سورة التوبة١براءة من اللّه . . . . . المرصد : مفعل من رصد يرصد رقب ، يكون مصدراً وزماناً ومكاناً . وقال عامر بن الطفيل : ولقد علمت وما إخالك ناسيا أن المنية للفتى بالمرصد الآل الحلف والجؤار ، ومنه قول إبي جهل . لآل علينا واجب لا نضيعه متين قواه غير منتكث الحبل كانوا إذا تسامحوا وتحالفوا رفعوا به أصواتهم وشهروه من الآل وهو الجؤار ، وله أليل أي أنين يرفع به صوته . وقيل : القرابة . وأنشد أبو عبيدة على القرابة قول الشاعر : أفسد الناس خلوف خلفوا قطعوا الآل وأعراق الرحم وظاهر البيت أنه في العهد . ومن القرابة قول حسان : لعمرك أن لك من قريش كل السقب من رأل النعام وسميت إلاًّ لأنها عقدت ما لا يعقد الميثاق . وقيل : من أل البرق لمع . وقال الأزهري : الأليل البريق ، يقال : أل يؤل صفا ولمع . وقال القرطبي : مأخوذ من الحدة ، ومنه الآلة الحربة . واذن مؤللة محددة ، فإذا قيل للعهد والجؤار والقرابة إلّ فمعناه : أنّ الإذن منصرف إلى تلك الجهة التي يتحدد لها ، والعهد يسمى إلاًّ لصفائه ، ويجمع في القلة الآل ، وفي الكثرة الألّ وأصل جمع القلة أألل ، فسهلت الهمزة الساكنة التي هي فاء الكلمه فأبدلها ألفاً ، وأدغمت اللامفي اللام ، الذمة ؛ العهد . وقال أبو عبيدة : الأمان . وقال الأصمعي : كل ما يجب أن يحفظ ويحمى . أبى يأبى منع ، قال : أبى الضيم والنعمان يخرق نابه عليه فافضى والسيوف معاقله وقال : أبى اللّه إلا عدله ووفاءه فلا النكر معروف ولا العرف ضائع ومجيء مضارعه على فعل بفتح العين شاذ ، ومنه آبى اللحم لرجل من الصحابة . شفاه : أزال سقمه . العشيرة جماعة بسبب أو عقد أو وداد كعقد العشيرة . اقترف اكتسب . كسد الشيء كساداً وكسوداً بار ولم يكن له نفاق . الموطن : الموقف والمقام ، قال الشاعر : وكم موطن لولاي طحت كما هوى بإجرامه من قلة النيق منهوي ومثله الوطن . حنين : وادٍ بين مكة والطائف ، وقيل : واد إلى جنب ذي المجاز . العيلة : الفقر ، عال يعيل افتقر . قال : وما يدري الفقير متى غناه وما يدري الغني متى يعيل الجزية : ما أخذ من أهل الذمة على مقامهم في بلاد الإسلام ، سميت بذلك لأنهم يجزونها أي يقضونها . أو لأنها تجزى بها من منّ عليهم بالإعفاء عن القتل . المضاهاة : المماثلة والمحاكاة ، وثقيف تقول : المضاهأة بالهمز ، وقد ضاهأت فمادتها مخالفة للتي قبلها ، إلا إنْ كان ضاهت يدعى أنّ أصلها الهمز كقولهم في توضأت وقرأت وأخطأت : توضيت ، وقريت ، وأخطيت فيمكن . وأما ضهيأ بالهمز مقصوراً فهمزته زائدة كهمزة عرفىء ، أو ممدوداً فهمزته للتأنيث زائدة ، أو ممدوداً بعده هاء التأنيث . حكاه البحتري عن أبي عمرو الشيباني في النوادر قال : جمع بين علامتي تأنيث . ومدلول هذه اللفظة في ثلاث لغاتها المرأة التي لا تحيض ، أو التي لا ثدي لها شابهت بذلك الرجال . فمن زعم أنّ المضاهاة مأخوذة من ضهياء فقوله خطأ لاختلاف المادتين ، لأصالة همزة المضاهأة ، وزيادة همزة ضهياء في لغاتها الثلاث . {بَرَاءةٌ مّنَ اللّه وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مّنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُواْ فِى الاْرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّه وَأَنَّ اللّه مُخْزِى الْكَافِرِينَ } هذه السورة مدنية كلها ، وقيل : إلا آيتين من آخرها فإنهما نزلتا بمكة ، وهذا قول الجمهور . وذكر المفسرون لها اسماً واختلافاً في سبب ابتدائها بغير بسملة ، وخلافاً عن الصحابة : أهي والأنفال سورة واحدة ، أو سورتان ؟ ولا تعلق لمدلول اللفظ بذلك ، فأخلينا كتابنا منه ، ويطالع ذلك في كتب المفسرين . ويقال : برئت من فلان أبرأ براءة ، أي انقطعت بيننا العصمة ، ومنه برئت من الدين . وارتفع براءة على الابتداء ، والخبر إلى الذين عاهدتم . ومن اللّه صفة مسوغة لجواز الابتداء بالنكرة ، أو على إضمار مبتدأ أي : هذه براءة . وقرأ عيسى بن عمر براءة بالنصب . قال ابن عطية : أي الزموا ، وفيه معنى الاغراء . وقال الزمخشري : اسمعوا براءة . قال : فإن قلت : بم تعلقت البراءة ، باللّه ورسوله والمعاهدة بالمسلمين ؟ قلت : قد أذن اللّه تعالى في معاهدة المشركين أولاً ، فاتفق المسلمون مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعاهدوهم ، فلما نقضوا العهد أوجب اللّه تعالى النبذ إليهم ، فخوطب المسلمون بما تجدّد من ذلك فقيل لهم : إعلموا أنّ اللّه تعالى ورسوله قد برئا مما عاهدتم به المشركين . و قال ابن عطية : لما كان عهد الرسول صلى اللّه عليه وسلم لازماً لجميع أمته حسن أن يقول : عاهدتم . وقال ابن إسحاق وغيره : كانت العرب قد أوثقها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عهداً عاماً على أنّ لا يصدّ أحد عن البيت الحرام ونحو هذا من الموادعات ، فنقض ذلك بهذه الآية ، وأحل لجميعهم أربعة أشهر ، فمن كان له مع الرسول عهد خاص وبقي منه أقل من الأربعة أبلغ به تمامها ، ومن كان أمده أكثر أتمّ له عهده ، وإذا كان ممن يحتبس منه نقض العهد قصر على أربعة أشهر ، ومن لم يكن له عهد خاص فرضت له الأربعة يسيح في الأرض أي : يذهب فيها مسرحاً آمناً . وظاهر لفظة من المشركين العموم ، فكل من عاهده المسلمون داخل فيه من مشركي مكة وغيرهم . وروي أنهم نكثوا إلاّ بني ضمرة وكنانة فنبذ العهد إلى الناكثين . وقال مقاتل : المراد بالمشركين هنا ثلاث قبائل من العرب : خزاعة ، وبنو مدلج ، وبنو خزيمة . وقيل : هذه الآية في أهل مكة ، وكان الرسول صلى اللّه عليه وسلم صالح قريشاً عام الحديبية على أنْ يضعوا الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس ، فدخلت خزاعة في عهد الرسول ، وبنو بكر بن عبد مناة في عهد قريش ، وكان لبني الديل من بني بكر دمٌ عند خزاعة فاغتنموا الفرصة وغفلة خزاعة ، فخرج نوفل بن معاوية الديلي فيمن أطاعه من بني بكر وبيتوا خزاعة فاقتتلوا ، وأعانت قريش بني بكر بالسلاح ، وقوم أعانوهم بأنفسهم ، فهزمت خزاعة إلى الحرم ، فكان ذلك نقضاً لصلح الحديبية ، فخرج من خزاعة بديل بن ورقاء وعمرو بن سالم في ناس من قومهم ، فقدموا على الرسول صلى اللّه عليه وسلم مستغيثين ، وأنشده عمرو فقال : يا رب إني ناشد محمدا حلف أبينا وأبيه الأتلدا كنت لنا أباً وكنا ولدا ثمت أسلمنا ولم ننزع يدا فانصر هداك اللّه نصراً عبدا وادع عباد اللّه يأتوا مددا فيهم رسول اللّه قد تجردا أبيض مثل الشمس ينمو صعدا إن سيم خسفاً وجهه تريدا في فيلق كالبحر يجري مزبدا إن قريشاً أخلفوك الموعدا ونقضوا ميثاقك المؤكدا وزعموا أن لست تدعو أحدا وهم أذل وأقل عددا هم بيتونا بالحطيم هجدا وقتلونا ركعاً وسجدا فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : { لا نصرت إنْ لم أنصركم } فتجهز إلى مكة وفتحها سنة ثمان ، ثم خرج إلى غزوة تبوك وتخلف من تخلف من المنافقين وأرجفوا الأراجيف ، فجعل المشركون ينقضون عهودهم ، فأمره اللّه تعالى بإلقاء عهدهم إليهم ، وأذن في الحرب فسيحوا أمر إباحة ، وفي ضمنه تهديد وهو التفات من غيبة إلى خطاب أي : قلْ لهم سيحوا . يقال : ساح سياحة وسوحاً وسيحاناً ، ومنه سيح الماء وهو الجاري المنبسط . وقال طرفة : لو خفت هذا منك ما نلتني حتى ترى خيلاً أمامي تسيح قال ابن عباس والزهري : أول الأشهر شوال حتى نزلت الآية ، وانقضاؤها انقضاء المحرم بعد يوم الأذان بخمسين ، فكان أجل من له عهد أربعة أشهر من يوم النزول ، وأجل سائر المشركين خمسون ليلة من يوم الأذان . وقال السدّي وغيره : أولها يوم الأذان ، وآخرها العشر من ربيع الآخر . وقيل : العشر من ذي القعدة إلى عشرين من شهر ربيع الأول ، لأن الحج في تلك السنة كان في ذلك الوقت للنسيء الذي كان فيهم ، ثم صار في السنة الثانية في ذي الحجة غير معجزي اللّه لا تفوتونه وإنْ أملهكم وهو مخزيكم أي : مذلكم في الدنيا بالقتل والأسر والنهب ، وفي الآخرة بالعذاب . وحكى أبو عمرو عن أهل نجران : أنهم يقرأون من اللّه بكسر النون على أصل التقاء الساكنين ، واتباعاً لكسرة النون . { وَأَذَانٌ مّنَ اللّه وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجّ الاْكْبَرِ أَنَّ اللّه بَرِىء مّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ } قرأ الضحاك وعكرمة وأبو المتوكل : وإذن بكسر الهمزة وسكون الذال . وقرأ الحسن والأعرج : إن اللّه بكسر الهمزة فالفتح على تقدير بأنّ ، والكسر على إضمار القول على مذهب البصريين ، أو لأنّ الأذان في معنى القول فكسرت على مذهب الكوفيين . وقرأ ابن أبي إسحاق ، وعيسى بن عمر ، وزيد بن علي : ورسوله بالنصب ، عطفاً على لفظ اسم أنْ . وأجاز الزمخشري أنْ ينتصب على أنه مفعول معه . وقرىء بالجر شاذاً ، ورويت عن الحسن . وخرجت على العطف على الجوار كما أنهم نعتوا وأكدوا على الجوار . وقيل : هي واو القسم . وروي أن أعرابياً سمع منم يقرأ بالجر فقال : إنْ كان اللّه بريئاً من رسوله فأنا منه بريء ، فلببه القارىء إلى عمر ، فحكى الأعرابي قراءته فعندها أمر عمر بتعليم العربية . وأما قراءة الجمهور بالرفع فعلى الابتداء ، والخبر محذوف أي : ورسوله بريء منهم ، وحذف لدلالة ما قبله عليه . وجوزوا فيه أن يكون معطوفاً على الضمير المستكن في بريء ، وحسنه كونه فصل بقوله : من المشركين ، بين متحمله ، والمعطوف . ومن أجاز العطف على موضع اسم إنّ المكسورة أجاز ذلك ، مع أنّ المفتوحة . ومنهم من أجاز ذلك مع المكسورة ، ومنع مع المفتوحة . قال ابن عطية : ومذهب الأستاذ يعني أبا الحسن بن الباذش على مقتضى كلام سيبويه : أنْ لا موضع لما دخلت عليه إنَّ لا موضع لما دخلت عليه هذه انتهى . وهذا كلام فيه تعقب ، لأنّ علة كون إنّ موضع لما دخلت عليه ، ليس ظهور عمل العامل ، بدليل ليس زيد بقائم ، وما في الدار من رجل ، فإنه ظهر عمل العامل ، ولهما موضع . وقوله : والإجماع إلى آخره يريد : أنّ ليت لا موضع لها من الإعراب بالإجماع ، وليس كذلك ، لأنّ الفراء خالف وجعل حكم ليت ولعل وكان ولكن ، وأنّ حكم إنّ في كون اسمهن له موضع . وإعراب وأذان كإعراب براءة على الوجهين ، ثم الجملة معطوفة على مثلها ولا وجه لقول من قال : إنه معطوف على براءة ، كما لا يقال عمرو معطوف على زيد في زيد قام وعمرو قاعد . والأذان بمعنى الإيذان وهو الإعلام كما أنّ الأمان والعطاء يستعملان بمعنى الإيمان والإعطاء ، ويضعف جعله خيراً عن . وأذان إذا أعربناه مبتدأ ، بل الخبر قوله : إلى الناس . وجاز الابتداء بالنكرة لأنها وصفت بقوله : من اللّه ورسوله . ويوم منصوب بما يتعلق به إلى الناس ، وقد أجاز بعضهم نصبه بقوله : وأذان ، وهو بعيد من جهة أنّ المصدر إذا وصف قبل أخذه معموله لا يجوز إعماله فيما بعد الصفة ، ومن جهة أن لا يجوز أنْ يخبر عنه إلا بعد أخذه معموله ، وقد أخبر عنه بقوله : إلى الناس . لما كان سنة تسع أراد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنْ يحج ، فكره أنْ يرى المشركين يطوفون عراة ، فبعث أبا بكر أميراً على الموسم ، ثم أتبعه علياً ليقرأ هذه الآيات على أهل الموسم راكباً ناقته العضباء ، فقيل له : لو بعثت بها إلى أبي بكر فقال : { لا يؤدي عني إلا رجل مني } فلما اجتمعا قال : أبو بكر أمير أو مأمور ، قال : مأمور . فلما كان يوم التروية خطب أبو بكر وقام عليّ يوم النحر بعد جمرة العقبة فقال : { يا أيها الناس إني رسول رسول اللّه إليكم } ، فقالوا : بماذا ؟ فقرأ عليهم ثلاثين آية أو أربعين . وعن مجاهد : ثلاث عشرة ثم قال : { أمرت بأربع أن لا يقرب البيت بعد هذا العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، وأنْ لا يدخل الجنة إلا كل نفس مؤمنة ، وأنْ يتم إلى كل ذي عهد عهده } فقالوا عند ذلك : يا علي أبلغ ابن عمك أنّا قد نبذنا العهد وراء ظهورنا ، وأنه ليس بيننا وبينه عهد إلا طعن بالرماح وضرب بالسيوف . وقيل : عادة العرب في نقض عهودها أنْ يتولى رجل من القبيلة ، فلو تولاه أبو بكر لقالوا هذا خلاف ما يعرف منا في نقض العهود ، فلذلك جعل علياً يتولاه ، وكان أبو هريرة مع علي ، فإذا صحل صوت علي نادى أبو هريرة . والظاهر أنّ يوم الحج الأكبر هو يوم أحد . فقال عمر ، وابن الزبير ، وأبو جحيفة ، وطاووس ، وعطاء ، وابن المسيب : هو يوم عرفة ، وروى مرفوعاً إلى الرسول صلى اللّه عليه وسلم. وقال أبو موسى ، وابن أبي أوفى ، والمغيرة بن شعبة ، وابن جبير ، وعكرمة ، والشعبي ، والنخعي ، والزهري ، وابن زيد ، والسدي : هو يوم النحر . وقيل : يوم الحج الأكبر أيام الحج كلها ، قال سفيان بن عيينة . قال ابن عطية : والذي تظاهرت به الأحاديث أنّ علياً أذّن بتلك الآيات يوم عرفة إثر خطبة أبي بكر ، ثم رأى أنه لم يعم الناس بالإسماع فتتبعهم بالأذان بها يوم النحر ، وفي ذلك اليوم بعث أبو بكر رضي اللّه عنه من يعينه بها كأبي هريرة وغيره ، ويتبعوا بها أيضاً أسواق العرب كذي المجاز وغيره ، وبهذا يترجح قول سفيان . ويقول : كان هذا يوم صفين ، ويوم الجمل ، يريد جميع أيامه . وقال مجاهد : يوم الحج الأكبر أيام منى كلها ، ومجامع المشركين حين كانوا بذي المجاز وعكاظ ومجنة حتى نودي فيهم : إنْ لا يجتمع المسلمون والمشركون بعد عامهم هذا ، ووصفه بالأكبر . قال الحسن ، وعبد اللّه بن الحرث بن نوفل : لأنه حج ذلك العام المسلمون والمشركون ، وصادف عيد اليهود والنصارى ، ولم يتفق ذلك قبله ولا بعده ، فعظم في قلب كل مؤمن وكافر . وضعف هذا القول بأنه تعالى لا يصفه بالأكبر لهذا . وقال الحسن أيضاً : لأنه حج فيه أبو بكر ، ونبذت فيه العهود . قال ابن عطية : وهذا هو القول الذي يشبه نظر الحسن ، وبيانه أن ذلك اليوم كان المفتتح بالحق وأمارة الإسلام بتقديم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ونبذت فيه العهود ، وعز فيه الدين ، وذل فيه الشرك ، ولم يكن ذلك في عام ثمان حين ولى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عتاب بن أسد كان أمير العرب على أوله ، فكل حج بعد حج أبي بكر فمتركب عليه ، فحقه لهذا أنْ يسمى أكبر انتهى . ومن قال : إنه يوم عرفة ، فسمي الأكبر لأنه معظم واجباته ، فإذا فات فات الحج . ومن قال : إنه يوم منى فلأن فيه معظم الحج ، وتمام أفعاله من الطواف والنحر والحلق والرمي . وقيل : وصف بالأكبر لأنّ العمرة تسمى بالحج الأصغر . وقال منذر بن سعيد وغيره : كان الناس يوم عرفة مفترقين إذا كانت الحمس تقف بالمزدلفة ، وكان الجمع يوم النحر بمنى ، ولذلك كانوا يسمونه يوم الحج الأكبر أي الأكبر من الأصغر الذي هم فيه مفترقون . وقد ذكر المهدوي : أن الحمس ومن اتبعها وقفوا بالمزدلفة في حجة أبي بكر رضي اللّه عنه . وحكى القرطبي عن ابن سيرين : أنّ يوم الحج الأكبر أراد به العام الذي حج فيه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في حجة الوداع ، وحج معه الأمم ، وهذا يحتاج إلى إضمار ، كأنه قال : هذا الأذان حكمه متحقق يوم الحج الأكبر وهو عام حج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انتهى . وسمي أكبر لأنه فيه ثبتت مناسك الحج . وقال فيه : { خذوا عني مناسككم } وجملة براءة من اللّه ورسوله إخبار بثبوت البراءة ، وجملة وأذان من اللّه ورسوله إخبار بوجوب الإعلام بما ثبت ، فافترقتا وعلقت البراءة بالمعاهدين لأنها مختصة بهم ناكثيهم وغير ناكثيهم ، وعلق الأذان بالناس لشموله معاهداً وغيره ناكثاً ، وغيره مسلماً وكافراً ، هذا هو قول الجمهور . قيل : ويجوز أنْ يكون الخطاب للكفار بدليل آخر الآية ، وبدليل مناداة عليّ بالجمل الأربع . فظاهره أنّ المخاطب بتلك الجمل الكفار ، ولما كان المجرور خبراً عن قوله وأذان ، كان بإلى أي مفتد إلى الناس وواصل إليهم . ولو كان المجرور في موضع المفعول لكان باللام ، ومن في من المشركين متعلقة بقوله بريء تعلق المفعول . تقول : برئت منك ، وبرئت من الدين بخلاف مِنْ في قوله : براءة من اللّه ، فإنها في موضع الصفة { فَإِن تُبْتُمْ } أي : من الشرك الموجب لتبرىء اللّه ورسوله منكم .{ فَهُوَ } أي التوب { خَيْرٌ لَّكُمْ } في الدنيا لعصمة أنفسكم وأولادكم وأموالكم ، وفي الآخرة لدخولكم الجنة وخلاصكم من النار .{ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ } أي عن الإسلام { فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِى اللّه } أي لا تفوتونه عما يحل بكم من نقماته { وَبَشّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } جعل الإنذار بشارة على سبيل الاستهزاء بهم ، والذين كفروا عام يشمل المشركين عبدة الأوثان وغيرهم ، وفي هذا وعيد عظيم بما يحل بهم . ٤{إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ } قال قوم : هذا استثناء منقطع ، التقدير : لكن الذين عاهدتم فثبتوا على العهد أتموا إليهم عهدهم . وقال قوم منهم الزجاج : هو استثناء متصل من قوله : إلى الذين عاهدتم من المشركين . وقال الزمخشري : وجهه أنْ يكون مستثنى من قوله :{ فَسِيحُواْ فِى الاْرْضِ } لأنّ الكلام خطاب للمسلمين ومعناه : براءة من اللّه ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين ، فقولوا لهم : سيحوا ، إلا الذين عاهدتم منهم ، ثم لم ينقضوا فأتموا إليهم عهدهم . والاستثناء بمعنى الاستدراك ، كأنه قيل بعد أنْ أمروا في الناكثين : ولكنّ الذين لم ينكثوا فأتموا إليهم عهدهم ولا تجروهم مجراهم ، ولا تجعلوا الوفيّ كالغادر . وقيل : هو استثناء متصل ، وقبله جملة محذوفة تقديرها : اقتلوا المشركين المعاهدين إلا الذين عاهدتم ، وهذا قول ضعيف جداً ، والأظهر أنْ يكون منقطعاً لطول الفصل بجمل كثيرة بين ما يمكن أن يكون مستثنى منه وبينه . قال مجاهد وغيره : هم قوم كان بينهم وبين الرسول صلى اللّه عليه وسلم عهد لمدة ، فأمر أنْ يفي لهم . وعن ابن عباس لما قرأ عليَّ براءة قال لبني ضمرة وحي من كنانة وحي من سليم : إنّ اللّه قد استثناكم ثم قرأ هذه الآية . والظاهر أنّ قوله : إلى مدتهم ، يكون في المدة التي كانت بينهم وبين الرسول أمروا بإتمام العهد إلى تمام المدة . وعن ابن عباس : كان بقي لحي من كنانة تسعة أشهر ، فأتم إليهم عهدهم . وعنه أيضاً : إلى مدتهم ، إلى الأربعة الأشهر التي في الآية . وهذا بعيد ، لأنه يكون الاستثناء لا يفيد تجديد حكم ، إذ يكون حكم هؤلاء المستثنين حكم باقي المعاهدين الذين لم يتصفوا بما اتصف به هؤلاء من عدم النقص وعدم المظاهرة . وقرأ عطاء بن السائب الكوفي وعكرمة ، وأبو زيد ، وابن السميفع : ينقضوكم بالضاد معجمة وتناسب العهد ، وهي بمعنى قراءة الجمهور ، لأن من نقص من العهد فقد نقص من الأجل المضروب . وهو على حذف مضاف ، أي ولم ينقضوا عهدكم ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه لدلالة الكلام عليه . وقال الكرماني : هي بالضاد أقرب إلى معنى العهد ، إلا أنّ القراءة بالصاد أحسن ليقع في مقابلته التمام في قوله : فأتموا إليهم . والتمام ضد النقص . وانتصب شيئاً على المصدر ، أي : لا قليلاً من النقص ولا كثيراً ، ولم يظاهروا عليكم أحداً كما فعلت قريش ببني بكر حين أعانوهم بالسلاح على خزاعة . وتعدى أتوا بإلى لتضمنه معنى فأدوا ، أي : فأدوه تاماً كاملاً . وقول قتادة : إنّ المستثنين هم قريش عوهدوا زمن الحديبية مردود بإسلام قريش في الفتح قبل الإذن بهذا كله . وقوله : يحب المتقين ، تنبيه على أنّ الوفاء العهد من التقوى ، وأنّ من التقوى أن لا يسوي بين القبيلتين . ٥{فَإِذَا انسَلَخَ الاشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ } تقدم الكلام على انسلخ في قوله : فانسلخ . وقال أبو الهيثم : يقال أهللنا هلال شهر كذا أي دخلنا فيه ولبسناه ، فنحن نزداد كل ليلة إلى مضي نصفه لباساً منه ، ثم نسلخه عن أنفسنا بعد تكامل النصف منه جزءاً حتى نسلخه عن أنفسنا كله ، فينسلخ . وأنشد : إذا ما سلخت الشهر أهللت مثله كفيَّ قاتلاً سلخ الشهور وإهلال والظاهر أن هذه الأشهر هي التي أبيح للناكثين أنْ يسيحوا فيها ، ووصفت بالحرم لأنها محرم فيها القتال ، وتقدم ذكر الخلاف في ابتدائها وانتهائها . وإذا تقدمت النكرة وذكرت بعد ذلك فالوجه أنْ تذكر بالضمير نحو : لقيت رجلاً فضربته . ويجوز أنْ يعاد اللفظ معرّفاً بل نحو : لقيت رجلاً فضربت الرجل ، ولا يجوز أنْ يوصف بوصف يشعر بالمغايرة لو قلت : لقيت رجلاً فضربت الرجل الأزرق ، وأنت تريد الرجل الذي لقيته ، لم يجز بل ينصرف ذلك إلى غيره ، ويكون المضروب غير الملقى . فإنْ وصفته بوصف لا يشعر بالمغايرة جاز نحو : لقيت رجلاً فضربت الرجل المذكور . وهنا جاء الأشهر الحرم ، لأن هذا الوصف مفهوم من قوله : فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ، إذ التقدير أربعة أشهر حرم لا يتعرض إليكم فيها ، فليس الحرم وصفاً مشعراً بالمغايرة . وقيل : الأشهر الحرم هي غير هذه الأربعة ، وهي الأشهر التي حرم اللّه فيها القتال منذ خلق السموات والأرض ، وهي التي جاء في الحديث فيها { إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق اللّه السموات والأرض السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم : ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، ورجب} فتكون الأربعة من سنتين . وقيل : أولها المحرم ، فتكون من سنة . وجاء الأمر بالقتل على سبيل التشجيع وتقوية النفس ، وأنهم لا منعة عندهم من أن يقتلوا . وفي إطلاق الأمر بالقتل دليل على قتلهم بأي وجه كان ، وقد قتل أبو بكر أصحاب الردّة بالإحراق بالنار ، وبالحجارة ، وبالرمي من رؤوس الجبال ، والتنكيس في الآبار . وتعلق بعموم هذه الآية ، وأحرق عليّ قوماً من أهل الرّدّة ، وقد وردت الأحاديث الصحيحة بالنهي عن المثلة . ولفظ المشركين عام في كل مشرك ، وجاءت السنة باستثناء الأطفال والرهبان والشيوخ الذين ليسوا ذوي رأي في الحرب ، ومن قاتل من هؤلاء قتل . وقال الزمخشري : يعني الذي نقصوكم وظاهروا عليكم . ولفظ : { حيث وجدتموهم } عام في الأماكن من حل وحرم . { وخذوهم} عبارة عن الأسر ، والأخيذ الأسير . ويدل على جواز أسرهم : واحصروهم ، قيدوهم وامنعوهم من التصرف في البلاد . وقيل : استرقوهم . وقيل : معناه حاصروهم إنْ تحصّنوا . وقرىء : فحاصروهم شاذاً ، وهذا القول يروى عن ابن عباس . وعنه أيضاً : حولوا بينهم وبين المسجد الحرام . وقيل : امنعوهم عن دخول بلاد الإسلام والتصرف فيها إلا بإذن . قال القرطبي في قوله : { واقعدوا لهم كل مرصد } دلالة على جواز اغتيالهم قبل الدعوة ، لأنّ المعنى اقعدوا لهم مواضع الغرة ، وهذا تنبيه على أنّ المقصود إيصال الأذى إليهم بكل طريق ، إما بطريق القتال ، وإما بطريق الاغتيال . وقد أجمع المسلمون على جواز السرقة من أموال أهل الحرب ، وإسلال خيلهم ، وإتلاف مواشيهم إذا عجز عن الخروج بها إلى دار الإسلام ، إلا أنْ يصالحوا على مثل ذلك . قال الزمخشري: { كل مرصد } كل ممر ومجتاز ترصدونهم فيه ، وانتصابه على الظرف كقوله : { لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ } انتهى . وهذا الذي قاله الزجاج قال : كل مرصد ظرف ، كقولك : ذهبت مذهباً ورده أبو علي ، لأنّ المرصد المكان الذي يرصد فيه العدوّ ، فهو مكان مخصوص لا يحذف الحرف منه إلا سماعاً كما حكى سيبويه : دخلت البيت ، وكما غسل الطريق الثعلب انتهى . وأقول : يصح انتصابه على الظرف ، لأن قوله : { واقعدوا لهم } ليس معناه حقيقة القعود ، بل المعنى ارصدوهم في كل مكان يرصد فيه ، ولما كان بهذا المعنى جاز قياساً أن يحذف منه في كما قال : وقد قعدوا منها كل مقعد . فمتى كان العامل في الظرف المختص عاملاً من لفظه أو من معناه ، جاز أن يصل إليه بغير واسطة في ، فيجوز جلست مجلس زيد ، وقعدت مجلس زيد ، تريد في مجلس زيد . فكما يتعدى الفعل إلى المصدر من غير لفظه إذا كان بمعناه ، فكذلك إلى الظرف . وقال الأخفش : معناه على كل مرصد ، فحذف وأعمل الفعل ، وحذف على ، ووصول الفعل إلى مجرورها فتنصبه ، يخصه أصحابنا بالشعر . وأنشدوا : تحنّ فتبدي ما بها من صبابة وأخفى الذي لولا الأسى لقضاني أي لقضي عليّ . {فَإِذَا انسَلَخَ الاشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ } أي عن الكفر والغدر . والتوبة تتضمن الإيمان وترك ما كانوا فيه من المعاصي ، ثم نبه على أعظم الشعائر الإسلامية ، وذلك إقامة الصلاة وهي أفضل الأعمال البدنية ، وإيتاء الزكاة وهي أفضل الأعمال المالية ، وبهما تظهر القوة العملية ، كما بالتوبة تظهر القوة العلمية عن الجهل . فخلوا سبيلهم ، كناية عن الكف عنهم وإجرائهم مجرى المسلمين في تصرفاتهم حيث ما شاؤوا ، ولا تتعرضوا لهم كقول الشاعر : خل السبيل لمن يبنى المنار به أو يكون المعنى : فأطلقوهم من الأسر والحصر . والظاهر الأول ، لشمول الحكم لمن كان مأسوراً وغيره . وقال ابن زيد : افترضت الصلاة والزكاة جميعاً ، وأبى اللّه أنْ لا تقبل الصلاة إلا بالزكاة ، وقال : يرحم اللّه أبا بكر ما كان أفقهه في قوله : { لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة } وناسب ذكر وصف الغفران والرحمة منه تعالى لمن تاب عن الكفر والتزم شرائع الإسلام . قال الحافظ أبو بكر بن العربي : لا خلاف بين المسلمين أنّ من ترك الصلاة وسائر الفرائض مستحلاً كفر ، ودفن في مقابر الكفار ، وكان ماله فيئاً . ومنْ ترك السنن فسق ، ومن ترك النوافل لم يحرج إلا أن يجحد فضلها فيكفر ، لأنه يصير راداً على النبي صلى اللّه عليه وسلم ما جاء به وأخبر عنه انتهى . والظاهر أنّ مفهوم الشرط لا ينتهض أنْ يكون دليلاً على تعيين قتل من ترك الصلاة والزكاة متعمداً غير مستحلّ ومع القدرة لأن انتفاء تخلية السبيل تكون بالحبس وغيره ، فلا يتعين القتل . وقد اختلف العلماء في ذلك ، فقال مكحول ، ومالك ، والشافعي ، وحماد بن زيد ، ووكيع ، وأبو ثور : يقتل . وقال ابن شهاب ، وأبو حنيفة ، وداود : يسجن ويضرب ، ولا يقتل . وقال جماعة من الصحابة والتابعين : يقتل كفراً ، وماله مال مرتد ، وبه قال إسحاق . قال إسحاق : وكذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى زماننا . ٦{وَإِنْ أَحَدٌ مّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّه ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذالِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ } قال الضحاك والسدّي : هي منسوخة بآية الأمر بقتل المشركين . وقال الحسن ومجاهد : هي محكمة إلى يوم القيامة . وعن ابن جبير : جاء رجل إلى علي رضي اللّه عنه فقال : إنْ أراد الرجل منا أنْ يأتي محمداً بعد انقضاء هذا الأجل ليسمع كلام اللّه ، أو يأتيه لحاجة قتل ؟ قال : لا ، لأن اللّه تعالى قال : وإن أحد من المشركين استجارك الآية انتهى . وقيل : هذه الآية إنما كان حكمها مدة الأربعة الأشهر التي ضربت لهم أجلاً ، والظاهر أنها محكمة . ولما أمر تعالى بقتل المشركين حيث وجدوا ، وأخذهم وحصرهم وطلب غرتهم ، ذكر لهم حالة لا يقتلون فيها ولا يؤخذون ويؤسرون ، وتلك إذا جاء واحد منهم مسترشداً طالباً للحجة والدلالة على ما يدعوا إليه من الدين . فالمعنى : وإنْ أحد من المشركين استجارك ، أي طلب منك أن تكون مجيراً له وذلك بعد انسلاخ الأشهر ليسمع كلام اللّه وما تضمنه من التوحيد ، ويقف على ما بعثت به ، فكن مجيراً له حتى يسمع كلام اللّه ويتدبره ، ويطلع على حقيقة الأمر ، ثم أبلغه داره التي يأمن فيها إنْ لم يسلم ، ثم قاتله إن شئت من غير غدر ولا خيانة . وحتى يصح أن تكون للغاية أي : إلى أن يسمع . ويصح أن تكون للتعليل ، وهي متعلقة في الحالين بأجره . ولا يصح أن يكون من باب التنازع ، وإن كان يصح من حيث المعنى أن يكون متعلقاً باستجارك أو بفأجره ، وذلك لمانع لفظي وهو : أنه لو أعمل الأول لأضمر في الثاني ، وحتى لا تجر المضمر ، فلذلك لا يصح أن يكون من باب التنازع . لكن من ذهب من النحويين إلى أنّ حتى تجر المضمر يجوز أن يكون ذلك عنده من باب التنازع ، وكون حتى لا تجر المضمر هو مذهب الجمهور . ولما كان القرآن أعظم المعجزات ، علق السماع به ، وذكر السماع لأنه الطريق إلى الفهم . وقد يراد بالسماع الفهم تقول لمن خاطبته فلم يقبل منك : أنت لم تسمع ، تريد لم تفهم . وكلام اللّه من باب إضافة الصفة إلى الموصوف ، لا من باب إضافة المخلوق إلى الخالق ومأمنه مكان أمنه . وقيل : مأمنه مصدر ، أي ثم أبلغه أمنه . وقد استدلت المعتزلة بقوله : { حتى يسمع كلام اللّه } على حدوث كلام اللّه ، لأنه لا يسمع إلا الحروف والأصوات . ومعلوم بالضرورة حدوث ذلك ، وهذا مذكور في علم الكلام . وفي هذه الآية دلالة على أنّ النظر في التوحيد أعلى المقامات ، إذ عصم دم الكافر المهدر الدم بطلبه النظر والاستدلال ، وأوجب على الرسول أن يبلغه مأمنه . ومنها دلالة على أنّ التقليد غير كاف في الدين ، إذ كان لا يمهل بل يقال له : إما أن تسلم ، وإما أن تقتل . وفيها دلالة على أنه بعد سماع كلام اللّه لا يقر بأرض الإسلام ، بل يبلغ مأمنه ، وأنه يجب حفظه وحوطته مدة يسمع فيها كلام اللّه . والخطاب بقوله : استجارك وفأجره ، يدل على أنّ أمان السلطان جائز ، وأما غيره فالحر يمضي أمانه . وقال ابن حبيب : ينظر الإمام فيه والعبد . قال الأوزاعي ، والثوري ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، ومحمد بن الحسن ، وأبو ثور ، وداود : له الأمان ، وهو مشهور مذهب مالك . وقال أبو حنيفة : لا أمان له ، وهو قول في مذهب مالك . والحرة لها الأمان على قول الجمهور . وقال عبد الملك بن الماجشون : لا ، إلا أن يجيره الإمام ، وقوله شاذ . والصبي إذا أطاق القتال جاز أمانه ، ذلك بأنهم قوم لا يعلمون ، أي ذلك الأمر بالإجارة وإبلاغ المأمن ، بسبب أنهم قوم جهلة لا يعلمون ما الإسلام وما حقيقة ما تدعو إليه ، فلا بد من إعطائهم الأمان حتى يسمعوا ويفهموا الحق ، قاله الزمخشري . و قال ابن عطية : إشارة إلى هذا اللطف في الإجارة والإسماع وتبليغ المأمن ، لا يعلمون نفي علمهم بمراشدهم في اتباع الرسول صلى اللّه عليه وسلم. ٧{كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللّه وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ } هذا استفهام معناه التعجب والاستنكار والاستبعاد . قال التبريزي والكرماني : معناه النفي ، أي لا يكون لهم عهد وهم لكم ضد . ونبه على علة انتفاء العهد بالوصف الذي قام به وهو الإشراك . وقال القرطبي : وفي الآية إضمار ، أي كيف يكون للمشركين عهد مع إضمار الغدر والنكث ؟ انتهى . والاستفهام يراد به النفي كثيراً ، ومنه قول الشاعر : فها ذي سيوف يا هدى بن مالك كثير ولكن ليس بالسيف ضارب أي ليس بالسيف ضارب . ولما كان الاستفهام معناه النفي ، صلح مجيء الاستثناء وهو متصل . وقيل : منقطع ، أي لكن الذين عاهدتم منهم عند المسجد الحرام . قال الحوفي : ويجوز أن يكون الذين في موضع خبر على البدل من المشركين ، لأن معنى ما تقدم النفي ، أي : ليس يكون للمشركين عهد إلا الذين لم ينكثوا . قال ابن عباس : هم قريش . وقال السدي : بنو جذيمة بن الديل . وقال ابن إسحاق : قبائل بني بكر كانوا دخلوا وقت الحديبية في المدة التي كانت بين الرسول صلى اللّه عليه وسلم وقريش . وقال الزمخشري : كبني كنانة وبني ضمرة . وقال قوم منهم مجاهد : هم خزاعة ورد بإسلامهم عام الفتح . وقال ابن زيد : هم قريش نزلت فلم يستقيموا ، فنزل تأجيلهم أربعة أشهر بعد ذلك . وضعف هذا القول بأنّ قريشاً بعد الأذان بأربعة أشهر لم يكن فيهم إلا مسلم ، وذلك بعد فتح مكة بسنة ، وكذلك خزاعة قاله الطبري . فما استقاموا لكم على العهد فاستقيموا لهم على الوفاء . وجوز أبو البقاء أن يكون خبر يكون كيف ، لقوله : كيف كان عاقبة مكرهم ، وأن يكون الخبر للمشركين . وعند على هذين ظرف للعهد ، أو ليكون ، أو للحال ، أو هي وصف للعهد . وأن يكون الخبر عند اللّه ، وللمشركين تبيين ، أو تعلق بيكون ، وكيف حال من العهد انتهى . والظاهر أنّ ما مصدرية ظرفية ، أي : استقيموا لهم مدة استقامتهم ، وليست شرطية . وقال أبو البقاء : هي شرطية كقوله :{ مَّا يَفْتَحِ اللّه لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ } انتهى . فكان التقدير : ما استقاموا لكم من زمان فاستقيموا لهم . وقال الحوفي : ما شرط في موضع رفع بالابتداء ، والخبر استقاموا ، ولكم متعلق باستقاموا ، فاستقيموا لهم الفاء جواب الشرط انتهى . فكان التقدير فأي : وقت استقاموا فيه لكم فاستقيموا لهم . وإنما جوز أن تكون شرطية لوجود الفاء في فاستقيموا ، لأن المصدرية الزمانية لا تحتاج إلى الفاء . وقد أجاز ابن مالك في المصدرية الزمانية أن تكون شرطية وتجزم ، وأنشد على ذلك ما يدل ظاهره على صحة دعواه . وقد ذكرنا ذلك في كتاب التكميل ، وتأولنا ما استشهد به . فعلى قوله تكون زمانية شرطية : أنّ اللّه يحب المتقين ، يعني أن الوفاء بالعهد من أخلاق المتقين ، والتربص بهؤلاء إن استقاموا من أعمال المؤمنين ، والتقوى تتضمن الإيمان والوفاء بالعهد . ٨{كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ } كيف تأكيد لنفي ثباتهم على العهد . والظاهر أن الفعل المحذوف بعدها هو من جنس أقرب مذكور لها ، وحذف للعلم به في كيف السابقة ، والتقدير : كيف لهم عهد وحالهم هذه ؟ وقد جاء حذف الفعل بعد كيف لدلالة المعنى عليه كقوله تعالى :{ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ} وقال الشعر : ضع وخبرتماني إنما الموت بالقرى فكيف وهاتا هضبة وكثيب أي : فكيف مات وليس في قرية ؟ وقال الحطيئة : فكيف ولم أعلمهم خذلوكم على معظم وأن أديمكم قدّوا أي فكيف تلومونني على مدحهم ؟ واستغنى عن ذلك لأنه جرى في القصيدة ما دل على ما أضمر . وقدر أبو البقاء الفعل المحذوف بعد كيف بقوله : كيف تطمئنون إليهم ؟ وقدره غيره : كيف لا يقتلونهم ؟ والواو في { وإن يظهروا} واو الحال . وتقدم الكلام على وقوع جملة الشرط حالاً في قوله : { وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ } ومعنى الظهور العلو والظفر ، تقول : ظهرت على فلان علوته . والمعنى : وإنْ يقدروا عليكم ويظفروا بكم . وقرأ زيد بن علي : وإنْ يظهروا مبنياً للمفعول . لا يرقبوا : لا يحفظوا ولا يرعوا إلا عهداً أو قرابة أو حلفاً أو سياسة أو اللّه تعالى ، أو جؤاراً أي : رفع صوت بالتضرع ، أقوال . قال مجاهد وأبو مجلز : إنْ اسم اللّه بالسريانية وعرب . ومن ذلك قول أبي بكر حين سمع كلام مسيلمة ، فقال : هذا كلام لم يخرج من إل . وقرأت فرقة : ألا بفتح الهمزة ، وهو مصدر من فعل الأل الذي هو العهد . وقرأ عكرمة : إيلا بكسر الهمزة وياء بعدها ، فقيل : هو اسم اللّه تعالى . ويجوز أن يراد به إلى أبدل من أحد المضاعفين ياء ، كما قالوا في : إما إيما . قال الشاعر : يا ليتما أمنا سالت نعامتها إيما إلى الجنة إيما إلى نار قال ابن جني : ويجوز أن يكون مأخوذاً من آل يؤول إذا ساس ، أبدل من الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها ، أي : لا يرقبون فيكم سياسة ولا مداراة ولا ذمة ، من رأى أنّ الإل هو العهد جعله والذمة لفظين لمعنى واحد أو متقاربين ، ومن رأى أن الإل غير العهد فهما لفظان متباينان . ولما ذكر حالهم مع المؤمنين أنْ ظهروا عليهم ذكر حالهم معهم ذا كانوا غير ظاهرين ، فقال : يرضونكم بأفواههم . واستأنف هذا الكلام أي : حالهم في الظاهر يخالف لباطنهم ، وهذا كله تقرير واستبعاد لثبات قلوبهم على العهد ، وإباء القلب مخالفته لما يجري على اللسان من القول الحسن . وقيل : يرضونكم بأفواههم في العدة بالإيمان ، وتأبى قلوبهم إلا الكفر . وقيل : يرضونكم في الطاعة ، وتأبى قلوبهم إلا المعصية . والظاهر بقاء الأكثر على حقيقته فقيل : وأكثرهم ، لأن منهم من قضى اللّه له بالإيمان . وقيل : لأن منهم من له حفظ لمراعاة الحال الحسنة من التعفف عما يثلم العرض ، ويجر أحدوثة السوء ، وأكثرهم خبثاً لأنفس خريجون في الشر لا مروءة تردعهم ، ولا طباع مرضية تزعهم ، لا يحترزون عن كذب ولا مكر ولا خديعة ، ومن كان بهذا الوصف كان مذموماً عند الناس وفي جميع الأديان . ألا ترى إلى أهل الجاهلية وهم كفار كيف يمدحون أنفسهم بالعفاف وبالصدق وبالوفاء بالعهد وبالأخلاق الحسنة . وقيل : معنى وأكثرهم وكلهم فاسقون ، قاله ابن عطية والكرماني . ٩{اشْتَرَوْاْ بِئَايَاتِ اللّه ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } الظاهر عود الضمير على من قبله من المشركين المأمور بقتلهم ، ويكون المعنى : اشتروا بالقرآن وما يدعو إليه من الإسلام ثمناً قليلاً ، وهو اتباع الشهوات والأهواء لما تركت دين اللّه وآثرت الكفر ، كان ذلك كالشراء والبيع . وقال مجاهد : هم الأعراب الذين جمعهم أبو سفيان على طعامه . وقال أبو صالح : هم قوم من اليهود ، وآيات اللّه التوراة . وقال ابن عباس : هم أهل الطائف كانوا يمدون الناس بالأموال يمنعونهم من الدخول في الإسلام ، فصدوا عن سبيله أي صرفوا أنفسهم عن دين اللّه وعدلوا عنه . والظاهر أنّ ساء هنا محولة إلى فعل . ومذهب بابها مذهب بئس ، ويجوز إقرارها على وصفها الأول ، فتكون متعدية أي : أنهم ساءهم ما كانوا يعملون ، فحذف المفهوم لفهم المعنى . ١٠{لا يَرْقُبُونَ فِى مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ } هذا تنبيه على الوصف الموجب للعداوة وهو الإيمان ، ولما كان قوله :{ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ } يتوهم أنّ ذلك مخصوص بالمخاطبين ، نبّه على علة ذلك ، وأنّ سبب المنافاة هو الإيمان ، وأولئك أي الجامعون لتلك الأوصاف الذميمة هم المعتدون المجاوزون الحد في الظلم والشر ونقض العهد . ١١{فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلَواةَ وَءاتَوُاْ الزَّكَواةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدّينِ } أي فإنْ تابوا عن الكفر ونقض العهد والتزموا أحكام الإسلام فإخوانكم ، أي : فهم إخوانكم ، والإخوان ، والإخوة جمع أخ من نسب أو دين . ومن زعم أنّ الإخوة تكون في النسب ، والإخوان في الصداقة ، فقد غلط . قال تعالى :{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } وقال : أو بيوت إخوانكم ، وعلق حصول الأخوة في الدين على الالتباس بمجموع الثلاثة ، ويظهر أنّ مفهوم الشرط غير مراد . {وَنُفَصّلُ الاْيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } أي نبيّنها ونوضحها . وهذه الجملة اعتراض بين الشرطين ، بين قوله : فإن تابوا ، وقوله : وإن نكثوا ، بعثاً وتحريضاً على تأمل ما فصل تعالى من الأحكام ، وقال لقوم يعلمون لأنه لا يتأمل تفصيلها إلا من كان من أهل العلم والفهم . ١٢{وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِى دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ } أي : وإنْ نقضوا إقسامهم من بعدما تعاهدوا وتحالفوا على أنْ لا ينكثوا . وطعنوا : أي عابوه وثلبوه واستنقصوه . والطعن هنا مجاز ، وأصله الإصابة بالرمح أو العود وشبهه ، وهو هنا بمعنى العيب كما جاء في حديث إمارة أسامة : { إنْ تطعنوا في إمارته فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبل } أي عبتموها واستنقصتموها . والظاهر أنّ هذا الترديد في الشرطين هو في حق الكفار أصلاً ، لأنّ من أسلم ثم ارتد فيكون قوله : فقاتلوا أئمة الكفر ، أي رؤساء الكفر وزعماءه . والمعنى : فقاتلوا الكفار ، وخص الأئمة بالذكر لأنهم هم الذين يحرضون الأتباع على البقاء على الكفر . وقال الكرماني : كل كافر إما نفسه ، فالمعنى فقاتلوا كل كافر . وقيل : من أقدم على نكث العهد والطعن في الدين صار رأساً في الكفر ، فهو من أئمة الكفر . وقال ابن عباس : أئمة الكفر زعماء قريش . وقال القرطبي : هو بعيد ، لأن الآية في سورة براءة ، وحين نزلت كان اللّه قد استأصل شأفة قريش ولم يبق منهم إلا مسلم أو مسالم . وقال قتادة : المراد أبو جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة ، وغيرهم ، وهذا ضعيف إن لم يؤخذ على جهة المثال ، لأن الآية نزلت بعد بدر بكثير . وروي عن حذيفة أنه قال : لم يجىء هؤلاء بعدُ ، يريد لم ينقرضوا فهم يجيئون أبداً ويقاتلون . و قال ابن عطية : أصوب ما في هذا أن يقال : إنه لا يعني بها معين ، وإنما دفع الأمر بقتال أئمة الناكثين العهود من الكفرة إلى يوم القيامة دون تعيين ، واقتضت حال كفار العرب ومحاربي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يكون الإشارة إليهم أولاً بقوله : أئمة الكفر ، وهم حصلوا حينئذ تحت اللفظة ، إذ الذي يتولى قتال النبي صلى اللّه عليه وسلم والدفع في صدر شريعته هو إمام كل من يكفر بذلك الشرع إلى يوم القيامة ، ثم يأتي في كل جيل من الكفار أئمة خاصة بجيل جيل انتهى . وقيل : المراد بالعهد الإسلام ، فمعناه كفروا بعد إسلامهم . ولذلك قرأ بعضهم : وإنْ نكثوا إيمانهم بالكسر ، وهو قول الزمخشري ، قال : فقاتلوا أئمة الكفر فقاتلوهم ، فوضع أئمة الكفر موضع ضميرهم ، إشعاراً بأنهم إذا نكثوا في حالة الشرك تمرداً وطغياناً وطرحاً لعادات الكرام الأوفياء من العرب ، ثم آمنوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وصاروا إخواناً للمسلمين في الدين ، ثم رجعوا فارتدوا عن الإسلام ونكثوا ما بايعوا عليه من الإيمان والوفاء بالعهد ، وقعدوا يطعنون في دين اللّه تعالى ويقولون ليس دين محمد بشيء ، فهم أئمة الكفر وذوو الرئاسة والتقدم فيه ، لا يشق كافر غبارهم . والمشهور من مذهب مالك أنّ الذمي إذا طعن في الدين ففعل شيئاً مثل تكذيب الشريعة والسب للنبي صلى اللّه عليه وسلم ونحوه قتل . وقيل : إنْ أعلن بشيء مما هو معهود من معتقده وكفره أدب على الإعلان وترك ، وإنْ كفر بما هو ليس من معتقده كالسب ونحوه قتل . وقال أبو حنيفة : يستتاب ، واختلف إذا سب الذمي ثم أسلم تقية القتل . فالمشهور من مذهب مالك أنه يترك ، لأن الإسلام يجبّ ما قبله ، وفي العتبية أنه يقتل ، ولا يكون أحسن حالاً من المسلم . وقرأ الحرميان وأبو عمرو : بإبدال الهمزة الثانية ياء . وروي عن نافع مد الهمزة . وقرأ باقي السبعة وابن أبي أويس عن نافع : بهمزتين ، وأدخل هشام بينهما ألفاً وأصله أأممة على وزن أفعلة جمع إمام ، أدغموا الميم في الميم فنقلت حركتها إلى الهمزة قبلها . وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف لفظ أئمة ؟ قلت : همزة بعدها همزة بين بين ، أي بين مخرج الهمزة والياء . وتحقيق الهمز هي قراءة مشهورة ، وإن لم تكن مقبولة عند البصريين ، وأما التصريح بالياء فليس بقراءة ، ولا يجوز أن تكون . ومن صرح بها فهو لاحن محرف انتهى . وذلك دأبه في تلحين المقرئين . وكيف يكون ذلك لحناً وقد قرأ به رأس البصريين النحاة أبو عمرو بن العلاء ، وقارىء مكة ابن كثير ، وقارىء مدينة الرسول صلى اللّه عليه وسلم نافع ، ونفى إيمانهم لما لم يثبتوا عليها ولا وفوا بها جعلوا لا أيمان لهم ، أو يكون على حذف الوصف أي : لا أيمان لهم يوفون بها . وقرأ الجمهور : بفتح الهمزة . وقرأ الحسن ، وعطاء ، وزيد بن علي ، وابن عامر : لا إيمان لهم أي لا إسلام ولا تصديق . قال أبو علي : وهذا غير قوي ، لأنه تكرار وذلك لأنه وصف أئمة الكفر بأنهم لا إيمان لهم ، فالوجه في كسر الألف أنه مصدر أمنه إيماناً ، ومنه قوله تعالى : { الَّذِى أَطْعَمَهُم مّن } فالمعنى أنهم لا يؤمنون أهل الذمة ، إذ المشركون لم يكن لهم إلا الإسلام أو السيف . قال أبو حاتم : فسر الحسن قراءته لا إسلام لهم انتهى . وكذا تبعه الزمخشري ، فقال : وقرىء لا إيمان لهم ، أي لا إسلام لهم ، ولا يعطون الأمان بعد الردة والنكث ، ولا سبيل إليه . وبقراءة الفتح استشهد أبو حنيفة على أن يمين الكافر لا يكون يميناً وعند الشافعي يمينهم يمين ، وقال : معناه أنهم لا يوفون بها بدليل اللّه تعالى وصفهم بالنكث لعلهم ينتهون متعلق بقوله : فقاتلوا أئمة الكفر ، أي ليكن غرضكم في مقاتلتهم بعدما وجد منهم من العظائم ما وجد انتهاءهم عما هم فيه ، وهذا من كرمه سبحانه وفضله وعوده على المسيء بالرحمة . ١٣{أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّه أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ } ألا حرف عرض ، ومعناه هنا الحض على قتالهم . وزعموا أنها مركبة من همزة الاستفهام ، ولا النافية ، فصار فيها معنى التخصيص . وقال الزمخشري : دخلت الهمزة على تقرير على انتفاء المقاتلة ، ومعناها : الحض عليها على سبيل المبالغة . ولما أمر تعالى بقتل أهل الكفر أتبع ذلك بالسبب الذي يبعث على مقاتلتهم وهو ثلاثة أشياء جمعوها ، وكل واحد منها على انفراده كاف في الحض على مقاتلتهم . ومعنى نكثوا أيمانهم : نقض العهد . قال السدي ، وابن إسحاق ، والكلبي : نزلت في كفار مكة ، نكثوا أيمانهم بعد عهد الحديبية ، وأعانوا بني بكر على خزاعة انتهى . وهمهم هو همّ قريش بإخراج الرسول من مكة حين تشاوروا بدار الندوة ، فأذن اللّه في الهجرة ، فخرج بنفسه ، أو بنو بكر بإخراجه من المدينة لما أقدموا عليه من المشاورة والاجتماع ، أو اليهود ، هموا بغدر الرسول صلى اللّه عليه وسلم ونقضوا عهده وأعانوا المنافقين على إخراجه من المدينة ، ثلاثة أقوال أولها للسدي . وقال الحسن : من المدينة . قال ابن عطية : وهذا مستقيم لغزوة أحد والأحزاب وغيرهما ، وهم الذين كانت منهم البداءة بالمقاتلة لأنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جاءهم أولاً بالكتاب المبين وتحدّاهم به ، فعدلوا عن المعارضة لعجزهم عنها إلى القتال ، فهم البادئون ، والبادىء أظلم ، فما يمنعكم من أن تقاتلوهم بمثله تصدمونهم بالشر كما صدموكم ؟ وبخهم بترك مقاتلتهم ، وحضهم عليها ، ثم وصفهم بما يوجب الحض عليها . وتقرر أنّ من كان في مثل صفاتهم من نكث العهود وإخراج الرسول والبدء بالقتال من غير موجب حقيق بأنْ لا تترك مصادمته ، وأن يوبخ من فرط فيها ، قاله : الزمخشري وهو تكثير . و قال ابن عطية : أول مرة . قيل : يريد أفعالهم بمكة بالنبي صلى اللّه عليه وسلم وبالمؤمنين . وقال مجاهد : ما بدأت به قريش من معونة بني بكر حلفائهم على خزاعة حلفاء النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فكان هذا بدء النقض . وقال الطبري : يعني فعلهم يوم بدر انتهى . وقرأ زيد بن علي : بدوكم بغير همز ، ووجهه أنه سهل الهمزة من بدأت بإبدالها ياء ، كما قالوا في قرأت : قريت ، فصار كرميت . فلما أسند الفعل إلى واو الضمير سقطت ، فصار بدوكم كما تقول : رموكم . أتخشونهم تقرير للخشية منهم ، وتوبيخ عليها . فاللّه أحق أن تخشوه فتقتلوا أعداءه . ولفظ الجلالة مبتدأ وخبره أحق ، وأن تخشوه بدل من اللّه أي : وخشية اللّه أحق من خشيتهم وأن تخشوه في موضع رفع ، ويجوز أن تكون في موضع نصب أو جر على الخلاف إذا حذف حرف الجر ، وتقديره : بأن تخشوه أي أحق من غيره بأن تخشوه . وجوز أبو البقاء أن يكون أن تخشوه مبتدأ ، وأحق خبره قدم عليه . وأجاز ابن عطية أن يكون أحق مبتدأ وخبره أن تخشوه ، والجملة خبر عن الأول . وحسن الابتداء بالنكرة لأنها أفعل التفضيل ، وقد أجاز سيبويه أنْ تكون المعرفة خبراً للنكرة في نحو : اقصد رجلاً خير منه أبوه . إن كنتم مؤمنين أي كاملي الإيمان ، لأنهم كانوا مؤمنين . وقال الزمخشري : يعني أنّ قضية الإيمان الصحيح أن لا يخشى المؤمن إلا ربه ولا يبالي بمن سواه كقوله تعالى :{ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللّه} ١٤انظر تسفير الآية:١٥ ١٥{قَاتِلُوهُمْ يُعَذّبْهُمُ اللّه بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللّه عَلَى مَن يَشَاء وَاللّه عَلِيمٌ حَكِيمٌ } قررت الآيات قبل هذا أفعال الكفرة المقتضية لقتالهم ، والحض على القتال ، وحرم الأمر بالقتال في هذه ، وتعذيبهم بأيدي المؤمنين هو في الدنيا بالقتل والأسر والنهب ، وهذه وعود ثبتت قلوبهم وصححت نياتهم ، وخزيهم هو إهانتهم وذلهم ، وينصركم يظفركم بهم ، وشفاه الصدور بإعلاء دين اللّه وتعذيب الكفار وخزيهم . وقرأ زيد بن علي : ونشف بالنون على الالتفات ، وجاء التركيب صدور قوم مؤمنين ليشمل المخاطبين وكل مؤمن ، لأن ما يصيب أهل الكفر من العذاب والخزي هو شفاء لصدر كل مؤمن . وقيل : المراد قوم معينون . قال ابن عباس : هم بطون من اليمن وسبأ قدموا مكة فأسلموا ، فلقوا من أهلها أذى شديداً ، فبعثوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يشكون إليه فقال : { أبشروا فإن الفرج قريب } وقال مجاهد والسدي : هم خزاعة . ووجه تخصيصهم أنهم هم الذين نقض فيهم العهد ونالتهم الحرب ، وكان يومئذ في خزاعة مؤمنون كثير . ألا ترى إلى قول الخزاعي المستنصر بالنبي صلى اللّه عليه وسلم : ثمت أسلمنا قلم ننزع يداً وفي آخر الرجز : وقتلونا ركعا وسجداً وإذهاب الغيظ بما نال الكفار من المكروه ، وهذه الجملة كالتأكيد للتي قبلها ، لأنّ شفاء الصدر من آلة الغيظ هو إذهاب الغيظ . وقرأ فرقة : ويذهب فعلاً لازماً غيظ فاعل به . وقرأ زيد بن علي : كذلك إلا أنه رفع الباء . وهذه المواعيد كلها وجدت ، فكان ذلك دليلاً على صدق الرسول صلى اللّه عليه وسلم وصحة نبوته وبدىء أولاً فيها بما تسبب عن النصر وهو تعذيب اللّه الكفار وبأيدي المؤمنين وإخزاؤهم ، إذا كانت البداءة بما ينال الكفار من الشر هي التي يسر بها المؤمنون ، ثم ذكر ما السبب وهو نصر اللّه المؤمنين على الكافرين ، ثم ذكر ما تسبب أيضاً عن النصر من شفاء صدور المؤمنين وإذهاب غيظهم تتميماً للنعم ، فذكر ما تسبب عن النصر بالنسبة للكفار ، وذكر ما تسبب للمسلمين من الفرح والسرور بإدراك الثأر ، ولم يذكر ما نالوه من المغانم والمطاعم ، إذ العرب قوم جبلوا على الحمية والأنفة ، فرغبتهم في إدراك الثأر وقتل الأعداء هي اللائقة بطباعهم . إن الأسود أسود الغاب همتها يوم الكريهة في المسلوب لا السلب وقرأ الجمهور : ويتوبُ اللّه رفعاً ، وهو استئناف إخبار بأنّ بعض أهل مكة وغيرهم يتوب عن كفره ، وكان ذلك عالم كثيرون وحسن إسلامهم . قال الفراء والزجاج وأبو الفتح : وهذا أمر موجود سواء قوتلوا أو لم يقاتلوا ، فلا وجه لإدخال اليوم في جواب الشرط الذي في قاتلوهم انتهى . وقرأ زيد بن علي ، والأعرج ، وابن أبي إسحاق ، وعيسى الثقفي ، وعمرو بن عبيد ، وعمر بن قائد ، وأبو عمرو ، ويعقوب فيما روي عنهما : ويتوبَ اللّه بنصب الباء ، جعله داخلاً في جواب الأمر من طريق المعنى . قيل : ويمكن أن تكون التوبة داخلة في الجزاء . قال ابن عطية : ويتوجه ذلك عندي إذا ذهب إلى أنّ التوبة يراد بها أنّ قتل الكافرين والجهاد في سبيل اللّه هو توبة لكم أيها المؤمنون وكمال لإيمانكم ، فتدخل التوبة على هذا في شرط القتال . وقال غيره : لما أمرهم بالمقاتلة شق ذلك على بعضهم ، فإذا أقدموا على المقاتلة صار ذلك العمل جارياً مجرى التوبة من تلك الكراهة . وقيل : حصول الكفر وكثرة الأموال لذة تطلب بطريق حرام ، فلما حصلت لهم طريق حلال كان ذلك داعياً لهم إلى التوبة مما تقدم ، فصارت التوبة متعلقة بتلك المقاتلة انتهى . وهذا الذي قرروه من كون التوبة تدخل تحت جواب الأمر هو بالنسبة للمؤمنين الذين أمروا بقتال الكفار ، والذي يظهر أنّ ذلك بالنسبة إلى الكفار ، فالمعنى على من يشاء من الكفار ، وذلك أنّ قتال الكفار وغلبة المسلمين إياهم قد ينشأ عنها إسلام كثير من الناس ، وإن لم يكن لهم رغبة في الإسلام ، ولا داعية قبل القتال . ألا ترى إلى قتال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أهل مكة كيف كان سبباً لإسلامهم ، لأن الداخل في الإسلام قد يدخل فيه على بصيرة ، وقد يدخل على كره واضطرار ، ثم قد تحسن حاله في الإسلام . ألا ترى إلى عبد اللّه بن أبي سرح كيف كان حاله أولاً في الإسلام ، ثم صار أمره إلى احسن حال ومات أحسن ميتة في السجود في صلاته ، وكان من خيار الصحابة ؟ واللّه عليم يعلم ما سيكون مثل ما يعلم ما قد كان ، وفي ذلك تقرير لما رتب من تلك الموعيد ، وأنها كائنة لا محالة حكيم في تصريف عباده من حال إلى حال على ما تقتضيه حكمته تعالى . ١٦{أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّه الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ } تقدّم تفسير نظير هذه الجملة ، والمعنى : أنكم لا تتركون على ما أنتم عليه حتى يتبين الخلَّص منكم وهم المجاهدون في سبيل اللّه الذين لم يتخذوا بطانة من دون اللّه من غيرهم . {وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللّه وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً } ولم يتخذوا معطوف على جاهدوا . غير متخذين وليجة ، والوليجة فعيلة من ولج كالدخيلة من دخل ، وهي البطانة . والمدخل يدخل فيه على سبيل الاستسرار ، شبه النفاق به . وقال قتادة : الوليجة الخيانة . وقال الضحاك : الخديعة . وقال عطاء : الأودّاء . وقال الحسن : الكفر والنفاق . وقال أبو عبيدة : كل شيء أدخلته في شيء وليس منه فهو وليجة ، والرجل يكون في القوم وليس منهم ، وليجة يكون للواحد والاثنين والجمع بلفظ واحد . وليجة الرجل من يختص بدخيلة أمره من الناس ، وجمعها ولائج وولج ، كصحيفة وصحائف وصحف . وقال عبادة بن صفوان الغنوي : ولائجهم في كل مبدي ومحضر إلى كل من يرجى ومن يتخوف وفي هذه الآية طعن على المنافقين الذين اتخذوا الولائج لا سيما عند فرض القتال ، والمعنى : لا بد من اختباركم أيها المؤمنون كقوله :{ أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ } ولما كان الرجل قد يجاهد وهو منافق نفى هذا الوصف عنه ، فبين أنه لا بد للجهاد من الإخلاص خالياً عن النفاق والرياء والتودّد إلى الكفار . {وَاللّه خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } قرأ الجمهور بالتاء على الخطاب مناسبة لقوله : أم حسبتم . وقرأ الحسن ويعقوب في رواية رويس وسلام بالياء على الغيبة التفاتاً . ١٧{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ اللّه شَهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ } قرأ ابن السميفع : أنْ يُعمِروا بضم الياء وكسر الميم ، أن يعينوا على عمارته . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، والجحدري : مسجد بالإفراد ، وباقي السبعة ومجاهد وقتادة وأبو جعفر والأعرج وشبية بالجمع . ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر البراءة من المشركين وأنواعاً من قبائحهم توجب البراءة منهم ، ذكروا أنهم موصوفون بصفات حميدة توجب انتفاء البراءة منها كونهم عامري المسجد الحرام . روي أنه أقبل المهاجرون والأنصار على أسارى بدر يعيرونهم بالشرك ، وطفق عليّ يوبخ العباس ، فقال الرسول : واقطيعة الرحم ، وأغلظ له في القول . فقال العباس : تظهرون مساوينا ، وتكتمون محاسننا ؟ فقال : أو لكم محاسن ؟ قالوا : نعم ، ونحن أفضل منكم أجراً ، إنا لنعمر المسجد الحرام ، ونحجب الكعبة ، ونسقي الحجيج ، ونفك العاني ، فأنزل اللّه هذه الآية رداً عليهم . ومعنى ما كان للمشركين : أي بالحق الواجب ، وإلا فقد عمروه قديماً وحديثاً على سبيل التغلب . وقال الزمخشري : أي ما صح وما استقام انتهى . وعمارته وحوله والقعود فيه والمكث من قولهم : فلان يعمر المسجد أي يكثر غشيانه ، أو رفع بنائه ، وإصلاح ما تهدّم منه ، أو التعبد فيه ، والطواف به . والصلاة ثلاثة أقوال . ومن قرأ بالإفراد فيحتمل أن يراد به المسجد الحرام لقوله :{ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } أو الجنس فيدخل تحته المسجد الحرام ، إذ هو صدر ذلك الجنس مقدّمته . ومن قرأ بالجمع فيحتمل أنْ يراد به المسجد الحرام ، وأطلق عليه الجمع إما باعتبار أنّ كل مكان منه مسجد ، وإما لأنه قبلة المساجد كلها وإمامها ، فكان عامره عامر المساجد . ويحتمل أن يراد الجمع ، فيدخل تحته المسجد الحرام وهو آكد ، لأن طريقته طريقة الكناية كما لو قلت : فلان لا يقرأ كتب اللّه ، كنت أنفي لقراءة القرآن من تصريحك بذلك . وانتصب شاهدين على الحال ، والمعنى : ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متنافيين عمارة متعبدات اللّه تعالى مع الكفر به وبعبادته . وقرأ زيد بن علي : شاهدون على إضمارهم شاهدون ، وشهادتهم على أنفسهم بالكفر قولهم في الطواف : لبيك لبيك لا شريك لك ، إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك . أو قولهم إذا سئلوا عن دينهم : نعبد اللات والعزى ، أو تكذيبهم الرسول ، أو قول المشرك : أنا مشرك كما يقول اليهودي : هو يهودي ، والنصراني هو نصراني ، والمجوسي هو مجوسي ، والصابىء هو صابىء ، أو ظهور أفعال الكفرة من نصب أصنامهم وطوافهم بالبيت عراة ، وغير ذلك أقوال خمسة ، هذا إذا حمل على أنفسهم على ظاهره ، وقيل : معناه شاهدين على رسولهم ، وأطلق عليه أنفسهم لأنه ما من بطن من بطون العرب إلا وله فيهم ولادة ، ويؤيد هذا القول قراءة من قرأ على أنفسهم بفتح الفاء ، أي أشرفهم وأجلهم قدراً . {أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ } التي هي العمارة والحجابة والسقاية وفك العناة وغيرها مما ذُكر أنه من الأعمال الحميدة . قال الزمخشري : وإذا هدم الكفر أو الكبيرة الأعمال الثابتة الصحيحة إذا تعقبها ، فما ظنك بالمقارن ؟ وإلى ذلك أشار تعالى بقوله :{ شَاهِدِينَ } حيث جعله حالاً عنهم ، ودل على أنهم قارنون بين العمارة والشهادة بالكفر على أنفسهم في حال واحدة ، وذلك محال غير مستقيم انتهى . وقوله : أو الكبيرة ، دسيسة اعتزال لأن الكبيرة عندهم من المعاصي تحبط الأعمال . {وَفِى النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ } ذكر مآل المشركين وهو النار خالدين فيها . وقرأ زيد بن علي : بالياء نصباً على الحال ، وفي النار هو الخبر . كما تقول : في الدار زيد قاعداً . وقال الواحدي : دلت الآية على أنّ الكفار ممنوعون من عمارة مسجد المسلمين ، ولو أوصى لم تقبل وصيته ، ويمنع من دخول المساجد ، فإنْ دخل بغير إذن مسلم استحق التعزير ، وإن دخل بإذن لم يعزر ، والأولى تعظم المساجد ومنعها منهم . وقد أنزل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وفد ثقيف وهم كفار المسجد ، وربط ثمامة بن أثال الحنفي في سارية من سواري المسجد وهو كافر . ١٨{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّه مَنْ ءامَنَ بِاللّه وَالْيَوْمِ الاْخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَواةَ وَءاتَى الزَّكَواةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّه فَعَسَى أُوْلَئِكَ } قرأ الجحدري ، وحماد بن أبي سلمة عن ابن كثير : مسجداً للّه بالتوحيد . وقرأ السبعة وجماعة : بالجمع ، والمعنى إنما يعمرها بالحق والواجب ، ويستقيم ذلك فيمن اتصف بهذه الأوصاف . وفي ضمن هذا الخبر أمر المؤمنين بعمارة المساجد ، ويتناول عمارتها رمّ ما تهدّم منها ، وتنظيفها ، وتنويرها ، وتعظيمها ، واعتيادها للعبادة والذكر . ومن الذكر درس العلم بل هو أجله ، وصونها عما لم تبن له من الخوض في أحوال الدنيا . وفي الحديث : { إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان } ولم يذكر الإيمان بالرسول ، لأن الإيمان باليوم الآخر إنما هو متلقف من أخبار الرسول ، فيتضمن الإيمان بالرسول . أو لم يذكر لما علم وشهر من أن الإيمان باللّه تعالى قرينته الإيمان بالرسول ، لاشتمال كلمة الشهادة والأذان والإقامة وغيرها عليهما مقترنين مزدوجين ، كأنهما شيء واحد لا ينفك أحدهما عن صاحبه ، فانطوى تحت ذكر الإيمان باللّه تعالى الإيمان بالرسول صلى اللّه عليه وسلم. وقيل : دل عليه بذكر إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، إذ لا يتلقى ذلك إلا منه . والمقصود من بناء المساجد وعمارتها هو كونها مجتمعاً لإقامة الصلوات فيها والتعبدات من الذكر والاعتكاف وغيرهما ، وناسب ذكر إيتاء الزكاة مع عمارة المساجد أنها لما كانت مجمعاً للناس بأنّ فيها أمر الغني والفقير ، وعرفت أحوال من يؤدي الزكاة ومن يستحقها ، ولم يخش إلا اللّه . قال ابن عطية : يريد خشية التعظيم والعبادة والطاعة ، ولا محالة أن الإنسان يخشى غيره ، ويخشى المحاذير الدنيوية ، وينبغي أن يخشى في ذلك كله قضاء اللّه وتصريفه . وقال الزمخشري : هي الخشية والتقوى في أبواب الدنيا ، وأنْ لا يختار على رضا اللّه رضا غيره ، وإذا اعترضه أمر أن أحدهما حق اللّه تعالى ، والآخر حق نفسه ، خاف اللّه وآثر حق اللّه على حق نفسه . وقيل : كانوا يخشون الأصنام ويرجونها ، فأريد نفي تلك الخشية عنهم انتهى . وعسى من اللّه تعالى واجب حيثما وقعت في القرآن ، وفي ذلك قطع أطماع المشركين أن يكونوا مهتدين إذ مَن جمع هذه الخصال الأربعة جعل حاله حال من ترجى له الهداية ، فكيف بمن هو عار منها : وفي ذلك ترجيح الخشية على الرجاء ، ورفض الاغترار بالأعمال الصالحة ، فربما دخلها بعض المفسدات وصاحبها لا يشعر بها . وقال تعالى : أن يكونوا من المهتدين ، أي : من الذين سبقت لهم الهداية ولم يأت التركيب أن يكونوا مهتدين ، بل جعلوا بعضاً من المهتدين ، وكونهم منهم أقل في التعظيم من أن يجرد لهم الحكم بالهداية . ١٩{أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ ءامَنَ بِاللّه وَالْيَوْمِ الاْخِرِ وَجَاهَدَ فِى سَبِيلِ اللّه لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّه} في صحيح مسلم من حديث النعمان بن بشير قال : كنت عند منبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال رجل : ما أبالي أنْ لا أعمل عملاً بعد أن أسقي الحاج . وقال الآخر : ما أبالي أن لا أعمل عملاً بعد أن أعمرَ المسجد الحرام . وقال آخر : الجهاد في سبيل اللّه أفضل مما قلتم ، فزجرهم عمر وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو يوم الجمعة ، ولكني إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيما اختلفتم فيه ، فنزلت هذه الآية . وذكر ابن عطية وقوله أقوالاً آخر في سبب النزول كلها تدل على الافتخار بالسقاية والعمارة . وقرأ الجمهور : سقاية وعمارة وهما مصدران نحو الصيانة والوقاية وقوبلا بالذوات ، فاحتيج إلى حذف من الأول أي : أهل سقاية ، أو حذف من الثاني أي : كعمل من آمن . وقرأ ابن الزبير والباقر وأبو حيوة : سقاة الحاج ، وعمرة المسجد ، جمع ساق وجمع عامر كرام ورماة وصانع وصنعة . وقرأ ابن جبير كذلك ، إلا أنه نصب المسجد على إرادة التنوين في عمرة . وقرأ الضحاك : سقاية بضم السين ، وعمرة بني الجمع على فعال كرخل ورخال ، وظئر وظؤار ، وكان المناسب أن يكون بغير هاء ، لكنه أدخل الهاء كما دخلت في حجارة . وكانت السقاية في بني هاشم وكان العباس يتولاها ، ولما نزلت هذه الآية قال العباس : ما أراني إلا أترك السقاية ، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : { أقيموا عليها فهي لكم خير } وعمارة المسجد هي السدانة ، وكان في بني عبد الدار ، وشيبة وعثمان بن طلحة هما اللذان دفع إليهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مفتاح الكعبة في ثامن يوم الفتح بعد أن طلبه العباس وعليّ ، وقال صلى اللّه عليه وسلم لعثمان وشيبة : { خذوها خالدة تالدة لا ينازعكما عليها إلا ظالم } يعني السدانة . ومعنى الآية : إنكار أن يشبه المشركون بالمؤمنين وأعمالهم المحبطة بأعمالهم المثبتة . ولما نفى المساواة بينهما أوضح بقوله : واللّه لا يهدي القوم الظالمين ، من الراجح منهما وأنّ الكافرين باللّه هم الظالمون ظلموا أنفسهم بترك الإيمان باللّه ، وبما جاء به الرسول ، وظلموا المسجد الحرام إذ جعله اللّه متعبداً له فجعلوه متعبداً لأوثانهم . وذكر في المؤمنين إثبات الهداية لهم بقوله : { فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ } وفي المشركين هنا نفى الهداية بقوله : واللّه يهدي القوم الظالمين . ٢٠{الَّذِينَ ءامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِى سَبِيلِ اللّه بِأَمْوالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّه وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ } زادت هذه الآية وضوحاً في الترجيح للمؤمنين المتصفين بهذه الأوصاف على المشركين المفتخرين بالسقاية والعمارة ، فطهروا أنفسهم من دنس الشرك بالإيمان ، وطهروا أبدانهم بالهجرة إلى موطن الرسول وترك ديارهم التي نشأوا عليها ، ثم بالغوا بالجهاد في سبيل اللّه بالمال والنفس ، المعرضين بالجهاد للتلف . فهذه الخصال أعظم درجات البشرية ، وأعظم هنا يسوغ أن تبقى على بابها من التفضيل ، ويكون ذلك على تقدير اعتقاد المشركين بأن في سقايتهم وعمارتهم فضيلة ، فخوطبوا على اعتقادهم . أو يكون التقدير أعظم درجة من الذين آمنوا ولم يهاجروا ولم يجاهدوا . وقيل : أعظم ليست على بابها ، بل هي كقوله : { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً} وقول حسان : فشركما لخيركما الفداء وكأنه قيل : عظيمون درجة . وعند اللّه بالمكانة لا بالمكان كقوله :{ وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ } قال أبو عبد اللّه الرازي : الأرواح المقدسة البشرية إذا تطهرت عن دنس الأوصاف البدنية والقاذورات الجسدانية أشرقت بأنوار الجلال وغلا فيها أضواء عالم الجمال ، وترقت من العبدية إلى العندية ، بل كأنه لا كمال في العبدية إلا بمشاهدة الحقيقة العندية ، ولذلك قال تعالى :{ سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً } انتهى ، وهو شبيه بكلام الصوفية ، ثم ذكر تعالى أنّ من اتصف بهذه الأوصاف هو الفائز الظافر بأمنيته ، الناجي من النار . ٢١انظر تسفير الآية:٢٢ ٢٢{يُبَشّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مّنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إِنَّ اللّه عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } قال ابن عباس : هي في المهاجرين خاصة انتهى ، وأسند التبشير إلى قوله : ربهم ، لما في ذلك من الإحسان إليهم بأن مالك أمرهم والناظر في مصالحهم هو الذي يبشرهم ، فذلك على تحقيق عبوديتهم لربهم . ولما كانت الأوصاف التي تحلوا بها وصاروا بها عبيدة حقيقة هي ثلاثة : الإيمان ، والهجرة ، والجهاد بالمال والنفس ، قوبلوا ي التبشير بثلاثة : الرحمة ، والرضوان ، والجنات . فبدأ بالرحمة لأنها الوصف الأعم الناشىء عنها تيسير الإيمان لهم ، وثنى بالرضوان لأنه الغاية من إحسان الرب لعبده وهو مقابل الجهاد ، إذ هو بذل النفس والمال ، وقد على الجنات لأن رضا اللّه عن العبد أفضل من إسكانهم الجنة . وفي الحديث الصحيح : { إن اللّه تعالى يقول : يا أهل الجنة هل رضيتم ؟ فيقولون : يا ربنا كيف لا نرضى وقد باعدتنا عن نارك وأدخلتنا جنتك ، فيقول : لكم عندي أفضل من ذلك ، فيقولون : وما أفضل من ذلك ؟ فيقول : أحل عليكم رضائي فلا أسخط عليكم بعدها } وأتى ثالثاً بقوله : وجنات لهم فيها نعيم مقيم ، أي دائم لا ينقطع . وهذا مقابل لقوله { وهاجروا} لأنهم تركوا أوطانهم التي نشأوا فيها وكانوا فيها منعمين ، فآثروا الهجرة على دار الكفر إلى مستقر الإيمان والرسالة ، فقوبلوا على ذلك بالجنات ذوات النعيم الدائم ، فجاء الترتيب في أوصافهم على حسب الواقع : الإيمان ، ثم الهجرة ، ثم الجهاد . وجاء الترتيب في المقابل على حسب الأعم ، ثم الأشرف ، ثم التكميل . قال التبريزي : ونكر الرحمة والرضوان للتفخيم والتعظيم . برحمة أي : رحمة لا يبلغها وصف واصف . وقرأ الأعمش ، وطلحة بن مصرف ، وحميد بن هلال : يَبشُرهم بفتح الياء وضم الشين خفيفة . وقرأ عاصم في رواية أبي بكر : ورُضوان بضم الراء ، وتقدم ذكر ذلك في أوائل آل عمران . وقرأ الأعمش : بضم الراء والضاد معاً . قال أبو حاتم : لا يجوز هذا انتهى . وينبغي أن يجوز ، فقد قالت العرب : سلُطان بضم اللام ، وأورده التصريفيون في أبنية الأسماء . ٢٣{عَظِيمٌ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ءابَاءكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِيَاء إِنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } كان قبل فتح مكة من آمن لم يتم إيمانه إلا بأن يهاجر ويصادم أقاربه الكفرة ويقطع موالاتهم ، فقالوا : يا رسول اللّه ، إنْ نحن اعتزلنا من يخالفنا في الدين قطعنا آباءنا وأبناءنا وعشائرنا ، وذهبت كادتنا وهلكت أموالنا ، وخرجت ديارنا ، ويقينا ضائعين ، فنزلت . فهاجروا فجعل الرجل يأتيه ابنه أو أبوه أو أخوه أو بعض أقاربه فلا يلتفت إليه ولا ينزله ولا ينفق عليه ، ثم رخص لهم بعد ذلك . فعلى هذا الخطاب للمؤمنين الذين كانوا بمكة وغيرها من بلاد العرب خوطبوا أن لا يوالوا الآباء والإخوة ، فيكونوا لهم تبعاً في سكنى بلاد الكفر . وقيل : نزلت في التسعة الذين ارتدوا ولحقوا بمكة ، فنهى اللّه المؤمنين عن موالاتهم . وذكر الآباء والإخوان لأنهم أهل الرأي والمشورة ، ولم يذكر الأبناء لأنهم في الغالب تبع لآبائهم . وقرأ عيسى بن عمران : استحبوا بفتح الهمزة جعله تعليلاً ، وغيره بكسر الهمزة جعله شرطاً . ومعنى استحبوا : آثروا وفضلوا ، استفعل من المحبة أي طلبوا محبة الكفر . وقيل : بمعنى أحب . وضمن معنى اختار وآثر ، ولذلك عديَ بعلى . ولما نهاهم عن اتخاذهم أولياء أخبر أن من تولاهم فهو ظالم ، فقال ابن عباس : هو مشرك مثلهم ، لأنّ من رضي بالشرك فهو مشرك . قال مجاهد : وهذا كله كان قبل فتح مكة . و قال ابن عطية : وهذا ظلم المعصية لا ظلم الكفر . ٢٤{قُلْ إِن كَانَ ءابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مّنَ اللّه} هذه الآية تقتضي الحض على الهجرة وذكر الأبناء لأنه ذكر المحبة ، وهم أعلق بالنفس ، بخلاف الآية قبلها فلم يذكروا ، لأن المقصود منها الرأي والمشورة . وقدّم الآباء لأنهم الذي يجب برهم وإكرامهم وحبهم ، وثنى بالأبناء لكونهم أعلق بالقلوب . ولما ذكر الأصل والفرع ذكر الحاشية وهي الإخوان ، ثم ذكر الأزواج وهن في المحبة والإيثار كالأبناء ، ثم الأبعد بعد الأقرب في القرابة فقال : وعشيرتكم . وقرأ الجمهور : بغير ألف . وقرأ أبو بكر عن عاصم ، وأبو رجاء ، وأبو عبد الرحمن : بألف على الجمع . وزعم الأخفش أنّ العرب تجمع عشيرة على عشائر ، ولا تكاد تقول عشيرات بالجمع بالألف والتاء ، ثم ذكر وأموال اقترفتموها أي اكتسبتموها ، لأن الأموال يعادل حبها حب القرابة ، بل حبها أشد ، كانت الأموال في ذلك الوقت عزيزة ، وأكثر الناس كانوا فقراء . ثم ذكر : وتجارة تخشون كسادها ، والتجارة لا تتهيأ إلا بالأموال ، وجعل تعالى التجارة سبباً لزيادة الأموال ونمائها . وتفسير ابن المبارك بأن ذلك إشارة إلى البنات اللواتي لا يتزوجن لقلة خطابهن ، تفسير غريب ينبو عنه اللفظ . وقال الشاعر : كسدن من الفقر في قومهن وقد زادهن مقامي كسودا ثم ذكر : ومساكن ترضونها ، وهي القصور والدور . ومعنى : ترضونها ، تختارون الإقامة بها . وهذه الدواعي الأربعة سبب لمخالطة الكفار حب الأقارب ، والأموال ، والتجارة ، والمساكن . فذكر تعالى أن مراعاة الدين خير من مراعاة هذه الأمور . وفي الكلام حذف أي : أحب إليكم من امتثال أمر اللّه تعالى ورسوله في الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام . والقراء على نصب أحب لأنه خبر كان . وكان الحجاج بن يوسف يقرأ : أحب بالرفع ، ولحنه يحيى بن يعمر ، وتلحينه إياه ليس من جهة العربية ، وإنما هو لمخالفة إجماع القراء النقلة ، وإلا فهو جائز في علم العربية على أن يضمر في كان ضمير الشأن ، ويلزم ما بعدها بالابتداء والخبر ، وتكون الجملة في موضع نصب على أنها خبر كان . وتضمن الأمر بالتربص التهديد والوعيد حتى يأتي اللّه بأمره . قال ابن عباس ومجاهد : الإشارة إلى فتح مكة . وقال الحسن : الإشارة إلى عذاب أو عقوبة من اللّه ، والفاسقين عموم يراد به الخصوص فيمن توافى على فسقه ، أو عموم مطلق على أنه لا هداية من حيث الفسق ، وفي التحرير الفسق هنا الكفر ، ويدل عليه ما قابله من الهداية . والكفر ضلال ، والضلال ضد الهداية ، وإنْ كان ذلك في المؤمنين الذين لم يهاجروا ، فيكون الفسق الخروج عن الطاعة ، فإنهم لم يمتثلوا أمر اللّه ولا أمر رسوله في الهجرة . ٢٥{لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّه فِى مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الارْضُ بِمَا } لما تقدم قوله :{ قَاتِلُوهُمْ يُعَذّبْهُمُ اللّه بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ } واستطرد بعد ذلك بما استطرد ذكرهم تعالى نصره إياهم في مواطن كثيرة ، والمواطن مقامات الحرب وموافقها . وقيل : مشاهد الحرب توطنون أنفسكم فيها على لقاء العدو ، وهي جمع موطن بكسر الطاء قال : وكم موطن لولاي طحت كما هوى بإجرامه من قلة النيق منهوى وهذه المواطن : وقعات بدر ، وقريظة والنضير ، والحديبية ، وخيبر ، وفتح مكة . ووصفت بالكثرة لأن أئمة التاريخ والعلماء والمغازي نقلوا أنها كانت ثمانين موطناً . وحنين واد بين مكة والطائف قريب من ذي المجاز . وصرف مذ هو بابه مذهب المكان ، ولو ذهب به مذهب البقعة لم يصرف كما قال : نصروا نبيهم وشدّوا أزره بحنين يوم تواكل الأبطال وعطف الزمان على المكان . قال الزمخشري : وموطن يوم حنين أوفى أيام مواطن كثيرة ، ويوم حنين . و قال ابن عطية : ويوم عطف على موضع قوله : في مواطن ، أو على لفظه بتقدير : وفي يوم ، فحذف حرف الخفض انتهى . وإذ بدل من يوم وأضاف الإعجاب إلى جميعهم ، وإن كان صادراً من واحد لما رأى الجمع الكثير أعجبه ذلك وقال : لن نغلب اليوم من قلة . والقائل قال ابن المسيب : هو أبو بكر ، أو سلمة بن سلامة بن قريش ، أو ابن عباس ، أو رجل من بني بكر . ونقل أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ساءه كلام هذا القائل ، ووكلوا إلى كلام الرجل . والكثرة بفتح الكاف ، ويجمع على كثرات . وتميم تكسر الكاف ، وتجمع على كثر كشذوة وشذر ، وكسرة وكسر ، وهذه الكثرة عن ابن عباس ستة عشر ألفاً ، وعن النحاس أربعة عشر ألفاً ، وعن قتادة وابن زيد وابن إسحاق والواقدي : اثنا عشر ألفاً ، وعن مقاتل عن ابن عباس : أحد عشر ألفاً وخمسمائة . والباء في بما رحبت للحال ، وما مصدرية أي : ضاقت بكم الأرض مع كونها رحباً واسعة لشدة الحال عليهم وصعوبتها كأنهم لا يجدون مكاناً يستصلحونه للّهرب والنجاة لفرط ما لحقهم من الرعب ، فكانها ضاقت عليهم . والرحب : السعة ، وبفتح الراء الواسع . يقال : فلان رحب الصدر ، وبلد رحب ، وأرض رحبة ، وقد رحبت رحباً ورحابة . وقرأ زيد بن علي : بما رحبت في الموضعين بسكون الحاء وهي لغة تميم ، يسكنون ضمة فعل فيقولون في ظرف ظرْف . ثم وليتم مدبرين أي : وليتم فارين على أدباركم منهزمين تاركين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وأسند التولي إلى جميعهم وهو واقع من أكثرهم ، إذ ثبت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ناس من الأبطال على ما يأتي ذكره إن شاء اللّه ، فيقول لما افتتح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مكة كان في عشرة آلاف من أصحابه ، وانضاف إليه الفان من الطلقاء فصاروا اثني عشر ألفاً إلى ما انضاف إليهم من الأعراب من سليم ، وبني كلاب ، وعبس ، وذبيان ، وسمع بذلك كفار العرب فشق عليهم ، فجمعت له هوزان وألفافها وعليهم مالك بن عوف النضري ، وثقيف وعليهم عبد ياليل بن عمرو ، وانضاف إليهم أخلاط من الناس حتى كانوا ثلاثين ألفاً ، فخرج إليهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعد استعماله عتاب بن أسيد على مكة ، حتى اجتمعوا بحنين ، فلما تصاف الناس حمل المشركون من مجاني الوادي وكان قد كمنوا بها ، فانهزم المسلمون . قال قتادة : ويقال إنّ الطلقاء من أهل مكة فروا وقصدوا إلقاء الهزيمة في المسلمين ، وبلغ فلهم مكة ، وثبت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في مركزه على بغلة شهباء تسمى دلدل لا يتخلخل ، والعباس قد اكتنفه آخذاً بلجامها ، وابن عمه أبو سفيان بن الحرث بن عبد المطلب وابنه جعفر ، وعلي بن أبي طالب ، وربيعة بن الحرث ، والفضل بن العباس ، وأسامة بن زيد ، وأيمن بن عبيد وهو أيمن ابن أم أيمن ، وقتل بين يدي الرسول صلى اللّه عليه وسلم هؤلاء من أهل بيته ، وثبت معه أبو بكر وعمر فكانوا عشرة رجال ، ولهذا قال العباس نصرنا رسول اللّه في الحرب تسعة وقد فر من قد فر منهم وأقشعوا وعاشرنا لاقى الحمام بنفسه بما مسه في اللّه لا يتوجع وثبتت أم سليم في جملة من ثبت ممسكة بعيراً لأبي طلحة وفي يدها خنجر ، ونزل صلى اللّه عليه وسلم عن بغلته إلى الأرض واستنصر اللّه ، وأخذ قبضة من تراب وحصا فرمى بها في وجوه الكفار وقال : { شاهت الوجوه } قال يعلى بن عطاء : فحدثني أبناؤهم عن آبائهم قالوا : لم يبق منا أحد إلى دخل عينية من ذلك التراب ، وقال للعباس وكان صيتاً : نادِ أصحاب السمرة ، فنادى الأنصار فخذاً فخذاً ، ثم نادى يا أصحاب الشجرة ، يا أصحاب سورة البقرة ، فكروا عنقاً واحداً وهم يقولون : لبيك لبيك ، وانهزم المشركون فنظر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى قتال المسلمين فقال : { هذا حين حمي الوطيس } وركض رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خلفهم على بغلته . وفي صحيح مسلم من حديث البراء : أنّ هوازن كانوا رماة فرموهم برشق من نبل كأنها رجل من جراد فانكشفوا ، فأقبل القوم إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأبو سفيان يقود بغلته فنزل ودعا واستنصر ، وهو يقول : {أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب اللّهم أنزل نصرك} قال البراء : كنا واللّه إذا حمي البأس نتقي به صلى اللّه عليه وسلم ، وأنّ الشجاع منا الذي يحاذي به يعني النبي صلى اللّه عليه وسلم. وفي أول هذا الحديث : { أكنتم وليتم يوم حنين يا أبا عمارة ؟ } فقال : اشهد عليّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما ولى . ٢٦{ثُمَّ أَنزَلَ اللّه سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ } السكينة : النصر الذي سكنت إليه النفوس ، قاله ابن عطية . وقال الزمخشري : رحمته التي سكنوا بها . وقيل : الوقاء والثبات بعد الاضطراب والقلق ، ويخرج من هذا القول الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، فإنه لم يزل ثابت الجأش ساكنه ، وعلى المؤمنين ظاهره شمول مَنْ فرَّ ومَنْ ثبت . وقيل : هم الأنصار إذ هم الذين كروا وردّوا الهزيمة . وقيل : من ثبت مع الرسول صلى اللّه عليه وسلم حالة فرّ الناس . وقرأ زيد بن علي : سِكينته بكسر السين وتشديد الكاف مبالغة في السكينة . نحو شرّيب وطبيخ . {وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا } هم الملائكة بلا خلاف ، ولم تتعرض الآية لعددهم . فقال الحسن : ستة عشر ألفاً . وقال مجاهد : ثمانية آلاف . وقال ابن جبير : خمسة آلاف . وهذا تناقض في الأخبار ، والجمهور على أنها لم تقاتل يوم حنين . وعن ابن المسيب : حدثني رجل كان في المشركين يوم حنين قال : لما كشفنا المسلمين جعلنا نسوقهم ، فلما انتهينا إلى صاحب البغلة الشهباء تلقانا رجال بيض الوجوه حسانها فقالوا : شاهت الوجوه ، ارجعوا فرجعنا ، فركبوا أكتافنا . والظاهر انتفاء الرؤية عن المؤمنين ، لأن الخطاب هو لهم . وقد روي أنّ رجلاً من بني النضير قال للمؤمنين بعد القتال : أين الخيل البلق والرجال الذين كانوا عليها بيض ما كنا فيهم إلا كهيئة الشامة ، وما كان قتلنا إلا بأيديهم ؟ فأخبروا النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال : { تلك الملائكة} . وقيل : لم تروها ، نفى عن الجميع ، ومن رأى بعضهم لم ير كلهم . وقيل : لم يرها أحد من المسلمين ولا الكفار ، وإنما أنزلهم يلقون التثبيت في قلوب المؤمنين والرعب والجبن في قلوب الكفار . وقال يزيد بن عامر : كان في أجوافنا مثل ضربة الحجر في الطست من الرعب . {وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذالِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ } أي بالقتل الذي استحر فيهم ، والأسر لذراريهم ونسائهم ، والنهب لأموالهم ، وكان السبي أربعة آلاف رأس . وقيل : سنة آلاف ، ومن الإبل اثنا عشر ألفاً سوى ما لا يعلم من الغنم ، وقسمها الرسول بالجعرانة ، وفيها قصة عباس بن مرداس وشعره . وكان مالك بن عوف قد أخرج الناس للقتال والذراري ليقاتلوا عليها ، فخطأه في ذلك دريد بن الصمة قال : هو يرد المنهزم شيء ؟ وفي ذلك اليوم قتل دريد القتلة المشهورة ، قتله ربيعة بن رفيع بن أهبان السلمي ويقال له : ابن الدغنة . ٢٧{ثُمَّ يَتُوبُ اللّه مِن بَعْدِ ذالِكَ عَلَى مَا يَشَاء وَاللّه غَفُورٌ رَّحِيمٌ } إخبار بأن اللّه يتوب على من يشاء فيهدي من يشاء ممن بقي من الكفار للإسلام ، ووعد بالمغفرة والرحمة كمالك بن عوف النضري رئيس هوازن ومن أسلم معه من قومه . وروي أنّ ناساً منهم جاؤوا فبايعوا على الإسلام وقالوا : يا رسول اللّه أنت خير الناس وأبرّ الناس ، وقد سبي أهلونا وأولادنا وأخذت أموالنا ، وكان سبي يومئذ ستة آلاف نفس ، وأخذ من الإبل والغنم ما لا يحصى ، فقال : { إن خير القول أصدقه ، اختاروا إما ذراريكم ونساءكم وإمّا أموالكم } فقالوا : ما نعدل بالأحساب شيئاً . وتمام الحديث أنهم أخذوا نساءهم زذراريهم إلا امرأة وقع عليها صفوان بن أمية فحملت منه فلم يردها . أخبرنا القاضي العالم أبو علي الحسين بن عبد العزيز بن أبي الأحوص القرشي قراءة مني عليه بمدينة مالقة . قال : أخبرنا أبو الحسن بن محمد بن بيقي بن حبلة الخزرجي باوو بولة ، قال : أخبرنا الحافظ أبو طاهر أحمد بن محمد السلفي الأصبهاني باسكندرية { ح} وأخبرنا أستاذنا الإمام العلامة الحافظ أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير قراءة مني عليه بغرناطة عن القاضي أبي الخطاب محمد بن أحمد بن خليل السكوني عن أبي طاهر السلفي وهو آخر من حدث عنه بالغرب ، { ح } وأخبرنا عالياً القاضي السعيد صفي الدين أبو محمد عبد الوهاب بن حسن بن الفرات قراءة عليه مرتين بثغر الاسكندرية ، عن أبي الطاهر اسماعيل بن صالح بن ياسين الجبلي وهو آخر من حدث عنه قالا : أعني السلفي والجبلي أخبرنا أبو عبد اللّه محمد بن أحمد بن إبراهيم الرازي ، قال : أخبرنا أبو الحسن علي بن بقاء بن محمد الوراق بمصر أخبرنا أبو عبد اللّه محمد بن الحسين بن عمر اليمني التنوخي بانتفاء خلف الواسطي الحافظ { ح} وأخبرنا المحدث العدل نجيب الدين أبو عبد اللّه محمد بن أحمد بن محمد بن المؤيد الهمداني عرف بابن العجمي قراءة مني عليه بالقاهرة قلت له : أخبرك أبو الفخر أسعد بن أبي الفتوح بن روح وعفيفة بنت أحمد بن عبد اللّه في كتابيهما قالا : أخبرتنا فاطمة بنت عبد اللّه بن أحمد بن عقيل الجوزدانية . قالت : أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد اللّه بن ريذة الضبي ، قال : أخبرنا أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني الحافظ قالا : أعني التنوخي والطبراني أخبرنا عبيد اللّه بن رماحس زاد التنوخي بن محمد بن خالد بن حبيب بن قيس بن رمادة من الرملة على بريدين في ربيع الآخر من سنة ثمانين ومائتين ، وقال الطبراني ابن رماحس الجشمي القيسي برمادة الرملة سنة سبع وسبعين ومائتين ، قال : حدثنا أبو عمرو زياد بن طارق زاد التنوخي الجشمي . وقال الطبراني وكان قد أتت عليه عشرون ومائة سنة قال التنوخي عن زياد أنبأنا زهير أبو جندل وكان سيد قومه وكان يكنى أبا صرد . قال : لما كان يوم حنين أسرنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فبينا هو يميز بين الرجال والنساء ، وثبت حتى قعدت بين يديه أذكره حيث شب ونشأ في هوازن ، وحيث أرضعوه فأنشأت أقول : وقال الطبراني عن زياد قال : سمعت أبا جرول زهير بن صرد الجشمي يقول : لما أسرنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم حنين قوم هوازن ، وذهب يفرق السبي والشاء ، فأتيته فأنشأت أقوال هذا الشعر : امنن علينا رسول اللّه في كرم فإنك المرء نرجوه وننتظر امنن على بيضة قد عاقها قدر مفرق شملها في دهرها غير أبقت لنا الحرب هتافاً على حرن على قلوبهم الغماء والغمر إن لم تداركهم نعماء تنشرها يل أرجح الناس حلماً حين يختبر امنن على نسوة قد كنت ترضعها إذ فوك يملأوها من محضها الدرر إذ أنت طفل صغير كنت ترضعها وإذ يزينك ما تأتي وما تذر يا خير من مرحت كمت الجياد به عند الهياج إذا ما استوقد الشرر لا تجعلنا كمن شالت نعامته واستبق منا فإنا معشر زهر إنا نؤمل عفواً منك نلبسه هذى البرية أن تعفو وتنتصر إنا لنشكر للنعمى وقد كفرت وعندنا بعد هذا اليوم مدّخر فألبس العفو من قد كنت ترضعه من أمهاتك أن العفو مشتهر واعف عفا اللّه عما أنت راهبه يوم القيامة إذ يهدي لك الظفر وفي رواية الطبراني تقديم وتأخير في بعض الأبيات ، وتغيير لبعض ألفاظ ، فترتيب الأبيات بعد قوله : إذ أنت طفل قوله : لا تجعلنا ، ثم إنا لنشكر ، ثم فالبس العفو ، ثم تأخير من مرحت ، ثم إنا نؤمل ، ثم فاعف . وتغيير الألفاظ قوله : وإذ يربيك بالراء والباء مكان الزاي والنون . وقوله للنعماء : إذ كفرت . وقوله : إذ تعفو . وفي رواية الطبراني قال : فلما سمع النبي صلى اللّه عليه وسلم هذا الشعر قال صلى اللّه عليه وسلم : { ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم } وقالت قريش : ما كان لنا فهو للّه ولرسوله . وقالت الأنصار : ما كان لنا فهو للّه ولرسوله . وفي رواية التنوخي ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : { أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فللّه ولكم } وقالت الأنصار : ما كان لنا فللّه ولرسوله ، ردّت الأنصار ما كان في أيديها من الذراري والأموال . ٢٨{رَّحِيمٌ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَاذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّه مِن } لما أمر النبي صلى اللّه عليه وسلم علياً أنْ يقرأ على مشركي مكة أول براءة ، وينبذ إليهم عهدهم ، وأنّ اللّه بريء من المشركين ورسوله قال أناس : يا أهل مكة ستعلمون ما تلقون من الشدّة وانقطاع السبل وفقد الحمولات فنزلت . وقيل : لما نزل إنما المشركون نجس ، شق على المسلمين وقالوا : من يأتينا بطعامنا ، وكانوا يقدمون عليهم بالتجارة ، فنزلت : وإن خفتم عيلة الآية . والجمهور على أنّ المشرك من اتخذ مع اللّه إلهاً آخر ، وعلى أنّ أهل الكتاب ليسوا بمشركين . ومن العلماء من أطلق عليهم اسم الاشراك لقوله :{ إِنَّ اللّه لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } أي يكفر به . وقرأ الجمهور : نجس بفتح النون والجيم ، وهو مصدر نجس نجساً أي قذر قذراً ، والظاهر الحكم عليهم بأنهم نجس أي ذوو نجس . قال ابن عباس ، والحسن ، وعمر بن عبد العزيز ، وغيره : الشرك هو الذي نجسهم ، فأعيانهم نجسة كالخمر والكلاب والخنازير . وقال الحسن : من صافح مشركاً فليتوضأ . وفي التحرير وبالغ الحسن حتى قال : إن الوضوء يجب من مسِّ المشرك ، ولم يأخذ أحد بقول الحسن إلا الهادي من الزيدية . وقال قتادة ، ومعمر بن راشد وغيرهما : وصف المشرك بالنجاسة لأنه جنب ، إذ غسله من الجنابة ليس بغسل ، وعلى هذا القول يجب الغسل على من أسلم من المشركين ، وهو مذهب مالك . وقال ابن عبد الحكم : لا يجب ، ولا شك أنهم لا يتطهرون ولا يغتسلون ولا يجتنبون النجاسات ، فجعلوا نجساً مبالغة في وصفهم بالنجاسة . وقرأ أبو حيوة : نِجْس بكسر النون وسكون الجيم على تقدير حذف الموصوف ، أي : جنس نجس ، أو ضرب نجس ، وهو اسم فاعل من نجس ، فخففوه بعد الاتباع كما قالوا في كبد كبد وكرش كرش . وقرأ ابن السميفع : أنجاس ، فاحتمل أن يكون جمع نجس المصدر كما قالوا أصناف ، واحتمل أن يكون جمع نجس اسم فاعل . وفي النهي عن القربان منعهم عن دخوله والطواف به بحج أو عمرة أو غير ذلك كما كانوا يفعلون في الجاهلية ، وهذا النهي من حيث المعنى هو متعلق بالمسلمين ، أي لا يتركونهم يقربون المسجد الحرام . والظاهر أنّ النهي مختص بالمشركين وبالمسجد الحرام ، وهذا مذهب أبي حنيفة . وأباح دخول اليهود والنصارى المسجد الحرام وغيره ، ودخول عبدة الأوثان في سائر المساجد . وقال الزمخشري : إنّ معنى قوله : { فلا يقربوا المسجد الحرام } فلا يحجوا ولا يعتمروا ، ويدل على قول عليّ حين نادى ببراءة : لا يحج بعد عامنا هذا مشرك ، قال : ولا يمنعون من دخول الحرم ، والمسجد الحرام ، وسائر المساجد عند أبي حنيفة انتهى . وقال الشافعي : هي عامة في الكفار ، خاصة في المسجد الحرام ، فأباح دخول اليهود والنصارى والوثنيين في سائر المساجد . وقاس مالك جميع الكفار من أهل الكتاب وغيرهم على المشركين ، وقاس سائر المساجد على المسجد الحرام ، ومنع من دخول الجميع في جميع المساجد . وقال عطاء : المراد بالمسجد الحرام الحرم ، وأنّ على المسلمين أنْ لا يمكنوهم من دخوله . وقيل : المراد من القربان أنْ يمنعوا من تولى المسجد الحرام والقيام بمصالحه ، ويعزلوا عن ذلك . وقال جابر بن عبد اللّه وقتادة : لا يقرب المسجد الحرام مشرك إلا أن يكون صاحب حرية ، أو عبد المسلم ، والمعنى بقوله بعد عامهم هذا : هو عام تسع من الهجرة ، وهو العام الذي حج فيه أبو بكر أميراً على الموسم وأتبع بعلي ونودي فيها ببراءة . وقال قتادة : هو العام العاشر الذي حج فيه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، والعيلة الفقر . وقرأ ابن مسعود وعلقمة من أصحابه : عائلة وهو مصدر كالعاقبة ، أو نعت لمحذوف أي : حالاً عائلة ، وإنّ هنا على بابها من الشرط . وقال عمرو بن قائد : المعنى وإذ خفتم كقولهم : إنْ كنت ابني فأطعني ، أي : إذ كنت . وكون إنْ بمعنى إذ قول مرغوب عنه . وتقدّم سبب نزول هذه الآية وفضله تعالى . قال الضحاك : ما فتح عليهم من أخذ الجزية من أهل الذمة . وقال عكرمة : أغناهم بادرار المطر عليهم ، وأسلمت العرب فتمادى حجهم ونحرهم ، وأغنى اللّه من فضله بالجهاد والظهور على الأمم ، وعلق الاغناء بالمشيئة لأنه يقع في حق بعض دون بعض وفي وقت دون وقت . وقيل : لإجراء الحكم على الحكمة ، فإنْ اقتضت الحكمة والمصلحة إغناءكم أغناكم . وقال القرطبي : إعلاماً بأنّ الرزق لا يأتي بحيلة ولا اجتهاد ، وإنما هو فضل اللّه . ويروي للشافعي : لو كان بالحيل الغنى لوجدتني بنجوم أقطار السماء تعلقي لكن من رزق الحجا حرم الغنى ضدان مفترقان أي تفرق ومن الدليل على القضاء وكونه بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق إن اللّه بأحوالكم حكيم لا يعطي ولا يمنع إلا عن حكمة . وقال ابن عباس : عليم بما يصلحكم ، حكيم فيما حكم في المشركين . ٢٩{قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّه وَلاَ بِالْيَوْمِ الاْخِرِ وَلاَ يُحَرِمُونَ مَا حَرَّمَ اللّه وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ } نزلت حين أمر الرسول صلى اللّه عليه وسلم بغزو الروم ، وغزا بعد نزولها تبوك . وقيل : نزلت في قريظة والنضير فصالحهم ، وكانت أول جزية أصابها المسلمون ، وأول ذلك أصاب أهل الكتاب بأيدي المسلمين نفي الإيمان باللّه عنهم ، لأن سبيلهم سبيل من لا يؤمن باللّه ، آذ يصفونه بما لا يليق أن يوصف به قاله الكرماني . وقال الزجاج : لأنهم جعلوا له ولداً وبدلوا كتابهم ، وحرموا ما لم يحرم ، وحللوا ما لم يحلل . و قال ابن عطية : لأنهم تركوا شرائع الإسلام الذي يجب عليهم الدخول فيه ، فصار جميع مالهم في البعث وفي اللّه من تخيلات واعتقادات لا معنى لها ، إذْ يلقونها من غير طريقها . وأيضاً فلم تكن اعتقاداتهم مستقيمة ، لأنهم شبهوا وقالوا : عزير ابن اللّه وثالث ثلاثة ، وغير ذلك . ولهم أيضاً في البعث آراء كثيرة في منازل الجنة من الرهبان . وقول اليهود في النار يكون فيها أياماً انتهى . وفي الغيبان نفي عنهم الإيمان لأنهم مجسمة ، والمؤمن لا يجسم انتهى . والمنقول عن اليهود والنصارى إنكار البعث الجسماني ، فكأنهم يعتقدون البعث الروحاني ما حرم اللّه في كتابه ورسوله في السنة . وقيل : في التوراة والإنجيل ، لأنهم أباحوا أشياء حرمتها التوراة والإنجيل ، والرسول على هذا موسى وعيسى ، وعلى القول الأول محمد صلى اللّه عليه وسلم. وقيل : ولا يحرمون الخمر والخنزير . وقيل : ولا يحرمون الكذب على اللّه ، قالوا :{ نَحْنُ أَبْنَاء اللّه وَأَحِبَّاؤُهُ } ،{ وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى } وقيل : ما حرم اللّه من الربا وأموال الأميين ، والظاهر عموم ما حرم اللّه ورسوله في التوراة والإنجيل والقرآن . ولا يدينون دين الحق أي : لا يعتقدون دين الإسلام الذي هو دين الحق ، وما سواه باطل . وقيل : دين الحق دين اللّه ، والحق هو اللّه قاله : قتادة . يقال : فلان يدين بكذا أي يتخذه ديناً ويعتقده . وقال أبو عبيدة : معناه ولا يطيعون طاعة أهل الإسلام ، وكل من كان في سلطان ملك فهو على دينه وقد دان له وخضع . قال زهير : لئن حللت بجوفي بني أسد في دين عمرو وحلت بيننا فدك {مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ } بيان لقوله : الذين . والظاهر اختصاص أخذ الجزية من أهل الكتاب وهم بنو إسرائيل والروم نصاً . وأجمع الناس على ذلك . وأما المجوس فقال ابن المنذر : لا أعلم خلافاً في أنّ الجزية تؤخذ منهم انتهى . وروي أنه كان بعث في المجوس نبي اسمه زرادشت ، واختلف أصحاب مالك في مجوس العرب . وأما السامرة والصابئة فالجمهور على أنهم من اليهود والنصارى تؤخذ منهم الجزية وتؤكل ذبيحتهم . وقالت فرقة : لا تؤخذ منهم جزية ، ولا تؤكل ذبائحهم . وقيل : تؤخذ منهم الجزية ، ولا تؤكل ذبائحهم . وقال الأوزاعي : تؤخذ من كل عابد وثن أو نارٍ أو جامدٍ مكذب . وقال أبو حنيفة : لا يقبل من مشركي العرب إلا الإسلام أو السيف ، وتقبل من أهل الكتاب ومن سائر كفار العجم الجزية . وقال مالك : تؤخذ من عابد النار والوثن وغير ذلك كائناً من كان من عربي تغلبي أو قرشي أو عجمي إلا المرتد . وقال الشافعي ، وأحمد ، وأبو ثور : لا تقبل إلا من اليهود والنصارى والمجوس فقط . والظاهر شمول جميع أهل الكتاب في إعطاء الجزية . وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي : لا تؤخذ إلا من الرجال البالغين الأحرار العقلاء ، ولا تضرب على رهبان الديارات والصوامع المنقطعين . وقال مالك في الواضحة : إن كانت قد ضربت عليهم ثم انقطعوا لم تسقط ، وتضرب على رهبان الكنائس . واختلف في الشيخ الفاني ، ولم تتعرض الآية لمقدار ما على كل رأس ولا لوقت إعطائها . فأما مقدارها فذهب مالك وكثير من أهل العلم إلى ما فرضه عمر : أربعة دنانير على أهل الذهب ، وأربعون درهماً على أهل الفضة ، وفرض عمر ضيافة وأرزاقاً وكسوة . وقال الثوري : رويت عن عمر ضرائب مختلفة ، وأظن ذلك بحسب اجتهاده في عسرهم ويسرهم . وقال الشافعي وغيره : على كل رأس دينار . وقال أبو حنيفة : على الفقير المكتسب اثنا عشر درهماً ، وعلى المتوسط في المعنى ضعفها ، وعلى المكثر ضعف الضعف ثمانية وأربعون درهماً ، ولا يؤخذ عنده من فقير لا كسب له . قال ابن عطية : وهذا كله في الفترة . وأما الصلح فهو ما صولحوا عليه من قليل أو كثير . وأما وقتها فعند أبي حنيفة أول كل سنة ، وعند الشافعي آخر السنة . وسميت جزية من جزى يجزي إذ كافأ عما أسدي عليه ، فكأنهم أعطوها جزاء ما منحوا من الأمن ، وهي كالعقدة والجلسة ، ومن هذا المعنى قول الشاعر : نجزيك أو نثني عليك وأن من أثنى عليك بما فعلت فقد جزى وقيل : لأنها طائفة مما على أهل الذمة أنْ يجزوه أي يقضوه عن يد . قال ابن عباس : يعطونها بأيديهم ولا يرسلون بها . وقال عثمان : يعطونها نقداً لا نسيئة . وقال قتادة : يعطونها وأيديهم تحت يد الآخذ ، فالمعنى أنهم مستعلى عليهم . وقيل : عن اعتراف . وقيل : عن قوة منكم وقهر وذل ونفاذ أمر فيهم ، كما تقول : اليد في هذا لفلان أي الأمر له . وقيل : عن إنعام عليهم بذلك ، لأن قبولها منهم عوضاً عن أرواحهم إنعام عليهم من قولهم له : عليَّ يد أي : نعمة . وقال القتبي : يقال أعطاه عن يدٍ وعن ظهر يد ، إذا أعطاه مبتدئاً غير مكافىء . وقيل : عن يد عن جماعة أي : لا يعفى عن ذي فضل منهم لفضله . واليد جماعة القوم ، يقال القوم على يد واحدة أي : هم مجتمعون . وقيل : عن يد أي عن غنى ، وقدرة فلا تؤخذ من الفقير . ولخص الزمخشري في ذلك فقال : أما أن يريد يد الآخذ فمعناه حتى يعلوها عن يد قاهرة مستولية وعن إنعام عليهم ، لأن قبول الجزية منهم وترك أرواحهم لهم نعمة عظيمة عليهم . وإما أن يريد المعطى فالمعنى عن يدٍ مواتية غير ممتنعة ، لأنّ من أبي وامتنع لم يعط يده بخلاف المطيع المنقاد ، ولذلك قالوا : أعطى بيده إذا انقاد واحتجب . ألا ترى إلى قولهم : نزع يده عن الطاعة ، أو عن يد إلى يد أي نقداً غير نسيئة ، أولاً مبعوثاً على يد آخر ولكن عن يد المعطى البريد الآخذ . وهم صاغرون جملة حالية أي : ذليلون حقيرون . وذكروا كيفيات في أخذها منهم وفي صغارهم لم تتعرض لتعيين شيء منها الآية . قال ابن عباس : يمشون بها ملببين . وقال سليمان الفارسي : لا يحمدون على إعطائهم . وقال عكرمة : يكون قائماً والآخذ جالساً . وقال الكلبي : يقال له عند دفعها أدّ الجزية ويصك في قفاه . وحكى البغوي : يؤخذ بلحيته ويضرب في لهزمته . ٣٠{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّه وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّه ذالِكَ قَوْلُهُم بِأَفْواهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ } بين تعالى لحاق اليهود والنصارى بأهل الشرك وإن اختلفت طرق الشرك في فرق بين من يعبد الصنم وبين من يعبد المسيح وغيره ، لأنّ الشرك هو أنْ يتّخذ مع اللّه معبوداً ، بل عابد الوثن أخف كفراً من النصراني ، لأنه لا يعتقد أنّ الوثن خالق العالم ، والنصراني يقول بالحلول والاتحاد ، وقائل ذلك قوم من اليهود كانوا بالمدينة . قال ابن عباس : قالها أربعة من أحبارهم : سلام بن مشكم ، ونعمان بن أوفى ، وشاس بن قيس ، ومالك بن الصيف . وقيل : قاله فنحاص . وقال النقاش : لم يبق يهودي يقولها بل انقرضوا ، وتذم الطائفة أو تمدح بصدور ما يناسب ذلك من بعضهم . قيل : والدليل على أن هذا القول كان فيهم أنّ الآية تليت عليهم فما أنكروا ولا كذبوا مع تهالكهم على التكذيب ، وسبب هذا القول أن اليهود قتلوا الأنبياء بعد موسى ، فرفع اللّه عنهم التوراة ومحاها من قلوبهم ، فخرج عزير وهو غلام يسيح في الأرض ، فأتاه جبريل فقال له : إلى أين تذهب ؟ قال : أطلب العلم ، فحفظه التوراة ، فأملاها عليهم عن ظهر لسانه لا يخرم حرفاً فقالوا : ما جمع اللّه تعالى التوراة في صدره وهو غلام إلا أنه ابنه ، ونقلوا حكايات في ذلك . وظاهر قول النصارى المسيح ابن اللّه نبوّة النسل كما قالت العرب في الملائكة ، وكذا يقتضي قول الضحاك والطبري وغيرهما عنهم : أنّ المسيح إله ، وأنه ابن الإله . ويقال : إن بعضهم يعتقدها بنوّة حنوّ ورحمة ، وهذا القول لم يظهر إلا بعد النبوّة المحمدية وظهور دلائل صدقها ، وبعد أن خالطوا المسلمين وناظروهم ، فرجعوا عما كانوا يعتقدونه في عيسى . وقرأ عاصم ، والكسائي عزير منوناً على أنه عربي ، وباقي السبعة بغير تنوين ممنوع الصرف للعجمة والعلمية ، كعاذر وغيذار وعزرائيل ، وعلى كلتا القرائتين فابن خبر . وقال أبو عبيد : هو أعجمي خفيف فانصرف كنوح ولوط وهود . قيل : وليس قوله بمستقيم ، لأنه على أربعة أحرف وليس بمصغر ، إنما هو اسم أعجمي جاء على هيئة المصغر ، كسليمان جاء على هيئة عثمان وليس بمصغر . ومن زعم أنّ التنوين حذف من عزير لالتقاء الساكنين كقراءة : { قُلْ هُوَ اللّه أَحَدٌ اللّه الصَّمَدُ } وقول الشاعر : إذا غطيف السلمى فرّا أو لأنّ ابناً صفة لعزير وقع بين علمين فحذف تنوينه ، والخبر محذوف أي : إلاا هنا ومعبودنا . فقوله متمحل ، لأنّ الذي أنكر عليهم إنما هو نسبة البنوّة إلى اللّه تعالى . ومعنى بأفواههم : أنه قول لا يعضده برهان ، فما هو إلا لفظ فارغ يفوهون به كالألفاظ المهملة التي هي أجراس ونغم لا تدل على معان ، وذلك أن القول الدال على معنى لفظة مقول بالفم ومعناه مؤثر في القلب ، وما لا معنى له يقال بالفم لا غير . وقيل : معنى بأفواهم إلزامهم المقالة والتأكيد ، كما قال :{ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ }{ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } ولا بد من حذف مضاف في قوله : يضاهون أي يضاهي قولهم والذين كفروا قدماؤهم فهو كفر قديم فيهم أو المشركون القائلون الملائكة بنات اللّه ، وهو قول الضحاك . أو الضمير عائد على النصارى والذين كفروا اليهود أي : يضاهي قول النصارى في دعواهم بنوّة عيسى قول اليهود في دعواهم بنوّة عزير ، واليهود أقدم من النصارى ، وهو قول قتادة . وقرأ عاصم وابن مصرف : يضاهئون بالهمز ، وباقي السبعة بغير همز . قاتلهم اللّه أنى يؤفكون : دعاء عليهم عام لأنواع الشر ، ومن قاتله اللّه فهو المقتول . وقال ابن عباس : معناه لعنهم اللّه . وقال ابان بن تغلب : قاتلها اللّه تلحاني وقد علمت إني لنفسي إفسادي وإصلاحي وقال قتادة : قتلهم ، وذكر ابن الأنباري عاداهم . وقال النقاش : أصل قاتل الدعاء ، ثم كثر استعمالهم حتى قالوه على جهة التعجب في الخير والشر ، وهم لا يريدون الدعاء . وأنشد الأصمعي : يا قاتل اللّه ليلى كيف تعجبني وأخبر الناس أني لا أباليها وليس من باب المفاعلة بل من باب طارقت النعل وعاقبت اللص . أنّى يؤفكون : كيف يصرفون عن الحق بعد وضوح الدليل على سبيل التعجبا . ٣١{اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مّن دُونِ اللّه وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ } تعدت اتخذ هنا المفعولين ، والضمير عائد على اليهود والنصارى . قال حذيفة : لم يعبدوهم ولكنْ أحلوا لهم الحرام فأحلوه ، وحرموا عليهم الحلال فحرموه ، وقد جاء هذا مرفوعاً في الترمذي إلى الرسول صلى اللّه عليه وسلم من حديث عدي بن حاتم . وقيل : كانوا يسجدون لهم كما يسجدون للّه ، والسجود لا يكون إلا للّه ، فأطلق عليهم ذلك مجازاً . وقيل : علم سبحانه أنهم يعتقدون الحلول ، وأنه سبحانه تجلى في بواطنهم فيسجدون له معتقدين أنه للّه الذي حل فيهم وتجلى في سرائرهم ، فهؤلاء اتخذوهم أرباباً حقيقة . ومذهب الحلول فشا في هذه الأمة كثيراً ، وقالوا بالاتحاد . وأكثر ما فشا في مشائخ الصوفية والفقراء في وقتنا هذا ، وقد رأيت منهم جماعة يزعمون أنهم أكابر . وحكى أبو عبد اللّه الرازي أنه كان فاشياً في زمانه ، حكاه في تفسيره عن بعض المروزيين كان يقول لأصحابه : أنتم عبيدي ، وإذا خلا ببعض الحمقا من أتباعه ادعى الآلهية . وإذا كان هذا مشاهداً في هذه الأمة ، فكيف يبعد ثبوته في الأمم السابقة انتهى وهو منقول من كتاب التحرير والتحبير ، وقد صنف شيخنا المحدث المتصوّف قطب الدين أبو بكر محمد بن أحمد بن القسطلاني كتاباً في هذه الطائفة ، فذكر فيهم الحسين بن منصور الحلاج ، وأبا عبد اللّه الشوذي كان بتلمسان ، وابراهيم بن يوسف بن محمد بن دهان عرف بابن المرأة ، وأبا عبد اللّه بن أحلى المتأمر بلورقة ، وأبا عبد اللّه بن العربي الطائي ، وعمر بن علي بن الفارض ، وعبد الحق بن سبعين ، وأبا الحسن الششتري من أصحابه ، وابن مطرف الأعمى من أصحاب ابن أحلى ، والصفيفير من أصحابه أيضاً ، والعفيف التلمساني . وذكر في كتابه من أحوالهم وكلامهم وأشعارهم ما يدل على هذا المذهب . وقتل السلطان أبو عبد اللّه بن الأحمر ملك الأندلس الصفيفير بغرناطة وأنابها ، وقد رأيت العفيف الكوفي وأنشدني من شعره ، وكان يتكتم هذا المذهب . وكان بو عبد اللّه الأيكي شيخ خانكاه سعيد السعداء مخالطاً له خلطة كثيرة ، وكان متهماً بهذا المذهب ، وخرج التلمساني من القاهرة هارباً إلى الشام من القتل على الزندقة . وأما ملوك العبيدتين بالمغرب ومصر فإن أتباعهم يعتقدون فيهم الإلهية ، وأولهم عبيد اللّه المتلقب بالمهدي ، وأخرهم سليمان المتلقب بالعاضد . والأحبار علماء اليهود ، والرهبان عباد النصارى الذين زهدوا في الدنيا وانقطعوا عن الخلق في الصوامع . أخبر عن المجموع ، وعاد كل ما يناسبه . أي : اتخذ اليهود أحبارهم ، والنصارى رهبانهم . والمسيح ابن مريم عطف على رهبانهم . {وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَاهاً واحِداً لاَّ إِلَاهَ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } الظاهر أن الضمير عائد على من عاد عليه في اتخذوا ، أي : أمروا في التوراة والإنجيل على ألسنة أنبيائهم . وقيل : في القرآن على لسان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وقيل : في الكتب الثلاثة . وقيل : في الكتب المنزلة ، وعلى لسان جميع الأنبياء . وقال الزمخشري : أمرتهم بذلك أدلة العقل والنصوص في الإنجيل والمسيح عليه السلام ، أنه من يشرك باللّه فقد حرّم اللّه عليه الجنة . وقيل : الضمير عائد على الأحبار والرهبان المتخذين أرباباً أي : وما أمر هؤلاء إلا ليعبدوا اللّه ويوحدوه ، فكيف يصح أن يكونوا أرباباً وهم مأمورون مستعبدون ؟ وفي قوله : عما يشركون ، دلالة على إطلاق اسم الشرك على اليهود والنصارى ٣٢{يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ اللّه بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللّه إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } مثلهم ومثل حالهم في طلبهم أن يبطلوا نبوّة محمد صلى اللّه عليه وسلم بالتكذيب بحال من يريد أن ينفخ في نور عظيم منبث في الآفاق ، ونور اللّه هداه الصادر عن القرآن والشرع المنبث ، فمن حيث سماه نوراً سمى محاولة إفساده إطفاء . وقالت فرقة : النور القرآن وكنى بالأفواه عن قلة حيلتهم وضعفها . أخبر أنهم يحاولون أمراً جسيماً بسعيٍ ضعيف ، فكان الإطفاء بنفخ الأفواه . ويحتمل أن يراد بأقوال لا برهان عليها ، فهي لا تتجاوز الأفواه إلى فهم سامعٍ ، وناسب ذكر الإطفاء الأفواه . وقيل : إن اللّه لم يذكر قولاً مقروناً بالأفواه والألسن إلا وهو زور ، ومجيء إلا بعد ويأبى يدل على مستثنى منه محذوف ، لأنه فعل موجب ، والموجب لا تدخل معه إلا ، لا تقول كرهت إلا زيداً . وتقدير المستثنى منه : ويأبى اللّه كل شيء إلا أنْ يتم قاله الزجاج . وقال علي بن سليمان : جاز هذا في أبي ، لأنه منع وامتناع ، فضارعت النفي . وقال الكرماني : معنى أبى هنا لا يرضى إلا أن يتم نوره بدوام دينه إلى أن تقوم الساعة . وقال الفراء : دخلت إلا لأنّ في الكلام طرفاً من الجحد . وقال الزمخشري : أجرى أبى مجرى لم يرد . ألا ترى كيف قوبل يريدون أن يطفئوا بقوله : ويأبى اللّه ، وكيف أوقع موقع ولا يريد اللّه إلا أن يتم نوره ؟ ٣٣{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } هو محمد صلى اللّه عليه وسلم ، والهدى التوحيد ، أو القرآن ، أو بيان الفرائض أقوال ثلاثة . ودين الحق : الإسلام { إِنَّ الدّينَ عِندَ اللّه الإِسْلَامُ } والظاهر أن الضمير في ليظهره عائد على الرسول لأنه المحدّث عنه ، والدين هنا جنس أي : ليعليه على أهل الأديان كلهم ، فهو على حذف مضاف . فهو صلى اللّه عليه وسلم غلبت أمته اليهود وأخرجوهم من بلاد العرب ، وغلبوا النصارى على بلاد الشام إلى ناحية الروم والمغرب ، وغلبوا المجوس على ملكهم ، وغلبوا عباد الأصنام على كثير من بلادهم مما يلي الترك والهند ، وكذلك سائر الأديان . وقيل : المعنى يطلعه على شرائع الدين حتى لا يخفى عليه شيء منه ، فالدين هنا شرعه الذي جاء به . وقال الشافعي : قد أظهر اللّه رسول صلى اللّه عليه وسلم على الأديان بأن أبان لكل من سمعه أنه الحق ، وما خالفه من الأديان باطل . وقيل : الضمير يعود على الدين ، فقال أبو هريرة ، والباقر ، وجابر بن عبد اللّه : إظهار الدِّين عند نزول عيسى ابن مريم ورجوع الأديان كلها إلى دين الإسلام ، كأنها ذهبت هذه الفرقة إلى إظهاره على أتم وجوهه حتى لا يبقى معه دين آخر . وقالت فرقة : ليجعله أعلاها وأظهرها ، وإن كان معه غيره كان دونه ، وهذا القول لا يحتاج معه إلى نزول عيسى ، بل كان هذا في صدر الأمة ، وهو كذلك باق إن شاء اللّه تعالى . وقال السدي : ذلك عند خروج المهدي لا يبقى أحد إلا دخل في الإسلام وأدّى الخراج . وقيل : مخصوص بجزيرة العرب ، وقد حصل ذلك ما أبقى فيها أحداً من الكفار . وقيل : مخصوص بقرب الساعة ، فإنه إذ ذاك يرجع الناس إلى دين آبائهم . وقيل : ليظهره بالحجة والبيان . وضعف هذا القول لأنّ ذلك كان حاصلاً أول الأمر . وقيل : نزلت على سبب وهو أنه كان لقريش رحلتان : رحلة الشتاء إلى اليمن ، ورحلة الصيف إلى الشام والعراقين ، فلما أسلموا انقطعت الرحلتان لمباينة الدين والدار ، فذكروا ذلك للرسول صلى اللّه عليه وسلم فنزلت هذه الآية . فالمعنى : ليظهره على الدين كله في بلاد الرحلتين ، وقد حصل هذا أسلم أهل اليمن وأهل الشام والعراقين . وفي الحديث : { رويت لي الأرض فأريت مشارقها ومغاربها ، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها } قال بعض العلماء : ولذلك اتسع مجال الإسلام بالمشرق والمغرب ولم يتسع في الجنوب انتهى . ولا يسما اتساع الإسلام بالمشرق في زماننا ، فقلّ ما بقي فيه كافر ، بل أسلم معظم الترك التتار والخطا ، وكل من كان يناوىء الإسلام ، ودخلوا في دين اللّه أفواجاً والحمد للّه . وخص المشركون هنا بالذكر لما كانت كراهة مختصة بظهور دين محمد صلى اللّه عليه وسلم ، وخص الكافرون قبل لأنها كراهة إتمام نور اللّه في قديم الدهر ، وباقيه يعم الكفرة من لدن خلق الدنيا إلى انقراضها ، ووقعت الكراهة والإتمام مراراً كثيرة . ٣٤يا أيها الذين . . . . . أصل الكنز في اللغة الضم والجمع ، ولا يختص بالذهب والفضة . قال : لا درّ درّي إنْ أطعمت ضائعهم قرف الجثى وعندي البر مكنوز وقالوا : رجل مكتنز الخلق أي مجتمعه . وقال الراجز : على شديد لحمه كناز بات ينزيني على أوفاز ثم غلب استعماله في العرف على المدفون من الذهب والفضة . الكي : معروف وهو إلزاق الحار بعضو من البدن حتى يتمزق الجلد . والجبهة : معروفة وهي صفحة أعلى الوجه . والغاز : معروف وهو نقر في الجبل يمكن الاستخفاء فيه ، وقال ابن فارس : الغار الكهف ، والغار نبت طيب الريح ، والغار الجماعة ، والغاران البطن والفرج . ثبطه عن الأمر أبطأ به عنه ، وناقة ثبطة أي بطيئة السير . وأصل التثبيط التعويق ، وهو أن يحول بين الإنسان وبين أمر يريده بالتزهيد فيه . الزهق : الخروج بصعوبة ، قال الزجاج : بالكسر خروج الروح ، وقال الكسائي والمبرد : زهقت نفسه وزهقت لغتان ، والزهق الهلاك ، وزهق الحجر من تحت حافر الدابة إذا ندر ، والزهوق البعد ، والزهوق البئر البعيدة المهواة . الملجأ : مفعل من لجأ إلى كذا انحاز والتجأ وألجأته إلى كذا اضطررته . جمح نفر بإسراع من قولهم فرس جموح أي لا يرده اللجام إذا حمل . قال : سبوحاً جموحاً وإحضارها كمعمعة السعف الموقد وقال مهلهل : وقد جمحت جماحاً في دمائهم حتى رأيت ذوي أجسامهم جمدوا وقال آخر : إذا جمحت نساؤكم إليه اشظ كأنه مسد مغار حمز قفر ، وقيل : بمعنى جمح . قال رؤبة : قاربت بين عنقي وجمزي اللمز قال الليث : هو كالغمز في الوجه . وقال الجوهري : العيب ، وأصله الإشارة بالعين ونحوها . وقال الأزهري : أصل اللمز الدفع ، لمزتُه دفعته . الغرم : أصله لزوم ما يشق ، والغرام العذاب الشاق ، وسمي العشق غراماً لكونه شاقاً ولازماً . {الْمُشْرِكُونَ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مّنَ الاْحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّه وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ } لمّا ذكر أنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون اللّه ، ذكر ما هو كثير منهم تنقيصاً من شأنهم وتحقيراً لهم ، وأنّ مثل هؤلاء لا ينبغي تعظيمهم ، فضلاً عن اتخاذهم أرباباً لما اشتملوا عليه من أكل المال بالباطل ، وصدهم عن سبيل اللّه . واندرجوا في عموم الذين يكنزون الذهب والفضة ، فجمعوا بين الخصلتين المذمومتين : أكل المال بالباطل ، وكنز المال إن ضنوا أنْ ينفقوها في سبيل اللّه ، وأكلهم المال بالباطل هو أخذهم من أموال اتباعهم ضرائب باسم الكنائس والبيع ، وغير ذلك مما يوهمونهم به أنّ النفقه فيه من الشرع والتقرب إلى اللّه ، وهم يحجبون تلك الأموال كالراهب الذي استخرج سلمان كنزه . وكما يأخذونه من الرشا في الأحكام ، كإيهام حماية دينهم ، وصدهم عن سبيل اللّه هو دين الإسلام واتباع الرسول . وقيل : الجور في الحكم ، ويحتمل أن يكون يصدون متعدياً وهو أبلغ في الذم ، ويحتمل أن يكون قاصراً . وقرأ الجمهور : والذين بالواو ، وهو عام يندرج فيه من يكنز من المسلمين . وهو مبتدأ ضمن معنى الشرط ، ولذلك دخلت الفاء في خبره في قوله : فبشرهم . وقيل : والذين يكنزون من أوصاف الكثير من الأحبار والرهبان . وروي هذا القول عن عثمان ومعاوية . وقيل : كلام مبتدأ أراد به مانعي الزكاة من المسلمين ، وروي هذا القول عن السدي ، والظاهر العموم كما قلناه ، فيقرن بين الكانزين من المسلمين ، وبين المرتشين من الأحبار والرهبان تغليظاً ودلالة على أنهم سواء في التبشير بالعذاب . وروي العموم عن أبي ذر وغيره . وقرأ ابن مصرّف : الذين بغير واو ، وهو ظاهر في كونه من أوصاف من تقدم ، ويحتمل الاستئناف والعموم . والظاهر ذمّ من يكنز ولا ينفق في سبيل اللّه . وما جاء في ذم من ترك صفراء وبيضاء ، وأنه يكوى بها إلى غير ذلك من أحاديث هو قبل أن تفرض الزكاة ، والتوعد في الكنز إنما وقع على منع الحقوق منه ، فلذلك قال كثير من العلماء : الكنز هو المال الذي لا تؤدّى زكاته وإن كان على وجه الأرض ، فأما المال المدفون إذا أخرجت زكاته فليس بكنز . قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : { كل ما أدّيت زكاته فليس بكنز } وعن عمر أنه قال لرجل باع أرضاً أحرز مالك الذي أخذت أحفر له تحت فراش امرأتك فقال : أليس بكنز ، فقال : { ما أدّى زكاته فليس بكنز} . وعن ابن عمر وعكرمة والشعبي والسدّي ومالك وجمهور أهل العلم مثل ذلك . وقال علي : أربعة آلاف فما دونها نفقة ، وما زاد عليها فهو كنز وإن أدّيت زكاته . وقال أبو ذر وجماعة معه : ما فضل من مال الرجل على حاجة نفسه فهو كنز . وهذان القولان يقتضيان أنّ الذم في جنس المال ، لا في منع الزكاة فقط . وقال عمر بن عبد العزيز : هي منسوخة بقوله : { خذ من أموالهم صدقة } فأتى فرض الزكاة على هذا كله ، كأنّ الآية تضمنت : لا تجمعوا مالاً فتعذبوا ، فنسخه التقرير الذي في قوله : خذ من أموالهم صدقة ، واللّه تعالى أكرم من أن يجمع على عبده مالاً من جهة أذن له فيها ويؤدّى عنه ما أوجبه عليه فيه ثم يعاقبه وكان كثير من الصحابة رضوان اللّه عليهم كعبد الرحمن بن عوف ، وطلحة بن عبيد اللّه ، يقتنون الأموال ويتصرّفون فيها ، وما عابهم أحد ممن أعرض عن الفتنة ، لأنّ الإعراض اختيار للأفضل والأدخل في الورع والزهد في الدنيا ، والإقتناء مباح موسع لا يذم صاحبه ، وما روي عن عليّ كلام في الأفضل . وقرأ أبو السمال ويحيى بن يعمر : يكنزون بضم الياء ، وخص بالذكر الذهب والفضة من بين سائر الأموال لأنهما قيم الأموال وأثمانها ، وهما لا يكنزان إلا عن فضلة وعن كثرة ، وممن كنزهما لم يعدم سائر أجناس الأموال ، وكنزهما يدل على ما سواهما . والضمير في : ولا ينفقونها ، عائد على الذهب ، لأن تأنيثه أشهر ، أو على الفضة . وحذف المعطوف في هذين القولين أو عليهما باعتبار أن تحتهما أنواعاً ، فروعي المعنى كقوله : { وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ } أو لأنهما محتويان على جمع دنانير ودراهم ، أو على المكنوزات ، لدلالة يكنزون . أو على الأموال ، أو على النفقة وهي المصدر الدال عليه . ولا ينفقونها ، أو على الزكاة أي : ولا ينفقون زكاة الأموال أقوال . وقال كثير من المفسرين : عاد على أحدهما كقوله :{ وَإِذْ رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً } وليس مثله ، لأن هذا عطف بأو ، فحكمهما أنّ الضمير يعود على أحد المتعاطفين بخلاف الواو ، إلا أن ادّعى أنّ الواو في والفضة بمعنى أو ليمكن ، وهو خلاف الظاهر . ٣٥{يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَاذَا مَا كَنَزْتُمْ لانفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ } يقال : حميت الحديدة في النار أي أوقدت عليها لتحمى ، وتقول : أحميتها أدخلتها لكي تحمي أيضاً فحميت . وقرأ الجمهور : يوم يحمى عليها بالياء ، أصله يحمى النار عليها ، فلما حذف المفعول الذي لم يسم فاعله ، وأسند الفعل إلى الجملة والمجرور ، لم تلحق التاء كما تقول : رفعت القصة إلى الأمير . وإذا حذفت القصة وقام الجار والمجرور مقامها قلت : رفع إلى الأمير ، ويدل على أنّ ذلك في الأصل مسند إلى النار ، قراءة الحسن وابن عامر في رواية تحمى بالتاء . وقيل : من قرأ بالياء ، فالمعنى : يحمى الوقود . ومن قرأ بالتاء فالمعنى : تحمى النار . والناصب ليوم أليم أو مضمر يفسره عذاب أي : يعذبون يوم يحمى . وقرأ أبو حيوة : فيكوى بالياء ، لما كان ما أسند إليه تأنيثه حقيقياً ، ووقع الفصل أيضاً ذكر ، وأدغم قوم جباههم وهي مروية عن أبي عمر وذلك في الإدغام الكبير ، كما أدغم مناسككم وما سلككم ، وخصت هذه المواضع بالكي . قيل : لأنه في الجهة أشنع ، وفي الجنب والظهر أوجع . وقيل : لأنها مجوفة فيصل إلى أجوافها الحر ، بخلاف اليد والرجل . وقيل : معناه يكوون على الجهات الثلاثة مقاديمهم ومآخرهم وجنوبهم . وقيل : لما طلبوا المال والجاه شان اللّه وجوههم ، ولما طووا كشحا عن الفقير إذا جالسهم كويت ظهورهم . وقال الزمخشري : لأنهم لم يطلبوا بأموالهم حيث لم ينفقوها في سبيل اللّه تعالى إلا الأغراض الدنيوية من وجاهة عند الناس وتقدّم ، وأن يكون ماء وجوههم مصوناً عندهم يتلقون بالجميل ، ويحيون بالإكرام ، ويحتشمون ، ومن أكل طيبات يتضلعون منها ، وينفخون جنوبهم ، ومن لبس ناعمة من الثياب يطرحونها على ظهورهم كما ترى أغنياء زمانك هذه أغراضهم وطلباتهم من أموالهم . لا يخطرون ببالهم قول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : { ذهب أهل الدثور بالأجور } وقيل : لأنهم كانوا إذا أبصروا الفقير عبسوا ، وإذا ضمهم وإياه مجلس ازوروا عنه ، وتولوا بأركانهم ، وولوا ظهورهم . وأضمر القول في هذا ما كنزتم أي : يقال لهم وقت الكي والإشارة بهذا إلى المال المكنوز ، أو إشارة إلى الكي على حذف مضاف من ما كنزتم ، أي : هذا الكي نتيجة ما كنزتم ، أو ثمرة ما كنزتم . ومعنى لأنفسكم : لتنتفع به أنفسكم وتلتذ ، فصار عذاباً لكم ، وهذا القول توبيخ لهم . فذوقوا ما كنتم أي : وبال المال الذي كنتم تكنزون . ويجوز أن تكون ما مصدرية أي : وبال كونكم كانزين . وقرىء يكنزون بضم النون . وفي حديث أبي ذر : { بشر الكانزين برصد يحمى عليها في نار جهنم فيوضع على حلمة ثدييه وتزلزله وتكوى الجباه والجنوب والظهور حتى يلتقي الحر في أجوافهم } وفي حصحي البخاري وصحيح مسلم : { الوعيد الشديد لمانع الزكاة} . ٣٦{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّه اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللّه يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذالِكَ الدّينُ الْقَيّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّه} كانت العرب لا عيش لأكثرها إلا من الغارات وأعمال سلاحها ، فكانت إذا توالت عليهم الأربعة الحرم صعب عليها وأملقوا ، وكان بنو فقيم من كنانة أهل دين وتمسك بشرع إبراهيم عليه السلام ، فانتدب منهم القلمس وهو حذيفة بن عبيد بن فقيم فنسأ الشهور للعرب ، ثم خلفه على ذلك ابنه عباد ، ثم ابنه قلع ، ثم ابنه أمية ، ثم ابنه عوف ، ثم ابنه جنادة بن عوف ، وعليه قام الإسلام . وكانت العرب إذا فرغت من حجها جاء إليه من شاء منهم مجتمعين فقالوا : أنسئنا شهراً أي : أخِّر عنا حرمة المحرم فاجعلها في صفر ، فيحل لهم المحرم ، فيغيرون فيه ويعيشون . ثم يلزمون حرمة صفر ليوافقوا عدّة الأشهر الأربعة ، ويسمون ذلك الصفر المحرم ، ويسمون ربيعاً الأول صفراً ، وربيعاً الآخر ربيعاً الأول ، وهكذا في سائر الشهور يستقبلون نسيئهم في المحرم الموضع لهم ، فيسقط على هذا حكم المحرم الذي حلل لهم ، وتجيء السنة من ثلاثة عشر شهراً أولها المحرم المحلل ، ثم المحرم الذي هو في الحقيقة صفر ، ثم استقبال السنة كما ذكرنا . قال مجاهد : ثم كانوا يحجون في كل عام شهرين ولاء ، وبعد ذلك يبدلون فيحجون عامين ولاء ، ثم كذلك حتى كانت حجة أبي بكر في ذي القعدة حقيقة ، وهم يسمونه ذا الحجة ثم حج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سنة عشر في ذي الحجة حقيقة ، فذلك قوله : { إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق اللّه السموات والأرض السنة اثنا عشر شهراً أربعة حرم ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان} . ومناسبة هذه الآية أنه لما ذكر أنواعاً من قبائح أهل الشرك وأهل الكتاب ، ذكر أيضاً نوعاً منه وهو تغيير العرب أحكام اللّه تعالى ، لأنه حكم في وقت بحكم خاص ، فإذا غيَّروا ذلك الوقت فقد غيروا حكم اللّه . والشهور : جمع كثرة لما كانت أزيد من عشرة ، بخلاف قوله : { الحج أشهر معلومات } فجاء بلفظ جمع القلة ، والمعنى : شهور السنة القمرية ، لأنهم كانوا يؤرخون بالسنة القمرية لا شمسية ، توارثوه عن اسماعيل وابراهيم . ومعنى عند اللّه : أي ، في حكمه وتقديره كما تقول : هذا عند أبي حنيفة . وقيل : التقدير عدة الشهور التي تسمى سنة واثنا عشر ، لأنهم جعلوا أشهر العام ثلاثة عشر . وقرأ ابن القعقاع وهبيرة عن حفص : بإسكان العين مع إثبات الألف ، وهو جمع بين ساكنين على غير حدة ، كما روي : التقت حلقتا البطان بإثبات ألف حلقتا . وقرأ طلحة : بإسكان الشين ، وانتصب شهراً على التمييز المؤكد كقولك : عندي من الرجال عشرون رجلاً . ومعنى في كتاب اللّه قال بان عباس : هو اللوح المحفوظ . وقيل : في إيجاب اللّه . وقيل : في حكمه . وقيل : في القرآن ، لأن السنة المعتبرة في هذه الشريعة هي السنة القمرية ، وهذا الحكم في القرآن . قال تعالى : { وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السّنِينَ وَالْحِسَابَ } وقال :{ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الاهِلَّةِ قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجّ } قال ابن عطية : أي فيما كتبه وأثبته في اللوح المحفوظ وغيره ، فهي صفة فعل مثل خلقه ورزقه ، وليس بمعنى قضائه وتقديره ، لأن تلك هي قبل خلق السموات والأرض انتهى . وعند اللّه متعلق بعدة . وقال الحوفي : في كتاب اللّه متعلق بعدة ، يوم خلق السموات والأرض متعلق أيضاً بعدّة . وقال أبو علي : لا يجوز أن يتعلق قوله في كتاب اللّه بعدة ، لأنه يقتضي الفصل بين الصلة والموصول بالخبر الذي هو اثنا عشر شهراً ، ولأنه لا يجوز انتهى . وهو كلام صحيح . وقال أبو البقاء : عدة مصدر مثل العدد ، وفي كتاب اللّه صفة لاثنا عشر ، ويوم معمول لكتاب على أن يكون مصدراً لا جثة ، ويجوز أن يكون جثة ، ويكون العامل في يوم معنى الاستقرار انتهى . وقيل : انتصب يوم بفعل محذوف أي : كتب ذلك يوم خلق السموات ، ولما كانت أشياء توصف بكونها عند اللّه ولا يقال فيها أنها مكتوبة في كتاب اللّهكقوله :{ إِنَّ اللّه عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ } جمع هنا بينهما ، إذ لا تعارض والضمير في منها عائد على اثنا عشر لأنه أقرب ، لا على الشهور وهي في موضع الصفة لاثنا عشر ، وفي موضع الحال من ضمير في مستقر . وأربعة حرم سميت حرماً لتحريم القتال فيها ، أو لتعظيم انتهاك المحارم فيها . وتسكين الراء لغة . وذكر ابن قتيبة عن بعضهم أنها الأشهر التي أجل المشركون فيها أن يسيحوا ، والصحيح : أنها رجب ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم . وأولها عند كثير من العلماء رجب ، فيكون من سنتين . وقال قوم : أولها المحرم ، فيكون من سنة واحدة . ذلك الدين القيم أي : القضاء المستقيم ، قاله ابن عباس . وقيل : العدد الصحيح . وقيل : الشرع القويم ، إذ هو دين إبراهيم . فلا تظلموا فيهن أنفسكم ، الضمير في فيهن عائد على الاثنا عشر شهراً ، قاله ابن عباس : والمعنى : لا تجعلوا حلالاً حراماً ، ولا حراماً حلالاً كفعل النسيء . ويؤيده كون الظلم منهياً عنه في كل وقت لا يختص بالأربع الحرم . وقال قتادة والفراء : هو عائد على الأربعة الحرم ، نهى عن المظالم فيها تشريفاً لها وتعظيماً بالتخصيص بالذكر ، وإن كانت المظالم منهياً عنها في كل زمان . وقال الزمخشري : فلا تظلموا فيهن أي : في الأشهر الحرم ، أي : تجعلوا حرامها حلالاً . وعن عطاء الخراساني : أحلت القتال في الأشهر الحرم براءة من اللّه ورسوله . وقيل : معناه لا تأثموا فيهن بياناً لعظم حرمتهن ، كما عظم أشهر الحج بقوله تعالى :{ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجّ } وإن كان ذلك محرماً في سائر الشهور انتهى . ويؤيد عوده على الأربعة الحرم كونها أقرب مذكور ، وكون الضمير جاء بلفظ فيهن ، ولم يجىء بلفظ فيها كما جاء منها أربعة حرم ، لأنه قد تقرر في علم العربية أن الهاء تكون لما زاد على العشرة تعامل في الضمير معاملة الواحدة المؤنثة فتقول : الجذوع انكسرت ، وأنّ النون والهاء والنون للعشرة فما دونها إلى الثلاثة تقول : الأجذاع انكسرن ، هذا هو الصحيح . وقد يعكس قليلاً فتقول : الجذوع انكسرن ، والاجذاع انكسرت ، والظلم بالمعاصي أو بالنسيء في تحليل شهر محرم وتحريم شهر حلال ، أو بالبداءة بالقتال ، أو بترك المحارم لعددكم أقوال . وانتصب كافة على الحال من الفاعل أو من المفعول ، ومعناه جميعاً . ولا يثنى ، ولا يجمع ، ولا تدخله أل ، ولا يتصرف فيها بغير الحال . وتقدم بسط الكلام فيها في قوله :{ ادْخُلُواْ فِي السّلْمِ كَافَّةً } فأغنى عن إعادته . والمعية بالنصر والتأييد ، وفي ضمنه الأمر بالتقوى والحث عليها . ٣٧{إِنَّمَا النَّسِىء زِيَادَةٌ فِى الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرّمُونَهُ عَامًا لّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّه فَيُحِلُّواْ} {سقط : زين لهم سوء أعمالهم واللّه لا يهدي القوم الكافرين} يقال : نسأه وأنسأه إذا أخَّره ، حكاه الكسائي . قال الجوهري وأبو حاتم : النسيء فعيل بمعنى مفعول ، من نسأت الشيء فهو منسوء إذا أخرته ، ثم حول إلى نسيء كما حول مقتول إلى قتيل . ورجل ناسىء ، وقوم نسأة ، مثل فاسق وفسقة انتهى . وقيل : النسيء مصدر من أنسأ ، كالنذير من أنذر ، والنكير من أنكر ، وهو ظاهر قول الزمخشري لأنه قال : النسيء تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر . وقال الطبري : النسيء بالهمز معناه الزيادة انتهى . فإذا قلت : أنسأ اللّه ؛ اللّه أجله بمعنى أخَّر ، لزم من ذلك الزيادة في الأجل ، فليس النسيء مرادفاً للزيادة ، بل قد يكون منفرداً عنها في بعض المواضع . وإذا كان النسيء مصدراً كان الإخبار عنه بمصدر واضحاً ، وإذا كان بمعنى مفعول فلا بد من إضمار إما في النسيء أي : إن نسأ النسيء ، أو في زيادة أي : ذو زيادة . وبتقدير هذا الإضمار يرد على ما يرد على قوله . ولا يجوز أن يكون فعيلاً بمعنى مفعول ، لأنه يكون المعنى : إنما المؤخر زيادة ، والمؤخر الشهر ، ولا يكون الشهر زيادة في الكفر . وقرأ الجمهور : النسيء مهموز على وزن فعيل . وقرأ الزهري وحميد وأبو جعفر وورش عن نافع والحلواني : النسيّ بتشديد الياء من غير همز ، وروى ذلك عن ابن كثير سهل الهمزة بإبدالها ياء ، وأدغم الياء فيها ، كما فعلوا في نبىء وخطيئة فقالوا : نبي وخطية بالإبدال والإدغام . وفي كتاب اللوامح قرأ جعفر بن محمد والزهري بإسكان السين . وقرأ مجاهد : النسوء على وزن فعول بفتح الفاء ، وهو التأخير . ورويت هذه عن طلحة والسلمي . وقول أبي وائل : إنّ النسيء رجل من بني كنانة قول ضعيف . وقول الشاعر : أنسنا الناسئين على معد شهور الحل نجعلها حراما وقال آخر : نسؤ الشهور بها وكانوا أهلها من قبلكم والعز لم يتحول وأخبر أنّ النسيء زيادة في الكفر أي : جاءت مع كفرهم باللّه ، لأن الكافر إذا أحدث معصية ازداد كفراً . قال تعالى : { فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ } كما أنّ المؤمن إذا أحدث طاعة ازداد إيماناً . قال تعالى :{ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } وأعاد الضمير في به على النسيء ، لا على لفظ زيادة . وقرأ ابن مسعود والأخوان وحفص : يضل مبنياً للمفعول ، وهو مناسب لقوله : زين ، وباقي السبعة مبنياً للفاعل . وابن مسعود في رواية ، والحسن ومجاهد وقتادة وعمرو بن ميمون ويعقوب : يضل أي اللّه ، أي : يضل به الذين كفروا اتباعهم . ورويت هذه القراءة عن : الحسن ، والأعمش ، وأبي عمرو ، وأبي رجاء . وقرأ أبو رجاء : يضل بفتحتين من ضللت بكسر اللام ، أضلَّ بفتح الضاد منقولاً ، فتحها من فتحة اللام إذ الأصل أضلل . وقرأ النخعي ومحبوب عن الحسن : نُضل بالنون المضمومة وكسر الضاد ، أي : نضل نحن . ومعنى تحريمهم عاماً وتحليلهم عاماً : لا يرادان ذلك ، كان مداولة في الشهر بعينه عام حلال وعام حرام . وقد تأول بعض الناس القصة على أنهم كانوا إذا شق عليهم توالي الأشهر الحرم أحل لهم المحرم وحرم صفراً بدلاً من المحرم ، ثم مشت الشهور مستقيمة على أسمائها المعهودة ، فإذا كان من قابل حرم المحرم على حقيقته وأحل صفر ومشت الشهور مستقيمة ، وإنَّ هذه كانت حال القوم . وتقدم لنا أنّ الذي انتدب أولاً للنسيء القلمس . وقال ابن عباس وقتادة والضحاك : الذين شرعوا النسيء هم بنو مالك من كنانة وكانوا ثلاثة . وعن ابن عباس : إنّ أول من فعل ذلك عمرو بن لحيّ ، وهو أول من سيب السوائب ، وغيَّر دين إبراهيم . وقال الكلبي : أول من فعل ذلك رجل من بني كنانة يقال له : نعيم بن ثعلبة . والمواطأة : الموافقة ، أي ليوافقوا العدة التي حرم اللّه وهي الأربعة ولا يخالفونها ، وقد خالفوا التخصيص الذي هو أصل الواجبين . والواجبان هما العدد الذي هو أربعة في أشخاص أشهر معلومة وهي : رجب ، وذو القعدة ، وذو الحجة والمحرم كما تقدم . ويقال : تواطؤا على كذا إذا اجتمعوا عليه ، كان كل واحد منهم يطأ حيث يطأ صاحبه . ومنه الإيطاء في الشعر ، وهو أن يأتي في الشعر بقافيتين على لفظ واحد ومعنى واحد ، وهو عيب إنْ تقارب . واللام في ليواطئوا متعلقة بقوله : ويحرمونه ، وذلك على طريق الأعمال . ومَنن قال : إنه متعلق بيحلونه ويحرمونه معاً ، فإنه يريد من حيث المعنى ، لا من حيث الإعراب . قال ابن عطية : ليحفظوا في كل عام أربعة أشهر في العدد ، فأزالوا الفضيلة التي خص اللّه بها الأشهر الحرم وحدها ، بمثابة أن يفطر رمضان ، ويصوم شهراً من السنة بغير مرض أو سفر انتهى . وقرأ الأعمش وأبو جعفر : ليواطيوا بالياء المضمومة لما أبدل من الهمزة ياء عامل البدل معاملة المبدل منه ، والأصح ضم الطاء وحذف الياء لأنه أخلص الهمزة ياء خالصة عند التخفيف ، فكنت لاستثقال الضمة عليها ، وذهبت لالتقاء الساكنين ، وبدلت كسرة الطاء ضمة لأجل الواو التي هي ضمير الجماعة كما قيل في رضيوا رضوا . وجاء عن الزهري : ليواطيوا بتشديد الياء ، هكذا الترجمة عنه . قال صاحب اللوامح : فإن لم يرد به شدة بيان الياء وتخليصها من الهمز دون التضعيف ، فلا أعرف وجهه انتهى . فيحلوا ما حرم اللّه أي بمواطأة العدة وحدها من غير تخصيص ما حرم اللّه تعالى من القتال ، أو من ترك الاختصاص للأشهر بعينها . وقرأ الجمهور : زين لهم سوء أعمالهم مبنياً للمفعول . والأولى أن يكون المنسوب إليه التزيين الشيطان ، لأن ما أخبر به عنهم سيق في المبالغة في معرض الذم . وقرأ زيد بن علي : زيِّن لهم سوء بفتح الزاي والياء والهمزة ، والأولى أن يكون زين لهم ذلك الفعل سوء أعمالهم . قال الزمخشري : خذلهم اللّه تعالى فحسبوا أعمالهم القبيحة حسنة . واللّه لا يهدي أي : لا يلطف بهم ، بل يخذلهم انتهى . وفيه دسيسة الاعتزال . وقال أبو علي : لا يهديهم إلى طريق الجنة والثواب . وقال الأصم : لا يحكم لهم بالهداية . وقيل : لا يفعل بهم خيراً ، والعرب تسمي كل خير هدى ، وكل شر ضلالة انتهى . وهذا إخبار عمن سبق في علمه أنهم لا يهتدون . ٣٨{الْكَافِرِينَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِى سَبِيلِ اللّه اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الاْرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَواةِ الدُّنْيَا مِنَ الاْخِرَةِ } : لما أمر اللّه رسوله بغزاة تبوك ، وكان زمان جدب وحر شديد وقد طابت الثمار ، عظم ذك على الناس وأحبوا المقام ، نزلت عتاباً على من تخلف عن هذه الغزوة ، وكانت سنة تسع من الهجرة بعد الفتح بعام ، غزا فيها الروم في عشرين ألفاً من راكب وراجل ، وتخلف عنه قبائل من الناس ورجال من المؤمنين كثير ومنافقون . وخص الثلاثة بالعتاب الشديد بحسب مكانهم من الصحبة ، إذ هم من أهل بدر وممن يقتدى بهم ، وكان تخلفهم لغير علة حسبما يأتي إن شاء اللّه تعالى . ولما شرح معاتب الكفار رغب في مقابلتهم . وما لكم استفهام معناه الإنكار والتقريع ، وبني قيل للمفعول ، والقائل هو الرسول صلى اللّه عليه وسلم لم يذكر إغلاظاً ومخاشنة لهم وصوناً لذكره . إذ أخلد إلى الهوينا والدعة : من أخلد وخالف أمره صلى اللّه عليه وسلم. وقرأ الأعمش : تثاقلتم وهو أصل قراءة الجمهور اثاقلتم ، وهو ماض بمعنى المضارع ، وهو في موضع الحال ، وهو عامل في إذ أي : ما لكم تتثاقلون إذا قيل لكم انفروا . وقال أبو البقاء : الماضي هنا بمعنى المضارع أي : ما لكم تتثاقلون ، وموضعه نصب . أي : أي شيء لكم في التثاقل ، أو في موضع جر على مذهب الخليل انتهى . وهذا ليس بجيد ، لأنه يلزم منه حذف أنْ ، لأنه لا ينسبك مصدر إلا من حرف مصدري والفعل ، وحذف أنْ في نحو هذا قليل جداً أو ضرورة . وإذا كان التقدير في التثاقل فلا يمكن عمله في إذا ، لأن معمول المصدر الموصول لا يتقدم عليه فيكون الناصب لإذا ، والمتعلق به في التثاقل ما هو معلوم لكم الواقع خبراً لما . وقرىء : اثاقلتم على الاستفهام الذي معناه الإنكار والتوبيخ ، ولا يمكن أن يعمل في إذ ما بعد حرف الاستفهام . ف قال الزمخشري : يعمل فيه ما دل عليه ، أو ما في ما لكم من معنى الفعل ، كأنه قال : ما تصنعون إذا قيل لكم ، كما تعمله في الحال إذا قلت : ما لك قائماً . والأظهر أن يكون التقدير : ما لكم تتثاقلون إذا قيل لكم انفروا ، وحذف لدلالة اثاقلتم عليه . ومعنى اثاقلتم إلى الأرض : ملتم إلى شهوات الدنيا حين أخرجت الأرض ثمارها قاله مجاهد وكرهتم مشاق السفر . وقيل ملتم إلى الإقامة بأرضكم قاله : الزجاج . ولما ضمن معنى الميل والإخلاد عدى بإلى . وفي قوله : أرضيتم ، نوع من الإنكار والتعجب أي : أرضيتم بالنعيم العاجل في الدنيا الزائل بدل النعيم الباقي . ومِن تظافرت أقوال المفسرين على أنها بمعنى بدل أي : بدل الآخرة كقوله : { لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلَئِكَةً } أي بدلاً ، ومنه قول الشاعر : فليت لنا من ماء زمزم شربة مبردة باتت على طهيان أي بدلاً من ماء زمزم ، والطهيان عود ينصب في ناحية الدار للّهواء تعلق فيه أوعية الماء حتى تبرد . وأصحابنا لا يثبتون أن تكون هنُّ للبدل . ويتعلق في الآخرة بمحذوف التقدير : فما متاع الحياة الدنيا محسوباً في نعيم الآخرة . وقال الحوفي : في الآخر متعلق بقليل ، وقليل خبر الابتداء . وصلح أن يعمل في الظرف مقدماً ، لأنّ رائحة الفعل تعمل في الظرف . ولو قلت : ما زيد عمراً إلا يضرب ، لم يجز . ٣٩{إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللّه عَلَى كُلّ شَىْء قَدِيرٌ } : هذا سخط على المتثاقلين عظيم ، حيث أوعدهم بعذاب أليم مطلق يتناول عذاب الدارين ، وأنه يهلكهم ويستبدل قوماً آخرين خيراً منهم وأطوع ، وأنه غني عنهم في نصرة دينه ، لا يقدح تثاقلهم فيها شيئاً . وقيل : يعذبكم بإمساك المطر عنكم . وروي عن ابن عباس أنه قال : استنفر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قبيلة فقعدت ، فأمسك اللّه عنها المطر وعذبها بها به . والمستبدل الموعود بهم ، قال : جماعة أهل اليمن . وقال ابن جبير : أبناء فارس . وقال ابن عباس : هم التابعون ، والظاهر مستغن عن التخصيص . وقال الأصم : معناه أنه تعالى يخرج رسوله من بين أظهرهم إلى المدينة . قال القاضي : وهذا ضعيف ، لأنّ اللفظ لا دلالة فيه على أنه ينتقل من المدينة إلى غيرها ، ولا يمتنع أن يظهر في المدينة أقواماً يعينونه على الغزو ، ولا يمتنع أن يعينه بأقوام من الملائكة أيضاً حال كونه هناك . والضمير في : ولا تضروه شيئاً ، عائد على اللّه تعالى أي : ولا تضروا دينه شيئاً . وقيل : على الرسول ، لأنه تعالى قد عصمه ووعده بالنصر ، ووعده كائن لا محالة . ولما رتب على انتفاء نفرهم التعذيب والاستبدال وانتفاء الضرر ، أخبر تعالى أنه على كل شيء تتعلق إرادته به قدير من التعذيب والتغيير وغير ذلك . ٤٠{إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّه إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ } : ألا تنصروه فيه انتفاء النصر بأيّ طريق كان من نفر أو غيره . وجواب الشرط محذوف تفسيره : فسينصره ، ويدل عليه فقد نصره اللّه أي : ينصره في المستقبل كما نصره في الماضي . وقال الزمخشري: { فإن قلت } : كيف يكون قوله تعالى : فقد نصره اللّه جواباً للشرط ؟ { قلت} : فيه وجهان : أحدهما : فسينصره ، وذكر معنى ما قدمناه . والثاني : أنه تعالى أوجب له النصرة وجعله منصوراً في ذلك الوقت فلم يخذل من بعده انتهى . وهذا لا يظهر منه جواب الشرط ، لأنّ إيجاب النصرة له أمر سبق ، والماضي لا يترتب على المستقبل ، فالذي يظهر الوجه الأول . ومعنى إخراج الذين كفروا إياه : فعلهم به ما يؤدي إلى الخروج ، والإشارة إلى خروج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من مكة إلى المدينة . ونسب الإخراج إليهم مجازاً ، كما نسب في قوله : { الَّتِى أَخْرَجَتْكَ } وقصة خروج الرسول صلى اللّه عليه وسلم وأبي بكر مذكورة في السير . وانتصب ثاني اثنين على الحال أي : أحد اثنين وهما : رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وأبو بكر رضي اللّه عنه . وروي أنه لما أمر بالخروج قال لجبريل عليه السلام : { من يخرج معي ؟ } قال : أبو بكر . وقال الليث : ما صحب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مثل أبي بكر . وقال سفيان بن عيينة : خرج أبو بكر بهذه الآية من المعاتبة التي في قوله : ألا تنصروه . قال ابن عطية : بل خرج منها كل من شاهد غزوة تبوك ، وإنما المعاتبة لمن تخلف فقط ، وهذه الآية منوهة بقدر أبي بكر وتقدمه وسابقته في الإسلام . وفي هذه الآية ترغيبهم في الجهاد ونصرة دين اللّه ، إذ بين فيها أنّ اللّه ينصره كما نصره ، إذ كان في الغار وليس معه فيه أحد سوى أبي بكر . وقرأت فرقة : ثاني اثنين بسكون ياء ثاني . قال ابن جني : حكاها أبو عمرو ، ووجهه أنه سكن الياء تشبيهاً لها بالألف . والغار : نقب في أعلى ثور ، وهو جبل في يمنى مكة على مسيرة ساعة ، مكث فيه ثلاثاً . هذ هما : بدل . وإذ يقول : بدل ثان . وقال العلماء : من أنكر صحبة أبي بكر فقد كفر لإنكاره كلام اللّه تعالى ، وليس ذلك لسائر الصاحبة . وكان سبب حزن أبي بكر خوفه على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فنهاه الرسول تسكيناً لقلبه ، وأخبره بقوله : إن اللّه معنا ، يعني : بالمعونة والنصر . وقال أبو بكر : يا رسول اللّه إنْ قتلتُ فأنا رجل واحد ، وإنْ قتلْتَ هلكت الأمة وذهب دين اللّه ، فقال صلى اللّه عليه وسلم : { ما ظنك باثنين اللّه ثالثهما ؟ } وقال أبو بكر رضي اللّه عنه : قال النبي ولم يجزع يوقرني ونحن في سدف من ظلمة الغار لا تخش شيئاً فإن اللّه ثالثنا وقد تكفل لي منه بإظهار وإنما كيد من تخشى بوارده كيد الشياطين قد كادت لكفار واللّه مهلكهم طراً بما صنعوا وجاعل المنتهى منهم إلى النار {فَأَنزَلَ اللّه سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّه هِىَ الْعُلْيَا وَاللّه عَزِيزٌ } قال ابن عباس : السكينة الرحمة . وقال قتادة في آخرين : الوقار . وقال ابن قتيبة : الطمأنينة . وهذه الأقوال متقاربة . والضمير في عليه عائد على صاحبه ، قاله حبيب بن أبي ثابت ، أو على الرسول قاله الجمهور ، أو عليهما . وأفرده لتلازمهما ، ويؤيده أنّ في مصحف حفصة : فأنزل اللّه سكينته عليهما وأيدهما . والجنود : الملائكة يوم بدر ، والأحزاب وحنين . وقيل : ذلك الوقت يلقون البشارة في قلبه ، ويصرفون وجوه الكفار عنه . والظاهر أن الضمير عليه عائد على أبي بكر ، لأن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان ثابت الجأش ، ولذلك قال : لا تحزن إن اللّه معنا . وأنّ الضمير في وأيده عائد على الرسول صلى اللّه عليه وسلم كما جاء : { لّتُؤْمِنُواْ بِاللّه وَرَسُولِهِ وَتُعَزّرُوهُ وَتُوَقّرُوهُ } يعني الرسول ، وتسبحوه : يعني اللّه تعالى . و قال ابن عطية : والسكينة عندي إنما هي ما ينزله اللّه على أنبيائه من الحياطة لهم ، والخصائص التي لا تصلح إلا لهم كقوله :{ فِيهِ سَكِينَةٌ مّن رَّبّكُمْ } ويحتمل أن يكون قوله : فأنزل اللّه سكينته إلى آخر الآية يراد به ما صنعه اللّه لنبيه إلى وقت تبوك من الظهور والفتوح ، لا أن يكون هذا يختص بقصة الغار . وكلمة الذين كفروا هي الشرك ، وهي مقهورة . وكلمة اللّه : هي التوحيد ، وهي ظاهرة . هذا قول الأكثرين . وعن ابن عباس : كلمة الكافرين ما قرروا بينهم من الكيد به ليقتلوه ، وكلمة اللّه : أنه ناصره . وقيل : كلمة اللّه لا إله إلا اللّه ، وكلمة الكفارقولهم في الحرب : يا لبني فلان ، ويا لفلان . وقيل : كلمة اللّهقوله تعالى :{ لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى } وكلمة الذين كفروا قولهم في الحرب : أعل هبل ، يعنون صنمهم الأكبر . وقرأ مجاهد وأيده والجمهور وأيده بتشديد الياء . وقرىء : وكلمة اللّه بالنصب أي : وجعل . وقراءة الجمهور بالرفع أثبت في الإخبار . وعن أنس رأيت في مصحف أبيّ : وجعل كلمته هي العلياء ، وناسب الوصف بالعزة الدالة على القهر والغلبة ، والحكمة الدالة على ما يصنع مع أنبيائه وأوليائه ، ومن عاداهم من إعزاز دينه وإخماد الكفر . ٤١{انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِى سَبِيلِ اللّه ذالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } : لما توعد تعالى من لا ينفر مع الرسول صلى اللّه عليه وسلم وضرب له من الأمثال ما ضرب ، أتبعه بهذا الأمر الجزم . والمعنى : انفروا على الوصف الذي يحف عليكم فيه الجهاد ، أو على الوصف الذي يثقل . والخفة والثقل هنا مستعار لمن يمكنه السفر بسهولة ، ومن يمكنه بصعوة ب ، وأما من لا يمكنه كالأعمى ونحوه فخارج عن هذا . وروي أن ابن أم مكتوم جاء إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال : أعليّ أنْ أنفر ؟ قال : نعم ، حتى نزلت :{ لَّيْسَ عَلَى الاْعْمَى حَرَجٌ } وذكر المفسرون من معاني الخفة والثقل أشياء لا على وجه التخصيص بعضها دون بعض ، وإنما يحمل ذلك على التمثيل لا على الحصر . قال الحسن وعكرمة ومجاهد : شباباً وشيوخاً . وقال أبو صالح : أغنياء وفقراء في اليسر والعسر . وقال الأوزاعي : ركباناً ومشاة . وقيل : عكسه . وقال زيد بن أسلم : عزباناً ومتزوجين . وقال جويبر : أصحاء ومرضى . وقال جماعة : خفافاً من السلاح أي مقلين فيه ، وثقالاً أي مستكثرين منه . وقال الحكم بن عيينة وزيد بن علي : خفافاً من الإشغال وثقالاً بها . وقال ابن عباس : خفافاً من العيال ، وثقالاً بهم . وحكى التبريزي : خفافاً من الأتباع والحاشية ، ثقالاً بهم . وقال علي بن عيسى : هو من خفة اليقين وثقله عند الكراهة . وحكى الماوردي : خفافاً إلى الطاعة ، وثقالاً عن المخالفة . وحكى صاحب الفتيان : خفافاً إلى المبارزة ، وثقالاً في المصابرة . وحكى أيضاً : خفافاً بالمسارعة والمبادرة ، وثقالاً بعد التروي والتفكر . وقال ابن زيد : وقال ابن زيد : ذوي صنعة وهو الثقيل ، وغير ذوي صنعة وهو الخفيف . وحكى النقاش : شجعاناً وجبناً . وقيل : مهازيل وسماتاً . وقيل : سباقاً إلى الحرب كالطليعة وهو مقدم الجيش ، والثقال الجيش بأسره . وقال ابن عباس وقتادة : النشيط والكسلان . والجمهور على أن الأمر موقوف على فرض الكفاية ، ولم يقصد به فرض الأعيان . وقال الحسن وعكرمة : هو فرض على المؤمنين عنى به فرض الأعيان في تلك المدة ، ثم نسخ بقوله :{ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً } وانتصب خفافاً وثقالاً على الحال . وذكر بأموالكم وأنفسكم إذ ذلك وصف لأكمل ما يكون من الجهاد وأنفعه عند اللّه ، فحض على كمال الأوصاف وقدِّمت الأموال إذ هي أول مصرف وقت التجهيز ، وذكر ما المجاهد فيه وهو سبيل اللّه . والخيرية هي في الدنيا بغلبة العدو ، ووراثة الأرض ، وفي الآخرة بالثواب ورضوان اللّه . وقد غزا أبو طلحة حتى غزا في البحر ومات فيه ، وغزا المقداد على ضخامته وسمنه ، وسعيد بن المسيب وقد ذهبت إحدى عينيه ، وابن أم مكتوم مع كونه أعمى . ٤٢{لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ وَلَاكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّه لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ } : أي لو كان ما دعوا إليه غنماً قريباً سهل المنال ، وسفراً قاصداً وسطاً مقارباً . وهذه الآية في قصة تبوك حين استنفر المؤمنين فنفروا ، واعتذر منهم فريق لأصحابه ، لا سيما من القبائل المجاورة للمدينة . وليس قوله :{ الْكَافِرِينَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ مَا لَكُمْ } خطاباً للمنافقين خاصة ، بل هو عام . واعتذر المنافقون بأعذار كاذبة ، فابتدأ تعالى بذكر المنافقين وكشف ضمائرهم . لاتبعوك : لبادروا إليه ، لا لوجه اللّه ، ولا لظهور كلمته ، ولكن بعدت عليهم الشقة أي : المسافة الطويلة في غزو الرّوم . والشّقة بالضم من الثياب ، والشقة أيضاً السفر البعيد ، وربما قالوه بالكسر قاله : الجوهري . وقال الزجاج : الشقة الغاية التي تقصد . وقال ابن عيسى : الشقة القطعة من الأرض يشق ركوبها . وقال ابن فارس : الشقة المسير إلى أرض بعيدة ، واشتقاقها منه الشق ، أو من المشقة . وقرأ عيسى بن عمر : بعدت عليهم الشِّقِة بكسر العين والشين ، وافقه الأعرج في بعدت . وقال أبو حاتم : إنها لغة بني تميم في اللفظين انتهى . وحكى الكسائي : شقة وشقة . وسيحلفون : أي المنافقون ، وهذا إخبار بغيب . قال الزمخشريفي قوله : وسيحلفون باللّه ، ما نصه باللّه متعلق بسيحلفون ، أو هو من كلامهم . والقول مراد في الوجهين أي : سيحلفون متخلصين عند رجوعك من غزوة تبوك معتذرين ، يقولون باللّه لو استطعنا لخرجنا معكم ، أو وسيحلفون باللّه يقولون لو استطعنا . وقوله : لخرجنا سدَّ مسدَّ جواب القسم . ولو جميعاً والإخبار بما سوف يكون بعد القول من حلفهم واعتذارهم ، وقد كان من جملة المعجزات . ومعنى الاستطاعة استطاعة العدة ، واستطاعة الأبدان ، كأنهم تمارضوا انتهى . وما ذهب إليه من أنّ قوله : لخرجنا ، سدَّ مسدَّ جواب القسم . ولو جميعاً ليس بجيد ، بل للنحويين في هذا مذهبان : أحدهما : إن لخرجنا هو جواب القسم ، وجواب لو محذوف على قاعدة اجتماع القسم والشرط إذا تقدم القسم على الشرط ، وهذا اختيار أبي الحسن بن عصفور . والآخران لخرجنا هو جواب لو ، وجواب القسم هو لو وجوابها ، وهذا اختيار ابن مالك . إنْ لخرجنا يسد مسدهما ، فلا أعلم أحداً ذهب إلى ذلك . ويحتمل أن يتأوّل كلامه على أنه لما حذف جواب لو ، ودل عليه جواب القسم جعل ، كأنه سدَّ مسدَّ جواب القسم وجواب لو جميعاً . وقرأ الأعمش وزيد بن علي : لوُ استطعنا بضم الواو ، وفرّ من ثقل الكسرة على الواو وشبهها بواو الجمع عند تحريكها لالتقاء الساكنين . وقرأ الحسن : بفتحها كمتا جاء :{ اشْتَرَوُاْ الضَّلَالَةَ } بالأوجه الثلاثة يهلكون أنفسهم بالحلف الكاذب ، أي : يوقعونها في الهلاك به . والظاهر أنها جملة استئناف إخبار منه تعالى . وقال الزمخشري : يهلكون أنفسهم إما أن يكون بدلاً من سيحلفون ، أو حالاً بمعنى مهلكين . والمعنى : أنهم يوقعونها في الهلاك بحلفهم الكاذب ، وما يخلفون عليه من التخلف . ويحتمل أن يكون حالاً من قوله : لخرجنا أي ، لخرجنا معكم وإنْ أهلكنا أنفسنا وألقيناها في التهلكة بما يحملها من المسير في تلك الشقة ، وجاء به على لفظ الغائب لأنه مخبر عنهم . ألا ترى أنه لو قيل : سيلحفون باللّه لو استطاعوا لخرجوا لكان سديداً ؟ يقال : حلف باللّه ليفعلن ولأفعلن ، فالغيبة على حكم الإخبار ، والتكلم على الحكام انتهى . أما كون يهلكون بدلاً من سيحلفون فبعيد ، لأن الإهلاك ليس مرادفاً للحلف ، ولا هو نوع من الحلف ، ولا يجوز أنْ يبدل فعل من فعل إلا أن يكون مرادفاً له أو نوعاً منه . وأما كونه حالاً من قوله : لخرجنا ، فالذي يظهر أن ذلك لا يجوز ، لأن قوله لخرجنا فيه ضمير التكلم ، فالذي يجري عليه إنما يكون بضمير المتكلم . فلو كان حالاً من ضمير لخرجنا لكان التركيب : نهلكُ أنفسنا أي : مهلكي أنفسنا . وأما قياسه ذلك على حلف باللّه ليفعلنَّ ولأفعلنَّ فليس بصحيح ، لأنه إذا أجراه على ضمير الغيبة لا يخرج منهم إلى ضمير المتكلم ، لو قلت : حلف زيد ليفعلن وأنا قائم ، على أن يكون وأنا قائم حالاً من ضمير ليفعلن لم يجز ، وكذا عكسه نحو : حلف زيد لأفعلن يقوم ، تريد قائماً لم يجز . وأما قوله : وجاء به على لفظ الغائب لأنه مخبر عنهم فهي مغالطة ليس مخبراً عنهم بقوله : لو استطعنا لخرجنا معكم ، بل هو حاك لفظ قولهم . ثم قال : ألا ترى لو قيل : لو استطاعوا لخرجوا لكان سديداً إلى آخره كلام صحيح ، لكنه تعالى لم يقل ذلك إخباراً عنهم ، بل حكاية . والحال من جملة كلامهم المحكي ، فلا يجوز أن يخالف بين ذي الحال وحاله لاشتراكهما في العامل . لو قلت : قال زيد : خرجت يضرب خالداً ، تريد اضرب خالداً ، لم يجز . ولو قلت : قالت هند : خرج زيد أضرب خالداً ، تريد خرج زيد ضارباً خالداً ، لم يجز . ٤٣{عَفَا اللّه عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ } : قال ابن عطية : هذه الآية في صنف مبالغ في النفاق . واستأذنوا دون اعتذار منهم : عبد اللّه بن أبيّ ، والجد بن قيس ، ورفاعة بن التابوت ، ومن اتبعهم . فقال بعضهم : ائذن لي ولا تفتني . وقال بعضهم : ائذن لنا في الإقامة ، فأذن لهم استبقاءً منه عليهم ، وأخذا بالأسهل من الأمور ، وتوكلا على اللّه . قال مجاهد : قال بعضهم : نستأذنه ، فإن أذن في القعود قعدنا ، وإن لم يأذن فعدنا ، فنزلت الآية في ذلك انتهى . وقال أبو عبد اللّه إبراهيم بن عرفة النجوي الداودي المنبوذ بنفطويه : ذهب ناس إلى أنّ النبي صلى اللّه عليه وسلم معاتب بهذه الآية ، وحاشاه من ذلك ، بل كان له أن يفعل وأن لا يفعل حتى ينزل عليه الوحي كما قال :{ لَوْ } لأنه كان له أن يفعل وأن لا يفعل . وقد قال اللّه تعالى :{ تُرْجِى مَن تَشَاء مِنْهُنَّ وَتُؤْوِى إِلَيْكَ مَن تَشَاء } لأنه كان له أن يفعل ما يشاء مما لم ينزل عليه فيه وحي . واستأذنه المخلفون في التخلف واعتذروا ، اختار أيسر الأمرين تكرماً وتفضلاً منه صلى اللّه عليه وسلم ، فأبان اللّه تعالى أنه لو لم يأذن لهم لأقاموا للنفاق الذي في قلوبهم ، وأنهم كاذبون في إظهار الطاعة والمشاورة ، فعفا اللّه عنك عنده افتتاح كلام أعلمه اللّه به ، أنه لا حرج عليه فيما فعله من الإذن ، وليس هو عفواً عن ذنب ، إنما هو أنه تعالى أعلمه أنه لا يلزمه ترك الإذن لهم كما قال صلى اللّه عليه وسلم : { عفا اللّه لكم عن صدقة الخيل والرقيق } وما وجبتا قط ومعناه : ترك أن يلزمكم ذلك انتهى . ووافقه عليه قوم فقالوا : ذكر العفو هنا لم يكن عن تقدم ذنب ، وإنما هو استفتاح كلام جرت عادة العربان تخاطب بمثله لمن تعظمه وترفع من قدره ، يقصدون بذلك الدعاء له فيقولون : أصلح اللّه الأمير كان كذا وكذا ، فعلى هذا صيغته صيغة الخبر ، ومعناه الدعاء انتهى . ولم ولهم متعلقان بأذنت ، لكنه اختلف مدلول اللامين ، إذ لام لم للتعليل ، ولام لهم للتبليغ ، فجاز ذلك لاختلاف معنييهما . ومتعلق الإذن غير مذكور ، فما قدمناه يدل على أنه القعود أي : لم أذنت لهم في القعود والتخلف عن الغزو حتى تعرف ذوي العذر في التخلف ممن لا عذر له . وقيل : متعلق الإذن هو الخروج معه للغزو ، لما ترتب على خروجهم من المفاسد ، لأنهم كانوا عيناً للكفار على المسلمين . ويدل عليه قوله : { وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ } وكانوا يخذلون المؤمنين ويتمنون أن تكون الدائرة عليهم فقيل : لم أذنت لهم في إخراجهم وهم على هذه الحالة السيئة ؟ وبيّن أنّ خروجهم معه ليس مصلحة بقوله :{ لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً} وحتى غاية لما تضمنه الاستفهام أي : ما كان أن تأذن لهم حتى يتبين من له العذر ، هكذا قدره الحوفي . وقال أبو البقاء : حتى يتبين متعلق بمحذوف دل عليه الكلام تقديره : هلاّ أخرتهم إلى أن يتبين أو ليتبين . وقوله : لم أذنت لهم يدل على المحذوف . ولا يجوز أن تتعلق حتى بأذنت ، لأن ذلك يوجب أن يكون أذن لهم إلى هذه الغاية ، أو لأجل التبيين ، وهذا لا يعاتب عليه انتهى . وكلام الزمخشري في تفسير قوله : عفا اللّه عنك لم أذنت لهم ، مما يجب اطراحه ، فضلاً عن أن يذكر فيردّ عليه . وقوله : الذين صدقوا أي : في استئذانك . وأنك لو لم تأذن لهم خرجوا معك . وتعلم الكاذبين : تريد في أنهم استأذنوك يظهرون لك أنهم يقفون عند حدك وهم كذبة ، وقد عزموا على العصيان أذنت لهم أو لم تأذن . وقال الطبري : حتى نعلم الصادقين في أنّ لهم عذراً ، ونعلم الكاذبين في أنْ الأعذار لهم . وقال قتادة : نزلت بعد هذه الآية آية النور ، فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذنْ لمن شئت منهم . وهذا غلط ، لأنّ النور نزلت سنة أربع من الهجرة في غزوة الخندق في استئذان بعض المؤمنين الرسول في بعض شأنهم في بيوتهم في بعض الأوقات ، فأباح اللّه أن يأذن ، فتباينت الآيتان في الوقت والمعنى . ٤٤{لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّه وَالْيَوْمِ الاْخِرِ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللّه عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ } : قال ابن عباس : لا يستأذنك أي بعد غزوة تبوك . وقال الجمهور : ليس كذلك ، لأنّ ما قبل هذه الآية وما بعدها ورد في قصة تبوك ، والظاهر أن متعلق الاستئذان هو أن يجاهدوا أي : ليس من عادة المؤمنين أن يستأذنوك في أن يجاهدوا ، وكان الخلص من المهاجرين والأنصار لا يستأذنون النبي صلى اللّه عليه وسلم أبداً ، ويقولون : لنجاهدن معه بأموالنا وأنفسنا . وقيل : التقدير لا يستأذنك المؤمنون في الخروج ولا القعود كراهة أن يجاهدوا ، بل إذا أمرت بشيء ابتدروا إليه ، وكان الاستئذان في ذلك الوقت علامة على النفاق . وقوله : واللّه عليم بالمتقين ، شهادة لهم بالانتظام في زمرة المتقين ، وعدة لهم بأجزل الثواب . ٤٥{إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّه وَالْيَوْمِ الاْخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِى رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ } : هم المنافقون وكانوا تسعة وثلاثين رجلاً . ومعنى ارتابت : شكت . ويتردّدون : يتحيرون ، لا يتجه لهم هدى فتارة يخطر لهم صحة أمر الرسول ، وتارة يخطر لهم خلاف ذلك . ٤٦{وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لاعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَاكِن كَرِهَ اللّه انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ } قال ابن عباس : عدّة من الزاد والماء والراحلة ، لأنّ سفرهم بعيد في زمان حر شديد . وفي تركهم العدّة دليل على أنهم أرادوا التخلف . وقال قوم : كانوا قادرين على تحصيل العدّة والإهبة . وروى الضحاك عن ابن عباس : العدّة النية الخالصة في الجهاد . وحكى الطبري : كل ما يعد للقتال من الزاد والسلاح . وقرأ محمد بن عبد الملك بن مروان وابنه معاوية : عُدَّ بضم العين من غير تاء ، والفراء يقول : تسقط التاء للإضافة ، وجعل من ذلك وإقام الصلاة أي وإقامة الصلاة . وورد ذلك في عدة أبيات من لسان العرب ، ولكن لا يقيس ذلك ، إنما نقف فيه مع مورد السماع . قال صاحب اللوامح : لما أضاف جعل الكناية تائبة عن التاء فأسقطها ، وذلك لأنّ العد بغير تاء ، ولا تقديرها هو البثر الذي يخرج في الوجه . وقال أبو حاتم : هو جمع عدة كبرة وبر ودرة ودر ، الوجه فيه عدد ، ولكن لا يوافق خط المصحف . وقرأ ذر بن حبيش وإبان عن عاصم : عده بكسر العين ، وهاء إضمار . قال ابن عطية : وهو عندي اسم لما يعد كالذبح والقتل للعد ، وسمي قتلاً إذ حقه أن يقتل . وقرىء أيضاً : عبة بكسر العين ، وبالتاء دون إضافة أي : عدة من الزاد والسلاح ، أو مما لهم مأخوذ من العدد . ولما تضمنت الجملة انتفاء الخروج والاستعداد ، وجاء بعدها ولكن ، وكانت لا تقع إلا بين نقيضين أو ضدين أو خلافين على خلاف فيه ، لا بين متفقين ، وكان ظاهر ما بعد لكن موافقاً لما قبلها . قال الزمخشري: { فإن قلت } : كيف موقع حرف الاستدراك {قلت} : لما كان قوله : ولو أرادوا الخروج معطياً معنى نفي خروجهم واستعدادهم للغزو . قيل : ولكن كره اللّه انبعاثهم ، كأنه قيل : ما خرجوا ولكن تثبطوا عن الخروج لكراهة انبعاثهم ، كما تقول : ما أحسن إليّ زيد ولكن أساء إليّ انتهى . وليست اة ية نظير هذا المثال ، لأنّ المثال واقع فيه لكن بين ضدين ، والآية واقع فيها لكن بين متفقين من جهة المعنى ، والانبعاث الانطلاق والنهوض . قال ابن عباس : فثبطهم كسلهم وفتر نياتهم . وبنى وقيل للمفعول ، فاحتمل أن يكون القول : أذن الرسول لهم في القعود ، أو قول بعضهم لبعض إما لفظاً وإما معنى ، أو حكاية عن قول اللّه في سابق قضائه . وقال الزمخشري : جعل القاء اللّه تعالى في قلوبهم كراهة الخروج أمراً بالقعود . وقيل : هو من قول الشيطان بالوسوسة . قال : { فإن قلت } : كيف جاز أن يوقع اللّه تعالى في نفوسهم كراهة الخروج إلى الغزو وهي قبيحة ، وتعالى اللّه عن إلهام القبيح . { قلت} : خروجهم كان مفسدة لقوله تعالى : { لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً } فكان إيقاع كراهة ذلك الخروج في نفوسهم حسناً ومصلحة انتهى . وهذا السؤال والجواب على طريقة الاعتزال في المفسدة والمصلحة ، وهذا القول هو ذمٌّ لهم وتعجيز ، وإلحاق بالنساء والصبيان والزني الذين شأنهم القعود والجثوم في البيوت ، وهم القاعدون والخلفون والخوالف ، ويبينه قوله تعالى :{ رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوالِفِ } والقعود هنا عبارة عن التخلف والتراخي كما قال : دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي ٤٧{لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولاَوْضَعُواْ خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللّه عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ } : لما خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ضرب عسكره على ثنية الوداع ، وضرب عبد اللّه بن أبيّ عسكره أسفل منها ، ولم يكن بأقل العسكرين ، فلما سار تخلف عنه عبد اللّه فيمن تخلف فنزلت بعرى اللّه ورسوله إلى قوله : وهم كارهون . وفيكم أي : في جيشكم أو في جملتكم . وقيل : في بمعنى مع . قال ابن عباس : الخبال الفساد ومراعاة إخماد الكلمة . وقال الضحاك : المكر والغدر . وقال ابن عيسى : الاضطراب . وقال الكلبي : الشر ، وقاله : ابن قتيبة . وقيل : إيقاع الاختلاف والأراجيف ، وتقدّم شرح الخبال في آل عمران . وهذا الاستثناء متصل وهو مفرغ ، إذ المفعول الثاني لزاد لم يذكر ، وقد كان في هذه الغزوة منافقون كثير ، ولهم لا شك خبال ، فلو خرج هؤلاء لتألبوا فزاد الخبال . وقال الزمخشري : المستثنى منه غير مذكور ، فالاستثناء من أعم العام الذي هو الشيء ، فكان هو استثناء متصلاً لأنّ بعض أعم العام ، كأنه قيل : ما زادوكم شيئاً إلا خبالاً . وقيل : هو استثناء منقطع ، وهذا قولمن قال : إنه لم يكن في عسكر الرسول خبال . فالمعنى : ما زادوكم قوة ولا شدة لكن خبالاً . وقرأ ابن أبي عبلة : ما زادوكم بغير واو ، ويعني : ما زادكم خروجهم إلا خبالاً . والإيضاع الإسراع قال : أرانا موضعين لأمر غيب ونسحر بالطعام وبالشراب ويقال : وضعت الناقة تضع وضعاً ووضوعاً قال : يا ليتني فيها جذع أخب فيها وأضع قال الحسن : معناه لأسرعوا بالنميمة . وقرأ محمد بن القاسم : لأسرعوا بالفرار . ومفعول أوضعوا محذوف تقديره : ولا وضعوا ركائبكم بينكم ، لأن الراكب أسرع من الماشي . وقرأ مجاهد ومحمد بن زيد : ولا وفضوا أي أسرعوا كقوله : { إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ } وقرأ ابن الزبير : ولا رفضوا بالراء من رفض أسرع في مشيه رفضاً ورفضاناً قال حسان : بزجاجة رفضت بما في جوفها رفض القلوص براكب مستعجل وقال غيره : والرافضات إلى منى فالقبقب والخلاف جمع الخلل ، وهو الفرجة بين الشيئين . وقال الأصمعي : تخللت القوم دخلت بين خللّهم وخلالهم ، وجلسنا خلال البيوت وخلال الدور أي : بينها ، ويبغون حال أي : باغين . قال الفراء : يبغونها لكم . والفتنة هنا الكفر قاله : مقاتل ، وابن قتيبة ، والضحاك . أو العيب والشر قاله : الكلبي . أو تفريق الجماعة أو المحنة باختلاف الكلمة أو النميمة . وقال الزمخشري : يحاولون أن يفتنوكم بأن يوقعوا الخلاف فيما بينكم ، ويفسدوا نياتكم في مغزاكم . وفيكم سماسعون لهم أي : ضامون يسمعون حديثكم فينقلونه إليهم ، أو فيكم قوم يستمعون للمنافقين ويطيعونهم انتهى . فاللام في القول الأول للعليل ، وفي الثاني لتقوية التعدية كقوله :{ فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ } والقول الأول قاله : سفيان بن عيينة ، والحسن ، ومجاهد ، وابن زيد ، قالوا : معناه جواسيس يستمعون الأخبار وينقلونها إليهم ، ورجحه الطبري . والقول الثاني قول الجمهور قالوا : معناه وفيكم مطيعون سماعون لهم . ومعنى وفيكم في خلالكم منهم ، أو منكم ممن قرب عهده بالإسلام . واللّه عليم بالظالمين يعم كل ظالم . ومعنى ذلك : أنه يجازيه على ظلمه . واندرج فيه من يقبل كلام المنافقين ، ومن يؤدي إليهم أخبار المؤمنين ، ومن تخلف عن هذه الغزاة من المنافقين . ٤٨{لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الامُورَ حَتَّى جَاء الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللّه وَهُمْ كَارِهُونَ } تقدّم ذكر السبب في نزول هذه الآية والتي قبلها من قصة رجوع عبد اللّه بن أبي وأصحابه في هذه الغزاة ، حقّر شأنهم في هذه الآية ، وأخبر أنهم قديماً سعوا على الإسلام فأبطل اللّه سعيهم ، وفي الأمور المقلبة أقوال . قال ابن عباس : بغوا لك الغوائل . وقال ابن جريج : وقف اثنا عشر من المنافقين على التثنية ليلة العقبة كي يفتكوا به . وقال أبو سليمان الدمشقي : احتالوا في تشتيت أمرك وإبطال دينك . قال ابن جريج : كانصراف ابن أبيّ يوم أحد بأصحابه . ومعنى من قبل أي : منن قبل هذه الغزاة ، وذلك ما كان من حالهم وقت هجرة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ورجوعهم عنه في أحد وغيرها . وتقليب الأمور : هو تدبيرها ظهر البطن ، والنظر في نواحيها وأقسامها ، والسعي بكل حيلة . وقيل : طلب المكيدة من قولهم : هو حول قلب . وقرأ مسلمة بن محارب : وقلبوا بتخفيف اللام . حتى جاء الحق أي : القرآن وشريعة الرسول صلى اللّه عليه وسلم. ولفظة جاء مشعرة بأنه كان قد ذهب . وظهر أمر اللّه وصفه بالظهور لأنه كان كالمستور أي : غلب وعلا دين اللّه . وهم كارهون لمجيء الحق وظهور دين اللّه . وفي ذلك تنبيه على أنه لا تأثير لمكرهم وكيدهم ، ومبالغتهم في إثارة الشر فإنهم مذ راموا ذلك رده اللّه في نحرهم ، وقلب مرادهم ، وأتى بضد مقصودهم ، فكما كان ذلك في الماضي كذا يكون في المستقبل . ٤٩{وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائْذَن لّي وَلاَ تَفْتِنّى أَلا فِى الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ } : نزلت في الجد بن قيس ، وذكر أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما أمر بالغزو إلى بلاد الروم حرض الناس فقال للجد بن قيس : { هل لك العام في جلاد بني الأصفر } وقال له وللناس : { اغزوا تغنموا بنات الأصفر} . فقال الجد : ائذن لي في التخلف ولا تفتني بذكربنات الأصفر ، فقد علم قومي أني لا أتمالك عن النساء إذا رأيتهم وتفتنني ، ولا تفتني بالنساء . هو قول ابن عباس ومجاهد وابن زيد . وقيل : ولا تفتني أي ولا تصعب عليّ حتى احتاج إلى مواقعة معصيتك فسهِّل عليّ ، ودعني غير مختلج . وقال قريباً منه الحسن وقتادة والزجاج قالوا : لا تكسبني الإثم بأمرك إياي بالخروج وهو غير متيسر لي ، فآثم بمخالفتك . وقال الضحاك : لا تكفرني بإلزامك الخروج معك . وقال ابن بحر : لا تصرفني عن شغلي معك هلك مالي وعيالي . وقيل : إنه قال : ولكنْ أعينك بمالي . ومتعلق الإذن محذوف تقديره : في القعود وفي مجاورته الرسول صلى اللّه عليه وسلم على نفاقه . وقرأ ورش : بتخفيف همزة إئذن لي بإبدالها واواً لضمة ما قبلها . وقال النحاس ما معناه : إذا دخلت الواو أو الفاء على أأئذن ، فهجاؤها في الخط ألف وذال ونون بغير ياء ، أو ثم فالهجاء ألف وياء وذال ونون ، والفرق أنَّ ثم يوقف عليها وتنفصل بخلافهما . وقرأ عيسى بن عمرو : لا تفتني بضم التاء الأولى من أفتن . قال أبو حاتم هي لغة تميم ، وهي أيضاً قراءة ابن السميقع ، ونسبها ابن مجاهد إلى إسماعيل المكي . وجمع الشاعر بين اللغتين فقال : لئن فتنتني فهي بالأمس أفتنت سعيداً فأمسى قد قلا كل مسلم والفتنة التي سقطوا فيها هي فتنة التخلف ، وظهور كفرهم ، ونفاقهم . ولفظة سقطوا تنبىء عن تمكن وقوعهم فيها . وقال قتادة : الإثم بخلافهم الرسول في أمره ، وإحاطة جهنم بهم إما يوم القيامة ، أو الآن على سبيل المجاز . لأنّ أسباب الإحاطة معهم فكأنهم في وسطها ، أو لأنّ مصيرهم إليها . ٥٠{إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ } : قال ابن عباس : الحسنة في يوم بدر ، والمصيبة يوم أحد . وينبغي أن يحمل قوله على التمثيل ، واللفظ عام في كل محبوب ومكروه ، وسياق الحمل يقتضي أن يكون ذلك في الغزو ، ولذلك قالوا : الحسنة الظفر والغنيمة ، والمصيبة الخيبة والهزيمة ، مثل ما جرى في أول غزوة أحد . ومعنى أمرنا الذي نحن متسمون به من الحذر والتيقظ والعمل بالحزم في التخلف عن الغزو ، من قبل ما وقع من المصيبة . ويحتمل أن يكون التولي حقيقة أي : ويتولوا عن مقام التحديث بذلك ، والاجتماع له إلى أهليهم وهم مسرورون . وقيل : أعرضوا عن الإيمان . وقيل : عن الرسول ، فيكون التولي مجازاً . ٥١{قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّه لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللّه فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } : قرأ ابن مسعود وابن مصرف : هل يصيبنا مكان لن يصيبنا . وقرأ ابن مصرف أيضاً وأعين قاضي الرّي : هل يصيبنا بتشديد الياء ، وهو مضارع فيعل نحو : بيطر ، لا مضارع فعل ، إذ لو كان كذلك لكان صوّب مضاعف العين . قالوا : صوب رأيه لما بناه على فعل ، لأنه من ذوات الواو . وقالوا : صاب يصوب ومصاوب جمع مصيبة ، وبعض العرب يقول : صاب السهم يصيب ، جعله من ذوات الياء ، فعلى هذا يجوز أن يكون يصيبنا مضارع صيب على وزن فعل ، والصيب يحتمل أن يكون كسيدوكلين . وقال عمرو بن شقيق : سمعت أعين قاضي الري يقول : قل لن يصيبنا بتشديد النون . قال أبو حاتم : ولا يجوز ذلك ، لأن النون لا تدخل مع لن ، ولو كانت لطلحة بن مصرف الحارث ، لأنها مع هل . قال تعالى :{ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ } انتهى . ووجه هذه القراءة تشبيه لن بلا وبلم ، وقد سمع لحاق هذه النون بلا وبلم ، فلما شاركتهما لن في النفي لحقت معها نون التوكيد ، وهذا توجيه شذوذ . أي : ما أصابنا فليس منكم ولا بكم ، بل اللّه هو الذي أصابنا وكتب أي : في اللوح المحفوظ أو في القرآن من الوعد بالنصر ، ومضاعفة الأجر على المصيبة ، أو ما قضى وحكم ثلاثة أقوال : هو مولانا ، أي ناصرنا وحافظنا قاله الجمهور . وقال الكلبي : أولى بنا من أنفسنا في الموت والحياة . وقيل : مالكنا وسيدنا ، فلهذا يتصرف كيف شاء . فيجب الرضا بما يصدر من جهته . وقال ذلك بأن اللّه مولى الذين آمنوا ، وأن الكافرين لا مولى لهم ، فهو مولانا الذي يتولانا ونتولاه . ٥٢{قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّه بِعَذَابٍ مّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ } : أي ما ينتظرون بنا إلا إحدى العاقبتين ، كل واحدة منهما هي الحسنى من العواقب : إما النصرة ، وإما الشهادة . فالنصرة مآلها إلى الغلبة والاستيلاء ، والشهادة مآلها إلى الجنة . وقال ابن عباس : إنّ الحسينيين الغنيمة والشهادة . وقيل : الأجر والغنيمة . وقيل : الشهادة والمغفرة . وفي الحديث : { تكفل اللّه لمن جاهد في سبيله لا يخرجه من بيته إلا الجهاد في سبيله ، وتصديق كلمته أن يدخل الجنة ، أو رجعه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر وغنيمة ، والعذاب من عند اللّه } قال ابن عباس : هو هنا الصواعق . وقال ابن جريج : الموت . وقيل : قارعة من السماء تهلكهم كما نزلت على عاد وثمود . قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون توعداً بعذاب الآخرة ، أو بأيدينا بالقتل على الكفر . فتربصوا مواعيد الشيطان إنا معكم متربصون إظهار دينه واستئصال من خالفه ، قاله الحسن . وقال الزمخشري : فتربصوا بنا ما ذكرنا من عواقبنا أنا معكم متربصون ما هو عاقبتكم ، فلا بد أنْ نلقى كلنا ما نتربصه لا نتجاوزه انتهى . وهو أمر يتضمن التهديد والوعيد . وقرأ ابن محيصن الأحدي : بإسقاط الهمزة . قال ابن عطية : فوصل ألف إحدى وهذه لغة وليست بالقياس ، وهذا نحو قول الشاعر : يابا المغيرة رب أمر معضل ونحو قول الآخر : إن لم أقاتل فالبسني برقعا انتهى . ٥٣{قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ } : قرأ الأعمش وابن وثاب : كرهاً بضم الكاف ، ويعني : في سبيل اللّه ووجوه البر . قيل : وهو أمر ومعناه التهديد والتوبيخ . وقال الزمخشري : هو أمر في معنى الخبر كقوله تعالى :{ قُلْ مَن كَانَ فِى الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً } ومعناه لن يتقبل منكم أنفقتم طوعاً أو كرهاً . ونحوه قوله تعالى :{ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ } وقوله : أسيىء بنا أو أحسنى لا ملومة . أي لن يغفر اللّه لهم استغفرت لهم أو لا تستغفر لهم ، ولا نلومك أسأت إلينا أم أحسنت انتهى . وعن بعضهم غير هذا بأن معناه الجزاء والشرط أي : إنْ تتفقوا طوعاً أو كرهاً لم يتقبل منك ، وذكر الآية وبيت كثير على هذا المعنى . قال ابن عطية : أنفقوا أمر في ضمنه جزاء ، وهذا مستمر في كل أمر معه جزاء ، والتقدير : إنْ تنفقوا لن نتقبل منكم . وأما إذا عرى الأمر من الجواب فليس يصحبه تضمن الشرط انتهى . ويقدح في هذا التخريج أنّ الأمر إذا كان فيه معنى الشرط كان الجواب كجواب الشرط ، فعلى هذا يقتضي أن يكون التركيب فلن يتقبل بالفاء ، لأنّ لن لا تقع جواباً للشرط إلا بالفاء ، فكذلك ما ضمن معناه . ألا ترى جزمه الجواب في مثل اقصد زيداً يحسن إليك ، وانتصب طوعاً أو كرهاً على الحال ، والطوع أن يكون من غير إلزام اللّه ورسوله ، والكره إلزام ذلك . وسمَّى الإلزام كراهاً لأنهم منافقون ، فصار الإلزام شاقاً عليهم كالإكراه . أو يكون من غير إلزام من رؤسائكم ، أو إلزام منهم لأنهم كانوا يحملونهم على الإنفاق لما يرون فيه من المصلحة . والجمهور على أنّ هذه نزلت بسبب الجد بن قيس حين استأذن في القعود وقال : هذا مالي أعينك به . وقال ابن عباس : فيكون من إطلاق الجمع على الواحد أوله ولمن فعل فعله . فقد نقل البيهقي وغيره من الأئمة أنهم كانوا ثلاثة وثمانين رجلاً ، استثنى منهم الثلاثة الذين خلفوا وأهلك الباقون ، ونفى التقبل إما كون الرسول لم يقبله منهم ورده ، وإما كون اللّه لا يثيب عليه ، وعلل انتفاء التقبل بالفسق . قال الزمخشري : وهو التمرد والعتو ، والأولى أن يحمل على الكفر . قال أبو عبد اللّه الرازي : هذه إشارة إلى أنّ عدم القبول معلل بكونهم فاسقين ، فدلَّ على أن الفسق يؤثر في إزالة هذا المعنى . وأكد الجبائي ذلك بدليله المشهور في هذه المسألة ، وهو أن الفسق يوجب الذم والعقاب الدائمين ، والطاعة توجب المدح والثواب الدائمين ، والجمع بينهما محال . فكان الجمعُ بين استحقاقهما محالاً ، وقد أزال اللّه هذه الشبهة بقوله :{ وَمَا مَنَعَهُمْ } الآية وأن تصريح هذا اللفظ لا يؤثر في القول إلا الكفر . ودل ذلك على أن مطلق الفسق لا يحبط الطاعات ، فنفى تعالى أنّ عدم القبول ليس معللاً بعموم كونه فسقاً ، بل بخصوص وصفه وهو كون ذلك الفسق كفراً ، فثبت أنّ استدلال الجبائي باطل انتهى . وفيه بعض تلخيص . ٥٤{وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلا أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّه وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلَواةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ} ذكر السبب الذي هو بمفرده مانع من قبول نفقاتهم وهو الكفر ، وأتبعه بما هو ناشىء عن الكفر ومستلزم له وهو دليل عليه . وذلك هو إتيان الصلاة وهم كسالى ، وإيتاء النفقة وهم كارهون . فالكسل في الصلاة وترك النشاط إليها وأخذها بالإقبال من ثمرات الكفر ، فإيقاعها عندهم لا يرجون به ثواباً ، ولا يخافون بالتفريط فيها عقاباً . وكذلك الإنفاق للأموال لا يكرهون ذلك إلا وهم لا يرجون به ثواباً . وذكر من أعمال البر هذين العملين الجليلين وهما الصلاة والنفقة ، واكتفى بهما وإن كانوا أفسد حالاً في سائر أعمال البر ، لأنّ الصلاة أشرف الأعمال البدنية ، والنفقة في سبيل اللّه أشرف الأعمال المالية ، وهما وصفان المطلوب إظهارهما في الإسلام ، ويستدل بهما على الإيمان ، وتعداد القبائح يزيد الموصوف بها ذماً وتقبيحاً . وقرأ الأخوان وزيد بن علي : أن يقبل بالياء ، وباقي السبعة بالتاء ، ونفقاتهم بالجميع ، وزيد بن علي بالإفراد . وقرأ الأعرج بخلاف عنه : أن تقبل بالتاء من فوق نفقتهم بالإفراد . وفي هذه القراءات الفعل مبني للمفعول . وقرأت فرقة : أن نقبل منهم نفقتهم بالنون ونصب النفقة . قال الزمخشري : وقراءة السلمي أن نقبل منهم نفقاتهم على أنّ الفعل للّه تعالى انتهى . والأولى أن يكون فاعل منع قوله : ألا أنهم أي كفرهم ، ويحتمل أن يكون لفظ الجلالة أي : وما منعهم اللّه ، ويكون إلا أنهم تقديره : إلا لأنهم كفروا . وأن تقبل مفعول ثان إما لوصول منع إليه بنفسه ، وإما على تقدير حذف حرف الجر ، فوصل الفعل إليه . ٥٥{فَلا كَارِهُونَ فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلاَ أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّه لِيُعَذّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ } : لما قطع رجاء المنافقين عن جميع منافع الآخرة ، بيّن أن الأشياء التي يظنونها من باب منافع الدنيا جعلها اللّه تعالى أسباباً ليعذبهم بها في الدنيا أي : ولا يعجبك أيها السامع بمعنى لا يستحسن ولا يفتتن بما أوتوا من زينة الدنيا كقوله :{ وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ } وفي هذا تحقير لشأن المنافقين . قال ابن عباس وقتادة ومجاهد والسدي وابن قتيبة : في الكلام تقديم وتأخير ، والمعنى : فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا ، إنما يريد اللّه ليعذبهم بها في الآخرة انتهى . ويكون إنما يريد اللّه ليعذبهم بها جملة اعتراض فيها تشديد للكلام وتقوية لانتفاء الإعجاب ، لأنّ من كان مآل إتيانه المال والولد للتعذيب لا ينبغي أن تستحسن حاله ولا يفتتن بها ، إلا أنّ تقييد الإيجاب المنهى عنه الذي يكون ناشئاً عن أموالهم وأولادهم من المعلوم أنه لا يكون إلا في الحياة الدنيا ، فنفى ذلك ، كأنه زيادة تأكيد بخلاف التعذيب ، فإنه قد يكون في الدنيا كما يكون في الآخرة ، ومع أن التقديم والتأخير لخصه أصحابنا بالضرورة . وقال الحسن : الوجه في التعذيب إنه بما ألزمهم فيها من أداء الزكاة والنفقة في سبيل اللّه ، فالضمير في قوله : بها ، عائد في هذا القول على الأموال فقط . وقال ابن زيد وغيره : التعذيب هو مصائب الدنيا ورزاياها هي لهم عذاب ، إذ لا يؤجرون عليها انتهى . ويتقوى هذا القول بأنّ تعذيبهم بإلزام الشريعة أعظم من تعذيبهم بسائر الرزايا ، وذلك لاقتران الذلة والغلبة وأمر الشريعة لهم قاله : ابن عطية ، وقد جمع الزمخشري هذا كله فقال : إنما أعطاهم ما أعطاهم للعذاب بأن عرضهم للمغنم والسبي ، وبلاهم فيه بالآفات والمصائب ، وكلفهم الإنفاق منه في أبواب الخير وهم كارهون له على رغم أنوفهم ، وأذاقهم أنواع الكلف والمجاشم في جمعه واكتسابه وفي تربية أولادهم . وقيل : أموالهم التي ينفقونها فإنها لا تقبل منهم ولا أولادهم المسلمون ، مثل عبد اللّه بن عبد اللّه بن أبي وغيره ، فإنهم لا ينفعون آباءهم المنافقين حكاه القشيري . وقيل : يتمكن حب المال من قلوبهم ، والتعب في جمعه ، والوصل في حفظه ، والحسرة على تخلفته عند من لا يحمده ، ثم يقدم على ملك لا يعذره . وقدم الأموال على الأولاد لأنها كانت أعلق بقلوبهم ، ونفوسهم أميل إليها ، فإنهم كانوا يقتلون أولادهم خشية ذهاب أموالهم . قال تعالى :{ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} قال الزمخشري: { فإن قلت } : إن صح تعليق العذاب بإرادة اللّه تعالى ، فما بال زهوق أنفسهم وهم كافرون ؟ { قلت} : المراد الاستدراج بالنعم كقوله تعالى : { إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً} كأنه قيل : ويريد أن يديم عليهم نعمته إلى أن يموتوا وهم كافرون ملتهون بالتمتع عن النظر للعاقبة انتهى . وهو بسط كلام ابن عيسى وهو الرماني ، وهما كلاهما معتزليان . قال ابن عيسى : المعنى إنما يريد اللّه أن يملي لهم ويستدرجهم ليعذبهم انتهى . وهي نزغة اعتزالية . والذي يظهر من حيث عطف وتزهق على ليعذب أن المعنى ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، ونبه على عذاب الآخرة بعلته وهو زهوق أنفسهم على الكفر ، لأنّ من مات كافراً عذب في الآخرة لا محالة . والظاهر أن زهوق النفس هنا كناية عن الموت . قال ابن عطية : ويحتمل أن يريد وتزهق أنفسهم من شدة التعذيب الذي يننالهم . ٥٦{وَيَحْلِفُونَ بِاللّه إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مّنكُمْ وَلَاكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ } : أي لمن جملة المسلمين . وأكذبهم اللّه بقوله : وما هم منكم . ومعنى يفرقون : يخافون القتل . وما يفعل بالمشركين فيتظاهرون بالإسلام تقية ، وهم يبطنون النفاق ، أو يخافون اطلاع اللّه المؤمنين على بواطنهم فيحل بهم ما يحل بالكفار . ولما حقر تعالى شأن المنافقين وأموالهم وأولادهم عاد إلى ذكر مصالحهم وما هم عليه من خبث السريرة فقال : ويحلفون باللّه على الجملة لا على التعيين ، وهي عادة اللّه في ستر أشخاص العصاة . ٥٧{لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأَ أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ } : لما ذكر فرق المنافقين من المؤمنين أخبر بما هم عليه معهم مما يوجبه الفرق وهو أنهم لو أمكنهم الهروب منهم لهربوا ، ولكنْ صحبتهم لهم صحبة اضطرار لا اختيار . قال ابن عباس : الملجأ الحرز . وقال قتادة : الحصن . وقال السدي : المهرب . وقال الأصمعي : المكان الذي يتحصن فيه . وقال ابن كيسان : القوم يأمنون منهم . والمغارات جمع مغارة وهي الغار ، ويجمع على غيران بني من غار يغور إذا دخل مفعلة للمكان كقولهم : مزرعة . وقيل : المغارة السرب تحت الأرض كنفق اليربوع . وقرأ سعد بن عبد الرحمن بن عوف : مغارات بضم الميم ، فيكون من أغار . قيل : وتقول العرب : غار الرجل وأغار بمعنى دخل ، فعلى هذا يكون مغارات من أغار اللازم . ويجوز أن يكون من أغار المنقول بالهمزة من غار ، أي أماكن في الجبال يغيرون فيها أنفسهم . وقال الزجاج : ويصح أن يكون من قولهم : جبل مغار أي مفتول . ثم يستعار ذلك في الأمر المحكم المبرم ، فيجيء التأويل على هذا لو يجدون نصرة أو أموراً مرتبطة مشدّدة تعصمهم منكم أو مدّخلاً لولوا إليه . وقال الزمخشري ويجوز أن يكون من أغار الثعلب إذا أسرع ، بمعنى مهارب ومغارّ انتهى . والمدّخل قال مجاهد : المعقل يمنعهم من المؤمنين . وقال قتادة : السرب يسيرون فيه على خفاء . وقال الكلبي : نفقاً كنفق اليربوع . وقال الحسن : وجهاً يدخلون فيه على خلاف الرسول . وقيل : قبيلة يدخلون فيها تحميهم من الرسول ومن المؤمنين . وقال الجمهور : مدّخلاً وأصله مدتخل ، مفتعل من ادّخل ، وهو بناء تأكيد ومبالغة ، ومعناه السرب والنفق في الأرض قاله : ابن عباس . بدىء أولاً بالأعم وهو الملجأ ، إذ ينطلق على كل ما يلجأ إليه الإنسان ، ثم ثنى بالمغارات وهي الغيران في الجبال ، ثم أتى ثالثاً بالمدّخل وهو النفق باطن الأرض . وقال الزجاج : المدّخل قوم يدخلونهم في جملتهم . وقرأ الحسن ، وابن أبي إسحاق ، ومسلمة بن محارب ، وابن محيصن ، ويعقوب ، وابن كثير بخلاف عنه : مدخلاً بفتح الميم من دخل . وقرأ محبوب عن الحسن : مدخلاً بضم الميم من أدخل . وروى ذلك عن الأعمش وعيسى ابن عمر . وقرأ قتادة ، وعيسى بن عمر ، والأعمش : مدخلاً بتشديد الدال والخاء معاً أصله متدخل ، فأدغمت التاء في الدال . وقرأ أبي مندخلاً بالنون من اندخل . قال : ولا يدي في حميت السمن تندخل وقال أبو حاتم : قراءة أبي متدخلاً بالتاء . وقرأ الأشهب العقيلي : لوالوا إليه لتابعوا إليه وسارعوا . وروي ابن أبي عبيدة بن معاوية بن نوفل ، عن أبيه ، عن جده وكانت له صحبة أنه قرأ لوالوا إليه من الموالاة ، وأنكرها سعيد بن مسلم وقال : أظنها لو ألوا بمعنى للجأوا . وقال أبو الفضل عبد الرحمن بن أحمد الرازي : وهذا مما جاء فيه فاعل وفعل بمعنى واحد ، ومثله ضاعف وضعف انتهى . وقال الزمخشر : وقرأ أبي بن كعب متدخلاً لوالوا إليه لا لتجأوا إليه انتهى . وعن أبيّ لولوا وجوههم إليه . ولما كان العطف بأو عاد الضمير إليه مفرداً على قاعدة النحو في أو ، فاحتمل من حيث الصناعة أن يعود على الملجأ ، أو على المدخل ، فلا يحتمل على أن يعود في الظاهر على المغارات لتذكيره ، وأما بالتأويل فيجوز أن يعود عليها . وهم يجمحون يسرعون إسراعاً لا يردهم شيء . وقرأ أنس بن مالك والأعمش : وهم يجمزون . قيل : يجمحون ، ويجمزون ، ويشتدون واحد . و قال ابن عطية : يجمزون يهرولون ، ومنه قولهم في حديث الرجم : فلما إذ لقته الحجارة جمز . ٥٨{وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ } : اللامز حرقوص بن زهير التميمي ، وهو ابن ذي الخويصرة رأس الخوارج ، كان الرسول صلى اللّه عليه وسلم يقسم غنائم حنين فقال : إعدل يا رسول اللّه الحديث . وقيل : هو ابن الجواظ المنافق قال : ألا ترون إلى صاحبكم إنما يقسم صدقاتكم في رعاة الغنم . وقيل : ثعلبة بن حاطب كان يقول : إنما يعطى محمد قريشاً . وقيل : رجل من الأنصار أتى الرسول بصدقة يقسمها ، فقال : ما هذا بالعدل ؟ وهذه نزغة منافق . والمعنى : من يعيبك في قسم الصدقات . وضمير ومنهم للمنافقين ، والكاف للرسول . وهذا الترديدين الشرطين يدل على دناءة طباعهم ونجاسة أخلاقهم ، وإن لمزهم الرسول إنما هو لشرههم في تحصيل الدنيا ومحبة المال ، وأنّ رضاهم وسخطهم إنما متعلة العطاء . والظاهر حصول مطلق الإعطاء أو نفيه . وقيل : التقدير فإن أعطوا منها كثيراً يرضوا ، وإن لم يعطوا منها كثيراً بل قليلاً ، وما أحسن مجيء جواب هذين الشرطين ، لأنّ الأول لا يلزم أن يقارنه ولا أن يعتقبه ، بل قد يجوز أن يتأخر نحو : إن أسلمت دخلت الجنة ، فإنما يقتضي مطلق الترتب . وأما جواب الشرط الثاني فجاء إذا الفجائية ، وأنه إذا لم يعطوا فاجأ سخطهم ، ولم يمكن تأخره لما جبلوا عليه من محبة الدنيا والشره في تحصيلها . ومفعول رضوا محذوف أي : رضوا ما أعطوه . وليس المعنى رضوا عن الرسول لأنهم منافقون ، ولأنّ رضاهم وسخطهم لم يكن لأجل الدين ، بل للدنيا . وقرأ الجمهور : يلمزك بكسر الميم . وقرأ يعقوب وحماد بن سلمة عن ابن كثير والحسن وأبو رجاء وغيرهم : بضمها ، وهي قراءة المكيين ، ورويت عن أبي عمرو . وقرأ الأعمش : يلمزك . وروى أيضاً حماد بن سلمة عن ابن كثير : يلامزك ، وهي مفاعلة من واحد . وقيل : وفرق الرسول صلى اللّه عليه وسلم قسم أهل مكة في الغنائم استعطافاً لقلوبهم ، فضج المنافقون . ٥٩{وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا ءاتَاهُمُ اللّه وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّه سَيُؤْتِينَا اللّه مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللّه راغِبُونَ }: هذا وصف لحال المستقيمين في دينهم ، أي رضوا قسمة اللّه ورسوله وقالوا : كفانا فضل اللّه ، وعلقوا آمالهم بما سيؤتيه اللّه إياهم ، وكانت رغبتهم إلى اللّه لا إلى غيره . وجواب لو محذوف تقديره : لكان خيراً لهم في دينهم ودنياهم . وكان ذلك الفعل دليلاً على انتقالهم من النفاق إلى محض الإيمان ، لأنّ ذلك تضمن الرضا بقسم اللّه ، والإقرار باللّه وبالرسول إذ كانوا يقولون : سيؤتينا اللّه من فضله ورسوله . وقيل : جواب لو هو قوله : وقالوا على زيادة الواو ، وهو قول كوفي . قال الزمخشري : والمعنى : ولو أنهم رضوا ما أصابهم به الرسول من الغنيمة وطابت به نفوسهم وإن قل نصيبهم ، وقالوا : كفانا فضل اللّه تعالى وصنعه ، وحسبنا ما قسم لنا سيرزقنا غنيمة أخرى ، فسيؤتينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أكثر مما آتانا اليوم ، إنا إلى اللّه في أنْ يغنمنا ويخولنا فضله راغبون انتهى . وقال ابن عباس : راغبون فيما يمنحنا من الثواب ويصرف عنا من العقاب . وقال التبريزي : راغبون في أن يوسع علينا من فضله ، فيغنينا عن الصدقة وغيرها مما في أيدي الناس . وقيل : ما آتاهم اللّه بالتقدير ، ورسوله بالقسم انتهى . وأتى أولاً بمقام الرضا وهو فعل قلبي يصدر عمن علم أنه تعالى منزه عن العتب والخطأ عليم بالعواقب ، فكل قضائه صواب وحق ، لا اعتراض عليه . ثم ثنى بإظهار آثار الوصف القلبي وهو الإقرار باللسان ، فحسبنا ما رضي به . ثم أتى ثالثاً بأنه تعالى ما داموا في الحياة الدنيا مادّ لهم بنعمه وإحسانه ، فهو إخبار حسن إذ ما من مؤمن إلا ونعمُ اللّه مترادفة عليه حالاً ومآلاً ، إما في الدنيا ، وإما في الآخرة . ثم أتى رابعاً بالجملة المقتضية الالتجاء إلى اللّه لا إلى غيره ، والرغبة إليه ، فلا يطلب بالإيمان أخذ الأموال والرئاسة في الدنيا ولما كانت الجملتان متغايرتين وهما ما تضمن الرضا بالقلب ، وما تضمن الإقرار باللسان ، تعاطفتا . ولما كانت الجملتان الأخيرتان من آثار قولهم : حسبنا اللّه لم تتعاطفا ، إذ هما كالشرح لقولهم : حسبنا اللّه ، فلا تغاير بينهما . هذا وصف لحال المستقيمين في دينهم ، أي رضوا قسمة اللّه ورسوله وقالوا : كفانا فضل اللّه ، وعلقوا آمالهم بما سيؤتيه اللّه إياهم ، وكانت رغبتهم إلى اللّه لا إلى غيره . وجواب لو محذوف تقديره : لكان خيراً لهم في دينهم ودنياهم . وكان ذلك الفعل دليلاً على انتقالهم من النفاق إلى محض الإيمان ، لأنّ ذلك تضمن الرضا بقسم اللّه ، والإقرار باللّه وبالرسول إذ كانوا يقولون : سيؤتينا اللّه من فضله ورسوله . وقيل : جواب لو هو قوله : وقالوا على زيادة الواو ، وهو قول كوفي . قال الزمخشري : والمعنى : ولو أنهم رضوا ما أصابهم به الرسول من الغنيمة وطابت به نفوسهم وإن قل نصيبهم ، وقالوا : كفانا فضل اللّه تعالى وصنعه ، وحسبنا ما قسم لنا سيرزقنا غنيمة أخرى ، فسيؤتينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أكثر مما آتانا اليوم ، إنا إلى اللّه في أنْ يغنمنا ويخولنا فضله راغبون انتهى . وقال ابن عباس : راغبون فيما يمنحنا من الثواب ويصرف عنا من العقاب . وقال التبريزي : راغبون في أن يوسع علينا من فضله ، فيغنينا عن الصدقة وغيرها مما في أيدي الناس . وقيل : ما آتاهم اللّه بالتقدير ، ورسوله بالقسم انتهى . وأتى أولاً بمقام الرضا وهو فعل قلبي يصدر عمن علم أنه تعالى منزه عن العتب والخطأ عليم بالعواقب ، فكل قضائه صواب وحق ، لا اعتراض عليه . ثم ثنى بإظهار آثار الوصف القلبي وهو الإقرار باللسان ، فحسبنا ما رضي به . ثم أتى ثالثاً بأنه تعالى ما داموا في الحياة الدنيا مادّ لهم بنعمه وإحسانه ، فهو إخبار حسن إذ ما من مؤمن إلا ونعمُ اللّه مترادفة عليه حالاً ومآلاً ، إما في الدنيا ، وإما في الآخرة . ثم أتى رابعاً بالجملة المقتضية الالتجاء إلى اللّه لا إلى غيره ، والرغبة إليه ، فلا يطلب بالإيمان أخذ الأموال والرئاسة في الدنيا ولما كانت الجملتان متغايرتين وهما ما تضمن الرضا بالقلب ، وما تضمن الإقرار باللسان ، تعاطفتا . ولما كانت الجملتان الأخيرتان من آثار قولهم : حسبنا اللّه لم تتعاطفا ، إذ هما كالشرح لقولهم : حسبنا اللّه ، فلا تغاير بينهما . ٦٠{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِى الرّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِى سَبِيلِ اللّه وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مّنَ اللّه} : لما ذكر تعالى من يعيب الرسول في قسم الصدقات بأنه يعطي من يشاء ويحرم من يشاء ، أو يخص أقاربه ، أو يأخذ لنفسه ما بقي . وكانوا يسألون فوق ما يستحقون ، بيّن تعالى مصرف الصدقات ، وأنه صلى اللّه عليه وسلم إنما قسم على ما فرضه اللّه تعالى . ولفظه إنما إنْ كانت وضعت للحصر فالحصر مستفاد من لفظها ، وإن كانت لم توضع للحصر فالحصر مستفاد من الأوصاف ، إذ مناط الحكم بالوصف يقتضي التعليل به ، والتعليل بالشيء يقتضي الاقتصار عليه . والظاهر أنّ مصرف الصدقات هؤلاء الأصناف . والظاهر أن العطف مشعر بالتغاير ، فتكون الفقراء عين المساكين . والظاهر بقاء هذا الحكم للأصناف الثمانية دائماً ، إذ لم يرد نص في نسخ شيء منها . والظاهر أنه يعتبر في كل صنف منها ما دل عليه لفظه إن كان موجوداً ، والخلاف في كل شيء من هذه الظواهر . فأما أنّ مصرف الصدقات هؤلاء الأصناف ، فذهب جماعة من الصحابة والتابعين إلى أنه يجوز أن يقتصر على بعض هؤلاء الأصناف ، ويجوز أن يصرف إلى جميعها . فمن الصحابة : عمر ، وعليّ ، ومعاذ ، وحذيفة ، وابن عباس ، ومن التابعين النخعي ، وعمر بن عبد العزيز ، وأبو العالية ، وابن جبير ، قالوا : في أيّ صنف منها وضعتها أجزأتك . قال ابن جبير : لو نظرت إلى أهل بيت من المسلمين فقراء متعففين فخيرتهم بها كان أحب إليّ . قال الزمخشري : وعليه مذهب أبي حنيفة قال غيره : وأبي يوسف ، ومحمد ، وزفر ، ومالك . وقال جماعة من التابعين : لا يجوز الاقتصار على أحد هذه الأصناف منهم : زين العابدين علي بن الحسين ، وعكرمة ، والزهري ، بل يصرف إلى الأصناف الثمانية . وقد كتب الزهري لعمر بن عبد العزيز : يفرّقها على الأصناف الثمانية ، وهو مذهب الشافعي قال : إلا المؤلفة ، فإنهم انقطعوا . وأما أنّ الفقراء غير المساكين ، فذهب جماعة من السلف إلى أنّ الفقير والمسكين سواء لا فرق بينهما في المعنى ، وإن افترقا في الاسم ، وهما صنف واحد سمي باسمين ليعطي سهمين نظراً لهم ورحمة . قال في التحرير : وهذا هو أحد قولي الشافعي . وذهب الجمهور إلى أنهما صنفان يجمعهما الإقلال والفاقة ، واختلفوا فيما به الفرق . فقال الأصمعي وغيره منهم أحمد بن حنبل وأحمد بن عبيد الفقير : أبلغ فاقة . وقال غيره منهم أبو حنيفة ، ويونس بن حبيب ، وابن السكيت ، وابن قتيبة المسكين : أبلغ فاقة ، لأنه لا شيء له . والفقير من له بلغة من الشيء . وقال الضحاك : الفقراء هم من المهاجرين ، والمساكين من لم يهاجر . وقال النخعي نحوه . وقال عكرمة : الفقراء من المسلمين ، والمساكين من أهل الذمة . لا نقول لفقراء المسلمين مساكين . وروى عنه بالعكس حكاه مكي . وقال الشافعي في كتاب ابن المنذر : الفقير من لا مال له ولا حرفة ، سائلاً كان أو متعففاً . والمسكين الذي له حرفة أو مال ولكن لا يغنيه ذلك سائلاً كان أو غير سائل . وقال قتادة : الفقير الزمن المحتاج ، والمسكين الصحيح المحتاج . وقال ابن عباس : والحسن ، ومجاهد ، والزهري ، وابن زيد ، وجابر بن زيد ، والحكم ، ومقاتل ، ومحمد بن مسلمة : المساكين الذين يسعون ويسألون ، والفقراء هم الذين يتعاونون . وأما بقاء الحكم للأصناف الثمانية فذهب عمر بن الخطاب والحسن والشعبي وجماعة : إلى أنه انقطع صنف المؤلفة بعزة الإسلام وظهوره ، وهذا مشهور مذهب مالك وأبي حنيفة ، قال بعض الحنفيين : أجمعت الصحابة على سقوط سهمهم في خلافة أبي بكر لما أعز اللّه الإسلام وقطع دابر الكافرين . وقال القاضي عبد الوهاب : إن احتيج إليهم في بعض الأوقات أعطوا من الصدقات . وقال كثير من أهل العلم : المؤلفة قلوبهم موجودون إلى يوم القيامة . قال ابن عطية : وإذا تأملت الثغور وجدت فيها الحاجة إلى الائتلاف انتهى . وقال يونس : سألت الزهري عنهم فقال : لا أعلم نسخاً في ذلك . قال أبو جعفر النحاس : فعل هذا الحكم فيهم ثابت ، فإن كان أحد يحتاج إلى تألفه ويخاف أن تلحق المسلمين منه آفة أو يرجى حسن إسلامه بعدُ دفع إليه . وقال القاضي أبو بكر بن العربي : الذي عندي أنه إن قوي الإسلام زالوا ، وإن احتيج إليهم أعطوا سهمهم ، كما كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يعطيهم . فإن في الصحيح : { بدا الإسلام غريباً وسيعود كما بدا } وفي كتاب التحرير قال الشافعي : العامل والمؤلفة قلوبهم مفقودان في هذا الزمان ، بقيت الأصناف الستة ، فالأولى صرفها إلى الستة . وأما أنه يعتبر في كل صنف منها ما دل عليه لفظه إن كان موجوداً فهو مذهب الشافعي ، ذهب إلى أنه لا بد في كل صنف من ثلاثة ، لأن أقلّ الجمع ثلاثة ، فإن دفع سهم الفقراء إلى فقيرين ضمن نصيب الثالث وهو ثلث سهم . وقال أصحاب أبي حنيفة : يجوز أن يعطي جميع زكاته مسكيناً واحداً . وقال مالك : لا بأس أن يعطي الرجل زكاة الفطر عن نفسه وعياله واحداً ، واللام في للفقراء . قيل : للملك . وقيل : للاختصاص . والظاهر عموم الفقراء والمساكين ، فيدخل فيه الأقارب والأجانب وكل من اتصف بالفقر والمسكنة فأما ذو وقربى الرسول صلى اللّه عليه وسلم فقال أصحاب أبي حنيفة : تحرم عليهم الصدقة منهم : آل العباس ، وآل علي ، وآل جعفر ، وآل عقيل ، وآل الحرث بن عبد المطلب . وروى عن أبي حنيفة وليس بالمشهور أنّ فقراء بني هاشم يدخلون في آية الصدقة . وقال أبو يوسف : لا يدخلون . قال أبو بكر الرازي : المشهور عن أصحابنا أنهم من تقدم من آل العباس ومن ذكر معهم ، ويخص التحريم الفرض لا صدقة التطوع . وقال مالك : لا تحل الزكاة لآل محمد ، ويحلّ التطوع . وقال الثوري : لا تحل لبني هاشم ، ولم يذكر فرقاً بين النفل والفرض . وقال الشافعي : تحرم صدقة الفرض على بني هاشم وبني المطلب ، وتجوز صدقة التطوع على كل أحدٍ إلا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فإنه كان لا يأخذها . وقال ابن الماجشون ومطرف وأصبغ : وابن حبيب : لا يعطى بنو هاشم من الصدقة المفروضة ، ولا من التطوع . وقال مالك في الواضحة : لا يعطى آل محمد من التطوع . وأما أقارب المزكي فقال أصحاب أبي حنيفة : لا يعطى منها والد وإن علا ، ولا ابن وإن سفل ، ولا زوجة . وقال مالك والثوري والحسن بن صالح والليث : لا يعطى من تلزمه نفقته . وقال ابن شبرمة : لا يعطى قرابته الذين يرثونه ، وإنما يعطى من لا يرثه وليس في عياله . وقال الأوزاعي : لا يتخطى بزكاة ماله فقراء أقاربه إذا لم يكونوا من عياله ، ويتصدق على مواليه من غير زكاة ماله . وقال مالك والثوري وابن شبرمة والشافعي وأصحاب أبي حنيفة : لا يعطى الفرض من الزكاة . وقال عبيد اللّه بن الحسن : إذا لم يجد مسلماً أعطى الذمي ، فكأنه يعني الذمي الذي هو بين ظهرانيهم . وقال مالك وأبو حنيفة : لا تعطى الزوجة زوجها من الزكاة . وقال الثوري والشافعي وأبو يوسف ومحمد : تعطيه ، واختلفوا في المقدار الذي إذا ملكه الإنسان دخل به في حد الغنى وخرج عن حد الفقر وحرمت عليه الصدقة . فقال قوم : إذا كان عند أهله ما يغديهم ويعشيهم حرمت عليه الصدقة ، ومن كان عنده دون ذلك حلت له . وقال قوم : حتى يملك أربعين درهماً ، أوعد لها من الذهب . وقال قوم : حتى تملك خمسين درهماً أو عد لها من الذهب ، وهذا مروي عن علي وعبد اللّه والشعبي . قال مالك : حتى تملك مائتي درهم أو عد لها من عرض أو غره فاضلاً عما يحتاج إليه من مسكن وخادم وأثاث وفرش ، وهو قول أصحاب أبي حنيفة . فلو دفعها إلى من ظن أنه فقير فتبين أنه غنى ، أو تبين أن المدفوع إليه أبوه أو ذمي ولم يعلم بذلك وقت الدفع . فقال أبو حنيفة ومحمد : يجزئه . وقال أبو يوسف : لا يجزئه . والعامل هو الذي يستنيبه الإمام في السعي في جميع الصدقات ، وكل من يصرف ممن لا يستغنى عنه فيها فهو من العاملين ، ويسمى جابي الصدقة والساعي قال : إن السعاة عصوك حين بعثتهم لم يفعلوا مما أمرت فتيلا وقال : سعى عقالاً فلم يترك لنا سبدا فكيف لو قد سعى عمرو عقالين أراد بالعقال هنا زكاة السنة ، وتعدى بعلى ولم يقل فيها ، لأنّ على للاستعلاء . المشعر بالولاية . والجمهور على أن للعامل قدر سعيه ، ومؤنته من مال الصدقة . وبه قال مالك والشافعي في كتاب ابن المنذر ، وأبو حنيفة وأصحابه ، فلو تجاوز ذلك من الصدقة ، فقيل : يتم له من سائر الأنصباء . وقيل : من خمس الغنيمة . وقال مجاهد والضحاك والشافعي : هو الثمن على قسم القرآن . وقال مالك من رواية ابن أبي أويس وداود بن سعيد عنه : يعطون من بيت المال . واختلف في الإمام ، هل له حق في الصدقات ؟ فهمنهم من قال : هو العامل في الحقيقة ، ومنهم من قال : لا حق له فيها . والجمهور على أنّ أخذها مفوض للإمام ومن استنابه ، فلو فرقها المزكي بنفسه دون إذن الإمام أخذها منه ثانياً . وقال أبو حنيفة : لا يجوز أن يعمل على الصدقة أحد من بني هاشم ويأخذ عمالته منها ، فإن تبرع فلا خلاف بين أهل العلم في جوازه . وقال آخرون : لا بأس لهم بالعمالة من الصدقة . وقيل : إنْ عمل أعطيها من الخمس . والمؤلفة قلوبهم أشراف العرب مسلمون لم يتمكن الإيمان من قلوبهم ، أعطاهم ليتمكن الإيمان من قلوبهم ، أو كفار لهم اتباع أعطاهم ليتألفهم واتباعهم على الإسلام . قال الزهري : المؤلفة من أسلم من يهودي أو نصراني وإن كان غنياً فمن المؤلفة : أبو سفيان بن حرب ، وسهيل بن عمرو ، والحرث بن هشام ، وحويطب بن عبد العزى ، وصفوان بن أمية ، ومالك بن عوف النضري ، والعلاء بن حارثة الثقفي ، فهؤلاء أعطاهم الرسول صلى اللّه عليه وسلم مائة بعير مائة بعير . ومخرمة بن نوفل الزهري ، وعمير بن وهب الجمحي ، وهشام بن عمرو العابدي ، أعطاهم دون المائة . ومن المؤلفة : سعيد بن يربوع ، والعباس بن مرداس ، وزيد الخيل ، وعلقمة بن علانة ، وأبو سفيان الحرث بن عبد المطلب ، وحكيم بن حزام ، وعكرمة بن أبي جهل ، وسعيد بن عمرو ، وعيينة بن حصن . وحسن إسلام المؤلفة حاشا عيينة فلم يزل مغموصاً عليه . وأما قوله وفي الرقاب فالتقدير : وفي فك الرقاب فيعطي ما حصل به فك الرقاب من ابتداء عتق يشتري منه العبد فيعتق ، أو تخليص مكاتب أو أسير . وقال النخعي ، والشعبي ، وابن جبير ، وابن سيرين : لا يجزىء أن يعتق من الزكاة رقبة كاملة ، وهو قول أصحاب أبي حنيفة والليث والشافعي . وقال ابن عباس وابن عمر : أعتق من زكاتك . وقال ابن عمر والحسن وأحمد وإسحاق : يعتق من الزكاة ، وولاؤه لجماعة المسلمين لا للمعتق . وعن مالك والأوزاعي : لا يعطي المكاتب من الزكاة شيئاً ، ولا عبد كان مولاه موسراً أو معسراً . وعن ابن عباس والحسن ومالك : هو ابتداء العتق وعون المكاتب بما يأتي على حريته . والجمهور على أنّ المكاتبين يعانون في فك رقابهم من الزكاة . ومذهب أبي حنيفة وابن حبيب : أنّ فك رقاب الأساري يدخل في قوله : وفي الرقاب ، فيصرف في فكاكها من الزكاة . وقال الزهري : سهم الرقاب نصفان : نصف للمكاتبين ، ونصف يعتق منه رقاب مسلمون ممن صلى . والغارم من عليه دين قاله : ابن عباس ، وزاد مجاهد وقتادة : في غير معصية ولا إسراف . والجمهور على أنه يقضي منها دين الميت إذ هو غارم . وقال أبو حنيفة وابن المواز : لا يقضى منها . وقال أبو حنيفة : ولا يقضي منها كفارة ونحوها من صنوف اللّه تعالى ، وإنما الغارم من عليه دين يحبس فيه . وقيل : يدخل في الغارمين من تحمل حمالات في إصلاح وبر وإن كان غنياً إذا كان ذلك يجحف بماله ، وهو قول الشافعي وأصحابه وأحمد . وفي سبيل اللّه هو المجاهد يعطي منها إذا كان فقيراً . والجمهور على أنه يعطي منها وإن كان غنياً ما ينفق في غزوته . وقال الشافعي ، وأحمد ، وعيسى بن دينار ، وجماعة : لا يعطي الغني إلا إن احتاج في غزوته ، وغاب عنه وفره . وقال أبو حنيفة وصاحباه : لا يعطي إلا إذا كان فقيراً أو منقطعاً به ، وإذا أعطي ملك ، وإن لم يصرفه في غزوته . وقال ابن عبد الحكم : ويجعل من الصدقة في الكراع والسلاح وما يحتاج إليه من آلات الحرب وكف العدو عن الحوزة ، لأنه كله من سبيل الغزو ومنفعته . والجمهور على أنه يجوز الصرف منها إلى الحجاج والمعتمرين وإن كانوا أغنياء . وقال الزمخشري : وفي سبيل اللّه فقراء الغزاة ، والحجيج المنقطع بهم انتهى . والذي يقتضيه تعداد هذه الأوصاف أنها لا تتداخل ، واشتراط الفقر في بعضها يقضي بالتداخل . فإن كان الغازي أو الحاج شرط إعطائه الفقر ، فلا حاجة لذكره لأنه مندرج في عموم الفقراء ، بل كل من كان بوصف من هذه الأوصاف جاز الصرف إليه على أي حال كان من فقر أو غنى ، لأنه قام به الوصف الذي اقتضى الصرف إليه . قال ابن عطية : ولا يعطى منها في بناء مسجد ، ولا قنطرة ، ولا شراء مصحف انتتهى . وابن السبيل قال ابن عباس : هو عابر السبيل . وقال قتادة في آخرين : هو الضيف . وقال جماعة : هو المسافر المنقطع به وإن كان له مال في بلده . وقالت جماعة : هو إلحاج المنقطع . وقال الزجاج : هو الذي قطع عليه الطريق . وفي كتاب سحنون قال مالك : إذا وجد المسافر المنقطع به من يسلفه لم يجز له أن يأخذ من الصدقة ، والظاهر الصرف إليه . وإن كان له ما يغنيه في طريقه لأنه ابن سبيل ، والمشهور أنه إذا كان بهذا الوصف لا يعطى . قال الزمخشري: { فإن قلت } : لم عدل عن اللام إلى في في الأربعة الأخيرة ؟ { قلت} : للإيذان بأنهم أرسخ في استحقاق التصدق عليهم ممن سبق ذكره ، لأنّ في للوعاء ، فنبه على أنهم أحقاء بأن توضع فيهم الصدقات ويجعلوا مظنة لها ومصباً ، وذلك لما في فك الرقاب من الكتابة أو الرق أو الأسر ، وفي فك الغارمين من الغرم من التخليص والإنقاذ ، ولجمع الغازي الفقير أو المنقطع في الحج بين الفقر والعبادة ، وكذلك ابن السبيل جامع بين الفقر والغربة عن الأهل والمال . وتكرير في في قوله تعالى : وفي سبيل اللّه وابن السبيل ، فيه فضل ترجيح لهذين على الرقاب والغارمين . { فإن قلت} : فكيف وقعت هذه الآية في تضاعيف ذكر المنافقين ومكائدهم ؟ { قلت} : ذل بكون هذه الأوصاف مصارف الصدقات خاصة دون غيرهم ، على أنهم ليسوا منهم حسماً لا طعاممهم وإشعاراً باستيجابهم الحرمان ، وأنهم بعداء عنها وعن مصارفها ، فما لهم ولها ، وما سلطهم على الكلام لها ولمن قاسمها . وانتصب فريضة لأنه في معنى المصدر المؤكد ، لأن قوله تعالى : إنما الصدقات للفقراء ، معناه فرض من اللّه الصدقات لهم . وقرىء فريضة بالرفع على تلك فريضة انتهى . وقال الكرماني وأبو البقاء : فريضة حال من الضمير في الفقر ، أي مفروضة . قال الكرماني : كما تقول هي لك طلقاً انتهى . وذكر عن سيبويه أنها مصدر ، والتقدير : فرض اللّه الصدقات فريضة . وقال الفراء : هي منصوبة على القطع . واللّه عليم حكيم ، لأن ما صدر عنه هو عن علم منه بخلقه وحكمة منه في القسمة ، أو عليم بمقادرير المصالح ، حكيم لا يشرع إلا ما هو الأصلح . ٦١ومنهم الذين يؤذون . . . . . الاعتذار التنصل من الذنب ، فقيل : أصله المحو ، من قولهم : اعتذرت المنازل ودرست ، فالمعتذر يحاول إزالة ذنبه . قال ابن أحمر : قد كنت تعرف آيات فقد جعلت إطلال إلفك بالوعساء تعتذر وعن ابن الأعرابي : إنّ الاعتذار هو القطع ، ومنه عذرة الجارية لأنها تعذر أي تقطع ، واعتذرت المياه انقطعت ، والعذر سبب لقطع الذم . عدن بالمكان يعدن عدونا أقام ، قاله : أبو زيد وابن الأعرابي . قال الأعشى : وإن يستضيفوا إلى حلمه يضافوا إلى راجح قد عدن وتقول العرب : تركت إبل فلان عوادن بمكان كذا ، وهو أن تلزم الإبل المكان فتألفه ولا تبرحه . وسمي المعدن معدناً لا نبات اللّه الجوهر فيه وإثباته إياه في الأرض حتى عدن فيها أي ثبت . وعدن مدينة باليمن لأنها أكثر مدائن اليمن قطاناً ودوراً . {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِىَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّه وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ مِنكُمْ } : كان قدام بن خالد وعبيد بن هلال والجلاس بن سويد في آخين يؤذون الرسول صلى اللّه عليه وسلم فقال بعضهم : لا تفعلوا فإنا نخاف أن يبلغه فيوقع بنا . فقال الجلاس : بل نقول بما شئنا ، فإنّ محمداً أذن سامعة ، ثم نأتيه فيصدقنا فنزلت . وقيل : نزلت في نبتل بن الحرث كان ينم حديث الرسول صلى اللّه عليه وسلم إلى المنافقين ، فقيل له : لا تفعل ، فقال ذلك القول . وقيل : نزلت في الجلاس وزمعة بن ثابت في آخرين أرادوا أن يقعوا في الرسول وعندهم غلام من الأنصار يدعى عامر بن قيس فحقروه ، فقالوا : لئن كان ما يقول محمّد حقاً لنحن شر من الحمير ، فغضب الغلام فقال : واللّه إنّ ما يقول محمد حق ، وأنتم لشر من الحمير ، ثم أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأخبره فدعاهم ، فسألهم ، فحلفوا أنّ عامراً كاذب ، وحلف عامر أنهم كذبة وقال : اللّهم لا تفرق بيننا حتى يتبين صدق الصادق وكذب الكاذب ، ونزلت هذه الآية يحلفون باللّه لكم ليرضوكم ، فقال رجل : أذن إذا كان يسمع مقال كل أحد ، يستوي فيه الواحد والجمع قاله الجوهري . وقال الزمخشري : الأذن الرجل الذي يصدق كل ما يسمع ، ويقبل قول كل أحد ، سمي بالجارحة التي هي آلة السماع ، كان جملته أذن سامعة ونظيره قولهم للرئية : عين . وقال الشاعر : قد صرت أذناً للوشاة سميعة ينالون من عرضي ولو شئت ما نالوا وهذا منهم تنقيص للرسول صلى اللّه عليه وسلم ، إذ وصفوه بقلة الحزامة والانخداع . وقيل : المعنى ذو أذن ، فهو على حذف مضاف قاله ابن عباس . وقيل : أذن حديد السمع ، ربما سمع مقالتنا . وقيل : أذن وصف بنى على فعل من أذن يأذن أذناً إذا استمع ، نحو أنف وشلل وارتفع . أذن على إضمار مبتدأ أي : قل هو أذن خير لكم . وهذه الإضافة نظيرها قولهم : رجل صدق ، تريد الجودة والصلاح . كأنه قيل : نعم هو أذن ، ولكن نعم الإذن . ويجوز أن يراد هو أذن في الخير والحق وما يجب سماعه وقبوله ، وليس بإذن في غير ذلك . ويدل عليه خير ورحمة في قراءة من جرها عطفاً على خير أي : هو أذن خير ورحمة لا يسمع غيرهما ولا يقبله ، قاله الزمخشري . وقرأ الحسن ومجاهد وزيد بن علي وأبو بكر عن عاصم في رواية قل : أذن بالتنوين خير بالرفع . وجوزوا في أذن أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، وخير خبر ثان لذلك المحذوف أي : هو أذن هو خير لكم ، لأنه صلى اللّه عليه وسلم يقبل معاذيركم ولا يكافئكم على سوء خلتكم . وأن يكون خير صفة لأذن أي : أذن ذو خير لكم . أو على أنّ خيراً أفعل تفضيل أي : أكثر خيراً لكم ، وأن يكون أذن مبتدأ خبره خبر . وجاز أن يخبر بالنكرة عن النكرة مع حصول الفائدة فيه قاله صاحب اللوامح ، وهو جائز على تقدير حذف وصف أي : أذن لا يؤاخذكم خير لكم ، ثم وصفه تعالى بأنه يؤمن باللّه ، ومن آمن باللّه كان خائفاً منه لا يقدم على الإيذاء بالباطل . ويؤمن للمؤمنين أي : يسمع من المؤمنين ويسلم لهم ما يقولون ويصدقهم لكونهم مؤمنين ، فهم صادقون . ورحمة للذين آمنوا منكم ، وخص المؤمنين وإن كان رحمة للعالمين ، لأن ما حصل لهم بالإيمان بسبب الرسول لم يحصل لغيرهم ، وخصوا هنا بالذكر وإن كانوا قد دخلوا في العالمين لحصول مزيتهم . وهذه الأوصاف الثلاثة مبينة جهة الخيرية ، ومظهرة كونه صلى اللّه عليه وسلم أذن خير . وتعدية يؤمن أولاً بالباء ، وثانياً باللام . قال ابن قتيبة : هما زائدان ، والمعنى : يصدق اللّه ، ويصدق المؤمنين . وقال الزمخشري : قصد التصديق باللّه الذي هو نقيض الكفر ، فعدى بالباء ، وقصد الاستماع للمؤمنين ، وإن يسلم لهم ما يقولون فعدى باللام . ألا ترى إلى قوله تعالى :{ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ } ما أنباه عن الباء ونحوه { فَمَا ءامَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرّيَّةٌ مّن قَوْمِهِ }{ أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الاْرْذَلُونَ} {قَالَ ءامَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءاذَنَ } انتهى . و قال ابن عطية : يؤمن باللّه يصدق باللّه ، ويؤمن للمؤمنين . قيل : معناه ويصدق المؤمنين ، واللام زائدة كما هي في { رَدِفَ لَكُم } وقال المبرد : هي متعلقة بمصدر مقدر من الفعل ، كأنه قال : وإيمانه للمؤمنين أي : وتصديقه . وقيل : يقال آمنت لك بمعنى صدقتك ، ومنه قوله :{ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا } وعندي أنّ هذه التي معها اللام في ضمنها باء فالمعنى : ويصدق للمؤمنين فيما يخبرونه به ، وكذلك وما أنت بمؤمن لنا بما نقوله لك انتهى . وقرأ أبي ، وعبد اللّه ، والأعمش ، وحمزة : ورحمة بالجر عطفاً على خبر ، فالجملة من يؤمن اعتراض بين المتعاطفين ، وباقي السبعة بالرفع عطفاً على يؤمن ، ويؤمن صفة لأذن خير . وابن أبي عبلة : بالنصب مفعولاً من أجله حذف متعلقه التقدير : ورحمة يأذن لكم ، فحذف لدلالة أذن خير لكم عليه . وأبرز اسم الرسول ولم يأت به ضميراً على نسق يؤمن بلفظ الرسول تعظيماً لشأنه ، وجمعاً له في الآية بين الرتبتين العظيمتين من النبوّة والرسالة ، وإضافته إليه زيادة في تشريفه ، وحتم على من أذاه بالعذاب الأليم ، وحق لهم ذلك والذين يؤذون عام يندرج فيه هؤلاء الذين أذوا هذا الإيذاء الخاص وغيرهم . ٦٢{يَحْلِفُونَ بِاللّه لِيُرْضُوكُمْ وَاللّه وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ } : الظاهر أنّ الضمير في يحلفون عائد على الذين يقولون : هو أذن أنكره وحلفوا أنهم ما قالوه . وقيل : عائد على الذين قالوا : إن كان ما يقول محمد حقاً ، فنحن شر من الحمير ، وتقدم ذكر ذلك . وقيل : عائد على الذين تخلفوا عن غزوة تبوك ، فلما رجع الرسول صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنون اعتذروا وحلفوا واعتلوا ، قاله : ابن السائب ، واختاره البيهقي . وكانوا ثلاثة وثمانين حلف منهم ثمانون ، فقبل الرسول أعذارهم واعترف منهم بالحق ثلاثة ، فأطلع اللّه رسوله على كذبهم ونفاقهم ، وهلكوا جميعاً بآفات ، ونجا الذين صدقوا . وقيل : عائد على عبد اللّه بن أبي ومن معه حلفوا أن لا يتخلفوا عن رسول اللّه وليكونوا معه على عدوه . وقال ابن عطية المراد جميع المنافقين الذين يحلفون للرسول والمؤمنين أنهم معهم في الدين وفي كل أمر وحرب ، وهم يبطنون النفاق ، ويتربصون بالمؤمنين الدوائر ، وهذا قول جماعة من أهل التأويل . واللام في ليرضوكم لام كي ، وأخطأ من ذهب إلى أنها جواب القسم ، وأفرد الضمير في أن يرضوه لأنهما في حكم مرضي واحد ، إذ رضا اللّه هو ضا الرسول ، أو يكون في الكلام حذف . قال ابن عطية : مذهب سيبويه أنهما جملتان ، حذفت الأولى لدلالة الثانية عليها ، والتقدير عنده : واللّه أحق أن يرضوه ، ورسوله أحق أن يرضوه . وهذا كقول الشاعر : نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف ومذهب المبرد : أنّ في الكلام تقديماً وتأخيراً ، وتقديره : واللّه أحق أن يرضوه ورسوله . وقيل : الضمير عائد على المذكور كما قال رؤبة : فيها خطوط من سواد وبلق كأنه في الجلد توليع البهق انتهى . فقوله : مذهب سيبويه أنهما جملتان حذفت الأولى لدلالة الأولى لدلالة الثانية عليها أنْ كان الضمير في أنهما عائداً على كل واحدة من الجملتين ، فكيف تقول حذفت الأولى ولم تحذف الأولى إنما حذف خبرها ؟ ، وإن كان الضمير عائداً على الخبر وهو أحق أن يرضوه ، فلا يكون جملة إلا باعتقاد كون أنْ يرضوه مبتدأ وأحق المتقدم خبره ، لكن لا يتعين هذا القول : إذ يجوز أن يكون الخبر مفرداً بأن يكون التقدير : أحق بأن يرضوه . وعلى التقدير الأول يكون التقدير : واللّه إرضاؤه أحق . وقدره الزمخشري : واللّه أحق أن يرضوه ورسوله كذلك . إن كانوا مؤمنين كما يزعمون ، فأحق من يرضونه اللّه ورسوله صلى اللّه عليه وسلم بالطاعة والوفاق . ٦٣{أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللّه وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذالِكَ الْخِزْىُ الْعَظِيمُ } أي ألم يعلم المنافقون ؟ وهو استفهام معناه التوبيخ والإنكار . وقرأ الحسن والأعرج : بالتاء على الخطاب ، فالظاهر أنه التفات ، فهو خطاب للمنافقين . قيل : ويحتمل أن يكون خطاباً للمؤمنين ، فيكون معنى الاستفهام التقرير . وإن كان خطاباً للرسول فهو خطاب تعظيم ، والاستفهام فيه للتعجب ، والتقدير : ألا تعجب من جهلهم في محادّة اللّه تعالى : وفي مصحف أبيّ ألم يعلم . قال ابن عطية : على خطاب النبي عليه السلام انتهى . والأولى أن يكون خطاباً للسامع ، قال أهل المعاني : ألم تعلم ، الخطاب لمن حاول تعليم إنسان شيئاً مدة وبالغ في ذلك التعليم فلم يعلم فقال له : ألم تعلم بعد المباحث الظاهرة والمدة المديدة ، وحسن ذلك لأنه طال مكث النبي صلى اللّه عليه وسلم معه ، وكثر منه التحذير عن معصية اللّه والترغيب في طاعة اللّه . قال بعضهم : المحادّة المخالفة ، حاددته خالفته ، واشتقاقه من الحد أي كان على حد غير حادة كقولك : شاقة ، كان في شق غير شقه . وقال أبو مسلم : المحادة مأخوذة من الحديد ، حديد السلاح . والمحادة هنا ، قال ابن عباس : المخالفة . وقيل : المحاربة . وقيل : المعاندة . وقيل : المعادة . وقيل : مجاوزة الحد في المخالفة . وهذه أقوال متقاربة . وقرأ الجمهور فإنّ له بالفتح ، والفاء جواب الشرط . فتقتضي جملة وإنّ له مفرد في موضع رفع على الابتداء ، وخبره محذوف قدره الزمخشري : مقدماً نكرة أي : فحق أن يكون وقدره غيره : متأخراً أي فإن له نار جهنم واجب ، قاله : الأخفش ، ورد عليه بأن أنْ لا يبتدأ بها متقدمة على الخبر ، وهذا مذهب سيبويه والجمهور . وأجاز الأخفش والفراء وأبو حاتم الابتداء بها متقدمة على الخبر ، فالأخفش خرج ذلك على أصله . أو في موضع رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : فالواجب أنّ له النار . قال علي بن سليمان : وقال الجرمي والمبرد : إن الثانية مكررة للتوكيد ، كان التقدير : فله نار جهنم ، وكرر أنّ توكيداً . وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون فإن له معطوفاً على أنه ، على أن جواب من محذوف تقديره : ألم يعلموا أنه من يحادد اللّه ورسوله يهلك فإن له نار جهنم انتهى ، فيكون فإنّ له نار جهنم في موضع نصب . وهذا الذي قدره لا يصح ، لأنهم نصوا على أنه إذا حذف الجواب لدلالة الكلام عليه كان فعل الشرط ماضياً في اللفظ ، أو مضارعاً مجزوماً بلم ، فمن كلامهم : أنت ظالم إن فعلت ، ولا يجوز أن تفعل ، وهنا حذف جواب الشرط ، وفعل الشرط ليس ماضي اللفظ ولا مضارعاً مقروناً بلم ، وذلك إنْ جاء في كلامهم فمخصوص بالضرورة . وأيضاً فتجد الكلام تاماً دون تقدير هذا الجواب . ونقلوا عن سيبويه أنّ أنّ بدل من أنه . قال ابن عطية : وهذا معترض بأن الشيء لا يبدل منه حتى يستوفى . والأولى في هذا الموضع لم يأت خبرها بعد أن لم يتم جواب الشرط ، وتلك الجملة هي الخبر . وأيضاً فإنّ الفاء مانع البدل وأيضاً ، فهي معنى آخر غير الأول ، فيقلق البدل . وإذا تلطف للبدل فهو بدل اشتمال انتهى . وقال أبو البقاء : وهذا يعني البدل ضعيف لوجهين : أحدهما : أن الفاء التي معها تمنع من ذلك ، والحكم بزيادتها ضعيف . والثاني : أن جعلها بدلاً يوجب سقوط جواب الكلام انتهى . وقيل : هو على إسقاط اللام أي : فلأن له نار جهنم ، فالفاء جواب الشرط ، ويحتاج إلى إضمار ما يتم به جواب الشرط جملة أي : فمحادته لأن له نار جهنم . وقرأ ابن أبي عبلة : فإن له بالكسر في الهمزة حكاها عنه أبو عمرو الداني ، وهي قراءة محبوب عن الحسن ، ورواية أبي عبيدة عن أبي عمرو ، ووجهه في العربية قوي لأنّ الفاء تقتضي الاستئناف ، والكسر مختار لأنه لا يحتاج إلى إضمار ، بخلاف الفتح . وقال الشاعر : فمن يك سائلاً عني فإني وجروة لا ترود ولا تعار وعلى هذا يجوز في أنّ بعد فاء الجزاء وجهان : الفتح ، والكسر . ذلك لأن كينونة النار له خالداً فيها هو الهوان العظيم كما قال : { رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} ٦٤{يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِءواْ إِنَّ اللّه مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ } : كان المنافقون يعيبون الرسول ويقولون : عسى اللّه أن لا يفشي سرنا فنزلت ، قاله مجاهد . وقال السدي : قال بعضهم : وددت أني جلدت مائة ولا ينزل فيناشىء يفضحنا ، فنزلت . وقال ابن كيسان : وقف جماعة منهم للرسول صلى اللّه عليه وسلم في ليلة مظلمة عند مرجعه من تبوك ليفتكوا به فأخبره جبريل عليه السلام فنزلت . وقيل قالوا في غزوة تبوك : أيرجو هذا الرجل أن يفتح له قصور الشام وحصونها : هيهات هيهات فأنزل اللّه قل استهزؤوا . والظاهر أنّ يحذر خبر ، ويدل عليه أن اللّه مخرج ما تحذرون . فقيل : هو واقع منهم حقيقة لما شاهدوا الرسوليخبرهم بما يكتمونه ، وقع الحذر والخوف في قلوبهم . وقال الأصم : كانوا يعرفونه رسولاً من عند اللّه فكفروا حسداً ، واستبعد القاضي في العالم باللّه ورسوله وصحة دينه أن يكون محاداً لهما وليس ببعيد ، فإنه إذا استحكم الحسد نازع الحاسد في المحسوسات . وقيل : هو حذر أظهروه على وجه الاستهزاء حين رأوا الرسول يذكر أشياء وأنها عن الوحي وكانوا يكذبون بذلك ، فأخبر اللّه رسوله بذلك ، وأعلم أنه مظهر سرهم ، ويدل عليه قوله : قل استهزؤوا . وقال الزجاج وغيره ممن ذهب إلى التحرز من أن يكون كفرهم عناداً : هو مضارع في معنى الأمر أي : ليحذر المنافقون ، ويبعده مخرج ما تحذرون ، وأن تنزل مفعول يحذر ، وهو متعد . قال الشاعر : حذر أموراً لا تضرّ وآمن ما ليس ينجيه من الأقدار وقال تعالى :{ وَيُحَذّرُكُمُ اللّه نَفْسَهُ } لما كان قبل التضعيف متعدياً إلى واحد ، عداه بالتضعيف إلى اثنين . وقال المبرد : حذر إنما هي من هيئات الأنفس التي لا تتعدى مثل فزع ، والتقدير : يحذر المنافقون من أن تنزل ، ولا يلزم ذلك : ألا ترى أنّ خاف من هيئات النفس وتتعدى ؟ والظاهر أن قوله عليهم : وتنبئهم ، الضمير أنّ فيهما عائدان على المنافقين ، وجاء عليهم لأنّ السورة إذا نزلت في معناهم فهي نازلة علهم قاله : الكرماني ، والزمخشري . قال الكرماني : ويحتمل أنه من قولك : هذا عليك لا لك . ومعنى تنبئهم بما في قلوبهم : تذيع أسرارهم حتى يسمعوها مذاعة منتشرة ، فكأنها تخبرهم بها . وقال الزمخشري : والضمير في عليهم وتنبئهم للمؤمنين ، وفي قلوبهم للمنافقين ، وصح ذلك لأنّ المعنى يعود إليه انتهى . والأمر بالاستهزاء أمر تهديد ووعيد كقوله :{ اعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ } ومعنى مخرج ما تحذرون مبرز إلى حيز الوجود ، ما تحذرونه من إنزال السورة ، أو مظهر ما كنتم تحذرونه من إظهار نفاقكم . وفعل ذلك تعالى في هذه السورة فهي تسمى الفاضحة ، لأنها فضحت المنافقين . قيل : كانوا سبعين رجلاً أنزل اللّه أسماءهم وأسماء آبائهم في القرآن ، ثم رفع ذلك ونسخ رحمة ورأفة منه على خلقه ، لأن أبناءهم كانوا مسلمين . ٦٥{وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّه وَءايَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ } : أي : ولئن سألتهم عما قالوا من القبيح في حقك وحق أصحابك من قول بعضهم : انظروا إلى هذا الرجل يريد أن يفتتح قصور الشام ، وقول بعضهم : كأنكم غداً في الجبال أسرى لبني الأصفر ، وقول بعضهم : ما رأيت كهؤلاء لا أرغب بطوناً ولا أكثر كذباً ولا أجبن عند اللقاء ، فأطلع اللّه نبيه على ذلك فعنفهم ، فقالوا : يا نبي اللّه ما كنا في شيء من أمرك ولا أمر أصحابك ، إنما كنا في شيء مما يخوض فيه الركب ، كنا في غير جدّ . قل : أباللّه تقرير على استهزائهم ، وضمنه الوعيد ، ولم يعبأ باعتذارهم لأنهم كانوا كاذبين فيه ، فجعلوا كأنهم معترفون باستهزائهم وبأنه موجود منهم ، حتى وبخوا بأخطائهم موضع الاستهزاء ، حيث جعل المستهزأ به على حرف التقرير . وذلك إنما يستقيم بعد وقوع الاستهزاء وثبوته قاله : الزمخشري ، وهو حسن . وتقديم باللّه وهو معمول خبر كان عليها ، يدل على جواز تقديمه عليها . وعن ابن عمر : رأيت قائل هذه المقالة يعني : إنما كنا نخوض ونلعب وديعة بن ثابت متعلقاً بحقب ناقة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يماشيها والحجارة تنكته وهو يقول : إنما كنا نخوض ونلعب ، والنبي يقول : { أباللّه وآياته ورسوله كنتم تستهزؤن ؟ } وذكر أنّ هذا المتعلق عبد اللّه بن أبي بن سلول ، وذلك خطأ لأنه لم يشهد تبوك . ٦٦{تَسْتَهْزِءونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٍ مّنْكُمْ نُعَذّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ } : نهوا عن الاعتذار ، لأنها اعتذارات كاذبة فهي لا تنفع . قد كفرتم أظهرتم الكفر بعد إيمانكم أي : بعد إظهار إيمانكم ، لأنهم كانوا يسرُّون الكفر فأظهروه باستهزائهم ، وجاء التقسيم بالعفو عن طائفة ، والتعذيب لطائفة . وكان المنافقون صنفين : صنف أمر بجهادهم : { جاهد الكفار والمنافقين } وهم رؤساؤهم المعلنون بالأراجيف ، فعذبوا بإخراجهم من المسجد ، وانكشاف معظم أحوالهم . وصنف ضعفه مظهرون الإيمان وإن أبطنوا الكفر ، لم يؤذوا الرسول فعفى عنهم ، وهذا العذاب والعفو في الدنيا . وقيل : المعفو عنها من علم اللّه أنهم سيخلصون من النفاق ويخلصون الإيمان ، والمعذبون من مات منهم على نفاقه . وقيل : المعفو عنه رجل واحد اسمه مخشى بن حمير بضم الحاء وفتح الميم وسكون الياء ، كان مع الذين قالوا : { إنما كنا نخوض ونلعب } وقيل : كان منافقاً ثم تاب توبة صحيحة . وقيل : إنه كان مسلماً مخلصاً ، إلا أنه سمع كلام المنافقين فضحك لهم ولم ينكر عليهم ، فعفا اللّه عنه ، واستشهد باليمامة وقد كان تاب ، ويسمى عبد الرحمن ، فدعا اللّه أن يستشهدوا ويجهل أمره ، فكان ذلك باليمامة ولم يوجد جسده . وقرأ زيد بن ثابت ، وأبو عبد الرحمن ، وزيد بن علي ، وعاصم من السبعة : إن نعف بالنون ، نعذب بالنون طائفة . ولقيني شيخنا الأديب الحامل أبو الحكم مالك بن المرحل المالقي بغرناطة فسألني قراءة من تقرأ اليوم على الشيخ أبي جعفر بن الطباغ ؟ فقلت : قراءة عاصم ، فأنشدني : لعاصم قراءة لغيرها مخالفة إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة وقرأ باقي السبعة : إن تعف تعذب طائفة ، مبنياً للمفعول . وقرأ الجحدري : أن يعف بعذب مبنياً للفاعل فيهما ، أي : أن يعف اللّه . وقرأ مجاهد : أن تعف بالتاء مبنياً للمفعول ، تعذب مبنياً للمفعول بالتاء أيضاً . قال ابن عطية : على تقدير إن تعف هذه الذنوب . وقال الزمخشري : الوجه التذكير لأنّ المسند إليه الظرف كما تقول : سير بالدابة ، ولا تقول سيرت بالدابة ، ولكنه ذهب إلى المعنى كأنه قيل : إن ترحم طائفة فأنث لذلك ، وهو غريب . والجيد قراءة العامة إن تعف عن طائفة بالتذكير ، وتعذب طائفة بالتأنيث انتهى . مجرمين : مصرين على النفاق غير تائبين . ٦٧{الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّه فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } : بيّن تعالى أن ذكورهم وأناثهم ليسوا من المؤمنين كما قال تعالى :{ وَيَحْلِفُونَ بِاللّه إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مّنكُمْ } بل بعضهم من بعض في الحكم والمنزلة والنفاق ، فهم على دين واحد . وليس المعنى على التبعيض حقيقة لأن ذلك معلوم ووصفهم بخلاف ما عليه المؤمنون من أنهم يأمرون بالمنكر وهو الكفر وعبادة غير اللّه والمعاصي ، وينهون عن المعروف لأن الذين نزلت فيهم لم يكونوا أهل قدرة ولا أفعال ظاهرة ، وذلك بظهور الإسلام وعزته . وقبض الأيدي عبارة عن عدم الإنفاق في سبيل اللّه قاله الحسن . وقال قتادة : عن كل خير . وقال ابن زيد : عن الجهاد وحمل السلاح في قتال أعداء الدين . وقال سفيان : عن الرفع في الدعاء . وقيل ذلك كناية عن الشح في النفقات في المبار والواجبات ، والنسيان هنا الترك . قال قتادة : تركوا طاعة اللّه وطاعة رسوله فنسيهم ، أي : تركهم من الخير ، أما من الشر فلم ينسهم . وقال الزمخشري : أغفلوا ذكره فنسيهم تركهم من رحمته وفضله ، ويغبر بالنسيان عن الترك مبالغة في أنه لا يخطر ذلك ببال . هم الفاسقون أي : هم الكاملون في الفسق الذي هو التمرد في الكفر والانسلاخ من كل خير ، وكفى المسلم زاجراً أن يلم بما يكسب هذا الاسم الفاحش الذي وصف اللّه به المنافقين . ٦٨{وَعَدَ اللّه الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِىَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللّه وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } : الكفار هنا المعلنون بالكفر ، وخالدين فيها حال مقدرة ، لأن الخلود لم يقارن الوعد . وحسبهم كافيهم ، وذلك مبالغة في عذابهم ، إذ عذابهم شيء لا يزاد عليه ، ولعنهم أهانهم مع التعذيب وجعلهم مذمومين ملحقين بالشياطين الملاعين كما عظم أهل الجنة وألحقهم بالملائكة المقربين . مقيم : مؤبّد لا نقلة فيه . وقال الزمخشري : ويجوز أن يريد ولهم عذاب مقيم معهم في العاجل لا ينفكون عنه ، وهو ما يقاسونه من تعب النفاق . والظاهر المخالف للباطن خوفاً من المسلمين ، وما يحذرونه أبداً من الفضيحة ونزول العذاب إن اطلع على أسرارهم . ٦٩{كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } : هذا التفات من ضمير الغيبة إلى ضمير الخطاب . قال الفراء : التشبيه من جهة الفعل أي : فعلتم كأفعال الذين من قبلكم فتكون الكاف في موضع نصب . وقال الزجاج : المعنى وعد كما وعد الذين من قبلكم ، فهو متعلق بوعد . و قال ابن عطية : وفي هذا قلق . وقال أبو البقاء : ويجوز أن تكون متعلقة بيستهزؤون ، وهذا فيه بعد . وقيل : في موضع رفع التقدير أنتم كالذين . والتشبيه وقع في الاستمتاع والخوض . وقوله : كانوا أشد ، تفسير لشبههم بهم ، وتمثيل لفعلهم بفعلهم . والخلاق : النصيب أي : ما قدر لهم . قال الزمخشري: { فإن قلت } : أي فائدة في قوله : فاستمتعوا بخلاقهم ، وقوله : كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم مغن عنه ، كما أغنى كالذي خاضوا ؟ { قلت} : فائدته أنْ قدم الأولين بالاستمتاع ما أوتوا من حظوظ الدنيا ورضاهم بها ، والتهائهم ، فشبهوا بهم الفانية عن النظر في العاقبة ، وطلب الفلاح في الآخرة ، وأن يخسس أمر الاستمتاع ويهجن أمر الراضي به ، ثم شبه بعد ذلك حال المخاطبين بحالهم كما يريد أن ينبه بعض الظلمة على سماجة فعله فيقول : أنت مثل فرعون كان يقتل بغير جرم ويعذب ويعسف ، وأنت تفعل مثل فعله . وأما وخضتم كالذي خاضوا فمعطوف على ما قبله مستند إليه مستغن بإسناده إليه عن تلك المقدمة انتهى . يعني : استغنى عن أن يكون التركيب ، وخاضوا فخضتم كالذي خاضوا . قال ابن عطية : كانوا أشد منكم وأعظم فعصوا فهلكوا ، فأنتم أحرى بالإهلاك لمعصيتكم وضعفكم والمعنى : عجلوا حظهم في دنياهم ، وتركوا باب الآخرة ، فاتبعتموهم أنتم انتهى . ولما ذكر تشبيههم بمن قبلهم وذكر ما كانوا فيه من شدة القوة وكثرة الأولاد ، واستمتاعهم بما قدّر لهم من الأنصباء ، شبه استمتاع المنافقين باستمتاع الذين من قبلهم ، وأبرزهم بالاسم الظاهر فقال : كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم ، ولم يكن التركيب كما استمتعوا بخلاقهم ليدل بذلك على التحقير ، لأنه كما يدل بإعادة الظاهر مكان المضمر على التفخيم والتعظيم ، كذلك بدل بإعادته على التحقير والتصغير لشأن المذكور كقوله تعالى : { سَوِيّاً ياأَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَانِ عَصِيّاً } وكقوله :{ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } ولم يأت التركيب أنه كان ، ولا أنهم هم . وخضتم : أي دخلتم في اللّهو والباطل ، وهو مستعار من الخوض في الماء ، ولا يستعمل إلا في الباطل ، لأنّ التصرف في الحق إنما هو على ترتيب ونظام ، وأمور الباطل إنما هي خوض . ومنه : رب متخوض في مال اللّه له النار يوم القيامة . كالذي خاضوا : أي كالخوض الذي خاضوا قاله الفراء . وقيل : كالخوض الذين خاضوا . وقيل : النون محذوفة أي : كالذين خاضوا ، أي كخوض الذين . وقيل : الذي مع ما بعدها يسبك منهما مصدر أي : كخوضهم . والظاهر أنّ أولئك إشارة إلى الذين وصفهم بالشدّة وكثرة الأموال والأولاد ، والمعنى : وأنتم كذلك يحبط أعمالكم . قال ابن عطية : ويحتمل أن يريد بأولئك المنافقين المعاصرين لمحمد صلى اللّه عليه وسلم ، ويكون الخطاب لمحمد صلى اللّه عليه وسلم ، وفي ذلك خروج من خطاب إلى خطاب غير الأول . وقوله : في الدنيا ما يصيبهم في الدنيا من التعب وفساد أعمالهم ، وفي الآخرة نار لا تنفع ولا يقع عليها جزاء . ويقوي الإشارة بأولئك إلى المنافقين قوله في الآية المستقبلة { أَلَمْ يَأْتِهِمْ } فتأمله انتهى . وقال الزمخشر : حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة ، نقيض قوله تعالى :{ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِى ذُرّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} ٧٠{أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيّنَاتِ فَمَا } : لما شبه المنافقين بالكفار المتقدمين في الرغبة في الدنيا وتكذيب الأنبياء ، وكان لفظ الذين من قبلكم فيه إبهام ، نصّ على طوائف بأعيانها ستة ، لأنهم كان عندهم شيء من أنبائهم ، وكانت بلادهم قريبة من بلاد العرب ، وكانوا أكثر الأمم عدداً ، وأنبياؤهم أعظم الأنبياء : نوح أول الرسل ، وابراهيم الأب الأقرب للعرب وما يليها من الأمم مقاربون لهم في الشدّة وكثرة المال والولد . فقوم نوح أهلكوا بالغرق ، وعاد بالريح ، وثمود بالصيحة ، وقوم إبراهيم بسلب النعمة عنهم ، حتى سلطت البعوضة على نمرود ملكهم ، وأصحاب مدين بعذاب يوم الظلة ، والمؤتفكات بجعل أعالي أرضها أسافل ، وأمطار الحجارة عليهم . قال الواحدي : معنى الائتفاك الانقلاب ، فأفكته فائتفك أي قلبته فانقلب . والمؤتفكات صفة للقرى التي ائتفكت بأهلها ، فجعل أعلاها أسفلها . والمؤتفكات مدائن قوم لوط . وقيل : قريات قوم لوط وهود وصالح . وائتفاكهن : انقلاب أحوالهنّ عن الخير إلى الشر . قال ابن عطية : والمؤتفكات أهل القرى الأربعة . وقيل : التسعة التي بعث إليهم لوط عليه السلام ، وقد جاءت في القرآن مفردة تدل على الجمع ، ومن هذه اللفظة قول عمران بن حطان : لمنطق مستبين غير ملتبس به اللسان ورأي غير مؤتفك أي غير منقلب متصرّف مضطرب . ومنه يقال للريح : مؤتفكة لتصرفها ، ومنه { أَنَّى يُؤْفَكُونَ } والإفك صرف القول من الحق إلى الكذب انتهى . وفي قوله : ألم يأتهم ، تذكير بأنباء الماضين وتخويف أنْ يصيبهم مثل ما أصابهم ، وكان أكثرهم عالمين بأحوال هذه الأمم ، وقد ذكر شيء منها في أشعار جاهليتهم كالأفوه الأزدي ، وعلقمة بن عبدة ، وغيرهما . ويحتمل أن يكون قوله : ألم يأتهم تذكيراً بما قص اللّه عليهم في القرآن من أحوال هؤلاء وتفاصيلها . والظاهر أنّ الضمير في أتتهم رسلهم بالبينات عائد على الأمم الستة المذكورة ، والجملة شرح للنبأ . وقيل : يعود على المؤتفكات خاصة ، وأتى بلفظ رسل وإن كان نبيهم واحداً ، لأنه كان يرسل إلى كل قرية رسولاً داعياً ، فهم رسول رسول اللّه ، ذكره الطبري . وقال الكرماني : قيل : يعود على المؤتفكات أي : أتاهم رسول بعد رسول . والبينات المعجزات ، وهي وأصحاب بالنسبة إلى الحق ، لا بالنسبة إلى المكذبين . قال ابن عباس : ليظلمهم ليهلكهم حتى يبعث فيهم نبياً ينذرهم . والمعنى : أنهم أهلكوا باستحقاقهم . وقال مكي : فما كان اللّه ليضع عقوبته في غير مستحقها ، إذ الظلم وضع الشيء في غير موضعه ، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون إذ عصوا اللّه وكذبوا رسله حتى أسخطوا ربهم واستوجبوا العقوبة ، فظلموا بذلك أنفسهم . وقال الكرماني : ليظلمهم بإهلاكهم ، يظلمون بالكفر والتكذيب . وقال الزمخشري : فما صح منه أن يظلمهم وهو حكيم لا يجوز عليه القبيح ، وأن يعاقبهم بغير جرم ، ولكن ظلموا أنفسهم حيث كفروا به فاستحقوا عقابه انتهى . وذلك على طريقة الاعتزال . ويظهر أن بين قوله بالبينات . وقوله : فما كان كلاماً محذوفاً تقديره واللّه أعلم فكذبوا فأهلكهم اللّه ، فما كان اللّه ليظلمهم . ٧١{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ مِنْ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَواةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَواةَ وَيُطِيعُونَ اللّه وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّه إِنَّ اللّه عَزِيزٌ حَكِيمٌ } : لما ذكر المنافقين والمنافقات وما هم عليه من الأوصاف القبيحة والأعمال الفاسدة ، ذكر المؤمنين والمؤمنات وقال في أولئك بعضهم من بعض ، وفي هؤلاء بعضهم أولياء بعض . قال ابن عطية : إذ . لا ولاية بين المنافقين ولا شفاعة لهم ، ولا يدعو بعضهم لبعض ، فكان المراد هنا الولاية في اللّه خاصة . وقال أبو عبد اللّه الرازي : بعضهم من بعض يدل على أنّ نفاق الاتباع وكفرهم حصل بسبب التقليد لأولئك الأكابر ، وسبب مقتضى الطبيعة والعادة . أما الموافقة الحاصلة بين المؤمنين فإنما حصلت لا بسبب الميل والعادة ، بل بسبب المشاركة في الاستدلال والتوفيق والهداية ، والولاية ضد العداوة . ولما وصف المؤمنين بكون بعضهم أولياء بعض ذكر بعده ما يجري كالتفسير والشرح له ، وهي الخمسة التي يميز بها المؤمن على المنافق . فالمنافق يأمر بالمنكر ، وينهى عن المعروف ولا يقوم إلى الصلاة إلا وهو كسلان ، ويبخل بالزكاة ، ويتخلف بنفسه عن الجهاد ، وإذا أمره اللّه تثبط وثبط غيره . والمؤمن بضد ذلك كله من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، والجهاد . وهو المراد في هذه الآية بقوله : ويطيعون اللّه ورسوله انتهى ، وفيه بعض تلخيص . وقال أبو تلخيص . وقال أبو العالية : كل ما ذكره اللّه في القرآن من الأمر بالمعروف فهو دعاء من الشرك إلى الإسلام ، وما ذكر من النهي عن المنكر فهو النهي عن عبادة الأصنام والشياطين . وقال ابن عباس : ويقيمون الصلاة هي الصلوات المس . قال ابن عطية : وبحسب هذا تكون الزكاة المفروضة والمدح عندي بالنوافل أبلغ ، إذ من يقيم النوافل أجدى بإقامة الفروض ، ويطيعون اللّه ورسوله جامع للمندوبات انتهى ، سيرحمهم اللّه . قال ابن عطية : السين مدخلة في الوعد مهلة ، لتكون النفوس تتنعم برجائه وفضله تعالى . وقال الزمخشري : السين مفيدة وجوب الرحمة لا محالة ، فهي تؤكد الوعد كما تؤكد الوعيد في قولك : سأنتقم منك يوماً يعني : إنك لا تفوتني وإن تبطأ ذلك . ونحوه :{ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً }{ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ }{ سَوْفَ فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ } انتهى . وفيه دفينة خفية من الاعتزال بقوله : السين مفيدة وجوب الرحمة لا محالة ، يشير إلى أنه يجب على اللّه تعالى إثابة الطائع ، كما تجب عقوبة العاصي . وليس مدلول السين توكيد ما دخلت عليه ، إنما تدل على تخليص المضارع للاستقبال فقط . ولما كانت الرحمة هنا عبارة عما يترتب على تلك الأعمال الصالحة من الثواب والعقاب في الآخرة ، أتى بالسين التي تدل على استقبال الفعل أنّ اللّه عزيز غالب على كل شيء ، قادر عليه ، حكيم واضع كلاًّ موضعه . ٧٢{وَعَدَ اللّه الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيّبَةً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مّنَ اللّه أَكْبَرُ ذالِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } : لمّا أعقب المنافقين بذكر ما وعدهم به من نار جهنم ، أعقب المؤمنين بذكر ما وعدهم به من نعيم الجنان . ولما كان قوله :{ سَيَرْحَمُهُمُ اللّه } وعداً إجمالياً فصله هنا تنبيهاً على أنّ تلك الرحمة هي هذه الأشياء ، ومساكن طيبة . قال ابن عباس : هي دور المقربين . وقيل : دور في جنات عدن مختلفة في الصفات باختلاف حال الحالين بها . وقيل : قصور زبرجد ودر وياقوت يفوح طيبها من مسيرة خمسمائة عام في أماكن إقامتهم . وفي الحديث : { قصر في الجنة من اللؤلؤ فيه سبعون داراً من ياقوته حمراء ، وفي كل دار سبعون بيتاً من زمردة خضراء ، في كل بيت سبعون سريراً } وذكر في آخر هذا الحديث أشياء ، وإن صحّ هذا النقل عن الرسول وجب المصير إليه . في جنات عدن أي : إقامة . وقال كعب الأحبار : هي بالفارسية الكروم والأعناب . قال ابن عطية : وأظن هذا ما اختلط بالفردوس . وقال ابن مسعود : عدن بطنان الجنة وشرقها ، وعنه : وسط الجنة . وقال عطاء : نهر في الجنة ، جنانه على حافيته . وقال الضحاك وأبو عبيدة : مدينة الجنة ، وعظمها فيها الأنبياء والعلماء والشهداء وأئمة العدل والناس حولهم بعد ، والجنات حولها . وقال الحسن : قصر في الجن لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد أو حكم عدل ، ومدتها صوته . وعنه : قصور من اللؤلؤ والياقوت الأحمر والزبرجد . وروى أبو الدرداء عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : { عدن دار اللّه التي لم ترها عين ولم تخطر على قلب بشر ، ولا يسكنها غير ثلاثة : النبيون ، والصديقون ، والشهداء يقول اللّه تعالى : طوبى لمن دخلك } وإن صحّ هذا عن الرسول وجب المصير إليه . وقال مقاتل : هي أعلى درجة في الجنة . وقال عبد اللّه بن عمرو : قصر حوله البروج والمروج ، له خمسة آلاف باب ، على كل باب خيرة لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد . وقي : قصته الجنة فيها نهر على حافتيه بساتين . وقيل : التسنيم ، وفيه قصور الدر والياقوت والذهب ، والأرائك عليها الخيرات الحسان ، سقفها عرش الرحمن لا ينزلها إلا الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون ، يفوح ريحها من مسيرة خمسمائة عام . وهذه أقوال عن السلف كثيرة الاختلاف والاضطراب ، وبعضها يدل على التخصيص وهو مخالف لظاهر الآية ، إذ وعد اللّه بها المؤمنين والمؤمنات . وقال الزمخشري : وعدن علمٌ لقوله تعالى : { جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِى وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ } ويدل عليه ما روى أبو الدرداء ، وساق الحديث المتقدم الذكر عن أبي الدرداء ، وإنما استدل بالآية على أنّ عدناً علم ، لأن المضاف إليها وصف بالتي وهي معرفة ، فلو لم تكن جنات مضافة لمعرفة لم توصف بالمعرفة ولا يتعين ذلك ، إذ يجوز أن تكون التي خبر مبتدأ محذوف ، أو منصوباً بإضمار أعني : أو أمدح ، أو بدلاً من جنات . ويبعد أن تكون صفة لقوله : الجنة للفصل بالبدل الذي هو جنات ، والحكم أنه إذا اجتمع النعت والبدل قدم النعت ، وجيء بعده بالبدل . وقرأ الأعمش ورضوان : بضمتين . قال صاحب اللوامح : وهي لغة ، ورضوان مبتدأ . وجاز الابتداء به لأنه موصوف بقوله : من اللّه ، وأتى به نكرة ليدل على مطلق أي : وشيء من رضوانه أكبر من كل ما ذكر . والعبد إذا علم برضا مولاه عنه كان أكبر في نفسه مما وراءه من النعيم ، وإنما يتهيأ له النعيم بعامه برضاه عنه . كما أنه إذا علم بسخطه تنغصت حاله ، ولم يجد لها لذة . ومعنى هذه الجملة موافق لما روي في الحديث : { أن اللّه تعالى يقول لعباده إذا استقروا في الجنة : هل رضيتم ؟ فيقولون : وكيف لا نرضى يا ربنا ؟ فيقول : إني سأعطيكم أفضل من هذا كله رضواني ، أرضى عنكم فلا أسخط عليكم أبداً } وقال الحسن : وصل إلى قلوبهم برضوان اللّه من اللذة والسرور ما هو ألذ عندهم وأقر لأعينهم من كل شيء أصابوه من لذة الجنة . قال ابن عطية : ويظهر أن يكون قوله تعالى : ورضوان من اللّه أكبر ، إشارة إلى منازل المقربين الشاربين من تشنيم ، والذين يرون كما يرى النجم الغائر في الأفق ، وجميع من في الجنة راض ، والمنازل مختلفة ، وفضل اللّه تعالى متسع انتهى . وقال الزمخشري : رضاه تعالى هو سبب كل فوز وسعادة انتهى . والإشارة بذلك إلى جميع ما سبق ، أو إلى الرضوان قولان ، والأظهر الأول . ٧٣{الْعَظِيمُ ياأَيُّهَا النَّبِىُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } : لما ذكر وعيد غير المؤمنين وكانت السورة قد نزلت في المنافقين بدأبهم في ذلك بقوله : وعد اللّه المنافقين والمنافقات والكفار {نار جهنم } ولما ذكر أمر الجهاد ، وكان الكفار غير المنافقين أشد شكيمة وأقوى أسباباً في القتال وإنكاء بتصديهم للقتال ، قال : جاهد الكفار والمنافقين فبدأ بهم . قال ابن عباس وغيره : جاهد الكفار بالسيف ، والمنافقين باللسان . وقال الحسن وقتادة : والمنافقين بإقامة الحدود عليهم إذا تعاطوا أسبابها . وقال ابن مسعود : جاهدهم باليد ، فإن لم تستطع فباللسان ، فإن لم تستطع فبالقلب ، وإلا كفرار في وجوههم ، وأغلظ عليهم في الجهادين . والغلظ ضد الرقة ، والمراد خشونة الكلام وتعجيل الانتقام على خلاف ما أمر به في حق المؤمنين . واخف جناحك للمؤمنين وكل من وقف منه على فساد في العقائد ، فهذا حكمه يجاهد بالحجة ، ويستعمل معه الغلظ ما أمكن . ولما ذكر أمر الجهاد ، وكان الكفار غير المنافقين أشد شكيمة وأقوى أسباباً في القتال وإنكاء بتصديهم للقتال ، قال : جاهد الكفار والمنافقين فبدأ بهم . قال ابن عباس وغيره : جاهد الكفار بالسيف ، والمنافقين باللسان . وقال الحسن وقتادة : والمنافقين بإقامة الحدود عليهم إذا تعاطوا أسبابها . وقال ابن مسعود : جاهدهم باليد ، فإن لم تستطع فباللسان ، فإن لم تستطع فبالقلب ، وإلا كفرار في وجوههم ، وأغلظ عليهم في الجهادين . والغلظ ضد الرقة ، والمراد خشونة الكلام وتعجيل الانتقام على خلاف ما أمر به في حق المؤمنين . واخف جناحك للمؤمنين وكل من وقف منه على فساد في العقائد ، فهذا حكمه يجاهد بالحجة ، ويستعمل معه الغلظ ما أمكن . ٧٤{يَحْلِفُونَ بِاللّه مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُواْ إِلا أَنْ } : الضمير عائد على المنافقين . فقيل : هو حلف الجلاس ، وتقدمت قصته مع عامر بن قيس . وقيل : حلف عبد اللّه بن أبي أنه ما قال { لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ } الآية . وقال الضحاك : حلفهم حين نقل حذيفة إلى الرسول صلى اللّه عليه وسلم أصحابه وإياه في خلوتهم ، وأما وهموا بما لم ينالوا فنزلت قيل : في ابن أبي في قوله : ليخرجن ، قاله قنادة ، وروي عن ابن عباس . وقيل : بقتل الرسول ، والذي همّ به رجل يقال له : الأسود من قريش ، رواه مجاهد عن ابن عباس . وقال مجاهد : نزلت في خمسة عشر هموا بقتله وتوافقوا على أن يدفعوه عن راحلته إلى الوادي إذ اتسم العقبة ، فأخذ عمار بن ياسر بخطام راحلته يقودها ، وحذيفة خلفها يسوقها ، فبينما هما كذلك إذ سمع حذيفة يوقع إخفاف الإبل وقعقعة السلاح ، فالتفت فإذا قوم متلثمون فقال : إليكم يا أعداء اللّه فهربوا ، وكان منهم عبد اللّه بن أبي ، وعبد اللّه بن سعد بن أبي سرح ، وطعيمة بن أبيرق ، والجلاس بن سويد ، وأبو عامر بن نعمان ، وأبو الأحوص . وقيل : همهم بما لم ينالوا ، هو أن يتوجوا عبد اللّه بن أبي إذا رجعوا من غزوة تبوك يباهون به الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، فلم ينالوا ما هموا به ، فنزلت . وعن ابن عباس : كان لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جالساً في ظل شجرة فقال : إنه سيأتلكم إنسان فينظر إليكم شيطان ، فإذا جاء فلا تكلموه ، فلم يلبثوا أنْ طلع رجل أزرق فدعاه فقال : علام تشتمني أنت وأصحابك ؟ فانطلق لرجل فجاء بأصحابه ، فحلفوا باللّه ما قالوا ، فأنزل اللّه هذه الآية . وكلمة الكفر قول ابن أبي لما شاور الجهجاه الغفاري وسنان بن وبرة الجهني ، وقد كسع أحدهما رجل الآخر في غزوة المريسيع ، فصاح الجهجاه : يا للأنصار ، وصاح سنان : يا للمهاجرين ، فثار الناس ، وهدأهم الرسول فقال ابن أبي : ما أرى هؤلاء إلا قد تداعوا علينا ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال الأول : سمن كلبك يأكلك ، أو الاستهزاء ، أو قول الجلاس المتقدم ، أو قولهم : نعقد التاج ، أو قولهم : ليس بنبي ، أو القول : لئن رجعنا إلى المدينة أقوال . وكفروا : أي أظهروا الكفر بعد إسلامهم أي إظهار إسلامهم . ولم يأت التركيب بعد إيمانهم لأنّ ذلك لم يتجاوز ألسنتهم . والهم دون العزم ، وتقدم الخلاف في الهام والمهموم به . وقيل : هو همّ المنافقين أو الجلاس بقتل ناقل حديث الجلاس إلى الرسول ، وفي تعيين اسم الناقل خلاف ، فقيل : عاصم بن عدي . وقيل : حذيفة . وقيل : ابن امرأة الجلاس عمير بن سعد . وقيل : اسمه مصعب . وقيل : هموا بالرسول والمؤمنين أشياء لم ينالوها { وما نقموا إلا أن أغناهم اللّه ورسوله من فضله} هذا مثل قوله : { هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ ءامَنَّا }{ وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ } وكان حق الغني من اللّه ورسوله أن يشكر لا أين ينقم ، جعلوا الغنى سبباً ينتقم به ، فهو كقوله : ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب وكان الرسول قد أعطى لعبد اللّه بن أبي دية كانت قد تغلظت له ، قال عكرمة : اثنا عشر ألفاً . وقيل : بل كانت للجلاس . وكانت الأنصار حين قدم الرسول صلى اللّه عليه وسلم المدينة في ضنك من العيش لا يركبون الخيل . ولا يجوزون الغنيمة ، فأثروا وقال الرسول للأنصار :{ وَكُنتُمْ حَتَّى يَحْكُمَ اللّه بَيْنَنَا } وقيل : كان على الجلاس دين كثير فقضاه الرسول ، وحصل له من الغنائم مال كثير . وقوله : وما نقموا الجملة كلام أجرى مجرى التهكم به ، كما تقول : ما لي عندك ذنب إلا إني أحسنت إليك ، فإن فعلهم يدل على أنهم كانوا لئاماً . وقال الشاعر : ما نقموا من بني أمية إلا أنهم يحلمون إن غضبوا وأنهم سادة الملوك ولا يصلح إلا عليهم العرب وقال الآخر وهو نظير البيت السابق : ولا عيب فينا غير عرق لمعشر كرام وإنا لا نحط على النمل فإن يتوبوا هذا إحسان منه تعالى ورفق ولطف بهم ، حيث فتح لهم باب التوبة بعد ارتكاب تلك الجرائم العظيمة . وكان الجلاس بعد حلفه وإنكاره أن قال ما نقل عنه قد اعترف ، وصدق الناقل عنه وتاب وحسنت توبته ، ولم يرد أنّ أحداً قبلت توبته منهم غير الجلاس . قيل : وفي هذا دليل على قبول توبة الزنديق المس الكفر المظهر للإيمان ، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي . وقال مالك : لا تقبل فإن جاء تائبتاً من قبل نفسه قبل أن يعثر عليه قبلت توبته بلا خلاف ، وإن يتولوا أي : عن التوبة ، أو الإيمان ، أو الإخلاص ، أو الرسول . والمعنى : وإنْ يديموا التولي إذ هم متولون في الدنيا بإلحاقهم بالحربيين إذ أظهروا الكفر ، فيحل قتالهم وقتلهم ، وسبي أولادهم وأزواجهم ، وغنم أموالهم . وقيل : ما يصيبهم عند الموت ومعاينة ملائكة العذاب . وقيل : عذاب القبر . وقيل : التعب والخوف والهجنة عند المؤمنين ، وفي الآخرة بالنار . ٧٥انظر تفسير الآية:٧٨ ٧٦انظر تفسير الآية:٧٨ ٧٧انظر تفسير الآية:٧٨ ٧٨قال الضحاك : هم نبتل بن الحرث ، وجد بن قيس ، ومعتب بن قشير ، وثعلبة بن حاطب ، وفيهم نزلت الآية . وقال الحسن ومجاهد : في معتب وثعلبة خرجا على ملأ فقالا ذلك . وقال ابن السائب : في رجل من بني عمرو بن عوف كان له مال بالشام فأبطأ عنه ، فجهد لذلك جهداً شديداً ، فحلف باللّه لئن آتانا من فضله أي من ذلك المال لأصدقن منه ولأصلن ، فآتاه فلم يفعل . والأكثر على أنها نزلت في ثعلبة ، وذكروا له حديثاً طويلاً وقد لخصت منه : أنه سأل الرسول صلى اللّه عليه وسلم أن يدعو اللّه أن يرزقه مالاً فقيل له : قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه ، فألح عليه ، فدعا اللّه ، فاتخذ غنماً كثرت حتى ضاقت عنها المدينة ، فنزل وادياً وما زالت تنمو ، واشتغل بها حتى ترك الصلوات ، وبعث إليه الرسول صلى اللّه عليه وسلم المصدق فقال : ما هذه إلا جزية ، ما هذه إلا أخت الجزية ، فنزلت هذه الآية . فأخبره قريب له بها ، فجاء بصدقته إلى الرسول فلم يقبلها ، فلما قبض الرسول أتى أبا بكر فلم يقبلها ، ثم عمر فلم يقبلها ، ثم عثمان فلم يقبلها ، وهلك في أيام عثمان . وقرأ الأعمش : لنصدقنّ ولنكوننّ بالنون الخفيفة فيهما ، والظاهر والمستفيض من أسباب النزول أنهم نطقوا بذلك ولفظوا به . وقال معبد بن ثابت وفرقة : لم يتلفظوا به ، وإنما هو شيء نووه في أنفسهم ولم يتكلموا به ، ألم تسمع إلى قوله : { أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّه يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ } من الصالحين . أي من أهل الصلاح في أموالهم بصلة الرحم والإنفاق في الخير والحج وأعمال البر . وقيل : من المؤمنين في طلب الآخرة . بخلوا به أي : بإخراج حقه منه ، وكلُّ بخل أعقب بوعيد فهو عبارة عن منع الحق الواجب . والظاهر أنّ الضمير في فأعقبهم هو عائد على اللّه ، عاقبهم على الذنب بما هو أشد منه . قال الزمخشري : خذلهم حين نافقوا ، وتمكن من قلوبهم نفاقهم فلا ينفك عنها إلى أنْ يموتوا بسبب إخلافهم ما وعدوا اللّه من التصدق والصلاح وكونهم كاذبين ، ومنه خلف الموعد ثلث النفاق انتهى . وقوله : خذلهم هو لفظ المعتزلة . وقال الحسن وقتادة : الضمير في فاعقبهم للبخل ، أي فأورثهم البخل نفاقاً متمكناً في قلوبهم . وقال أبو مسلم : فأعقبهم أي البخل والتولي والإعراض . قال ابن عطية : يحتمل أن يكون نفاق كفر ، ويكون تقرير ثعلبة بعد هذا النص والإبقاء عليه لمكان إظهاره الإسلام ، وتعلقه بما فيه احتمال . ويحتمل أن يكون نفاق معصية وقلة استقامة ، فيكون تقريره صحيحاً ، ويكون ترك قبول الزكاة منه عقاباً له ونكالاً . وهذا نحو ما روي أنّ عاملاً كتب إلى عمر بن عبد العزيز أنّ فلاناً يمنع الزكاة ، فكتب إليه : أن دَعه ، واجعل عقوبته أن لا يؤدي الزكاة مع المسلمين ، يريد لما يلحقه من المقت في ذلك . والظاهر عود الضمير في : يلقونه ، على اللّه تعالى . وقيل : يلقون الجزاء . فقيل : جزاء بخلهم . وقيل : جزاء أفعالهم . وقرأ أبو رجاء : يكذبون بالتشديد . ولفظه : فأعقبهم ، نفاقاً لا تدل ولا تشعر بأنه كان مسلماً ، ثم لما بخل ولم يف بالعهد صار منافقاً كما قال أبو عبد اللّه الرازي ، لأن المعقب نفاق متصل إلى وقت الموافاة ، فهو نفاق مقيد بغاية ، ولا يدل المقيد على انتفاء المطلق قبله . وإذا كان الضمير عائداً على اللّه فلا يكون اللقاء متضمناً رؤية اللّه لإجماع العلماء على أنّ الكفار لا يرون اللّه ، فالاستدلال باللقاء على الرؤية من قوله تعالى :{ تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ } ليس بظاهر ، ولقوله :{ مِنْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ } وأجمعوا على أنّ المراد هنا لقي ما عند اللّه من العقاب . ألم يعلموا هذا استفهام تضمن التوبيخ والتقريع . وقرأ علي وأبو عبد الرحمن والحسن : تعلموا بالتاء ، وهو خطاب للمؤمنين على سبيل التقرير . وأنه تعالى فاضح المنافقين ، ومعلم المؤمنين أحوالهم التي يكتمونها شيئاً فشيئاً سرهم ونجواهم . هذا التقسيم عبارة عن إحاطة علم اللّه بهم . والظاهر أنّ الآية في جميع المنافقين من عاهد وأخلف وغيرهم ، وخصتها فرقة بمن عاهد وأخلف . ف قال الزمخشري : ما أسروه من النفاق والعزم على إخلاف ما وعدوه ، وما يتناجون به فيما بينهم من المطاعن في الدين ، وتسمية الصدقة جزية ، وتدبير منعها . وقيل : أشار بسرهم إلى ما يخفونه من النفاق ، وبنجواهم إلى ما يفيضون به بينهم من تنقيص الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، وتعييب المؤمنين . وقيل : سرهم ما يسار به بعضهم بعضاً ، ونجواهم ما تحدثوا به جهراً بينهم ، وهذه أقوال متقاربة متفقة في المعنى . ٧٩{الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّه مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ } : نزلت فيمن عاب المتصدقين . وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حث على الصدقة ، فتصدّق عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف وأمسك مثلها ، فبارك له الرسول صلى اللّه عليه وسلم فيما أمسك وفيما أعطى . وتصدق عمر بنصف ماله ، وعاصم بن عدي بمائة وسق ، وعثمان بصدقة عظيمة ، وأبو عقيل الأرلشي بصاع تمر ، وترك لعياله صاعاً ، وكان آجر نفسه لسقي نخيل بهما ، ورجل بناقة عظيمة قال : هي وذو بطنها صدقة يا رسول اللّه ، وألقى إلى الرسول خطامها فقال المنافقون ما تصدق هؤلاء إلا رياء وسمعة ، وما تصدّق أبو عقيل إلا ليذكر مع الأكابر ، أو ليذكر بنفسه فيعطي من الصدقات ، واللّه غني عن صاعه . وقال بعضهم : تصدق بالناقة وهي خير منه . وكان الرجل أقصر الناس قامة وأشدهم سواداً ، فنظر إليه الرسول صلى اللّه عليه وسلم وقال : قل هو خير منك ، ومنها يقولها ثلاثاً . وأصل المطوعين المتطوعين ، فأدغمت التاء في الطاء ، وهم المتبركون كعبد الرحمن وغيره . والذين لا يجدون إلا جهدهم هم مندرجون في المطوعين ، ذكروا تشريفاً لهم ، حيث ما فاتتهم الصدقة بل تصدقوا بالشيء ، وإن كانوا أشد الناس حاجة إليه ، وأتعبهم في تحصيل ما تصدقوا به كأبي عقيل ، وأبي خيثمة ، وكان قد لمز في التصدق بالقليل ونظر أيهما . وكان أبو علي الفارسي يذهب إلى أنّ المعطوف في هذا وشبهه لم يندرج فيما عطف عليه قال : لأنه لا يسوغ عطف الشيء على مثله . وكذلك كان يقول في وملائكته ورسله وجبريل وميكال ، وفي قوله :{ فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ } وإلى هذا كان يذهب تلميذه ابن جني ، وأكثر الناس على خلافهما . وتسمية بعضهم التجريد ، جردوا بالذكر على سبيل التشريف ، وقد تقدم الكلام على ذلك في قوله :{ وَمَلئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} وقرأ ابن هرمز وجماعة : جهدهم بالفتح . فقيل : هما لغتان بمعنى واحد . وقال القتبي بالضم الطاقة ، وبالفتح المشقة . وقال الشعبي : بالضم القوت ، وبالفتح في العمل . وقيل : بالضم شيء قليل يعاش به . والأحسن في الإعراب أن يكون الذين يلمزون مبتدأ ، وفي الصدقات متعلق بيلمزون ، والذين لا يجدون معطوف على المطوعين ، كأنه قيل : يلمزون الأغنياء وغيرهم . وفيسخرون معطوف على يلمزون ، وسخر اللّه منهم وما بعده خبر عن الذين يلمزون . وذكر أبو البقاء أن قوله : والذين لا يجدون ، معطوف على الذين يلمزون ، وهذا غير ممكن ، لأن المعطوف على المبتدأ مشارك له في الخبر ، ولا يمكن مشاركة الذين لا يجدون إلا جهدهم مع الذين يلمزون إلا إن كانوا مثلهم نافقين . قال : وقيل : والذين لا يجدون معطوف على المؤمنين ، وهذا بعيد جداً . قال : وخبر الأول على هذه الوجوه فيه وجهان : أحدهما فيسخرون . ودخلت الفاء لما في الذين من التشبيه بالشرط انتهى هذا الوجه . وهذا بعيد ، لأنه إذ ذاك يكون الخبر كأنه مفهوم من المبتدأ ، لأنّ من عاب وغمز أحداً هو ساخر منه ، فقرب أن يكون مثل سيد الجارية مالكها ، وهو لا يجوز . قال : والثاني : أن الخبر سخر اللّه منهم ، قال : وعلى هذا المعنى يجوز أن يكون الذين يلمزون في موضع نصب بفعل محذوف يفسره سخر ، تقديره عاب الذين يلمزون . وقيل : الخبر محذوف تقديره : منهم الذين يلمزون . وقال أبو البقاء أيضاً : من المؤمنين حال من الضمير في المطوعين ، وفي الصدقات متعلق بيلمزون ، ولا يتعلق بالمطوعين لئلا يفصل بينهما بأجنبي انتهى . وليس بأجنبي لأنه حال كما قرر ، وإذا كان حالاً جاز الفصل بها بين العامل فيها ، وبين المعمول أخر ، لذلك العامل نحو : جاءني الذي يمر راكباً بزيد . والسخرية : الاستهزاء . والظاهر أن قوله : سخر اللّه منهم خبر لفظاً ومعنى ، ويرجحه عطف الخبر عليه . وقيل : صيغته خبر ، ومعناه الدعاء . ولما قال : فيسخرون منهم قال : سخر اللّه منهم على سبيل المقابلة ، ومعناه : أمهلهم حتى ظنوا أنه أهملهم . قال ابن عباس : وكان هذا في الخروج إلى غزوة تبوك . وقيل : معنى سخر اللّه منهم جازاهم على سخريتهم ، وجزاء الشيء قد يسمى باسم الشيء كقوله : { وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا } قال ابن عطية : تسمية للعقوبة باسم الذنب ، وهي عبارة عما حل بهم من المقت والذل في نفوسهم انتهى . وهو قريب من القول الذي قبله . وقال الأصم : أمر اللّه نبيه صلى اللّه عليه وسلم أن يقبل معاذيرهم الكاذبة في الظاهر ، ووبال فعلهم عليهم كما هو ، فكأنه سخر منهم ولهذا قال : ولهم عذاب أليم ، وهو عذاب الآخرة المقيم انتهى . وفي هذه الآية دلالة على أن لمز المؤمن والسخرية منه من الكبائر ، لما يعقبهما من الوعيد . ٨٠{وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَانٍ يَغْفِرَ اللّه لَهُمْ ذالِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّه وَرَسُولِهِ وَاللّه لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } : سأل عبد اللّه بن عبد اللّه بن أبي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وكان رجلاً صالحاً أن يستغفر لأبيه في مرضه ففعل ، فنزلت ، فقال صلى اللّه عليه وسلم : { قد رخص لي فأزيد على السبعين } فنزلت سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم . وقيل : لما نزل سخر اللّه منهم ولهم عذاب أليم ، سألوا الرسول أن يستغفر لهم فنزلت . وعلى هذا فالضمائر عائدة على الذين سبق ذكرهم ، أو على جميع المنافقين قولان . والخطاب بالأمر للرسول ، والظاهر أنّ المراد بهذا الكلام التخيير ، وهو الذي روى عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقد قال له عمر : كيف تستغفروا لعدو اللّه وقد نهاك اللّه عن الاستغفار لهم ؟ فقال صلى اللّه عليه وسلم : { ما نهاني ولكنه خيرني } فكأنه قال له عليه السلام : إن شئت فاستغفر ، وإن شئت فلا تستغفر ، ثم أعلمه أنه لا يغفر لهم وإن استغفر سبعين مرة . وقيل : لفظه أمر ومعناه الشرط ، بمعنى إنْ استغفرت أو لم تستغفر لن يغفر اللّه ، فيكون مثل قوله : { قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ } وبمنزلة قول الشاعر أسيء بنا أو أحسني لا ملومة لدينا ولا مقلية إن تقلت ومر الكلام في هذا في قوله : { قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً } وإلى هذا المعنى ذهب الطبري وغيره ، وهو اختيار الزمخشري قال : وقد ذكرنا أن هذا الأمر في معنى الخبر كأنه قيل : لن يغفر اللّه لهم استغفرت أم لم تستغفر ، وإن فيه معنى الشرط ، وذكرنا النكتة في المجيء به على لفظ الأمر انتهى . يعني في تفسير قوله تعالى :{ قُلْ أَنفِقُواْ } وكان قال هناك . { فإن قلت} : كيف أمرهم بالإنفاق ثم قال : لن يتقبل ؟ { قلت} : هو أمر في معنى الخبر كقوله : { قُلْ مَن كَانَ فِى الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً } ومعناه : لن يتقبل منكم أنفقتم طوعاً أو كرهاً ، ونحوه قوله : أستغفر لهم أو لا تستغفر لهم ، وقوله : أسيء بنا أو أحسنيي لا ملومة أي : لن يغفر اللّه لهم استغفرت لهم أو لا تستغفر لهم ، ولا نلومك أحسنت إلينا أو أسأت . فإن قيل : متى يجوز نحو هذا ؟ قلت : إذا دل الكلام عليه كما كان في قولك : غفر اللّه لزيد ورحمة . { فإن قلت} : لم فعل ذلك ؟ { قلت} : لنكتة وهي أنّ كثيراً كأنه يقول لعزة : امتحني لطف محلك عندي ، وقوة محبتي لك ، وعامليني بالإساءة والإحْسان ، وانظري هل تتفاوت خالي معك مسيئة كنت أو محسنة . وفي معناه قول القائل : أحول الذي إن قمت بالسيف عامدا لتضربه لم يستغشك في الودّ وكذلك المعنى أنفقوا وانظروا هل يتقبل منكم ، واستغفر لهم أو لا تستغفر لهم . وانظر هل ترى خلافاً بين حالي الاستغفار وتركه ؟ انتهى . وقيل : هو أمر مبالغة في الإياس ومعناه : إنك لو طلبت الاستغفار لهم طلب المأمور ، أو تركته ترك المنهى عنه ، لم يغفر لهم . وقيل : معناه الاستزاء أي : استغفارك لهم وترك الاستغفار سواء . { فإن قلت} : كيف جاز أن يستغفر لهم وقد أخبر أنهم كفروا ؟ فالجواب قالوا من وجوه : أحدها : أن ذلك كان على سبيل التأليف ليخلص إيمان كثير منهم . وقد روي أنه لما استغفر لابن سلول وكساه ثوبه ، وصلى عليه ، أسلم ألف من الخزرج لما رأوه يطلب الاستشفاء بثوب الرسول ، وكان رأس المنافقين وسيدهم . وقيل : فعل ذلك تطييباً لقلب ولده ومن أسلم منهم ، وهذا قريب مما قبله . وقيل : كان المؤمنون يسألون الرسول صلى اللّه عليه وسلم أن يستغفر لقومهم المنافقين في حياتهم رجاء أن يخلصوا في إيمانهم ، وبعد مماتهم رجاء الغفران ، فنهاه اللّه عن ذلك وأيأسهم منه ، وقد سأل عبد اللّه بن عبد اللّه الرسول أن يستغفر لأبيه رجاء أن يخفف عنه . وقيل : إنما استغفر لقوم منهم على ظاهر إسلامهم من غير أن يحقق خروجهم عن الإسلام ، ورد هذا القول بأنه تعالى أخبر بأنهم كفروا فلا يصح أن يقال إنه غير عالم بكفرهم . وقال أبو عبد اللّه الرازي : الأقرب في تعلق هذه الآية بما قبلها ما ذكره ابن عباس : أنّ الذين كانوا يلمزون هم الذين طلبوا الاستغفار ، ولا يجوز أن يكون الرسول صلى اللّه عليه وسلم اشتغل بالاستغفار فنهاه عنه لوجوه : الأول : أن المنافق كافر ، وقد ظهر في شرعه عليه السلام أن الاستغفار للكافر لا يجوز ، فلهذا السبب أمره اللّه تعالى بالاقتداء بإبراهيم عليهما السلام إلا في قوله : { لاَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ } وإذا كان هذا مشهوراً في الشرع ، فكيف يجوز الإقدام عليه ؟ الثاني : أنّ استغفار الغير للغير لا ينفعه إذا كان ذلك الغير مصراً على القبيح والمعصية . الثالث : أن إقدامه على الاستغفار لمنافقين يجري مجرى إغرائهم بالإقدام على الذنب . الرابع : أنه إذا كان لا يجيبه بقي دعاء الرسول مردوداً عند اللّه ، وذلك يوجب نقصان منصبه صلى اللّه عليه وسلم. الخامس : أن هذا الدعاء لو كان مقبولاً من الرسول لكان قليله مثل كثيره في حصول الإجابة ، فثبت أنّ المقصود من هذا الكلام أن القوم لما طلبوا منه أن يستغفر لهم منعه اللّه منه ، وليس المقصود من ذكر هذا العدد تحديد المنع ، بل هو كما يقول القائل : إنْ سأله حاجة لو سألتني سبعين مرة لم أقضها لك لا يريد بذلك أنه إذا زاد قضاها ، فكذا ههنا . والذي يؤكد ذلك قوله تعالى في الآية : ذلك بأنهم كفروا . فبيّن أن العلة التي لأجلها لا ينفعهم استغفار الرسول لهم ، وإن بلغ سبعين مرة ، هي كفرهم وفسقهم . وهذا المعنى قائم في الزيادة على السبعين ، فصار هذا القليل شاهداً بأن المراد إزالة الطمع أن ينفعهم استغفار الرسول مع إصرارهم على كفرهم ، ويؤكد : واللّه لا يهدي القوم الفاسقين . والمعنى : أنّن فسقهم مانع من الهداية ، فثبت أنّ الحق ما ذكرناه . وقال الأزهري في جماعة من أهل اللغة : السبعون هنا جمع السبعة المستعملة للكثرة ، لا السبعة التي فوق الستة انتهى . والعرب تستكثر في الآحار بالسبعة ، وفي العشرات بالسبعين ، وفي المئين بسبعمائة . قال الزمخشري : والسبعون جار مجرى المثل في كلامهم للتكثير . قال عليّ رضي اللّه تعالى عنه : لأصبحن العاص وابن العاصي سبعين ألفاً عاقدي النواصي قال ابن عطية : وأما تمثيله بالسبعين دون غيرها من الإعداد فلأنه عدد كثيراً ما يجيء غاية ومقنعاً في الكثرة . ألا ترى إلى القوم الذين اختارهم موسى ، وإلى أصحاب العقبة ؟ وقد قال بعض اللغويين : إنّ التصريف الذي يكون من السين والباء والعين شديد الأمر من ذلك السبعة ، فإنها عدد مقنع هي في السموات وفي الأرض ، وفي خلق الإنسان ، وفي بدنه ، وفي أعضائه التي بها يطيع اللّه ، وبها يعصيه ، وبها ترتيب أبواب جهنم فيما ذكر بعض الناس ، وهي : عيناه ، وأذناه ، وأسنانه ، وبطنه ، وفرجه ، ويداه ، ورجلاه . وفي سهام الميسر ، وفي الأقاليم ، وغير ذلك ومن ذلك السبع العبوس ، والعنبس ، ونحو هذا من القول انتهى ى واستدل القائلون بدليل الخطاب وأنّ التخصيص بالعدد يدل على أنّ الحكم فيما وراء ذلك بخلافه بما روى أنه قال : { وَاللّه } ولم ينصرف حتى نزل :{ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللّه لَهُمْ } فكف عنه . قيل : ولقائل أن يقول هذا الاستدلال بالعكس أولى ، لأنه تعالى لمّا بين أنه لا يغفر لهم البتة ثبت أنّ الحال فيما وراء العدد مساوٍ للحال في العدد ، وذلك يدل على أن التقييد بالعدد لا يوجب أن يكون الحكم فيما رآه بخلافه . قال الزمخشري: { فإن قلت } : كيف خفي على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو أفصح العرب وأخبرهم بأساليب الكلام وتمثيلاته ، والذي يفهم من ذكر هذا العدد كثرة الاستفغار كيف ؟ وقد تلاه بقوله تعالى ذلك بأنهم كفروا الآية ، فبين الصارف عن المغفرة لهم حتى قال : { رخص لي ربي فأزيد على السبعين } ؟ { قلت} : لم يخف عليه صلى اللّه عليه وسلم ذلك ، ولكنه خيل بما قال إظهاراً لغاية رحمته ورأفته على من بعث إليه كما قال إبراهيم عليه السلام : { مّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنّى وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } وفي إظهار النبي صلى اللّه عليه وسلم الرأفة والرحمة لطف لأمته ، ودعاء لهم إلى ترحم بعضهم على بعض انتهى . وفي هذا السؤال والجواب . غض من منصب النبوة ، وسوء أدب على الأنبياء ، ونسبته إلهم ما لا يليق بهم . وإذا كان صلى اللّه عليه وسلم يقول : { لم يكن لنبي خائنة الأعين } أو كما قال : وهي الإشارة ، فكيف يكون له النطق بشيء على سبيل التحييل ؟ حاشا منصب الأنبياء عن ذلك ، ولكن هذا الرجل مسرح الألفاظ في حق الأنبياء بما لا يليق بحالهم ، ولقد تكلم عند تفسير قوله : { عَفَا اللّه عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } بكلام في حق الرسول نزهت كتابي هذا أنْ أنقله فيه ، واللّه تعالى يعصمنا من الزلل في القول والعمل ، ذلك إشارة إلى انتفاء الغفران وتبيين العلة الموجبة لذلك ، وانتفاء هداية اللّه الفاسقين هو للذين حتم لهم بذلك ، فهو عام مخصوص . ٨١انظر تفسير الآية:٨٢ ٨٢{فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللّه وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللّه وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِى الْحَرّ } : لما ذكر تعالى ما ظهر من النفاق والهزء من الذين خرجوا معه إلى غزوة تبوك من المنافقين ، ذكر حال المنافقين الذين لم يخرجوا معه وتخلفوا عن الجهاد ، واعتذروا بأعذار وعلل كاذبة ، حتى أذن لهم ، فكشف اللّه للرسول صلى اللّه عليه وسلم عن أحوالهم وأعلمه بسوء فعالهم ، فأنزل اللّه عليه : فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول اللّه الآية : أي : عن غزوة تبوك . وكان الرسول قد خلفهم بالمدينة لما اعتذروا ، فأذن لهم . وهذه الآية تقتضي التوبيخ والوعيد . ولفظة المخلفون تقتضي الذم والتحقير ، ولذلك جاء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف ، وهي أمكن من لفظة المتخلفين ، إذ هم مفعول بهم ذلك ، ولم يفرح إلا منافق فخرج من ذلك الثلاثة وأصحاب العذر . ولفظ المقعد يكون للزمان والمكان ، والمصدر وهو هنا للمصدر أي : بقعودهم ، وهو عبارة عن الإقامة بالمدينة . وانتصب خلاف على الظرف ، أي بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقال : فلان أقام خلاف الحي ، أي بعدهم . إذا ظعنوا ولم يظعن معهم . قاله أبو عبيدة ، والأخفش ، وعيسى بن عمرو . قال الشاعر : عقب الربيع خلافهم فكأنما بسط السواطب بينهنّ حصيرا ومنه قول الشاعر : فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى تأهب لأخرى مثلها وكأن قد ويؤيد هذا التأويل : قراءة ابن عباس ، وأبي حيوة ، وعمرو بن ميمون خلف رسول اللّه . وقال قطرب ، ومؤرج ، والزجاج ، والطبري : انتصب خلاف على أنه مفعول لأجله أي : لمخالفة رسول اللّه ، لأنهم خالفوه حيث نهض للجهاد وقعدوا . ويؤيد هذا التأويل قراءة من قرأ خُلف بضم الخاء ، وما تظاهرت به الروايات من أنه أمرهم بالنفر فغضبوا وخالفوا وقعدوا مستأذنين وغير مستأذنين ، وكراهتهم للجهاد هي لكونهم لا يرجون به ثواباً ، ولا يدفعون بزعمهم عنهم عقاباً . وفي قوله : فرح وكرهوا مقابلة معنوية ، لأن الفرح من ثمرات المحبة . وفي قوله : أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم تعريض بالمؤمنين ويتحملهم المشاق العظيمة أي : كالمؤمنين الذين بذلوا أموالهم وأنفسهم في الجهاد في سبيل اللّه ، وآثروا ذلك على الدعة والخفض ، وكره ذلك المنافقون ، وكيف لا يكرهونه وما فيهم ما في المؤمنين من باعث الإيمان . والفرح بالقعود يتضمن الكراهة للخروج ، وكأن الفرج بالقعود هو لمثل الإقامة ببلده لأجل الألفة والإيناس بالأهل والولد ، وكراهة الخروج إلى الغزو لأنه تعريض بالنفس والمال للقتل والتلف . واستعذروا بشدّة الحر ، فأجاب اللّه تعالى عما ذكروا أنه سبب لترك النفر ، وقالوا : إنه قال بعضهم لبعض وكانوا أربعة وثمانين رجلاً . وقيل : قالوا للمؤمنين لم يكفهم ما هم عليه من النفاق والكسل حتى أرادوا أن يكسبوا غيرهم وينبهوهم على العلة الموجبة لترك النفر . قال ابن عباس ، وأبو رزثن والربيع : قال رجل : يا رسول اللّه ، الحر شديد ، فلا ننفر في الحر . وقال محمد بن كعب هو رجل من بني سلمة انتهى . أي : قال ذلك عن لسانهم ، فلذلك جاء وقالوا بلفظ الجمع . وكانت غزوة تبوك في وقت شدّة الحر وطيب الثمار والظلال ، فأمر اللّه نبيه أن يقول لهم : قل نار جهنم أشد حراً ، أقام الحجة عليهم بأنه قيل لهم : إذا كنتم تجزعون من حر القيظ ، فنار جهنم التي هي أشدّ أحرى أن تجزعوا منها لو فقهتم . قال الزمخشري : قل نار جهنم أشدّ حراً استجهال لهم ، لأنّ من تصوّن من مشقة ساعة فوقع بذلك التصوّن في مشقة الأبد كان أجهل من كل جاهل . ولبعضهم : مسرّة أحقاد تلقيت بعدها مساءة يوم اربها شبه الصاب فكيف بأن تلقى مسرة ساعة وراء تقضيها مساءة أحقاب انتهى . وقرأ عبيد اللّه : يعلمون مكان يفقهون ، وينبغي أن يحمل ذلك على معنى التفسير ، لأنه مخالف لسواد ما أجمع المسلمون عليه ، ولما روي عنه الأئمة . والأمر بالضحك والبكاء في معنى الخبر ، والمعنى : فسيضحكون قليلاً ويبكون كثيراً ، إلا أنه أخرج على صيغة الأمر للدلالة على أنه حتم لا يكون غيره . روي أنّ أهل النفاق يكونون في النار عمرالدنيا ، لا يرقأ لهم دمع ، ولا يكتحلون بنوم . والظاهر أنّ قوله : فليضحكوا قليلاً إشارة إلى مدّة العمر في الدنيا ، وليبكوا كثيراً إشارة إلى تأييد الخلود ، فجاء بلفظ الأمر ومعناه الخبر عن حالهم . قال ابن عطية : ويحتمل أن تكون صفة حالهم أي : هم لما هم عليه من الحظر مع اللّه وسوء الحال ، بحيث ينبغي أن يكون ضحكهم قليلاً وبكاؤهم كثيراً من أجل ذلك ، وهذا يقتضي أن يكون وقت الضحك والبكاء في الدنيا نحو قوله عليه السلام لأمته : { لو يعلمون ما أعلم لبكيتم كثيراً ولضحكتم قليلاً } وانتصب قليلاً وكثيراً على المصدر ، لأنهما نعت للمصدر أي : ضحكاً قليلاً وبكاء كثيراً . وهذا من المواضع التي يحذف فيها المنعوت ، ويقوم نعته مقامه ، وذلك لدلالة الفعل عليه . وقال أبو البقاء : ويجوز أن يكونا نعتاً لظرف محذوف أي : زماناً قليلاً ، وزماناً كثيراً انتهى . والأول أجود ، لأن دلالة الفعل على المصدر بحروفه ودلالته على الزمان بهيئته ، فدلالته على المصدر أقوى . وانتصب جزاء على أنه مفعول لأجله ، وهو متعلق بقوله : وليبكوا كثيراً . ٨٣{فَإِن رَّجَعَكَ اللّه إِلَى طَائِفَةٍ مّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِىَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِىَ عَدُوّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ } : الخطاب للرسول والمعنى : فإن رجعك اللّه من سفرك هذا وهو غزوة تبوك . قيل : ودخول إنْ هنا وهي للمكن وقوعه غالباً إشارة إلى أنه صلى اللّه عليه وسلم لا يعلم بمستقبلات أمره من أجل وغيره ، إلا أن يعلمه اللّه ، وقد صرح بذلك في قوله تعالى :{ قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مّنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِى مَا فِعْلَ بِى وَلاَ بِكُمْ وَلاَ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِىَ السُّوء } قال نحوه ابن عطية وغيره ، إلى طائفة منهم لأنّ منهم من مات ، ومنهم من تاب وندم ، ومنهم من تخلف لعذر صحيح . فالطائفة هنا الذين خلصوا في النفاق وثبتوا عليه هكذا قيل . وإذا كان الضمير في منهم عائداً على المخلفين الذين خرجوا وكرهوا أن يجاهدوا ، فالذي يظهر أنّ ذكر الطائفة هو لأجل أنّ منهم من مات . قال ابن عطية : ويشبه أن تكون هذه الطائفة قد حتم عليها بالموافاة على النفاق ، وعينوا للنبي صلى اللّه عليه وسلم ، وإلا فكيف يترتب على أن يصلي على موتاهم إنْ لم يعينهم . وقوله : وما تواوهم فاسقون ، نص في موافاتهم . ومما يؤيد هذا أنّ النبي صلى اللّه عليه وسلم عينهم لحذيفة بن اليمان ، وكانت الصحابة إذا رأوا حذيفة تأخر عن الصلاة على جنازة رجل تأخروا هم عنها . وروي عن حذيفة أنه قال يوماً : بقي من المنافقين كذا وكذا . وقال له عمرو بن الخطاب : أنشدك اللّه أنا منهم ؟ فقال : لا واللّه ، لا أمنت منها أحداً بعدك . وأمر اللّه نبيه أن يقول لهم : لن تخرجوا معي هو عقوبة لهم وإظهار لدنائة منزلتهم وسوء حالهم ، وهذا هو المقصود في قصة ثعلبة بن حاطب التي تقدمت في الامتناع من أخذ صدقته ، ولا خزي أعظم من أن يكون إنسان قدر فضه الشرع ورده كالجمل الأجرب . قال الزمخشري : فاستأذنوك للخروج يعني إلى غزوة بعد غزوة تبوك ، وكان إسقاطهم من ديوان الغزاة عقوبة لهم على تخلفهم الذي علم اللّه تعالى أنه لم يدعهم إليه إلا النفاق ، بخلاف غيرهم من المحلفين انتهى . وانتقل بالنفي من الشاق عليهم وهو الخروج إلى الغزاة ، إلى الأشق وهو قتال العدو ، لأنه عظم الجهاد وثمرة الخروج وموضع بارقة السيوف التي تحتها الجنة ، ثم علل انتفاء الخروج والقتال بكونهم رضوا بالقعود أول مرة ، ورضاهم ناشىء عن نفاقهم وكفرهم وخداعهم وعصيانهم أمر اللّهفي قوله :{ انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً } وقالوا هم : لا تنفروا في الحر ، فعلل بالمسبب وهو الرضا الناشىء عن السبب وهو النفاق . وأولمرة هي الخرجة إلى غزوة تبوك ، ومرة مصدر كأنه قيل :أو خرجة دعيتم إليها ، لأنها لم تكن أول خرجة خرجها الرسول للغزاة ، فلا بد من تقييدها ، إذ الأولية تقتضي السبق . وقيل : التقدير أول خرجة خرجها الرسول لغزوة الروم بنفسه . وقيل : أول مرة قبل الاستئذان . وقال أبو البقاء : أول مرة ظرف ، ونعني ظرف زمان ، وهو بعيد . وقال الزمخشري: { فإن قلت } : مرة نكرة وضعت موضع المرات للتفضيل ، فلم ذكر اسم التفضيل المضاف إليها وهو دال على واحدة من المرات ؟ { قلت} : أكثر اللغتين هند . أكبر النساء ، وهي أكبرهن . ثم إنّ قولك هي كبرى امرأة لا تكاد تعثر عليه ، ولكن هي أكبر امرأة ، وأول مرة ، وآخر مرة انتهى . فاقعدوا مع الخالفين أي : أقيموا ، وليس أمراً بالقعود الذي هو نظير الجلوس ، وإنما المراد منعهم من الخروج معه . قال أبو عبيدة : الخالف الذي خلف بعد خارج فقعد في رحله ، وهو الذي يتخلف عن القوم . وقيل : الخالفين المخالفين من قولهم : عبد خالف أي : مخالف لمولاه . وقيل : الإخساء الأدنياء من قولهم : فلان خالفة قومه لا خسهم وأرذلهم . ودلت هذه الآية على توقي صحبة من يظهر منه مكر وخداع وكيد ، وقطع العلقة بينهما ، والاحتراز منه . وعن قتادة : ذكر لنا أنهم كانوا اثنى عشر رجلاً . قال ابن عطية : والخالفون جميع من تخلف من نسائ وصبيان وأهل عذر . غلب المذكر ، فجمع بالواو والنون ، وإن كان ثمّ نساء وهو جمع خالف . وقال قتادة : الخالفون النساء ، وهذا مردود . وقال ابن عباس : هم الرجال . وقال الطبري : يحتمل قوله في الحالتين أن يريد الفاسدين ، فيكون ذلك مأخوذاً من خلف الشيء إذا فسد ، ومنه خلوف فم الصائم . وقرأ مالك بن دينار وعكرمة : مع الخلفين ، وهو مقصور من الخالفين كما قال : عدداً وبدداً يريد عاددا وباددا ، وكما قال الآخر : مثل النقي لبده ضرب الظلل يريد الظلال . ٨٤{وَلاَ تُصَلّ عَلَى أَحَدٍ مّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّه وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ } : النهي عن الصلاة على المنافقين إذا ماتوا عقوبة ثانية وخزي متأبد عليهم . وكان فيما روي يصلي على المنافقين إذا ماتوا ، ويقوم على قبورهم بسبب ما يظهرونه من الإسلام ، فإنهم كانوا يتلفظون بكلمتي الشهادة ، ويصلون ، ويصومون ، فبنى الأمر على ما ظهر من أقوالهم وأفعالهم ، ووكل سرائرهم إلى اللّه ، ولم يزل على ذلك حتى وقعت واقعة عبد اللّه بن أبي . وطول الزمخشري وغيره في قصته ، فتظافرت الروايات أنه صلى عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فنزلت هذه الآية بعد ذلك . وروى أنس أنه لما تقدم ليصلي عليه جاءه جبريل فجذبه بثوبه وتلا عليه : ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ، فانصرف ولم يصل . وذكروا محاورة عمر لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين جاء ليصلي عليه . ومات صفة لا حد ، فقدم الوصف بالمجرور ثم بالجملة ، وهو ماض بمعنى المستقبل ، لأن الموت غير موجود لا محالة . نهاه اللّه عن الصلاة عليه ، والقيام على قبره وهو الوقوف عند قبره حتى يفرغ من دفنه . وقيل : المعنى ولا تتولوا دفنه وقبره ، فالقبر مصدره . كان صلى اللّه عليه وسلم إذا دفن الميت وقف على قبره ودعا له ، فنهي عن ذلك في حق المنافقين ، فلم يصل بعد على منافق ، ولا قام على قبره . إنهم كفروا تعليل للمنع من الصلاة والقيام بما يقتضي الامتناع من ذلك ، وهو الكفر والموافاة عليه . ٨٥{وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّه أَن يُعَذّبَهُمْ بِهَا فِى الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} تقدّم نظير هذه الآية وأعيد ذلك لأن تجدد النزول له شأن في تقرير ما نزل له وتأكيده ، وإرادة أن يكون على بال من المخاطب لا ينساه ولا يسهو عنه ، وأن يعتقد أن العمل به مهم يفتقر إلى فضل عناية به ، لا سيما إذا تراخى ما بين النزولين . فأشبه الشيء الذي أهم صاحبه ، فهو يرجع إليه في أثناء حديثه ، ويتخلص إليه . وإنما أعيد هذا المعنى لقوته فيما يجب أن يحذر منه قاله : الزمخشري . و قال ابن عطية : ووجه تكريرها توكيد هذا المعنى . وقال أبو علي : ظاهره أنه تكرير وليس بتكرير ، لأن الآيتين في فريقين من المنافقين ، ولو كان تكريراً لكان مع تباعد الآيتين لفائدة التأكيد والتذكير . وقيل : أراد بالأولى لا تعظمهم في حال حياتهم بسبب كثرة المال والولد ، وبالثانية لا تعظمهم بعد وفاتهم لمانع الكفر والنفاق . وقد تغايرت الآيتان في ألفاظ هنا ، ولا ، وهناك ، فلا ومناسبة الفاء أنه عقب قوله : ولا ينفقون إلا وهم كارهون أي : للإنفاق ، فهم معجبون بكثرة الأموال والأولاد ، فنهاه عن الإعجاب بفاء التعقيب . ومناسبة الواو أنه نهي عطف على نهي قبله . ولا تصل ، ولا تقم ، ولا تعجبك ، فناسبت الواو وهنا وأولادهم وهناك ، ولا أولادهم ، فذكر لا مشعر بالنهي عن الإعجاب بكل واحد واحد على انفراد . ويتضمن ذلك النهي عن المجموع ، وهنا سقطت ، فكان نهياً عن إعجاب المجموع . ويتضمن ذلك النهي عن الإعجاب بكل واحد واحد . فدلت الآيتان بمنطوقهما ومفهومهما على النهي عن الإعجاب بالأموال والأولاد مجتمعين ومنفردين . وهنا أن يعذبهم ، وهناك ليعذبهم ، فأتى باللام مشعرة بالتعليل . ومفعول يريد محذوف أي : إنما يريد اللّه ابتلاءهم بالأموال والأولاد لتعذيبهم . وأتى بأن لأنّ مصب الإرادة هو التعذيب أي : إنما يريد اللّه تعذيبهم . فقد اختلف متعلق الفعل في الآيتين هذا الظاهر ، وإن كان يحتمل زيادة اللام . والتعليل بأنّ وهناك الدنيا ، وهنا في الحياة الدنيا ، فأثبت في الحياة على الأصل ، وحذفت هنا تنبيهاً على خسة الدنيا ، وأنها لا تستحق أن تسمى حياة ، ولا سيما حين تقدمها ذكر موت المنافقين ، فناسب أنْ لا تسمى حياة . ٨٦انظر تفسير الآية:٨٧ ٨٧{وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ ءامِنُواْ بِاللّه وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُنْ مَّعَ الْقَاعِدِينَ رَضُواْ } الجمهور على أنّ السورة هنا كل سورة كان فيها الأمر بالإيمان والجهاد . وقيل : براءة لأنّ فيها الأمر بهما . وقيل : بعض سورة ، فأطلق عليه سورة ، كما يطلق على بعض القرآن قرآن وكتاب . وهذه الآية وإن تقدم أنهم كانوا استأذنوا الرسول في القعود ، فيها تنبيه على أنهم كانوا متى تنزل سورة فيها الأمر بالإيمان والجهاد استأذنوا ، وليست هنا إذاً تفيد التعليق فقط ، بل انجرَّ معها معنى التكرار سواء كان ذلك فيها بحكم الوضع أنه بحكم غالب الاستعمال ، لا الوضع . وهي مسألة خلاف في النحو ، ومما وجد معها التكرار قول الشاعر : إذا وجدت أوار النار في كبدي أقبلت نحو سقاء القوم أبترد ألا ترى أنّ المعنى متى وجدت وإن آمنوا يحتمل أنْ أنْ تكون تفسيرية ، لأن قبلها شرط ذلك ؟ ويحتمل أن تكون مصدرية أي : بأن آمنوا أي : بالإيمان . والظاهر أنّ الخطاب للمنافقين أي : آمنوا بقلوبكم كما آمنتم بألسنتكم . قيل : ويحتمل أن يكون خطاباً للمؤمنين ومعناه : الاستدامة والطول . قال ابن عباس والحسن : الغنى . وقيل : القوة والقدرة . وقال الأصم : أولو الطول الكبراء والرؤساء . وأولو الأمر منهم أي : من المنافقين كعبد اللّه بن أبي ، والجد بن قيس ، ومعتب بن قشير ، وإضرابهم . وأخص أولو الطول لأنهم القادرون على التنفير والجهاد ، ومن لا مال له ، ولا قدرة لا يحتاج إلى الاستئذان ، والاستئذان مع القدرة على الحركة أقبح وأفحش . والمعنى : استأذنك أولو الطول منهم في القعود ، وفي استأذنك التفات ، إذ هو خروج من لفظ الغيبة وهو قوله : ورسوله ، إلى ضمير الخطاب . وقالوا : درنا نكن مع القاعدين الزمني وأهل العذر ، ومن ترك لحراسة المدينة ، لأن ذلك عذر . وفي قوله : رضوا بأن يكونوا مع الخوالف ، تهيجن لهم ، ومبالغة في الذم . والخوالف : النساء قاله : الجمهور كابن عباس ، ومجاهد وقتادة ، وشمر بن عطية ، وابن زيد ، والفراء ، وذلك أبلغ في الذم كما قال : وما أدري وسوف إخال أدري أقوم آل حصن أم نساء فإن تكن النساء مخبآت فحق لكل محصنة هداء وقال آخر : كتب القتل والقتال علينا وعلى الغانيات جر الذيول فكونهم رضوا بأنْ يكونوا قاعدين مع النساء في المدينة أبلغ ذم لهم وتهجين ، لأنهم نزلوا أنفسهم منزلة النساء العجزة اللواتي لا مدافعة عندهنّ ولا غنى . وقال النضر بن شميل : الخوالف من لا خير فيه . وقال النحاس : يقال للرجل الذي لا خير فيه خالفة ، وهذا جمعه بحسب اللفظ ، والمراد أخساء الناس وأخلافهم . وقالت فرقة : الخوالف جمع خالف ، فهو جار مجرى فوارس ونواكس وهوالك ، والظاهر أن قوله : وطبع خبر من اللّه بما فعل بهم . وقيل : هو استفهام أي : أو طبع على قلوبهم ، فلأجل الطبع لا يفقهون ولا يتدبرون ولا يتفهمون ما في الجهاد من الفوز والسعادة ، وما في التخلف من الشقاء والضلال . ٨٨انظر تفسير الآية:٨٩ ٨٩{وَلَاكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أَعَدَّ اللّه لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } : لما ذكر أنّ أولئك المنافقين اختاروا الدعة وكرهوا الجهاد ، وفروا من القتال ، وذكر ما أثر ذلك فيهم من الطبع على قلوبهم ، ذكر حال الرسول والمؤمنين في المثابرة على الجهاد ، وذلك ما لهم من الثواب . ولكن وضعها أنْ تقع بين متنافيين . ولما تضمن قول المنافقين ذرنا ، واستئذانهم في القعود ، كان ذلك تصريحاً بانتفاء الجهاد . فكأنه قيل : رضوا بكذا ولم يجاهدوا ، ولكنّ الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا . والمعنى : إنْ تخلف هؤلاء المنافقون فقد توجه إلى الجهاد من هو خير منهم وأخلص نية . كقوله تعالى :{ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ }{ فَإِنِ اسْتَكْبَرُواْ فَالَّذِينَ عِندَ رَبّكَ يُسَبّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ } والخيرات : جمع خيرة وهو المستحسن من كل شيء ، فيتناول محاسن الدنيا والآخرة لعموم اللفظ ، وكثرة استعماله في النساء ومنه فيهن خيرات حسان . وقال الشاعر : ولقد طعنت مجامع الربلات ربلات هند خيرة الملكات وقيل : المراد بالخيرات هنا الحور العين . وقيل : المراد بها الغنائم من الأموال والذراري . وقيل : أعدّ اللّه لهم جنات ، تفسير للخيرات إذ هو لفظ مبهم . ٩٠{وَجَاء الْمُعَذّرُونَ مِنَ الاْعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللّه وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } : ولما ذكر أحوال المنافقين الذين بالمدينة شرح أحوال المنافقين من الإعراب . قرأ الجمهور : المعذبون بفتح العين وتشديد الذال ، فاحتمل وزنين : أحدهما : أن يكون فعل بتضعيف العين ومعناه : تكلف العذر ولا عذر له ، ويقال عذر في الأمر قصر فيه وتوانى ، وحقيقته أن يوهم أنّ له عذراً فيما يفعل ولا عذر له . والثاني : أن يكون وزنه افتعل ، وأصله اعتذر كاختصم ، فأدغمت التاء في الذال . ونقلت حركتها إلى العين ، فذهبت ألف الوصل . ويؤيده قراءة سعيد بن جبير : المعتذرون بالتاء من اعتذر . وممن ذهب إلى أن وزنه افتعل . الأخفش ، والفراء ، وأبو عبيد ، وأبو حاتم ، والزجاج ، وابن الأنباري . وقرأ ابن عباس ، وزيد بن علي ، والضحاك ، والأعرج ، وأبو صالح ، وعيسى بن هلال ، ويعقوب ، والكسائي ، في رواية المعذرون من أعذر . وقرأ مسلمة : المعذرون بتشديد العين والذال ، من تعذر بمعنى اعتذر . قال أبو حاتم : أراد المتعذرين ، والتاء لا تدغم في العين لبعد المخارج ، وهي غلط منه أو عليه . واختلف في هؤلاء المعذرين أهم مؤمنون أم كافرون ؟ فقال ابن عباس ومجاهد وجماعة : هو مؤمنون ، وأعذارهم صادقة . وقال قتادة وفرقة : هم كافرون وأعذارهم كذب . وكان ابن عباس يقول : رحم اللّه المعذرين ولعن المعذرين . قيل : هم أسد وغطفان قالوا إن لنا عيالاً وأن بنا جهداً ، فأذن لهم في التخلف . وقيل : هم رهط عامر بن الطفيل قالوا : إنْ غزونا معك غارات إعراب طي على أهالينا ومواشينا ، فقال صلى اللّه عليه وسلم : { سيعني اللّه عنكم } وعن مجاهد : نفر من غفار اعتذروا فلم يعذرهم اللّه تعالى . قال ابن إسحاق : نفر من غفار منهم خفاف بن إيماء ، وهذا يقتضي أنهم مؤمنون ، والظاهر أن هؤلاء الجائين كانوا مؤمنين كما قال ابن عباس ، لأن التقسيم يقتضي ذلك . ألا ترى إلى قوله : { وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللّه وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } فلو كان الجميع كفاراً لم يكن لوصف الذين قعدوا بالكذب اختصاص ، وكان يكون التركيب سيصيبهم عذاب أليم . ويحتمل أن يكونوا كفاراً كما قال قتادة ، فانقسموا إلى جاء معتذر وإلى قاعد ، واستؤنف إخبار بما يصيب الكافرين . ويكون الضمير في منهم عائداً على الإعراب ، أو يكون المعنى : سيصيب الذين يوافون على الكفر من هؤلاء عذاب أليم في الدنيا بالقتل والسبي ، وفي الآخرة بالنار . وقرأ الجمهور : كذبوا بالتخفيف أي : في إيمانهم فاظهروا ضد ما أخفوه . وقرأ أبيّ والحسن في المشهور عنه : ونوح وإسماعيل كذبوا بالتشديد أي لم يصدقوه تعالى ولا رسوله ، وردوا عليه أمره والتشديد أبلغ في الذم . ٩١انظر تفسير الآية:٩٢ ٩٢{لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ اللّه وَرَسُولُهُ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللّه غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً } : لما ذكر حال من تخلف عن الجهاد مع القدرة عليه ، ذكر حال من له عذر في تركه . والضعفاء جمع ضعيف وهو الهرم ، ومن خلق في أصل البنية شديد المخافة والضؤلة ، بحيث لا يمكنه الجهاد . والمريض من عرض له المرض ، أو كان زمناً ويدخل فيه العمى والعرج . والذين لا يجدون ما ينفقون هم الفقراء . قيل : هم مزينة وجهينة وبنو عذرة ، ونفى الحرج عنهم في التخلف عن الغزو ، ونفي الحرج لا يتضمن المنع من الخروج إلى الغزو ، فلو خرج أحد هؤلاء ليعين المجاهدين بما يقدر عليه من حفظ متاعهم أو تكثير سوادهم ولا يكون كلاًّ عليهم ، كان له في ذلك ثواب جزيل . فقد كان عمرو بنِ الجموح أعرج وهو من أتقياء الأنصار ، وهو في أول الجيش ، وقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : { إن اللّه قد عذرك } فقال : واللّه لأحقرن بعرجتي هذه في الجنة . وكان ابن أم مكتوم أعمى ، فخرج إلى أحد وطلب أن يعطي اللواء فأخذه ، فأصيبت يده التي فيها اللواء فأمسكه باليد الأخرى ، فضربت فأمسكه بصدره . وقرأ : { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ } وشرط في انتفاء الحرج النصح للّه ورسوله ، وهو أن يكون نياتهم وأقوالهم سراً وجهراً خالصة للّه من الغش ، ساعية في إيصال الخير للمؤمنين ، داعية لهم بالنصر والتمكين . ففي سنن أبي داود { لقد تركتم بعدكم قوماً ما سرتم مسيراً ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم وادياً إلا هم معكم فيه} قالوا : يا رسول اللّه وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة ؟ قال : { حبسهم العذر} . وقرأ أبو حيوة : إذا نصحوا اللّه ورسوله بنصب الجلالة ، والمعطوف ما على المحسنين من سبيل أي : من لائمة تناط بهم أو عقوبة . ولفظ المحسنين عام يندرج فيه هؤلاء المعذورون الناصحون غيرهم ، وقيل : المحسنين هنا المعذورون الناصحون ، ويبعد الاستدلال بهذه الجملة على نفي القياس . وإن المحسن هو المسلم ، لانتفاء جميع السبيل ، فلا يتوجه عليه شيء من التكاليف إلا بدليل منفصل ، فيكون يخص هذا العام الدال على براءة الذمة . وقال الكرماني : المحسنين هم الذين أطاعوا اللّه ورسوله في أقوالهم ، ثم أكد الرجاء فقال : واللّه عفو رحيم ، وقراءة ابن عباس : واللّه لأهل الإساءة غفور رحيم على سبيل التفسير ، لا على أنه قرآن لمخالفته سواد المصحف . قيل : وقوله : ما على المحسنين من سبيل ، فيه نوع من أنواع البديع يسمى : التمليح ، وهو أن يشار في فحوى الكلام إلى مثل سائر ، أو شعرٍ نادر ، أو قصةٍ مشهورة ، أو ما يجري مجرى المثل . ومنه قول يسار بن عدي حين بلغه قتل أخيه ، وهو يشرب الخمر : اليوم خمر ويبدو في غد خبر والدهر من بين إنعام وإيئاس {وَلاَ عَلَى الَّذِينَ مَاذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ } ، معطوف على ما قبله ، وهم مندرجون في قوله : ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون ، وذكروا على سبيل نفي الحرج عنهم ، وأنهم بالغوا في تحصيل ما يخرجون به إلى الجهاد حتى أقضي بهم الحال إلى المسألة ، والحاجة لبذل ماء وجوههم في طلب ما يحملهم إلى الجهاد ، والاستعانة به حتى يجاهدوا مع الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، ولا يفوتهم أجر الجهاد . ويحتمل أنْ لا يندرجوا في قوله : ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون ، بأن يكون هؤلاء هم الذين وجدوا ما ينفقون ، إلا أنهم لم يجدوا المركوب ، وتكون النفقة عبارة عن الزارد لا عبارة عما يحتاج إليه المجاهد من زاد ومركوب وسلاح وغير ذلك مما يحتاج إليه . وهذه نزلت في العرباض بن سارية . وقيل : في عبد اللّه بن مغفل . وقيل : في عائذ بن عمرو . وقيل : في أبي موسى الأشعري ورهطه . وقيل : في تسعة نفر من بطون شتى فهم البكاؤون وهم : سالم بن عمير من بني عوف ، وحرمي بن عمرو من بني واقف ، وأبو ليلى عبد الرحمن بن كعب من بني مازن بن النجار ، وسلمان بن صخر من بني المعلى وأبو رعيلة عبد الرحمن بن زيد بن بني حارثة ، وعمرو بن غنمة من بني سلمة ، وعائذ بن عمرو المزني . وقيل : عبد اللّه بن عمرو المزني . وقال مجاهد : البكاؤن هم بنو بكر من مزينة . وقال الجمهور : نزلت في بني مقرن ، وكانوا ستة أخوة صحبوا النبي صلى اللّه عليه وسلم ، وليس في الصحابة ستة أخوة غيرهم . ومعنى لتحملهم أي : على ظهر مركب ، ويحمل عليه أثاب المجاهد . قال معناه : ابن عباس . وقال أنس بن مالك : لتحملهم بالزاد . وقال الحسن بن صالح : بالبغال . وروي أنّ سبعة من قبائل شتى قالوا : يا رسول اللّه قد ندبتنا إلى الخروج معك ، فاحملنا على الخفاف المرقوعة والنعال المخصوفة نغر معك فقال :{ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ } فتولوا وهم يبكون . وقرأ معقل بن هارون : لنحملهم بنون الجماعة ، وإذا تقتضي جواباً . والأولى أن يكون ما يقرب منها وهو قلب ، ويكون قوله : تولوا جواباً لسؤال مقدر كأنه قيل : فما كان حالهم إذ أجابهم الرسول ؟ قيل : تولوا وأعينهم تفيض . وقيل : جواب إذا تولوا ، وقلب جملة في موضع الحال من الكاف ، أي : إذا ما آتوك قائلاً لا أجد ، وقد قبله مقدر كما قيل في قوله : حصرت صاورهم قاله الزمخشري . أو على حذف حرف العطف أي : وقلت ، قاله الجرجاني وقاله ابن عطية وقدره : فقلت بالفاء وأعينهم تفيض جملة حالية . قال الزمخشري: { فإن قلت } : فهل يجوز أن يكون قوله : قلت لا أجد استئنافاً مثله يعني : مثل رضوا بأن يكونوا مع الخوالف ؟ كأنه قيل : إذا ما أتوك لنحملهم تولوا ، فقيل : ما لهم تولوا باكين ؟ قلت : لا أجد ما أحملهم عليه ، إلا أنه وسط بين الشرط والجزاء كالاعتراض { قلت} : نعم ، ويحسن انتهى . ولا يجوز ولا يحسن في كلام العرب ، فيكف في كلام اللّه وهو فهم أعجمي ؟ وتقدّم الكلام على نحو وأعينهم تفيض من الدمع في أوائل حزب { لَتَجِدَنَّ } من سورة المائدة . وقال الزمخشري : هنا وأعينهم تفيض من الدمع كقولك : تفيض دمعاً ، وهو أبلغ من يفيض دمعها ، لأن العين جعلت كأن كلها دمع فائض . ومن للبيان كقولك : أفديك من رجل ، ومحل الجار والمجرور النصب على التمييز انتهى . ولا يجوز ذلك لأنّ التمييز الذي أصله فاعل لا يجوز جره بمن ، وأيضاً فإنه معرفة ، ولا يجوز إلا على رأي الكوفيين الذين يجيزون مجيء التمييز معرفة . وانتصب حزناً على المفعول له ، والعامل فيه تفيض . وقال أبو البقاء : أو مصدر في موضع الحال . وأن لا يجدوا مفعول له أيضاً ، والناصب له حزناً قال أبو البقاء : ويجوز أن يتعلق بتفيض انتهى . ولا يجوز ذلك على إعرابه حزناً مفعولاً له والعامل فيه تفيض ، لأنّ العامل لا يقض اثنين من المفعول له إلا بالعطف أو البدل . ٩٣إنما السبيل على . . . . . الإعراب صيغة جمع ، وفرق بينه وبن العرب . فالعربي من له نسب في العرب ، والأعرابي البدوي منتجع الغيث والكلأ ، كان من العرب أو من مواليهم . وللفرق نسب إليه على لفظه فقيل : الأعرابي ، وجمع الأعراب على الأعارب جمع الجمع . أجدر أحق وأحرى ، قال الليث : جدر جدارة فهو جدير وأجدر ، به يؤنث ويثني ويجمع . قال الشاعر : نخيل عليها جنة عبقرية جديرون يوماً أن ينالوا فيستعلوا أسس على وزن فعل مضعف العين ، وآسس على وزن فاعل وضع الأساس وهو معروف ، ويقال فيه : أس . والجرف : البئر التي لم تطوه ، وقال أبو عبيدة : الهوة وما يجرفه السيل من الأودية . هار : منهال ساقط يتداعى بعضه في إثر بعض ، وفعله هار يهور ويهار ويهير ، فعين هار يحتمل أن تكون واواً أو ياءً ، فاصله هاير أو هاور فقلبت ، وصنع به ما صنع بقاضٍ وغازٍ ، وصار منقوصاً مثل شاكي السلاح ولاث قال : لاث به الآشاء والعبريّ . وقيل : هار محذوف العين لفرعله فتجري الراء بوجوه الإعراب . وحكى الكسائي : تهور وتهير . أواه كثير قول أوّه ، وهي اسم فعل بمعنى أتوجع ، ووزنه فعال للمبالغة . فقياس الفعل أن يكون ثلاثياً ، وقد حكاه قطرب : حكى آه يؤوه أوهاً كقال يقول قولاً ونقل عن النحويين أنهم أنكروا ذلك وقالوا : ليس من لفظ أوه فعل ثلاثي ، إنما يقال : أوّه تأويها وتأوّه تأوهاً . قال الراجز : فأوه الداعي وضوضأ أكلبه . وقال المثقب العبدي : إذا ما قمت أرحلها بليل تأوه آهة الرجل الحزين وفي أوه اسم الفعل لغات ذكرت في علم لنحو . الظمأ : العطش الشديد ، وهو مصدر ظمىء يظمأ فهو ظمآن وهي ظمآن ، ويمد فيقال ظماء . الوادي : ما انخفض من الأصل مستطيلاً كمحاري السيول ونحوها ، وجمعته العرب على أودية وليس بقياسه ، قال تعالى : { فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا } وقياسه فواعل ، لكنهم استثقلوه لجمع الواوين . قال النحاس : ولا أعرف فاعلاً أفعلة سواه ، وذكر غيره ناد وأندية قال الشاعر : وفيهم مقامات حسان وجوههم وأندية ينتابها القول والفعل والنادي : المجلس ، وحكى الفراء في جمعه أو داء ، كصاحب وأصحاب قال جرير : عرفت ببرقة الأوداء رسما مجيلاً طال عهدك من رسوم وقال الزمخشري : الوادي كل منعرج من جبال وآكام يكون منفذاً للسيل ، وهو في الأصل فاعل من ودي إذا سال ، ومنه الودى . وقد شاع في استعمال العرب بمعنى الأرض تقول : لا تصل في وادي غيرك . {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاء رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللّه عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } : أثبت في حق المنافقين ما نفاه في حق المحسنين ، فدل لأجل المقابلة أنّ هؤلاء مسيؤن ، وأي إساءة أعظم من النفاق والتخلف عن الجهاد والرغبة بأنفسهم عن رسول اللّه ، وليست إنما للحصر ، إنما هي للمبالغة في التوكيد ، والمعنى : إنما السبيل في اللائمة والعقوبة والإثم على الذين يستأذنونك في التخلف عن الجهاد وهم قادرون عليه لغناهم ، وكان خبر السبيل على وإن كان قد فصل بإلى كما قالت : هل من سبيل إلى خمر فاشربها أم من سبيل إلى نصر بن حجاج لأنّ على تدل على الاستعلاء وقلة منعة من دخلت عليه ، ففرق بين لا سبيل لي على زيد ، ولا سبيل لي إل زيد . وهذه الآية في المنافقين المتقدم ذكرهم : عبد اللّه بن أبي ، والجد بن قيس ، ومعتب بن قشير ، وغيرهم . ورضوا : استئناف كأنه قيل : ما بالهم استأذنوا في القعود بالمدينة وهم قادرون على الجهاد ، فقيل : رضوا بالدناءة وانتظامهم في سلك الخوالف . وعطف وطبع تنبيهاً على أنّ السبب في تخلفهم رضاهم بالدناءة ، وطبع على قلوبهم فهم لا يعلمون ما يترتب على الجهاد من منافع الدين والدنيا . ٩٤{يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللّه مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللّه عَمَلَكُمْ } : لن نؤمن لكم علة للنهي عن الاعتذار ، لأنّ عرض المعتذر أن يصدق فيما يعتذر به ، فإذا علم أنه مكذب في اعتذاره كفَّ عنه . قد نبأنا اللّه من أخباركم علة لانتفاء التصديق ، لأنه تعالى إذا أخبر الرسول والمؤمنين بما انطوت عليه سرائرهم من الشر والفساد ، لم يمكن تصديقهم في معاذيرهم . قال ابن عطية : والإشارة بقوله : قد نبأ اللّه من أخباركم إلى قوله : ما زادوكم إلا خبالاً ولا وضعوا خلالكم ، ونحو هذا . ونبأ هنا تعدّت إلى مفعولين كعرف ، نحو قوله : من أنبأك هذا ؟ والثاني هو من أخباركم أي : جملة من أخباركم ، وعلى رأى أبي الحسن الأخفش تكون من زائدة أي أخباركم . وقيل : نبأ بمعنى أعلم المتعدية إلى ثلاثة ، والثالث محذوف اختصاراً لدلالة الكلام عليه أي : من أخباركم كذباً أو نحوه . وسيرى اللّه توعد أي : سيراه في حال وجوده ، فيقع الجزاء منه عليه إنْ خيراً فخير وإن شراً فشر . وقال الزمخشري : وسيرى اللّه عملكم أتنيبون أم تثبتون على الكفر ، ثم تردون إشارة إلى البعث من القبور والتنبؤ بأعمالهم عبارة عن جزائهم عليها . قال ابن عيسى : وسيرى لجعله من الظهور بمنزلة ما يرى ، ثم يجازى عليه . وقيل : كانوا يظهرون للرسول عند تقريرهم معاذيرهم حباً وشفقة فقيل : وسيرى اللّه عملكم هل يبقون على ذلك أو لا يبقون ؟ والغيب والشهادة هما جامعان لأعمال العبد لا يخلو منهما . وفي ذلك دلالة على أنه مطلع على ضمائرهم كاطلاعه على ظواهرهم ، لا تفاوت عنده في ذلك . ٩٥{سَيَحْلِفُونَ بِاللّه لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } : لما ذكر أنهم يصدر منهم الاعتذار أخبر أنهم سيؤكدون ذلك الاعتذار الكاذب بالحلف ، وأنّ سبب الحلف هو طلبتهم أنْ يعرضوا عنهم فلا يلوموهم ولا يوبخوهم ، فاعرضوا عنهم أي : فأجيبو إلى طلبتهم . وعلل الإعراض عنهم بأنهم رجس ، أي مستقذرون بما انطووا عليه من النفاق ، فتجب مباعدتهم واجتنابهم كما قال :{ رِجْسٌ مّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ } فمن كان رجساً لاة تنفع فيه المعاتبة ، ولا يمكن تطهير الرجس . ويحتمل أن يكون سبب الحلف مخافتهم أنْ يعرضوا عنهم فلا يقبلوا عليهم ولا يوادوهم ، فأمر تعالى بالإعراض عنهم وعدم توليهم ، وبيَّن العلة في ذلك برجسيتهم ، وبأنّ مآل أمرهم إلى النار . قال ابن عباس : فاعرضوا عنهم لا تكلموهم . وفي الخبر أنه عليه السلام لما قدم من تبوك قال : لا تجالسوهم ولا تكلموهم . قيل : إنّ هذه الآية من أول ما نزل في شأن المنافقين في غزوة تبوك ، وكان قد اعتذر بعض المنافقين واستأذنوه في القعود قبل مسيره ، فأذن فخرجوا وقال أحدهم : ما هو إلا شحمة لأول آكل ، فلما خرج الرسول نزل فيهم القرآن ، فانصرف رجل من القوم فقال للمنافقين في مجلس منهم : نزل فيكم قرآن فقالوا له : وما ذلك ؟ قال : لا أحفظ ، إلا إني سمعت وصفكم فيه بالرجس ، فقال لهم مخشي : لوددت أنْ أجلد مائة ولا أكون معكم ، فخرج حتى لحق بالرسول صلى اللّه عليه وسلم فقال له : { ما جاء بك } ؟ فقال له : وجه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تسفعه الريح ، وأنا في لكن . فروي أنه ممن تاب . قال ابن عطية : فاعرضوا عنهم أمر بانتهارهم وعقوبتهم بالإعراض والوصم بالنفاق ، وهذا مع إجمال لا مع تعيين مصرح من اللّه ولا من رسوله ، بل كان لكل واحد منهم ميدان المقالة مبسوطاً . وقوله : رجس أي نتن وقذر . وناهيك بهذا الوصف محطة دنيوية ، ثم عطف لمحطة الآخرة . ومن حديث كعب بن مالك : أنهم جاءوا يعتذرون ويحلفون لما قدم المدينة ، وكانوا بضعة وثمانين ، فقبل منهم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ، ووكل سرائرهم إلى اللّه . ٩٦{يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اللّه لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ } : قال مقاتل : نزلت في عبد اللّه بن أبي حلف باللّه الذي لا إله إلا هو لا يتخلف عنه بعدها ، وحلف بن أبي سرح لنكونن معه على عدوه ، وطلب من الرسول أن يرضى عنه ، فنزلت ، وهنا حذف المحلوف به ، وفي قوله :{ سَيَحْلِفُونَ بِاللّه } أثبت كقوله :{ إِذَا أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا } وقوله :{ وَأَقْسَمُواْ بِاللّه } فلا فرق بين حذفه وإثباته في انعقاد ذلك يميناً . وغرضهم في الحلف رضا الرسول والمؤمنين لنفعهم في دنياهم ، لا أنّ مقصدهم وجه اللّه تعالى . والمراد : هي أيمان كاذبة ، وأعذار مختلقة لا حقيقة لها . وفي الآية قبلها لما ذكر حلفهم لأجل الإعراض ، جاء الأمر بالإعراض نصاً ، لأنّ الإعراض من الأمور التي تظهر للناس ، وهنا ذكر الحلف لأجل الرضا فأبرز النهي عن الرضا في صورة شرطية ، لأن الرضا من الأمور القلبية التي تخفى ، وخرج مخرج المتردّد فيه ، وجعل جوابه انتفاء رضا اللّه عنهم ، فصار رضا المؤمنين عنهم أبعد شيء في الوقوع ، لأنه معلوم منهم أنهم لا يرضون عمن لا يرضى اللّه عنهم . ونص على الوصف الموجب لانتفاء الرضا وهو الفسق ، وجاء اللفظ عامًّا ، فيحتمل أن يراد به لخصوص كأنه قيل : فإنّ اللّه لا يرضى عنهم ، ويحتمل بقاؤه على العموم فيندرجون فيه ويكونون أولى بالدخول ، إذ العام إذا نزل على سبب مخصوص لا يمكن إخراج ذلك السبب من العموم بتخصيص ولا غيره . ٩٧{الاْعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَن لا يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللّه عَلَى رَسُولِهِ وَاللّه عَلِيمٌ حَكِيمٌ } : نزلت في أعراب من أسد ، وتميم ، وغطفان . ومن أعراب حاضري المدينة أي : أشد كفراً من أهل الحضر . وإذا كان الكفر متعلقاً بالقلب فقط ، فالتقدير أشد أسباب كفر ، وإذا دخلت فيه أعمال الجوارح تحققت فيه الشدة . وكانوا أشد كفراً ونفاقاً لتوحشهم واستيلاء الهواء الحار عليهم ، فيزيد في تيههم ونخوتهم وفخرهم وطيشهم وتربيتهم بلا سائس ولا مؤدب ولا ضابط ، فنشأوا كما شاؤا لبعدهم عن مشاهدة العلماء ومعرفة كتاب اللّه وسنة رسول اللّه ، ولبعدهم عن مهبط الوحي . كانوا أطلق لساناً بالكفر والنفاق من منافقي المدينة ، إذ كان هؤلاء يستولي عليهم الخوف من المؤمنين ، فكان كفرهم سراً ولا يتظاهرون به إلا تعريضاً . وأجدر أي : أحق أنْ لا يعلموا أي بأن لا يعلموا . والحدود : هنا الفرائض . وقيل : الوعيد عل مخالفة لرسول ، والتأخر عن الجهاد . وقيل : مقادير التكاليف والأحكام . وقال قتادة : أقل علماً بالسنن . وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : { إن الجفاء والقسوة في الفدادين } واللّه عليم يعلم كل أحد من أهل الوبر والمدر ، حكيم فيما يصيب به مسيئهم ومحسنهم من ثواب وعقاب . ٩٨{وَمِنَ الاْعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْء وَاللّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ } : نزلت في أعراب أسد ، وغطفان ، وتميم ، كانوا يتخذون ما يؤخذ منهم من الصدقات . وقيل : من الزكاة ، ولذلك قال بعضهم : ما هي إلا جزية أو قريبة من الجزية . وقيل : كل نفقة لا تهواها أنفسهم وهي مطلوبة شرعاً ، وهو ما ينفقه الرجل وليس يلزمه ، لأنه لا ينفق إلا تقية من المسلمين ورياء ، لا لوجه اللّه تعالى وابتغاء المثوبة عنده . فعل هذا المغرم إلزام ما لا يلزم . وقيل : المغرم الغرم والخسر ، وهو قول : ابن قتيبة ، وقريب من الذي قبله . وقال ابن فارس : المغرم ما لزم أصحابه والغرام اللازم ، ومنه الغريم للزومه وإلحاحه . والتربص : الانتظار . والدوائر : هي المصائب التي لا مخلص منها ، تحيط به كما تحيط الدائرة . وقيل : تربص الدوائر هنا موت الرسول صلى اللّه عليه وسلم وظهور الشرك . وقال الشاعر : تربص بها ريب المنون لعلها تطلق يوماً أو يموت حليلها وتربص الدوائر ليخلصوا من إعياء النفقة ، وقوله : عليهم دائرة السوء ، دعا معترض ، دعاء عليهم بنسبة ما أخبر به عنهم كقوله : { وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّه مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ } والدعاء من اللّه هو بمعنى إنجاب الشيء ، لأنه تعالى لا يدعو على مخلوقاته وهي في قبضته . وقال الكرماني : عليهم تدور المصائب والحروب التي يتوقعونها على المسلمين ، وهنا وعد للمسلمين وإخبار . وقيل : دعاء أي : قولوا عليهم دائرة السوء أي المكروه ، وحقيقة الدائرة ما تدور به الأيام . وقيل : يدور به الفلك في سيره ، والدوائر انقلاب النعمة إلى ضدها . وفي الحجة يجوز أن تكون الدائرة مصدراً كالعاقبة ، ويجوز أن تكون صفة . وقرأ ابن كثير وأبو عمر : والسوء هنا . وفي سورة الفتح ثانية بالضم ، وباقي السبعة بالفتح ، فالفتح مصدر . قال الفراء : سوأته سوأ ومساءة وسوائية ، والضم الاسم وهو الشر والعذاب ، والفتح ذم الدائرة وهو من باب إضافة الموصوف إلى صفته ، وصفت الدائرة بالمصدر كما قالوا : رجل سوء في نقيض رجل صدق ، يعنون في هذا الصلاح لا صدق اللسان ، وفي ذلك الفساد . ومنه { مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْء } أي أمرأً فاسداً . وقال المبرد : لسوء بالفتح الرداءة ، ولا يجوز ضم السين في رجل سوء ، قاله أكثرهم . وقد حكي بالضم وقال الشاعر : وكنت كذيب السوء لما رأى دما بصاحبه يوماً أحال على الدم واللّه سميع لأقوالهم عليم بنياتهم . ٩٩{وَمِنَ الاْعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللّه وَالْيَوْمِ الاْخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللّه وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ } : نزلت في بني مقرن من مزينة قاله مجاهد . وقال عبد الرحمن بن مغفل بن مقرن : كنا عشرة ولد مقرن فنزلت : ومن الأعراب من يؤمن الآية يريد : الستة والسبعة الإخوة على الخلاف في عددهم وبنيهم . وقال الضحاك : في عبد اللّه ذي النجادين ورهطه . وقال الكلبي : في أسلم وغفار وجهينة . ولما ذكر تعالى من يتخذ ما ينفق مغرماً ذكر مقابله وهو من يتخذ ما ينفق مغنماً ، وذكر هنا الأصل الذي يترتب عليه إنفاق المال في القربات وهو الإيمان باللّه واليوم الآخر ، إذ جزاء ما ينفق إنما يظهر ثوابه الدائم في الآخرة . وفي قصة أولئك اكتفى بذكر نتيجة الكفر وعدم الإيمان ، وهو اتخاذه ما ينفق مغرماً وتربصه بالمؤمنين الدوائر . والأجود تعميم القربات من جهاد وصدقة ، والمعنى : يتخذه سبب وصل عند اللّه وأدعية الرسول ، وكان يدعو للمصدقين بالخير والبركة ، ويستغفر لهم كقوله صلى اللّه عليه وسلم : { اللّهم صل على آل أبي أوفى } وقال تعالى : { وَصَلّ عَلَيْهِمْ } والظاهر عطف وصلوات على قربات . قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون وصلوات الرسول عطفاً على ما ينفق ، أي : ويتخذ بالأعمال الصالحة صلوات الرسول قربة . قال ابن عباس : صلوات الرسول هي استغفاره لهم . وقال قتادة : أدعيته بالخير والبركة سماها صلوات جرياً على الحقيقة اللغوية ، أو لأنّ الدعاء فيها ، وحين جاء ابن أبي أوفى بصدقته قال : { آجرك اللّه فيما أعطيت ، وجعله لك طهوراً } والضمير في أنها قيل : عائد على الصلوات . وقيل : عائد على النفقات . وتحرير هذا القول أنه عائد على ما على معناها ، والمعنى : قربة لهم عند اللّه . وهذه شهادة من اللّه للمتصدق بصحة ما اعتقد من كون نفقته قربات وصلوات وتصديق رجائه على طريق الاستئناف مع حرف التنبيه ، وهو ألا وحرف التوكيد هو أنّ . قال الزمخشري : وما في السين من تحقيق الوعد ، وما أدل هذا الكلام على رضا اللّه تعالى عن المتصدقين ، وأنّ الصدقة منه تعالى بمكان إذا خلصت النية من صاحبها انتهى . وتقدم الكلام معه في دعواه أنّ السين تفيد تحقيق الوعد . وقرأ ورش : قربة بضم الراء ، وباقي السبعة بالسكون ، وهما لغتان . ولم يختلفوا في قربات أنه بالضم ، فإن كان جمع قربة فجاء الضم على الأصل في الوضع ، وإن كان جمع قربة بالسكون فجاء الضم اتباعاً لما قبله ، كما قالوا : ظلمات في جمع ظلمة . ١٠٠{وَالسَّابِقُونَ الاْوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالانْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِىَ اللّه عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الانْهَارُ } : قال أبو موسى الأشعري ، وابن المسيب ، وابن سيرين ، وقتادة : السابقون الأولون من صلى إلى القبلتين . وقال عطاء : من شهد بدراً قال : وحوّلت القبلة قبل بدر بشهرين . وقال الشعبي : من أدرك بيعة الرضوان ، بيعة الحديبية ما بين الهجرتين . ومن فسر السابقين بواحد كأبي بكر أو عليّ ، أو زيد بن حارثة ، أو خديجة بنت خويلد ، فقوله بعيد من لفظ الجمع ، وإنما يناسب ذلك في أول من أسلم . والظاهر أنّ السبق هو إلى الإسلام والإيمان . وقال ابن بحر : هم السابقون بالموت أو بالشهادة من المهاجرين والأنصار ، سبقوا إلى ثواب اللّه وحسن جزائه ، ومن المهاجرين والأنصار أي : ومن الأنصار وهم أهل بيعة العقبة أولاً وكانوا سبعة نفر ، وأهل العقبة الثانية وكانوا سبعين ، والذين آمنوا حين قدم عليهم أبو زرارة مصعب بن عمير فعلمهم القرآن . قال ابن عطية : ولو قال قائل : إن السابقين الأولين هم جميع من هاجر إلى أن انقضت الهجرة ، لكان قولاً يقتضيه اللفظ ، وتكون من لبيان الجنس . والذين اتبعوهم بإحسان هم سائر الصحابة ، ويدخل في هذا اللفظ التابعون ، وسائر الأمة لكن بشرط الإحسان . وقد لزم هذا الاسم الذي هو التابعون من رأى من رأى النبي صلى اللّه عليه وسلم. وقال أبو عبد اللّه الرازي : الصحيح عندي أنهم السابقون في الهجرة والنصر ، لأن في لفظ السابقين إجمالاً ، ووصفهم بالمهاجرين والأنصار يوجب صرف ذلك إلى ما اتصف به وهي الهجرة والنصرة ، والسبق إلى الهجرة صفة عظيمة من حيث كونها شاقة على النفس ومخالفة للطبع ، فمن أقدم أولاً صار قدوة لغيره فيها ، وكذلك السبق في النصرة فازوا بمنصب عظيم انتهى ملخصاً . ولما بين تعالى فضائل الأعراب المؤمنين المتصدقين ، وما أعد لهم من النعيم ، بين حال هؤلاء السابقين وما أعد لهم ، وشتان ما بين الإعدادين والثناءين ، هناك قال :{ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ } وهنا { رَّضِىَ اللّه عَنْهُمْ } ، وهناك { سَيُدْخِلُهُمُ اللّه فِى رَحْمَتِهِ } وهنا { وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي } ، وهناك ختم :{ إِنَّ اللّه غَفُورٌ رَّحِيمٌ } وهنا { ذالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} وقرأ عمر بن الخطاب ، والحسن ، وقتادة ، وعيسى الكوفي ، وسلام ، وسعيد بن أبي سعيد ، وطلحة ، ويعقوب ، والأنصار : برفع الراء عطفاً على والسابقون ، فيكون الأنصار جميعهم مندرجين في هذا اللفظ . وعلى قراءة الجمهور وهي الجر ، يكونون قسمين : سابق أول ، وغير أول . ويكون المخبر عنهم بالرضا سابقوهم ، والذين اتبعوهم الضمير في القراءتين عائد على المهاجرين والأنصار . والظاهر أن السابقون مبتدأ ورضي اللّه الخبر ، وجوّزوا في الخبر أنْ يكون الأولون أي : هم الأولون من المهاجرين . وجوّزوا في قوله : والسابقون ، أن يكون معطوفاً على قوله : من يؤمن أي : ومنهم السابقون . وجوزوا في والأنصار أنْ يكون مبتدأ ، وفي قراءة الرفع خبره رضي اللّه عنهم ، وذلك على وجهين . والسابقون وجه العطف ، ووجه أنْ لا يكون الخبر رضي اللّه ، وهو أعاريب متكلفة لا تناسب إعراب القرآن . وقرأ ابن كثير : من تحتها بإثبات من الجارة ، وهي ثابتة في مصاحف مكة . وباقي السباعة بإسقاطها على ما رسم في مصاحفهم . وعن عمر أنه كان يرى : والذين اتبعوهم بإحسان ، بغير واو صفة للأنصار ، حتى قال له زيد بن ثابت : إنها بالواو فقال : ائتوني بأبيّ فقال : تصديق ذلك في كتاب اللّه في أول الجمعة { وَءاخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ } وأوسط الحشر :{ وَالَّذِينَ جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ } وآخر الأنفال :{ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ مِن بَعْدُ} وروي أنه سمع رجلاً يقرؤه بالواو فقال : من أقرأك ؟ فقال : أُبيّ فدعاه فقال : أقرأنيه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ومن ثم قال عمر : لقد كنت أرانا وقعنا وقعة لا يبلغها أحد بعدنا . ١٠١{وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مّنَ الاْعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ } : لما شرح أحوال منافقي المدينة ، ثم أحوال منافقي الأعراب ، ثم بين أنّ في الأعراب ، من هو مخلص صالح ، ثم بين رؤساء المؤمنين من هم ذكر في هذه الآية أن منافقين حولكم من الإعراب ، وفي المدينة لا تعلمونهم أي : لا تعلمون أعيانهم ، أو لا تعلمونهم منافقين . ومعنى حولكم : حول بلدتكم وهي المدينة . والذين كانوا حول المدينة جهينة ، وأسلم ، وأشجع ، وغفار ، ومزينة ، وعصية ، ولحيان ، وغيرهم ممن جاوز المدينة . ومن أهل المدينة يجوز أن يكون من عطف المفردات ، فيكون معطوفاً على من في قوله : وممن ، فيكون المجرور أن يشتركان في المبتدأ الذي هو منافقون ، ويكون مردوا استئنافاً ، أخبر عنهم أنهم خريجون في النفاق . ويبعد أن يكون مردوا صفة للمبتدأ الذي هو منافقون ، لأجل الفصل بين الصفة والموصوف بالمعطوف على وممن حولكم ، فيصير نظير في الدار زيد وفي القصر العاقل ، وقد أجازه الزمخشري تابعاً للزجاج . ويجوز أن يكون من عطف الجمل ، ويقدر موصوف محذوف هو المبتدأ أي : ومن أهل المدينة قوم مردوا ، أو منافقون مردوا . قال الزمخشري : كقوله : أنا ابن جلا . انتهى . فإن كان شبهه في مطلق حذف الموصوف ، وإن كان شبهه في خصوصيته فليس بحسن ، لأن حذف الموصوف مع من وإقامة صفته مقامه ، وهي في تقدير الاسم ، ولا سيما في التفصيل منقاس كقولهم : منا ظعن ومنا أقام . وأما أنا ابن جلا فضرورة شعر كقوله : يرمي بكفي كان من أرمى البشر أي بكفي رجل . وكذلك أنا ابن جلا تقديره : أنا ابن رجل جلا أي كشف الأمور . وبينها وعلى الوجه الأول يكون مردوا شاملاً للنوعين ، وعلى الوجه الثاني يكون مختصاً بأهل المدينة . وتقدم شرح مردوا في قوله :{ شَيْطَاناً مَّرِيداً لَّعَنَهُ اللّه } وقال هنا ابن عباس : مردوا ، مرنوا وثبتوا ، وقال أبو عبيدة : عتوا من قولهم تمرد . وقال ابن زيد : أقاموا عليه لم يتوبوا لا تعلمهم أي : حتى نعلمك بهم ، أو لا تعلم عواقب أمرهم ، حكاه ابن الجوزي . أو لا تعلمهم منافقين ، لأن النفاق مختص بالقلب . وتقدم لفظ منافقين فدل على المحذوف ، فتعدت إلى اثنين قاله : الكرماني . وقال الزمخشري : يخفون عليك مع فطنتك وشهامتك وصدق فراستك لفرط توقيهم ما يشكك في أمرهم . وأسند الطبري عن قتادة في قوله : لا تعلمهم نحن نعلمهم قال : فما بال أقوام يتكلفون علم الناس ؟ فلان في الجنة ، فلان في النار ، فإذا سألت أحدهم عن نفسه قال : لا أدري أنت لعمري بنفسك أعلم منك بأعمال الناس ، ولقد تكلفت شيئاً ما تكلفه الرسل . قال نبي اللّه نوح :{ وَمَا عِلْمِى بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } وقال نبي اللّه شعيب :{ بَقِيَّتُ اللّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } وقال اللّه تعالى لنبيه :{ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ } انتهى . فلو عاش قتادة إلى هذا العصر الذي هو قرن ثمانمائة وسمع ما أحدث هؤلاء المنسوبون إلى الصوف من الدعاوى والكلام المبهرج الذي لا يرجع إلى كتاب اللّه وإلى سنة رسوله صلى اللّه عليه وسلم ، والتجري على الإخبار الكاذب عن المغيبات ، لقضى من ذلك العجب . وما كنت أظن أنّ مثل ما حكى قتادة يقع في ذلك الزمان لقربه من الصحابة وكثرة الخير ، لكن شياطين الإنس يبعد أن يخلو منهم زمان . نحن نعلمهم . قال الزمخشري : نطلع على سرهم ، لأنهم يبطنون الكفر في سويداء قلوبهم إبطاناً ، ويبرزون لك ظاهراٌ كظاهر المخلصين من المؤمنين ، لا تشك معه في إيمانهم ، وذلك أنهم مردوا على النفاق وضروبه ، ولهم فيه اليد الطولى انتهى . وفي قوله : نحن نعلمهم تهديد وترتب عليه بقوله : سنعذبهم مرتين . والظاهر إرادة التثنية ويحتمل أن يكون لا يراد بها شفع الواحد ، بل يكون المعنى على التكثير كقوله :{ ثُمَّ اْرجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ } أي كرة بعد كرة . كذلك يكون معنى هذا سنعذبهم مرة بعد مرة . وإذا كانت التثنية مرادة فأكثر الناس على أنّ العذاب الثاني هو عذاب القبر ، وأما المرة الأولى فقال ابن عباس في الأشهر عنه : هو فضيحتهم ووصمهم بالنفاق . وروي في هذا التأويل أنه عليه السلام خطب يوم جمعة بدر فندر بالمنافقين وصرح وقال : { اخرج يا فلان من المسجد فإنك منافق ، واخرج أنت يا فلان ، واخرج أنت يا فلان } حتى أخرج جماعة منهم ، فرآهم عمر يخرجون من المسجد وهو مقبل إلى الجمعة فظن أن الناس انتشروا ، وأن الجمعة فاتته ، فاختفى منهم حياء ، ثم وصل المسجد فرأى أنّ الصلاة لم تقض وفهم الأمر . قال ابن عطية : وفعله صلى اللّه عليه وسلم على جهة التأديب اجتهاد منه فيهم ، ولم يسلخهم ذلك من الإسلام ، وإنما هو كما يخرج العصاة والمتهمون ، ولا عذاب أعظم من هذا . وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كثيراً ما يتكلم فيهم على الإجمال دون تعيين ، فهذا أيضاً من العذاب انتهى . ويبعد ما قال ابن عطية لأنه نص على نفاق من أخرج بعينه ، فليس من باب إخراج العصاة . بل هؤلاء كفار عنده وإنْ أظهروا الإسلام . وقال قتادة وغيره : العذاب الأول علل وأدواء أخبر اللّه نبيه أنه سيصيبهم بها ، وروي أنه أسرّ إلى حذيفة باثني عشر منهم وقال : { سنة منهم تكفيهم الدبيلة سراج من نار جهنم تأخذ في كتف أحدهم حتى تفضي إلى صدره ، وستة يموتون موتاً } وقال مجاهد : هو عذابهم بالقتل والجوع . قيل : وهذا بعيد ، لأن منهم من لم يصبه هذا . وقال ابن عباس أيضاً : هو هو أنهم بإقامة حدود الشرع عليهم مع كراهيتهم فيه . وقال ابن إسحاق : هو همهم بظهور الإسلام وعلو كلمته . وقيل : ضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم عند قبض أرواحهم . وقال الحسن : الأول ما يؤخذ من أموالهم قهراً ، والثاني الجهاد الذي يؤمرون به قسراً لأنهم يرون ذلك عذاباً . وقال ابن زيد : مرتين هما عذاب الدنيا بالأموال والأولاد كل صنف عذاب فهو مرتان ، وقرأ { فَلاَ تُعْجِبْكَ} وقيل : إحراق مسجد الضرار ، والآخر إحراقهم بنار جهنم . ولا خلاف أن قوله : إن عذاب عظيم هو عذاب الآخرة وفي مصحف أنس سيعذبهم بالياء ، وسكن عياش عن أبي عمر والياء . ١٠٢{وَءاخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَءاخَرَ سَيّئاً عَسَى اللّه أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّه غَفُورٌ رَّحِيمٌ } : نزلت في عشرة رهط تخلفوا عن غزوة تبوك فلما دنا الرسول صلى اللّه عليه وسلم من المدينة أوثق سبعة منهم . وقيل : كانوا ثمانية منهم : كردم ، ومرداس ، وأبو قيس ، وأبو لبابة . وقيل : سبعة . وقيل : ستة أوثق ثلاثة منهم أنفسهم بسواري المسجد ، فيهم أبو لبابة . وقيل : كانوا خمسة . وقيل : ثلاثة أبو لبابة بن عبد المنذر ، وأوس بن ثعلبة ، ووديعة بن خذام الأنصاري . وقيل : نزلت في أبي لبابة وحده . ويبعد ذلك من لفظ وآخرون ، لأنه جمع ، فدخل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المسجد حين قدم فصلى فيه ركعتين ، وكانت عادته كلما قدم من سفر ، فرآهم موثقين فسأل عنهم : فذكروا أنهم أقسموا لا يحلون أنفسهم حتى يكون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هو الذي يحلهم ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : { وأنا أقسم أن لا أحلهم حتى أومر فيهم ، رغبوا عني ، وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين } فنزلت ، فأطلقهم وعذرهم . وقال مجاهد : نزلت في أبي لبابة في شأنه مع بني قريظة حين استشاروه في النزول على حكم اللّه ورسوله ، فأشار هو لهم إلى حلقه يريد أنّ الرسول صلى اللّه عليه وسلم يذبحهم إن نزلوا ، فلما افتضح تاب وندم ، وربط نفسه في سارية في المسجد ، وأقسم أن لا يطعم ولا يشرب حتى يعفو اللّه عنه أو يموت ، فمكث كذلك حتى عفا اللّه عنه . والاعتراف : الإقرار بالذنب عملاً صالحاً توبة وندماً ، وآخر سيئاً . أي تخلفاً عن هذه الغزاة قاله : الطبري ، أو خروجاً إلى الجهاد قبل . وتخلفاً عن هذه قاله : الحسن وغيره . أو توبة وإثماً قاله : الكلبي . وعطف أحدهما على الآخر دليل على أنّ كل واحد منهما مخلوط ومخلوط به ، كقولك : خلطت الماء واللبن ، وهو بخلاف خلطت الماء باللبن ، فليس فيه إلا أنّ الماء خلط باللبن ، قال معناه الزمخشري : ومتى خلطت شيئاً بشيء صدق على كل واحد منهما أنه مخلوط ومخلوط به ، من حيث مدلولية الخلط ، لأنها أمر نسبي . قال الزمخشري : ويجوز أن يكون من قولهم : بعت الشاء شاة ودرهماً ، بمعنى شاة بدرهم . والاعتراف بالذنب دليل على التوبة ، فلذلك قيل : عسى اللّه أن يتوب عليهم . قال ابن عباس : عسى من اللّه واجب انتهى . وجاء بلفظ عسى ليكون المؤمن على وجل ، إذ لفظة عسى طمع وإشفاق ، فأبرزت التوبة في صورته ، ثم ختم ذلك بما دل على قبول التوبة وذلك ، صفة الغفران والرحمة . وهذه الآية وإن نزلت في ناس . مخصوصين فهي عامة في الأمة إلى يوم القيامة . وقال أبو عثمان : ما في القرآن آية أرجى عندي لهذه الأمة من قوله : وآخرون عترافوا بذنوبهم . وفي حديث الإسراء والمعراج من تخريج البيهقي : أنّ الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر شيئا وتابوا رآهم الرسول صلى اللّه عليه وسلم حول إبراهيم ، وفي ألوانهم شيء ، وأنهم خلطت ألوانهم بعد اغتسالهم في أنهر ثلاثة ، وجلسوا إلى أصحابهم البيض الوجوه . ١٠٣{خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا وَصَلّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَواتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ } : الخطاب للرسول ، والضمير عائد على الذين خلطوا قالوا : يا رسول اللّه هذه أموالنا التي خلفتنا عنك فتصدق بها وطهرنا ، فقال : { ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئاً } فنزلت . فيروى أنه أخذ ثلث أموالهم مراعاة لقوله : خذ من أموالهم . والذي تظاهرت به أقوال المتأولين ابن عباس وغيره : أنها في هؤلاء المتخلفين ، وقال جماعة من الفقهاء : المراد بهذه الآية الزكاة المفروضة . فقوله : على هذا من أموالهم هو لجميع الأموال ، والناس عام يراد به الخصوص في الأموال ، إذ يخرج عنه الأموال التي لا زكاة فيها كالرباع والثياب . وفي المأخوذ منهم كالعبيد ، وصدقة مطلق ، فتصدق بأدنى شيء . وإطلاق ابن عطية على أنه مجمل فيحتاج إلى تفسير ليس بجيد . وفي قوله : خذ ، دليل على أنّ الإمام هو الذي يتولى أخذ الصدقات وينظر فيها . ومن أموالهم : متعلق بخذ وتطهرهم ، وتزكيهم حال من ضمير خذ ، فالفاعل ضمير خذ . وأجازوا أن يكون من أموالهم في موضع الحال ، لأنه لو تأخر لكان صفة ، فلما تقدم كان حالاً ، وأجازوا أن يكون تطهرهم صفة ، وأن يكون استئنافاً ، وأن يكون ضمير تطهرهم عائداً على صدقة ، ويبعد هذا العطف ، وتزكيهم فيختلف الضميران ، فأما ما حكى مكي من أنّ تطهرهم صفة للصدقة وتزكيهم حال من فاعل خذ ، فقدر ردّ بأنّ الواو للعطف ، فيكون التقدير : صدقة مطهرة ومزكياً بها ، وهذا فاسد المعنى ، ولو كان بغير واو جاز انتهى . ويصح على تقدير مبتدأ محذوف ، والواو للحال أي : وأنت تزكيهم ، لكن هذا التخريج ضعيف لقلة نظيره في كلام العرب . والتزكية مبالغة في التطهر وزيادة فيه ، أو بمعنى الإنماء والبركة في المال . وقرأ الحسن : تطهرهم من أطهر وأطهر وطهر للتعدية من طهر . وصلِّ عليهم أي ادع لهم ، أو استغفر لهم ، أو صل عليهم إذا ماتوا ، أقوال . ومعنى سكن : طمأنينة لهم ، إنّ اللّه قبل صدقتهم مقاله : ابن عباس . أو رحمة لهم قاله أيضاً ، أو قربة قاله أيضاً ، أو زيادة وقار لهم قاله : قتادة ، أو تثبيت لقلوبهم قاله : أبو عبيدة ، أو أمن لهم . قال : يا جارة الحي إن لا كنت لي سكنا إذ ليس بعض من الجيران أسكنني وهذه أقوال متقاربة . وقال أبو عبد اللّه الرازي : إنما كانت سكناً لهم لأنّ روحه صلى اللّه عليه وسلم كانت روحاً قوية مشرقة صافية ، فإذا دعا لهم وذكرهم بالخير ثارت آثار من قوته الروحانية على أرواحهم فأشرقت بهذا السبب أرواحهم ، وصفت سرائرهم ، وانقلبوا من الظلمة إلى النور ، ومن الجسمانية إلى الروحانية . قال الشيخ جمال الدين أبو عبد اللّه محمد بن سليمان عرف بابن النقيب في كتابه التحرير والتحبير : كلام الرازي كلام فلسفي يشير فيه إلى أنَّ قوى الأنفس مؤثرة فعاله ، وذلك غير جائز على طريقة أهل التفسير انتهى . وقال الحسن وقتادة : في هؤلاء المعترفين المأخوذ منهم الصدقة هم سوى الثلاثة الذين خلفوا . وقرأ الأخوان وحفص : إن صلاتك هنا ، وفي هود صلاتك بالتوحيد ، وباقي السبعة بالجمع . واللّه سميع باعترافهم ، عليم بندامتهم وتوبتهم . ١٠٤{أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّه هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللّه هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } : قال الذين لم يتوبوا من المتخلفين : هؤلاء كانوا بالأمس معنا لا يكلمون ولا يجالسون ، فنزلت . وفي مصحف أبي وقراءة الحسن بخلاف عنه : ألم تعلموا بالتاء على الخطاب ، فاحتمل أن يكون خطاباً للمتخلفين الذين قالوا : ما هذه الخاصة التي يخص بها هؤلاء ؟ واحتمل أن يكون على معنى : قل لهم يا محمد ، وأن يكون خطاباً على سبيل الالتفات من غير إضمار للقول ، ويكون المراد به التائبين كقراءة الجمهور بالياء . وهو تخصيص وتأكيد أنّ اللّه من شأنه قبول توبة من تاب ، فكأنه قيل : أما علموا قبل أن يتاب عليهم وتقبل صدقاتهم أنه تعالى يقبل التوبة الصحيحة ، ويقبل الصدقات الخالصة النية للّه ؟ وقيل : وجه التخصيص بهو ، هو أن قبول التوبة وأخذ الصدقات إنما هو للّه لا لغيره ، فاقصدوه ووجهوها إليه . قال الزجاج : وأخذ الصدقات معناه قبولها ، وقد وردت أحاديث كنى فيها عن القبول بأن الصدقة تقع في يد اللّه تعالى قبل أن تقع في يد السائل ، وأن الصدقة تكون قدر اللقمة ، فيأخذها اللّه بيمينه فيربيها حتى تكون مثل الجبل . و قال ابن عطية : المعنى يأمر بها ويشرعها كما تقول : أخذ السلطان من الناس كذا إذا حملهم على أدائه . وعن بمعنى مِن ، وكثيراً ما يتوصل في موضع واحد بهذه ، وهذه تقول : لا صدقة إلا عن غنى ومن غنى ، وفعل ذلك فلان من أسره ونظره ، وعن أسره ونظره انتهى . وقيل : كلمة مِن وكلمة عَن متقاربتان ، إلا أنّ عن تفيد البعد . فإذا قيل : جلس عن يمين الأمير أفاد أن جلس في ذلك الجانب ، ولكن مع ضرب من البعد فيفيدها أن التائب يجب أن يعتقد في نفسه أنه بعيد عن قبول اللّه توبته بسبب ذلك الذنب ، فيحصل له انكسار العبد الذي طرده مولاه وبعده عن حضرته . فلفظه عن كالتنبيه على أنه لا بد من حصول هذا المعنى للتائب انتهى . والذي يظهر من موضوع عن أنها للمجاوزة . فإن قلت : أخذت العلم عن زيد فمعناه أنه جاوز إليك ، وإذا قلت : من زيد دل على ابتداء الغاية ، وأنه ابتداء أخذك إياه من زيد . وعن أبلغ لظهور الانتقال معه ، ولا يظهر مع من . وكأنهم لما جاوزت توبتهم عنهم إلى اللّه ، اتصف هو تعالى بالتوبة عليهم . ألا ترى إلى قوله : وأن اللّه هو التواب الرحيم ، فكل منهما متصف بالتوبة وإن اختلفت جهتا النسبة . ألا ترى إلى ما روي : { ومَن تقرب إليّ شبراً تقربت منه ذراعاً ، ومن تقرب مني ذراعاً تقربت منه باعاً ومن أتاني يمشي أتيته هرولة} . ١٠٥{وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّه عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } : صيغة أمر ضمنها الوعيد ، والمعتذرون التائبون من المتخلفين ، هم المخاطبون . وقيل : هم المعتذرون الذين لم يتوبوا . وقيل : المؤمنون والمنافقون . فسيرى اللّه إلى آخرها تقدم شرح نظيره . وإذا كان الضمير للمعتذرين الخالطين التائبين وهو الظاهر ، فقد أبرزوا بقوله : فسيرى اللّه عملكم ، إبراز المنافقين الذين قيل لهم : { لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ نَبَّأَنَا اللّه مِنْ } وسيرى الآية تنقيصاً من حالهم وتنفيراً عما وقعوا فيه من التخلف عن الرسول ، وأنهم وإن تابوا ليسوا كالذين جاهدوا معه بأموالهم وأنفسهم لا يرغبون بأنفسهم عن نفسه . ١٠٦{تَعْمَلُونَ وَءاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لاْمْرِ اللّه إِمَّا يُعَذّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللّه عَلِيمٌ حَكِيمٌ } : قال ابن عباس ، وعكرمة ، ومجاهد ، والضحاك ، وقتادة ، وابن إسحاق : نزلت في الثلاثة الذين خلفوا قبل التوبة عليهم هلال بن أمية الواقفي ، ومرارة بن الربيع العامري ، وكعب بن مالك . وقيل : نزلت في المنافقين المعرضين للتوبة مع بنائهم مسجد الضرار . وقرأ الحسن ، وطلحة ، وأبو جعفر ، وابن نصاح ، والأعرج ، ونافع ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص : مرجون وترجى بغير همز . وقرأ باقي السبعة : بالهمز ، وهما لغتان ، لأمر اللّه أي لحكمة ، إما يعذبهم إن أصروا ولم يتوبوا ، وإما يتوب عليهم إن تابوا . وقال الحسن : هم قوم من المنافقين أرجأهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن حضرته . وقال الأصم : يعني المنافقين أرجأهم اللّه فلم يخبر عنهم بما علم منهم ، وحذرهم بهذه الآية إن لم يتوبوا . وإما معناها الموضوعة له هو أحد الشيئين أو الأشياء ، فينجر مع ذلك أن تكون للشك أو لغيره ، فهي هنا على أصل موضوعها وهو القدر المشترك الذي هو موجود في سائر ما زعموا أنها وضعت له وضع الاشتراك . واللّه عليم بما يؤول إليه أمرهم ، حكيم فيما يفعله بهم . ١٠٧{وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا كُفْراً وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لّمَنْ حَارَبَ اللّه وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللّه يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } لما ذكر طرائق ذميمة لأصناف المنافقين أقوالاً وأفعالاً لأذكر أنّ منهم من بالغ في الشر حتى ابتنى مجمعاً للمنافقين يدبرون فيه ما شاءوا من الشر ، وسموه مسجداً . ولما بنى عمرو بن عوف مسجد قباء ، وبعثوا إلى الرسول صلى اللّه عليه وسلم فجاء وصلى فيه ودعا لهم ، حسدهم بنو عمهم بنو غنم بن عوف ، وبنو سالم بن عوف ، وحرضهم أبو عمر والفاسق على بنائه حين نزل الشام هارباً من وقعة حنين فراسلهم في بنائه وقال : ابنوا لي مسجداً فإني ذاهب إلى قيصر آتى بجند من الروم فأخرج محمداً وأصحابه ، فبنوه إلى مسجد قباء ، وكانوا اثنى عشر رجلاً من المنافقين : خذام بن خالد . ومن داره أخرج المسجد ، وثعلبة بن حاطب ، ومعتب بن قشير ، وحارثة بن عامر ، وابناه مجمع وزيد ، ونبتل بن الحرث ، وعباد بن حنيف ، ونجاد بن عثمان ، ووديعة بن ثابت ، وأبو حنيفة الأزهر ، وبخرج بن عمرو ، ورجل من بني ضبيعة ، وقالوا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : بنينا مسجد الذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والشاتية ، ونحن نحب أن تصلي لنا فيه ، وتدعوا لنا بالبركة فقال صلى اللّه عليه وسلم : { إني على جناح سفر وحال شغل ، وذا قدمنا إن شاء اللّه صلينا فيه } وكان إمامهم مجمع بن جارية وكان غلاماً قارئاً للقرآن حسن الصوت ، وهو ممن حسن إسلامه ، وولاه عمر إمامة مسجد قباء بعد مراجعة ، ثم بعثه إلى الكوفة يعلمهم القرآن ، فلما قفل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من غزوة تبوك نزل بذي أوانٍ بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار ، ونزل عليه القرآن في شأن مسجد الضرار ، فدعا مالك بن الدخشم ومعنا وعاصماً ابني عدي . وقيل : بعث عمار بن ياسر ووحشياً قاتل حمزة بهدمه وتحريقه ، فهدم وحرق بنار في سعف ، واتخذ كناسة ترمى فيها الجيف والقمامة . وقال ابن جريج : صلوا فيه الجمعة والسبت والأحد وانهار يوم الاثنين ولم يحرق . ١٠٨وقرأ أهل المدينة : نافع ، وأبو جعفر ، وشيبة ، وغيرهم ، وابن عامر : الذين بغير واو ، كذا هي في مصاحف المدينة والشام ، فاحتمل أن يكون بدلاً من قوله : وآخرون مرجون ، وأن يكون خبر ابتداء تقديره : هم الذين ، وأن يكون مبتدأ . وقال الكسائي : الخبر لا تقم فيه أبد . قال ابن عطية : ويتجه بإضمار إما في أول الآية ، وإما في آخرها بتقدير لا تقم في مسجدهم . وقال النحاس والحوفي : الخبر لا يزال بنيانهم . وقال المهدوي : الخبر محذوف تقديره معذبون أو نحوه . وقرأ جمهور القراء : والذين بالواو وعطفاً على وآخرون أي : ومنهم الذين اتخذوا ، ويجوز أن يكون مبتدأ خبره كخبر بغير الواو إذا أعرب مبتدأ . وقال الزمخشري: { فإن قلت } : والذين اتخذوا ما محله من الإعراب ؟ { قلت} : محله النصب على الاختصاص كقوله تعالى : { وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَواةَ } وقيل : هو مبتدأ وخبره محذوف ، معناه فيمن وصفنا الذين اتخذوا كقوله تعالى :{ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ } وانتصب ضراراً على أنه مفعول من أجله أي : مضارة لإخوانهم أصحاب مسجد قباء ، ومعازّة وكفراً وتقوية للنفاق ، وتفريقاً بين المؤمنين ، لأنهم كانوا يصلون مجتمعين في مسجد قباء فيغتص بهم ، فأرادوا أنْ يفترقوا عنه وتختلفم كلمتهم ، إذ كان من يجاوز مسجدهم يصرفونه إليه ، وذلك داعية إلى صرفه عن الإيمان . ويجوز أن ينتصب على أنه مصدر في موع الحال . وأجاز أبو البقاء أن يكون مفعولاً ثانياً لاتخذوا ، وإرصاداً أي : إعداداً لأجل من حارب اللّه ورسوله وهو أبو عامر الراهب أعدوه له ليصلي فيه ، ويظهر علي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وكان قد تعبد في الجاهلية فسمى الراهب ، وسماه الرسول صلى اللّه عليه وسلم الفاسق ، وكان سيداً في قومه نظيراً وقريباً من عبد اللّه بن أبي بن سلول ، فلما جاء اللّه بالإسلام نافق ولم يزل مجاهراً بذلك ، وقال لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعد محاورة : { لا أجد قوماً يقاتلونك إلا قاتلتك معهم } فلم يزل يقاتله وحزب على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الأحزاب ، فلما ردهم اللّه بغيظهم أقام بمكة مظهراً للعداوة ، فلما كان الفتح هرب إلى الطائف ، فلما أسلم أهل الطائف هرب إلى الشام يريد قيصر مستنصراً على الرسول ، فمات وحيداً طريداً غريباً بقنسرين ، وكان قد دعا بذلك على الكافرين وأمّن الرسول ، فكان كما دعا ، وفيه يقول كعب بن مالك : معاذ اللّه من فعل خبيث كسعيك في العشيرة عبد عمرو وقلت بأن لي شرفاً وذكرا فقد تابعت إيماناً بكفر وقرأ الأعمش : وإرصاداً للذين حاربوا اللّه ورسوله ، والظاهر أنّ من قبل متعلقاً بحارب ، يريد في غزوة الأحزاب وغيرها ، أي : من قبل اتخاذ هذا المسجد . وقال الزمخشري: { فإن قلت } : بم يتصل قوله تعالى : من قبل ؟ { قلت} : باتخذوا أي : اتخذوا مسجداً من قبل أن ينافق هؤلاء بالتخلف انتهى . وليس بظاهر ، والخالف هو الذي لايخرج أي للغزو : ما أردنا ببناء هذا المسجد إلا الحسنى والتوسعة علينا وعلى من ضعف أو عجز عن المسير إلى مسجد قباء . قال الزمخشري : ما أردنا ببناء هذا المسجد إلا الخصلة الحسنى ، أو لإرادة الحسنى وهي الصلاة وذكر اللّه تعالى والتوسع على المصلين انتهى . كأنه في قوله : إلا الخصلة الحسنى جعله مفعولاً ، وفي قوله :أو لإرادة الحسنى جعله عله ، وكأنه ضمن أراد معنى قصد أي : ما قصدنا ببنائه لشيء من الأشياء إلا لإرادة الحسنى وهي الصلاة ، وهذا وجه متكلف ، فأكذبهم اللّه في قولهم ، ونهاه أن يقوم فيه فقال : لا تقم فيه أبداً نهاه لأن بناته كانوا خادعوا الرسول ، فهمَّ الرسول صلى اللّه عليه وسلم بالمشي معهم ، واستدعى قميصه لينهض فنزلت : لا تقم فيه أبداً ، وعبَّر بالقيام عن الصلاة فيه . قال ابن عباس وفرقة من الصحابة والتابعين : المؤسس على التقوى مسجد قباء ، أسسه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وصلى فيه أيام مقامه بقباء ، وهي : يوم الاثنين ، والثلاثاء ، والأربعاء ، والخيمس ، وخرج يوم الجمعة ، وهو أولى لأنّ الموازنة بين مسجد قباء ومسجد الضرار أوقع منها بين مسجد الرسول ومسجد الضرار ، وذلك لائق بالقصة . وعن زيد بن ثابت ، وأبي سعيد ، وابن عمر : أنه مسجد الرسول . وروي أنه صلى اللّه عليه وسلم قال : { هو مسجدي هذا } لم اسئل عن المسجد الذي أسس على التقوى . وإذا صحّ هذا النقل لم يمكن خلافه ، ومن هنا دخلت على الزمان ، واستدل بذلك الكوفيون على أنّ من تكون لابتداء الغاية في الزمان ، وتأوله البصريون على حذف مضاف أي : من تأسيس أول يوم ، لأنّ من مذهبهم أنها لا تجر الأزمان ، وتحقيق ذلك في علم النحو . قال ابن عطية : ويحسن عندي أن يستغني عن تقدير ، وأن تكون من تجر لفظة أول لأنها بمعنى البداءة ، كأنه قال : من مبتدأ الأيام ، وقد حكى لي هذا الذي اخترته عن بعض أئمة النحو انتهى . وأحق بمعنى حقيق ، وليست أفعل تفضيل ، إذ لا اشتراك بين المسجدين في الحق ، والتاء في أن تقوم تاء خطاب للرسول صلى اللّه عليه وسلم. وقرأ عبد اللّه بن يزيد : فيه بكسر الهاء فيه الثانية بضم الهاء جمع بين اللغتين ، والأصل الضم ، وفيه رفع توهم التوكيد ، ورفع رجال فيقوم إذ فيه الأولى في موضع نصب ، والثانية في موضع رفع . وجوزوا في فيه رجال أن يكون صفة لمسجد ، ولحال ، والاستئناف . وفي الحديث قال لهم : { يا معشر الأنصار رأيت اللّه أثنى عليكم بالطهور فماذا تفعلون } ؟ قالوا : يا رسول اللّه إنا رأينا جيراننا من اليهود يتطهرون بالماء يريدون الاستنجاء بالماء ففعلنا ذلك ، فلما جاء الإسلام لم ندعه فقال : { فلا تدعوه إذاً } وفي بعض ألفاظ هذا الحديث زيادة واختلاف . وقد اختلف أهل العلم في الاستنجاء بالحجارة أو بالماء أيهما أفضل ؟ ورأت فرقة الجمع بينهما ، وشذ ابن حبيب فقال : لا يستنجى بالحجارة حيث يوجد الماء ، فعلى ما روي في هذا الحديث يكون التطهير عبارة عن استعمال الماء في إزالة النجاسة في الاستنجاء . وقيل : هو عام في النجاسات كلها . وقال الحسن : من التطهير من الذنوب بالتوبة . وقيل : يحبون أن يتطهروا بالحمى المكفرة للذنوب ، فحموا عن آخرهم . وفي دلائل النبوة للبيهقي . أن أهل قباء شكوا الحمى فقال { إن شئتم دعوت اللّه فأزالها عنكم ، وإن شئتم جعلتها لكم طهرة} فقالوا : بل اجعلها لنا طهرة . ومعنى محبتهم التطهير أنهم يؤثرونه ويحرصون عليه حرص المحب الشيء المشتهى له على أشياء ، ومحبة اللّه إياهم أنه يحسن إليهم كما يفعل المحب بمحبوبه . وقرأ ابن مصرف والأعمش : يطهروا بالإدغام ، وقرأ ابن أبي طالب المتطهرين . ١٠٩{أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّه وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ } : قرأ نافع وابن عامر : أسس بنيانه مبنياً للمفعول في الموضعين . وقرأ باقي السبعة وجماعة ذلك مبنياً للفاعل ، وبنصب بنيان . وقرأ عمارة بن عائذ الأولى على بناء الفعل للمفعول ، والثانية على بنائه للفاعل . وقرأ نصر بن علي ، ورويت عن نصر بن عاصم أسس بنيانه ، وعن نصر بن علي وأبي حيوة ونصر بن عاصم أيضاً ، أساس جمع أسّ . وعن نصر بن عاصم آسس بهمزة مفتوحة وسين مضمومة . وقرىء إساس بالكسر ، وهي جموع أضيفت إلى البنيان . وقرىء أساس بفتح الهمزة ، وأُس بضم الهمزة وتشديد السين ، وهما مفردان أضيفاً إلى البنيان ، فهذه تسع قراءات . وفي كتاب اللوامح نصر بن عاصم : أفمن أسس بالتخفيف والرفع ، بنيانه بالجرّ على الإضافة ، فأسس مصدر أس : الحائط يؤسة أساً وأسساً . وعن نصر أيضاً أساس بنيانه كذلك ، إلا أنه بالألف ، وأسّ وأس وأساس كلّ مصادر انتهى . والبنيان مصدر كالغفران ، أطلق على المبنى كالخلق بمعنى المخلوق . وقيل : هو جمع واحده بنيانه قال الشاعر : كبنيانة القاريّ موضع رحلها وآثار نسعيها من الدفّ أبلق وقرأ عيسى بن عمر على تقوى بالتنوين ، وحكى هذه القراءة سيبويه ، وردها الناس . قال ابن جني : قياسها أن تكون ألفها للإلحاق كارطي . وقرأ جماعة منهم : حمزة ، وابن عامر ، وأبو بكر ، جرف بإسكان الراء ، وباقي السبعة وجماعة بضمها ، وهما لغتان . وقيل : الأصل الضم . وفي مصحف أبي فانهارت به قواعده في نار جهنم ، والظاهر أنّ هذا الكلام فيه تبيين حالي المسجدين : مسجد قباء ، أو مسجد الرسول صلى اللّه عليه وسلم ومسجد الضرار ، وانتفاء تساويهما والتفريق بينهما ، وكذلك قال كثير من المفسرين . وقال جابر بن عبد اللّه : رأيت الدخان يخرج من مسجد الضرار وانهار يوم الاثنين . وروى سعيد بن جبير : أنه إذ أرسل الرسول بهدمه رؤي منه الدخان يخرج ، وروي أنه كان الرجل يدخل فيه سعفة من سعف النخل فيخرجها سوداء محترقة ، وكان يحفر ذلك الموضع الذي انهار فيخرج منه دخان . وقيل : هذا ضرب مثل أي من أسس بنيانه على الإسلام خير أم من أسس بنيانه على الشرك والنفاق ، وبين أنّ بناء الكافر كبناء على شفا جرف هار يتهور أهله في جهنم . قال ابن عطية : قيل : بل ذلك حقيقة ، وأنّ ذلك المسجد بعينه انهار في نار جهنم قاله : قتادة ، وابن جريج . وخير لا شركة بين الأمرين في خير إلا على معتقد باني مسجد الضرار ، فبحسب ذلك المعتقد صح التفضيل . وقال الزمخشري : والمعنى : أفمن أسس بنيان دينه على قاعدة قوية محكمة وهي الحق الذي هو تقوى اللّه تعالى ورسوله خيرٌ ، أم من أسس على قاعدة هي أضعف القواعد وأوهاها وأقلها بقاء وهو الباطل والنفاق الذي مثله مثل شفا جرف هار في قلة الثبات والاستمساك ؟ وضع شفا الجرف في مقابلة التقوى ، لا جعل مجازاً عن ما ينافي التقوى . { فإن قلت} : فما معنى قوله : تعالى فانهار به في نار جهنم ؟ { قلت} : لما جعل الجرف الهائر مجازاً عن الباطل قيل : فانهار به على معنى فطاح به الباطل في نار جهنم ، إلا أنه رشح المجاز فجيء بلفظ الانهيار الذي هو للجرف ، ولتصور أنّ الباطل كأنه أسس بنيانه على شفا جرف من أودية جهنم فانهار به ذلك الجرف فهوى في قعرها ، ولا نرى أبلغ من هذا الكلام ولا أدل على حقيقة الباطل . وكنه أمره والفاعل فانهار أي : البنيان أو الشفا أو الجرف به ، أي : المؤسس الباني ، أو أنهار الشفا أو الجرف به أي : بالبنيان . ويستلزم انهيار الشفا والبنيان ، ولا يستلزم انهيار أحدهما انهياره . واللّه لا يهدي القوم الظالمين ، إشارة إلى تعديهم ووضع الشيء في غير موضعه حيث بنوا مسجد الضرار ، إذ المساجد بيوت اللّه يجب أن يخلص فيها القصد والنية لوجه اللّه وعبادته ، فبنوه ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين ، وإرصاداً لمن حارب اللّه ورسوله . ١١٠{لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِى بَنَوْاْ رِيبَةً فِى قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللّه عَلِيمٌ حَكِيمٌ } : يحتمل أن يكون البنيان هنا مصدراً أي : لا يزال ذلك الفعل وهو البنيان ، ويحتمل أن يراد به المبني ، فيكون على حذف مضاف أي : لا يزال بناء المبنى . قال ابن عباس : لا يزالون شاكين . وقال حبيب بن أبي ثابت : غيظاً في قلوبهم ، أي سبب غيظ . وقيل : كفراً في قلوبهم . وقال عطاء : نفاقاً في قلوبهم . وقال ابن جبير : أسفاً وندامة . وقال ابن السائب ومقاتل : حسرة وندامة ، لأنهم ندموا على بنيانه . وقال قتادة : في الكلام حذف تقديره : لا يزال هدم بنيانهم الذي بنوا ريبة أي : حزازة وغيظاً في قلوبهم . و قال ابن عطية : الذي بنوا تأكيد وتصريح بأمر المسجد ورفع الإشكال ، والريبة الشك ، وقد يسمى ريبة فساد المعتقد واضطرابه ، والإعراض في الشيء والتخبيط فيه . والحزازة من أجله ، وإن لم يكن شكا فقد يرتاب من لا يشك ، ولكنها في معتاد اللغة تجري مع الشك . ومعنى الريبة في هذه الآية تعم الحيق ، واعتقاد صواب فعلهم ، ونحو هذا مما يؤدي كله إلى الريبة في الإسلام . فمقصد الكلام : لا يزال هذا البنيان الذي هدم لهم يبقي في قلوبهم حزازة وأثر سوء . وبالشك فسر ابن عباس الريبة هنا ، وفسرها السدي بالكفر . وقيل له : أفكفر مجمع بن جارية ؟ قال : لا ، ولكنها حزازة . قال ابن عطية : ومجمع رحمه اللّه ، قد أقسم لعمر أنه ما علم باطن القوم ، ولا قصد سوء . والآية إنما عنت من أبطن سوأ . وليس مجمع منهم . ويحتمل أن يكون المعنى لا يزالون مريبين بسبب بنيانهم الذي اتضح فيه نفاقهم . وجملة هذا أنّ الريبة في الآية تعم معاني كثيرة يأخذ كل منافق منها بحسب قدره من النفاق . وقال أبو عبد اللّه الرازي : جعل نفس البنيان ريبة لكونه سبباً لها ، وكونه سبباً لها أنه لما أمر بتخريب ما فرحوا ببنائه ثقل ذلك عليهم ، وازداد بعضهم له ، وارتيابهم في نبوته ، أو اعتقدوا هدمه من أجل الحسد ، فارتفع إيمانهم وخافوا الإيقاع بهم قتلاً ونهباً ، أو بقوا شاكين : أيغفر اللّه لهم تلك المعصية ؟ انتهى ، وفيه تلخيص . وقرأ ابن عامر وحمزة وحفص : إلا أن تقطع قلوبهم بفتح التاء أي : يتقطع ، وباقي السبعة بالضم ، مضارع قطع مبنياً للمفعول . وقرىء يقطع بالتخفيف . وقرأ الحسن ، ومجاهد ، وقتادة ، ويعقوب : إلى أن نقطع ، وأبو حيوة إلى أن تُقطع بضم التاء وفتح القاف وكسر الطاء مشددة ، ونصب قلوبهم خطاباً للرسول أي : تقتلهم ، أو فيه ضمير الريبة . وفي مصحف عبد اللّه : ولو قطعت قلوبهم ، وكذلك قرأها أصحابه . وحكى أبو عمرو هذه القراءة : إن قطعت بتخفيف الطاء . وقرأ طلحة : ولو قطعت قلوبهم خطاب للرسول صلى اللّه عليه وسلم ،أو كل مخاطب . وفي مصحف أبي : حتى الممات ، وفيه حتى تقطع . فمن قرأ بضم التاء وكسر الطاء ونصب القلوب فالمعنى : بالقتل . وأما على من قرأه مبنياً للمفعول ، فقال ابن عباس وقتادة وابن زيد وغيرهم : بالموت أي : إلى أن يموتوا . وقال عكرمة : إلى أن يبعث من في القبور . وقال سفيان : إلى أن يتوبوا عما فعلوا ، فيكونون بمنزلة من قطع قلبه . قال ابن عطية : وليس هذا بظاهر ، إلا أن يتأول أن يتوبوا توبة نصوحاً يكون معها من الندم والحسرة ما يقطع القلوب هماً . وقال الزمخشري : لا يزال يبديه سبب شك ونفاق زائد على شكهم ونفاقهم ، لا يزال وسمه في قلوبهم ولا يضمحل أمره إلا أن تقطع قلوبهم قطعاً وتفرق أجزاء ، فحينئذ يسألون عنه ، وأما ما دامت سليمة مجتمعة قائمة فيها متمكنة . ويجوز أن يراد حقيقة تقطيعها وما هو كائن منه بقتلهم ، أو في القبور ، أو في النار . وقيل : معناه إلا أن يتوبوا توبة تتقطع بها قلوبهم ندماً وأسفاً على تفريطهم . واللّه عليم بأحوالهم ، حكيم فيما يجري عليهم من الأحكام ، أو عليم بنياتهم ، حكيم في عقوباتهم . ١١١{إِنَّ اللّه اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الّجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللّه فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقّا} نزلت في البيعة الثانية وهي بيعة العقبة الكبرى ، وهي التي أناف فيها رجال الأنصار على السبعين ، وكان أصغرهم سناً عقبة بن عمرو . وذلك أنهم اجتمعوا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عند العقبة فقالوا : اشترط لك ولربك ، والمتكلم بذلك عبد اللّه بن رواحة ، فاشترط صلى اللّه عليه وسلم حمايته مما يحمون منه أنفسهم ، واشترط لربه التزام الشريعة وقتال الأحمر والأسود في الدفع عن الحوزة فقالوا : ما لنا على ذلك ؟ قال : الجنة ، فقالوا : نعم ربح البيع ، لا تقيل ولا نقال . وفي بعض الروايات : ولا نستقيل ، فنزلت . والآية عامة في كل من جاهد في سبيل اللّه من أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم إلى يوم القيامة ، وعن جابر بن عبد اللّه : نزلت ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في المسجد فكبر الناس ، فأقبل رجل من الأنصار ثانياً طرف ركابه على أحد عاتقيه فقال : يا رسول اللّه أنزلت هذه الآية ؟ قال : { نعم } فقال : بيع ربح لا تقيل ولا نستقيل . وفي بعض الروايات : فخرج إلى الغزو فاستشهد . وقال الحسن : لا واللّه إن في الأرض مؤمن إلا وقد أحدث بيعته . وقرأ عمر بن الخطاب والأعمش : وأموالهم بالجنة ، مثّل تعالى إثابتهم بالجنة على بذل أنفسهم وأموالهم في سبيله بالشراء ، وقدم الأنفس على الأموال ابتداء بالأشرف وبما لا عوض له إذا فقد . وفي لفظة اشترى لطيفة وهي : رغبة المشتري فيما اشتراه واغتباطه به ، ولم يأت التركيب أن المؤمنين باعوا ، والظاهر أنّ هذا الشراء هو مع المجاهدين . وقال ابن عيينة : اشترى منهم أنفسهم أن لا يعملوها إلا في طاعة ، وأموالهم أن لا ينفقوها إلا في سبيل اللّه ، فالآية على هذا أعم من القتل في سبيل اللّه . وعلى هذا القول يكون يقاتلون مستأنفاً ، ذكر أعظم أحوالهم ، ونبه على أشرف مقامهم . وعلى الظاهر وقول الجمهور يكون يقاتلون ، في موضع الحال . وقرأ الحسن ، وقتادة ، وأبو رجاء ، والعربيان ، والحرميان ، وعاصم : أولاً على البناء للفاعل ، وثانياً على البناء للمفعول . وقرأ النخعي وابن وثاب وطلحة والأعمش والإخوان بعكس ذلك ، والمعنى واحد ، إذ الغرض أنّ المؤمنين يقاتلون ويؤخذ منهم من يقتل ، وفيهم من يقتل ، وفيهم من يجتمع له الأمران ، وفيهم من لا يقع له واحد منهما ، بل تحصل منهم المقاتلة . وقال الزمخشري : يقاتلون فيه معنى الأمر لقوله تعالى : { وَتُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللّه بِأَمْوالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ } انتهى . فعلى هذا لا تكون الجملة في موضع الحال ، لأن ما فيه معنى الأمر لا يقع حالاً . وانتصب وعداً على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة ، لأنّ معنى اشترى بأن لهم الجنة وعدهم اللّه الجنة على الجهاد في سبيله ، والظاهر من قوله : في التوراة والإنجيل والقرآن ، أنّ كل أمة أمرت بالجهاد ووعدت عليه بالجنة ، فيكون في التوراة متعلقاً بقوله : اشترى . ويحتمل أن يكون متعلقاً بتقدير قوله مذكوراً ، وهو صفة فالعامل فيه محذوف أي : وعداً عليه حقاً مذكوراً في التوراة ، فيكون هذا الوعد بالجنة إنما هدى هذه الأمة قد ذكر في التوراة والإنجيل والقرآن . وقيل : الأمر بالجهاد والقتال موجود في جميع الشرائع ، ومن أوفى استفهام على جهة التقرير أي : لا أحد ، ولما أكد الوعد بقوله عليه حقاً أبرزه هنا في صورة العهد الذي هو آكد وأوثق من الوعد ، إذ الوعد في غير حق اللّه تعالى جائز إخلافه ، والعهد لا يجوز إلا الوفاء به ، إذ هو آكد من الوعد . قال الزمخشري : ومن أوفى بعهده من اللّه ، لأن إخلاف الميعاد قبيح لا يقدم عليه الكرام من الخلق مع جوازه عليهم لحاجتهم ، فكيف بالغني الذي لا يجوز عليه قبيح قط ؟ ولا ترى تر غيباً في الجهاد أحسن منه وأبلغ انتهى . وفيه دسيسة الاعتزال ، واستعمال قط في غير موضوعة ، لأنه أتى به مع قوله : لا يجوز عليه قبيح قط . وقط ظرف ماض فلا يعمل فيه إلا الماضي . ثم قال : فاستبشروا ، خاطبهم على سبيل الالتفات لأنّ في مواجهته تعالى لهم بالخطاب تشريف لهم ، وهي حكمة الالتفات هنا . وليست استفعل هنا للطلب ، بل هي بمعنى أفعل كاستوقد وأوقد . والذي بايعتم به وصف على سبيل التوكيد ، ومحيل على البيع السابق . ثم قال : وذلك هو الفوز العظيم أي : الظفر للحصول على الربح التام ، والغبطة في البيع لحط الذنب ودخول الجنة . ١١٢{التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الركِعُونَ السَّاجِدونَ الاْمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّه وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ } : قال ابن عباس : لما نزل أنّ اللّه اشترى من المؤمنين الآية قال رجل : يا رسول اللّه وإن زنا ، وإن سرق ، وإن شرب الخمر : فنزلت التائبون الآية . وهذه أوصاف الكملة من المؤمنين ذكرها اللّه تعالى ليستبق إلى التحلي بها عباده ، وليكونوا على أوفى درجات الكمال . وآية أنّ اللّه اشترى مستقلة بنفسها ، لم يشترط فيها شيء سوى الإيمان ، فيندرج فيها كل مؤمن قاتل لتكون كلمة اللّه هي العليا ، وإن لم تكن فيه هذه الصفات . والشهادة ماحية لكل ذنب ، حتى روي أنه تعالى يحمل عن الشهيد مظالم العباد ويجازيهم عنه . وقالت فرقة : هذه الصفات شرط في المجاهد . والآيتان مرتبطتان فلا يدخل في المبايعة إلا المؤمنون الذين هم على هذه الصفات شرط في المجاهد . والآيتان مرتبطتان فلا يدخل في المبايعة إلا المؤمنون الذين هم على هذه الأوصاف ، ويبذلون أنفسهم في سبيل اللّه . وسأل الضحاك رجل عن قوله تعالى :{ إِنَّ اللّه اشْتَرَى } الآية وقال : لأحملن على المشركين فأقاتل حتى أقتل ، فقال الضحاك : ويلك أين الشرط التائبون العابدون الآية ؟ وهذا القول فيه حرج وتضييق ، وعلى هذين القولين نرتب إعراب التائبون ، فقيل : هو مبتدأ خبره مذكور وهو العابدون ، وما بعده خبر بعد خبر أي : التائبون في الحقيقة الجامعون لهذه الخصال . وقيل : خبره الآمرون . وقيل : خبره محذوف بعد تمام الأوصاف ، وتقديره : من أهل الجنة أيضاً وإن لم يجاهد قاله الزجاج كما قال تعالى :{ وَكُلاًّ وَعَدَ اللّه الْحُسْنَى } ولذلك جاء :{ وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ } وعلى هذه الأعاريب تكون الآية معناها منفصل من معنى التي قبلها . وقيل : التائبون خبر مبتدأ محذوف تقديره هم التائبون ، أي الذين بايعوا اللّه هم التائبون ، فيكون صفة مقطوعة للمدح ، ويؤيده قراءة أبي وعبد اللّه والأعمش : التايبين بالياء إلى والحافظين نصباً على المدح . قال الزمخشري : ويجوز أن يكون صفة للمؤمنين ، وقاله أيضاً : ابن عطية . وقيل : يجوز أن يكون التائبون بدلاً من الضمير في يقاتلون . قال ابن عباس : التائبون من الشرك . وقال الحسن : من الشرك والنفاق . وقيل : عن كل معصية . وعن ابن عباس : العابدون بالصلاة . وعنه أيضاً المطيعون بالعبادة ، وعن الحسن : هم الذين عبدوا اللّه في السراء والضراء . وعن ابن جبير : الموحدونن لسائحون . قال ابن مسعود وابن عباس وغيرهما : الصائمون شبهوا بالسائحين في الأرض ، لامتناعهم من شهواتهم . وعن عائشة : سياحة هذه الأمة الصيام ، ورواه أبو هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم. قال الأزهري : قيل : للصائم سائح ، لأن الذي يسيح في الأرض متعبد لا زاد معه ، كان ممسكاً عن الأكل والصائم ، ممسك عن الأكل . وقال عطاء : السائحون المجاهدون . وعن أبي أمامة : أنّ رجلاً استأذن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في السياحة فقال : { إنّ سياحة أمتي الجهاد في سبيل اللّه } صححه أبو محمد عبد الحق . وقيل : المراد السياحة في الأرض . فقيل : هم المهاجرون من مكة إلى المدينة . وقيل : المسافرون لطلب الحديث والعلم . وقيل : المسافرون في الأرض لينظروا ما فيها من آيات اللّه ، وغرائب ملكه نظر اعتبار . وقيل : الجائلون بأفكارهم في قدرة اللّه وملكوته . والصفات إذا تكررت وكانت للمدح أو الذم أو الترحم جاز فيها الاتباع للمنعوت والقطع في كلها أو بعضها ، وإذا تباين ما بين الوصفين جاز العطف . ولما كان الأمر مبايناً للنهي ، إذ الأمر طلب فعل والنهي ترك فعل ، حسن العطف في قوله : والناهون ودعوى الزيادة ، أو واو الثمانية ضعيف . وترتيب هذه الصفات في غاية من الحسن ، إذا بدأ أولاً بما يخص الإنسان مرتبة على ما سعى ، ثم بما يتعدى من هذه الأوصاف من الإنسان لغيره وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ثم بما شمل ما يخصه في نفسه وما يتعدى إلى غيره وهو الحفظ لحدود اللّه . ولما ذكر تعالى مجموع هذه الأوصاف أمر رسوله صلى اللّه عليه وسلم بأن يبشر المؤمنين . وفي الآية قبلها فاستبشروا أمرهم بالاستبشار ، فحصلت لهم المزية التامة بأن اللّه أمرهم بالاستبشار ، وأمر رسوله أن يبشرهم . ١١٣انظر تفسير الآية:١١٤ ١١٤{مَا كَانَ لِلنَّبِىّ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِى قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ } : قال الجمهور : ومداره على ابن المسيب ، والزهري ، وعمرو بن دينار ، نزلت في شأن أبي طالب حين احتضر فوعظه وقال : { أي عمّ قل لا إله إلا للّه كلمة أحاج لك بها عند اللّه } وكان بالحضرة أبو جهل وعبد اللّه بن أبي أمية فقالا له : يا أبا طالب ، أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فقال أبو طالب : يا محمد لولا أني أخاف أن يعير بها ولدي من بعدي لا قررت بها عينك ، ثم قال : أنا على ملة عبد المطلب ، ومات فنزلت : { إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ } فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : { لأستغفرن لك ما لم أنه عنك } فكان يستغفر له حتى نزلت هذه الآية ، فترك الاستغفار لأبي طالب . وروي أن المؤمنين لما رأوه يستغفر لأبي طالب جعلوا يستغفرون لموتاهم ، فلذلك ذكروا في قوله : ما كان للنبي والذين آمنوا . وقال فضيل بن عطية وغيره : لما فتح مكة أتى قبر أمه ووقف عليه حتى سخنت عليه الشمس ، وجعل يرغب في أن يؤذن له في الاستغفار فلم يؤذن له ، فأخبر أنه أذن له في زيارة قبرها ومنع أن يستغفر لها ، ونزلت الآية وقالت فرقة : نزلت بسبب قوله صلى اللّه عليه وسلم : { وَاللّه } وقال ابن عباس وقتادة وغيرهما : بسبب جماعة من المؤمنين قالوا : نستغفر لموتانا كما استغفر إبراهيم لأبيه . وتضمن قوله ما كان للنبي الآية النهي عن الاستغفار لهم على أي حال كانوا ، ولو في حال كونهم أولى قربى . فقوله : ولو كانوا جملة معطوفة على حال مقدرة ، وتقدم لنا الكلام على مثل هذا التركيب أنّ ولو تأتي لاستقصاء ما لولاها لم يكن ليدخل فيما قبلها ما بعدها . ودلت الآية على المبالغة في إظهار البراءة عن المشركين والمنافقين والمنع من مواصلتهم ولو كانوا في غاية القرب ، ونبه على الوصف الشريف من النبوة والإيمان ، وأنه مناف للاستغفار لمن مات على ضده وهو الشرك باللّه . ومعنى من بعد ما تبين أي : وضح لهم أنهم أصحاب الجحيم لموافاتهم على الشرك ، والتبين هو بإخبار اللّه تعالى { أَمْرُ اللّه مَفْعُولاً إِنَّ اللّه لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } والظاهر أنّ الاستغفار هنا هو طلب المغفرة ، وبه تظافرت أسباب النزول . وقال عطاء بن أبي رباح : الآية في النهي عن الصلاة على المشركين ، والاستغفار هنا يراد به الصلاة . قالوا : والاستغفار للمشرك الحي جائز إذ يرجى إسلامه ، ومن هذا قول أبي هريرة : رحم اللّه رجلاً استغفر لأبي هريرة ولأمه ، قيل له : ولأبيه ؟ قال : لا لأنْ أبي مات كافراً ، فإن ورد نص من اللّه على أحد إنه من أهل النار وهو حي كأبي لهب امتنع الاستغفار له ، فتبين كينونة المشرك أنه من أصحاب الجحيم تمويه على الشرك وبنص اللّه عليه وهي حي ، أنه من أهل النار . ويدخل على جواز الاستغفار للكفار إذا كانوا أحياء ، لأنه يرجى إسلامهم ما حكى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : عن نبي قبله شجه قومه ، فجعل النبي صلى اللّه عليه وسلم يخبر عنه بأنه قال : { اللّهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون} . ولما كان استغفار إبراهيم لأبيه بصدد أن يقتدى به ، ولذلك قال جماعة من المؤمنين : نستغفر لموتانا كما استغفر إبراهيم لأبيه ، بين العلة في استغفار إبراهيم لأبيه ، وذكر أنه حين اتضحت له عداوته للّه تبرأ منه إبراهيم . والموعدة التي وعدها إبراهيم أباه هي قوله :{ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِي } وقوله :{ لاَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} والضمير الفاعل في وعدها عائد على إبراهيم ، وكان أبوه بقيد الحياة ، فكان يرجو إيمانه ، فلما تبين له من جهة الوحي من اللّه أنه عدوّ للّه وأنه يموت كافراً وانقطع رجاؤه منه ، تبرأ منه وقطع استغفاره . ويدل على أن الفاعل في وعد ضمير يعود على إبراهيم : قراءة الحسن ، وحماد الراوية ، وابن السميقع ، وأبي نهيك ، ومعاذ القارىء ، وعدها أباه . وقيل : لفاعل ضمير والد إبراهيم ، وإياه ضمير إبراهيم ، وعده أبوه أنه سيؤمن فكان إبراهيم قد قوي طمعه في إيمانه ، فحمله ذلك على الاستغفار له حتى نهي عنه . وقرأ طلحة : وما استغفر إبراهيم ، وعنه وما يستغفر إبراهيم على حكاية الحال . والذي يظهر أنّ استغفار إبراهيم لأبيه كان في حالة الدنيا . ألا ترى إلى قوله :{ وَاغْفِرْ لاِبِى إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالّينَ } وقوله :{ رَّبّ اغْفِرْ لِى وَلِوالِدَىَّ } ويضعف ما قاله ابن جبير : من أن هذا كله يوم القيامة ، وذلك أنّ إبراهيم يلقى أباه فيعرفه ويتذكر قوله : سأستغفر لك ربي ، فقول له : إلزم حقوى فلن أدعك اليوم لشيء ، فيدعه حتى يأتي الصراط ، فيلتفت إليه فإذا هو قد مسخ ضبعاناً ، فيتبرأ منه حينئذ انتهى ما قاله ابن جير ، ولا يظهر ربطه بالآخرة . قال الزمخشري: { فإن قلت } : خفي على إبراهيم عليه السلام أنّ الاستغفار للكافر غير جائز حتى وعده . { قلت} : يجوز أن يظن أنه ما دام يرجى له الإيمان جاز الاستغفار له على أنّ امتناع جواز الاستغفار للكافر إنما علم بالوحي ، لأن العقل يجوز أن يغفر اللّه للكافر . ألا ترى إلى قوله صلى اللّه عليه وسلم : { لأستغفرن لك ما لم أنه عنك } وعن الحسن قيل لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : إنّ فلاناً يستغفر لآبائه المشركين فقال : { ونحن نستغفر لهم } وعن علي رضي اللّه عنه : رأيت رجلاً يستغفر لأبويه وهما مشركان فقلت له : فقال : أليس قد استغفر إبراهيم انتهى ؟ وقوله : لأنّ العقل يجوز أن يغفر اللّه للكافر رجوع إلى قول أهل السنة . والأوّاه : الدعاء ، أو المؤمن ، أو الفقيه ، أو الرحيم ، أو المؤمن التواب ، أو المسيح ، أو الكثير الذكر له ، أو التلاء لكتاب اللّه ، أو القائل من خوف اللّه ، أواه المكثر ذلك ، أو الجامع المتضرع ، أو المؤمن بالحبشية ، أو المعلم للخير ، أو الموفى ، أو المستغفر عند ذكر الخطايا ، أو الشفيق ، أو الراجع عن كل ما يكرهه اللّه ، أقوال للسلف ، وقد ذكرنا مدلوله في اللغة في المفردات . وقال الزمخشري : أوّاه فقال : من أوّه كلأل من اللؤلؤ ، وهو الذي يكثر التأوه ، ومعناه أنه لفرط ترحمه ورقته وحلمه كان يتعطف على أبيه الكافر ويستغفر له مع شكاسته عليه . وقوله : لأرجمنك انتهى . وتشبيه أوّاه من أوّه بلال من اللؤلؤ ليس بجيد ، لأنّ مادة أوّه موجودة في صورة أوّاه ، ومادة لؤلؤة مفقودة في لأل لاختلاف التركيب ، إذ لال ثلاثي ، ولؤلؤ رباعي ، وشرط الاشتقاق التوفق في الحروف الأصلية . وفسروا الحليم هنا بالصافح عن الذنب الصابر على الأذى ، وبالصبور ، وبالعاقل ، وبالسيد ، وبالرقيق القلب الشديد العطف . ١١٥انظر تفسير الآية:١١٦ ١١٦{وَمَا كَانَ اللّه لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللّه بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ إِنَّ } : مات قوم كان عملهم على الأمر الأول : كاستقبال بيت المقدس ، وشرب الخمر ، فسأل قوم الرسول بعد مجيء النسخ ونزول الفرائض عن ذلك فنزلت . وقال الكرماني : أسلم قوم من الأعراب فعملوا بما شاهدوا الرسول يفعله من الصلاة إلى بيت المقدس ، وصيام لأيام البيض ، ثم قدموا عليه فوجوده يصلي إلى الكعبة ويصوم رمضان ، فقالوا : يا رسول اللّه دنا بعدك بالضلال ، إنك على أمرٍ وأنا على غيره فنزلت . وقيل : خاف بعض المؤمنين من الاستغفار للمشركين دون إذن من اللّه فنزلت الآية مؤنسة أي : ما كان اللّه بعد أن هدى للإسلام وأنقذ من النار ليحبط ذلك ويضل أهله لمقارفتهم ذنباً لم يتقدم منه نهى عنه . فأما إذ بين لهم ما يتقون من الأمر ، ويتجنبون من الأشياء ، فحينئذ من واقع بعد النهي استوجب العقوبة . وقال الزمخشري : يعني ما أمر اللّه باتقائه واجتنابه كالاستغفار للمشركين وغيره مما نهى عنه ، وبين أنه محظور ، ولا يؤاخذ به عباده الذين هداهم للإسلام ، ولا يسميهم ضلالاً ولا يخذلهم إلا إذا أقدموا عليه بعد بيان حظره عليهم ، وعلمه بأنه واجب الاتقاء والاجتناب ، وأما قبل العلم والبيان فلا سبيل عليهم ، كما لا يؤاخذون بشرب الخمر ولا ببيع الصاع بالصاعين قبل التحريم . وهذا بيان لعذر من خاف المؤاخذة بالاستغفار للمشركين قبل ورود النهي في هذه الآية شديدة ما ينبغي أن يغفل عنها ، وهي أنّ المهدي للإسلام إذا أقبل على بعض محظورات اللّه داخل في حكم الضلال ، والمراد بما بتقون ما يجب اتقاؤه للنهي . فأما ما يعلم بالعقل كالصدق في الخبر ورد الوديعة فغير موقوف على التوقيف انتهى . وفي هذا الأخير من كلامه وفي قوله : قبل في تفسير ليضل ولا يسميهم ضلالاً ولا يخذلهم دسيسة الاعتزال ، وفي كلامه إسهاب ، وهو بسط ما قال مجاهد ، قال : ما كان ليضلكم بالاستغفار للمشركين بعد إذ هداكم للإيمان حتى يتقدم بالنهي عن ذلك ، وبينه لكم فتتقوه انتهى . وتقدم في أسباب النزول ما يشرح به الآية من سؤالهم عمن مات ، وقد صلى إلى بيت المقدس ، وشرب الخمر ، ومن قصة الأعراب . والذي يظهر في مناسبة هذه الآية لما قبلها وفي شرحها : أنه تعالى لما بين أنه لا يستغفر للمشركين ولو كانوا أولي قربى ، كان في هذه الآية وفي التي بعدها تباين ما بين القرابة حتى منعوا من الاستغفار لهم ، فمنع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من الاستغفار لعمه أبي طالب وهو الذي تولى تربيته ونصره وحفظه إلى أن مات ، ومنع إبراهيم من الاستغفار لأبيه وهو أصل نشأته ومربيه ، وكذلك منع المسلمون من الاستغفار للمشركين أقرباء وغير أقرباء فكأنه قيل : لا تعجب لتباين هؤلاء ، هذا خليل اللّه ، وهذا حبيب اللّه ، والأقرباء المختصون بهم المشركون أعداء اللّه ، فإضلال هؤلاء لم يكن إلا بعد أن أرشدهم اللّه إلى طريق الحق بما ركز فيهم من حجج العقول التي أغفلوها ، وتبيين ما يتقون بطريق الوحي ، فتظافرت عليهم الحجج العقلية والسمعية ، ومع ذلك لم يؤمنوا ولم يتبعوا ما جاءت الرسل به عن اللّه تعالى ، ولذلك ختمها بقوله : إن اللّه بكل شيء عليم ، فيضل من يشاء ويختص بالهداية من يشاء . فالمعنى : وما كان اللّه ليديم إضلال قوم أرشدهم إلى الهدى حتى يبين لهم ما يتقونه أي : يجتنبونه فلا يجدي ذلك فيهم ، فحنيئذ يدوم إضلالهم . ولما ذكر تعالى علمه بكل شيء ، فهو يعلم ما يصلح لكل أحد ، وما هيىء له في سابق الأزل ، ذكر ما دل على القدرة الباهرة من أنه له ملك السموات والأرض ، فيتصرف في عباده بما شاء ، ثم ذكر من أعظم تصرفاته الأحياء والإماتة أي : الإيجاد والإعدام . وتفسير الطبري هنا قوله : يحيي ويميت ، بأنه إشارة إلى أنه يجب للمؤمنين أن لا يجزعوا من عدو وإن كثر ، ولا يهابوا أحداً فإنّ الموت المخوف ، والحياة المحتومة إنما هي بيد اللّه ، غير مناسب هنا وإن كان في نفسه قولاً صحيحاً . وتقدم شرح قوله : { وَمَا لَكُم مّن دُونِ اللّه مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ } في البقرة . ١١٧انظر تفسير الآية:١١٨ ١١٨{لَقَدْ تَابَ اللّه عَلَى النَّبِىّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالاْنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِى سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ } : لما تقدم الكلام في أحوال المنافقين من تخلفهم عن غزوة تبوك ، واستطرد إلى تقسيم المنافقين إلى أعراب وغيرهم ، وذكر ما فعلوا من مسجد الضرار ، وذكر مبايعة المؤمنين اللّه في الجهاد وأثنى عليهم ، وأنه ينبغي أن يباينوا المشركين حتى الذين ماتوا منهم بترك الاستغفار لهم ، عاد إلى ذكر ما بقي من أحوال غزوة تبوك ، وهذه شنشنة كلام العرب يشرعون في شيء ثم يذكرون بعده أشياء مناسبة ويطيلون فيها ، ثم يعودون إلى ذلك الشيء الذي كانوا شرعوا فيه . قال ابن عطية : التوبة من اللّه رجوعه لعبده من حالة إلى حالة أرفع منه ، وقد يكون في الأكثر رجوعاً عن حالة المعصية إلى حالة الطاعة ، وقد يكون رجوعاً من حالة طاعة إلى أكمل منها . وهذه توبته في هذه الآية على النبي صلى اللّه عليه وسلم ، لأنه رجع به من حالة قبل تحصيل الغزوة وتحمل مشاقها ، إلى حاله بعد ذلك أكمل منها . وأما توبته على المهاجرين والأنصار فحالها معرضة لأنْ تكون من نقصان إلى طاعة وجد في الغزو ونصرة الدين ، وأما توبته على الفريق فرجوع من حالة محطوطة إلى حالة غفران ورضا . وقال الزمخشري : تاب اللّه على النبي كقوله تعالى :{ لّيَغْفِرَ لَكَ اللّه مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ }{ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ } وهو بعث للمؤمنين على التوبة ، وأنه ما من مؤمن إلا وهو محتاج إلى التوبة والاستغفار ، حتى النبي والمهاجرون والأنصار ، وإبانة الفضل التوبة ومقدارها عند اللّه تعالى ، وأنّ صفة الأوابين صفة الأنبياء كما وصفهم بالصالحين لتظهر فضيلة الصلاح . وقيل : معناه تاب اللّه عليه من إذنه للمنافقين في التخلف عنه لقوله تعالى :{ عَفَا اللّه عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } انتهى . وقيل : لا يبعد إن صدر عن المهاجرين والأنصار أنواع من المخالفات ، إلا أنه تعالى تاب عليهم وعفا عنهم لأجل أنهم تحملوا مشاق ذلك السفر ، ثم إنه تعالى ضم ذكر الرسول صلى اللّه عليه وسلم إلى ذكرهم تنبيهاً على عظم مراتبهم في قبول التوبة . اتبعوه : أي اتبعوا أمره ، فهو من مجاز الحذف . ويجوز أن يكون هو ابتدأ بالخروج ، وخرجوا بعده فيكون الاتباع حقيقة ساعة العسرة أي : في وقت العسرة ، والتباعة مستعارة للزمان المطلق ، كما استعاروا الغداة والعشية واليوم . قال : غداة طفت علماء بكر بن وائل سقط : وقال آخر عشية قارعنا جذام وحميرا وآخر : إذا جاء يوماً وارثي يبتغي الغنى وهي غزوة تبوك كانت تسمى غزوة العسرة ، ويجوز أن يريد بساعة العسرة الساعة التي وقع فيها عزمهم وانقيادهم لتحمل المشقة ، إذ السفرة كلها تبع لتلك الساعة ، وبها وفيها يقع الأجر على اللّه وترتبط النية ، فمن اعتزم على الغزو وهو معسر فقد أنفع في ساعة عسرة ، ولو اتفق أن يطرأ لهم غنى في سائر سفرهم لما اختل كونهم متبعين في ساعة العسرة . والعسرة : الضيق والشدة والعدم ، وهذا هو جيش العسرة الذي قال فيه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : { من جهز جيش العسرة فله الجنة } فجهزه عثمان بن عفان بألف جمل وألف دينار . وروي أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قلب الدنانير بيده وقال : { وما على عثمان ما عمل بعد هذا } وجاء أنصاري بسبعمائة وسق من بر . وقال مجاهد ، وقتادة ، والحسن : بلغت العسرة بهم إلى أن كان العشرة منهم يعتقبون على بعير واحد من قلة الظهر ، وإلى أن قسموا التمرة بين الرجلين ، وكان النفر يأخذون التمرة الواحدة فيمصها أحدهم ويشرب عليها الماء ، ثم يفعل بها كلهم ذلك . وقال عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه : أصابهم في بعضها عطش شديد حتى جعلوا ينحرون الإبل ويشربون ما في كروشها من الماء ، ويعصرون الفرث حتى استسقى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فرفع يديه يدعو ، فما رجعها حتى انسكبت سحابة ، فشربوا وادخروا ثم ارتحلوا ، فإذا السحابة لم تخرج عن العسكر . وفي هذه الغزوة هموا من المجاعة بنحر الإبل ، فأمر بجمع فضل أزوادهم حتى اجتمع منه على النطع شيء يسير ، فدعا فيه بالبركة ثم قال : { خذوا في أوعيتكم فملأوها حتى لم يبق وعاء } وأكل القوم كلهم حتى شبعوا ، وفضلت فضلة . وكان الجيش ثلاثين ألفاً وزيادة ، وهي آخر مغازيه صلى اللّه عليه وسلم ، وفيها خلف علياً بالمدينة . وقال المنافقون خلفه بغضاً له ، فأخبره بقولهم فقال : { أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى } ؟ ووصل صلى اللّه عليه وسلم إلى أوائل بلاد العدو ، وبث السرايا ، فصالحه أهل أذرح وأيلة وغيرهما على الجزية وانصرف . {يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ } قال الحسن : همت فرقة بالانصراف لما لقوا من المشقة . وقيل : زيغها كان بظنون لها ساءت في معنى عزم الرسول على تلك الغزوة ، لما رأته من شدّة العسرة وقلة الوفر ، وبعد الشقة ، وقوة العدو المقصود . وقال ابن عباس : تزيغ ، تعدل عن الحق في المبايعة . وكاد تدل على القرب ، لا على التلبس بالزيغ . وقرأ حمزة وحفص : يزيغ بالياء ، فتعين أن يكون في كاد ضمير الشأن ، وارتفاع قلوب بتزيغ لامتناع أن يكون قلوب اسم كاد وتزيغ في موضع الخبر ، لأنّ النية به التأخير . ولا يجوز من بعد ما كاد قلوب يزيغ بالياء . وقرأ باقي السبعة : بالتاء ، فاحتمل أن يكون قلوب اسم كاد ، وتزيغ الخبر وسط بينهما ، كما فعل ذلك بكان . قال أبو علي : ولا يجوز ذلك في عسى ، واحتمل أن يكون فاعل كاد ضمير يعود على الجمع الذي يقتضيه ذكر المهاجرين والأنصار ، أي من بعد ما كاد هو أي : الجمع . وقد قدر المرفوع بكاد باسم ظاهر وهو القوم ابن عطية وأبو البقاء ، كأنه قال : من بعد ما كاد القوم . وعلى كل واحد من هذه الأعاريب الثلاثة إشكال على ما تقرّر في علم النحو : من أنّ خبر أفعال المقاربة لا يكون إلا مضارعاً رافعاً ضمير اسمها . فبعضهم أطلق ، وبعضهم قيد بغير عسى من أفعال المقاربة ، ولا يكون سبباً ، وذلك بخلاف كان . فإنّ خبرها يرفع الضمير ، والسبي لاسم كاد ، فإذا قدّرنا فيها ضمير الشأن كانت الجملة في موضع نصب على الخبر ، والمرفوع ليس ضميراً يعود على اسم كادبل ولا سبباً له ، وهذا يلزم في قراءة الياء أيضاً . وأما توسيط الخبر فهو مبني على جواز مثل هذا التركيب في مثل كان : يقوم زيد ، وفيه خلاف ، والصحيح المنع . وأما توجيه الآخر فضعيف جداً من حيث أضمر في كاد ضمير ليس له على من يعود إلا بتوهم ، ومن حيث يكون خبر كاد واقعاً سببياً ، ويخلص من هذه الإشكالات اعتقاد كون كاد زائدة ، ومعناها مراد ، لا عمل لها إذ ذاك في اسم ولا خبر ، فتكون مثل كان إذا زيدت ، يراد معناها ولا عمل لها . ويؤيد هذا التأويل قراءة ابن مسعود : من بعد ما زاغت ، بإسقاط كاد . وقد ذهب الكوفيون إلا زيادتها في قوله تعالى : { لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا } مع تأثيرها للعامل ، وعملها هي . فأحرى أن يدعي زيادتها ، وهي ليست عاملة ولا معمولة . وقرأ الأعمش والجحدري : تزيغ برفع التاء . وقرأ أبي : من بعد ما كادت تزيغ ثم تاب عليهم ، الضمير في عليهم عائد على الأولين ، أو على الفريق فالجملة كرّرت تأكيداً . أو يراد بالأول إنشاء التوبة ، وبالثاني استدامتها . أو لأنه لما ذكر أنّ فريقاً منهم كادت قلوبهم تزيغ نص على التوبة ثانياً رفعاً لتوهم أنهم مسكوت عنهم في التوبة ، ثم ذكر سبب التوبة وهو رأفته بهم ورحمته لهم . والثلاثة الذين خلفوا تقدمت أسماؤهم ، ومعنى خلفوا عن الغزو غزو تبوك قاله : قتادة . أو خلفوا عن أبي لبابة وأصحابه ، حيث تيب عليهم بعد التوبة على أبي لبابة وأصحابه إرجاء أمرهم خمسين يوماً ثم قبل توبتهم . وقد ردّ تأويل قتادة كعب بن مالك بنفسه فقال : معنى خلفوا تركوا عن قبول العذر ، وليس بتخلفنا عن الغزو . وقرأ الجمهور : خلفوا بتشديد اللام مبنياً للمفعول . وقرأ أبو مالك كذلك وخفف اللام . وقرأ عكرمة بن هارون المخزومي ، وذر ابن حبيش ، وعمرو بن عبيد ، ومعاذ القاري ، وحميد : بتخفيف اللام مبنياً للفاعل ، ورويت عن أبي عمرو أي : خلفوا الغازين بالمدينة ، أو فسدوا من الخالفة . وقرأ أبو العالية أبو الجوزاء كذلك مشدَّد اللام . وقرأ أبو زيد ، وأبو مجلز ، والشعبي ، وابن يعمر ، وعلي بن الحسين ، وابناه زيد ، ومحمد الباقر ، وابنه جعفر الصادق : خالفوا بألف أي : لم يوافقوا على الغزو . وقال الباقر : ولو خلفوا لم يكن لهم . وقرأ الأعمش وعلى الثلاثة المخلفين ، ولعله قرأ كذلك على سبيل التفسير ، لأنها قراءة مخالفة لسواد المصحف . حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت تقدم تفسير نظيرها في هذه السورة في قصة حنين . وضاقت عليهم أنفسهم استعارة ، لأن الهم والغم ملأها بحيث لا يسعها أنس ولا سرور ، وخرجت عن فرط الوحشة والغم ، وظنوا أي : علموا . قاله الزمخشري . و قال ابن عطية : أيقنوا ، كما قالوا في قول الشاعر : فقلت لهم ظنوا بألفي مدحج سراتهم في الفارسي المسرّد وقال قوم : الظن هنا على بابه من ترجيح أحد الجائزين ، لأنه وقف أمرهم على الوحي ولم يكونوا قاطعين بأنه ينزل في شأنهم قرآن ، أو كانوا قاطعين لكنهم يجوزون تطويل المدة في بقائهم في الشدة ، فالظن عاد إلى تجويز تلك المدة قصيرة . وجاءت هذه الجمل في كنف إذاً في غاية الحسن والترتيب ، فذكر أولاً ضيق الأرض عليهم وهو كناية عن استيحاشهم ، ونبوة الناس عن كلامهم . وثانياً وضاقت عليهم أنفسهم وهو كناية عن تواتر الهم ، والغم على قلوبهم ، حتى لم يكن فيها شيء من الانشراح والاتساع ، فذكر أولاً ضيق المحل ، ثم ثانياً ضيق الحال فيه ، لأنه قد يضيق المحل وتكون النفس منشرحة . سم الخياط مع المحبوب ميدان . ثم ثالثاً لما يئسوا من الخللق عذقوا أمورهم باللّه وانقطعوا إليه ، وعلموا أنه لا يخلص من الشدة ولا يفرجها إلا هو تعالى { ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ } وإذاً إنْ كانت شرطية فجوابها محذوف تقديره : تاب عليهم ، ويكون قوله : ثم تاب عليهم ، نظير قوله : ثم تاب عليهم ، بعد قوله { لَقَدْ تَابَ اللّه عَلَى النَّبِىّ } الآية . ودعوى أنّ ثم زائدة وجواب إذا ما بعد ثم بعيد جداً ، وغير ثابت من لسان العرب زيادة ثم . ومن زعم أنّ إذا بعد حتى قد تجرد من الشرط وتبقى لمجرد الوقت فلا تحتاج إلى جواب بل تكون غاية للفعل الذي قبلها وهو قوله : خلفوا أي : خلفوا إلى هذا الوقت ، ثم تاب عليهم ليتوبوا ، ثم رجع عليهم بالقبول والرحمة كرة أخرى ليستقيموا على توبتهم وينيبوا ، أو ليتوبوا أيضاً فيما يستقبل إن فرطت منهم خطيئة علماً منهم أنّ اللّه ثواب على من تاب ، ولو عاد في اليوم مائة مرة . وقيل : معنى ليتوبوا ليدوموا على التوبة ولا يراجعوا ما يبطلها . وقيل : ليتوبوا ، ليرجعوا إلى حالهم وعادتهم من الاختلاط بالمؤمنين ، وتستكن نفوسهم عند ذلك . قال ابن عطية : وقوله : ثم تاب عليهم ليتوبوا ، لمّا كان هذا القول في تعديد نعمه بدأ في ترتيبه بالجهة التي هي عن اللّه تعالى ليكون ذلك منبّهاً على تلقي النعمة من عنده لا رب غيره ، ولو كان القول في تعديد ذنب لكان الابتداء بالجهة التي هي عن المذنب كما قال تعالى :{ فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ اللّه قُلُوبَهُمْ } ليكون هذا أشد تقريراً للذنب عليهم ، وهذا من فصاحة القرآن وبديع نظمه ومعجز اتساقه . وبيان هذه الآية ومواقع ألفاظها أنها تكمل مع مطالعة حديث الثلاثة الذين خلفوا ، وقد خرج حديثهم بكماله البخاري ومسلم وهو في السير ، فلذلك اختصرت سوقه . وإنما عظم ذنبهم واستحقوا عليه ذلك لأنّ الشرع يطالبهم من الحد فيه بحسب منازلهم منه وتقدمهم فيه ، إذ هو أسوة وحجة للمنافقين والطاعنين ، إذ كان كعب من أهل العقبة ، وصاحباه من أهل بدر ، وفي هذا ما يقتضي أنّ الرجل العالم والمقتدي به أقل عذراً في السقوط من سواه . وكتب الأوزاعي إلى المنصور أبي جعفر في آخر رسالة : واعلم أنّ قرابتك من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لن تزيد حق اللّه عليك إلا عظماً ، ولا ظاعته إلا وجوباً ، ولا الناس فيما خالف ذلك منك إلا إنكاراً والسلام . ولقد أحسن القاضي التنوخي في قوله : والعيب يعلق بالكبير كبير وروي أن أناساً من المؤمنين تخلفوا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ومنهم من بدا له فيلحق بهم كأبي خيثمة ، ومنهم من بقي لم يلحق بهم منهم الثلاثة . وسئل أبو بكر الوراق عن التوبة النصوح فقال : إن تضيق إلى التائب الأرض بما رحبت ، وتضيق عليه نفسه كتوبه كعب بن مالك وصاحبيه . ١١٩{الرَّحِيمُ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللّه وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ } : هو خطاب للمؤمنين ، أمروا بكونهم مع أهل الصدق بعد ذكر قصة الثلاثة الذين نفعهم صدقهم وأزاحهم عن ربقة النفاق . واعترضت هذه الجملة تنبيهاً على رتبة الصدق ، وكفى بها أنها ثانية لرتبة النبوة في قوله :{ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّه عَلَيْهِم مّنَ النَّبِيّينَ وَالصّدّيقِينَ } قال ابن جريج وغيره : الصدق هنا صدق الحديث . وقال الضحاك ونافع : ما معناه اللفظ أعم من صدق الحديث ، وهو بمعنى الصحة في الدين ، والتمكن في الخير ، كما تقول العرب : رجل صدق . وقالت هذه الفرقة : كونوا مع محمد وأبي بكر وعمر وخيار المهاجرين الذين صدقوا اللّه في الإسلام . وقيل : هم الثلاثة أي : كونوا مثل هؤلاء في صدقهم وثباتهم . وقال الزمخشري : هم الذين صدقوا في إيمانهم ومعاهدتهم اللّه ورسوله من قوله : { رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللّه عَلَيْهِ } وهم الذين صدقوا في دين اللّه نية وقولاً وعملاً انتهى . وقيل : الخطاب بالذين آمنوا لمن تخلف من الطلقاء عن غزوة تبوك . وعن ابن عباس : الخطاب لمن آمن من أهل الكتاب أي : كونوا مع المهاجرين والأنصار ، ومع تقتضي الصحبة في الحال والمشاركة في الوصف المقتضي للمدح . وقرأ ابن مسعود وابن عباس : من الصادقين ، ورويت عن النبي صلى اللّه عليه وسلم. وكان ابن مسعود يتأوله في صدق الحديث وقال : الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل ، ولا إن يعد منكم أحد صببه ثم لا ينجزه ، اقرؤوا إن شئتم : وكونوا مع الصادقين . وقال صاحب اللوامح : ومن أعم من مع ، لأنّ كل ن كان من قوم فهو معهم في المعنى المأمور به ، ولا ينعكس ذلك . وقرأ زيد بن علي ، وابن السميقع ، وأبو المتوكل ، ومعاذ القاري : مع الصادقين بفتح القاف وكسر النون على التثنية ، ويظهر أنهما اللّه ورسوله لقوله تعالى :{ وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الاْحْزَابَ قَالُواْ هَاذَا مَا وَعَدَنَا اللّه وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللّه وَرَسُولُهُ } ولما تقدم وظنوا أن لا ملجأ من اللّه إلا إليه ، أمروا بأنْ يكونوا مع اللّه ورسوله بامتثال الأمر واجتناب المنهى عنه كما يقال : كن مع اللّه يكن معك . ١٢٠انظر تفسير الآية:١٢١ ١٢١{مَا كَانَ لاهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مّنَ الاْعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّه وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذالِكَ } : نزلت فيمن تخلف من أهل المدينة عن غزوة تبوك ، وفيمن تخلف ممن حولهم من الأعراب من مزينة وجهينة وأشجع وأسلم وغفار . ومناسبتها لما قبلها : أنه لما أمر المؤمنين بتقوى اللّه ، وأمر بكينونتهم مع الصادقين ، وأفضل الصادقين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثم المهاجرون والأنصار ، اقتضى ذلك موافقة الرسول وصحبته أنّى توجه من الغزوات والمشاهد ، فعوتب العتاب الشديد من تخلف عن الرسول في غزوة ، واقتضى ذلك الأمر لصحبته وبذل النفوس دونه . قال الزمخشري : بأن يصحبوه على البأساء والضراء ، وأمروا أن يكابدوا معه الأهوال برغبة ونشاط واغتباط ، وأن يلقوا أنفسهم في الشدائد ما يلقاه نفسه صلى اللّه عليه وسلم ، علماً بأنها أعزُّ نفس عند اللّه تعالى وأكرمها عليه ، فإذا تعرضت مع كرامتها وعزتها للخوض في شدة وهون وجب على سائر الأنفس أن تتهافت فيما تعرضت له ، ولا يكترث لها أصحابها ، ولا يقيموا لها وزناً ، وتكون أخف شيء عليهم وأهونه ، فضلاً أن يربؤوا بأنفسهم عن متابعتها ومصاحبتها ، ويضنوا بها على ما سمح بنفسه عليه ، وهذا نهي بليغ مع تقبيح لأمرهم وتوبيخ لهم عليه ، وتهييج لمتابعته بأنفة وحمية . قال الكرماني : هذا نفي معناه النهي ، وخصَّ هؤلاء بالذكر وكل الناس في ذلك سواء لقربهم منه ، وأنه لا يخفى عليهم خروجه . قال قتادة : كان هذا الإلزام خاصاً مع النبي صلى اللّه عليه وسلم وجواب النفر إلى الغزو إذا خرج هو بنفسه ، ولم يبق هذا الحكم مع غيره من الخلفاء . وقال زيد بن أسلم : كان هذا الأمر والإلزام في قلة الإسلام ، واحتياج إلى اتصال الأيدي ، ثم نسخ عند قوة الإسلام بقوله :{ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً } قال : وهذا كله في الانبعاث إلى غزو العدو على الدخول في الإسلام ، وأما إذا ألم العدوّ بجهة فيتعين على كل أحد القيام بذنبه ومكافحته ، والإشارة بذلك إلى ما تضمنه انتفاء التخلف من وجوب الخروج معه وبذل الفس دونه ، كأنه قيل : ذلك الوجوب للخروج وبذل النفس هو بسبب ما أعد اللّه لهم من الثواب الجسيم على المشاق التي تنالهم ، وما يتسنى على أيديهم من إيذاء أعداء الإسلام . والظمأ العطش . وقرأ عبيد بتن عمير ظماء بالمد مثل : سفه سفاهاً ، ولما كان العطش أشق الأشياء المؤدية للمسافر بكثرة الحركة وإزعاج النفس وخصوصاً في شدة الحر كغزوة تبوك بدىء به أولاً ، وثنى بالنصب وهو التعب لأنه الكلال الذي يلحق المسافر والإعياء الناشىء عن العطش والسير ، وأتى ثالثاً بالجوع لأنه حاله يمكن الصبر عليها الأوقات العديدة ، بخلاف العطش والنصب المفضيين إلى الخلود والانقطاع عن السفر . فكان الإخبار بما يعرض للمسافر أولاً فثانياً فثالثاً . وموطئاً مفعل من وطىء ، فاحتمل أنْ يكون مكاناً ، واحتمل مصدراً . والفاعل في يغيظ عائد على المصدر ، إما على موطىء إن كان مصدراً ، وإما على ما يفهم من موطىء إن كان مكاناً ، أي يغيظ وطؤهم إياه الكفار . وأطلق موطئاً إذا كان مكاناً ليعم كل موطىء يغيظ وطؤه الكفار ، سواء كان من أمكنة الكفار ، أم من أمكنة المسلمين إذا كان في سلوكه غيظهم . والوطء يدخل فيه بالحوافر والإخفاف والأرجل . وقرأ زيد بن علي : يغيظ بضم الياء . والنيل مصدر ، فاحتمل أن يبقى على موضوعه ، واحتمل أن يراد به المنيل . وأطلق نيلاً ليعمّ القليل والكثير مما يسوءهم قتلاً وأسراً وغنيمة وهزيمة ، وليست الياء في نيل بدلاً من واو خلافاً لزاعم ذلك ، بل نال مادتان : إحداهما من ذوات الواو نلته أنولة نولاً ونوالاً من العطية ، ومنه التناول . والأخرى : هذه من ذوات الياء ، نلته ناله نيلاً إذا أصابه وأدركه . وبدىء في هاتين الجملتين بالأسبق أيضاً وهو الوطء ، ثم ثنى بالنيل من العدو . جاء العموم في الكفار بالألف واللام ، وفي من عدو لكونه في سياق النفي ، وبدىء أولاً بما يحض المسافر في الجهاد في نفسه ، ثم ثانياً بما يترتب على تحمل تلك المشاق من غيظ الكفار والنيل من العدو . وقال الزمخشري : ويجوز أن يراد بالوطء الإيقاع والإبادة ، لا الوطء بالأقدام والحوافر كقوله عليه السلام : { ءاخَرَ} والكتب هنا يحتمل أن يكون حقيقة أي : كتب في الصحائف ، أو في اللوح المحفوظ ، ليجازي عليه يوم القيامة . ويحتمل أن يكون استعارة ، عبر عن الثبوت بالكتابة لأنّ من أراد أن يثبت شيئاً كتبه . والجملة من كتب في موضع الحال ، وبه أفرد الضمير إجراء له مجرى اسم الإشارة كأنه قيل : إلا كتب لهم بذلك عمل صالح أي : بإصابة الظمأ والنصب والمخمصة والوطء والنيل . وفي الحديث : { من أغرث قدماه في سبيل اللّه حرمه اللّه على النار } وقال ابن عباس : بكل روعة تنالهم في سبيل اللّه سبعون ألف حسنة . والنفقة الصغيرة قال ابن عباس : كالثمرة ونحوها ، والكبيرة ما فوقها . وقال الزمخشري : صغيرة ولو تمرة ، ولو علاقة سوط ، . ولا كبيرة مثل ما أنفق عثمان في جيش العسرة انتهى . وقدم صغيرة على سبيل الاهتمام كقوله : { ياوَيْلَتَنَا مَا لِهَاذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً }{ وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذالِكَ وَلا أَكْبَرَ } وإذا كتب أجر الصغيرة فأحرى أجر الكبيرة . ومفعول كتب مضمر يعود على المصدر المفهوم من ينفقون ويقطعون ، كأنه قيل : كتب لهم هو أي الإنفاق والقطع ، ويجوز أن يعود على قوله : عمل صالح المتقدم الذكر . وتأخرت هاتان الجملتان وقدّمت تلك الجمل السابقة لأنها أشق على النفس وأنكى في العدو ، وهاتان أهون لأنهما في الأموال وقطع الأرض إلى العدو ، سواء حصل غيظ الكفار والنيل من العدو أم لم يحصلا ، فهذا أعم وتلك أخص . وكان تعليل تلك آكد ، إذ جاء بالجملة الإسمية المؤكدة بأنّ ، وذكر فيه الأجر . ولفظ المحسنين تنبيهاً على أنهم حازوا رتب الإحسان التي هي أعلى رتب المؤمنين . وفي هاتين الجملتين أتى بلام العلة وهي متعلقة بكتب والتقدير : أحسن جزاء الذي كانوا يعملون ، لأنّ عملهم له جزاء حسن ، وله جزاء أحسن ، وهنا الجزاء أحسن جزاء . وقال أبو عبد اللّه الرازي : أحسن ما كانوا يعملون فيه وجهان : الأول : أن أحسن من صفة فعلهم ، وفيها الواجب والمندوب دون المباح اننتهى . هذا الوجه فاحتمل أن يكون أحسن بدلاً من ضمير ليجزيهم بدل اشتمال ، كأنه قيل : ليجزي اللّه أحسن أفعالهم بالأحسن من الجزاء ، أو بما شاء من الجزاء . ويحتمل أن يكون ذلك على حذف مضاف فيكون التقدير : ليجزيهم جزاءاً أحسن أفعالهم . والثاني : أن الأحسن صفة للجزاء أي : يجزيهم جزاء هو أحسن من أعمالهم وأجل وأفضل ، وهو الثواب انتهى ، هذا الوجه ، وإذا كان الأحسن من صفة الجزاء فكيف أضيف إلى الأعمال وليس بعضها منها ؟ وكيف يقع التفضيل إذ ذاك بين الجزاء وبين الأعمال ، ولم يصرح فيه بمن ؟ . ١٢٢انظر تفسير الآية:١٢٣ ١٢٣{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلّ فِرْقَةٍ مّنْهُمْ طَائِفَةٌ لّيَتَفَقَّهُواْ فِى الدّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ } : لما سمعوا ما كان لأهل المدينة الآية أهمهم ذلك ، فنفروا إلى المدينة إلى الرسول فنزلت . وقيل : قال المنافقون حين نزلت : ما كان لأهل المدينة الآية هكذا أهل البوادي فنزلت . وقيل : لما دعا الرسول على مضر بالسنن أصابتهم مجاعة ، فنفروا إلى المدينة للمعاش وكادوا يفسدونها ، وكان أكثرهم غير صحيح الإيمان ، وإنما أقدمه الجوع فنزلت الآية فقال : وما كان من ضعفة الإيمان لينفروا مثل هذا النفير أي : ليس هؤلاء بمؤمنين . وعلى هذه الأقوال لا يكون النفير إلى الغزو ، والضمير الذي في ليتفقهوا عائد على الطائفة النافرة ، وهذا هو الظاهر . وقال ابن عباس : الآية في البعوث والسرايا . والآية المتقدمة ثابتة الحكم مع خروج الرسول في الغزو ، وهذه ثابتة الحكم إذا لم يخرج أي : يجب إذا لم يخرج أن لا ينفر الناس كافة ، فيبقى هو مفرداً . وإنما ينبغي أن ينفر طائفة وتبقى طائفة لتتفقه هذه الطائفة في الدين ، وتنذر النافرين إذا رجعوا إليهم . وقالت فرقة : هذه الآية ناسخة لكل ما ورد من إلزام الناس كافة النفير والقتال ، فعلى هذا وعلى قول ابن عباس يكون الضمير في ليتفقهوا عائداً على الطائفة المقيمة مع النبي صلى اللّه عليه وسلم ، ويكون معنى ولينذروا قومهم أي : الطائفة النافرة إلى الغزو يعلمونهم بما تجدّد من أحكام الشريعة وتكاليفها ، وكان ثم جملة محذوفة دل عليها تقسيمها أي : فهلا نفر من كل فرقة منهم طائفة مقعدت أخرى ليتفقهوا . وقيل : على أن يكون النفير إلى الغزو يصح أن يكون الضمير في ليتفقهوا عائداً على النافرين ، ويكون تفقههم في الغزو بما يرون من نصرة اللّه لدينه ، وإظهاره الفئة القليلة من المؤمنين على الكثيرة من الكافرين ، وذلك دليل على صحة الإسلام ، وإخبار الرسول بظهور هذا الدين . والذي يظهر أنّ هذه الآية إنما جاءت للحض على طلب العلم والتفقه في دين اللّه ، وأنه لا يمكن أن يرحل المؤمنون كلهم في ذلك فتعرى بلادهم منهم ويستولي عليها وعلى ذراريهم أعداؤهم ، فهلا رحل طائفة منهم للتفقه في الدين ولإنذار قومهم ، فذكر العلة للنفير وهي التفقه أولاً ، ثم الإعلام لقومهم بما علموه من أمر الشريعة أي : فهلا نفر من كل جماعة كثيرة جماعة قليلة منهم فكفوهم النفير ، وقام كل بمصلحة هذه بحفظ بلادهم ، وقتال أعدائهم ، وهذه لتعلم العلم وإفادتها المقيمين إذا رجعوا إليهم . ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنّ كلا النفيرين هو في سبيل اللّه وإحياء دينه هذا بالعلم ، وهذا بالقتال . قال الزمخشري : ليتفقهوا في الدين ، ليتكلفوا الفقاهة فيه ، ويتجشموا المشاق في أخذها وتحصيلها ، ولينذروا قومهم ، وليجعلوا غرضهم ومرمى همتهم في التفقه إنذار قومهم وإرشادهم والنصيحة لهم ، لعلهم يحذرون إرادة أن يحذروا اللّه تعالى ، فيعملوا عملاً صالحاً . ووجه آخر : وهو أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان إذا بعث بعثاً بعد غزوة تبوك وبعد ما نزل في المتخلفين من الآيات الشدائد استبق المؤمنون عن آخرهم إلى النفير ، وانقطعوا جميعاً عن الوحي والتفقه في الدين ، فأمروا بأن ينفر من كل فرقة منهم طائفة إلى الجهاد ، وتبقى أعقابهم يتفقهون حتى لا ينقطعوا عن التفقه الذي هو الجهاد الأكبر ، لأنّ الجهاد بالحجة أعظم أمراً من الجهاد بالسيف . وقوله تعالى : ليتفقهوا ، الضمير فيه للفرق الباقية بعد الطوائف النافرة ، ولينذروا قومهم ، ولينذر الفرق الباقية قومهم النافرين إذا رجعوا إليهم ما حصلوا في أيام غيبتهم من العلوم ، وعلى الأول الضمير للطائفة النافرة إلى المدينة للتفقه . {قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّه وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّه مَعَ الْمُتَّقِينَ } : لما خص تعالى على التفقه في الدين ، وحرض على رحلة طائفة من المؤمنين فيه ، أمر تعالى المؤمنين كافة بقتال من يليهم من الكفار ، فجمع من الجهاد جهاد الحجة وجهاد السيف . وقال بعض الشعراء في ذلك : من لا يعدله القرآن كان له من الصغار وبيض الهند تعديل قيل : نزلت قبل الأمر بقتل الكفار كافة ، فهي من التدريج الذي كان في أول الإسلام . وضعف هذا القول بأنّ هذه الآية ما نزل . وقالت فرقة : إنما كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ربما تجاوز قوماً من الكفار غازياً لقوم آخرين أبعد منهم ، فأمر اللّه بغزو الأدنى فالأدنى إلى المدينة . وقالت فرقة : الآية مبينة صورة القتال كافة ، فهي مترتبة مع الأمر بقتال الكفار كافة ، ومعناها أنّ اللّه تعالى أمر فيها المؤمنين أن يقاتل كل فريق منهم الجيش الذي يضايقه من الكفرة ، وهذا هو القتال لكملة اللّه ورد البأس إلى الإسلام . وأما إذا مال العدو إلى صقع من أصقاع المسلمين ففرض على من اتصل به من المؤمنين كفاية عدوّ ذلك الصقع وإن بعدت الدار ونأت البلاد . وقال : قاتلوا هذه المقالة نزلت الآية مشيرة إلى قتال الروم بالشام ، لأنهم كانوا يومئذ العدوّ الذي يلي ويقرب ، إذ كانت العرب قد عمها الإسلام ، وكانت العراق بعيدة ، ثم لما اتسع نطاق الإسلام توجه الفرض في قتال الفرس والديلم وغيرهما من الأمم ، وسأل ابن عمر رجل عن قتال الديلم فقال : عليك بالروم . وقال علي بن الحسين والحسن : هم الروم والديلم ، يعني في زمنه . وقال ابن زيد : المراد بهذه الآية وقت نزولها العرب ، فلما فرغ منهم نزلت في الروم وغيرهم :{ قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّه وَلاَ بِالْيَوْمِ الاْخِرِ } إلى آخرها . وقيل : هم قريظة والنضير وفدك وخيبر . وقال قوم : تحرجوا أن يقاتلوا أقرباءهم وجيرانهم ، فأمروا بقتالهم . ويلونكم : ظاهره القرب في المكان . وقيل : هو عام في القرب في المكان ، والنسب والبداءة بقتال من يلي لأنه متعذر قتال كلهم دفعة واحدة ، وقد أمرنا بقتال كلهم ، فوجب الترجيح بالقرب كما في سائر المهمات كالدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولأن النفقات فيه ، والحاجة إلى الدواب والأدوات أقل ، ولأن قتال الأبعد تعريض لتدارك المسلمين إلى الفتنة ، ولأن الدين يكون إن كانوا ضعفاء كان الاستيلاء عليهم أسهل ، وحصول غير الإسلام أيسر . وإن كانوا أقوياء كان تعرضهم لدار الإسلام أشد ، ولأن المعرفة بمن يلي آكد منها بمن بعد للوقوف على كيفية أحوالهم وعددهم وعددهم ، فترجحت البداءة بقتال من يلي على قتال من بعد . وأمر تعالى المؤمنين بالغلظة على الكفار والشدّة عليهم كما قال تعالى :{ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ } وذلك ليكون ذلك أهيب وأوقع للفزع في قلوبهم . وقال تعالى :{ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ } وفي الحديث :{ أَلْقَوْاْ الْكُفَّارِ } وقال تعالى { وَمَوْعِظَةٌ لّلْمُتَّقِينَ وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا } وقال :{ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِى سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ } والغلظة : تجمع الجرأة والصبر على القتال وشدة العداوة ، والغلظة حقيقة في الأجسام ، واستعيرت هنا للشدة في الحرب . وقرأ الجمهور : غلظة بكسر الغين وهي لغة أسد ، والأعمش وابان بن ثعلب والمفضل كلاهما عن عاصم بفتحها وهي لغة الحجاز ، وأبو حيوة والسلمي وابن أبي عبلة والمفضل وابن أيضاً بضمها وهي لغة تميم ، وعن أبي عمر وثلاثة اللغات ثم قال : واعلموا أنّ اللّه مع المتقين لينبه على أن يكون الحامل على القتال ووجود الغلظة إنما هو تقوى اللّه تعالى ، ومن اتقى اللّه كان اللّه معه بالنصر والتأييد ، ولا يقصد بقتاله الغنيمة ، ولا الفخر ، ولا إظهار البسالة . ١٢٤انظر تفسير الآية:١٢٥ ١٢٥{وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَاذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ ءامَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا} : قال ابن عباس : نزلت هذه والثانية في المنافقين ، كانوا إذا نزلت سورة فيها عيب المنافقين خطبهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعرض بهم في خطبته ، فينظر بعضهم إلى بعض يريدون الهرب ويقولون : هل يراكم من أحد إن قمتم ؟ فإن لم يرهم أحد خرجوا من المسجد . ولما استطرد من سفر الغزو وتأنيب المتخلفين عن الرسول إلى سفر التفقه في الدين ، ثم أمر بقتال من يلي من الكفار والغلظة عليهم ، عاد إلى ذكر مخازي المنافقين إذ هم الذين نزل معظم السورة فيهم . وكان في الآية قبلها إشارة إلى الغلظة على الكفار وهم منهم ، وقولهم : أيكم زادته هذه إيماناً ، يحتمل أن يكون خطاب بعض المنافقين لبعض على سبيل الإنكار والاستهزاء بالمؤمنين ، ويحتمل أن يقولوا : ذلك لقراباتهم المؤمنين يستقيمون إليهم ويطمعون في ردهم إلى النفاق . ومعنى قولهم ذلك : هو على سبيل التحقير للسورة والاستخفاف بها ، كما تقول : أي غريب في هذا وأي دليل في هذا ، وفي الفتيان قيل : هو قول المؤمنين للبحث والتنبيه . وقرأ الجمهور : أيكم بالرفع . وقرأ زيد بن علي ، وعبيد بن عمير : أيكم بالنصب على الاشتغال ، والنصب فيه عند الأخفش أفصح كهو بعد أداة الاستفهام نحو : أريد اضربته . والتقسيم يقتضي أنّ الخطاب من أولئك المنافقين المستهزئين عام للمنافقين والمؤمنين ، وزيادة الإيمان عبارة عن حدوث تصديق خاص لم يكن قبل نزول السورة من قصص وتجديد حكم من اللّه تعالى ، أو عبارة عن تنبيه على دليل تضمنته السورة ويكون قد حصلت له معرفة اللّه بأدلة ، فنبهته هذه السورة على دليل راد في أدلته ، أو عبارة عن إزالة شك يسير ، أو شبهة عارضة غير مستحكمة ، فيزول ذلك الشك وترتفع الشبهة بتلك السورة . وأما على قول من يسمى الطاعة إيماناً ، وذلك مجاز عند أهل السنة ، فتترتب الزيادة بالسورة إذ يتضمن أحكاماً . وقال الربيع : فزادتهم إيماناً أي خشية أطلق اسم الشيء على بعض ثمراته . وقال الزمخشري : فزادتهم إيماناً لأنها أزيد للمتقين على الثبات ، وأثلج للصدور . أو فزادتهم عملاً ، فإن زيادة العمل زيادة في الإيمان ، لأن الإيمان يقع على الإعتقاد والعمل انتهى . وهي نزعة اعتزالية ، وهم يستبشرون بما تضمنته من رحمة اللّه ورضوانه . وأما الذين في قلوبهم مرض هم المنافقون ، والصحة والمرض في الأجسام ، فنقل إلى الإعتقاد مجازاً والرجس القذر ، والرجس العذاب ، وزيادته عبارة عن تعمقهم في الكفر وخبطهم في الضلال . وإذا كفروا بسورة . فقد زاد كفرهم واستحكم وتزايد عقابهم . قال قطرب والزجاج : أراد كفراً إلى كفرهم . وقال مقاتل : إثماً إلى إثمهم . وقال السدي والكلبي : شكاً إلى شكهم . وقال ابن عباس : أراد ما أعد لهم من الخزي والعذاب المتجدد عليهم في كل وقت في الدنيا والآخرة ، وأنتج نزول السورة للمؤمنين شيئين : زيادة الإيمان ، والاستبشار بما لهم عند اللّه . وللذين في قلوبهم مرض زيادة رجس ، والموافاة على الكفر أذاهم كفرهم الأصلي ، والزيادة إلى أنْ ماتوا على الكفر . ١٢٦{أَوْ لاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِى كُلّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ } : لما ذكر أنهم بموتهم على الكفر رائحون إلى عذاب الآخرة ، ذكر أنهم أيضاً في الدنيا لا يخلصون من عذابها . والضمير في يرون عائد على الذين في قلوبهم مرض ، وذلك على قراءة الجمهور بالياء . وقرأ حمزة : بالتاء خطاباً للمؤمنين . والرؤية يحتمل أن تكون من رؤية القلب ، ومن رؤية البصر . وقرأ أبي وابن مسعود ، والأعمش : أو لا ترى أي أنت يا محمد ؟ وعن الأعمش أيضاً : أو لم تروا ؟ وقال أبو حاتم عنه : أو لم يروا ؟ قال مجاهد : يفتنون ، يختبرون بالسنة والجوع . وقال النقاش عنه : مرضه أو مرضتين . وقال الحسن وقتادة : يحتبرون بالأمر بالجهاد . قال ابن عطية : والذي يظهر مما قبل الآية ومما بعدها أن الفتنة والاختبار إنما هي بكشف اللّه أسرارهم وإفشائه عقائدهم ، فهذا هو الاختبار الذي تقوم عليه الحجة برؤيته وترك التوبة . وأما الجهاد أو الجوع فلا يترتب معهما ما ذكرناه ، فمعنى الآية على هذا : أفلا يزدرج هؤلاء الذين تفضح سرائرهم كل سنة مرة أو مرتين بحسب واحد واحد ، ويعلمون أن ذلك من عند اللّه فيتوبون ، ويذكرون وعد اللّه ووعيده انتهى . وقاله مختصراً مقاتل قال : يفضحون بإظهار نفاقهم ، وأما الاختبار بالمرض فهو في المؤمنين ، وقد كان الحسن ينشد : أفي كل عام مرضة ثم نقهة فحتى متى حتى متى وإلى متى وقالت فرقة : معنى يفتنون بما يشبعه المشركون على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من الأكاذيب والأراجيف ، وأنّ ملوك الروم قاصدون بجيوشهم وجموعهم إليهم ، وإليه الإشارة بقوله :{ لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } فكان الذين في قلوبهم مرض يفتنون في ذلك . وحكى الطبري هذا القول عن حذيفة ، وهو غريب من المعنى . وقال الزمخشري : يفتنون يبتلون بالمرض والقحط وغيرهما من بلاء اللّه تعالى ، ثم لا ينتهون ولا يتوبون من نفاقهم ، ولا يذكرون ولا يعتبرون ولا ينظرون في أمرهم ، أو يبتلون بالجهاد مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ويعاينون أمره وما ينزل اللّه تعالى عليه من النصر وتأييده ، أو يفتنهم الشيطان فيكذبون وينقضون العهود مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيقتلهم وينكل بهم ، ثم لا ينزجرون . وقرأ ابن مسعود : ولا هم يتذكرون ١٢٧{وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُواْ صَرَفَ اللّه قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ} ذكر أولاً ما يحدث عنهم من القول على سبيل الاستهزاء ، ثم ذكر ثانياً ما يصدر منهم من الفعل على سبيل الاستهزاء وهو الإيماء والتغامز بالعيون إنكاراً للوحي ، وسخرية قائلين : هل يراكم من أحد من المسلمين لننصرف ، فإنا لا نقدر على استماعه ويغلبنا الضحك ، فنخاف الافتضاح بينهم ، أو ترامقوا يتشاورون في تدبير الخروج والانسلال لو إذا يقولون : هل يراكم من أحد ؟ والظاهر إطلاق السورة أية سورة كانت . وقيل : ثم صفة محذوفة أي : سورة تفضحهم ويذكر فيها مخازيهم ، نظر بعضهم إلى بعض على جهة التقرير ، يفهم من تلك النظرة التقرير : هل يراكم من ينقل عنكم ؟ هل يراكم من أحد حين تدبرون أموركم ؟ ثم انصرفوا أي : عن طريق الاهتداء ، وذلك أنهم حين ما بين لهم كشف أسرارهم والإعلام بمغيبات أمورهم يقع لهم لا محالة تعجب وتوقف ونظر ، فلو اهتدوا لكان ذلك الوقت مظنة النظر الصحيح والاهتداء . قال الضحاك : هل اطلع أحد منهم على سرائركم مخافة القتل ثم انصرفوا إن كان حقيقة فالمعنى : قاموا من المكان الذي تتلى فيه السورة أو مجازاً ، فالمعنى : انصرفوا عن الإيمان ، وذلك وقت رجوعهم إليه وإقبالهم عليه ، قاله الكلبي ، أو رجعوا إلى الاستهزاء أو إلى الطعن في القرآن والتكذيب له ولمن جاء به ، أو عن العمل بما كانوا يسمعونه ، أو عن طريق الاهتداء بعد أن بين لهم ومهد وأقيم دليله ، وهذا القول راجع لقول الكلبي . صرف اللّه قلوبهم صيغته خبر ، وهو دعاء عليهم بصرف قلوبهم عما في قلوب أهل الإيمان ، قاله الفراء . والظاهر أنه خير لما كان الكلام في معرض ذكر التكذيب ، بدأ بالفعل المنسوب إليهم وهو قوله : ثم انصرفوا ، ثم ذكر فعله تعالى بهم على سبيل المجازاة لهم على فعلهم كقوله :{ فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ اللّه قُلُوبَهُمْ} قال الزجاج : أضلهم . وقيل : عن فهم القرآن والإيمان به . وقال ابن عباس : عن كل رشد وخير وهدى . وقال الحسن : طبع عليها بكفرهم . قال الزمخشري : صرف اللّه قلوبهم دعاء عليهم بالخذلان ، ويصرف قلوبهم عما في قلوب أهل الإيمان من الانشراخ بأنهم قوم لا يفقهون يحتمل أن يكون متعلقاً بانصرفوا ، أو بصرف ، فيكون من باب الإعمال أي : بسبب انصرافهم ، أو صرف اللّه قلوبهم هو بسبب أنهم لا يتدبرون القرآن فيفقهون ما احتوى عليه مما يوجب إيمانهم والوقوف عنده . ١٢٨{لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ } : لما بدرأ السورة ببراءة اللّه ورسوله من المشركين ، وقص فيها أحوال المنافقين شيئاً فشيئاً ، خاطب العرب على سبيل تعداد النعم عليهم والمن عليهم بكونه جاءهم رسول من جنسهم ، أو من نسبهم عربياً قرشياً يبلغهم عن اللّه متصف بالأوصاف الجميلة من كونه يعز عليه مشقتهم في سوء العاقبة من الوقوع في العذاب ، ويحرص على هداهم ، ويرأف بهم ، ويرحمهم . قال ابن عباس : ما من قبيلة من العرب إلا ولدت النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فكأنه قال : يا معشر العرب لقد جاءكم رسول من بني إسماعيل ، ويحتمل أن يكون الخطاب لمن بحضرته من أهل الملل والنحل ، ويحتمل أن يكون حطاباً لبني آدم ، والمعنى : أنه لم يكن من غير جنس بني آدم ، لما في ذلك من التنافر بين الأجناس كقوله :{ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً } ولما كان المخاطبون عاماً ، إما عامة العرب ، وإما عامة بني آدم ، جاء الخطاب عاماً بقوله : عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم أي : على هدايتكم حتى لا يخرج أحد عن اتباعه فيهلك . ولما كانت الرأفة والرحمة خاصة جاء متعلقها خاصاً وهو قوله : بالمؤمنين رؤوف رحيم . ألا ترى إلى قوله :{ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} وقال : { أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ } وقال في زناة المؤمنين :{ ولا تأخذكم بهما رأفة في دين اللّه إن كنتم تؤمنون باللّه واليوم الآخر} . قال ابن عطية : وقوله من أنفسكم ، يقتضي مدحاً لنسب النبي صلى اللّه عليه وسلم وأنه من صميم العرب وأشرفها ، وينظر إلى هذا المعنى قوله عليه السلام :{ إن اللّه اصطفى كناية من ولد إسماعيل ، واصطفى قريشاً من كنانة ، واصطفى بني هاشم من قريش ، واصطفاني من بني هاشم } ومنه قوله صلى اللّه عليه وسلم : { إني من نكاح ولست من سفاح } معناه أن نسبه صلى اللّه عليه وسلم إلى آدم عليه السلام لم يكن النسل فيه إلا من نكاح ولم يكن فيه زنا انتهى . وصف اللّه نبيه عليه السلام بستة : أوصاف الرسالة وهي صفة كمال الإنسان لما احتوت عليه من كمال ذات الرسول وطهارة نفسه الزكية ، وكونه من الخيار بحيث أهل أنْ يكون واسطة بين اللّه وبين خلقه ، ولما كانت هذه الصفة أشرف بدىء بذكرها . وكونه من أنفسهم وهي صفة مؤثرة في التبليغ والفهم عنه والتآنس به ، فإن كان خطاباً للعرب ففي هذه الصفة التنبيه على شرفهم والتحريض على اتباعه ، وإن كان الخطاب لبني آدم ففيه التنويه بهم واللطف في إيصال الخبر إليهم ، وأنه معروف بينهم بالصدق والأمانة والعفاف والصيانة . وكونه يعز عليه ما يشق عليكم ، فهذا الوصف من نتائج الرسالة . ومن كونه من أنفسهم ، لأنّ من كان منك وادّلك الخير وصعب عليه إيصال ما يؤذي إليك وكونه حريصاً على هدايتهم ، وهو أيضاً من نتائج الرسالة ، لأنه بعث ليعبد اللّه ويفرد بالألوهية . وكونه رؤوفاً رحيماً بالمؤمنين ، وهما وصفان من نتائج التبعية له ، والدخول في دين اللّه . { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ }{ الْمُؤْمِنُ} وقرأ ابن عباس ، وأبو العالية ، والضحاك ، وابن محيصن ، ومحبوب ، عن أبي عمرو وعبد اللّه بن قسيط المكي ، ويعقوب من بعض طرقه : من أنفسكم بفتح الفاء . ورويت هذه القراءة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وعن فاطمة ، وعائشة رضي اللّه عنهما ، والمعنى : من أشرفكم وأعزكم ، وذلك من النفاسة ، وهو راجع لمعنى النفس ، فإنها أعز الأشياء . والظاهر أنّ ما مصدرية في موضع الفاعل بعزيز أي : يعز عليه مشقتكم كما قال : يسر المرء ما ذهب الليالي وكان ذهابهن له ذهابا أي يسر المرء ذهاب الليالي . ويجوز أن يكون ما عنتم مبتدأ أي : عنتكم عزيز عليه ، وقدم خبره ، والأول أعرب . وأجاز الحوفي أن يكون عزيز مبتدأ ، وما عنتم الخبر ، وأن تكون ما بمعنى لذي ، وأن تكون مصدرية ، وهو إعراب دوب الإعرابين السابقين . وقال ابن القشيري : عزيز صفة للنبي صلى اللّه عليه وسلم ، وإنما وصف بالعزة لتوسطه في قومه وعراقة نسبه وطيب جرثومته ، ثم استأنف فقال : عليه ما عنتم أي : يهمه أمركم انتهى . والعنت : تقدم شرحه في البقرة في قوله { خَيْرٌ وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللّه يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاء اللّه لاعْنَتَكُمْ} وقال ابن عباس : هنا مشقتكم . وقال الضحاك : إثمكم . وقال سعيد بن أبي عروبة : ضلالكم . وقال العتبي : ما ضركم . وقال ابن الأنباري : ما أهلككم . وقيل : ما عمكم . والأولى أن يضمر في عليكم أي : على هداكم وإيمانكم كقوله : ك { إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ } وقوله :{ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} وقيل : حريص على إيصال الخيرات لكم في الدنيا والآخرة . وقال الفراء : الحريص هو الشحيح ، والمعنى : أنه شحيح عليكم أن تدخلوا النار . وقيل : حريص على دخولكم الجنة . وإنما احتيج إلى الإضمار ، لأنّ الحرص لا يتعلق بالذوات . ويحتمل بالمؤمنين أن يتعلق برؤوف ، ويحتمل أن يتعلق برحيم ، فيكون من باب التنازع . وفي جواز تقدم معمول المتنازعين نظر ، فالأكثرون لا يذكرون فيه تقدمة عليهما ، وأجاز بعض النحويين التقديم فتقول : زيداً ضربت وشتمت على التنازع ، والظاهر تعلق الصفتين بجميع المؤمنين . وقال قوم : بالتوزيع ، رؤوف بالمطيعين ، رحيم بالمذنبين . وقيل : رؤوف بمن رآه ، رحيم بمن لم يره . وقيل : رؤوف بأقربائه ، رحيم بغيرهم . وقال الحسن بن الفضل : لم يجمع اللّه لنبي بين اسمين من أسمائه إلا لنبينا صلى اللّه عليه وسلم ، فإنه قال : بالمؤمنين رؤوف رحيم ، وقال تعالى :{ إِنَّ اللّه بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} ١٢٩{فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِىَ اللّه لا إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } : أي فإنْ أعرضوا عن الإيمان بعد هذه الحالة التي منّ اللّه عليهم بها من إرسالك إليهم واتصافك بهذه الأوصاف الجميلة فقل : حسبي اللّه أي : كافيّ من كل شيء ، عليه توكلت أي : فوضت أمري إليه لا إلى غيره ، وقد كفاه اللّه شرهم ونصره عليهم ، إذ لا إله غيره . وهي آية مباركة لأنها من آخر ما نزل ، وخص العرش بالذكر لأنه أعظم المخلوقات . وقال ابن عباس : العرش لا يقدر أحد قدره انتهى . وذكر في معرض شرح قدرة اللّه وعظمته ، وكان الكفار يسمعون حديث وجود العرش وعظمته من اليهود والنصارى ، ولا يبعد أنهم كانوا سمعوا ذلك من أسلافهم . وقرأ ابن محيصن : العظيم برفع الميم صفة للرب ، ورويت عن ابن كثير . قال أبو بكر الأصم : وهذه القراءة أعجب إليّ ، لأنّ جعل العظيم صفة للّه تعالى أولى من جعله صفة للعرش ، وعظم العرش يكبر جثته واتساع جوانبه على ما ذكر في الأخبار ، وعظم الرب بتقديسه عن الحجمية والأجزاء والإبعاض ، وبكمال العلم والقدرة ، وتنزيهه عن أن يتمثل في الأوهام ، أو تصل إليه الأفهام . وعن ابن عباس : آخر ما نزل لقد جاءكم إلى آخرها . وعن أبيّ أقرب القرآن عهداً باللّه لقد جاءكم الآيتان ، وهاتان الآيتان لم توجدا حين جمع المصحف إلا في حفظ خزيمة بن ثابت ذي الشهادتين ، فلما جاء بها تذكرها كثير من الصحابة ، وقد كان زيد يعرفها ، ولذلك قال : فقدت آيتين من آخر سورة التوبة ، ولو لم يعرفها لم ندر هل فقد شيئاً أولاً ، فإنما ثبتت الآية بالإجماع لا بخزيمة وحده . وقال عمر بن الخطاب : ما فرغ من تنزل براءة حتى ظننا أن لن يبقى منا أحد إلا سينزل فيه شيء . وفي كتاب أبي داود عن أبي الدرداء قال : من قال : { إذا أصبح وإذا أمسى حسبي اللّه لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم سبع مرات كفاه اللّه تعالى ما أهمه} . |
﴿ ٠ ﴾