجمهور وأقيم المضاف إليه مقامه في الإعراب فنصب وممن قدّره عرض الآخرة الزمخشري قال على التقابل يعني ثوابها انتهى . ونعني أنه لما أطلق على الفداء عرض الدنيا أطلق على ثواب الآخرة عرضاً على سبيل التقابل لا أن ثواب الآخرة زائل فإن كعرض الدنيا فسُمّي عرضاً على سبيل التقابل وإن كان لولا التقابل لم يسمَّ عرضاً وقدّره بعضهم عمل الآخرة أي المؤدّي إلى الثواب في الآخرة وكلهم جعله كقوله : ونار توقد بالليل ناراً . ويعنون في حذف المضاف فقط وإبقاء المضاف إليه على جرّه لأن جرّ مثل ونار جائز فصيح وذلك إذا لم يفصل بين المجرور وحرف العطف أو فصل بلا نحو ما مثل زيد ولا أخيه يقولان ذلك وتقدم المحذوف مثله لفظاً ومعنى وأما إذا فصل بينهما بغير لا كهذه القراءة فهو شاذّ قليل ، واللّه عزيز ينصر أولياءه ويجعل الغلبة لهم ويمكّنهم من أعدائهم قتلاً وأسراً حكيم يضع الأشياء مواضعها ، ٦٨لولا كتاب من . . . . . قال ابن عباس ومقاتل لولا أنّ اللّه كتب في أمّ الكتاب أنه سيحلّ لكم الغنائم لمسّكم فيما تعجّلتم منها ومن الفداء يوم بدر قبل أن تؤمروا بذلك عذاب عظيم ، وقال ابن عباس أيضاً ومجاهد : لو سبق أنه يعذبّ من أتى ذنباً على جهالة لعوقبتم ، وقال علي بن أبي طالب ومحمد بن علي بن الحسين وابن إسحاق : سبق أن لا يعذّب إلا بعد النهي ولم يكن نهاهم ، وقال الحسن وابن جبير وابن زيد وابن أبي نجيح عن مجاهد لولا ما سبق لأهل بدر إنّ اللّه لا يعذبهم لعذّبهم ، وقال الماورديّ لولا أن القرآن اقتضى غفران الصغائر لعذبهم ، وقال قوم : الكتاب السابق عفوه عنهم في هذا الذنب معيناً ، وقيل : هو أن لا يعذبهم والرسول فيه ، وقيل : ما كتبه على نفسه من الرحمة . وقيل : سبق أنه لا يضلّ قوماً بعد إذ هداهم ، وقيل : سبق أنه سيحلّ لهم الغنائم والفداء ، قاله ابن عباس وأبو هريرة والحسن ، وقيل : سبق أن يغفر الصغائر لمن اجتنب الكبائر لعذّبكم بأخذ الغنائم ، واختاره النحاس ، وقال قوم : الكتاب السابق هو القرآن والمعنى لولا الكتاب الذي سبق فآمنتم به وصدّقتم لمسّكم العذاب لأخذكم هذه المفاداة ، وقال الزمخشري : لولا حكم منه تعالى سبق إثباته في اللوح وهو أن لا يعاقب أحداً بخطأ وكان هذا خطأ في الاجتهاد لأنهم نظروا في أنّ استبقاءهم ربما كان سبباً في إسلامهم وتوبتهم وأنّ فداءهم يتقوى به على الجهاد في سبيل اللّه وخفي عنهم أن قتلهم أعزّ للإسلام وأهْيب لمن وراءهم وأفل لشوكتهم انتهى . وروي لو نزل في هذا الأمر عذاب لنجا منه عمر وفي حديث آخر وسعد بن معاذ وذلك أن رأيهما كان أن تقتل الأسارى . والذي أقوله أنهم كانوا مأمورين أوّلاً بقتل الكفار في غير ما آية كقوله فاقتلوهم حيث وجدتموهم فاقتلوهم حيث ثقفتموهم فلما كانت وقعة بدر وأسروا جماعة من المشركين اختلفوا في أخذ الفداء منهم وفي قتلهم فعوتب من رأى الفداء إذ كان قد تقدّم الأمر بالقتل حيث لم يستصحبوا امتثال الأمر ومالوا إلى الفداء وحرصوا على تحصيل المال ألا ترى إلى قول المقداد حين أمر الرسول صلى اللّه عليه وسلم بقتل عقبة بن أبي معيط قال : أسيري يا رسول اللّه ، وقول مصعب بن عمير لمن أسر أخاه : شدّ يدك عليه فإن له أما مؤسرة ، ثم بعد هذه المعاتبة أمر الرسول بقتل بعض والمنّ بالإطلاق في بعض والفداء في بعض فكان ذلك نسخاً لتحتّم القتل ، ثم قال تعالى : لولا كتاب من اللّه سبق في تأييدكم ونصركم وقهركم أعداءكم حتى استوليتم عليهم قتلاً وأسراً ونهباً على قلّة عددكم وعددكم لمسكم فيما أخذتم من غنائمهم وفدائهم عذاب عظيم منهم لكونهم كانوا أكثر عدداً منكم وعدداً ولكنه سهل تعالى عليكم ولم يمسّكم منهم عذاب لا بقتل ولا أسر ولا نهب وذلك بالحكم السابق في قضائه أنه يسلّطكم عليهم ولا يسلّطهم عليكم فليس المعنى لمسكم من اللّه وإنما المعنى لمسكم من أعدائكم كما قال : { إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مّثْلُهُ } وقال :{ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ } ثم قال تعالى :{ فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالاً طَيّباً } أي مما عنمتم ومنه ما حصل بالفداء الذي أقره الرسول صلى اللّه عليه وسلم وقال لا يفلتن منهم رجل إلا بفدية أو ضرب عنق وليس هذا الأمر منشأً لإباحة الغنائم إذ قد سبق تحليلها قبل يوم بدر ولكنه أمر يفيد التوكيد واندراج مال الفداء في عموم ما غنمتم إذ كان قد وقع العتاب في الميل للفداء ثم أقرّه الرسول وانتصب حلالاً على الحال من ما إن كانت موصولة أو من ضميره المحذوف أو على أنه نعت لمصدر محذوف أي أكلاً حلالاً وجوّزوا في ما إن تكون مصدرية وروي أنهم أمسكوا عن الغنائم ولم يمدّوا أيديهم إليها فنزلت ، وجعل الزمخشري قوله فكلوا متسبّباً عن جملة محذوفة هي سبب وأفادت ذلك الفاء وقدّرها قد أبحت لكم الغنائم فكلوا ، وقال الزجاج الفاء للجزاء والمعنى قد أحللت لكم الفداء فلكوا وأمر تعالى بتقواه لأن التقوى حاملة على امتثال أمر اللّه وعدم الإقدام على ما لم يتقدّم فيه إذن ففيه تحريض على التقوى من مال إلى الفداء ثم جاءت الصفتان مشعرتين بغفران اللّه ورحمته عن الذين مالوا إلى الفداء قبل الإذن ، وقال الزمخشري : معناه إذا اتقيتموه بعدما فرط منكم من استباحة الفداء قبل أن يؤذن لكم فيه غفر لكم ورحمكم وتاب عليكم ، و قال ابن عطية : وجاء قوله واتقوا اللّه اعتراضاً فصيحاً في أثناء القول لأن قوله إن اللّه غفور رحيم هو متصل بقوله فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً ، وقيل غفور لما أتيتم رحيم بإحلال ما غنمتم . ٧٠يا أيها النبي . . . . . {رَّحِيمٌ يَاأَيُّهَا النَّبِىُّ قُل لّمَن فِى أَيْدِيكُم مّنَ الاْسْرَى إِن يَعْلَمِ اللّه فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} نزلت هذه الآية عقيب بدر في أسرى بدر أعلموا أنّ لهم ميلاً إلى الإسلام وأنهم يؤملونه إن فدوا ورجعوا إلى قومهم ، وقيل في عباس وأصحابه قالوا للرسول : آمنا بما جئت ونشهد أنك روسل اللّه لننصحن لك على قومنا ومعنى في أيديكم أي ملكتكم كان الأيدي قابضة عليهم والصحيح أن الأسارى كانوا سبعين والقتلى سبعين كما ثبت في صحيح مسلم وهو قول ابن عباس وابن المسيب وأبي عمرو بن العلاء ، وكان عليهم حين جيء بهم إلى المدينة شقران مولى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وقال مالك : كانوا مشركين ومنهم العباس بن عبد المطلب أسره أبو اليسر كعب بن عمرو أخو بني سلمة وكان قصيراً والعباس ضخم طويل فلما جاء به قال الرسول صلى اللّه عليه وسلم : لقد أعانك عليه ملك وعن العباس كنت مسلماً ولكنهم استكرهوني فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : إن يكن ما تقول حقًّا فاللّه يجريك فأما ظاهر أمرك فقد كنت علينا وكان أحد الذين ضمنوا إطعام أهل بدر وخرج بالذهب لذلك ، وروي أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال للعباس لهند ابني أخيك عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحرث ، فقال يا محمد تركتني أتكفف قريشاً ما بقيت ، فقال له : أين المال الذي دفعته إلى أم الفضل وقت خروجك من مكة وقلت لها : لا أدري ما يصيبني في وجهي هذا فإن حدث بي حدث فهو لك ولعبد اللّه وعبيد اللّه والفضل ، فقال العباس : وما يدريك قال : أخبرني به ربي ، قال العباس : فأنا أشهد أنك صادق وأن لا إله إلا اللّه وأنت عبده ورسوله ، واللّه لم يطلع عليه أحد إلا اللّه ولقد دفعته إليها في سواد الليل ولقد كنت مرتاباً في أمرك فأما إذا أخبرتني بذلك فلا ريب ، قال العباس فأبدلني اللّه خيراً من ذلك لي الآن عشرون عبداً إنّ أدناهم ليضرب في عشرين ألفاً وأعطاني زمزم ما أحب أن لي بها جميع أموال مكة وأنا أنتظر المغفرة من ربي ، وروي أنه قدم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مال البحرين ثمانون ألفاً فتوضّأ لصلاة الظهر وما صل حتى فرّقه وأمر العباس أن يأخذ منه فأخذ ما قدر على حمله وكان يقول : هذا خير مما أخذ مني وأرجو المغفرة ومعنى إنْ يعلم اللّه أنْ يتبين للناس علم اللّه في قلوبكم خيراً أي إسلاماً كما زعمتم بأن تظهروا الإسلام فإنه سيعطيكم أفضل مما أخذ منكم بالفداء وسيغفر لكم ما اجترحتموه فإن الإسلام يحب ما قبله ، وقرأ الجمهور من الأسرى وابن محيصن من أسرى منكراً وقتادة وأبو جعفر وابن أبي إسحاق ونصر بن عاصم وأبو عمرو من السبعة من الأسارى واختلف عن الحسن وعن الجحدري ، وقرأ الأعمش يثبكم خيراً من الثواب ، وقرأ الحسن وأبو حيوة وشيبة وحميد مما أخذ مبنياً للفاعل ، وإيتاء هذا الخير ، قيل في الدنيا وقيل في الآخرة ، وقيل فيهما والظاهر أن الضمير في وإن يريدوا على الأسرى لأنه أقرب مذكور ، ٧١وإن يريدوا خيانتك . . . . . والخيانة هي كونهم أظهر الإسلام بعضهم ثم ردّوا إلى دينهم فقد خانوا اللّه لخروجهم مع المشركين ، وقال الكرماني : وإن يريدوا يعني الأسرى خيانتك يعني نقض ما عهدوا معك فقد خانوا اللّه بالكفر والشكر قبل العهد ، وقيل : قبل بدر فأمكن منهم أو فأمكنك منهم وهزمتهم وأسرتهم ، وقال الزمخشري : خيانتك أي ينكث ما بايعوك عليه من الإسلام والردّة واستحباب دين آبائهم فقد خانوا اللّه من قبل في كفرهم ونقض ما أخذ على كلّ عاقل من مشاقّه فأمكن منهم كما رأيتم يوم بدر فسيمكن منهم إن أعادوا الخيانة ، وقيل المراد بالخيانة منع ما ضمنوا من الفداء ، و قال ابن عطية : إن أخلصوا فعل بهم كذا وإن أبطنوا خيانة ما رغبوا أن يؤتمنوا عليه من العهد فلا يسرّهم ذلك ولا يسكنون إليه فإن اللّه بالمرصاد فهم الذين خانوه بكفرهم وتركهم النّظر في آياته وهو قد بيّنها لهم وجعل لهم إدراكاً يحصلونها به فصار ذلك كعهد متقرّر فجعل جزاؤهم على خيانتهم إياه أن مكّن منهم المؤمنين وجعلهم أسرى في أيديهم واللّه عليم بما يبطنونه من إخلاص أو خيانة حكيم فيما يجازيهم انتهى ، وقيل الضمير في وإن يريدوا عائد على الذين قيل في حقهم : وإن جنحوا للسلم أي وإن يريدوا خيانتك في إظهار الصّلح والجمهور على أن الضمير في وإن يريدوا عائد على الأسرى ، وروي عن قتادة : إن هذه الآية في قصة عبد اللّه بن أبي سرح فإن كان قال ذلك على سبيل التمثيل فيمكن ، وإن كان على سبيل أنها نزلت في ذلك فلا لأنه إنما بيّن أمره في فتح مكة وهذه نزلت عقيب بدر . ٧٢إن الذين آمنوا . . . . . {إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللّه وَالَّذِينَ ءاوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ} قسّم اللّه المؤمنين إلى المهاجرين والأنصار والذين لم يهاجروا فبدأ بالمهاجرين لأنهم أصل الإسلام وأول من استجاب اللّه فهاجر قوم إلى المدينة وقوم إلى الحبشة وقوم إلى ابن ذي يزن ثم هاجروا إلى المدينة وكانوا قدوة لغيرهم في الإيمان وسبب تقوية الدّين من سنّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة وثنّى بالأنصار لأنهم ساووهم في الإيمان وفي الجهاد بالنفس والمال لكنه عادل الهجرة إلا بواء والنصر وانفرد المهاجرون بالسبق وذكر ثالثاً من آمن ولم يهاجر ولم ينصر ففاتهم هاتان الفضيلتان وحرموا الولاية حتى يهاجروا ومعنى أولياء بعض في النصرة والتعاون والموازرة ، كما جاء في غير آية نحو { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة : ذلك في الميراث آخى الرسول صلى اللّه عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار فكان المهاجري يرثه أخوه الأنصاري إذا لم يكن له بالمدينة وليّ مهاجري ولا توارث بينه وبين قريبه المسلم غير المهاجري . قال ابن زيد : واستمر أمرهم كذلك إلى فتح مكة ثم توارثوا بعد لما لم تكن هجرة فمعنى ما لكم من ولايتهم من شيء نفي الموالاة في التوارث وكان قوله : وأولوا الأرحام بعضهم أولى نسخاً لذلك وعلى القول الأوّل يكون المعنى في نفي الولاية على أنها صفة للحال إذ لا يمكن ولايته ونصره لتباعد ما بين المهاجرين وبينهم وفي ذلك حضّ للأعراب على الهجرة ، قيل ولا يجوز أن تكون الموالاة لأنه عطف عليه وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر والمعطوف مغاير للمعطوف عليه فوجب أن تكون الولاية المنفية غير النّصرة انتهى . ولما نزل ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا قال الزبير هل نعينهم على أمر إن استعانوا بنا فنزل وإن استنصروكم ومعنى ميثاق عهد لأن نصركم إياهم نقض للعهد فلا تقاتلون لأنّ الميثاق مانع من ذلك وخصّ الاستنصار بالدين لأنه بالحمية والعصبية في غير الدين منهى عنه وعلى تقتضي الوجوب ولذلك قدّره الزمخشري بقوله : فواجب عليكم أن تنصروهم . وقال زهير : على مكثريهم رزق من يعتريهم وعند المقلّين السماحة والبذل وقرأ الأعمش وابن وثاب وحمزة ولايتهم بالكسر وباقي السبعة والجمهور بالفتح وهما لغتان قاله الأخفش ، ولحن الأصمعي الأخفش في قراءته بالكسر وأخطأ في ذلك لأنها قراءة متواترة ، وقال أبو عبيدة بالكسر من ولاية السلطان وبالفتح من المولى يقال مولى بين الولاية بفتح الواو ، وقال الزجاج بالفتح من النصرة والنسب وبالكسر بمنزلة الإمارة قال : ويجوز الكسر لأنّ في تولي بعض القوم بعضاً جنساً من الصناعة والعمل وكل ما كان من جنس الصناعة مكسور مثل القصارة والخياطة وتبع الزمخشري الزجاج فقال : وقرىء من ولايتهم بالفتح والكسر أي من توليهم في الميراث ووجه الكسر أنّ تولي بعضهم بعضاً شبه بالعمل والصناعة كأنه بتوليه صاحبه يزاول أمراً ويباشر عملاً ، وقال أبو عبيد والذي عندنا الأخذ بالفتح في هذين الحرفين نعني هنا ، وفي الكهف لأنّ معناهما من الموالاة لأنها في الدين ، وقال الفرّاء : يريد من مواريثهم فكسر الواو وأجب إليّ من فتحها لأنها إنما تفتح إذا كانت نصرة وكان الكسائي يذهب بفتحها إلى النصرة وقد ذكر الفتح والكسر في المعنيين جميعاً ، وقرأ السلمي والأعرج بما يعملون بالياء على الغيبة . ٧٣والذين كفروا بعضهم . . . . . {وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِى الاٌّ رْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ } {وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ } وقرأت فرقة أولى ببعض . قال ابن عطية : هذا الجمع الموارثة والمعاونة والنصرة ، وقال الزمخشري ظاهره إثبات الموالاة بينهم كقوله في المسلمين ومعناه نهي المسلمين عن الموالاة الذين كفروا وموارثيهم وإيجاب مساعدتهم ومصادقتهم وإن كانوا أقارب وإن يتركوا يتوارثون بعضهم بعضاً . وقال غيره : لما ذكر أقسام المؤمنين الثلاثة وأنهم أولياء ينصر بعضهم بعضاً ويرث بعضهم بعضاً بين أن فريق الكفار كذلك إذ كانوا قبل بعثة الرسول صلى اللّه عليه وسلم ينادي أهل الكتاب منهم قريشاً ويتربّصون بهم الدوائر فصاروا بعد بعثه يوالي بعضهم بعضاً وإلباً واحداً على الرسول صوناً على رئاساتهم وتحزّباً على المؤمنين . {أَن لا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِى الاْرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} الضمير المنصوب في تفعلوه عائد على الميثاق أي على حفظه أو على النصر أو على الإرث أو على مجموع ما تقدم أقوال أربعة ، وقال الزمخشري : أي إن لا تفعلوا ما أمرتكم به من تواصل المسلمين وتولي بعضهم بعضاً حتى في التوارث تفضيلاً لنسبة الإسلام على نسبة القرابة ولم تقطعوا العلائق بينكم وبين الكفار ولم تجعلوا قرابتهم كلا قرابة تحصل فتنة في الأرض ومفسدة عظيمة لأنّ المسلمين ما لم يصيروا يداً واحدة على الشرك كان الشرك ظاهراً والفساد زائداً ، و قال ابن عطية : والفتنة المحنة بالحرب وما انجرّ معها من الغارات والجلاء والأسر والفساد الكبير ظهور الشّرك ، وقال البغوي : الفتنة في الأرض قوّة الكفر والفساد الكبير ضعف الإسلام ، وقرأ أبو موسى الحجازي عن الكسائي : كثير بالثاء المثلثة وروي أن الرسول صلى اللّه عليه وسلم فرأ وفساد عريض . ٧٤والذين آمنوا وهاجروا . . . . . {وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّه وَالَّذِينَ ءَاوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَائِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} {وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّه وَالَّذِينَ ءاوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} هذه الآية فيها تعظيم المهاجرين والأنصار وهي مختصرة إذ حذف منها بأموالهم وأنفسهم وليست تكراراً لأن السابقة تضمنت ولاية بعضهم بعضاً وتقسيم المؤمنين إلى الأقسام الثلاثة وبيان حكمهم في ولايتهم ونصرهم وهذه تضمنت الثناء والتشريف والاختصاص وما آل إليه حالهم من المغفرة والرزق الكريم وتقدم تفسير أواخر نظيرة هذه الآية في أوائل هذه السورة . {وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَائِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّه إِنَّ اللّه بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ } ٧٥والذين آمنوا من . . . . . {وَالَّذِينَ ءامَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ} يعني الذين لحقوا بالهجرة من سبق إليها فحكم تعالى بأنهم من المؤمنين السابقين في الثواب والأجر وإن كان للسابقين شفوف السّبق وتقدّم الإيمان والهجرة والجهاد ومعنى من بعد من بعد الهجرة الأولى وذلك بعد الحديبية قاله ابن عباس ، وزاد ابن عطية وبيعة الرضوان وذلك أنّ الهجرة من بعد ذلك كانت أقل رتبة من الهجرة قبل ذلك وكان يقال لها الهجرة الثانية لأن الحرب وضعت أوزارها نحو عامين ثم كان فتح مكة . وبه قال عليه السلام : لا هجرة بعد الفتح . وقال الطبري : من بعد ما بينت حكم الولاية فكان الحاجز بين الهجرتين نزول الآية فأخبر تعالى في هذه الآية أنهم من الأولين في الموازرة وسائر أحكام الإسلام ، وقيل : من بعد يوم بدر ، وقال الأصمّ : من بعد الفتح وفي قوله معكم إشعار أنهم تبع لا صدر كما قال فأولئك مع المؤمنين وكذلك فأولئك منكم كما جاء مولى القوم منهم وابن أخت القوم منهم . {وَأُوْلُو الاْرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِى كِتَابِ اللّه أَنَّ اللّه بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ} أي وأصحاب القرابات ومن قال : إنّ قوله في المؤمنين المهاجرين والأنصار بعضهم أولياء بعض في المواريث بالأخوة التي كانت بينهم ، قال : هذه في المواريث وهي نسخ للميراث بتلك الأخوة وإيجاب أن يرث الإنسان قريبة المؤمن وإن لم يكن مهاجراً واستدلّ بها أصحاب أبي حنيفة على توريث ذوي الأرحام ، وقالت فرقة منهم : مالك ليست في المواريث وهذا فرار عن توريث الخال والعمّة ونحو ذلك ، وقالت فرقة : هي في المواريث إلا أنها نسختها آية المواريث المبيّنة ، والظاهر أنّ كتاب اللّه هو القرآن المنزّل وذلك في آية المواريث ، وقيل : في كتاب اللّه السابق ، اللوح المحفوظ ، وقيل : في كتاب اللّه في هذه الآية المنزلة ، وقال الزجاج : في حكمه ، وتبعه الزمخشري ، فقال في حكمه وقسمته وختم السورة بقوله إنّ اللّه بكلّ شيء عليم ، في غاية البراعة إذ قد تضمنت أحكاماً كثيرة في مهمّات الدين وقوامه وتفصيلاً لأحوال ، فصفة العلم تجمع ذلك كله وتحيط بمبادئه وغاياته . |
﴿ ٠ ﴾