سورة يونس

مكية

بسم اللّه الرحمن الرحيم

١

الر تلك آيات . . . . .

القدم : قال الليث وأبو الهيثم : القدم السابقة . قال ذو الرمة : وأنت امرؤ من أهل بيت دؤابة

لهم قدم معروفة ومفاخر

وقال أبو عبيدة والكسائي : كل سابق في خير أو شر فهو قدم . وقال الأخفش : سابقة إخلاص كما في قول حسان : لنا القدم العليا إليك وخلفنا

لا ولنا في طاعة اللّه تابع

وقال أحمد بن يحيى : كل ما قدمت من خير . وقال ابن الأنباري : العمل الذي يتقدم فيه ولا يقع فيه تأخير ولا إبطاء .

المرور : مجاوزة الشيء والعبور عليه ، تقول : مررت بزيد جاوزته . والمرة : القوة ، ومنه ذو مرة . ومرر الحبل قواه ، ومنه :  { لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي } العاصف الشديد يقال : عصفت الريح . قال الشاعر : حتى إذا عصفت ريح مزعزعة

فيها قطار ورعد صوته زجل

وأعصف الريح . قال الشاعر : ولهت عليه كل معصفة

هو جاء ليس للبهارير

وقال أبو تمام : إن الرياح إذا ما أعصفت قصفت

عيدان نجد ولا يعبأن بالرتم

الموح : ما ارتفع من المساء عند هبوب الهواء ، سمى موجاً لاضطرابه .

٢

{الر تِلْكَ ءايَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ وَبَشّرِ الَّذِينَ ءامَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ } : هذه السورة مكية إلا ثلاث آيات ، فإنها نزلت بالمدينة ، وهي فإن كنت في شك إلى آخرهن ، قاله ابن عباس . وقال الكلبي : إلا قوله ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به فإنها نزلت في اليهود بالمدينة . وقال قوم : نزل من أولها نحو من أربعية آية بمكة ، ونزل باقيها بالمدينة . وقال الحسن وعطاء وجابر : هي مكية وسبب نزولها : أنّ أهل مكة قالوا : لم يجد اللّه رسولاً إلا يتيم أبي طالب فنزلت . وقال ابن جريج : عجبت قريش أن يبعث رجل منهم فنزلت .

وقيل : لما حدثهم عن البعث والمعاد والنشور تعجبوا .

ومناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما أنزل { وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ } وذكر تكذيب المنافقين ثم قال :{ لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ } وهو محمد صلى اللّه عليه وسلم أتبع ذلك بذكر الكتاب الذي أنزل ، والنبي الذي أرسل ، وأن ديدن الضالين وأحد متابعيهم ومشركيهم في التكذيب بالكتب الإلهية وبمن جاء بها ، ولما كان ذكر القرآن مقدّماً على ذكر الرسول في آخر السورة ، جاء في أول هذه السورة كذلك فتقدم ذكر الكتاب على ذكر الرسول ، وتقدم ما قاله المفسرون في أوائل هذه السورة المفتتحة بحروف المعجم ، وذكروا هنا أقوالاً عن المفسرين منها : أنا اللّه أرى ، ومنها أنا اللّه الرحمن ، ومنها أنه يتركب منها ومن رحم ومن نون الرحمن . فالراء بعض حروف الرحمن مفرقة ، ومنها أنا الرب وغير ذلك . والظاهر أن تلك باقية على موضوعها من استعمالها البعد المشار إليه . فقال مجاهد وقتادة : أشار بتلك إلى الكتب المتقدمة من التوراة والإنجيل

والزبور ، فيكون الآيات القصص التي وصفت في تلك الكتب . وقال الزجاج : إشارة إلى آيات القرآن التي جرى ذكرها .

وقيل : إشارة إلى الكتاب المحكم الذي هو محزون مكتوب عند اللّه ، ومنه نسخ كل كتاب كما قال : { بَلْ هُوَ قُرْءانٌ مَّجِيدٌ فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ } وقال :{ وَإِنَّهُ فِى أُمّ الْكِتَابِ }

وقيل : إشارة إلى الرائ وأخواتها من حروف المعجم ، أي تلك الحروف المفتتح بها السور وإن قربت ألفاظها فمعانيها بعيدة المنال . وهي آيات الكتاب أي الكتاب بها يتلى ، وألفاظه إليها ترجع ذكره ابن الأنباري .

وقيل : استعمل تلك بمعنى هذه ، والمشار إليه حاضر قريب قاله ابن عباس ، واختاره أبو عبيدة . فقيل : آيات القرآن .

وقيل : آيات السور التي تقدمّ ذكرها في قوله :{ وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ }

وقيل : المشار إليه هو الراء ، فإنها كنوز القرآن ، وبها العلوم التي استأثر اللّه بها .

وقيل : إشارة إلى ما تضمنته السورة من الآيات والكتاب السورة .

والحكيم : الحاكم ، أو ذو الحكمة لاشتماله عليها . وتعلقه بها ، أو المحكم ، أو المحكوم به ، أو المحكم أقوال . والهمزة في أكان للاستفهام على سبيل الإنكار لوقوع العجب من الإيحاء إلى بشر منهم بالإنذار والتبشير ، أي : لا عجب في ذلك فهي عادة اللّه في الأمم السالفة ، أوحي إلى رسلهم الكتب بالتبشير والإنذار على أيدي من اصطفاه منهم . واسم كان إن أوحينا ، وعجباً الخبر ، وللناس فقيل : هو في موضع الحال من عجباً لأنه لو تأخر إذا كان بمعنى المفعول جاز تقدم معموله عليه كاسم المفعول .

وقيل : هو تبيين أي أعنى للناس .

وقيل : يتعلق بكان وإن كانت ناقصة ، وهذا لا يتم إلا إذا قدرت دالة على الحدث فإنها إنْ تمحضت للدلالة على الزمان لم يصح تعلق بها .

وقرأ عبد اللّه : عجب ، فقيل : عجب اسم كان ، وأن أوحينا هو الخبر ، فيكون نظير : يكون مزاجها عسل وماء ، وهذا محمول على الشذوذ ، وهذا تخريج الزمخشري وابن عطية .

وقيل : كان تامة ، وعجب فاعل بها ، والمعنى : أحدث للناس عجب لأن أوحينا ، وهذا التوجيه حسن . ومعنى للناس عجباً : أنهم جعلوه لهم أعجوبة يتعجبون منها ، ونصبوه علماً لم يوجهون نحوه استهزاءهم وإنكارهم .

وقرأ رؤبة : إلى رجل بسكون الجيم وهي لغة تميمية يسكنون فعلاً نحو سبع وعضد في سبع وعضد . ولما كان الإنذار عاماً كان متعلقه وهو الناس عامًّا ، والبشارة خاصة ، فكان متعلقها خاصاً وهو الذين آمنوا . وأن أنذر : أن تفسيرية أو مصدرية مخففة من الثقيلة ، وأصله أنه أنذر الناس على معنى أن الشأن قولنا أنذر الناس ، قالهما الزمخشري : ويجوز أن تكون أنْ المصدرية الثنائية الوضع ، لا المخففة من الثقيلة لأنها توصل بالماضي والمضارع والأمر ، فوصلت هنا بالأمر ، وينسبك منها معه مصدر تقديره : بإنذار

الناس . وهذا الوجه أولى من التفسيريه ، لأنّ الكوفيين لا يثبتون لأنّ أن تكون تفسيرية . ومن المصدرية المخففة من الثقيلة لتقدير حذف اسمها وإضمار خبرها ، وهو القول فيجتمع فيها حذف الاسم والخبر ، ولأنّ التأصيل خبر من دعوى الحذف بالتحفيف . وبشر الذين آمنوا أن لهم أي : بأن لهم ، وحذفت الباء . وقدم صدق قال ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك ، والربيع بن أنس ، وابن زيد : هي الأعمال الصالحة من العبادات . وقال الحسن وقتادة : هي شفاعة محمد صلى اللّه عليه وسلم. وقال زيد بن أسلم وغيره : هي المصيبة بمحمد صلى اللّه عليه وسلم.

وقال ابن عباس وغيره : هي السعادة السابقة لهم في اللوح المحفوظ . وقال مقاتل : سابقة خير عند اللّه قدموها . وإلى هذا المعنى أشار وضاح اليمن في قوله : ما لك وضاح دائم الغزل

ألست تخشى تقارب الأجل

صل لذي العرش واتخذ قدما

ينجيك يوم العثار والزلل

وقال قتادة أيضاً : سلف صدق . وقال عطاء : مقام صدق . وقال يمان : إيمان صدق . وقال الحسن أيضاً : ولد صالح قدموه .

وقيل : تقديم اللّه في البعث لهذه الأمة وفي إدخالهم الجنة ، كما قال :  { نحن الآخرون السابقون يوم القيامة }

وقيل : تقدم شرف ، ومنه قول العجاج : ذل بني العوام من آل الحكم

وتركوا الملك لملك ذي قدم

وقال الزجاج : درجة عالية وعنه منزلة رفيعة . ومنه قول ذي الرمة : لكم قدم لا ينكر الناس أنها

مع الحسب العادي طمت على البحر

وقال الزمخشري : قدم صدق عند ربهم سابقة وفضلاً ومنزلة رفيعة ، ولما كان السعي والسبق بالقدم سميت المسعاة الجميلة والسابقة قدماً ، كما سميت النعمة يداً ، لأنها تعطى باليد وباعاً لأن صاحبها يبوع بها فقيل لفلان : قدم في الخير ، وإضافته إلى صدق دلالة على زيادة فضل وأنه من السوابق العظيمة . و

قال ابن عطية : والصدق في هذه الآية بمعنى الصلاح ، كما تقول : رجل صدق . وعن الأوزاعي : قِدم بكسر القاف تسمية بالمدر ، قال : الكافرون . ذهب الطبري إلى أنّ في الكلام حذفاً يدل الظاهر عليه تقديره : فلما أنذر وبشر قال الكافرون كذا وكذا .

قال ابن عطية : قال الكافرون : يحتمل أن يكون تفسيراً لقوله : أكان للناس وحينا إلى بشر عجباً قال الكافرون عنه كذا وكذا .

وقرأ الجمهور والعربيان ونافع : لسحر إشارة إلى الوحي ، وباقي السبعة ، وابن مسعود ، وأبو رزين ، ومسروق ، وابن جبير ، ومجاهد ، وابن وثاب ، وطلحة ، والأعمش ، وابن محيصن ، وابن كثير ، وعيسى بن عمرو بخلاف عنهما لساحر إشارة إلى الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، وفي مصحف أبي ما هذا إلا سحر .

وقرأ الأعمش أيضاً : ما هذا إلا ساحر .

قال ابن عطية : وقولهم في الإنذار والبشارة سحر إنما هو بسبب أنه فرق كلمتهم ، وحال بين القريب وقريبه ، فأشبه ذلك ما يفعله الساحر ، وظنوه من ذلك الباب .

وقال الزمخشري : وهذا دليل عجزهم واعترافهم به وإن كانوا كاذبين في تسميته سحراً . ولما كان قولهم فيما لا يمكن أن يكون سحراً ظاهر الفساد ، لم يحتج قولهم إلى جواب ، لأنهم يعلمون نشأته معهم بمكة وخلطتهم له وما كانت قلة علم ، ثم أتى به من الوحي المتضمن ما لم يتضمنه كتاب إلهي من قصص الأولين والأخبار بالغيوب والاشتمال على مصالح الدنيا والآخرة ، مع الفصاحة والبراعة التي أعجزتهم إلى غير ذلك من المعاني التي تشمنها يقضي بفساد مقالتهم ، وقولهم ذلك هو

ديدن الكفرة مع أنبيائهم إذ أتوهم بالمعجزات كما قال : فرعون وقومه في موسى عليه السلام : { إِنَّ هَاذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ }{ قَالُواْ } وقوم عيسى عليه السلام :{ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَاذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } ودعوى السحر إنما هي على سبيل العناد والجحد .

٣

{إِنَّ رَبَّكُمُ اللّه الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } تقدم تفسير مثل هذه الجملة في سورة الأعراف وجاءتا عقب ذكر القرآن والتنبيه على المعاد . ففي الأعراف :{ وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ } وقوله :{ يَوْمَ يَأْتِى تَأْوِيلُهُ } وهنا تلك آيات الكتاب . وذكر الإنذار والتبشير وثمرتهما لا تظهر إلا في المعاد . ومناسبة هذه لما قبلها أنّ من كان قادراً على إيجاد هذا الخلق العلوي والسفلي العظيمين وهو ربكم الناظر ف مصالحكم ، فلا يتعجب أن يبعث إلى خلقه من يحذر من مخالفته ويبشر على طاعته ، إذ ليس خلقهم عبثاً بل على ما اقتضته حكمته وسبقت به إرادته ، هذ القادر العظيم قادر على ما دونه بطريق الأولى .

{يُدَبّرُ الاْمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ } : قال مجاهد : أي يقضيه وحده . والتدبير تنزيل الأمور في مراتبها والنظر في أدبارها وعواقبها ، والأمر قيل : الخلق كله علويه وسفليه .

وقيل : يبعث بالأمر ملائكة ، فجبريل للوحي ، وميكائيل للقطر ، وعزرائيل للقبض ، وإسرافيل للصور . وهذه الجملة بيان لعظيم شأنه وملكه . ولما ذكر الإيجاد ذكر ما يكون فيه من الأمور ، وأنه لمنفرد به إيجاداً وتدبيراً لا يشركه أحد في ذلك ، وأنه لا يجترىء أحد على الشفاعة عنده إلا بإذنه ، إذ هو تعالى أعلم بموضع الحكمة والصواب . وفي هذه دليل على عظم عزته وكبريائه كما قال :{ يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفّاً } الآية . ولما كان الخطاب عاماً وكان الكفار يقولون عن أصنامهم : هؤلاء شفعاؤنا عند اللّه ، ردّ ذلك تعالى عليهم ، وناسب ذكر الشفاعة التي تكون في القيامة بعد ذكر المبدأ ليجمع بين الطرفين : الابتداء والانتهاء . وقال أبو مسلم الأصبهاني : الشفيع هنا من الشفع الذي يخالف الوتر ، فمعنى الآية : أنه أوجد العالم وحده لا شريك يعينه ، ولم يحدث شيء في الوجود إلا من بعد أن قال له : كن . وقال أبو البقاء : يدبر الأمر ، يجوز أن يكون مستأنفاً وخبراً ثانياً وحالاً .

{ذالِكُمُ اللّه رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ } : أي المتصف بالإيجاد والتدبير والكبرياء هو ربكم الناظر في مصالحكم ، فهو المستحق للعبادة ، إذ لا يصلح لأن يعبد إلا هو تعالى ، فلا تشركوا به بعض خلقه .

{أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } : حض على التدبير والتفكر في الدلائل الدالة على ربوبيته وإمحاض العبادة له .

٤

{إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللّه حَقّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِىَ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ } : ذكر ما يقتضي التذكير وهو كون مرجع الجميع إليه ، وأكد هذا الإخبار بأنه وعد اللّه الذي لا شك في صدقه ثم استأنف الإخبار وفيه معنى التعليل بابتداء الخلق وإعادته وأن مقتضى الحكمة بذلك هو جزاء المكلفين على أعمالهم . وانتصب وعد اللّه وحقاً على أنهما مصدران مؤكدان لمضمون الجملة والتقدير : وعد اللّه وعداً ، فلما حذف الناصب أضاف المصدر إلى الفاعل وذلك كقوله :{ صِبْغَةَ اللّه }{ عَبْدُ اللّه } والتقدير : في حقاً حق ذلك حقاً .

وقيل : انتصب حقاً بوعد على تقدير في أي وعد اللّه في حق . وقال علي بن سليمان التقدير : وقت حق وأنشد : أحقاً عباد اللّه أن لست خارجا

ولا والجاً إلا عليّ رقيب

وقرأ عبد اللّه ، وأبو جعفر ، والأعمش ، وسهل بن شعيب : أنه يبدأ بفتح الهمزة .

قال الزمخشري : هو منصوب بالفعل ، أي : وعد اللّه تعالى بدء الخلق ثم إعادته ، والمعنى : إعادة الخلق بعد بدنة . وعد اللّه على لفظ الفعل ، ويجوز أن يكون مرفوعاً بما نصب حقاً أي : حق حقاً بدء الخلق كقوله : أحقاً عباد اللّه أن لست جائيا

ولا ذاهباً إلا عليّ رقيت

انتهى . و

قال ابن عطية : وموضعها النصب على تقدير أحق أنه . وقال الفراء : موضعها رفع على تقدير لحق أنه .

قال ابن عطية : ويجوز عندي أن يكون أنه بدلاً من قوله : وعد اللّه . قال أبو الفتح : إن شئت قدرت لأنه يبدأ ، فمن في قدرته هذا فهو غني عن إخلاف الوعد ، وإن شئت قدرت وعد اللّه حقاً أنه يبدأ ولا يعمل فيه المصدر الذي هو وعد اللّه ، لأنه قد وصف ذلك بتمامه وقطع عمله .

وقرأ ابن أبي عبلة : حق بالرفع ، فهذا ابتداء وخبره أنه انتهى . وكون حق خبر مبتدأ ، وأنه هو المبتدأ هو الوجه في الإعراب كما تقول : صحيح إنك تخرج ، لأنّ اسم أنّ معرفة ، والذي تقدمها في نحو هذا المثال نكرة . والظاهر أنّ بدء الخلق هو النشأة الأولى ، وإعادته هو البعث من القبور ، وليجزي متعلق بيعيده أي : ليقع الجزاء على الأعمال .

وقيل : البدء من التراب ، ثم يعيده إلى التراب ، ثم يعيده إلى البعث .

وقيل : البدء نشأته من الماء ، ثم يعيده من حال إلى حال .

وقيل : يبدؤه من العدم ، ثم يعيده إليه ، ثم يوجده .

وقيل : يبدؤه في زمرة الأشقياء ، ثم يعيده عند الموت إلى زمرة الأولياء ، وبعكس ذلك .

وقرأ طلحة : يبدىء من أبدأ رباعياً ، وبدأ وأبدأ بمعنى ، وبالقسط معناه بالعدل ، وهو متعلق بقوله : ليجزي أي : ليثيب المؤمنين بالعدل والإنصاف في جزائهم ، فيوصل كلاًّ إلى جزائه وثوابه على حسب تفاضلهم في الأعمال ، فينصف بينهم ويعدل ، إذ ليسوا كلهم مساوين في مقادير الثواب ، وعلى هذا يكون بالقسط منه تعالى .

قال الزمخشري : أو يقسطهم بما أقسطوا أو عدلوا ولم يظلموا حين آمنوا وعملوا الصالحات ، لأنّ الشرك ظلم قال اللّه تعالى : { إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } والعصاة ظلام لأنفسهم ، وهذا أوجه لمقابلة قوله : بما كانوا يكفرون انتهى ، فجعل القسط من فعل الذين آمنوا وهو على طريقة الاعتزال ، والظاهر أنّ والذين كفروا مبتدأ ، ويحتمل أن يكون معطوفاً على قوله : الذين آمنوا ، فيكون الجزاء بالعدل قد شمل الفريقين . ولما كان الحديث مع الكفارة مفتتح السورة معهم ، ذكر شيئاً من أنواع عذابهم فقال :{ لَهُمْ شَرَابٌ مّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ } وتقدم شرح هذا في سورة الأنعام .

٥

{هُوَ الَّذِى جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللّه ذالِكَ إِلاَّ بِالْحَقّ } : لما ذكرتعالى الدلائل على ربوبيته من إيجاد هذا العالم العلوي والسفلي ، ذكر ما أودع في العالم العلوي من هذين الجوهرين النيرين المشرقين ، فجعل الشمس ضياءً أي : ذات ضياء أو مضيئة ، أو نفس الضياء مبالغة وجعل يحتمل أن تكون بمعنى صير ، فيكون ضياء مفعولاً ثانياً . ويحتمل أن تكون بمعنى خلق فيكون حالاً ، والقمر نوراً أي : ذا نور ، أو منور أو نفس النور مبالغة ، أو هما مصدران .

وقيل : يجوز أن يكون ضياء جمع كحوض وحياض ، وهذا فيه بعد . ولما كانت الشمس أعظم جرماً خصت بالضياء لأنه هو الذي له سطوع ولمعان ، وهو أعظم من النور . قال أرباب علم الهيئة : الشمس قدر الأرض مائة مرة وأربعاً وستين مرة ، والقمر ليس

كذلك ، فخص الأعظم بالأعظم . وقد تقدم الفرق بين الضياء والنور في قوله : { فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّه بِنُورِهِمْ }

وقوله تعالى :{ اللّه نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ } يقتضي أنّ النور أعظم وأبلغ في الشروق ، وإلا فلم عدل إلى الأقل الذي هو النور . ف

قال ابن عطية : لفظة النور أحكم أبلغ ، وذلك أنه شبه هداه ولطفه الذي يصيبه لقوم يهتدون ، وآخرين يضلون معه بالنور الذي هو أبداً موجود في الليل وأثناء الظلام . ولو شبهه بالضياء لوجب أنْ لا يضل أحداً ، إذ كان الهدى يكون كالشمس التي لا تبقى معها ظلمة . فمعنى الآية ؛ أنه تعالى جعل هداه في الكفر كالنور في الظلام ، فيهتدي قوم ويضل قوم آخرون . ولو جعله كالضياء لوجب أن لا يضل أحد ، وبقي الضياء على هذا أبلغ في الشروق كما اقضت هذه الآية .

وقرأ قنبل : ضياء هنا ، وفي الأنبياء والقصص بهمزة قبل الألف بدل الياء . ووجهت على أنه من المقلوب جعلت لأمه عيناً ، فكانت همزة . وتطرفت الواو التي كانت عيناً بعد ألف زائدة فانقلبت همزة ، وضعف ذلك بأنّ القياس الفرار من اجتماع همزتين إلى تخفيف إحداهما ، فكيف يتخيل إلى تقديم وتأخير يؤدي إلى اجتماعهما ولم يكونا في الأصل ، والظاهر عود الضمير على القمير أي : مسيره منازل ، أو قدره ذا منازل ، أو قدر له منازل ، فحذف وأوصل الفعل ، فانتصب بحسب هذه التقادير على الظرف أو الحال أو المفعول كقوله :{ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ } وعاد الضمير عليه وحده لأنه هو المراعى في معرفة عدد السنين والحساب عند العرب . و

قال ابن عطية : ويحتمل أن يريدهما معاً بحسب أنهما مصرفان في معرفة عدد السنين والحساب ، لكنه اجتزىء بذكر أحدهما كما قال :{ وَاللّه وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } وكما قال الشاعر : رماني بأمر كنت منه ووالدي

بريئاً ومن أجل الطوى رماني

والمنازل هي البروج ، وكانت العرب تنسب إليها الأنواء ، وهي ثمانية وعشرون منزلة : الشرطين ، والبطين ، والثريا ، والدبران ، والهقعة ، والهنعة ، والذراع ، والنثرة ، والطرف ، والجبهة ، والدبرة ، والصرفة ، والعواء ، والسماك ، والغفر ، والزبانان ، والإكليل ، والقلب ، والشولة ، والنعائم ، والبلدة ، وسعد الذابح ، وسعد بلغ ، وسعد السعود ، وسعد الأخبية ، والفرع المؤخر ، والرشاء وهو الحوت . واللام متعلقة بقوله : وقدره منازل . قال الأصمعي : سئل أبو عمرو عن الحساب ، أفبنصبه أو بجره ؟ فقال : ومن يدري ما عدد الحساب ؟ انتهى . يريد أنّ الجر إنما يكون مقتضياً أنّ الحساب يكون يعلم عدده ، والحساب لا يمكن أن يعلم منتهى عدده والحساب حساب الأوقات من الأشهر والأيام والليالي مما ينتفع به في المعاش والإجارات وغير ذلك مما يضطر فيه إلى معرفة التواريخ .

وقيل : اكتفى بذكر عدد السنين من عدد الشهور ، وكنى بالحساب عن المعاملات ، والإشارة بذلك إلى مخلوقه . وذلك يشار بها إلى الواحد ، وقد يشار بها إلى الجمع . ومعنى بالحق متلبساً بالحق الذي هو الحكمة البالغة ، ولم يخلقه عبثاً كما جاء { رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً }{ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقّ } وقال ابن جرير : الحق هنا هو اللّه تعالى ، والمعنى : ما خلق اللّه ذلك إلا باللّه وحده لا شريك معه انتهى . وما قاله تركيب قلق ، إذ يصير ما ضرب زيد عمراً إلا بزيد .

وقيل : الباء بمعنى اللام ، أي للحق ، وهو إظهار صنعته وبيان قدرته ودلالة على وحدانيته .

وقرأ ابن مصرف : والحساب بفتح الحاء ، ورواه أبو توبة عن العرب .

وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو وحفص : يفصل بالياء جرياً على لفظة اللّه ، وباقي السبعة بالنون على سبيل الالتفات والإخبار بنون العظمة ، وخص من يعلم بتفصيل الآيات لهم ،

لأنهم الذين ينتفعون بتفصيل الآيات ، ويتدبرون بها في الاستدلال والنظر الصحيح . والآيات العلامات الدالة أو آيات القرآن .

٦

{إِنَّ فِى اخْتِلَافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللّه فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ } والاختلاف تعاقب الليل والنهار ، وكون أحدهما يخلف الآخر . وما خلق اللّه في السموات من الأجرام النيرة التي فيها ، والملائكة المقيمين بها وغير ذلك مما يعلمه اللّه تعالى . والأرض من الجوامد والمعادن والنبات والحيوان ، وخص المتقين لأنهم الذين يخافون العواقب فيحملهم الخوف على تدبرهم ونظرهم .

٧

انظر تفسير الآية:٨

٨

{إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَيواةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ ءايَاتِنَا غَافِلُونَ أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } : الظاهر أن الرجاء هو التأيل والطمع أي : لا يؤملون لقاء ثوابنا وعقابنا .

وقيل : معناه لا يخافون . قال ابن زيد : وهذه الآية في الكفار ، والمعنى أنّ المكذب بالبعث ليس يرجو رحمة في الآخرة ، ولا يحسن ظناً بأنه يلقى اللّه . وفي الكلام محذوف أي : ورضوا بالحياة الدنيا من الآخرة كقوله :{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ مَا لَكُمْ } والمعنى أنّ منتهى غرضهم وقصارى آمالهم إنما هو مقصور على ما يصلون إليه في الدنيا . واطمأنوا أي سكنوا إليها ، وقتعوا بها ، ورفضوا ما سواها . والظاهر أنّ قوله : والذين هم ، هو قسم من الكفار غير القسم الأول ، وذلك التكرير الموصول ، فيدل على المغايرة ، ويكون معطوفاً على اسم إنّ ويكون أولئك إشارة إلى صنفي الكفار ذي الدنيا المتوسع فيها الناظر في الآيات ، فلم يؤثر عنده رجاء لقاء اللّه ، بل رضي بالحياة الدنيا لتكذيبه بالبعث والجزاء ، والعادم التوسع الغافل عن آيات اللّه الدالة على الهداية . ويحتمل أن يكون من عطف الصفات ، فيكون الذين هم عن آياتنا غافلون ، هم الذين لا يرجون لقاء اللّه . والظاهر أنّ واطمأنوا بها عطف على الصلة ، ويحتمل أن يكون واو الحال أي : وقد اطمأنوا بها . والآيات قيل : آيات القرآن .

وقيل : العلامات الدالة على الوحدانية والقدرة . وقال ابن زيد : ما أنزلناه من حلال وحرام وفرض من حدود وشرائع أحكام ، وبما كانوا يكسبون إشعاراً بأنّ الأعمال السابقة يكون عنها العذاب ، وفي ذلك ردّ على الجبرية ، ونص على تعلق العقاب بالكسب . ومجيئه بالمضارع دليل على أنهم لم يزالوا مستمرين على ذلك ماضي زمانهم ومستقبله .

٩

انظر تفسير الآية:١٠

١٠

{إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الاْنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ دَعْواهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللّهمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَءاخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ للّه رَبّ الْعَالَمِينَ } : أي يزيد في هواهم بسبب إيمانهم السابق وتثبتهم ، فأما الذين آمنوا فزادتهم أو يهديهم إلى طريق الجنة بنور إيمانهم كما قال :{ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم } قال مجاهد : يكون لهم إيمانهم نوراً يمشون به . وفي الحديث : { إذا قام من قبره يمثل له رجل جميل الوجه طيب الرائحة فيقول : من أنت ؟ فيقول : أنا عملك الصالح ، فيقوده إلى الجنة } وبعكس هذا في الكافر . وقال ابن الأنباري : إيمانهم يهديهم إلى خصائص المعرفة ، ومزايا في الألطاف تسر بها قلوبهم وتزول بها الشكوك والشبهات عنهم كقوله : { وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى } وهذه الزوائد والفوائد يجوز حصولها في الدنيا قبل الموت ، ويجوز حصولها بعد الموت . قال القفال : وإذا حملنا الآية على هذا كان المعنى يديهم ربهم بإيمانهم ، وتجري من تحتهم الأنهار ، إلا أنه حذف الواو .

وقيل : معناه تقدّمهم إلى الثواب من قول العرب : القدم تهدي الساق . وقال الحسن : يرحمهم . وقال الكلبي : يدعوهم . والظاهر أنّ تجري مستأنفاً فيكون قد أخبر عنهم بخبرين عظيمين : أحدهما هداية اللّه لهم وذلك في الدنيا والآخر بجريان الأنهار ، وذلك في الآخرة . كما تضمنت الآية في الكفار شيئين :

أحدهما : اتصافهم بانتفاء رجاء لقاء اللّه وما عطف عليه ،

والثاني : مقرهم ومأواهم وذلك النار ، فصار تقسيماً للفريقين في المعنى . وتقدّم قول القفال : أن يكون تجري معطوفاً حذف منه الحرف ، وأن يكون حالاً ومعنى من تحتهم أي : من تحت منازلهم .

وقيل : من بين أيديهم ، وليس التحت الذي هو بالمسافة ، بل يكون إلى ناحية من الإنسان . ومنه :{ قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً}

وقال : وهذه الأنهار تجري من تحتي .

قال الزمخشري{ فإن قلت } : دلت هذه الآية على أنّ الإيمان الذي يستحق به العبد الهداية والتوفيق والنور يوم القيامة هو الإيمان المقيد ، وهو الإيمان المقرون بالعمل الصالح ، والإيمان الذي لم يقترن بالعمل الصالح فصاحبه لا توفيق له ولا نور . { قلت} : الأمر كذلك ، ألا ترى كيف أوقع الصلة مجموعاً فيها بين الإيمان والعمل كأنه قال : إنّ الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح ثم قال : بإيمانهم ، أي بإيمانهم المضموم إليه هذا العمل الصالح ، وهو بين واضح لا شبهة فيه انتهى . وهو على طريقة الاعتزال . وجوزوا في جنات النعيم أن يتعلق بتجري ، وأن يكون حالاً من الأنهار ، وأن يكون خبراً بعد خبر ، لأنّ ومعنى دعواهم : دعاؤهم ونداؤهم ، لأنّ اللّهم نداء اللّه ، والمعنى : اللّهم إنا نسبحك كقول القانت في دعاء القنوت : اللّهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد .

وقيل : عبادتهم كقوله : { وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّه } ولا تكليف في الجنة ، فيكون ذلك على سبيل الابتهاج والالتذاذ ، وأطلق عليه العبادة مجازاً . وقال أبو مسلم : فعلهم وإقرارهم . وقال القاضي : طريقهم في تقديس اللّه وتحميده . وتحيتهم أي ما يحيي به بعضهم بعضاً ، فيكون مصدراً مضافاً للمجموع لا على سبيل العمل ، بل يكون كقوله :{ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ }

وقيل : يكون مضافاً إلى المفعول ، والفاعل اللّه تعالى أو الملائكة أي : تحية اللّه إياهم ، أو تحية الملائكة إياهم . وآخر دعواهم أي : خاتمة دعائهم وذكرهم . قال الزجاج : أعلم تعالى أنهم يبتدئون بتنزيهه وتعظيمه ، ويختمونن بشكره والثناء عليه . وقال ابن كيسان : يفتتحون بالتوحيد ، ويختمون بالتحميد . وعن الحسن البصري : يعزوه إلى الرسول أنّ أهل الجنة يلهمون التحميد والتسبيح . وأن المخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الشأن لازم الحذف ، والجملة بعدها خبر إنْ ، وأن وصلتها خبر قوله : وآخر .

وقرأ عكرمة ، ومجاهد ، وقتادة ، وابن يعمر ، وبلال بن أبي بردة ، وأبو مجلز ، وأبو حيوة ، وابن محيصن ، ويعقوب : أن الحمد بالتشديد ونصب الحمد . قال ابن جني : ودلت على أنّ قراءة الجمهور بالتخفيف ، ورفع الحمد هي على أنْ هي المخففة كقول الأعشى : في فتية كسيوف الهند قد علموا

أن هالك كل من يحفى وينتعل يريد أنه هالك إذا خففت لم تعمل في غير ضمير أمر محذوف . وأجاز المبرد إعمالها كحالها مشددة ، وزعم صاحب النظم أنّ أنْ هنا زائدة ، والحمد للّه خبر ، وآخر دعواهم . وهو مخالف لنص سيبويه والنحويين ، وليس هذا من محال زيادتها .

١١

{وَلَوْ يُعَجّلُ اللّه لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِىَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } : قال مجاهد : نزلت في دعاء الرجل على نفسه وماله أو ولده ونحو هذا . فأخبر تعالى لو فعل مع الناس في إجابته إلى المكروه مثل ما يريدون فعله منهم في إجابته إلى الخير لأهلكهم ، ثم حذف بعد ذلك من القول جملة يتضمنها الظاهر تقديره : فلا يفعل ذلك ، ولكن نذر الذين لا يرجون فاقتضب القول ، ووصل إلى هذا المعنى بقوله : فنذر

الذين لا يرجون ، فتأمل هذا التقدير تجده صحيحاً قاله ابن عطية .

وقيل : نزلت في قولهم : إئتنا بما تعدنا ، وما جرى مجراه .

وقال الزمخشري : والمراد أهل مكة . وقولهم : { فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً } يعني : ولو عجلنا لهم الشر الذي عوا به كما نعجل لهم الخير لأميتوا وأهلكوا . قال : { فإن قلت } : كيف اتصل به فنذر الذين لا يرجون لقاءنا ، وما معناه ؟ { قلت} : قوله : ولو يعجل اللّه متضمن معنى نفي التعجيل كأنه قال : ولا نعجل لهم الشر ولا نقضي إليهم أجلهم ، فنذرهم في طغيانهم ، أو فنمهلهم ، ونقيض عليهم النعمة مع طغيانهم إلزاماً للحجة عليهم . ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر عجب الناس من إيحاء اللّه إلى رجل منهم ، وكان فيما أوحي إليه الإنذار والتبشير ، وكانوا يستهزؤون بذلك ولا يعتقدون حلول ما أنذروه بهم فقالوا :  { فأمطر علينا حجارة } وقال إخباراً عنهم : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ } وقالوا :{ فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا } ثم استطرد من ذلك إلى وحدانيته تعالى ، وذكر إيجاده العالم ، ثم إلى تقسيم الناس إلى مؤمن وكافر ، وذكر منازل الفريقين ثم رجع إلى أن ذلك المنذر به الذي طلبوا وقوعه عجلاً لو وقع لهلكوا ، فلم يكن في إهلاكهم رجاء إيمان بعضهم ، وإخراج مؤمن من صلهم بل اقتضت حكمته أنْ لا يعجل لهم ما طلبوه ، لما ترتب على ذلك . وانتصب استعجالهم على أنه مصدر مشبه به . ف

قال الزمخشري : أصله ولو يعجل اللّه للناس الشر تعجيله لهم الخير ، فوضع استعجاله لهم بالخير موضع تعجيله لهم الخير إشعاراً بسرعة إجابته لهم وإسعافه بطلبتهم ، كأن استعجالهم بالخير تعجيل لهم . وقال الحوفي وابن عطية : التقدير مثل استعجالهم ، وكذا قدره أبو البقاء . ومدلول عجل غير مدلول استعجل ، لأنّ عجل يدل على الوقوع ، واستعجل يدل على طلب التعجيل ، وذاك واقع من اللّه ، وهذا مضاف إليهم فلا يكون التقدير على ما قاله الزمخشري ، فيحتمل وجهين :

أحدهما : أن يكون التقدير تعجيلاً مثل استعجالهم بالخير ، فشبه التعجيل بالاستعجال ، لأنّ طلبهم للخير ووقوع تعجيله مقدم عندهم على كل شيء .

والثاني : أن يكون ثم محذوف يدل عليه المصدر تقديره : ولو يعجل اللّه للناس الشر إذا استعجلوا به استعجالهم بالخير ، لأنّهم كانوا يستعجلون بالشر ووقوعه على سبيل التهكم ، كما كانوا يستعجلون بالخير .

وقرأ ابن عامر : لقضى مبنياً للفاعل أجلهم بالنصب ، والأعمش لقضينا ، وباقي السبعة مبنياً للمفعول ، وأجلهم بالرفع . وقضى أكمل ، والفاء في فنذر جواب ما أخبر به عنهم على طريق الاستئناف تقديره : فنحن نذر قاله الحوفي . وقال أبو البقاء : فنذر معطوف على فعل محذوف تقديره : ولكن نمهلهم فنذر .

١٢

{وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى } : ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما استدعوا حلول الشر بهم ، وأنه تعالى لا يفعل ذلك بطلبهم بل يترك من يرجو لقاءه يعم في طغيانه ، بيِّن شدة افتقار الناس إليه واضطرارهم إلى استمطار إحسانه مسيئهم ومحسنهم ، وأنّ من لا يرجو لقاءه مضطر إليه حاله مس الضر له ، فكل يلجأ إليه حينئذ ويفرده بأنه القادر على كشف الضر . والظاهر أنه لا يراد بالإنسان هنا شخص معين كما قيل : إنه أبو حذيفة هاشم بن المغيرة بن عبد اللّه المخزومي قاله : ابن عباس ومقاتل .

وقيل : عقبة بن ربيعة .

وقيل : الوليد بن المغيرة .

وقيل : هما قاله عطاء .

وقيل : النضر بن الحرث ، وأنه لا يراد به الكافر ، بل ، المراد الإنسان من حيث هو ، سواء كان كافراً أم عاصياً بغير الكفر . واحتملت هذه الأقوال الثلاثة أن تكون لشخص واحد ، واحتملت أن تكون لأشخاص ، إذ الإنسان جنس . والمعنى : أنّ الذي أصابه الضر لا يزال داعياً ملتجئاً راغباً إلى اللّه في جميع حالاته كلها . وابتدأ بالحالة الشاقة وهي اضطجاعه وعجزه عن النهوض ، وهي أعظم في الدعاء وآكد ثم بما يليها ، وهي حالة القعود ، وهي حالة العجز عن القيام ، ثم بما يليها

وهي حالة القيام وهي حالة العجز عن المشي ، فتراه يضطرب ولا ينهض للمشي كحالة الشيخ الهرم . ولجنبه حال أي : مضطجعاً ، ولذلك عطف عليه الحالان ، واللام على بابها عند البصريين والتقدير : ملقياً لجنبه ، لا بمعنى على خلافاً لزاعمه . وذو الحال الضمير في دعانا ، والعامل فيه دعانا أي : دعانا ملتبساً بأحد هذه الأحوال . و

قال ابن عطية : ويجوز أن يكون حالاً من الإنسان ، والعامل فيه مس . ويجوز أن يكون حالاً من الفاعل في دعانا ، والعامل فيه دعا وهما معنيان متباينان . والضر : لفظ عام لجميع الأمراض . والرزايا في النفس والمال والأحبة ، هذا قول اللغويين .

وقيل : هو مختص برزايا البدن الهزال والمرض انتهى . والقول الأول قول الزجاج . وضعف أبو البقاء أن يكون لجنبه فما بعده أحوالاً من الإنسان والعامل فيها مس ، قال : لأمرين :

أحدهما : أنّ الحال على هذا واقع بعد جواب إذا وليس بالوجه .

والثاني : أنّ المعنى كثرة دعائه في كل أحواله ، لا على الضر يصيبه في كل أحواله ، وعليه آيات كثيرة في القرآن انتهى . وهذه الثاني يلزم فيه من مسه الضر في هذه الأحوال دعاؤه في هذه الأحوال ، لأنه جواب ما ذكرت فيه هذه الأحوال ، فالقيد في حيز الشرط قيد في الجواب كما تقول : إذا جاءنا زيد فقيراً أحسنا إليه ،

فالمعنى : أحسنا إليه في حال فقره ، فالقيد في الشرط قيد في الجزاء . ومعنى كشف الضر : رفعه وإزالته ، كأنه كان غطاء على الإنسان ساتراً له . وقال صاحب النظم : وإذا مس الإنسان وصفه للمستقبل ، وفلما كشف للماضي فهذا النظم يدل على أن معنى الآية : أنه هكذا كان فيما مضى وهكذا يكون في المستقبل ، فدل ما في الآية من الفعل المستقبل على ما فيه من المعنى المستقبل ، وما فيه من الفعل الماضي على ما فيه من المعنى الماضي انتهى . والمرور هنا مجاز عن المضي على طريقته الأول من غير ذكر لما كان عليه من البلاء والضر . وقال مقاتل : أعرض عن الدعاء .

وقيل : مرّ عن موقف الابتهال والتضرع لا يرجع إليه ، كأنه لا عهد له به ، وهذا قريب من القول الذي قبله . والجملة من قوله : كان لم يدعنا إلى ضر مسه في موضع الحال ، أي إلى كشف ضر مسه .

قال ابن عطية : وقوله مر ، يقتضي أنّ نزولها في الكفار ، ثم هي بعد تتناول كل من دخل تحت معناها من كافر وعاص يعني الآية مر في إشراكه باللّه وقلة توكله عليه انتهى . والكاف من كذلك في موضع نصب أي : مثل ذلك . وذلك إشارة إلى تزيين الإعراض عن الابتهال إلى اللّه تعالى عند كشف الضر وعدم شكره وذكره على ذلك ، وزين مبني للمفعول ، فاحتمل أن يكون الفاعل اللّه إمّا على سبيل الخلق ذلك واختراعه في قلوبهم كما يقول أهل السنة ،

وإما بتخليته وخذلانه كما تقول المعتزلة ، أو الشيطان بوسوسته ومخادعته . قيل : أو النفس . وفسر المسرفون بالكافرين والكافر مسرف لتضييعه السعادة الأبدية بالشهوة الخسيسة المنقضية ، كما يضيع المنفق ماله متجاوزاً فيه الحدَّ ما كانوا يعملون من الإعراض عن جناب اللّه وعن اتباع الشهوات .

١٣

انظر تفسير الآية:١٤

١٤

{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كَذالِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِى الاْرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } : هذا إخبار لمعاصري الرسول صلى اللّه عليه وسلم وخطاب لهم بإهلاك من سلف قبلهم من الأمم بسبب ظلمهم وهو الكفر ، على سبيل الردع لهم والتذكير بحال من سبق من الكفار ، والوعيد لهم ، وضرب الأمثال ، فكما فعل بهؤلاء ، يفعل بكم . ولفظة لما مشعرة بالعلية ، وهي حرف تعليق في الماضي . ومن ذهب إلى أنها ظرف معمول لأهلكنا كالزمخشري متبعاً لغيره ، فإنما يدل إذْ ذاك على وقوع الفعل في حين الظلم ، فلا يكون لها إشعار إذ ذاك بالعلية . لو

قلت : جئت حين قام زيد ، لم يكن مجيئك متسبباً عن قيام زيد ، وأنت ترى حيثما جاءت لما كان جوابها أو ما قام مقامه متسبباً عما بعدها ، فدل ذلك على صحة مذهب سيبويه من أنها حرف وجوب لوجوب . وجاءتهم ظاهرة أنه

معطوف على ظلموا أي : لما حصل هذان الأمران : مجيء الرسل بالبينات ، وظلمهم أهلكوا .

وقال الزمخشري : والواو في وجاءتهم للحال أي : ظلموا بالتكذيب ، وقد جاءتهم رسلهم بالحجج والشواهد على صدقهم وهي المعجزات انتهى . وقال مقاتل : البينات مخوفات العذاب ، والظاهر أنّ الضمير في قوله وما كانوا عائداً على القرون ، وأنه معطوف على قوله : ظلموا . وجوّز الزمخشري أن يكون اعتراضاً لا معطوفاً قال : واللام لتأكيد النفي بمعنى : وما كانوا يؤمنون حقاً تأكيداً لنفي إيمانهم ، وأن اللّه تعالى قد علم أنهم مصرون على كفرهم ، وأنّ الإيمان مستبعد منهم والمعنى : أنّ السبب في إهلاكهم تعذيبهم الرسل ، وعلم اللّه أنه لا فائدة في إمهالهم بعد أن ألزموا الحجة ببعثة الرسل انتهى . وقال مقاتل : الضمير في قوله : وما كانوا ليؤمنوا ، عائد على أهل مكة ، فعلى قوله يكون التفاتاً ، لأنه خرج من ضمير الخطاب إلى ضمير الغيبة ، ويكون متسقاً مع قوله : وإذا تتلى عليهم . والكاف في كذلك في موضع نصب أي : مثل ذلك الجزاء ، وهو الإهلاك . نجزي القوم المجرمين فهذا وعيد شديد لمن أجرم ، يدخل فيه أهل مكة وغيرهم . وقرأت فرقة : يجزى بالياء ، أي يجزى اللّه ، وهو التفات . والخطاب في جعلناكم لمن بعث إليهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.

وقيل : خطاب لمشركي مكة ، والمعنى : استخلفناكم في الأرض بعد القرون المهلكة للنظر أتعملون خيراً أم شراً فنعاملكم على حسب عملكم . ومعنى لننظر : لنتبين في الوجود ما عملناه أولاً ، فالنظر مجاز عن هذا .

قال الزمخشري :

فإن قلت : كيف جاز النظر على اللّه تعالى وفيه معنى المقابلة ؟ { قلت} : هو مستعار للعلم المحقق الذي هو علم بالشيء موجود ، أشبه بنظر الناظر وعيان المعاين في حقيقته انتهى . وفيه دسيسة الاعتزال ، وأنه يلزم من النظر المقابلة ، وفيه إنكار وصفه تعالى بالبصير ورده إلى معنى العلم .

وقيل : لننظر ، هو على حذف مضاف أي : لينظر رسلنا وأولياؤنا . وأسند النظر إلى اللّه مجازاً ، وهو لغيره .

وقرأ يحيى بن الحرث الزماري : لنظر ، بنون واحدة وتشديد الظاء وقال : هكذا رأيته في مصحف عثمان بن عفان رضي اللّه عنه ، ويعني : أنه رآها بنون واحدة ، لأن النقط والشكل بالحركات والتشديدات إنما حدث بعد عثمان ، ولا يدل كتبه بنون واحدة على حذف النون من اللفظ ، ولا على إدغامها في الظاء ، لأن أدغام النون في الظاء لا يجوز ، ومسوغ حذفها أنه لا أثر لها في الأنف ، فينبغي أن تحمل قراءة يحيى على أنه بالغ في إخفاء الغنة ، فتوهم السامع أنه إدغام ، فنسب ذلك إليه . وكيف معموله لتعملون ، والجملة في موضع نصب لننظر ، لأنها معلقة . وجاز التعليق في نظر وإن لم يكن من أفعال القلوب ، لأنها وصلة فعل القلب الذي هو العلم .

١٥

{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءايَاتُنَا بَيّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْءانٍ غَيْرِ هَاذَا أَوْ بَدّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ } : قال ابن عباس والكلبي : نزلت في المستهزئين بالقرآن من أهل مكة قالوا : يا محمد ائت بقرآن غير هذا فيه ، ما نسألك . وقال مجاهد وقتادة : نزلت في جماعة من مشركي مكة . وقال مقاتل : في خمسة نفر : عبد اللّه بن أمية المخزومي ، والوليد بن المغيرة ، ومكرز بن حفص ، وعمرو بن عبد اللّه بن

أبي قيس العامري ، والعاص بن وائل .

وقيل : الخمسة الوليد ، والعاصي ، والأسود بن المطلب ، والأسود بن عبد يغوث ، والحرث بن حنظلة ، وروي هذا عن ابن عباس .

قال الزمخشري : غاظهم ما في القرآن من ذم عبادة الأوثان والوعيد للمشركين فقالوا : ائت بقرآن آخر ليس فيه ما يغيظنا من ذلك نتبعك . و

قال ابن عطية : نزلت في قريش لأن بعض كفار قريش قال هذه المقالة على معنى : ساهلنا يا محمد ، واجعل هذا الكلام الذي من قبلك هو باختيارنا ، وأحل ما حرمته ، وحرم ما أحللته ، ليكون أمرنا حينئذ واحداً وكلمتنا متصلة انتهى . ونبه تعالى على الوصف الحامل لهم على هذه المقالة ، وهو كونهم لا يؤمنون بالبعث والجزاء على ما اقترفوه ، والمعنى : وإذا تسرد عليهم آيات القرآن واضحات نيرات لا لبس فيها قالوا كيت وكيت ، وأضيفت الآيات إليه تعالى لأنها كلامه جل وعز ، والتبديل يكون في الذات بأن يجعل بدل ذات ذات أخرى ، ويكون في الصفة . والتبديل هنا هو في الصفة ، وهو أن يزال بعض نظمه بأن يجعل مكان آية العذاب آية الرحمة ، ولا يراد بالتبديل هنا أن يكون في الذات ، لأنه يلزم جعل الشيء المقتضي للتغابر هو الشيء بعينه ، لأن التبديل في الذات هو الإتيان بقرآن غير هذا . ولما كان الآيتان بقرآن غير هذا غير مقدور للإنسان لم يحتج إلى نفيه ونفي ما هو مقدور للإنسان ، وإن كان مستحيلاً ذلك في حقه صلى اللّه عليه وسلم فقيل له : قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي . وانتفاء الكون هنا هو كقوله تعالى : { مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا } أي يستحيل ذلك . ويحتمل أن يكون التبديل في الذات عل أن يلحظ في قوله : ائت بقرآن غير هذا ، بقاء هذا القرآن ويؤتى بقرآن غيره ، فيكون أو بدله بمعنى أزله بالكلية وائت ببدله ، فيكون المطلوب أحد أمرين : إما إزالته بالكلية وهو التبديل في الذات ، أو الإتيان بغيره مع بقائه فيحصل التغاير بين المطلوبين . وتلقاء مصدر التبيان ، ولم يجيء مصدر على تفعال غيرهما ، ويستعمل ظرفاً للمقابلة تقول : زيد تلقاءك . وقرىء بفتح التاء ، وهو قياس المصادر التي للمبالغة كالتطواف والتجوال والترداد والمعنى : من قبل نفسي أن أتبع فيما آمركم به وما أنهاكم عنه من غير زيادة ولا نقصان ، ولا تبديل إلا ما يجيئني خبره من السماء . واستدل بقوله : إنْ أتبع إلا ما يوحى إليّ على نفي الحكم بالاجتهاد ، وعلى نفي القياس ، وإنما قالوا : ائت بقرآن غير هذا أو بدله ، لأنهم كانوا لا يعترفون بأنّ القرآن معجز ، أو إن كانوا عاجزين عن الإتيان بمثله . ألا ترى إلى قولهم : لو نشاء لقلنا مثل هذا وقولهم :{ افْتَرَى عَلَى اللّه كَذِبًا } ولا يمكن أن يريدوا إئت بقرآن غير هذا أو بدله من جهة الوحي لقوله : إني أخاف .

قال الزمخشري: { فإن قلت } : فما كان غرضهم وهم أدهى الناس وأنكرهم في هذا الاقتراح ؟ { قلت} : المكر والكيد . أما اقتراح إبدال قرآن بقرآن ففيه إنه من عندك ، وإنك لقادر على مثله ، فأبدل مكانه آخر .

وأما اقتراح التبديل والتغيير فللظمع ولاختبار الحال ، وأنه إن وجد منه تبديل فإما أن يهلكه اللّه فننجو منه ، أو لا يهلكه فيسخروا منه ، ويجعلوا التبديل حجة عليه وتصحيحاً لافترائه على اللّه تعالى انتهى . وإن عصيت بالتبديل من تلقاء نفسي ، وتقدم اتباع الوحي ، وتركي العمل به ، وهو شرط جوابه محذوف دل عليه ما قبله . واليوم العظيم : هو يوم القيامة ، ووصف بالعظم لطوله ، أو لكثرة شدائده ، أو للمجموع . وانظر إلى حسن هذا الجواب

لما كان أحد المطلوبين التبديل بدأ به في الجواب ، ثم أتبع بأمر عام يشمل انتفاء التبديل وغيره ، ثم أتى بالسبب الحامل على ذلك وهو الخوف ، وعلقه بمطلق العصيان ، فبأدنى عصيان ترتب الخوف .

١٦

{قُل لَّوْ شَاء اللّه مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } : هذه مبالغة في التبرئة مما طلبوا منه أي : إنّ تلاوته عليهم هذا القرآن إنما هو بمشيئة اللّه تعالى وإحداثه أمراً عجيباً خارجاً عن العادات ، وهو أن يخرج رجل أمي لم يتعلم ولم يستمع ولم يشاهد العلماء ساعة من عمره ، ولا نشأ في بلدة فيها علماء فيقرأ عليكم كتاباً فصيحاً يبهر كلام كل فصيح ، ويعلو على كل منثور ومنظوم ، مشحوناً بعلوم من علوم الأصول والفروع ، وإخبار ما كان وما يكون ، ناطقاً بالغيوب التي لا يعلمها إلا اللّه تعالى ، وقد بلغ بين ظهرانيكم أربعين سنة تطلعون على أحواله ولا يخفي عليكم شيء من أسراره ، وما سمعتم منه حرفاً من ذلك ، ولا عرّفه به أحد من أقرب الناس إليه وألصقتم به . ومفعول شاء محذوف أي : قل لو شاء اللّه أن لا أتلوه ، وجاء جواب { لَوْ } على الفصيح من عدم إتيان اللام ، لكونه منفياً بما ،

ويقال : دريت به ، وأدريت زيداً به ، والمعنى : ولا أعلمكم به على لساني .

وقرأ قنبل والبزي من طريق النقاش عن أبي ربيعة عنه : ولأدراكم بلام دخلت على فعل مثبت معطوف على منفي ، والمعنى : ولأعلمكم به من غير طريقي وعل لسان غيري ، ولكنه يمن على من يشاء من عباده ، فخصني بهذه الكرامة ورآني لها أهلاً دون الناس .

وقراءة الجمهور : ولا أدراكم به فلا مؤكدة ، وموضحة أنّ الفعل منفي لكونه معطوفاً على منفي ، وليست لا هي التي نفي الفعل بها ، لأنه لا يصح نفي الفعل بلا إذا وقع جواباً ، والمعطوف على الجواب جواب . وأنت لا تقول : لو كان كذا لا كان كذا ، إنما يكون ما كان كذا .

وقرأ ابن عباس ، وابن سيرين ، والحسن ، وأبو رجاء : ولا ادرأتكم به بهمزة ساكنة ، وخرجت هذه القراءة على وجهين :

أحدهما : أن الأصل أدريتكم بالياء فقلبها همزة عل لغة من قال : لبأت بالحج ، ورثأت زوجي بأبيات ، يريد : لبيت ورثيت . وجاز هذا البدل لأنّ الألف والهمزة من واد واحد ، ولذلك إذا حركت الألف انقلبت همزة كما قالوا في العالم العألم ، وفي المشتاق المشتأق . والوجه

الثاني : أن الهمزة أصل وهو من الدرء ، وهو الدفع يقال : درأته دفعته ، كما قال :{ وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا الْعَذَابَ } ودرأته جعلته دارئاً ، والمعنى : ولأجعلنكم بتلاوته خصماء تدرؤونني بالجدال وتكذبونني . وزعم أبو الفتح إنما هي أدريتكم ، فقلب الياء ألفاً لا نفتاح ما قبلها ، وهي لغة لعقيل حكاها قطرب يقولون في أعطيتك : أعطأتك . وقال أبو حاتم : قلب الحسن الياء ألفاً كما في لغة بني الحرث بن كعب السلام علاك ، قيل : ثم همز على لغة من قال في العالم العألم .

وقرأ شهر بن حوشب والأعمش ، ولا أندرتكم به بالنون والذال من الإنذار ، وكذا هي في حرف ابن مسعود ، ونبّه على أنّ ذلك وحي من اللّه تعالى بإقامته فيهم عمراً وهو أربعون سنة من قبل ظهور القرآن على لساني يافعاً وكهلاً ، لم تجربوني في كذب ، ولا تعاطيت شيئاً من هذا ، ولا عانيت اشتغالاً ، فكيف أتهم باختلاقه ؟ أفلا تعقلون أنّ من كان بهذه الطريقة من مكثه الأزمان الطويلة من غير تعلم ، ولا تلمذ ، ولا مطالعة كتاب ، ولا مراس جدال ، ثم أتى بما ليس يمكن أن يأتي به أحد ، ولا يكون إلا محقاً فيما أتى به مبلغاً عن ربه ما أوحى إليه وما اختصه به ؟ كما جاء في حديث هرقل : هل جربتم عليه كذباً ؟ قال : لا فقال : لم يكن ليدع الكذب على الخلق ويكذب على اللّه . وأدغم ثاء لبثت أبو عمرو ، وأظهرها باقي السبعة .

وقرأ الأعمش : عمراً بإسكان الميم ، والظاهر وعود الضمير في من قبله على القرآن . وأجاز الكرماني أنْ يعود على التلاوة ، وعلى النزول ، وعلى الوقت يعني : وقت نزوله .

١٧

{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّه كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ } : تقدم تفسير مثل هذا الكلام ، ومساقه هنا باعتبارين :

أحدهما : أنه لما قالوا : ائت بقرآن غير هذا أو بدله ، كان في ضمنه أنهم ينسبونه إلى أنه ليس من عند اللّه وإنما هو اختلاق ، فبولغ في ظلم من افترى على اللّه كذباً كما قال : فمن

أظلم ممن افترى على اللّه كذباً ، أو قال : أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ، ومن قال : سأنزل مثل ما أنزل اللّه وقد قام الدليل القاطع على أنّ هذا القرآن هو من عند اللّه ، وقد كذبتم بآياته ، فلا أحد أظلم منكم . والاعتبار

الثاني : أنّ ذلك توطئة لما يأتي بعده من عبادة الأوثان أي : لا أحد أظلم منكم في افترائكم على اللّه أنّ له شريكاً ، وأن له ولداً ، وفيما نسبتم إليه من التحليل والتحريم .

١٨

{وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّه مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّه قُلْ أَتُنَبّئُونَ اللّه بِمَا لاَ } : الضمير في ويعبدون عائد على كفار قريش الذين تقدمت محاورتهم . وما لا يضرهم ولا ينفعهم هو الأصنام ، جماد لا تقدر على نفع ولا ضر . قيل : إنْ عبدوها لم تنفعهم ، وإن تركوا عبادتها لم تضرهم . ومن حق المعبود أن يكون مثيباً على الطاعة معاقباً على المعصية ، وكان أهل الطائف يعبدون اللات ، وأهل مكة العزى ومناة وأسافاً ونائلة وهبل ، والأخبار بهذا عن الكفار هو على سبيل التجهيل والتحقير لهم ولمعبوداتهم ، والتنبيه على أنهم عبدوا من لا يستحق العبادة .

وفي قوله : من دون اللّه ، دلالة على أنهم كانوا يعبدون الأصنام ولا يعبدون اللّه . قال ابن إسحاق : يعنون في الآخرة . وقال النضر بن الحرث : إذا كان يوم القيامة شفعت في اللات والعزى . وقال الحسن : شفعاؤنا في إصلاح معايشنا في الدنيا لأنهم لا يقرون بالبعث . وأتنبئون استفهام على سبيل التهكم بما ادّعوه من المحال الذي هو شفاعة الأصنام ، وإعلام بأنّ الذي أنبأوا به باطل غير منطو تحت الصحة ، فكأنهم يخبرونه بشيء لا يتعلق به علمه ، وما موصولة بمعنى الذي .

قال الزمخشري : بكونهم شفعاء عنده ، وهو إنباء ما ليس بمعلوم للّه تعالى ، وإذا لم يكن معلوماً له وهو العالم الذات المحيط بجميع المعلومات لم يكن شيئاً لأنّ الشيء ما يعلم ويخبر عنه فكان خبراً ليس له مخبر عنه انتهى . فتكون ما واقعة على الشفاعة ، والفاعل بيعلم هو اللّه ، والمفعول الضمير المحذوف العائد على ما . وقوله : في السموات ولا في الأرض تأكيد لنفيه ، لأن ما لم يوجد فيهما فهو منتف معدوم قاله الزمخشري . وفي التحرير : أتنبئون ، معناه التهكم والتقريع والتوبيخ والإنكار ، والمعنى على هذا : أتخبرون اللّه بما يعلم خلافه في السموات والأرض ، فإن صفات الذات لا يجري فيها النفي .

وقيل : أتخبرون اللّه بما لا يعلمه موجوداً في السموات والأرض ، فكيف يصح وجود ما لا يعلمه اللّه ، وهو كما يقال للرجل : قد قلت كذا ، فيقول : ما علم اللّه هذا مني ، أي ما كان هذا قط ، إذ لو كان لعلمه اللّه انتهى .

والذي يظهر أنّ ما موصول يراد به الأصنام لا الشفاعة التي ادعوها ، والفاعل بيعلم ضمير يعود على ما لا على اللّه ، وذلك على حذف مضاف والمعنى : قل أتعلمون اللّه بشفاعة الأصنام التي انتفي علمها في السموات والأرض أي : ليست متصفة بعلم البتة ، فيكون ذلك رداً عليهم في دعواهم أنها تشفع عند اللّه ، لأنّ من كان منتفياً عنه العلم فكيف يشفع وهو لا يعلم من يشفع فيه ، ولا ما يشفع فيه ، ولا من تشفع عنده ؟ كما رد عليهم في العبادة بقوله : ما لا يضرهم ولا ينفعهم ، فانتفاء الضر والنفع قادح في العبادة ، وانتفاء العلم قادح في الشفاعة ، فتبطل العبادة ودعوى الشفاعة ، ويكون قوله : في السموات والأرض على هذا تنبيهاً على محال المعبودات المدعي شفاعتهم ، إذ من المعبودات السماوية الكواكب كالشمس والشعرى . وقرىء : أتنبئون بالتخفيف من أنبأ . ولما ذكر تعالى عبادتهم ما لا يضر ولا ينفع ، وكان ذلك إشراكاً ، استأنف تنزيهاً بقوله سبحانه وتعال . وما يحتمل أن تكون بمعنى الذي ومصدرية أي : شركاهم الذين يشركونهم به ، أو عن إشراكهم .

وقرأ العربيان والحرميان وعاصم : يشركون بالياء على الغيبة هنا ، وفي حرفي النحل ، وحرفي في الروم . وذكر أبو حاتم أنه قرأها كذلك الحسن والأعرج وابن القعقاع وشيبة وحميد وطلحة والأعمش .

وقرأ ابن كثير ونافع ، وابن عامر ، في النمل فقط بالياء على الخطاب ، وعاصم وأبو عمرو بالياء على الغيبة .

وقرأ حمزة والكسائي الخمسة بالتاء على الخطاب ، وأتى بالمضارع ولم

يأت عن ما أشركوا للدلالة على استمرار حالهم ، كما جاءوا يعبدون وأنهم على الشرك في المستقبل ، كما كانوا عليه في الماضي .

١٩

{وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ لَّقُضِىَ بِيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } : لما ذكر تعالى الدلالة على فساد عبادة الأصنام ، ذكر الحامل على ذلك وهو الاختلاف الحادث بين الناس ، والظاهر عموم الناس . ويتصور في آدم وبينه إلى أنْ وقع الاختلاف بعد قتل أحد ابنيه الآخر ، وقاله : أبي بن كعب . وقال الضحاك : المراد أصحاب سفينة نوح ، اتفقوا على الحنيفية ودين الإسلام .

وعن ابن عباس : من كان من ولد آدم إلى زمان إبراهيم ورد بأنه عبد في زمان نوح عليه السلام الأصنام كود ، وسواغ .

وحكى ابن القشيري أنّ الناس قوم إبراهيم إلى أنْ غيّر الدين عمرو بن لحي . وقال ابن زيد : هم الذين أخذ عليهم الميثاق يوم :{ أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ } لم يكونوا أمة واحدة غير ذلك اليوم . وقال الأصم : هم الأطفال المولودون كانوا على الفطرة فاختلفوا بعد البلوغ ، وأبعد من ذهب إلى أنّ المراد بالناس هنا آدم وحده ، وهو مروي عن : مجاهد ، والسدّي ، وعبر عنه بالأمة لأنه جامع لأنواع الخير . وهذه الأقوال هي على أنّ المراد بأمة واحدة في الإسلام والإيمان .

وقيل : في الشرك . وأريد قوم إبراهيم كانوا مجتمعين على الكفر ، فآمن بعضهم ، واستمر بعضهم على الكفر . أو من كان قبل البعث من العرب وأهل الكتاب كانوا على الكفر والتبديل والتحريف ، حتى بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فآمن بعضهم ، أو العرب خاصة ، أقوال ثالثها للزجاج . والظاهر أنّ المراد بقوله : أمة واحدة في الإسلام ، لأنّ هذا الكلام جاء عقيب إبطال عبادة الأصنام ، فلا يناسب أنْ يقوي عباد الأصنام . فإنّ الناس كانوا على ملة الكفر ، إنما المناسب أن يقال : إنهم كانوا على الإسلام حتى تحصل النفرة من اتباع غير ما كان الناس عليه . وأيضاً فقوله : ولولا كلمة ، هو وعيد ، فصرفه إلى أقرب مذكور وهو الاختلاف ، هو الوجه والاختلاف بسبب الكفر ، هو المقتضي للوعيد ، لا الاختلاف الذي هو بسبب الإيمان ، إذ لا يصلح أن يكون سبباً للوعيد ، وقد تقدم الكلام على نحو هذا في البقرة في قوله :{ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً } ولكنْ أعدنا الكلام فيه لبعده .

والكلمة هنا هو القضاء ، والتقدير : لبني آدم بالآجال المؤقتة .

قال ابن عطية : ويحتمل أن يريد الكلمة في أمر القيامة ، وأنّ العقاب والثواب إنما يكون حينئذ .

وقال الزمخشري : هو تأخير الحكم بينهم إلى يوم القيامة يقضي بينهم عاجلاً فيما اختلفوا فيه ، وتمييز المحق من المبطل . وسبقت كلمة اللّه بالتأخير لحكمة أوجبت أن تكون هذه الدار دار تكليف ، وتلك دار ثواب وعقاب . وقال الكلبي : الكلمة أنّ اللّه أخبر هذه الأمة لا يهلكهم بالعذاب في الدنيا إلى يوم القيامة ، فلولا هذا التأخير لقضى بينهم بنزول العذاب ، أو بإقامة الساعة .

وقيل : الكلمة السابقة أنْ لا يأخذ أحداً إلا بحجة وهو إرسال الرسل .

وقيل : الكلمة قوله :{ سَبَقَتْ رَّحْمَتِى غَضَبِى } ولولا ذلك ما أخر العصاة إلى التوبة .

٢٠

{وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ مّن رَّبّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ للّه فَانْتَظِرُواْ إِنّى مَعَكُمْ مّنَ الْمُنتَظِرِينَ } : هذا من اقتراحهم .

قال الزمخشري : وكانوا لا يعتدون بما أنزل عليه من الآيات العظام المتكاثرة التي لم تنزل على أحد من الأنبياء مثلها ، وكفى بالقرآن وحده آية باقية على وجه الدهر بديعة غريبة في الآيات ، دقيقة المسلك من بين المعجزات . وجعلوا نزولها كلا نزول ، فكأنه لم ينزل عليه قط حتى قالوا : لولا أنزل عليه آية واحدة من ربه ، وذلك لفرط عنادهم وتماديهم في التمرد وإنهماكهم في الغي فقل : إنما الغيب للّه أي : هو المختص بعلم الغيب المستأثر به ، لا علم لي ولا لا حد به . يعني : أنّ الصارف عن إنزال الآيات المقترحة أمر مغيب لا يعلمه إلا هو سبحانه ، فانتظروا نزول ما اقترحتموه إني معكم من المنتظرين بما يفعل اللّه تعالى بكم لعنادكم وجحدكم الآيات . و

قال ابن عطية : آية من ربه ، آية تضطر الناس إلى الإيمان ، وهذا النوع من الآيات لم يأت بها نبي قط ، ولا من المعجزات اضطرارية ، وإنما هي معرضة النظر ليهتدي قوم ويضل آخرون ، فقل : إنما الغيب للّه إن شاء فعل ، وإن شاء لم يفعل ، لا يطلع على غيبه في ذلك أحد . وقوله : فانتظروا ، ووعيد وقد صدقه اللّه تعالى بنصرته محمداً صلى اللّه عليه وسلم.

وقيل : الآية التي اقترحوا أن ينزل ما تضمنه قوله تعالى :{ وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا الاْيَةَ }

وقيل : آية كآية موسى وعيسى كالعصا واليد البيضاء ، وإحياء الموتى ، طلبوا ذلك على سبيل

التعنت .

٢١

{وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ فِىءايَاتِنَا قُلِ اللّه أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا } : لما ذكر تعالى قوله :{ وَإِذْ تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءايَاتُنَا بَيّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ} الآية ثم ذكر قوله :{ وَقَالُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَةً } وذلك على سبيل التعنت أخبر أنّ هؤلاء إنما يصيرون لهذه المقالات عندما يكونون في رخاء من العيش وخلو بال ، وأنّ إحسان اللّه تعالى قابلوه بما لا يجوز من ابتغاء المكر لآياته ، وكان خليقاً بهم أن يكونوا أول من صدق بآياته . وإعراضهم عن الآيات نظير قوله :{ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرّ مَّسَّهُ} وسبب نزولها أنه لما دعا على أهل مكة الرسول بالجدب قحطوا سبع سنين ، فأتاه أبو سفيان فقال : إدع لنا بالخصب ، فإنْ أخصبنا صدقنا ، فسأل اللّه لهم فسقوا ولم يؤمنوا ، وهذه وإن كانت في الكفار فهي تتناول من العاصين من لا يؤدّي شكر اللّه عند زوال المكروه عنه ، ولا يرتدع بذلك عن معاصيه ، وذلك في الناس كثير . تجد الإنسان يعقد عند مس الضر التوبة والتنصل من سائر المعاصي ، فإذا زال عنه رجع إلى أقبح عاداته . والرحمة هنا الغيث بعد القحط ، والأمن بعد الخوف ، والصحة بعد المرض ، والغنى بعد الفقر ، وما أشبه ذلك . ومعنى مستهم خالطتهم حتى أحسوا بسوء أثرها فيهم ، ومعنى مكر في آياتنا التكذيب بالقرآن ، والشك فيه قاله الجماعة . وقال مجاهد ومقاتل : الاستهزاء والتكذيب . وقال أبو عبيدة : الرد والجحود .

وحكى الماوردي النفاق لأنه إظهار الإيمان وإبطان الكفر ، وهو شبيه بما

قال الزمخشري : إنّ المكر أخفى الكيد . و

قال ابن عطية : والمكر الاستهزاء والطعن عليها من الكفار ، واطراح الشكر والخوف من العصاة انتهى . والإذاقة والمس هنا مجازان ، وفي هذه الجملة دليل على سرعة تقلب ابن آدم من حالة الخير إلى حالة الشر ، وذلك بلفظ أذقنا ، كأنه قيل : أول ذوقه الرحمة قبل أن يدوام استطعامها مكروه بلفظ من المشعرة بابتداء الغاية أي : ينشىء المكر إثر كشف الضراء لا يمهل ذلك . وبلفظ إذا الفجائية الواقعة جواباً لإذا الشرطية ، أي في وقت إذاقة الرحمة فاجاؤا بالمكر . ولما كانت هذه الجملة كما قلنا تتضمن سرعة المكر منهم قيل : قل اللّه أسرع مكراً فجاءت أفعل التفضيل . ومعنى وصف المكر بالأسرعية : أنه تعالى قبل أن يدبروا مكائدهم قضى بعقابكم ، وهو موقعه بكم ، واستدرجكم بإمهاله .

قال ابن عطية : أسرع من سرع ، ولا يكون من أسرع يسرع ، حكى ذلك أبو علي . ولو كان من أسرع لكان شاذاً وقد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : { في نار جهنم لهي أسود من القار } وما حفظ من النبي صلى اللّه عليه وسلم فليس بشاذ انتهى .

وقيل : أسرع هنا ليست للتفضيل ، وحكاية ذلك عن أبيّ على هو مذهب . وفي بناء التعجب وأفعل التفضيل من أفعل ثلاثة مذاهب : المنع مطلقاً وما ورد من ذلك فهو شاذ ، والجواز مطلقاً ، والتفصيل بين أن تكون الهمزة فيه للنقل فيمنع ، أو لغير النقل فيجوز ، نحو : أشكل الأمر وأظلم الليل ، وتقرير الصحيح من ذلك هو في علم النحو

وأما تنظير أسود من القار بأسرع ففاسد ، لأن أسود ليس فعله على وزن أفعل ، وإنما هو على وزن فعل نحو سود فهو أسود ، ولم يمتنع التعجب ولا بناء أفعل التفضيل عند البصريين من نحو : سود وحمر وأدم إلاّ لكونه لوناً ، وقد أجاز ذلك بعض الكوفيين في الألوان مطلقاً ، وبعضهم في السواد والبياض فقط .

والرسل هنا الحفظة بلا خلاف . والمعنى : أن ما تظنونه خافياً مطوياً عن اللّه لا يخفى عليه ، وهو منتقم منكم .

وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق ، وأبو عمر : ورسلنا بالتخفيف .

وقرأ الحسن ، وقتادة ، ومجاهد ، والأعرج ، ورويت عن نافع : يمكرون على الغيبة جرياً على ما سبق .

وقرأ أبو رجاء ، وشيبة ، وأبو جعفر ، وابن أبي إسحاق ، وعيسى ، وطلحة ، والأعمش ، والجحدري ، وأيوب بن المتوكل ، وابن محيصن ، وشبل ، وأهل مكة ، والسبعة : بالتاء على الخطاب مبالغة لهم في الإعلام بحال مكرهم ، والتفاتاً لقوله : قل اللّه أي : قل لهم ، فناسب الخطاب .

وفي قوله : إنّ رسلنا التفات أيضاً ، إذ لم يأت أنّ رسله . وقال أيوب بن المتوكل في مصحف أبي : يا أيها الناس إنّ اللّه أسرع مكراً ،

وإن رسله لديكم يكتبون ما تمكرون ، وينبغي أن يحمل هذا على التفسير ، لأنه مخالف لما أجمع عليه المسلمون من سواد المصحف ، والمحفوظ عن أبي القراءة والإقراء بسواد المصحف .

٢٢

{وَهُوَ الَّذِى يُسَيّرُكُمْ فِى الْبَرّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِى الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللّه مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَاذِهِ } : مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما ذكر تعالى أنّ الناس إذا أصابهم الضر لجأوا إلى اللّه تعالى فإذا أذاقهم الرحمة ، عادوا إلى عادتهم من إهمال جانب اللّه والمكر في آياته . وكان قبل ذلك قد ذكر نحواً من هذا في قوله :{ وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ } الآية . وكان المذكور في الآيتين أمراً كلياً ، أوضح تعالى ذلك الأمر الكلي بمثال جلي كاشف عن حقيقة ذلك المعنى الكلي ينقطع فيه رجاء الإنسان عن كل متعلق به إلا اللّه تعالى ، فيخلص له الدعاء وحده في كشف هذه النازلة التي لا يكشفها إلا هو تعالى ، ويتبين بطلان عبادته ما لا يضر ولا ينفع ، ودعواه أنه شفيعه عند اللّه ، ثم بعد كشف هذه النازلة عاد إلى عادته من بغيه في الأرض ، فإنجاؤه تعالى إياهم هو مثال من أذاقه الرحمة وما كانوا فيه قبل من إشافهم على الهلاك هو مثال من الضر الذي مسهم .

وقرأ زيد بن ثابت ، والحسن ، وأبو العالية ، وزيد بن علي ، وأبو جعفر ، وعبد اللّه بن جبير ، وأبو عبد الرحمن ، وشيبة ، وابن عامر : ينشركم من النشر والبث .

وقرأ الحس أيضاً : ينشركم من الإنشار وهو الإحياء ، وهي قراءة عبد اللّه .

وقرأ بعض الشاميين ينشركم بالتشديد للتكثير من النشر الذي هو مطاوعة الانتشار .

وقرأ باقي السبعة والجمهور : يسيركم من التيسير . قال أبو علي : هو تضعيف مبالغة ، لا تضعيف تعدية ، لأن العرب تقول : سرت الرجل وسيرته ، ومنه قول الهذلي : فلا تجز عن من سنة أنت سرتها

فأول راض سنه من يسيرها

قال ابن عطية : وعلى هذا البيت اعتراض حتى لا يكونن شاهداً في هذا ، وهو أن يكون الضمير كالظرف كما تقول : سرت الطريق انتهى . وما ذكره أبو علي لا يتعين ، بل الظاهر أنّ التضعيف فيه للتعدية ، لأنّ سار الرجل لازماً ما أكثر من سرت الرجل متعدياً فجعله ناشأ عن الأكثر أحسن من جعله ناشئاً عن الأقل .

وأما جعل ابن عطية الضمير كالظرف قال كما تقول : سرت الطريق ، فهذا لا يجوز عند الجمهور ، لأن الطريق عندهم ظرف مختص كالدار والمسجد ، فلا يصل إليه الفعل غيره . دخلت عند سيبويه ، وانطلقت ، وذهبت عند الفراء إلا بوساطة في إلا في ضرورة ، وإذا كان كذلك فضميره أحرى أنْ لا يتعدى إليه الفعل . وإذا كان ضمير الظرف الذي يصل إليه الفعل بنفسه يصل إليه بوساطة في إلا إن اتسع فيه فلأن يكون الضمير الذي يصل الفعل إلى ظاهره بفي أولى أن يصل إليه الفعل بوساطة في . وزعم أبن الطراوة أن الطريق ظرف غير مختص ، فيصل إليه الفعل يغر وساطة في ، وهو زعم مردود في النحو .

ومعنى يسيركم : يجعلكم تسيرون ، والسير معروف ،

وفي قوله : والبحر دلالة على جواز ركوب البحر . ولما كان الخوف في البحر أغلب على الإنسان منه في البر وقع المثال به لذلك المعنى الكلي به من التجاء العبد لربه تعالى حالة الشدة والإهمال لجانبه

حالة الرخاء .

قال الزمخشري{ فإن قلت } : كيف جعل الكون في الفلك غاية التسيير في البحر ، والتسيير في البحر إنما هو بالكون في الفلك ؟ { قلت} : لم يجعل الكون في الفلك غاية التسيير ، ولكن مضمون الجملة الشرطية الواقعة بعد حتى بما في خبرها كأنه قال : يسيركم حتى إذا وقعت هذه الحادثة فكان كيت وكيت من مجيء الريح العاصف ، وتراكم الأمواج ، والظن للّهلاك ، والدعاء للانجاء انتهى . وهو حسن ،

وقرأ أبو الدرداء وأم الدرداء : في الفلكي بزيادة ياء النسب ، وخرج ذلك على زيادتها ، كما زادوها في الصفة في نحو : أحمرّيّ وزواريّ ، وفي العلم كقول الصلتان : أنا الصلتاني الذي قد علمتم . وعلى إرادة النسب مراد به اللج كأنه قيل في اللج الفلكي وهو الماء الغمر الذي لا تجري الفلك إلا فيه ، والضمير في وجرين عائد على الفلك على معنى الجمع ، إذ الفلك كما تقدم في سورة البقرة يكون مفرداً وجمعاً ، والضمير في بهم عائد على الكائنين في الفلك . وهو التفات ، إذ هو خروج من خطاب إلى غيبة . وفائدة صرف الكلام من الخطاب إلى الغيبة

قال الزمخشري : المبالغة ، كأنه يذكر لغيرهم حالهم ليعجبهم منها ، ويستدعي منهم الإنكار والتقبيح انتهى . والذي يظهر واللّه أعلم أنّ حكمة الالتفات هنا هي أنّ قوله : هو الذي يسيركم في البر والبحر ، خطاب فيه امتنان وإظهار نعمة للمخاطبين ، والمسيرون في البر والبحر مؤمنون وكفار ، والخطاب شامل ، فحسن خطابهم بذلك ليستديم الصالح على الشكر . ولعل الطالح يتذكر هذه النعمة فيرجع ، فلما ذكرت حالة آل الأمر في آخرها إلى أنْ الملتبس بها هو باغ في الأرض بغير الحق ، عدل عن الخطاب إلى الغيبة حتى لايكون المؤمنون يخاطبون بصدور مثل هذه الحالة التي آخرها البغي . و

قال ابن عطية : بهم خروج من الحضور إلى الغيبة ، وحسن ذلك لأن قوله : كنتم في الفلك ، هو بالمعنى المعقول ، حتى إذا حصل بعضكم في السفن انتهى ، فكأنه قدر مفرداً غائباً يعاد الضمير عليه فيصير كقوله تعالى : {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِى بَحْرٍ لُّجّىّ يَغْشَاهُ } أي ، أو كذي ظلمات ، فعاد الضمير غائباً على اسم غائب ، فلا يكون ذلك من باب الالتفات . والباء في بهم وبريح قال العكبري : تتعلق الباآن بجرين انتهى . والذي يظهر أنّ الباء في بهم متعلقة بجرين تعلقها بالمفعول نحو : مررت بزيد . وأنّ الباء في بريح يجوز أن تكون للمسبب ، فاختلف المدلول في البائين ، فجاز أن يتعلقا بفعل واحد ، ويجوز أن تكون الباء للحال أي : وجرين بهم ملتبسة بريح طيبة ، فتتعلق بمحذوف كما تقول : جاء زيد بثيابه أي ملتبساً بها . وفرحوا بها يحتمل أن يكون معطوفاً على قوله : وجرين بهم ، ويحتمل أن يكون حالاً أي : وقد فرحوا بها . كما احتمل قوله : وجرين أن يكون معطوفاً على كنتم ، وأن يكون حالاً . والظاهر أنّ قوله : جاءتها ريح عاصف ، هو جواب إذا . والظاهر عود الضمير في جاءتها على الفلك ، لأنه هو المحدث عنه في قوله : وجرين بهم ، وقاله مقاتل . وجوزوا أن يعود على الريح الطيبة وقاله الفراء ، وبدأ به الزمخشري . ومعنى طيب الريح لين هبوبها وكونها موافقة .

وقرأ ابن أبي عبلة : جاءتهم ، ومعنى من كل من أمكنة الموج . والظن هنا على بابه الأصلي من ترجيح أحد الجائزين .

وقيل : معناها التيقن ، ومعنى أحيط بهم أيللّهلاك ، كما يحيط العدو بمن يريد إهلاكه ، وهي كناية عن استيلاء أسباب الهلاك .

وقرأ زيد بن علي : حيط بهم ثلاثياً والجملة من قوله : دعوا اللّه قال أبو البقاء : هي جواب ما اشتمل عليه المعنى من معنى الشرط تقديره : لما ظنوا أنهم أحيط بهم دعوا اللّه انتهى ، وهو كلام لا يتحصل منه شيء . وقال الطبري : جواب حتى إذا كنتم في الفلك جاءتها ريح عاصف ، وجواب قوله : وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا اللّه انتهى . وهو مخالف للظاهر ، لأنّ قوله : وظنوا ظاهره العطف على جواب إذا ، لأنه معطوف على كنتم ، لكنه محتمل . كما تقول : إذا زارك فلان

فأكرمه ، وجاءك خالد فأحسن إليه ، وكأن أداة الشرط مذكورة .

وقال الزمخشري : هي بدل من ظنوا لادعائهم من لوازم ظنهم الهلاك ، فهو ملتبس به انتهى . وكان أستاذنا أبو جعفر بن الزبير يخرّج هذه الآية على غير ما ذكروا ويقول : هو جواب سؤال مقدّر ، كأنه قيل : فما كان حالهم إذ ذاك ؟ فقيل : دعوا اللّه مخلصين له الدين انتهى . ومعنى الإخلاص إفراده بالدعاء من غير إشراك أصنام ولا غيرها ، قال معناه : ابن عباس وابن زيد . وقال الحسن : مخلصين لا إخلاص إيمان ، لكنْ لأجعل العلم بأنه لا ينجيهم من ذلك إلا اللّه ، فيكون ذلك جارياً مجرى الإيمان الاضطراري انتهى . والاعتراف باللّه مركوز في طبائع العالم ، وهم مجبولون على أنه المتصرف في الأشياء ، ولذلك إذا حقت الحقائق رجعوا إليه كلهم مؤمنهم وكافرهم ، لئن أنجيتنا ثم قسم محذوف ، وذلك القسم وما بعده محكيّ بقول أي : قائلين . أو أجرى دعوا مجرى قالوا ، لأنه نوع من القول ، والإشارة بهذه إلى الشدائد التي هم فيها . وقال الكلبي : إلى الريح العاصف .

٢٣

{فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِى الاْرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ ياأَيُّهَا أَيُّهَا النَّاسُ فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِى الاْرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى } : قال ابن عباس : يبغون بالدعاء إلى عبادة غير اللّه والعمل بالمعاصي والفساد .

قال الزمخشري: { فإن قلت } : ما معنى قوله بغير الحق ، والبغي لا يكون بحق ؟ { قلت} : بلى وهو استيلاء المسلمين على أرض الكفرة ، وهدم دورهم ، وإحراق زروعهم ، وقطع أشجارهم كما فعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ببني قريظة انتهى . وكأنه قد شرح قوله : يبغون بأنهم يفسدون ، ويبعثون مترقين في ذلك ممعنين فيه من بغي الجرح إذا ترقى للفساد انتهى . قال الزجاج : البغي الترقي في الفساد . وقال الأصمعي : بغي الجرح ترقي إلى الفساد ، وبغت المرأة فجرت انتهى . ولا يصح أن يقال في المسلمين إنهم باغون على الكفرة ، إلا إن ذكر أنّ أصل البغي هو الطلب مطلقاً ولا يتضمن الفساد ، فحينئذ ينقسم إلى طلب بحق ، وطلب بغير حق . ولما حمل ابن عطية البغي هنا على الفساد قال : أكد ذلك بقوله بغير الحق . وجواب لما إذا الفجائية وما بعدها ، ومجيء إذا وما بعدها جواباً لها دليل على أنها حرف يترتب ما بعدها من الجواب على ما قبله من الفعل الذي بعد لمّا ، وأنها تفيد الترتب والتعليق في المضي ، وأنها كما قال سيبويه : حرف . ومذهب غيره أنها ظرف ، وقد أوضحنا ذلك فيما كتبناه في علم النحو . والجواب بإذا الفجائية دليل على أنه لم يتأخر بغيهم عن إنجائهم ، بل بنفس ما وقع الإنجاء وقع البغي ، والخطاب بيا أيها الناس ، قال الجمهور : لأهل مكة . والذي يظهر أنه خطاب لأولئك الذين أنجاهم اللّه وبغوا ، ويحتمل كما قالوا : العموم ، فيندرج أولئك فيهم ، وهذا ذمّ للبغي في أوجز لفظ . ومعنى على أنفسكم . وبال البغي عليكم ، ولا يجني ثمرته لا أنتم . فقوله : على أنفسكم ، خبر للمبتدأ الذي هو بغيكم ، فيتعلق بمحذوف . وعلى هذا التوجيه انتصب متاع في قراءة زيد بن علي وحفص ، وابن أبي إسحاق ، وهارون ، عن ابن كثير : على أنه مصدر في موضع الحال أي : متمتعين ، أو باقياً على المصدرية أي : يتمتعون به متاع ، أو نصباً على الظرف نحو : مقدم الحاج أي وقت متاع الحياة الدنيا . وكل هذه التوجيهات منقولة . والعامل في متاع إذا كان حالاً أو ظرفاً ما تعلق به خبر بعيكم أي : كائن على أنفسكم ، ولا ينتصبان ببغيكم ، لأنه مصدر قد فصل بينه وبين معموله بالخبر ، وهو غير جائز . وارتفع متاع في قراءة الجمهور على أنه خبر مبتدأ محذوف . وأجاز النحاس ، وتبعه الزمخشري ، أن يكون على أنفسكم متعلقاً بقوله : بغيكم ، كما تعلق في قوله ، فبغى عليهم ، ويكون الخبر متاع إذا رفعته . ومعنى على أنفسكم : على أمثالكم . والذين جنسكم جنسهم يعني بغى بعضكم على بعض منفعة الحياة الدنيا .

وقرأ ابن أبي إسحاق أيضاً : متاعاً الحياة الدنيا بنصب متاع وتنوينه ، ونصب الحياة . وقال سفيان بن عيينة : في هذه الجملة تعجل لكم عقوبته في الحياة الدنيا .

وقرأ فرقة : فينبئكم بالياء على

الغيبة ، والمراد للّه تعالى .

٢٤

{إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الاْرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالاْنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ } مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما قال :{ الْحَقّ ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُمْ مَّتَاعَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا } ضرب مثلاً عجيباً غريباً للحياة الدنيا تذكر من يبغي فيها على سرعة زوالها وانقضائها ، وأنها بحال ما تعز وتسر ، تضمحل ويؤول أمرها إلى الفناء .

وقال الزمخشري : هذا من التشبيه المركب ، شبهت حال الدنيا في سرعة تقضها وانقراض نعيمها بعد الإقبال بحال نبات الأرض في جفافه وذهابه حطافاً بعدما التف وتكاثف وزين الأرض بخضرته ورفيفه انتهى . وإنما هنا ليست للحصر لا وضعاً ولا استعمااً لا ، لأنه تعالى ضرب للحياة الدنيا أمثالاً غير هذا ، والمثل هنا يحتمل أن يراد به الصفة ، وأن يراد به القول السائر المشبه به حال الثاني بالأول . والظاهر تشبيه صفة الحياة الدنيا بماء فيما يكون به ، ويترتب عليه من الانتفاع ثم الانقطاع .

وقيل : شبهت الحياة الدنيا بالنبات على تلك الأوصاف ، فيكون التقدير : كنبات ماء ، فحذف المضاف .

وقيل : شبهت الحياة بحياة مقدرة على هذه الأوصاف ، فيكون التقدير : كحياة قوم بماء أنزلناه من السماء . قيل : ويقوي هذا قوله : وظن أهلها أنهم قادرون عليها . والسماء إما أن يراد من السحاب ،

وإما أن يراد من جهة السماء ، والظاهر أن النبات اختلط بالماء . ومعنى الاختلاط : تشبثه به ، وتلقفه إياه ، وقبوله له ، لأنه يجري له مجرى الغذاء ، فتكون الباء للمصاحبة . وكل مخلطين يصح في كل منهما أن يقال : اختلط بصاحبه ، فلذلك فسره بعضهم بقوله : خالطه الماء وداخله ، فغذّى كل جزء منه . وقال الكرماني : فاختلط به اختلاط مجاورة ، لأنّ الاختلاط تداخل الأشيائ بعضها في بعض انتهى . ولا يمنع اختلاط النبات بالماء على سبيل التداخل ، فلا تقول : إنه اختلاط مجاورة .

وقيل : اختلط اختلف وتنوع بالماء ، وينبو لفظ اختلط عن هذا التفسير .

وقيل : معنى اختلط تركب .

وقيل : امتد وطال .

وقال الزمخشري : فاشتبك بسببه حتى خالط بعضه بعضاً . و

قال ابن عطية : وصلت فرقة النبات بقوله فاختلظ أي : اختلط النبات بعضه ببعض بسبب الماء انتهى . وعلى هذه الأقوال الباء في بماء للسببية ، وأبعد من ذهب إلى أن الفاعل في قوله : فاختلط ، هو ضمير يعود على الماء أي : فاختلط الماء بالأرض . ويقف هذا المذهب على قوله : فاختلط ، ويستأنلف به نبات على الابتداء ، والخبر المقدم .

قال ابن عطية : يحتمل على هذا أن يعود الضمير في به على الماء وعلى الاختلاط الذي تضمنه الفعل انتهى . والوقف على قوله : فاختلط ، لا يجوز وخاصة في القرآن لأنه تفكيك للكلام المتصل الصحيح المعنى ، الفصيح اللفظ ، وذهاب إلى اللغز والتعقيد ، والمعنى الضعيف . ألا ترى أنه لو صرح بإظهار الاسم الذي الضمير في كناية عنه فقيل بالاختلاط نبات الأرض ، أو بالماء نبات الأرض ، لم يكد ينعقد كلاماً من مبتدأ وخبر لضعف هذا الإسناد وقربه من عدم الإفادة ، ولولا أنّ ابن عطية ذكره وخرّجه على ما ذكرناه عنه لم نذكره في كتابنا . ولما كان النبات ينقسم إلى مأكول وغيره ، بيّن أنّ المراد أحد القسمين بمن فقال : مما يأكل الناس ، كالحبوب والثمار والبقول والأنعام ، كالحشيش وسائر ما يرعى . قال الحوفي : مِن متعلقه باختلط . وقال أبو البقاء : مما

يأكل حال من النبات ، فاقتضى قول أبي البقاء أن يكون العامل في الحال محذوفاً لأنّ المجرور والظرف إذا وقعا حالين كان العامل محذوفاً . وقول أبي البقاء : هو الظاهر ، وتقديره : كائناً مما يأكل ، وحتى غاية ، فيحتاج أن يكون الفعل الذي قبلها متطاولاً حتى تصحّ الغاية . فأما أن يقدر قبلها محذوف أي : فما زال ينمو حتى إذا ، أو يتجوز في فاختلط ، ويكون معناه فدام اختلاط النبات بالماء حتى إذا .

وقوله : أخذت الأرض زخرفها وازينت ، جملة بديعة اللفظ جعلت الأرض آخذة زخرفها متزينة ، وذلك على جهة التمثيل بالعروس إذا أخذت الثياب الفاخرة من كل لون ، فاكتست وتزينت بأنواع الحلى ، فاستعير الأخذ وهو التناول باليد لاشتمال نبات الأرض على بهجة ونضارة وأثواب مختلفة ، واستعير لتلك البهجة والنضارة والألوان المختلفة لفظة الزخرف وهو الذهب ، لما كان من الأشياء البهجة المنظر السارة للنفوس . وازينت أي : بنباتها وما أودع فيه من الحبوب والثمار والأزهار ، ويحتمل أن يكون قوله : وازينت تأكيداً لقوله : أخذت الأرض زخرفها . واحتمل أن لا يكون تأكيداً ، إذ قد يكون أخذ الزخرف لا لقصد التزيين ، فقيل : وازينت ليفيد أنها قصدت التزيين . ونسبة الأخذ إلى الأرض والتزيين من بديع الاستعارة .

وقرأ الجمهور : وازينت وأصله وتزينت ، فأدغمت التاء في الزاي فاجتلبت همزة الوصل لضرورة تسكين الزاي عند الإدغام .

وقرأ أبي وعبد اللّه ، وزيد بن علي ، والأعمش : وتزينت على وزن تفعلت .

وقرأ سعد بن أبي وقاص ، وأبو عبد الرحمن ، وابن يعمر ، والحسن ، والشعبي ، وأبو العالية ، وقتادة ، ونصر بن عاصم ، وابن هرمز ، وعيسى الثقفي : وأزينت على وزن أفعلت ، كأحصد الزرع أي حضرت زينتها وحانت . وصحت الياء فيه على جهة الندور ، كأعبلت المرأة . والقياس : وأزانت ، كقولك وأبانت .

وقرأ أبو عثمان النهدي بهمزة مفتوحة بوزن افعألت ، قاله عنه صاحب اللواح قال : كأنه كانت في الوزن بوزن احكارّت ، لكنهم كرهوا الجمع بين ساكنين ، فحركت الألف فانقلبت همزة مفتوحة . ونسب ابن عطية هذه القراءة لفرقة فقال : وقرأت فرقة وازيأنت وهي لغة منها قال الشاعر :

إذا ما الهوادي بالعبيط احمأرَّت

وقرأ أشياخ عوف ابن أبي جميلة : وازيانت بنون مشدّدة وألف ساكنة قبلها .

قال ابن عطية : وهي قراءة أبي عثمان النهدي . وقرأت فرقة : وازّاينت ، والأصل وتزاينت فأدغم ، والظن هنا على بابه من ترجيح أحد الجائزين .

وقيل : بمعنى أيقنوا وليس بسديد ، ومعنى القدرة عليها التمكن من تحصيلها ومنفعتها ورفع غلتها ، وذلك لحسن نموها وسلامتها من العاهات . والضمير في أهلها عائد على الأرض ، وهو على حذف مضاف أي : أهل نباتها .

وقيل : الضمير عائد على الغلة .

وقيل : على الزينة ، وهو ضعيف . وجواب إذا قوله : أتاها أمرنا كالريح والصر والسموم وغير ذلك من الآفات كالفار والجراد .

وقيل : أتاها أمرنا بإهلاكها ، وأبهم في قوله : ليلاً أو نهاراً ، وقد علم تعالى متى يأتيها أمره ، أو تكون أو للتنويع ، لأنّ بعض الأرض يأتيها أمره تعالى ليلاً وبعضها نهاراً ، ولا يخرج كائن عن وقوعه فيهما . والحصيد : فعيل بمعنى مفعول أي : المحصود ، ولم يؤنث كما لم تؤنث امرأة جريج . وقال أبو عبيدة : الحصيد المستأصل انتهى . وعبر بحصيد عن التألف استعارة ، جعل ما هلك من الزرع بالآفة قبل أوانه حصيداً العلامة ما بينهما من الطرح على الأرض .

وقيل : يجوز أن تكون تشبيهاً بغير الأداة والتقدير : فجعلناها كالحصيد . وقوله : كأن لم تغن بالأمس ، مبالغة في التلف والهلاك حتى كأنها لم توجد قبل ، ولم يقم بالأرض بهجة خضرة

نضرة تسر أهلها .

وقرأ الحسن وقتادة : كأن لم يغن بالياء على التذكير . فقيل : عائد على المضاف المحذوف الذي هو الزرع ، حذف وقامت هاء التأنيث مقامه في قوله : عليها ،

وفي قوله : أتاها فجعلناها .

وقيل : عائد على الزخرف ، والأولى عوده على الحصيد أي : كأن لم يغن الحصيد . وكان مروان بن الحكم يقرأ على المنبر : كأن لم تتغن بتائين مثل تتفعل . وقال الأعشى : طويل الثواء طويل التغني ، وهو من غنى بكذا أقام به .

قال الزمخشري : والأمس مثل في الوقت . كأنه قيل : كأن لم تغن آنفاً انتهى . وليس الأمس عبارة عن مطلق الوقت ، ولا هو مرادف كقوله : آنفاً ، لأنّ آنفاً معناه الساعة ، والمعنى : كأن لم يكن لها وجود فيما مضى من الزمان . ولولا أنّ قائلاً قال في غير القرآن كأن لم يكن لها وجود الساعة لم يصح هذا المعنى ، لأنه لا وجود لها الساعة ، فكيف تشبه وهي لا وجود لها حقيقة بما لا وجود لها حقيقة ؟ إنما يشبه ما انتفى وجوده الآن بما قدر انتفاء وجوده في الزمان الماضي ، لسرعة انتقاله من حالة الوجود إلى جالة العدم ، فكان حالة الوجود ما سبقت له . وفي مصحف أبي : كأن لم تغن بالأمس ، وما كنا لنهلكها إلا بذنوب أهلها . وفي التحرير نفصل الآيات ، رواه عنه ابن عباس .

وقيل في مصحفه : وما كان اللّه ليهلكها إلا بذنوب أهلها . وفي التحرير : وكان أبو سلمة بن عبد الرحمن يقرأ في قراءة أبيّ كأن لم تغن بالأمس ، وما أهلكناها إلا بذنوب أهلها ، ولا يحسن أن يقرأ حد بهذه القراءة لأنها مخالفة لخط المصحف الذي أجمع عليه الصحابة والتابعون انتهى . كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون أي : مثل هذا التفصيل الذي فصلناه في الماضي ، نفصل في المستقبل .

وقرأ أبو الدرداء : لقوم يتذكرون بالذال بدل الفاء .

٢٥

{وَاللّه يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِى مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } : لما ذكّر مثل الحياة الدنيا وما يؤول إليه من الفناء والاضمحلال ، وما تضمنه من الآفات والعاهات ، ذكر تعالى أنه داع إلى دار السلامة والصحة والأمن ، وهي الجنة ، إذ أهلها سالمون من كل مكروه . ويجوز أن يكون تعالى أضافها إلى اسمه الشريف على سبيل التعظيم لها والتشريف كما قيل : بيت اللّه ، وناقة اللّه ، ويجوز أن تكون مضافة إلى السلامة بمعنى التسليم لفشوّ ذلك بينهم ، ولتسليم الملائكة عليهم كما قال :{ لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً إِلاَّ قِيلاً سَلَاماً سَلَاماً} قال الحسن : إن السلام لا ينقطع عن أهل الجنة وهو تحيتهم كما

قال تعالى :{ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ } وقد وردت في دعوة اللّه عباده أحاديث . وقال قتادة : ذكر لنا أنّ في التوراة مكتوباً يا باغي الخير هلم ، ويا باغي الشرّ انته . ولما كان الدعاء عامًّاً لم تتقيد بالمشيئة ، ولما كانت الهداية خاصة تقيدت بالمشيئة فقال : ويهدي من يشاء .

وقال الزمخشري : ويهدي يوفق من يشاء ، وهم الذين علم أنّ اللطف يجدي عليهم ، لأن مشيئته تابعة لحكمته .

٢٦

للذين أحسنوا الحسنى . . . . .

رهقه غشيه ،

وقيل : لحقه ومنه . ولا ترهقني من أمري عسراً ، ورجل مرهق يغشاه الأضياف . وقال الأزهري : الرهق اسم من الإرهاق ، وهو أن يحمل الإنسان على نفسه ما لا يطيق . يقال : أرهقته أن يصلي إذا أعجلته عن الصلاة .

وقيل : أصل الرهق المقاربة ، يقال : غلام مراهق أي قارب الحلم . وفي الحديث :  { أرهقوا القبلة } أي ادنوا منها .

ويقال : رهقت الكلاب الصيد إذا لحقته ، وأرهقنا الصلاة أخرناها حتى تدنو من الأخرى .

القتر والقترة الغبار الذي معه سواد ، وقال ابن عرفة : الغبار . وقال الفرزدق : متوج برداء الملك يتبعه

موج ترى فوقه الرايات والقترا

أي غبار العسكر . وقال ابن بحر : أصل القتر دخان النار ، ومنه قتار القدر انتهى .

ويقال : القتر بسكون التاء الشأن والأمر ، وجمعه شؤون . وأصله الهمز بمعنى القصد من شأنت شأنه إذا قصدت قصده . عزب يعزب ويعزب بكسر الزاي وضمها غاب حتى خفي ، ومنه الروض العازب . وقال أبو تمام : وقلقل نأى من خراسان جأشها

فقلت اطمئني أنضر الروض عازبه

وقيل للغائب عن أهله عازب ، حتى قالوه لمن لا زوجة له .

{لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } : أحسنوا قال ابن عباس : ذكروا كلمة لا إله إلا اللّه . وقال الأصم : أحسنوا في كل ما تعبدوا به أي : أتوا بالمأمور به كما ينبغي ، واجتنبوا المنهى .

وقيل : أحسنوا معاملة الناس . وروي أنس عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : { أحسنوا العمل في الدنيا } وفي الصحيح :  { ما الإحسان ؟ قال : أن تعبد اللّه كأنك تراه ، فإنْ لم تكن تراه فإنه يراك } وعن عيسى عليه السلام : { ليس الإحسان أن تحسن إلى من أحسن إليك ذلك مكافأة ، ولكنّ الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك} .

والحسنى قال الأكثرون : هي الجنة ، وروي ذلك عن الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، ولو صح وجب المصير إليه . وقال الطبري : الحسنى عام في كل حسن ، فهو يعم جميع ما قبل ووعد اللّه في جميعها بالزيادة ، ويؤيد ذلك أيضاً قوله : أولئك أصحاب الجنة . ولو كان معنى الحسنى الجنة لكان في القول تكرير في المعنى . وقال عبد الرحمن بن سابط : هي النضرة . وقال ابن زيد : الجزاء في الآخرة .

وقيل : الأمنية ذكره ابن الأنباري .

وقال الزمخشري : المثوبة الحسنى وزيادة ، وما يزيد على المثوبة وهو التفضل ، ويدل عليه قوله تعالى :{ وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ } وعن علي : الزيادة غرفة من لؤلؤة واحدة .

وعن ابن عباس : الحسنى الحسنة والزيادة عشرة أمثالها . وعن الحسن : عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف . وعن مجاهد : الزيادة مغفرة من اللّه ورضوان . وعن زياد بن شجرة : الزيادة أنّ تمر السحابة بأهل الجنة فتقول : ما تريدون أن أمطركم ؟ فلا يريدون شيئاً إلا أمطرتهم . وزعمت المشبهة والمجبرة أن الزيادة النظر إلى وجه اللّه تعالى ، وجاءت بحديث موضوع :{ إِذَا دَخَلُواْ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةِ الَّذِي يُصَوّرُكُمْ فِي الاْرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء لا إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ } انتهى . أما تفسيره أولا ونقله عمن ذكر تفسير الزيادة فهو نص الجبائي ونقله ،

وأما قوله : وجاءت بحديث موضوع فليس بموضوع ، بل خرجه مسلم في صحيحه عن صهيب ، والنسائي عنه عن الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، وخرجه ابن المبارك في دقائقه موقوفاً على أبي موسى وقال : بأن الزيادة هي النظر إلى اللّه تعالى أبو بكر الصديق ، وعلي بن أبي طالب ، في رواية وحذيفة ، وعبادة بن الصامت ، وكعب بن عجرة ، وأبو موسى ، وصهيب ، وابن عباس في رواية ، وهو قول جماعة من التابعين . ومسألة الرؤية يبحث فيها في أصول الدين . قال مجاهد : أراد ولا يلحقها خزي ، والخزي يتغير به الوجه ويسود . قال ابن ابن عباس : والذلة الكآبة . وقال غيره : الهوان .

وقيل : الخيبة نفي عن المحسنين ما أثبت للكفار من قوله :{ وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } وقوله :{ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ } وكنى بالوجه عن الجملة لكونه أشرفها ، ولظهور أثر السرور والحزن فيه .

وقرأ الحسن ، وأبو رجاء ، وعيسى بن عمر ، والأعمش : قتر بسكون التاء ، وهي لغة كالقدر ، والقدر وجعلوا أصحاب الجنة لتصرفهم فيها كما يتصرف الملاك على حسب اختيارهم .

٢٧

{وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيّئَاتِ جَزَاء سَيّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُمْ مّنَ اللّه مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ } : لما ذكر ما أعد للذين أحسنوا وحالهم يوم القيامة ومآلهم إلى الجنة ، ذكر ما أعد لأضدادهم وحالهم ومآلهم ، وجاءت صلة المؤمنين أحسنوا ، وصلة الكافرين كسبوا السيئات ، تنبيهاً على أنّ المؤمن لما خلق على الفطرة وأصلها بالإحسان ، وعلى أن الكافر لما خلق على الفطرة انتقل عنها وكسب السيئات ، فجعل ذلك محسناً ، وهذا كاسباً للسيئات ، ليدل على أنّ المؤمن سلك ما ينبغي ، وهذا سلك ما لا ينبغي . والظاهر أنّ والذين مبتدأ ، وجوزوا في الخبر وجوهاً

أحدها : أنه الجملة التي بعده وهي جزاء سيئة بمثلها

وجزاء مبتدأ فقيل : خبره مثبت وهو بمثلها . واختلفوا في الباء فقيل : زائدة قاله ابن كيسان أي جزاء سيئة مثلها ، كما قال : وجزاء سيئة سيئة مثلها ، كما زيدت في الخبر في قوله :

فمنعكها بشييء يستطاع

أي شيء يستطاع .

وقيل : ليست بزائدة ، والتقدير : مقدر بمثلها أو مستقر بمثلها .

وقيل : محذوف ، فقدّره الحوفي : لهم جزاء سيئة قال : ودل على تقدير لهم قوله : { لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى } حتى تشاكل هذه بهذه . وقدره أبو البقاء جزاء سيئة بمثلها واقع ، والباء في قولهما متعلقة بقوله : جزاء ، والعائد من هذه الجملة الواقعة خبراً عن الذين محذوف تقديره : جزاء سيئة منهم ، كما حذف في قولهم : السمن منوان بدرهم ، أي منوان منه بدرهم . وعلى تقدير الحوفي : لهم جزاء يكون الرابط لهم .

الثاني : أنّ الخبر قوله : ما لهم من اللّه من عاصم ، ويكون قد فصل بين المبتدأ والخبر بجملتين على سبيل الاعتراض ، ولا يجوز ذلك عند أبي علي الفارسي ، والصحيح جوازه .

الثالث : أن يكون الخبر كأنما أغشيت وجوههم قطعاً من الليل مظلماً .

الرابع : أن يكون الخبر أولئ وما بعده ، فيكون في هذا القول فصل بين المبتدأ والخبر بأربع جمل معترضة ، وفي القول الثالث بثلاث جمل ، والصحيح منع الاعتراض بثلاث الجمل وبأربع الجمل ، وأجاز ابن عطية أن يكون الذين في موضع جر عطفاً على قوله : للذين أحسنوا ، ويكون جزاء مبتدأ خبره قوله : والذين على إسقاط حرف الجر أي : وللذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها ، فيتعادل التقسيم ، كما تقول : في الدار زيد ، والقصر عمرٌ ، وأي : وفي القصر عمرو . وهذا التركيب مسموع من لسان العرب ، فخرجه الأخفش على أنه من العطف على عاملين . وخرجه الجمهور على أنه مما حذف منه حرف الجر ، وجره بذلك الحرف المحذوف لا بالعطف على المجرور ، وهي مسألة خلاف وتفصيل يتكلم فيها في علم النحو .

والظاهر أنّ السيئات هنا هي سيئات الكفر ، ويدل عليه ذكر أوصافهم بعد .

وقيل : السيئات المعاصي ، فيندرج فيها الكفر وغيره . ولهذا

قال ابن عطية : وتعم السيئات هاهنا الكفر والمعاصي ، فمثل سيئة الكفر التخليد في النار ، ومثل سيئات المعاصي مصروف إلى مشيئة اللّه تعالى ، ومعنى بمثلها أي : لا يزاد عليها .

قال الزمخشري : وفي هذا دليل على أنّ المراد بالزيادة الفضل ، لأنه دل بترك الزيادة على السيئة على عدله ، ودل بإثبات الزيادة على المثوبة على فضله انتهى .

وقيل : معنى بمثلها أي : بما يليق بها من العقوبات ، فالعقوبات تترتب على قدر السيئات ، ولهذا كانت جهنم دركات ، وكان المنافقون في الدرك الأسفل لقبح معصيتهم . وقرىء : ويرهقهم بالياً ، لأنّ تأنيث الذلة مجاز ، وفي وصف المنافقين نفي القتر والذلة عن وجوههم ، وهنا غشيتهم الذلة ، وبولغ فيما يقابل القتر فقيل : كأنما أغشيت وجوههم قطعاً من الليل مظلماً ، وهذه مبالغة في سواد الوجوه . وقد جاء مصرحاً في قوله :{ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } من اللّه أي من سخطه وعذابه ، أو من جهته تعالى ، ومن عنده من يعصمهم كما يكون للمؤمنين وأغشيت : كسبت ، ومنه الغشاء . وكون وجوههم مسودة هي حقيقة لا مجاز ، فتكون ألوانهم مسودة . قال أبو عبد اللّه الرازي : واعلم أن حكماء الإسلام قالوا : المراد من هذا السواد ههنا سواد الجهل وظلمة الضلال ، فإن الجهل طبعه طبع الظلمة . فقوله : وجوه يومئذ سفرة ضاحكة مستبشرة ،

المراد نور العلم وروحه وبشره وبشارته ، ووجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة ، المراد منه ظلمة الجهل وكدورة الضلالة انتهى . وكثيراً ما ينقل هذا الرجل عن حكماء الإسلام في التفسير ، وينقل كلامهم تارة منسوباً إليهم ، وتارة مستنداً به ويعني : بحكماء الفلاسفة الذين خلقوا في مدة الملة الإسلامية ، وهم أحق بأنْ يسمّوا سفهاء جهلاء من أن يسموا حكماء ، إذ هم أعداء الأنبياء والمحرفون للشريعة الإسلامية ، وهم أضر على المسلمين من اليهود والنصارى . وإذا كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه نهى عن قراءة التوراة مع كونها كتاباً إلهياً ، فلأنْ ينهى عن قراءة كلام الفلاسفة أحق . وقد غلب في هذا الزمان وقبله بقليل الاشتغال بجهالات الفلاسفة على أكثر الناس ، ويسمونها الحكمة ، ويستجهلون من عرى عنها ، ويعتقدون أنهم الكملة من الناس ، ويعكفون على دراستها ، ولا تكاد تلقى أحداً منهم يحفط قرآناً ولا حديثاً عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. ولقد غضضت مرة من ابن سينا ونسبته للجهل فقال لي بعضهم وأظهر التعجب من كون أحد يغض من ابن سينا : كيف يكون أعلم الناس باللّه ينسب للجهل ؟ ولما ظهر من قاضي الجماعة أبي الوليد محمد بن أبي القاسم أحمد بن أبي الوليد بن رشد الاعتناء بمقالات الفلاسفة والتعظيم لهم ، أغرى به علمائ الإسلام بالأندلس المنصور منصور الموحدين يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن بن علي ملك المغرب والأندلس حتى أوقع به ما هو مشهور من ضربه ولعنه وإهانته وإهانة جماعة منهم على رؤوس الإشهاد ، وكان مما خوطب به المنصور في حقهم قول بعض العلماء الشعراء : خليفتنا جزاك اللّه خيرا

عن الإسلام والسعي الكريم

فحق جهاده جاهدت فيه

إلى أن فزت بالفتح العظيم

وصيرت الأنام بحسن هدى

على نهج الصراط المستقيم

فجاهد في أناس قد أضلوا

طريق الشرع بالعلم القديم

وحرق كتبهم شرقاً وغربا

ففيها كامناً شر العلوم

يدب إلى العقائد من أذاها

سموم والعقائد كالجسوم

وفي أمثالها إذ لا دواء

يكون السيف ترياق السموم

وقال : يا وحشة الإسلام من فرقة

شاغلة أنفسها بالسفه

قد نبذت دين الهدى خلفها

وادعت الحكمة والفلسفه

وقال : قد ظهرت في عصرنا فرقة

ظهورها شؤم على العصر

لا تقتدي في الدين إلا بما

سن ابن سينا أو أبو نصر

ولما حللت بديار مصر ورأيت كثيراً من أهلها يشتغلون بجهالات الفلاسفة ظاهراً من غير أن ينكر ذلك أحد

تعجبت من ذلك ، إذ كنا نشأنا في جزيرة الأندلس على التبرؤ من ذلك والإنكار له ، وأنه إذا بيع كتاب في المنطق إنما يباع خفية ، وأنه لا يتجاسر أن ينطق بلفظ المنطق ، إنما يسمونه المفعل ، حتى أنّ صاحبنا وزير الملك ابن الأحمر أبا عبد اللّه محمد بن عبد الرحمن المعروف بابن الحكيم كتب إلينا كتاباً من الأندلس يسألني أن أشتري أو أستنسخ كتاباً لبعض شيوخنا في المنطق ، فلم يتجاسر أن ينطق بالمنطق وهو وزير ، فسماه في كتابه لي بالمفعل . ولما ألبست وجوههم السواد قال : كأنما أغشيت وجوههم ، ولما كانت ظلمة الليل نهاية في السواد شبه سواد وجوههم بقطع من الليل حال اشتداد ظلمته .

وقرأ ابن كثير والكسائي قطعاً بسكون الطاء ، وهو مفرد اسم للشيء المقطوع . وقال الأخفش في قوله : بقطع من الليل ، بسواد من الليل . وأهل اللغة يقولون : القطع ظلمة آخر الليل .

وقال بعضهم : طائفة من الليل . وعلى هذه القراءة يكون قوله : مظلماً صفة لقوله : قطعاً ، كما جاء ذلك في قراءة أبي : كأنما تغشى وجوههم قطع من الليل مظلم .

وقرأ ابن أبي عبلة كذلك إلا أنه فتح الطاء .

وقيل : قطع جمع قطعة ، نحو سدر وسدرة ، فيجوز إذ ذاك أن يوصف بالمذكر نحو : نخل منقعر ، وبالمؤنث نحو نخل خاوية ، ويجوز على هذا أن يكون مظلماً حالاً من الليل كما أعربوه في قراءة باقي السبعة ، كأنما أغشيت وجوههم قطعاً بتحريك الطاء بالفتح من الليل : مظلماً بالنصب .

قال الزمخشري{ فإن قلت } : إذا جعلت مظلماً حالاً من الليل ، فما العامل فيه ؟ { قلت} : لا يخلو إما أن يكون أغشيت ، من قبل أنّ من الليل صفة لقوله : قطعاً ، فكان إفضاؤه إلى الموصوف كإفضائه إلى الصفة .

وإما أن يكون معنى الفعل في من الليل انتهى . أما الوجه الأوّل فهو بعيد ، لأنّ الأصل أن يكون العامل في الحال هو العامل في ذي الحال ، والعامل في الليل هو مستقر الواصل إليه بمن ، وأغشيت عامل في قوله : قطعاً الموصوف بقوله : من الليل ، فاختلفا فلذلك كان الوجه الأخير أولى أي : قطعاً مستقرة من الليل ، أو كائنة من الليل في حال إظلامه .

وقيل : مظلماً حال من قوله : قطعاً ، أو صفة . وذكر في هذين التوجيهين لأنّ قطعاً في معنى كثير ، فلوحظ فيه الإفراد والتذكير . وجوزوا أيضاً في قراءة من سكن الطاء أن يكون مظلماً حالاً من قطع ، وحالاً من الضمير في من .

قال ابن عطية : فإذا كان نعتاً يعني : مظلماً نعتاً لقطع ، فكان حقه أن يكون قبل الجملة ، ولكن قد يجيء بعد هذا ، وتقدير الجملة ، قطعاً استقر من الليل مظلماً على نحو قوله : { وَهَاذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ } انتهى . ولا يتعين تقدير العامل في المجرور بالفعل فيكون جملة ، بل الظاهر أن يقدر باسم الفاعل ، فيكون من قبيل الوصف بالمفرد والتقدير : كائناً من الليل مظلماً .

٢٨

انظر تفسير الآية:٢٩

٢٩

{وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ فَكَفَى } : الضمير في نحشرهم عائد على من تقدم ذكرهم من { الَّذِينَ أَحْسَنُواْ }{ وَالَّذِينَ كَسَبُواْ }

وقرأ الحسن وشيبة والقراء السبعة : نحشرهم بالنون ، وقرأت فرقة بالياء .

وقيل : يعود الضمير على الذين كسبوا السيئات ، ومنهم عابد غير اللّه ، ومن لا يعبد شيئاً . وانتصب يوم على فعل محذوف أي : ذكرهم أو خوفهم ونحوه . وجميعاً حال ، والشركاء الشياطين أو الملائكة أو الأصنام أو من عبد من دون اللّه كائناً من كان أربعة أقوال . ومن قال : الأصنام ، قال : ينفخ فيها الروح فينطقها اللّه بذلك مكان الشفاعة التي علقوا بها أطماعهم . وروي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم { أن الكفار إذا رأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب قيل لهم : اتبعوا ما كنتم تعبدون ، فيقولون واللّه لإياكم كنا نعبد ، فتقول الآلهة : فكفى باللّه شهيداً } الآية .

قال ابن عطية : فظاهر هذه الآية أنّ محاورتهم إنما هي مع الأصنام دون الملائكة وعيسى ابن مريم ، بدليل القول لهم : مكانكم أنتم وشركاؤكم ، ودون فرعون ومن عبد من الجن بدليل قولهم : إن كنا عن عبادتكم لغافلين . وهؤلاء لم يغفلوا قط عن عبادة من عبدهم . ومكانكم عده النحويون في أسماء الأفعال ، وقد ربا ثبتوا كما قال : وقولي كلما جشأت وجاشت

مكانك تحمدي أو تستريحي

أي اثبتي . ولكونها بمعنى اثبتي جزم تحمدي ، وتحملت ضميراً فأكد وعطف عليه في قوله : أنتم وشركاؤكم . والحركة التي في مكانك ودونك ، أهي حركة إعراب ، أو حركة بناء تبتني على الخلاف الذي بين النحويين في أسماء الأفعال ؟ ألها موضع من الإعراب أم لا ؟ فمن قال : هي في موضع نصب جعل الحركة إعراباً ، ومن قال : لا موضع لها من الإعراب جعلها حركة بناء . وعلى الأول عول الزمخشري فقال : مكانكم الزموا مكانكم لا تبرحوا حتى تنظروا ما يفعل بكم . واختلفوا في أنتم ، فالظاهر ما ذكرناه من أنه تأكيد للضمير المستكن في مكانكم ، وشركاؤكم عطف على ذلك الضمير المستكن وهو قول الزمخشري قال : وأنتم أكّد به الضمير في مكانكم لسده مسد قوله : الزموا وشركاؤكم عطف عليه انتهى . يعني عطفاً على الضمير المستكن ، وتقديره : الزموا ، وأنّ مكانكم قام مقامه ، فيحمل الضمير الذي في الزموا ليس بجيد ، إذ لو كان كذلك لكان مكانك الذي هو اسم فعل يتعدى كما يتعدى الزموا . ألا ترى أن اسم الفعل إذا كان الفعل لازماً كان اسم الفعل لازماً ، وإذا كان متعدياً كان متعدياً مثال ذلك : عليك زيداً لما ناب مناب ، الزم تعدى . وإليك لما ناب مناب تنح ، لم يتعد . ولكون مكانك لا يتعدى ، قدره النحويون اثبت ، واثبت لا يتعدى . قال الحوفي : مكانكم نصب بإضمار فعل أي : الزموا مكانكم أو اثبتوا . وقال أبو البقاء : مكانكم ظرف مبني لوقوعه موقع الأمر ، أي الزموا انتهى . وقد بينا أن تقدير الزموا ليس بجيد ، إذ لم تقل العرب مكانك زيداً فتعديه ، كما تعدى الزم . و

قال ابن عطية : أنتم رفع بالابتداء ، والخبر مخزيون أو مهانون ونحوه انتهى . فيكون مكانكم قد تم ، ثم أخبر أنهم كذا ، وهذا ضعيف لفك الكلام الظاهر اتصال بعض أجزائه ببعض ، ولتقدير إضمارلا ضرورة تدعو إليه ، ولقوله : فزيلنا بينهم ، إذ يدل على أنهم ثبتوا هم وشركاؤكم في مكان واحد حتى وقع التزييل بينهم وهو التفريق . ولقراءة من قرأ أنتم وشركاءكم بالنصب على أنه مفعول معه ، والعامل فيه اسم الفعل . ولو كان أنتم مبتدأ وقد حذف خبره ، لما جاز أن يأتي بعده مفعول معه تقول : كل رجل

وضيعته بالرفع ، ولا يجوز فيه النصب . وقال ابن عطية أيضاً : ويجوز أن يكون أنتم تأكيداً للضمير الذي في الفعل المقدر الذي هو قفوا أو نحوه انتهى . وهذا ليس بجيد ، إذ لو كان تأكيداً لذلك الضمير المتصل بالفعل لجاز تقديمه على الظرف ، إذ الظرف لم يتحمل ضميراً على هذا القول فيلزم تأخيره عنه ، وهو غير جائز لا تقول : أنت مكانك ، ولا يحفظ من كلامهم . والأصح أنْ لا يجوز حذف المؤكد في التأكيد المعنوي ، فكذلك هذا ، لأن التأكيد ينافي الحذف . وليس من كلامهم : أنت زيداً لمن رأيته قد شهر سيفاً ، وأنت تريد ضرب أنت زيد ، إنما كلام العرب زيداً تريد اضرب زيداً .

يقال زلت الشيء عن مكانه أزيله . قال الفراء : تقول العرب : زلت الضأن من المعز فلم تزل . وقال الواحدي : التزييل والتزيل والمزايلة التمييز والتفرق انتهى . وزيل مضاعف للتكثير ، وهو لمفارقة الخبث وهن من ذوات الياء ، بخلاف زال يزول فمادتهما مختلفة . وزعم ابن قتيبة أن زيلنا من مادة زال يزول ، وتبعه أبو البقاء . وقال أبو البقاء : فزيلنا عين الكلمة وأو لأنه من زال يزول ، وإنما قلبت لأنّ وزن الكلمة فيعل أي : زيولنا مثل بيطر وبيقر ، فلما اجتعمت الواو والياء على الشرط المعروف قلبت ياء انتهى . وليس بجيد ، لأنّ فعل أكثر من فيعل ، ولأنّ مصدره تزييل . ولو كان فيعل لكان مصدره فيعله ، فكان يكون زيلة كبيطرة ، لأنّ فيعل ملحق بفعلل ، ولقولهم في قريب من معناه : زايل ، ولم يقولوا زاول بمعنى فارق ، إنما قالوه بمعنى حاول وخالط وشرح ، فزيلنا ففرقنا بينهم وقطعنا أقرانهم ، والوصل التي كانت بينهم في الدنيا ، أو فباعدنا بينهم بعد الجمع بينهم في الموقف وبين شركائهم كقوله تعالى : { أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا } وقرأت فرقة : فزايلنا حكاه الفراء .

قال الزمخشري : كقولك صاعر خده ، ووصعر ، وكالمته وكلمته انتهى . يعني أن فاعلبمعنى فعل ، وزايل في لسان العرب بمعنى فارق . قال : وقال العذارى إنما أنت عمنا

وكان الشباب كالخليط يزايله

وقال آخر : لعمري لموت لا عقوبة بعده

لذي البث أشفى من هوى لا يزايله

والظاهر أن التزييل أو المزايلة هو بمفارقة الأجسام وتباعده .

وقيل : فرقنا بينهم في الحجة والمذهب قاله ابن عطية ، وفزيلنا . وقال : هنا ماضيان لفظاً ، والمعنى : فنزيل بينهم ونقول : لأنهما معطوفان على مستقبل ، ونفي الشركاء عبادة المشركين هو رد لقولهم : إياكم كنا نعبد ، والمعنى : إنكم كنتم تعبدون من أمركم أن تتخذوا للّه تعالى أنداداً فأطعتموهم ، ولما تنازعوا استشهد الشركاء باللّه تعالى . وانتصب شهيداً ، قيل : على الحال ، والأصح على التمييز لقبوله مِن . وتقدم الكلام في كفى وفي الياء ، وأنْ هي الخفيفة من الثقيلة . وعند القراء هي النافية ، واللام بمعنى إلا ، وقد تقدم الكلام في ذلك . واكتفاؤهم بشهادة اللّه هو على انتفاء أنهم عبدوهم . ثم استأنفوا جملة خبرية أنهم كانوا غافلين عن عبادتهم أي : لا شعور لنا بذلك . وهذا يرجح أن الشركاء هي الأصنام كما قال ابن عطية ، لأنه لو كان الشركاء ممن يعقل من إنسي أو جني أو ملك لكان له شعور بعبادتهم ، ولا شيء أعظم سبباً للغفلة من الجمادية ، إذ لا تحس ولا تشعر بشيء البتة .

٣٠

{هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّواْ إِلَى اللّه مَوْلَاهُمُ الْحَقّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } : هنالك ظرف مكان أي : في ذلك الموقف والمقام المقتضي للحيرة والدهش .

وقيل : هو إشارة إلى

الوقت ، استعير ظرف المكان للزمان أي : في ذلك الوقت .

وقرأ الإخوان وزيد بن علي : تتلوا بتاءين أي : تتبع وتطلب ما أسلفت من أعمالها ، قاله السدي . ومنه قول الشاعر : إن المريب يتبع المريبا

كما رأيت الذيب يتلو الذيبا

قيل : ويصح أن يكون من التلاوة وهي القراءة أي : تقرأ كتبها التي تدفع إليها .

وقرأ باقي السبعة : تبلوا بالتاء والبائ أي : تختبر ما أسلفت من العمل فتعرف كيف هو أقبيح أم حسن ، أنافع أم ضار ، أمقبول أم مردود ؟ كما يتعرف الرجل الشيء باختباره . وروي عن عاصم : نبلوا بنون وباء أي : نختبر . وكل نفس بالنصب ، وما أسلفت بدل من كل نفس ، أو منصوب على إسقاط الخافض أي : ما أسلفت . أو يكون نبلوا من البلاء وهو العذاب أي : نصيب كل نفس عاصية بالبلاء بسبب ما أسلفت من العمل المسيء . وعن الحسن تبلو تتسم . وعن الكلبي : تعلم .

وقيل : تذوف .

وقرأ يحيى بن وثاب : وردوا بكسر الراء ، لما سكن للإدغام نقل حركة الدال إلى حركة الراء بعد حذف حركتها . ومعنى إلى اللّه إلى عقابه .

وقيل : إلى موضع جزائه مولاهم الحق ، لا ما زعموه من أصنامهم ، إذ هو المتولي حسابهم . فهو مولاهم في الملك والإحاطة ، لا في النصر والرحمة . وقرىء الحق بالنصب على المدح نحو : الحمد للّه أهل الحمد .

وقال الزمخشري : كقولك هذا عبد اللّه الحق لا الباطل ، على تأكيد قوله : ردوا إلى اللّه انتهى . وقال أبو عبد اللّه الرازي : وردوا إلى اللّه ، جعلوا ملجين إلى الإقرار بالإلهية بعد أن كانوا في الدنيا يعبدون غير اللّه ، ولذلك قال : مولاهم الحق . وضل عنهم أي : بطل وذهب ما كانوا يفترونه من الكذب ، أو من دعواهم أنّ أصنامهم شركاء للّه سافعون لهم عنده .

٣١

{قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مّنَ السَّمَاء وَالاْرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والاْبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيّتَ مِنَ الْحَىّ } : لما بين فضائح عبدة الأوثان ، أتبعها بذكر الدلائل على فساد مذهبهم بما يوبخهم ، ويحجهم بما لا يمكن إلا الاعتراف به من حال رزقهم وحواسهم ، وإظهار القدرة الباهرة في الموت والحياة . فبدأ بما فيه قوام حياتهم وهو الرزق الذي لا بد منه ، فمن السماء بالمطر ، ومن الأرض بالنبات . فمن لابتداء الغاية وهيىء الرزق بالعالم العلوي والعالم السفلي معالم يقتصر على جهة واحدة ، تعالى توسعة منه وإحساناً . ومن ذهب إلى أنّ التقدير من أهل السماء والأرض فتكون من للتبعيض أو للبيان . ثم ذكر ملكه لهاتين الحاستين الشريفتين : السمع الذي هو سبب مدارك الأشياء ، والبصر الذي يرى ملكوت السموات والأرض . ومعنى ملكهما أنه متصرف فيهما بما يشاء تعالى من إبقاء وحفظ وإذهاب .

وقال الزمخشري : من يملك السمع والأبصار من يستطيع خلقهما وتسويتهما على الحد الذي سويا عليه من الفطرة العجيبة ، أو من يحميهما ويعصمهما من الآفات مع كثرتها في المدد الطوال ، وهما لطيفان يؤذيهما أدنى شيء بكلاءته وحفظه انتهى . ولا يظهر هذان الوجهان اللذان ذكرهما من لفظ أم من يملك السمع والأبصار . وعن عليّ كرم اللّه وجهه : سبحان من بصر بشحم ، وأسمع بعظم ، وأنطق بلحم . وأم هنا تقتضي تتدير بل دون همزة الاستفهام لقوله تعالى :{ أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } فلا تتقدّر ببل ، فالهمزة لأنها دخلت على اسم الاستفهام ، وليس إضراب إبطال به هو لانتقال من شيء إلى شيء . ونبه تعالى بالسمع والبصر على الحواس لأنهما أشرفها ، ولما ذكر تعالى سبب إدامة الحياة وسبب انتفاع الحي بالحواس ، ذكر إنشاءه تعالى واختراعه للحي من الميت ، والميت من الحي ، وذلك من باهر قدرته ، وهو إخراج الضد من ضده . وتقدم تفسير ذلك ومن يدبر الأمر شامل لما تقدم من الأشياء الأربعة المذكورة ولغيرها ، والأمور التي يدبرها

تعالى لا نهاية لها ، فلذلك جاء بالأمر الكلي بعد تفصيل بعض الأمور . واعترافهم بأنّ الرازق والمالك والمخرج والمدبر هو اللّه أي : لا يمكنهم إنكاره ولا المنافسة فيه . ومعنى أفلا تتقون : أفلا تخافون عقوبة اللّه في افترائكم وجعلكم الأصنام آلهة ؟

وقيل : أفلا تتعظون فتنتهون عن ما حذرت عنه تلك الموعظة .

٣٢

انظر تفسير الآية:٣٣

٣٣

{فَذَلِكُمُ اللّه رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } : فذلك إشارة إلى من اختص بالأوصاف السابقة ، الحق الثابت الربوبية المستوجبة للعبادة ، واعتقاد اختصاصه بالألوهية أصنامكم المربوطة الباطلة . وماذا استفهام معناه النفي ، ولذلك دخلت إلا ، وصحبه التقرير والتوبيخ ، كأنه قيل : ما بعد الحق إلا الضلال ، فالحق والضلال لا واسطة بينهما ، إذ هما نقيضان ، فمن يخطىء الحق وقع في الضلال . وماذا مبتدأ تركبت ذا مع ما فصار مجموعهما استفهاماً ، كأنه قيل :أي شيء . والخبر بعد الحق ، ويجوز أن يكون ذا موصولة ويكون خبر ما ، كأنه قيل : الذي بعد الحق ؟ وبعد صلة كذا . ولما ذكر تعالى تلك الصفات ، وأشار إلى أنّ المتصف بها هو اللّه ، وأنه مالكهم وأنه هو الحق ، ثم وبخهم على اتباع الضلال بعد وضوح الحق

قال تعالى : فأنى تصرفون ، أي كيف يقع صرفكم بعد وضوح الحق وقيام حججه عن عبادة من يستحق العبادة ، وكيف تشركون معه غيره وهو لا يشاركه في شيء من تلك الأوصاف . واستنباط كون الشطرنج ضلالاً من قوله : فماذا بعد الحق إلا الضلال ، لا يكاد يظهر ، لأنّ الآية إنما مساقها في الكفر والإيمان وعبادة الأصنام وعبادة اللّه ، وليس مساقها في الأمور الفرعية التي تختلف فيها الشرائع ، وتختلف فيها أقوال علماء ملتنا . وقد تعلق الجبائي بهذه الآية في الرد على المجبرة إذ يقولون : إنه تعالى يصرف الكفار عن الإيمان . قال : لو كان كذلك ما قال : أنى تصرفون . كما لو أعمى بصر أحدهم لا يقول : إني عميت . كذلك الكاف للتشبيه في موضع نصب ، والإشارة بذلك قيل : إلى المصدر المفهوم من تصرفون ، مثل صرفهم عن الحق بعد الإقرار به في قوله : فسيقولون اللّه حق العذاب عليهم أي : جازاهم مثل أفعالهم .

وقيل : إشارة إلى الحق .

قال الزمخشري : كذلك مثل ذلك الحق حقت كلمة ربك ، أي كما حق وثبت أنّ الحق بعد الضلال ، أو كما حق أنهم مصروفون عن الحق ، فكذلك حقت كلمة ربك . و

قال ابن عطية : كذلك أي كما كانت صفات اللّه كما وصف ، وعبادته واجبة كما تقرر ، وانصراف هؤلاء كما قدر عليهم ، واكتسبوا كذلك حقت . ومعنى فسقوا : تمردوا في كفرهم وخرجوا إلى الحد الأقصى فيه ، وأنهم لا يؤمنون بدل من كلمة ربك أي : حق عليهم انتفاء الإيمان . ويجوز أن يراد بالكلمة عدة العذاب ، ويكون أنهم لا يؤمنون تعليلاً أي : لأنهم لا يؤمنون . ويوضح هذا الوجه قراءة ابن أبي عبلة : أنهم لا يؤمنون بالكسر ، وهذا إخبار منه تعالى أنّ في الكفار من حتم اللّه بكفره وقضى بتخليده .

وقرأ أبو جعفر وشيبة والصاحبان : كلمات على الجمع هنا وفي آخر السورة .

وقرأ باقي السبعة على الافراد .

٣٤

{قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللّه يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ } : لما استفهمهم عن أشياء من صفات اللّه تعالى واعترفوا بها ، ثم أنكر عليهم صرفهم عن الحق وعبادة اللّه ، استفهم عن شيء هو سبب العبادة : وهو إبداء الخلق ، وهم يسلمون ذلك .{ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ لَيَقُولُنَّ اللّه } ثم أعاد الخلق وهم منكرون ذلك ، لكنه عطفه على يسلمونه ليعلم أيهما سواء بالنسبة إلى قدرة اللّه ، وأنّ ذلك لوضوحه وقيام برهانه ، قرن بما يسلمونه إذ لا يدفعه إلا مكابر ، إذ هو من الواضحات التي لا يختلف في إمكانها العقلاء . وجاء الشرع بوجوبه ، فوجب اعتقاده . ولما كانوا لمكابرتهم لا يقرون بذلك أمر تعالى نبيه صلى اللّه عليه وسلم أن يجيب فقال : قل اللّه يبدأ الخلق ثم يعيده ، وأبرز الجواب في جملة مبتدأة مصرح بخبرها ، فعاد الخبر فيها مطابقاً لخبر اسم الاستفهام ، وذلك تأكيد وتثبيت . ولما كان الاستفهام قبل هذا لا مندوحة لهم عن الاعتراف به ، جاءت الجملة محذوفاً منها أحد جزءيها في قوله : فسيقولون اللّه ، ولم يحتج إلى التأكيد بتصريح خبرها . ومعنى تؤفكون تصرفون وتقلبون عن اتباع الحق .

٣٥

{قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَهْدِى إِلَى الْحَقّ قُلِ اللّه يَهْدِى لِلْحَقّ أَفَمَن يَهْدِى إِلَى الْحَقّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ } : لما بين تعالى عجز أصنامهم عن الإبداء والإعادة اللذين هما من أقوى أسباب القدرة وأعظم دلائل الألوهية ، بين عجزهم عن هذا النوع من صفات الإله وهو الهداية إلى الحق وإلى مناهج الصواب ، وقد أعقب الخلق بالهداية في القرآن في مواضع قال تعالى حكاية عن الكليم :{ قَالَ رَبُّنَا الَّذِى أَعْطَى كُلَّ شَىء خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } وقال :{ الَّذِى خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِى قَدَّرَ فَهَدَى } فاستدل بالخلق والهداية على وجود الصانع ، وهما حالان للجسد والروح . ولما كانت العقول يلحقها الاضطراب والغلط ، بيّن تعالى أنه لا يهديهما إلا هو بخلاف أصنامهم ومعبوداتهم ، فإنه ما كان منها لا روح فيه جماد لا تأثير له ، وما فيه روح فليس قادراً على الهداية ، بل اللّه تعالى هو الذي يهديه . وهدى تتعدّى بنفسها إلى اثنين ، وإلى الثاني بإلى وباللام . ويهدي إلى الحق حذف مفعوله الأول ، ولا يصح أن يكون لازماً بمعنى يهتدي ، لأن مقابله إنما هو متعد ، وهو قوله قل : اللّه يهدي للحق أي يهدي من يشاء إلى الحق . وقد أنكر المبرد ما قاله الكسائي والفراء وتبعهما الزمخشري من أن يكون هدى بمعنى اهتدى ، وقال : لا نعرف هذا ، وأحق ليست أفعل تفضيل ، بل المعنى حقيق بأن يتبع . ولما كانوا معتقدين أنّ شركاءهم تهدي إلى الحق ، ولا يسلمون حصر الهداية للّه تعالى أمر نبيه صلى اللّه عليه وسلم بأن يبادر بالجواب فقال : قل اللّه يهدي للحق ، ثم عادل في السؤال بالهمزة وأم بين من هو حقيق بالاتباع ، ومن هو غير حقيق ، وجاء على الأفصح الأكثر من فصل أم مما عطفت عليه بالخبر كقوله :{ أَذالِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ } بخلاف قوله :{ أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ } وسيأتي القول في ترجيح الوصل هنا في موضعه إن شاء اللّه تعالى .

وقرأ أهل المدينة : إلا ورشا أمن لا يهدي بفتح الياء وسكون الهاء وتشديد الدال ، فجمعوا بين ساكنين . قال النحاس : لا يقدر أحد أن ينطق به . وقال المبرد : من رام هذا لا بد أن يحرك حركة خفيفة ، وسيبويه يسمي هذا اختلاس الحركة .

وقرأ أبو عمرو وقالون في رواية كذلك : إلا أنه اختلس الحركة .

وقرأ ابن عامر ، وابن كثير ، وورش ، وابن محيصن : كذلك إلا أنهم فتحوا الهاء وأصله يهتدي ، فقلب حركة التاء إلى الهاء ، وأدغمت التاء في الدال .

وقرأ حفص ، ويعقوب ، والأعمش عن أبي بكر كذلك ، إلا أنهم كسروا الهاء لما اضطر إلى الحركة حرّك بالكسر . قال أبو حاتم : هي لغة سفلى مضر .

وقرأ أبو بكر في رواية يحيى بن آدم كذلك ، إلا أنه كسر الياء . ونقل عن سيبويه أنه لا يجيز يهدي ، ويجيز تهدي ونهذي وأهدى قال : لأن الكسرة في الياء تثقل .

وقرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف ، ويحيى بن وثاب ، والأعمش : يهدي مضارع هدى .

قال الزمخشري : هذه الهداية أحق بالاتباع أم الذي لا يهدي ، أي لا يهتدي بنفسه أو لا يهدي غيره ، إلا أنْ يهديه اللّه .

وقيل : معناه أم من لا يهتدي من الأوثان إلى مكان فينتقل إليه ، إلا أن يهدي ، إلا أن ينقل أولاً يهتدي ، ولا يصح منه الاهتداء إلا بنقلة اللّه تعالى من حاله إلى أن يجعله حيواناً مطلقاً فيهديه انتهى . وتقدم إنكار المبرد ما قاله الكسائي والفراء وتبعهما الزمخشري : من أنّ هدى بمعنى اهتدى . وقال أبو علي الفارسي : وصف الأصنام بأنها لا تهتدي إلا أن تهدى ، ونحن نجدها لا نهتدي وإن هديت . فوجه ذلك أنه عامل في العبادة عنها معاملتهم في وصفها بأوصاف من يعقل ، وذلك مجاز وموجود في كثير من القرآن . و

قال ابن عطية : والذي أقول إنّ قراءة حمزة والكسائي يحتمل أن يكون المعنى أم من لا يهدي أحداً إلا أن يهدي ذلك الأحد بهداية من عند اللّه ،

وأما على غيرها من القراءات التي مقتضاها أم مَن لا يهتدي إلا أن يهدي فيتجه المعنى على ما تقدم لأبي علي الفارسي ، وفيه تجوز كثير . ويحتمل أن يكون ما ذكر اللّه من تسبيح الجمادات هو اهتداؤها .

وقيل : ثم الكلام عند قوله : أم من لا يهدي أي لا يهدي غيره ، ثم قال : إلا أن

يهدي استثناء منقطع ، أي لكنه يحتاج إلى أن يهدي كما تقول : فلان لا يسمع غيره إلا أن يسمع ، أي لكنه يحتاج إلى أن يسمع .

وقيل : أم من لا يهدي في الرؤساء المضلين انتهى . ويكون استثناء متصلاً لأنه إذ ذاك يكون فيهم قابلية الهداية ، بخلاف الأصنام . فما لكم استفهام معناه التعجب والإنكار أي : أي شيء لكم في اتخاذ هؤلاء الشركاء إذ كانوا عاجزين عن هداية أنفسهم ، فكيف يمكن أن يهدوا غيرهم ؟ كيف تحكمون استفهام آخر أي : كيف تحكمون بالباطل وتجعلون للّه أنداداً وشركاء ؟ وهاتان جملتان أنكر في الأولى ، وتعجب من اتباعهم من لا يهدي ولا يهتدي ، وأنكر في الثاني حكمهم بالباطل وتسوية الأصنام برب العالمين .

٣٦

{وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّا إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِى مِنَ الْحَقّ شَيْئًا إِنَّ اللّه عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ } : الظاهر أن أكثرهم على بابه ، لأن منهم من تبصر في الأصنام ورفضها كما قال : أربّ يبول الثعلبان برأسه

لقد هان من بالت عليه الثعالب

وقيل : المراد بأكثرهم جميعهم ، والمعنى : ما يتبع أكثرهم في اعتقادهم في اللّه وفي صفاته إلا ظناً ، ليسوا متبصرين ولا مستندين إلى برهان ، إنما ذلك شيء تلقفوه من آبائهم . والظن في معرفة اللّه لا يغني من الحق شيئاً أي : من إدراك الحق ومعرفته على ما هو عليه ، لأنه تجويز لا قطع .

وقيل : وما يتبع أكثرهم في جعلهم الأصنام آلهة ، واعتقادهم أنها تشفع عند اللّه وتقرب إليه .

وقرأ عبد اللّه : تفعلون بالتاء على الخطاب التفاتاً والجملة تضمنت التهديد والوعيد على اتباع الظن ، وتقليد الآباء .

وقيل : نزلت في رؤساء اليهود قريش .

٣٧

{وَمَا كَانَ هَاذَا الْقُرْءانُ أَن يَفْتَرِى مِن دُونِ اللّه وَلَاكِن تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبّ الْعَالَمِينَ } : لما تقدم قولهم :{ ائْتِ بِقُرْءانٍ غَيْرِ هَاذَا أَوْ بَدّلْهُ } وكان من قولهم : إنه افتراه

قال تعالى : وما كان هذا القرآن أن يفتري أي : ما صح ، ولا استقام أن يكون هذا القرآن المعجزة مفترى . والإشارة بهذا فيها تفخيم المشار إليه وتعظيمه ، وكونه جامعاً للأوصاف التي يستحيل وجودها فيه أن يكون مفترى . والظاهر أنّ أنْ يفتري هو خبر كان أي : افتراء ، أي : ذا افتراء ، أو مفترى . ويزعم بعض النحويين أنّ أنْ هذه هي المضمرة بعد لام الجحود في قولك : ما كان زيد ليفعل ، وأنه لما حذفت اللام أظهرت أنْ وأنّ اللام وأن يتعاقبان ، فحيث جيء باللام لم تأت بأن بل تقدرها ، وحيث حذفت اللام ظهرت أنْ . والصحيح أنهما لا يتعاقبان ، وأنه لا يجوز حذف اللام وإظهار أن إذ لم يقم دليل على ذلك . وعلى زعم هذا الزاعم لا يكون أنْ يفتري خبراً لكان ، بل الخبر محذوف . وأن يفتري معمول لذلك الخبر بعد إسقاط اللام ، ووقعت لكنْ هنا أحسن موقع إذ كانت بين نقيضين وهما : الكذب والتصديق المتضمن الصدق ، والذي بين يديه الكتب الإلهية المتقدمة قاله ابن عباس كما جاء مصدّقاً لما معكم . وعم الزجاج الذي بين يديه أشراط الساعة ، ولا يقوم البرهان على قريش إلا بتصديق القرآن ما في التوراة والإنجيل ، مع أن الآتي به يقطعون أنه لم يطالع تلك الكتب ولا غيرها ، ولا هي في بلده ولا قومه ، لا بتصديق الإشراط ، لأنهم لم يشاهدوا شيئاً منها . وتفصيل الكتاب تبيين ما فرض وكتب فيه من الأحكام والشرائع .

وقرأ الجمهور : تصديق وتفصيل بالنصب ، فخرجه الكسائي والفراء ومحمد بن سعدان والزجاج على أنه خبر كان مضمرة أي : ولكن كان تصديق أي مصدقاً ومفصلاً .

وقيل : انتصب مفعولاً من أجله ، والعامل

محذوف ، والتقدير : ولكن أنزل للتصديق .

وقيل : انتصب على المصدر ، والعامل فيه فعل محذوف .

وقرأ عيسى بن عمر : تفصيل وتصديق بالرفع ، وفي يوسف خبر مبتدأ محذوف أي : ولكن هو تصديق . كما قال الشاعر : ولست الشاعر السفساف فيهم

ولكن مده الحرب العوالي

أي ولكن أنا . وزعم الفراء ومن تابعه أنّ العرب إذا قالت ولكن بالواو آثرت تشديد النون ، وإذا لم تكن الواو آثرت التخفيف . وقد جاء في السبعة مع الواو التشديد والتخفيف ، ولا ريب فيه داخل في حيز الاستدراك كأنه قيل : ولكن تصديقاً وتفصيلاً منتفياً عنه الريب ، كائناً من رب العالمين .

قال الزمخشري : ويجوز أن يراد ولكن كان تصديقاً من رب العالمين وتفصيلاً منه في ذلك ، فيكون من رب العالمين متعلقاً بتصديق وتفصيل ، ويكون لا ريب فيه اعتراضاً كما تقول : زيد لا شك فيه كريم انتهى . فقوله : فيكون من رب العالمين متعلقاً بتصديق وتفصيل ، إنما يعني من جهة المعنى ،

وأما من جهة في البقرة في قوله : { ذالِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ } وجمع بينه وبين قوله :{ وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّمَّا نَزَّلْنَا}

٣٨

{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مّن دُونِ اللّه إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } : لما نفى تعالى أن يكون القرآن مفترى ، بل جاء مصدقاً لما بين يديه من الكتب وبياناً لما فيها ، ذكر أعظم دليل على أنه من عند اللّه وهو الإعجاز الذي اشتمل عليه ، فأبطل بذلك دعواهم افتراءه ، وتقدم الكلام على ذلك مشبعاً في البقرة في قوله :{ وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ } الآية . وأم متضمنة معنى بل ، والهمزة على مذهب سيبويه أي : أيقولون اختلقه . والهمزة تقرير لالتزام الحجة عليهم ، أو إنكار لقولهم واستبعاد . وقالت فرقة : أم هذه بمنزلة همزة استفهام . وقال أبو عبيدة : أم بمعنى الواو ومجازه ، ويقولون افتراه .

وقيل : الميم صلة ، والتقدير أيقولون .

وقيل : أم هي المعادلة للّهمزة ، وحذفت الجملة قبلها والتقدير : أيقرون به أم يقولون افتراه . وجعل الزمخشري قل فأتوا جملة شرط محذوفة فقال : قل إن كان الأمر كما تزعمون فأتوا أنتم على وجه الافتراء بسورة مثله ، فأنتم مثله في العربية والفصاحة والألمعية ، فأتوا بسورة مثله شبيهة به في البلاغة وحسن النظم انتهى . والضمير في مثله عائد على القرآن أي : بسورة مماثلة للقرآن ، وتقدم الكلام لنا فيما وقع به الإعجاز .

وقرأ عمرو بن قائد بسورة مثله على الإضافة أي : بسورة كتاب أو كلام مثله أي : مثل القرآن . وقال صاحب اللوامح : هذا مما حذف الموصوف منه وأقيمت الصفة مقامه أي : بصورة بشر مثله ، فالهاء في ذلك واقعة إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم ، وفي العامة إلى القرآن . وادعوا من استطعتم أن تدعوه من خلق اللّه إلى الاستعانة على الإتيان بمثله من دونن اللّه أي : من غير اللّه ، لأنه لا يقدر على أن يأتي بمثله أحد إلا اللّه ، فلا تستعينوه وحده ، واستعينوا بكل من دونه إن كنتم صادقين في أنه افتراه . وقد تمسك المعتزلة بهذه الآية على خلق القرآن قالوا : لأنه تحدّى به وطلب الإتيان بمثله وعجزوا ، ولا يمكن هذا إلا إذا كان الإتيان بمثله صحيح الوجود في الجملة ، ولو كان قديماً لكان الإتيان بمثل القديم محالاً في نفس الأمر ، فوجب أن لا يصح التحدي به . وقال أبو عبد اللّه الرازي : مراتب التحدي بالقرآن ست تحدّ بكل القرآن في :{ قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ } الآية ، وتحد بعشر سور ، وتحدّ بسورة واحدة ، وتحد بحديث مثله في قوله :{ فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مّثْلِهِ } وفي هذه الأربع طلب أن يعارض رجل يساوي الرسول في عدم التتلمذ والتعليم ، وتحد طلب منهم معارضة سورة واحدة من أي إسنان كان تعلم العلوم أو لم يتعلمها ، وفي هذه المراتب الخمس تحدى كل واحد من الخلق ، وتحد طلب من المجموع واستعانة بعض ببعض انتهى ملخصاً

٣٩

{بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ } :

قال الزمخشري : بل كذبوا ، بل سارعوا إلى التكذيب بالقرآن ، وفاجأوه في بديهة السماع قبل أن يفهموه ويعلموا كنه أمره ، وقبل أن يتدبروه ويفقهوا تأويله ومعانيه ، وذلك لفرط نفورهم عما يخالف دينهم ، وشرادهم عن مفارقة دين آبائهم . و

قال ابن عطية : هذا اللفظ يحتمل معنيين :

أحدهما : أن يريد بما الوعيد الذي توعدهم اللّه على الكفر ، وتأويله على هذا يريد به ما يؤول إليه أمره كما هو في قوله :{ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ } والآية محملها على هذا التأويل يتضمن وعيداً ، والمعنى

الثاني : أنه أراد بل كذبوا بهذا القرآن العظيم المنبىء بالغيوب الذي لم يتقدّم لهم به معرفة ، ولا أحاطوا بمعرفة غيوبه وحسن نظمه ، ولا جاءهم تفسير ذلك وبيانه . وقال أبو عبد اللّه الرازي : يحتمل وجوهاً ،

الأول : كلما سمعوا شيئاً من القصص قالوا { أَسَاطِيرُ الاْوَّلِينَ } ولم يعرفوا أن المقصود منها ليس نفس الحكاية ، بل قدرته تعالى على التصرف في هذا العالم ، ونقله أهله من عز إلى ذل ، ومن ذل إلى عز ، وبفناء الدنيا ، فيعتبر بذلك . وأن ذلك القصص بوحي من اللّه ، إذ أعلم بذلك على لسان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من غير تحريف مع كونه لم يتعلم ولم يتتلمذ .

الثاني : كلما سمعوا خروف التهجّي ولم يفهموا منها شيئاً ساء ظنهم ، وقد أجاب اللّه بقوله :{ مِنْهُ آيَاتٌ بَيّنَاتٍ } الآية .

الثالث : ظهور القرآن شيئاً فشيئاً ، فساء ظنهم وقالوا :{ لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ الْقُرْءانُ جُمْلَةً واحِدَةً } وقد أجاب تعالى وشرح في مكانه .

الرابع : القرآن مملوء من الحشر ، وكانوا ألفوا المحسوسات ، فاستبعدوا حصول الحياة بعد الموت ، فبين اللّه صحة المعاد بالدلائل الكثيرة .

الخامس : أنه مملوء من الأمر بالعبادات ، وكانوا يقولون : إله العالم غني عن طاعتنا ، وهو أجل أن يأمرنا بما لا فائدة له فيه . وأجاب تعالى بقوله :{ إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ } الآية وبالجملة فشبه الكفار كثيرة ، فلما رأوا القرآن مشتملاً على أمور ما عرفوا حقيقتها ولا اطلعوا على وجه الحكمة فيها كذبوا بالقرآن فقوله : بما لم يحيطوا بعلمه ، إشارة إلى عدم علمهم هذه الأشياء وقوله : ولما يأتهم تأويله ، إشارة إلى عدم جهدهم واجتهادهم في طلب أسرار ما تضمنه القرآن انتهى ملخصاً .

وقال الزمخشري: { فإن قلت } : ما معنى التوقع في قوله تعالى : ولم ايأتهم تأويله ؟ { قلت} : معناه أنهم كذبوا به على البديهة قبل التدبر ، ومعرفة التأويل تقليداً للآباء ، وكذبوه بعد التدبر تمرداً وعناداً فذمهم بالتسرع إلى التكذيب قبل العلم به ، وجاء بكلمة التوقع ليؤذن أنهم علموا بعد علوّ شأنه وإعجازه لما كرر عليهم التحدي ورازوا قواهم في المعارضة ، واستيقنوا عجزهم عن مثله ، فكذبوا به بغياً وحسداً انتهى . ويحتاج كلامه هذا إلى نظر . وقال أيضاً : ويجوز أن يكون المعنى : ولما يأتهم تأويله ، ولما يأتهم بعد تأويل ما فيه من الإخبار بالغيوب أي عاقبته ، حتى يتبين لهم أكذب هو أم صدق ؟ يعني : أنه كتاب معجز من جهتين : من جهة إعجاز نظمه ، ومن جهة ما فيه من الإخبار بالغيوب . فتسرعوا إلى التكذيب به قبل أن ينظروا في نظمه وبلوغه حد الإعجاز ، وقبل أن يخبروا إخباره بالمغيبات وصدقه وكذبه انتهى . وبقيت جملة الإحاطة بلم ، وجملة إتيان التأويل بلما ، ويحتاج في ذلك إلى فرق دقيق . والكاف في موضع نصب أي : مثل ذلك التكذيب كذب الذين من قبلهم ، يعني : قبل النظر في معجزات الأنبياء وقبل تدبرها من غير إنصاف من أنفسهم ، ولكن قلدوا الآباء عاندوا .

قال ابن عطية : قال الزجاج : كيف ، في موضع نصب على خبر كان ، لا يجوز أن يعمل فيه انظر ، لأن ما قبل الاستفهام لا يعمل فيه ، هذا قانون النحويين لأنهم عاملوا كيف في كل مكان معاملة الاستفهام المحض . في قولك : كيف زيد ؟ ولكيف تصرفات غير هذا تحل محل المصدر الذي هو كيفية ، وينخلع معنى الاستفهام ، ويحتمل هذا الموضع أنْ يكون منها ومن تصرفاتها قولهم : كن كيف شئت ، وانظر قول البخاري : كيف كان بدء الوحي ، فإنه لم يستقيم انتهى . وقول الزجاج : لا يجوز أن يعمل فيه انظر ، وتعليله : يريد لا يجوز أن تعمل فيه انظر لفظاً ، لكنّ الجملة في موضع نصب لا نظر معلقة ، وهي من نظر القلب . وقولابن عطية : هذا قانون النحويين إلى آخر تعليله ، ليس كما

ذكر ، بل لكيف كعنيان :

أحدهما : الاستفهام المحض ، وهو سؤال عن الهيئة ، إلا أن تعلق عنها العامل فمعناها معنى الأسماء التي يستفهم بها إذا علق عنها العامل .

والثاني : الشرط . لقول العرب : كيف تكون أكون وقوله : ولكيف تصرفات إلى آخره ، ليس كيف تحل محل المصدر ، ولا لفظ كيفية هو مصدر ، إنما ذلك نسبة إلى كيف . وقوله : ويحتمل أن يكون هذا الموضع منها ومن تصرفاتها قولهم : كن كيف شئت ، لا يحتمل أن يكون منها ، لأنه لم يثبت لها المعنى الذي ذكر من كون كيف بمعنى كيفية وادعاء مصدر كيفية .

وأما كن كيف شئت ، فكيف ليست بمعنى كيفية ، وإنما هي شرطية وهو المعنى الثاني الذي لها . وجوابها محذوف التقدير : كيف شئت فكن ، كما تقول : قم متى شئت ، فمتى اسم شرط ظرف لا يعمل فيه قم ، والجواب محذوف تقديره : متى شئت فقم ، وحذف الجواب لدلالة ما قبله عليه كقولهم : إضرب زيداً إنْ أساء إليك ، التقدير : إن أساء إليك فاضربه ، وحذف فاضربه لدلالة اضرب المتقدم عليه .

وأما قول البخاري : كيف كان بدء الوحي ؟ فهو استفهام محض ، إما على سبيل الحكاية كأنّ قائلاً سأله فقال : كيف كان بدء الوحي ؟ فأجاب بالحديث الذي فيه كيفية ذلك . والظالمين : الظاهر أنه أريد به الذين من قبلهم ، ويحتمل أن يراد به من عاد عليه ضمير بل كذبوا .

٤٠

{وَمِنهُمْ مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ } : الظاهر أنه إخبار بأنّ من كفار قريش من سيؤمن به وهو من سبقت له السعادة ، ومنهم من لا يؤمن به فيوافى على الكفر .

وقيل : هو تقسيم في الكفار الباقين على كفرهم ، فمنهم من يؤمن به باطناً ويعلم أنه حق ولكنه كذب عناد ، ومنهم من لا يؤمن به لا باطناً ولا ظاهراً ، إما لسرعة تكذيبه وكونه لم يتدبره ،

وإما لكونه نظر فيه فعارضته الشبهات وليس عنده من الفهم ما يدفعها . وفيه تفريق كلمة الكفار ، وأنهم ليسوا مستوين في اعتقاداتهم ، بل هم مضطربون وإن شملهم التكذيب والكفر .

وقيل : الضمير في ومنهم عائد على أهل الكتاب ، والظاهر وعوده على من عاد عليه ضمير أم يقولون ، وتعلق العلم بالمفسدين وحدهم تهديد عظيم لهم .

٤١

{وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لّى عَمَلِى وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِىء مّمَّا تَعْمَلُونَ } : أي وإن تمادوا على تكذيبك فتبرأ منهم قد أعذرت وبلغت كقوله :{ فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنّى بَرِىء مّمَّا تَعْمَلُونَ } ومعنى لي عملي أي : جزاء عملي ولكم جزاء عملكم . ومعنى عملي الصالح المشتمل على الإيمان والطاعة ، ولكم عملكم المشتمل على الشرك والعصيان . والظاهر أنها آية منابذة لهم وموادعة ، وضمنها الوعيد كقوله :{ قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } السورة .

وقيل : المقصود بذلك استمالتهم وتأليف قلوبهم . وقال قوم منهم ابن زيد : هي منسوخة بالقتال لأنها مكية ، وهو قول : مجاهد ، والكلبي ، ومقاتل . وقال المحققون : ليست بمنسوخة ، ومدلولها اختصاص كل واحد بأفعاله ، وثمراتها من الثواب والعقاب ، ولم ترفع آية السيف شيئاً من هذا . وبدأ في المأمور بقوله : لي عملي لأنه آكد في الانتفاء منهم وفي البراءة بقوله : أنتم بريئون مما أعمل ، لأنّ هذه الجملة جاءت كالتوكيد والتتميم لما قبلها ، فناسب أنْ تلي قوله : ولكم عملكم . ولمراعاة الفواصل ، إذ لو تقدم ذكر براءة كما تقدم ذكر لي عملي لم تقع الجملة فاصلة ، إذ كان يكون التركيب وأنتم بريئون مما أعمل .

٤٢

انظر تفسير الآية:٤٤

٤٣

انظر تفسير الآية:٤٤

٤٤

{وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِى الْعُمْىَ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ إِنَّ اللّه لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَاكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } : قال ابن عباس : نزلت الآيتان في النضر بن الحرث وغيره من المستهزئين . وقال ابن الأنباري : في قوم من اليهود انتهى . وهذه الآية فيها تقسيم من لا يؤمن من الكفار إلى هذين القسمين بعد تقسيم المكذبين إلى من يؤمن ومن لا يؤمن ، والضمير في يستمعون عائد على معنى مَن ، والعود على المعنى دون العود على اللفظ في الكثرة وهو كقوله :{ وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ } والمعنى : من يستمعون إليك إذا قرأت القرآن وعلمت الشرائع ، ثم نفى جدوى ذلك الاستماع بقوله : أفأنت تسمع الصم أي هم ، وإن استعموا إليك صم عن إدراك ما تلقيه إليهم ليس لهم وعي ولا قبول ، ولا سيما قد انضاف إلى الصمم

انتفاء العقل ، فجرى بمن عدم السمع والعقل أن لا يكون له إدراك لشيء البتة ، بخلاف أنْ لو كان الأصم عاقلاً فإنه بعقله يهتدي إلى أشياء . وأعاد في قوله : ومنهم من ينظر إليك الضمير مفرداً مذكراً على لفظ من ، وهو الأكثر في لسان العرب . والمعنى : أنهم عمي فلا تقدر على هدايتهم ، لأن السبب الذي يهتدي به إلى رؤية الدلائل فقد فقدوه ، هذا وهم مع فقد البصر قد فقدوا البصيرة ، إذ مَن كان أعمى فإنه مهديه نور بصيرته إلى أشياء بالحدس ، وهذه قد جمع بين فقدان البصر والبصيرة ، وهذا مبالغة عظيمة في انتفاء قبول ما يلقى إلى هؤلاء ، إذ جمعوا بين الصمم وانتفاء العقل ، وبين العمى وفقد البصيرة . وقوله : أفأنت : تسلية للرسول صلى اللّه عليه وسلم ، وأن لا يكترث بعدم قبولهم ، فإنّ الهداية إنما هي للّه .

قال ابن عطية : جاء ينظر على لفظ من ، وإذا جاء الفعل على لفظها فجائز أن يعطف عليه آخر على المعنى ، وإذا جاء أولاً على معناها فلا يجوز أن يعطف عليه بآخر على اللفظ ، لأن الكلام يلبس حينئذ انتهى . وليس كما قال ، بل يجوز أن تراعى المعنى أولاً فتعيد الضمير على حسب ما تريد من المعنى من تأنيث وتثنية وجمع ، ثم تراعي اللفظ فتعيد الضمير مفرداً مذكراً ، وفي ذلك تفصيل ذكر في علم النحو . والمقصود من الآيتين : إعلامه عليه السلام بأن هؤلاء الكفار قد انتهوا في النفرة والعداوة والبغض الشديد في رتبة من لا ينفع فيه علاج البتة ، لأنّ من كان أصم أحمق وأعمى فاقد البصيرة لا يمكن ذلك أن يقف على محاسن الكلام وما انطوى عليه من الإعجاز ، ولا يمكن هذا أن يرى ما أجرى اللّه على يدي رسوله من الخوارق ، فقد أيس من هداية هؤلاء . وقال الشاعر : وإذا خفيت على المعني فعاذر

أن لا تراءى مقلة عمياء

ولما ذكر تعالى هؤلاء الأشقياء ، ذكر تعالى أنه لا يظلمهم شيئاً ، إذ قد أزاح عللّهم ببعثة الرسل وتحذيرهم من عقابه ، ولكن هم ظالمو أنفسهم بالكفر والتكذيب . واحتمل هذا النفي للظلم أنْ يكون في الدنيا أي : لا يظلمهم شيئاً من مصالحهم ، واحتمل أن يكون في الآخرة وأن ما يلحقهم من العقاب هو عدل منه ، لأنهم هم الذين تسببوا فيه باكتساب ذنوبهم كما قدّر تعالى عليهم لا يسأل عما يفعل . وتقدم خلاف القراء في ، ولكنّ الناس من تشديد النون ونصب الناس وتخفيفها والرفع .

٤٥

{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّه وَمَا كَانُواْ } : قرأ الأعمش وحفص : يحشرهم بالياء راجعاً الضمير غائباً عائداً على اللّه ، إذ تقدّم { إِنَّ اللّه لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا } ولما ذكر أولئك الأشقياء أتبعه بالوعيد ، ووصف حالهم يوم القيامة والمعنى : كأن لم يلبثوا في الدنيا أو في القبور يعني : فقليل لبثهم ، وذلك لهول ما يعاينون من شدائد القيامة ، أو لطول يوم القيامة ووقوفهم للحساب . قال ابن عباس : رأوا أنّ طول أعمارهم في مقابلة الخلود كساعة .

قال ابن عطية : ويوم ظرف ، ونصبه يصح بفعل مضمر تقديره : واذكر . ويصح أن ينتصب بالفعل الذي يتضمنه قوله : كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار ، ويصح نصبه بيتعارفون ، والكاف من

قوله : كأن ، يصح أنْ تكون في موضع الصفة لليوم ، ويصح أن تكون في موضع نعت للمصدر كأنه قال : ويوم نحشرهم حشراً كأن لم يلبثوا ، ويصح أن يكون قوله : كأن لم يلبثوا في موضع الحال من الضمير في نحشرهم انتهى . أما قوله : ويصح أن ينتصب بالفعل الذي يتضمنه كأن لم يلبثوا فإنه كلام مجمل لم يبين الفعل الذي يتضمنه كأن لم يلبثوا ، ولعله أراد ما قاله الحوفي : من أن الكاف في موضع نصب بما تضمنت من معنى الكلام وهو السرعة انتهى . فيكون التقدير : ويوم نحشرهم يسرعون كأن لم يلبثوا ،

وأما قوله : والكاف من قوله كأن ، يصح أن تكون في موضع الصفة لليوم ، فلا يصح لأنّ يوم نحشرهم معرفة ، والجمل نكرات ، ولا تنعت المعرفة بالنكرة . لا يقال : إنّ الجمل الذي يضاف إليها أسماء الزمان نكرة على الإطلاق ، لأنها إن كانت في التقدير تنحل إلى معرفة ، فهن ما أضيف إليها يتعرف وإن كانت تنحل إلى نكرة كان ما أضيف إليها نكرة ، تقول : مررت في يوم قدم زيد الماضي ، فتصف يوم بالمعرفة ، وجئت ليلة قدم زيد المباركة علينا . وأيضاً فكأن لم يلبثوا لا يمكن أن يكون صفة لليوم من جهة المعنى ، لأنّ ذلك من وصف المحشورين لا من وصف يوم حشرهم . وقد تكلف بعضهم تقدير محذوف بربط فقدره : كأن لم يلبثوا قبله ، فحذف قبله أي قبل اليوم ، وحذف مثل هذا الرابط لا يجوز . فالظاهر أنها جملة حالية من مفعول نحشرهم كما قاله ابن عطية آخراً ، وكذا أعربه الزمخشري وأبو البقاء .

قال الزمخشري{ فإن قلت } : كأن لم يلبثوا ويتعارفون كيف موقعهما ؟ { قلت} : أما الأولى فحال منهم أي : نحشرهم مشبهين بمن لم يلبث إلا ساعة .

وأما الثانية فإما أن تتعلق بالظرف يعني : فتكون حالاً ،

وإما أن تكون مبينة لقوله : كأن لم يلبثوا إلا ساعة ، لأنّ التعارف يبقى مع طول العهد وينقلب تناكراً انتهى . وقال الحوفي : يتعارفون فعل مستقبل في موضع الحال من الضمير في يلبثوا وهو العامل ، كأنه قال : متعارفين ، المعنى : اجتمعوا متعارفين . ويجوز أن يكون حالاً من الهاء والميم في نحشرهم وهو العامل انتهى .

وأما قول ابن عطية : ويصح أن يكون في موضع نصب للمصدر ، كأنه قال : ويوم نحشرهم حشراً كأن لم يلبثوا ، فقد حكاه أبو البقاء فقال :

وقيل هو نعت لمصدر محذوف أي حشراً كأن لم يلبثوا قبله انتهى . وقد ذكرنا أن حذف مثل هذا الرابط لا يجوز . وجوزوا في يتعارفون أن يكون حالاً على ما تقدم ذكره من الخلاف في ذي الحال والعامل فيها ، وأن يكون جملة مستأنفة ، أخبر تعالى أنه يقع التعارف بينهم . وقال الكلبي : يعرف بعضهم بعضاً كمعرفتهم في الدنيا إذا خرجوا من قبورهم ، وهو تعارف توبيخ وافتضاح ، يقول بعضهم لبعض : أنت أضللتني وأغويتني ، وليس تعارف شفقة وعطف ، ثم تنقطع المعرفة إذا عاينوا أهوال القيامة ، كما

قال تعالى : { وَلاَ يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً يُبَصَّرُونَهُمْ}

وقيل : يعرف بعضهم بعضاً ما كانوا عليه من الخطأ والكفر . وقال الضحاك : تعارف تعاطف المؤمنين ، والكافرون لا أنساب بينهم .

وقيل : القيامة مواطن ، ففي موطن يتعارفون وفي موطن لا يتعارفون ، والظاهر أن قوله : قد خسر الذين إلى آخره جملة مستأنفة ، أخبر تعالى بخسران المكذبين بلقائه .

قال الزمخشري : هو استئناف فيه معنى التعجب ، كأنه قيل : ما أخسرهم . وقال أيضاً : وابتدأ به قد خسر على إرادة القول أي : يتعارفون بينهم قائلين ذلك .

قال ابن عطية :

وقيل إنه إخبار المحشورين على جهة التوبيخ لأنفسهم انتهى . وهذا يحتمل أن يكون كقول الزمخشري : يتعارفون بينهم قائلين ذلك ، وأن يكون كقول غيره : نحشرهم قائلين قد خسر ، فاحتمل هذا المقدر أن يكون معمولاً ليتعارفون ، وأن يكون معمولاً لنحشرهم ، ونبه على العلة الموجبة للخسران وهو التكذيب بلقاء اللّه . وما كانوا مهتدين : الظاهر أنه معطوف على قوله : قد خسر ، فيكون من كلام المحشورين إذا قلنا : إنّ قوله قد خسر من كلامهم ، أخبروا عن أنفسهم بخسرانهم في الآخرة وبانتفاء هدايتهم في الدنيا . ويحتمل أن يكون معطوفاً على صلة الذين أي : كذبوا بلقاء اللّه ، وانتفت هدايتهم في الدنيا . ويحتمل أن تكون الجملة كالتوحيد بجملة الصلة ، لأن من كذب بلقاء اللّه هو غير مهتد .

وقيل : وما كانوا مهتدين إلى غاية مصالح التجارة .

وقيل : للإيمان .

وقيل : في علم اللّه ، بل هم ممن حتم ضلالهم وقضى به .

٤٦

{وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِى نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللّه شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ } : إما هي إن

الشرطية زيد عليها ما قال ابن عطية ، ولأجلها جاز دخول النون الثقيلة . ولو كانت أن وحدها لم يجز انتهى . يعني أنّ دخول النون للتأكيد إنما يكون مع زيادة ما بعد إن ، وهذا الذي ذكره مخالف لظاهر كلام سيبويه . قال ابن خروف : أجاز سيبويه الإتيان بما ، وأن لا يؤتى بها ، والإتيان بالنون مع ما وإن لا يؤتى بها ، والإراءة هنا بصرية ، ولذلك تعدى الفعل إلى اثنين ، والكاف خطاب للرسول صلى اللّه عليه وسلم. وبعض الذي نعدهم يعني : من العذاب في الدنيا . وقد أراه اللّه تعالى أنواعاً من عذاب الكفار في الدنيا قتلاً وأسراً ونهباً للأموال وسبياً للذراري ، وضرب جزية ، وتشتيت شمل بالجلاء إلى غير بلادهم ، وما يحصل لهم في الآخرة أعظم ، لأنه العذاب الدائم الذي لا ينقطع . والظاهر أنّ جواب الشرط هو قوله : فإلينا مرجعهم ، وكذا قاله الحوفي وابن عطية .

قال ابن عطية : ومعنى هذه الآية الوعيد بالرجوع إلى اللّه تبارك وتعالى أي : إن أريناك عقوبتهم أو لم نركها فهم على كل حال راجعون إلينا إلى الحساب والعذاب ، ثم مع ذلك اللّه شهيد من أول تكليمهم على جميع أعمالهم . فثم هاهنا لترتيب الأخبار ، لا لترتيب القصص في أنفسها .

وقال الزمخشري : فإلينا مرجعهم جواب نتوفينك ، وجواب نرينك محذوف ، كأنه قيل :

وإما نرينك بعض الذي نعدهم فذاك ، أو نتوفينك قبل أن نريكه ، فنحن نريك في الآخرة انتهى . فجعل الزمخشري الكلام شرطين لهما جوابان ، ولا حاجة إلى تقدير جواب محذوف ، لأن قوله : فإلينا مرجعهم صالح أنْ يكون جواباً للشرط والمعطوف عليه . وأيضاً فقول الزمخشري : فذاك هو اسم مفرد لا ينعقد منه جواب شرط ، فكان ينبغي أن يأتي بجملة يتضح منها جواب الشرط ، إذ لا يفهم من قوله فذاك الجزء الذي حذف المتحصل به فائدة الإسناد .

وقرأ ابن أبي عبلة : ثم اللّه بفتح الثاء أي : هنالك . ومعنى شهادة اللّه على ما يفعلون مقتضاها ونتيجتها وهو العقاب ، كأنه قال : ثم اللّه معاقبهم ، وإلا فهو تعالى شهيد على أفعالهم في الدنيا والآخرة . ويجوز أن يكون المعنى أنه تعالى مؤد شهادته على أفعالهم يوم القيامة حتى تنطق جلودهم وألسنتهم وأيديهم وأرجلهم شاهدة عليهم .

٤٧

{وَلِكُلّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ قُضِىَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } : لما بين حال الرسول صلى اللّه عليه وسلم في قومه بين حال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع أقوامهم ، تسلية له وتظميناً لقلبه . ودلت الآية على أنه تعالى ما أهمل أمة ، بل بعث إليها رسولاً كما

قال تعالى :{ وَإِن مّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ } وقوله : فإذا جاء رسولهم ، إما أن كون إخباراً عن حالة ماضية فيكون ذلك في الدنيا ، ويكون المعنى : أنه بعث إلى كل أمة رسولاً يدعوهم إلى دين اللّه وينبئهم على توحيده ، فلما جاءهم بالبينات كذبوه ، فقضى بينهم أي : بين الرسول وأمته ، فأنجى الرسول وعذب المكذبون .

وإما أن يكون على حالة مستقبلة أي : فإذا جاءهم رسولهم يوم القيامة للشهادة عليهم قضى بينهم ، أي : بين الأمة بالعدل ، فصار قوم إلى الجنة وقوم إلى النار ، فهذا هو القضاء بينهم قاله : مجاهد وغيره . ويكون كقوله تعالى :{ وَجِىء بِالنَّبِيّيْنَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ}

٤٨

{وَيَقُولُونَ مَتَى هَاذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } : الضمير في ويقولون ، عائد على مشركي قريش ومن تابعهم من منكري الشحر ، استعجلوا بما وعدوا به من العذاب على سبيل الاستبعاد ، أو على سبيل الاستخفاف ، ولذلك قالوا : إن كنتم صادقين أي : لستم صادقين فيما وعدتم به فلا يقع شيء منه . وقولهم : هذا ليشهد للقول الأول في الآية قبلها ، وأنها حكاية حال ماضية . وأنّ معنى ذلك : فإذا جاءهم الرسول وكذبوه قضى بينهم في الدنيا ، وأنّ كل رسول وعد أمته بالعذاب في الدنيا وإن هي كذبت .

٤٩

{قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِى ضَرّا وَلاَ نَفْعًا إِلاَّ مَا شَاء اللّه لِكُلّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ } : لما التمسوا تعجيل العذاب أو تعجيل الساعة ، أمره عليه السلام أن يقول لهم : ليس ذلك إليّ ، بل ذلك إلى اللّه تعالى . وإذا كنت لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً فكيف أملكه لغيري ؟ أو كيف أطلع على ما لم يطلعني عليه اللّه ؟ ولكن لكل أمة أجل انفرد بعلمه تعالى . وتقدم الكلام على نظير قوله لكل أمة

أجل إلى آخر الآية في الأعراف .

وقرأ ابن سيرين : آجالهم على الجمع . وإلا ما شاء اللّه ظاهره أنه استثناء متصل ، إلا ما شاء اللّه أنْ أملكه وأقدر عليه .

وقال الزمخشري : هو استثناء منقطع أي : ولكن ما شاء اللّه من ذلك كائن ، فكيف أملك لكم الضرر وجلب العذاب . ولكل أمة أجل أي : إنّ عذابكم له أجل مضروب عند اللّه .

٥٠

انظر تفسير الآية:٥١

٥١

{قُلْ أَرَءيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ ءامَنْتُمْ بِهِ ءآلنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ } : تقدّم الكلام في أرأيتم في سورة الأنعام وقررنا هناك أن العرب تضمن أرأيت معنى أخبرني ، وأنها تتعدى إذ ذاك إلى مفعولين ، وأن المفعول الثاني أكثر ما يكون جملة استفهام ينعقد منها ما قبلها مبتدأ وخبر كقول العرب : أرأيت زيداً ما صنع ؟ المعنى : أخبرني عن زيد ما صنع . وقبل دخول أرأيت كان الكلام : زيد ما صنع ؟ وإذا تقرر هذا فأرأيتم هنا المفعول الأول لها محذوف ، والمسألة من باب الإعمال تنازع . أرأيت وإن أتاكم على قوله : عذابه ، فأعمل الثاني إذ هو المختار على مذهب البصريين ، وهو الذي ورد به السماع أكثر من إعمال الأول . فلما أعمل الثاني حذف من الأول ولم يضمر ، لأنّ إضماره مختص بالشعر ، أو قليل في الكلام على اختلاف النحويين في ذلك . والمعنى : قل لهم يا محمد أخبروني عن عذاب اللّه إن أتاكم أي شيء تستعجلون منه ، وليس شيء من العذاب يستعجله عاقل ، إذ العذاب كله مرّ المذاق موجب لنفار الطبع منه ، فتكون جملة الاستفهام جاءت على سبيل التلطف بهم ، والتنبيه لهم أن العذاب لا ينبغي أن يستعجل . ويجوز أن تكون الجملة جاءت على سبيل التعجب والتهويل للعذاب أي : أي شيء شديد تستعجلون منه ، أي : ما أشدّ وأهول ما تستعجلون من العذاب . وقال الحوفي : الرؤية من رؤية القلب التي بمعنى العلم ، لأنها داخلة على الجملة من الاستفهام ومعناها التقرير . وجواب الشرط محذوف ، وتقدير الكلام : أرأيتم ما تستعجل من العذاب المجرمون إن أتاكم عذابه انتهى . فظاهر كلام الحوفي : أن أرأيتم باقية على موضوعها الأول لم تضمن معنى أخبروني ، وأنها بمعنى أعلمتم ، وأن جملة الاستفهام سدت مسد

المفعولين ، وأنه استفهام معناه التقرير ، ولم يبين الحوفي ما يفيد جواب الشرط المحذوف .

وقال الزمخشري: { فإن قلت } : بم يتعلق الاستفهام ؟ وأين جواب الشرط ؟ { قلت} : تعلق بأريأتم ، لأن المعنى أخبروني ماذا يستعجل منه المجرمون ، وجواب الشرط محذوف : وهو تندموا على الاستعجال وتعرفوا الخطأ فيه انتهى . وما قدره الزمخشري غير سائغ ، لأنه لا يقدر الجواب إلا مما تقدمه لفظاً أو تقديراً تقول : أنت ظالم إن فعلت ، فالتقدير إن فعلت فأنت ظالم . وكذلك وإنا إن شاء اللّه لمهتدون التقدير : إن شاء اللّه نهتد . فالذي يسوغ أن يقدر إنْ أتاكم عذابه فأخبروني ماذا يستعجل .

وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون ماذا يستعجل منه المجرمون اعتراضاً والمعنى : إن أتاكم عذابه أأمنتم به بعد وقوعه حين لا ينفعكم الإيمان ؟ انتهى . أما تجويزه أن يكون ماذا جواباً للشرط فلا يصح ، لأنّ جواب الشرط إذا كان استفهاماً فلا بد فيه من الفاء ، تقول : إنْ زارنا فلان فأي رجل هو ، وإن زارنا فلان فأي يدله بذلك ، ولا يجوز حذفها إلا إن كان في ضرورة ، والمثال الذي ذكره وهو : إن أتيتك ماذا تطعمني ؟ هو من تمثيله ، لا من كلام العرب .

وأما قوله : ثم تتعلق الجملة بأرأيتم ، إن عني بالجملة ماذا يستعجل فلا يصح ذلك لأنه قد جعلها جواباً للشرط ، وإن عني بالجملة جملة الشرط فقد فسر هو أرأيتم بمعنى أخبرني ، وأخبرني تطلب متعلقاً مفعولاً ، ولا تقع جملة الشرط موقع مفعول أخبرني .

وأما تجويزه أن يكون أثم إذا ما وقع آمنتم به جواب الشرط ، وماذا يستعجل منه المجرمون اعتراضاً فلا يصح أيضاً ، لما ذكرناه من أنّ جملة الاستفهام لا تقع جواباً للشرط إلا ومعها فاء الجواب . وأيضاً فثم هنا وهي حرف عطف ، تعطف الجملة التي بعدها على ما قبلها ، فالجملة الاستفهامية معطوفة ، وإذا كانت معطوفة لم يصح أن تقع جواب شرط . وأيضاً فأرأيتم بمعنى أخبرني تحتاج

إلى مفعول ، ولا تقع جملة الشرط موقعه .

وتقدم الكلام في قوله : { بَيَاتًا } في الأعراف مدلولاً وإعراباً . والمعنى إن أتاكم عذابه وأنتم ساهون غافلون ، مما بنوم

وإما باشتغال بالمعاش والكسب ، وهو نظير قوله :{ بَغْتَةً } لأن العذاب إذا فاجأ من غير شعور به كان أشد وأصعب ، بخلاف أن يكون قد استعد له وتهيىء لحلوله ، وهذا كقوله تعالى : بياتاً وهم نائمون ضحى وهم يلعبون . ويجوز في ماذا أن يكون ما مبتدأ وذا خبره ، وهو بمعنى الذي ، ويستعجل صلته ، وحذف الضمير العائد على الموصول التقدير أي : شيء يستعجله من العذاب المجرمون . ويجوز في ماذا أن يكون كله مفعولاً كأنه قيل :أي شيء يستعجله من العذاب المجرمون . وقد جوز بعضهم أن يكون ماذا كله مبتدأ ، وخبره الجملة بعده . وضعفه أبو عليّ لخلوّ الجملة من ضمير يعود على المبتدأ . والظاهر عود الضمير في منه على العذاب ، وبه يحصل الربط لجملة الاستفهام بمفعول أرأيتم المحذوف الذي هو مبتدأ في الأصل .

وقيل : يعود على اللّه تعالى . والمجرمون هم المخاطبون في قوله : أرأيتم إن أتاكم . ونبه على الوصف الموجب لترك الاستعجال وهو الإجرام ، لأنّ من حق المجرم أنْ يخاف التعذيب على إجرامه ، ويهلك فزعاً من مجيئه وإن أبطأ ، فكيف يستعجله ؟ وثم حرف عطف وتقدمت همزة الاستفهام عليها كما تقدمت على الواو والفاء في :{ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ } وفي {أَوَ لَمْ يَسِيرُواْ } وتقدم الكلام على ذلك . وخلاف الزمخشري للجماعا في دعواه أنّ بين الهمزة وحرف العطف جملة محذوفة عطفت عليها الجملة التي بعد حرف العطف . وقال الطبري في قوله : أثم بضم الثاء ، أنّ معناه أهنالك قال : وليست ثم هذه التي تأتي بمعنى العطف انتهى . وما قاله الطبري من أنّ ثم هنا ليست للعطف دعوى ،

وأما قوله : إن المعنى أهنالك ، فالذي يبنغي أن يكون ذلك تفسير معنى ، لا أنْ ثم المضمومة الثاء معناها معنى هنالك .

وقرأ طلحة بن مصرّف : أثم بفتح الثاء ، وهذا يناسبه تفسير الطبري أهنالك .

وقرأ الجمهور آلآن على الاستفهام بالمد ، وكذا آلآن وقد عصيت .

وقرأ طلحة والأعرج : بهمزة الاستفهام بغير مد ، وهو على إضمار القول أي : قيل لهم إذا آمنوا بعد وقوع العذاب آلآن آمنتم به ، فالناصب لقوله : الآن هو آمنتم به ، وهو محذوف . قيل : تقول لهم ذلك الملائكة .

وقيل : اللّه ، والاستفهام على طريق التوبيخ . وفي كتاب اللوامح عيسى البصري وطلحة : آمنتم به الآن بوصل الهمزة من غير استفهام ، بل على الخبر ، فيكون نصبه على الظرف من آمنتم به المذكور .

وأما في العامة فنصبه بفعل مضمر يدل عليه آمنتم به المذكور ، لأن الاستفهام قد أخذ صدر الكلام ، فيمنع ما قبله أن يعمل فيما بعده انتهى . وقد كنتم جملة حالية .

قال الزمخشري : وقد كنتم به تستعجلون يعني تكذبون ، لأن استعجالكم كان على جهة التكذيب والإنكار . و

قال ابن عطية : تستعجلون مكذبين به .

٥٢

{ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ } : أي تقول لهم خزنة جهنم هذا الكلام . والظلم ظلم الكفر لا ظلم المعصية ، لأنّ من دخل النار من عصاة المؤمنين لا يخلد فيها . وثم قيل عطف على المضمر قبل الآن . ومن قرأ بوصل ألف الآن فهو استئناف إخبار عما يقال لهم يوم القيامة ، وهل تجزون توبيخ لهم وتوضيح أنّ الجزاء هو على كسب العبد .

٥٣

{وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِى وَرَبّى إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ } : أي يستخبرونك . وأحق هو الضمير عائد على العذاب .

وقيل : على الشرع والقرآن .

وقيل : على الوعيد ،

وقيل : على أمر الساعة ، والجملة في موضع نصب ف

قال الزمخشري : بيقولون أحق هو فجعل يستنبئونك تتعدى إلى واحد . و

قال ابن عطية : معناه يستخبرونك ، وهي على هذا تتعدّى إلى مفعولين : أحدهما الكاف ، والآخر في الابتداء ، والخبر فعلى ما قال : يكون يستنبئونك معلقة . وأصل استنبأ أن يتعدّى إلى مفعولين : أحدهما بعن ، تقول : استنبأت زيداً عن عمرو أي طلبت منه أن ينبئني عن عمرو ، والظاهر أنها معلقة

عن المفعول الثاني .

قال ابن عطية :

وقيل هي بمعنى يستعلمونك . قال : فهي على هذا تحتاج إلى مفاعيل ثلاثة :

أحدها : الكاف ، والابتداء ، والخبر سد مسد المفعولين انتهى . وليس كما ذكر ، لأنّ استعلم لا يحفظ كونها متعدية إلى مفاعيل ثلاثة ، لا يحفظ استعلمت زيداً عمراً قائماً فتكون جملة الاستفهام سدت مسد المفعولين ، ولا يلزم من كونها بمعنى يستعلمونك أنْ تتعدى إلى ثلاثة ، لأنّ استعلم لا يتعدّى إلى ثلاثة كما ذكرنا . وارتفع هو على أنه مبتدأ ، وحق خبره . وأجاز الحوفي وأبو البقاء أن يكون حق مبتدأ وهو فاعلى به سد مسد الخبر ، وحق ليس اسم فاعلى ولا مفعول ، وإنما هو مصدر في الأصل ، ولا يبعد أن يرفع لأنه بمعنى ثابت . وهذا الاستفهام منهم على جهة الاستهزاء والإنكار .

وقرأ الأعمش : الحق .

قال الزمخشري : وهو أدخل في الاستهزاء لتضمنه معنى التعريض بأنه باطل ، وذلك أن اللام للجنس ، فكأنه قيل : أهو الحق لا الباطل ، أو أهو الذي سميتموه الحق ؟ انتهى . وأمر تعالى نبيه أن يقول مجيباً لهم : قل أي وربي ، أي نعم وربي . وإي تستعمل في القسم خاصة ، كما تستعمل هل بمعنى قد فيه خاصة . قال معناه الزمخشري قال : وسمعتهم يقولون في التصديق أي ، وفيصلونه بواو القسم ولا ينطقون به وحده انتهى . ولا حجة فيما سمعه الزمخشري من ذلك لعدم الحجية في كلامه لفساد كلام العرب إذ ذاك وقبله بأزمان كثيرة . و

قال ابن عطية : هي لفظة تتقدّم القسم ، وهي بمعنى نعم ، ويجيء بعدها حرف القسم وقد لا يجيء ، تقول : أي ربي أي وربي انتهى . وقد كان يكتفي في الجواب بقوله : أي وربي ، إلا أنه أوكد بإظهار الجملة التي كانت تضمر بعد قوله : { أَيُّ } ، مسوقة مؤكدة بأنّ . واللام مبايعة في التوكيد في الجواب ، ولما تضمن قولهم أحق هو السؤال عن العذاب ، وكان سؤالاً عن العذاب اللاحق بهم لا عن مطلق عذاب يقع بمن يقع . قيل : وما أنتم بمعجزين أي فائتين العذاب المسؤول عنه ، بل هو لاحق بكم . واحتملت هذه الجملة أن تكون داخلة في جواب القسم ، فتكون معطوفة على الجواب قبلها . واحتمل أن تكون إخباراً ، معطوفاً على الجملة المقولة لا على جواب القسم . وأعجز الهمزة فيه للتعدية كما قال : ولن نعجزه هرباً ، لكنه كثر فيه حذف المفعول حتى قالت العرب : أعجز فلان إذا ذهب في الأرض فلم يقدر عليه ، وقال الزجاج : أي ما أنتم ممن يعجز من يعذبكم .

٥٤

{وَلَوْ أَنَّ لِكُلّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِى الاْرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ }: ولما ذكر العذاب وأقسم على حقيقته ، وأنهم لا يفلتون منه ، ذكر بعض أحوال الظالمين في الآخرة . وظلمت صفة لنفس . والظلم الشرك والكفر ، وافتدى يأتي مطاوعاً لفدى ، فلا يتعدى تقول : فديته فافتدى ، وبمعنى فدى فيتعدى ، وهنا يحتمل الوجهين . وما في الأرض أي : ما كان لها في الدنيا من الخزائن والأموال والمنافع ، وأسروا من الأضداد تأتي بمعنى أظهر . قال الفرزدق :

ولما رأى الحجاج جرد سيفه

أسر الحروري الذي كان أطهرا

وقال آخر :

فأسررت الندامة يوم نادى

برد جمال غاضرة المنادي

وتأتي بمعنى أخفى وهو المشهور فيها كقوله : ولما ذكر العذاب وأقسم على حقيقته ، وأنهم لا يفلتون منه ، ذكر بعض أحوال الظالمين في الآخرة . وظلمت صفة لنفس . والظلم الشرك والكفر ، وافتدى يأتي مطاوعاً لفدى ، فلا يتعدى تقول : فديته فافتدى ، وبمعنى فدى فيتعدى ، وهنا يحتمل الوجهين . وما في الأرض أي : ما كان لها في الدنيا من الخزائن والأموال والمنافع ، وأسروا من الأضداد تأتي بمعنى أظهر . قال الفرزدق : ولما رأى الحجاج جرد سيفه

أسر الحروري الذي كان أطهرا

وقال آخر : فأسررت الندامة يوم نادى

برد جمال غاضرة المنادي

وتأتي بمعنى أخفى وهو المشهور فيها كقوله :{ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } ويتمل هنا الوجهين . أما الإظهار فإنه ليس بيوم تصبر ولا تجلد ولا يقدر فيه الكافر على كتمان ما تاله ، ولأنّ حالة رؤية العذاب يتحسر الإنسان على اقترافه ما أوجبه ، ويظهر الندامة على ما فاته من الفوز ومن الخلاص من العذاب ، وقد قالوا : ربنا

غلبت علينا شقوتنا

وأما إخفاء الندامة فقيل : أخفى رؤساؤهم الندامة من سفلتهم حياء منهم وخوفاً من توبيخهم ، وهذا فيه بعد ، لأنّ من عاين العذاب هو مشغول بما يقاسيه منه فكيف له فكر في الحياء وفي التوبيخ الوارد من السفلة . وأيضاً وأسروا عائد على كل نفس ظلمت على المعنى ، وهو عام في الرؤساء والسفقلة .

وقيل : إخفاء الندامة هو من كونهم بهتوا لرؤيتهم ما لم يحسبوه ولا خطر ببالهم ، ومعاينتهم ما أوهى قواهم فلم يطيقوا عند ذلك بكاء ولا صراخاً . ولا ما يفعله الجازع سوى إسرار الندم والحسرة في القلوب ، كما يعرض لمن يقدم للصلب لا يكاد ينبس بكملة ، ويبقى مبهوتاً جامداً .

وأما من قال : إن معنى قوله : وأسروا الندامة ، أخلصوا للّه في تلك الندامة ، أو بدت بالندامة أسرة وجوههم أي : تكاسير جباههم ففيه بعد عن سياق الآية . والظاهر أنّ قوله : وقضى بينهم بالقسط ، جملة أخبار مستأنفة ، وليست معطوفة على ما في حيز لما ، وأن الضمير في بينهم عائد على كل نفس ظلمت . وقال الزمشري : بين الظالمين والمظلومين دل على ذلك ذكر الظلم انتهى .

وقيل : يعود على المؤمن والكافر .

وقيل : على الرؤساء والأتباع .

٥٥

انظر تفسير الآية:٥٦

٥٦

{أَلا إِنَّ للّه مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ أَلاَ إِنَّ وَعْدَ اللّه حَقٌّ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ وَهُوَ يُحْىِ وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } : قيل : تعلق هذه الآية بما قبلها من جهة أنه فرض أنّ النفس الظالمة لو كان لها ما في الأرض لافتدت به ، وهي لاشيء لها البتة ، لأنّ جميع الأشياء إنما هي بأسرها ملك للّه تعالى ، وهو المتصرف فيها ، إذ له الملك والملك . ويظهر أنّ مناسبتها لما قبلها أنه لما سألوا عما وعدوا به من العذاب أحق هو ؟ وأجيبوا بأنه حق لا محالة ، وكان ذلك جواباً كافياً لمن وفقه اللّه تعالى للإيمان ، كما كان جواباً للأعرابي حين سأل الرسول صلى اللّه عليه وسلم : آللّه أرسلك ؟ قوله عليه السلام : { اللّهم نعم } فقنع منه بإخباره صلى اللّه عليه وسلم إذ علم أنه لا يقول إلا الحق والصدق ، كما قال هرقل : لم يكن ليدع الكذب على الناس . ويكذب على اللّه انتقل من هذا الجواب إلى ذكر البرهان القاطع على حجته . وتقريره بأن القول بالنبوة والمعاد يتفرعان على إثبات الإله القادر الحكيم ، وأنّ ما سواه فهو ملكه وملكته ؟ وعن هذا بهذه الآية ، وكان قد استقصى الدلائل على ذلك في هذه السورة في قوله : { إِنَّ فِى اخْتِلَافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ } الآية وقوله :{ هُوَ الَّذِى جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء } فاكتفى هنا عن ذكرها . وإذا كان جميع ما في العالم ملكه ، وملكه كان قادراً على كل الممكنات ، عالماً بكل المعلومات ، غنياً عن جميع الحاجات ، منزهاً عن النقائص والآفات ، وبكونه قادراً على الممكنات كان قادراً على إنزال العذاب على الكفار في الدنيا والآخرة ، وقادراً على تأييد رسوله بالدلائل وإعلاء دينه ، فبطل الاستهزاء والتعجيز . وبتنزيهه عن النقائص كان منزهاً عن الخلف والكذب ، فثبت أن قوله : إلا أن للّه ما في السموات والأرض مقدمة توجب الجزم بصحة قوله . ألا إن وعد اللّه حق . وألا كلمة تنبيه دخلت على الجملتين تنبيهاً للغافل ، إذ كانوا مشغولين بالنظر إلى الأسباب الظاهرة من نسبة أشياء إلى أنها مملوكة لمن جعل له بعض تصرف فيها واستخلاف ، ولذلك

قال تعالى : ولكن أكثرهم لا يعلمون يعني : لغفلتهم عن هذه الدئل ، ثم أتبع ذلك بذكر قدرته على الإحياء والإماتة . فيجب أن يكون قادراً على إحيائه مرة ثانية ، ولذلك قال : وإليه ترجعون ، فترون ما وعد به .

وقرأ الحسن بخلاف عنه ، وعيسى ابن عمر : يرجعون بالياء على الغيبة .

وقرأ الجمهور : بالتاء على الخطاب .

٥٧

{تُرْجَعُونَ ياأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مّن رَّبّكُمْ وَشِفَاء لِمَا فِى الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ } : قيل : نزلت في قريش الذين سألوا الرسول صلى اللّه عليه وسلم أحق ؟ هو فالناس هم كفار قريش . و

قال ابن عطية : هو خطاب لجميع العالم . ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر الأدلة على الألوهية والوحدانية والقدرة ، ذكر الدلائل الدالة على صحة النبوة والطريق المؤدّي

إليها وهو القرآن ، والمتصف بهذه الأوصاف الشريفة هو القرآن .

قال الزمخشري : أي قد جاءكم كتاب جامع لهذه الفوائد من موعظة وتنبيه على التوحيد ، هو شفاء أي : دواء لما في صدوركم من العقائد الفاسدة ، ودعاء إلى الحق ورحمة لمن آمن به منكم انتهى . ومن ربكم يحتمل أن يتعلق بجاءتكم ، فمن لابتداء الغاية . ويحتمل أن يكون في موضع الصفة أي : من مواعظ ربكم ، فتتعلق بمحذوف ، فمن للتبعيض .

وفي قوله : من ربكم تنبيه على أنه من عند اللّه ليس من عند أحد .

قال ابن عطية : وجعله موعظة بحسب الناس أجمع ، وجعله هدى ورحمة بحسب المؤمنين ، وهذا تقسيم صحيح المعنى إذا تؤوّل بأن وجهه انتهى . وذكر أبو عبد اللّه الرازي هنا كلاماً كثيراً ممزوجاً بما يسمونه حكمة ، نعلم قطعاً أنّ العرب لا تفهم ذلك الذي قرره من ألفاظ القرآن ، وطوّل في ذلك ، وضرب أمثلة حسية يوقف عليها من تفسيره ، ثم قال آخر كلامه : فالحاصل أنّ الموعظة إشارة إل تطهير ظواهر الخلق عما لا ينبغي وهو الشريعة ، والشفاء إشارة إلى تطهير الأرواح عن العقائد الفاسدة والأخلاق الذميمة وهو الريقة ، والهدى إشارة إل ظهور نور الحق في قلوب الصديقين وهو الحقيقة ، والرحمة إشارة إل كونها بالغة في الكمال ، والإشراق إل حيث تصير تكمل الناقصين وهي النبوّة . فهذه درجات عقلية ومراتب برهانية مدلول عليها بهذه الألفاظ القرآنية ، لا يمكن تأخر ما تقدّم ذكره ، ولا تقدم ما تأخر ذكره .

٥٨

{قُلْ بِفَضْلِ اللّه وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ } :

قال الزمخشري عن أبيّ بن كعب : أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قرأ : قل بفضل اللّه وبرحمته فقال :{ بِكِتَابٍ اللّه } فضله الإسلام ، ورحمته ما وعد عليه انتهى . ولو صح هذا الحديث لم يمكن خلافه . قال ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، وهلال بن يساف : فضل اللّه الإسلام ، ورحمته القرآن . وقال الضحاك وزيد بن أسلم عكس هذا ، وقال أبو سعيد الخدري : الفضل القرآن ، والرحمة أن جعلهم من أهله .

وقال ابن عباس فيما روى الضحاك عنه : الفضل العلم والرحمة محمد صلى اللّه عليه وسلم.

وقال ابن عمر : الفضل الإسلام ، والرحمة تزيينه في القلوب . وقال مجاهد : الفضل والرحمة القرآن ، واختاره الزجاج . وقال خالد بن معدان : الفضل القرآن ، والرحمة السنة . وعنه أيضاً أنّ الفضل الإسلام ، والرحمة الستر . وقال عمرو بن عثمان : فضل اللّه كشف الغطاء ، ورحمته الرؤية واللقاء . وقال الحسين بن فضل : الفضل الإيمان ، والرحمة الجنة .

وقيل : الفضل التوفيق ، والرحمة العصمة .

وقيل : الفضل نعمه الظاهرة ، والرحمة نعمه الباطنة . وقال الصادق : الفضل المغفرة ، والرحمة التوفيق . وقال ذون النون : الفضل الجنان ، ورحمته النجاة من النيران . وهذه تخصيصات تحتاج إلى دلائل ، وينبغي أن يعتقد أنها تمثيلات ، لأن الفضل والرحمة أريد بهما تعيين ما ذكر وحصرهما فيه .

و

قال ابن عطية : وإنما الذي يقتضيه اللفظ ويلزم منه أنّ الفضل هو هداية اللّه إلى دينه والتوفيق إلى اتباع الشرع ، والرحمة هي عفوه وسكنى جنته التي جعلها جزاء على اتباع الإسلام والإيمان . ومعنى الآية : قل يا محمد لجميع الناس بفضل اللّه وبرحمته فليقع الفرح منكم ، لا بأمور الدنيا وما يجمع من حطامها ، فالمؤمنون يقال لهم : فليفرحوا وهم ملتبسون بعلة الفرح وسببه ، ومخلصون لفضل اللّه منتظرون لرحمته ، والكافرون يقال لهم : بفضل اللّه ورحمته فليفرحوا على معنى أنْ لو اتفق لكم أو لو سعدتم بالهداية إلى تحصيل ذلك انتهى . والظاهر أن قوله : قل بفضل اللّه وبرحمته ، فبذلك فليفرحوا جملتان ، وحذف ما تتعلق به الباء والتقدير : قل بفضل اللّه وبرحمته ليفرحوا ، ثم عطفت الجملة الثانية على الأولى على سبيل التوكيد .

قال الزمخشري : والتكرير للتقرير والتأكيد ، وإيجاب اختصاص الفضل والرحمة بالفرح دون ما عداهما من فوائد الدنيا ، فحذف أحد الفعلين لدلالة المذكور عليه ، والفاء داخلة لمعنى الشرط كأنه قيل : إن فرحوا بشيء فليخصوهما بالفرح ، فإنه لا مفروح به أحق منهما . ويجوز أن يراد بفضل اللّه وبرحمته فليعتنوا بذلك ، فليفرحوا . ويجوز أنْ يراد قد جاءتكم موعظة بفضل اللّه وبرحمته فبذلك أي : فمجيئهما فليفرحوا انتهى . أما إضمار

فليعنتوا فلا دليل عليه ،

وأما تعليقه بقوله : قد جاءتكم ، فينبغي أن يقدر ذلك محذوفاً بعد قل ، ولا يكون متعلقاً بجاءتكم الأولى للفصل بينهما بقل . وقال الحوفي : الباء متعلقة بما دل على المعنى أي : قد جاءتكم الموعظة بفضل اللّه .

وقيل : الفاء الأولى زائدة ، ويكون بذلك بدلاً قبله ، وأشير به إلى الاثنين الفضل والرحمة .

وقيل : كررت الفاء الثانية للتوكيد ، فعلى هذا لا تكون الأولى زائدة ، ويكون أصل التركيب فبذلك ليفرحوا ، وفي القول قبله يكون أصل التركيب بذلك فليفرحوا ، ولا تنافي بين الأمر بالفرح هنا وبين النهي عنه في قوله : { قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللّه لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ } لاختلاف المتعلق ، فالمأمور به هنا الفرح بفضل اللّه وبرحمته ، والمنهى هناك الفرح بجمع الأموال لرئاسة الدنيا وإرادة العلو بها والفساد والأشر ، ولذلك جاء بعده :{ وَابْتَغِ فِيمَا ءاتَاكَ اللّه الاْخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا } وقبله :{ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ } وقوله :{ لَفَرِحٌ فَخُورٌ } جاء ذلك على سبيل الذم لفرحه بإذاقة النعماء بعد الضراء ، وبأسه وكفرانه للنعماء إذا نزعت منه ، وهذه صفة مذمومة ، وليس ذلك من أفعال الآخرة . وقول من قال : إذا أطلق الفرح كان مذموماً ، وإذا قيد لم يكن مذموماً كما قال :{ فَرِحِينَ بِمَا ءاتَاهُمُ اللّه مِن فَضْلِهِ } ليس بمطرد ، إذ جاء مقيداً في الذم في قوله تعالى :{ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً } وإنما يمدح الفرح ويذم بحسب متعلقه ، فإذا كان بنيل ثواب الآخرة وإعمال البر كان محموداً ، وإذا كان بنيل لذات الدنيا وحطامها كان مذموماً .

وقرأ عثمان بن عفان ، وأبيّ ، وأنس ، والحسن ، وأبو رجاء ، وابن هرمز ، وابن سيرين ، وأبو جعفر المدني ، والسلمي ، وقتادة ، والجحدري ، وهلال بن يساف ، والأعمش ، وعمرو بن قائد ، والعباس بن الفضل الأنصاري : فلتفرحوا بالتاء على الخطاب ، ورويت عن النبي صلى اللّه عليه وسلم. قال صاحب اللوامح : وقال وقد جاء عن يعقوب كذلك ، انتهى . و

قال ابن عطية :

وقرأ أبي وابن القعقاع ، وابن عامر ، والحسن : على ما زعم هارون . ورويت عن النبي صلى اللّه عليه وسلم فلتفرحوا وتجمعون بالتاء فيهما على المخاطبة ، وهي قراءة جماعة من السلف كثيرة ، وعن أكثرهم خلاف انتهى . والجمهور بالياء على أمر الغائب . وما نقله ابن عطية أن ابن عامر قرأ فلتفرحوا بالتاء ليس هو المشهور عنه ، إنما قراءته في مشهور السبعة بالياء أمراً للغائب ، لكنه قرأ تجمعون بالتاء على الخطاب ، وباقي السبعة بالتاء على الخطاب . وفي مصحف أبي : فبذلك فافرحوا ، وهذه هي اللغة الكثيرة الشهيرة في أمر المخاطب .

وأما فليفرحوا بالياء فهي لغة قليلة . وفي الحديث :{ لتأخذوا مصافكم }

وقرأ أبو التياح والحسن : فليفرحوا بكسر اللام ، ويدل على أنّ ذلك أشير به إلى واحد عود الضمير عليه موحداً في قوله : هو خير مما يجمعون ، فالذي ينبغي أنّ قوله تعالى : بفضل اللّه وبرحمته ، على أنهما شيء واحد عبر عنه باسمين على سبيل التأكيد ، ولذلك أشير إليه بذلك ، وعاد الضمير عليه مفرداً . وقوله : مما يجمعون يعني من حطام الدنيا ومتاعها .

٥٩

{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا أَنزَلَ اللّه لَكُمْ مّن رّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ اللّه أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّه تَفْتَرُونَ } : مناسبة هذه الآية لما قبلها هي أنه لما ذكر تعالى :{ تُرْجَعُونَ ياأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مّن رَّبّكُمْ } وكان المراد بذلك كتاب اللّه المشتمل على التحليل والتحريم ، بيّن فساد شرائعهم وأحكامهم من الحلال والحرام من غير مستند في ذلك إلى وحْي . وأرأيتم هنا بمعنى أخبروني . وجوزوا في ما أنزل أن تكون موصولة مفعولاً أولا لأرأيتم ، والعائد عليها محذوف ، والمفعول الثاني قوله : آللّه أذن لكم ، والعائد على المبتدأ من الخبر محذوف تقديره : آللّه أذن لكم فيه ، وكرر قلْ قبل الخبر على سبيل التوكيد . وأن تكون ما استفهامية منصوبة بأنزل قاله : الحوفي والزمخشري .

وقيل : ما استفهامية مبتدأة ، والضمير من الخبر محذوف تقديره : آللّه أذن لكم

فيه أو به ، وهذا ضعيف لحذف هذا العائد . وجعل ما موصولة هو الوجه ، لأن فيه إبقاء . أرأيت على بابها من كونها تتعدى إلى الأول فتؤثر فيه ، بخلاف جعلها استفهامية ، فإنْ أرأيت إذ ذاك تكون معلقة ، ويكون ما قد سدّت مسد المفعولين ، والظاهر أنّ أم متصلة والمعنى : أخبروني آللّه إذن لكم في التحليل والتحريم ، فأنتم تفعلون ذلك بأذنه أم تكذبون على اللّه في نسبة ذلك إليه ؟ فنبه بتوقيفهم على أحد القسمين ، وهم لا يمكنهم ادعاء إذن اللّه في ذلك فثبت افتراؤهم .

وقال الزمخشري : ويجوز أن تكون الهمزة للإنكار ، وأم منقطعة بمعنى بل ، أتفترون على اللّه تقريراً للافتراء انتهى ، وأنزل هنا قيل معناه : خلق كقوله : { وَأَنزْلْنَا الْحَدِيدَ }{ وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ الاْنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْواجٍ}

وقيل : أنزل على بابها وهو على حذف مضاف أي : من سبب رزق وهو المطر . و

قال ابن عطية : أنزل لفظة فيها تجوز ، وإنزال الرزق إما أن يكون في ضمن إنزال المطر بالمآل ، ونزول الأمر به الذي هو ظهور الأثر في المخلوق منه المخترع والمجعول حراماً وحلالاً . قال مجاهد : هو ما حكموا به من تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام . وقال الضحاك : هو إشارة إلى قوله :{ وَجَعَلُواْ للّه مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالاْنْعَامِ نَصِيباً}

٦٠

{وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّه الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللّه لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ } : ما استفهامية مبتدأة خبرها ظن ، والمعنى : أي شي ظن المفترين يوم القيامة ، أبهم الأمر على سبيل التهديد ، والإبعاد يوم يكون الجزاء بالإحسان والإساءة . ويوم منصوب بظن ، ومعمول الظن قيل : تقدير ما ظنهم أّن اللّه فاعل بهم ، أينجيهم أم يعذبهم .

وقرأ عيسى بن عمرو : ما ظن جعله فعلاً ماضياً أيأي ظن الذين يفترون ، فما في موضع نصب على المصدر ، وما الاستفهامية قد تنوب عن المصدر تقول : ما تضرب زيداً تريد أي : رب تضرب زيداً .

وقال الشاعر : ماذا يغير ابنتي ريع عويلهما

لا يرقدان ولا بؤسي لمن رقدا

وجيء بلفظ ظنّ ماضياً لأنه كائن لا محالة فكأن قد كان ، والأولى أن يكون ظن في معنى يظن ، لكونه عاملاً في يوم القيامة . وهو ظرف مستقبل ، وفضله تعالى على الناس حيث أنعم عليهم ورحمهم ، فأرسل إليهم الرسل ، وفصل لهم الحلال والحرام ، وأثرهم لا يشكر هذه النعمة .

٦١

{وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْءانٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبّكَ مِن مّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الاْرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذالِكَ } : مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر جملة من أحوال الكفار ومذاهبهم والرد عليهم ، ومحاورة الرسول صلى اللّه عليه وسلم لهم ، وذكر فضله تعالى على الناس وأن أكثرهم لا يشكره على فضله ، ذكر تعالى اطلاعه على أحوالهم وحال الرسول معهم في مجاهدته لهم ، وتلاوة القرآن عليهم ، وأنه تعالى عالم بجميع أعمالهم ، واستطرد من ذلك إلى ذكر أولياء اللّه تعالى ، ليظهر التفاوت بين الفريقين فريق الشيطان وفريق الرحمن . والخطاب في قوله تعالى : وما تكون في شأن ، وما تتلوا للرسول صلى اللّه عليه وسلم وهو عام بجميع شؤونه عليه السلام . وما تتلوا مندرج تحت عموم شأن ، واندرج من حيث المعنى في الخطاب كل ذي شأن . وما في الجملتين نافية ، والضمير في منه عائد على شأن ، ومن قرآن تفسير للضمير ، وخص من العموم لأنّ القرآن هو أعظم شؤونه عليه السلام .

وقيل : يعود على التنزيل ، وفسر بالقرآن لأنّ كل جزء منه قرآن ، وأضمر قبل الذكر على سبيل التفخيم له .

وقيل : يعود على اللّه تعالى أي : وما تتلوا من عند اللّه من قرآن . والخطاب في قوله : ولا تعملون عام ، وكذا إلا كنا عليكم شهوداً . وولى إلا هنا الفعل غير مصحوب بقد ، لأنه قد تقدم الأفعل . والجملة بعد إلا حال وشهوداً رقباء نحصي عليكم ، وإذ معمولة لقوله : شهوداً . ولما كانت الأفعال السابقة المراد بها الحالة الدائمة وتنسحب على الأفعال الماضية كان الظرف ماضياً ، وكان المعنى : وما كنت في شأن وما تلوت من قرآن

ولا عملتم من عمل إلا كنا عليكم شهوداً إذ أفضتم فيه . وإذ تخلص المضارع لمعنى الماضي ، ولما كان قوله : إلا كنا عليكم شهوداً فيه تحذير وتنبيه عدل عن خطابه صلى اللّه عليه وسلم إلى خطاب أمته بقوله : ولا تعملون من عمل ، وإن كان اللّه شهيداً على أعمال الخلق كلهم . وتفيضون : تخوضون ، أو تنشرون ، أو تدفعون ، أو تنهضون ، أو تأخذون ، أو تنقلون ، أو تتكلمون ، أو تسعون ، أقوال متقاربة ثم واجهه تعالى بالخطاب وحده في قوله : وما يعزب عن ربك ، تشريفاً له وتعظيماً . ولما ذكر شهادته تعالى على أعمال الخلق ناسب تقديم الأرض الذي هي محل المخاطبين على السماء ، بخلاف ما في سورة سبأ ، وإن كان الأكثر تقديمها على الأرض .

وقرأ ابن وثاب ، والأعمش ، وابن مصرف ، والكسائي ، يعزب بكسر الزاي ، وكذا في سبأ . والمثقال اسم لا صفة ، ومعناه هنا وزن ذرة . والذر صغار النمل ، ولما كانت الذرة أصغر الحيوان المتناسل المشهور النوع عندنا جعلها اللّه مثالاً لأقل الأشياء وأحقرها ، إذ هي أحقر ما نشاهد . ثم قال : ولا أصغر من ذلك أي : من مثقال ذرة . ولما ذكر تعالى أنه لا يغيب عن علمه أدق الأشياء التي نشاهدها ، ناسب تقديم ولا أصغر من ذلك ، ثم أتى بقوله : ولا أكبر ، على سبيل إحاطة علمه بجميع الأشياء . ومعلوم أنّ من علم أدق الأشياء وأخفاها كان علمه متعلقاً بأكبر الأشياء وأظهرها .

وقرأ الجمهور : لا أصغر من ذلك ولا أكبر بفتح الراء فيهما ، ووجه على أنه عطف على ذرة أو على مثقال على اللفظ .

وقرأ حمزة وحده : برفع الراء فيهما ، ووجه على أنه عطف على موضع مثقال لأن من زائدة فهو مرفوع بيعزب ، هكذا وجهه الحوفي وابن عطية وأبو البقاء .

وقال الزمخشري نابعاً لاختيار الزجاج : والوجه النصب على نفي الجنس ، والرفع على الابتداء ، يكون كلاماً مبتدأ . وفي العطف عل محل مثقال ذرة أو لفظه فتحاً في موضع الجر أشكال ، لأنّ قولك : لا يعزب عنه شيء إلا في كتاب مشكل انتهى . وإنما أشكل عنده ، لأنّ التقدير يصير إلا في كتاب فيعزب ، وهذا كلام لا يصح . وخرجه أبو البقاء على أنه استثناء منقطع تقديره : لكن هو في كتاب مبين ، ويزول بهذا التقدير الإشكال . وقال أبو عبد اللّه الرازي : أجاب بعض المحققين من وجهين :

أحدهما : أنّ الاستثناء منقطع ، والآخر أنّ العزوب عبارة عن مطلق البعد ، والمخلوقات قسم أوجده اللّه ابتداء من غير واسطة كالملائكة والسموات والأرض ، وقسم أوجده بواسطة القسم الأول مثل الحوادث الحادثة في عالم الكون والفساد ، وهذا قد يتباعد في سلسلة العلية والمملوكية عن مرتبة وجود واجب الوجود ،

فالمعنى : لا يبعد عن مرتبة وجوده مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء إلا وهو في كتاب مبين ، كتبه اللّه ، وأثبت صور تلك المعلومات فيها انتهى ، وفيه بعض تلخيص . وقال الجرجاني صاحب النظم : إلا بمعنى الواو أي : وهو في كتاب مبين . والعرب تضع إلاّ موضع واو النسق كقوله : { إَلاَّ مَن ظَلَمَ } { إلا الذين ظلموا منهم } انتهى . وهذا قول ضعيف لم يثبت من لسان العرب وضع إلا موضع الواو ، وتقدم الكلام على قوله : انتهى . وهذا قول ضعيف لم يثبت من لسان العرب وضع إلا موضع الواو ، وتقدم الكلام على قوله :{ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ } وسيأتي على قوله : إلا من ظلم إن شاء اللّه تعالى .

٦٢

انظر تفسير الآية:٦٤

٦٣

انظر تفسير الآية:٦٤

٦٤

{أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّه لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيواةِ الدُّنْيَا وَفِى الاْخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّه ذالِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}

أولياء اللّه هم الذين يتولونه بالطاعة ويتولاهم بالكرامة . وقد فسر ذلك في قوله : { الَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } وعن سعيد بن جبير : أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سئل عن أولياء اللّه فقال :{ هُمُ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّه } يعني السمت والهيئة .

وعن ابن عباس : الإخبات والسكينة .

وقيل : هم المتحابون في اللّه .

قال ابن عطية : وهذه الآية يعطي ظاهرها أن من آمن واتقى فهو داخل في أولياء اللّه ، وهذا هو الذي تقتضيه الشريعة في الولي ، وإنما نبهنا هذا التنبيه حذراً من مذهب الصوفية وبعض الملحدين في الولي انتهى . وإنما قال : حذراً من مذهب الصوفية ، لأن بعضهم نقل عنه أنّ الولي أفضل من النبي ، وهذا لا يكاد يخطر في قلب مسلم . ولابن العربي الطائي كلام في الولي وفي غيره نعوذ باللّه منه . وعن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : { إنّ من عباد اللّه عباداً ما هم بأنبياء ولا شهداء ، يغبطهم الأنبياء والشهداء بمكانهم من اللّه } قالوا : يا رسول اللّه ومن هم ؟ قال :  { قوم تحابوا بروح اللّه على غير أرحام ولا أموال يتعاطونها ، فواللّه إنّ وجوههم لتنور ، وإنهم لعلى منابر من نور ، لا يخافون إذا خاف الناس ، ولا يحزنون إذا حزن الناس ، ثم قرأ : ألا إن أولياء اللّه } الآية وتقدم تفسير لا خوف عليهم ولا هم يحزنون . والذين يحتمل أن يكون منصوباً على الصفة قاله الزمخشري ، أو على البدل قاله ابن عطية ، أو بإضمار أمدح ، ومرفوعاً على إضمارهم ، أو على الابتداء ، والخبر لهم البشرى . وأجاز الكوفيون رفعه على موضع أولياء نعتاً ، أو بدلاً ، وأجيز فيه الخبر بدلاً من ضمير عليهم .

وفي قوله : وكانوا يتقون ، إشعار بمصاحبتهم للتقوى مدة حياتهم ، فحالهم في المستقبل كحالهم في الماضي . وبشراهم في الحياة الدنيا تظاهرت الروايات عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { أنها الرؤيا الصالحة يراها المؤمن} أو { ترى له} فسرها بذلك وقد سئل . وعنه في صحيح مسلم :  { لم يبق من المبشرات إلا الرؤيا الصالحة } وقال قتادة والضحاك : هي ما يبشر به المؤمن عند موته وهو حي عند المعاينة .

وقيل : هي محبة الناس له ، والذكر الحسن . وسئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن الرجل يعمل العمل للّه ويحبه الناس : فقال :  { تلك عاجل بشرى المؤمن } وعن عطاء : لهم البشرى عند الموت تأتيهم الملائكة بالرحمة .

قال تعالى : { اسْتَقَامُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَئِكَةُ } الآية

قال ابن عطية : ويصح أن تكون بشرى الدنيا في القرآن من الآيات المبشرات ، ويقوي ذلك قوله في هذه الآية : لا تبديل لكلمات اللّه ، وإن كان ذلك كله يعارضه قول النبي صلى اللّه عليه وسلم : { هي الرؤيا } إلا إن قلنا : إنّ النبي صلى اللّه عليه وسلم أعطى مثالاً من البشرى وهي تعم جميع البشر . وبشراهم في الآخرة تلقى الملائكة إياهم مسلمين مبشرين بالنور والكرامة ، وما يرون من بياض وجوههم ، وإعطاء الصحف بأيمانهم ، وما يقرؤون منها ، وغير ذلك من البشارات . لا تبديل لكلمات اللّه ، لا تغيير لأقواله ، ولا خلف في مواعيده كقوله : { مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَىَّ } والظاهر أنّ ذلك إشارة إلى التبشير والبشرى في معناه .

قال الزمخشري : وذلك إشارة إلى كونهم مبشرين في الدارين . و

قال ابن عطية : إشارة إلى النعيم الذي وقعت به البشرى .

٦٥

انظر تفسير الآية:٦٦

٦٦

{وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ للّه جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ أَلا إِنَّ للّه مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِى الاْرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّه شُرَكَاء إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ}:

إما أن يكون قولهم أريد به بعض أفراده وهو التكذيب والتهديد وما يتشاورون به في أمر الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، فيكون من إطلاق العام وأريد به الخاص .

وإما أن يكون مما حذفت منه الصفة المخصصة أي : قولهم الدال على تكذيبك ومعاندتك ، ثم استأنف بقوله : إنّ العزة للّه جميعاً أي : لا عزة لهم ولا منعة ، فهم لا يقدرون لك على شيء ولا يؤذونك ، إن الغلبة والقهر للّه ، وهو القادر على الانتقام منهم ، فلا يعازه شيء ولا يغالبه . وكأنّ قائلاً قال : لم لا يحزنه قولهم وهو مما يحزن ؟ فقيل : إنّ العزة للّه جميعاً ، ليس لهم منها شيء .

وقرأ أبو حيوة : أنّ العزة بفتح الهمزة وليس معمولاً لقولهم : لأن ذلك لا يحزن الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، إذ هو قول حق . وخرجت هذه القراءة على التعليل أي : لا يقع منك حزن لما يقولون ، لأجل أنّ العزة للّه جميعاً . ووجهت أيضاً على أن يكون إنّ العزة بدل من قولهم ولا يظهر هذا التوجيه .

قال الزمخشري : ومن جعله بدلاً من قولهم ثم أنكره ، فالمنكر هو تخريجه لا ما أنكره من القرآن . وقال القاضي : فتحها شاذ يقارب الكفر ، وإذا كسرت كان استئنافاً ، وهذا يدل على فضيلة علم الإعراب . وقال ابن قتيبة : لا يجوز فتح إن في هذا الموضع وهو كفر وغلو ، وإنما قال القاضي وابن قتيبة بناء منهما على أن أن معمولة لقولهم ، وقد ذكرنا توجيه ذلك على التعليل وهو توجيه صحيح . هو السميع لما يقولون ، العليم لما يريدون .

وفي هذه الآية تأمين للرسول صلى اللّه عليه وسلم من إضرار الكفار ، وأن اللّه تعالى يديه عليهم وينصره . { كَتَبَ اللّه لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى }{ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا } وقال الأصم : كانوا يتعززون بكثرة خدمهم وأموالهم ، فأخبر أنه قادر على أن يسلب منهم ملك الأشياء ، وأن ينصرك وينقل إليك أموالهم وديارهم انتهى . ولا تضاد بين قوله : إن العزة للّه جميعاً ، وقوله :{ وَللّه الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } لأكن عزتهم إنما هي باللّه ، فهي كلها للّه .{ أَلا إِنَّ للّه مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَمَن فِى الاْرْضِ وما يبتبع الذين يدعون من دون اللّه شركاء إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون}

المناسبة ظاهرة في هذه الآية لما ذكرأن العزة له تعالى وهي القهر والغلبة ، ذكر ما يناسب القهر وهو كون المخلوقات ملكاً له تعالى ، ومن الأصل فيها أن تكون للعقلاء ، وهنا هي شاملة لهم ولغيرهم على حكم التغليب ، وحيث جيء بما كان تغليباً للكثرة إذ أكثر المخلوقات لا تعقل .

وقال الزمخشري : يعني العقلاء المميزين وهم الملائكة والثقلان ، وإنما خصهم ليؤذن أنّ هؤلاء إذا كانوا له في ملكه فهم عبيد كلهم ، لا يصلح أحد منهم للربوبية ، ولا أن يكون شريكاً فيها ، فما دونهم مما لا يعقل أحق أن لا يكون نداً وشريكاً . ويدل على أنّ من اتخذ غيره رباً من ملك أو إنسي فضلاً عن صنم أو غير ذلك ، فهو مبطل تابع لما أدّى إليه التقليد وترك النظر . والظاهر أنّ ما نافية ، وشركاء مفعول يتبع ، ومفعول يدعون محذوف لفهم المعنى تقديره : آلهة أو شركاء أي : أنّ الذين جعلوهم آلهة وأشركوهم مع اللّه في الربوبية ليسوا شركاء حقيقة ، إذ الشركة في الألوهية مستحيلة ، وإن كانوا قد أطلقوا عليهم اسم الشركاء . وجوزوا أن تكون ما استفهامية في موضع نصب بيتبع ، وشركاء منصوب بيدعون أي : وأي شيء يتبع على تحقير المتبع ، كأنه قيل : من يدعو شريكاً للّه لا يتبع شيئاً . وأجاز الزمخشري أن تكون ما موصولة عطفاً على من ، والعائد محذوف أي : والذي يتبعه الذين يدعون من دون اللّه شركاء أي : وله شركاؤهم . وأجاز غيره أن تكون ما موصولة في موضع رفع على الابتداء ، والخبر محذوف تقديره : والذي يتبعه المشركون باطل .

وقرأ السلمي : تدعون بالتاء على الخطاب .

قال ابن عطية : وهي قراءة غير متجهة .

وقال الزمخشري :

وقرأ علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه تدعون بالتاء ، ووجهه أن يحمل وما يتبع على الاستفهام أي : وأي شيء يتبع الذين تدعونهم شركاء من الملائكة والنبيين ، يعني : أنهم يبتعون اللّه تعالى ويطيعونه ، فما لكم لا تفعلون مثل كقوله تعالى :{}

المناسبة ظاهرة في هذه الآية لما ذكرأن العزة له تعالى وهي القهر والغلبة ، ذكر ما يناسب القهر وهو كون المخلوقات ملكاً له تعالى ، ومن الأصل فيها أن تكون للعقلاء ، وهنا هي شاملة لهم ولغيرهم على حكم التغليب ، وحيث جيء بما كان تغليباً للكثرة إذ أكثر المخلوقات لا تعقل .

وقال الزمخشري : يعني العقلاء المميزين وهم الملائكة والثقلان ، وإنما خصهم ليؤذن أنّ هؤلاء إذا كانوا له في ملكه فهم عبيد كلهم ، لا يصلح أحد منهم للربوبية ، ولا أن يكون شريكاً فيها ، فما دونهم مما لا يعقل أحق أن لا يكون نداً وشريكاً . ويدل على أنّ من اتخذ غيره رباً من ملك أو إنسي فضلاً عن صنم أو غير ذلك ، فهو مبطل تابع لما أدّى إليه التقليد وترك النظر . والظاهر أنّ ما نافية ، وشركاء مفعول يتبع ، ومفعول يدعون محذوف لفهم المعنى تقديره : آلهة أو شركاء أي : أنّ الذين جعلوهم آلهة وأشركوهم مع اللّه في الربوبية ليسوا شركاء حقيقة ، إذ الشركة في الألوهية مستحيلة ، وإن كانوا قد أطلقوا عليهم اسم الشركاء . وجوزوا أن تكون ما استفهامية في موضع نصب بيتبع ، وشركاء منصوب بيدعون أي : وأي شيء يتبع على تحقير المتبع ، كأنه قيل : من يدعو شريكاً للّه لا يتبع شيئاً . وأجاز الزمخشري أن تكون ما موصولة عطفاً على من ، والعائد محذوف أي : والذي يتبعه الذين يدعون من دون اللّه شركاء أي : وله شركاؤهم . وأجاز غيره أن تكون ما موصولة في موضع رفع على الابتداء ، والخبر محذوف تقديره : والذي يتبعه المشركون باطل .

وقرأ السلمي : تدعون بالتاء على الخطاب .

قال ابن عطية : وهي قراءة غير متجهة .

وقال الزمخشري :

وقرأ علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه تدعون بالتاء ، ووجهه أن يحمل وما يتبع على الاستفهام أي : وأي شيء يتبع الذين تدعونهم شركاء من الملائكة والنبيين ، يعني : أنهم يبتعون اللّه تعالى ويطيعونه ، فما لكم لا تفعلون مثل كقوله تعالى :{ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبّهِمُ الْوَسِيلَةَ } انتهى . وأنّ نافية أي : ما يتبعون إلا ظنهم أنهم شركاء . ويخرصون : يقدرون . ومن قرأ تدعون بالتاء كان

قوله : إن يتبعون التفاتاً ، إذ هو خروج من خطاب إلى غيبة .

٦٧

{هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } : هذا تنبيه منه تعالى على عظيم قدرته وشمول نعمته لعباده ، فهو المستحق لأنْ يفرد بالعبادة لتسكنوا فيه مما تقاسون من الحركة والتردّد في طلب المعاش وغيره بالنهار ، وأضاف الأبصار إلى النهار مجازاً ، لأن الأبصار تقع فيه كما قال :

ونمت وما ليل المطيّ بنائم

أي : يبصرون فيه مطالب معايشهم . وقال قطرب : يقال أظلم الليل صار ذا ظلمة ، وأضاء النهار وأبصر أي صار ذا ضياء وبصر انتهى . وذكر علة خلق الليل وهي قوله : لتسكنوا فيه ، وحذفها من النهار ، وذكر وصف النهار وحذفه من الليل ، وكل من المحذوف يدل على مقابله ، والتقدير : جعل الليل مظلماً لتسكنوا فيه ، والنهار مبصراً لتحركوا فيه في مكاسبكم وما تحتاجون إليه بالحركة ، ومعنى تسمعون : سماع معتبر .

٦٨

انظر تفسير الآية:٦٩

٦٩

{قالوا اتخذ اللّه ولداً سبحانه هو الغني له ما في السموات وما في الأرض إن عندكم من سلطان بهذا أتقولون على اللّه ما لا تعلمون . قل إن الذين يفترون على اللّه الكذب لا يفلحون . متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون } : الضمير في قالوا عائد على من نسب إلى اللّه الولد ، ممن قال الملائكة بنات اللّه ، أو عزير ابن اللّه ، أو المسيح ابن اللّه ، وسبحانه : تنزيه من اتخاذ الولد وتعجب ممن يقول ذلك ، هو الغني علة لنفي الولد ، لأنّ اتخاذ الولد إنما يكون للحاجة إليه ، واللّه تعالى غير محتاج إلى شيء ، فالولد منتف عنه ، وكل ما في السموات والأرض ملكه فهو غني عن اتخاذ الولد . وأنْ نافية ، والسلطان الحجة أي : ما عندكم من حجة بهذا القول . قال الحوفي : وبهذا متعلق بمعنى الاستقرار يعني : الذي تعلق به الظرف . وتبعه الزمخشري فقال : الباء حقها أن تتعلق بقوله : إن عندكم على أن يجعل القول مكاناً للسلطان كقولك : ما عندكم بأرضكم نور ، كأنه قيل : إنّ عندكم فيما تقولون سلطان . وقال أبو البقاء : وبهذا متعلق بسلطان أو نعت له ، وأتقولون استفهام إنكار وتوبيخ لمن اتبع ما لا يعلم ، ويحتج بذلك في إبطال التقليد في أصول الدين ، واستدل بها نفاة القياس وإخبار الآحاد . ولما نفى البرهان عنهم جعلهم غير عالمين ، فدل على أن كل قول لا برهان عليه لقائله فذلك جهل وليس بعلم . والذين يفترون على اللّه الكذب عام يشمل من نسب إلى اللّه الولد ، ومن قال في اللّه وفي صفاته قولاً بغير علم وهو داخل في الوعيد بانتفاء الإفلاح ، ولما نفى عنهم الفلاح وكان لهم حظ من إفلاحهم في الدنيا لحظوظ فيها من مال وجاه وغير ذلك قيل : متاع قليل جواب على تقدير سؤال ، كان قائلاً قال : كيف لا يفلحون وهم في الدنيا مفلحون بأنواع مما يتلذذون به ، فقيل : ذلك متاع في الدنيا ، أو لهم متاع في الدنيا زائل لا بقاء له ، ثم يلقون الشقاء المؤبد في الآخرة .

٧١

{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ ياقَوْمِ قَوْمٍ أَن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِى وَتَذْكِيرِى بِآيَاتِ اللّه فَعَلَى اللّه تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً } : لما ذكر تعالى الدلائل على وحدانيته ، وذكر ما جرى بين الرسول وبين الكفار ، ذكر قصصاً من قصص الأنبياء وما جرى هم مع قومهم من الخلاف وذلك تسلية للرسول صلى اللّه عليه وسلم ، وليتأسى بمن قبله من الأنبياء فيخف عليه ما يلقى منهم من التكذيب وقلة الاتباع ، وليعلم المتلوّ عليهم هذا القصص عاقبة من كذب الأنبياء ، وما منح اللّه نبيه من العلم بهذا القصص وهو لم يطالع كتاباً ولا صحب عالماً ، وأنها طبق ما أخبر به . فدل ذلك على أن اللّه أوحاه إليه وأعلمه به ، وأنه نبي لا شك فيه . والضمير في عليهم عائد على أهل مكة الذين تقدم ذكرهم . وكبر معناه عظم مقامي أي : طول مقامي فيكم ، أو قيامي للوعظ . كما يحكى عن عيسى عليه السلام أنه كان يعظ الحواريين قائماً ليروه وهم قعود ، وكقيام الخطيب ليسمع الناس وليروه ، أو نسب ذلك إلى مقامه والمراد نفسه كما تقول : فعلت كذا لمكان فلان ، وفلان ثقيل الظل تريد لأجل فلان وفلان ثقيل .

قال ابن عطية : ولم يقرأ هنا بضم الميم انتهى . وليس كما ذكر ، بل قرأ مقامي بضم الميم أبو مجلز وأبو رجاء وأبو الجوزاء . والمقام الإقامة بالمكان ، والمقام مكان القيام . والتذكير وعظه إياهم وزجرهم عن المعاصي ، وجواب الشرط محذوف تقديره : فافعلوا ما شئتم .

وقيل : الجواب فعلى اللّه توكلت . وفأجمعوا معطوف على الجواب ، وهو لا يظهر لأنه متوكل على اللّه دائماً . وقال الأكثرون

الجواب فأجمعوا ، وفعلى اللّه توكلت جملة اعتراض بين الشرط وجزائه كقوله : أما تريني قد نحلت ومن يكن

غرضاً لأطراف الأسنة ينحل فلرب أبلج مثل ثقلك بادن ضخم على ظهر الجواد مهبل

وقرأ الجمهور : فأجمعوا من أجمع الرجل الشيء عزم عليه ونواه . قال الشاعر : أجمعوا أمرهم بليل فلما

أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء

وقال آخر : يا ليت شعري والمنى لا تنفع

هل أعذرت يوماً وأمري مجمع

وقال أبو قيد السدوسي : أجمعت الأمر أفصح من أجمعت عليه . وقال أبو الهيثم : أجمع أمره جعله مجموعاً بعدما كان متفرقاً ، قال : وتفرقته أنه يقول مرة أفعل كذا ، ومرة أفعل كذا ، فإذا عزم على أمر واحد قد جعله أي : جعله جميعاً ، فهذا هو الأصل في الإجماع ، ثم صار بمعنى العزم حتى وصل بعلى ، فقيل : أجمعت على الأمر أي عزمت عليه ، والأصل أجمعت الأمر انتهى . وعلى هذا القراءة يكون وشركاءكم عطفاً على أمركم على حذف مضاف أي : ك وأمر شركائكم ، أو على أمركم من غير مراعاة محذوف . لأنه يقال أيضاً : أجمعت شركائي ، أو منصوباً بإضمار فعل أي : وادعوا شركاءكم ، وذلك بناء على أنه لا يقال أجمعت شركائي يعني في الأكثر ، فيكون نظير قوله : فعلفتها تبناً وماء باردا

حتى شتت همالة عيناها

في أحد المذهبين أي : وسقيتها ماء بارداً ، وكذا هي في مصحف أبي . وادعوا شركاءكم ، وقال أبو علي : وقد تنصب الشركاء بواو مع كما قالوا : جاء البرد والطيالسة . ولم يذكر الزمخشري في نصب ، وشركاءكم غير قول أبي على أنه منصوب بواو مع ، وينبغي أن يكون هذا التخريج عل أنه مفعول معه من الفاعل وهو الضمير في فاجمعوا لا من المفعول الذي هو أمركم ، وذلك على أشهر الاستعمالين . لأنه يقال : أجمع الشركاء ، ولا يقال جمع الشركاء أمرهم إلا

قليلاً ، ولا أجمعت الشركاء إلا قليلاً . وفي اشتراط صحة جواز العطف فيما يكون مفعولاً معه خلاف ، فإذا جعلناه من الفاعل كان أولى .

وقرأ الزهري ، والأعمش ، والجحدري ، وأبو رجاء ، والأعرج ، والأصمعي عن نافع ، ويعقوب : بخلاف عنه فاجمعوا بوصل الألف وفتح الميم من جمع ، وشركاءكم عطف على أمركم لأنه يقال : شركائي ، أو على أنه مفعول معه ، أو على حذف مضاف أي : ذوي الأمر منكم ، فجرى على المضاف إليه ما جرى على المضاف ، لو ثبت قاله أبو علي . وفي كتاب اللوامح : أجمعت الأمر أي جعلته جميعاً ، وجمعت الأموال جميعاً ، فكان الإجماع في الإحداث والجمع في الإعيان ، وقد يستعمل كل واحد مكان الآخر . وفي التنزيل : { فَجَمَعَ كَيْدَهُ } انتهى .

وقرأ أبو عبد الرحمن ، والحسن ، وابن أبي إسحاق ، وعيسى بن عمر ، وسلام ، ويعقوب فيما روي عنه : وشركاؤكم بالرفع ، ووجه بأنه عطف على الضمير في فأجمعوا ، وقد وقع الفصل بالمفعول فحسن ، وعلى أنه مبتدأ محذوف الخبر لدلالة ما قبله عليه أي : وشركاؤكم فليجمعوا أمرهم . وقرأت فرقة : وشركائكم بالخفض عطفاً على الضمير في أمركم أي : وأمر شركائكم فحذف كقول الآخر : أكل امرىء تحسبين أمرءا

وتار توقد بالليل ناراً

أي وكل نار ، فحذف كل لدلالة ما قبله عليه . والمراد بالشركاء الأنداد من دون اللّه ، أضافهم إليهم إذ هم يجعلونهم شركاء بزعمهم ، وأسند الإجماع إلى الشركاء على وجه التهكم كقوله تعالى :{ قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ } أو يراد بالشركاء من كان على دينهم وطريقتهم . قال ابن الأنباري : المراد من الأمر هنا وجود كيدهم ومكرهم ، فالتقدير : لا تتركوا من أمركم شيئاً إلا أحضرتموه انتهى . وأمره إياهم بإجماع أمرهم دليل على عدم مبالاته بهم ثقة بما وعده ربه من كلاءته وعصمته ، ثم لا يكن أمركم عليكم غمة أي حالكم معي وصحبتكم لي غماً ، وهما أي : ثم أهلكوني لئلا يكون عيشكم بسببي غصة ، وحالكم عليكم غمة . والغم والغمة كالكرب ، والكربة قال أبو الهيثم : هو من قولهم غم علينا الهلال فهو مغموم إذا التمس فلم ير . وقال طرفة : لعمرك ما أمري عليّ بغمة

نهاري ولا ليلي عليّ بسرمد

وقال الليث : يقال : إنه لفي غمة من أمره إذا لم يتبين له . وقال الزجاج : أمركم ظاهراً مكشوفاً ، وحسنه الزمخشري فقال : وقد ذكر القول الأول الذي يراد بالأمر فقال : والثاني أن يراد به ما أريد بالأمر الأول . والغمة السترة ، من عمه إذا ستره . ومنه قوله صلى اللّه عليه وسلم : { ولا غمة في فرائض اللّه تعالى } أي لا تستر ولكن يجاهر بها ، يعني : ولا يكن قصدكم إلى إهلاكي مستوراً عليكم ، بل مكشوفاً مشهوراً تجاهرون به انتهى . ومعنى اقضوا : إلى أنفذوا قضاءكم

نحوي ، ومفعول اقضوا محذوف أي : اقضوا إليّ ذلك الأمر وامضوا في أنفسكم ، واقطعوا ما بيني وبينكم .

وقرأ السري بن ينعم : ثم أفضوا بالفاء وقطع الألف ، أي : انتهوا إليّ بشركم من أقضى بكذا انتهى إليه .

وقيل : معناه أسرعوا .

وقيل : من أفضى إذا خرج إلى الفضاء أي : فاصحروا به إليّ وأبرزوه . ومنه قول الشاعر : أبى الضيم والنعمان تحرق نابه

عليه فأفضى والسيوف معاقله

٧٢

انظر تفسير الآية:٧٣

٧٣

{فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى اللّه وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِى الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ } : أي : فإن دام توليكم عما جئت به إليكم من توحيد اللّه ورفض آلهتكم فلست أبالي بكم ، لأنّ توليكم لا يضرني في خاصتي ، ولا قطع عني صلة منكم ، إذ ما دعوتكم إليه وذكرتكم به ووعظتكم ، لم أسألكم عليه أجراً ، إنما يثيبني عليه اللّه تعالى أي : ما نصحتكم إلا لوجه اللّه تعالى لا لغرض من أغراض الدنيا ، ثم أخبر أنه أمره أن يكون من المسلمين من المنقادين لأمر اللّه الطائعين له ، فكذبوه ، فتموا على تكذيبه ، وذلك عند مشارفة الهلاك بالطوفان . وفي الفلك متعلق بالاستقرار الذي تعلق به معه ، أو بفنجيناه . وجعلناهم جمع ضمير المفعول على معنى من ، وخلائف يخلفون الفارقين المهلكين . ثم أمر بالنظر في عاقبة المنذرين بالعذاب ، وإلى ما صار إليه حالهم . وفي هذا الإخبار توعد للكفار بمحمد صلى اللّه عليه وسلم ، وضرب مثال لهم في أنهم بحال هؤلاء من التكذيب فسيكون حالهم كحالهم في التعذيب . والخطاب في فانظر للسامع لهذه القصة ، وفي ذلك تعظيم لما جرى عليهم ، وتحذير لمن أنذرهم الرسول ، وتسلية له صلى اللّه عليه وسلم.

٧٤

{ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلوبِ الْمُعْتَدِينَ } : من بعده أي : من بعد نوح رسلاً إلى قومهم ، يعني هوداً وصالحاً ولوطاً وإبراهيم وشعيباً . والبينات : المعجزات ، والبراهين الواضحة المثبتة لما جاؤوا به . وجاء النفي مصحوباً بلام الجحود ليدل على أنّ إيمانهم في حيز الاستحالة والامتناع ، والضمير في كذبوا عائد على من عاد عليه ضمير كانوا وهم قوم الرسل . والمعنى : أنهم كانوا قبل بعثة الرسل أهل جاهلية وتكذيب للحق ، فتساوت حالتهم قبل البعثة وبعدها ، كأن لم يبعث إليهم أحد . ومن قبل متعلق بكذبوا أي : من قبل بعثة الرسل .

وقيل : المعنى أنهم بادروا رسلهم بالتكذيب كلما جاء رسول ، ثم لحوا في الكفر وتمادوا ، فلم يكونوا ليؤمنوا بما سبق به تكذيبهم من قبل لحهم في الكفر وتماديهم . وقال يحيى بن سلام : من قبل معناه من قبل العذاب ، وهذا القول فيه بعد .

وقيل : الضمير في كذبوا عائد على قوم نوح أي : فما كان قوم الرسل ليؤمنوا بما كذب به قوم نوح ، يعني : أن شنشنتهم واحدة في التكذيب . قال ابن عطية ، ويحتمل اللفظ عندي معنى آخر وهو : أن تكون ما مصدرية ، والمعنى فكذبوا رسلهم فكان عقابهم من اللّه أن لم يكونوا ليؤمنوا بتكذيبهم من قبل أي : من سببه ومن جرائه ، ويؤيد هذا التأويل كذلك نطبع انتهى . والظاهر أنّ ما موصولة ، ولذلك عاد الضمير عليها في قوله : بما كذبوا به . ولو كانت مصدرية بقي الضمير غير عائد على مذكور ، فتحتاج أن يتكلف ما يعود عليه الضمير .

وقرأ الجمهور : نطبع بالنون ، والعباس بن الفضل بالياء ، والكاف للتشبيه أي : مثل ذلك الطبع المحكم الذي يمتنع زواله نطبع على قلوب المعتدين المجاوزين طورهم والمبالغين في الكفر .

٧٥

انظر تفسير الآية:٧٨

٧٦

انظر تفسير الآية:٧٨

٧٧

انظر تفسير الآية:٧٨

٧٨

ثم بعثنا من . . . . .

لفت عنقه لوها وصرفها . وقال الأزهري : لفت الشيء وقتله لواه ، وهذا من المقلوب انتهى . ومطاوع لفت التفت ،

وقيل : انفتل .

{ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِمْ مُّوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ إِنَّ هَاذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ قَالَ مُوسَى أَتقُولُونَ لِلْحَقّ لَمَّا جَاءكُمْ أَسِحْرٌ هَاذَا وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ } أي : من بعد أولئك الرسل بآياتنا وهي المعجزات التي ظهرت على يديه ، ولا يخص قوله : وملائه بالإشراف ، بل هي عامّة لقوم فرعون شريفهم ومسروفهم . فاستكبروا تعاظموا عن قبولها ، وأعظم الكبر أن يتعاظم العبيد عن قبول رسالة ربهم بعد تبينها واستيضاحها ، وباجترامهم الآثام العظيمة استكبروا واجترؤوا على ردّها . والحق هو العصا واليد قالوا لحبهم الشهوات : إن هذا لسحر مبين ، وهم يعلمون أنّ الحق أبعد شيء من السحر الذي ليس إلا تمويهاً وباطلاً ، ولم يقولوا إنّ هذا لسحر مبين إلا عند معاينة العصا وانقلابها ، واليد وخروجها بيضاء ، ولم يتعاطوا إلا مقاومة العصا وهي معجزة موسى الذي وقع فيها عجز المعارض .

وقرأ مجاهد ، وابن جبير ، والأعمش : لساحر مبين ، جعل خبر إنّ اسم فاعل لا مصدراً كقراءة الجماعة . ولما كابروا موسى فيما جاء به من الحق أخبروا على جهة الجزم بأنّ ما جاء به سحر مبين فقال لهم موسى : أتقولون ؟ مستفهماً على جهة الإنكار والتوبيخ ، حيث جعلوا الحق سحراً ، أسحر هذا أي : مثل هذا الحق لا يدعى أنه سحر . وأخبر أنه لا يفلح من كان ساحراً لقوله تعالى :{ وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ ثُمَّ أَتَى } والظاهر أنّ معمول أتقولون محذوف تقديره : ما تقدم ذكره وهو أنّ هذا لسحر ، ويجوز أن يحذف معمول القول للدلالة عليه نحو قول الشاعر : لنحن الألى قلتم فإني ملتئم

برؤيتنا قبل اهتمام بكم رعبا

ومسألة الكتاب متى رأيت ، أو قلت زيداً منطلقاً .

وقيل : معمول أتقولون هو أسحر هذا إلى آخره ، كأنهم قالوا : أجئتما بالسحر تطلبان به الفلاح ، ولا يفلح الساحرون . كما قال موسى للسحرة : ما جئتم به السحر إن اللّه سيبطله . والذين قالوا : بأن الجملة وأن الاستفهام هي محكية لقول اختلفوا فقال بعضهم : قالوا ذلك على سبيل التعظيم للسحر الذي رأوه بزعمهم ، كما تقول لفرس تراه يجيد الجري : أفرس هذا على سبيل التعجيب والاستغراب ، وأنت قد علمت أنه فرس ، فهو استفهام معناه التعجيب والتعظيم .

وقال بعضهم : قال ذلك منهم كل جاهل بالأمر ، فهو يسأل أهو سحر ؟ لقول بعضهم : إن هذا لسحر ، وأجاز الزمخشري أن يكون معنى قوله : أتقولون للحق ، أتعيبونه وتطعنون فيه ، فكان عليكم أن تدعنوا له وتعظموه ، قال : من قولهم فلان يخاف القالة ، وبين الناس تقاول إذا قال بعضهم لبعض ما يسوء ، ونحو القول الذكر في قوله : سمعنا فتى يذكرهم ثم قال أسحر هذا فأنكر ما قالوه في عيبه والطعن عليه .

٧٩

٨٠

٨١

٨٢

{وقال فرعون ائتوني بكل ساحر عليم . فلما جاء السحرة قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون . فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر إن اللّه سيبطله إن اللّه لا يصلح عمل المفسدين . ويحق اللّه الحق بكلماته ولو كره المجرمون } : أجئتنا خطاب لموسى وحده ، لأنه هو الذي ظهرت على يديه معجزة العصا واليد . لتصرفنا وتلوينا عن ما وجدنا عليه آباءنا كامن عبادة غير اللّه ، واتخاذ إله دونه . والكبرياء مصدر . قال ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك ، وأكثر

المتأولين : المراد به هنا الملك ، إذ الملوك موصوفون بالكبر ، ولذلك قيل للملك الجبار ، ووصف بالصد والشرس . وقال ابن الرقيات في مصعب بن الزبير : ملكه ملك رأفة ليس فيه

جبروت منه ولا كبرياء

يعني ما عليه الملوك من ذلك . وقال ابن الرقاع : سؤدد غير فاحش لا يداني

ه تحبارة ولا كبرياء

وقال الأعمش : الكبرياء العظمة . وقال ابن زيد : العلو . وقال الضحاك أيضاً : الطاعة ، والأرض هنا أرض مصر .

وقرأ ابن مسعود ، وإسماعيل ، والحسن فيما زعم خارجة ، وأبو عمرو ، وعاصم : بخلاف عنهما ، وتكون بالتاء لمجاز تأنيث الكبرياء ، والجمهور بالياء لمراعاة اللفظ ، والمعنى : أنهم قالوا مقصودك في مجيئك إلينا بما جئت ، هو أنْ ننتقل من دين آبائنا إلى ما تأمر به ونطيعك ، ويكون لكما العلو والملك علينا بطاعتنا لك ، فنصير أتباعاً لك تاركين دين آبائنا ، وهذا مقصود لا نراه ، فلا نصدقك فيما جئت به إذ غرضك إنما هو موافقتك على ما أنت عليه ، واستعلاؤك علينا . فالسبب الأول هو التقليد ، والثاني الجد في الرئاسة حتى لا تكونوا تبعاً . واقتضى هذان السببان اللذان توهموا هما مقصوداً التصريح بانتفاء الإيمان الذي هو سبب لحصول السببين . ويجوز أن يقصدوا الذم بأنهما إنْ ملكا أرض مصر تكبروا وتجبرا كما قال القبطي : إن تريد إلاأن تكون جباراً في الأرض . ولما ادعوا أنّ ما جاء به موسى هو سحر ، أخذوا في معارضته بأنواع من السحر ، ليظهر لسائر الناس أنّ ما أتى به موسى من باب السحر . والمخاطب بقوله : ائتوني ، خدمة فرعون والمتصرفون بين يديه .

وقرأ ابن مصرف ، وابن وثاب ، وعيسى ، وحمزة ، والكسائي : بكل سحار على المبالغة .

وفي قوله : ألقوا ما أنتم ملقون ، استطالة عليهم وعدم مبالاة بهم . وفي إيهام ما أنتم ملقون ، تخسيس له وتقليل ، وإعلام أنه لا شيء يلتفت إليه . قال أبو عبد اللّه الرازي : كيف أمرهم ، فالكفر والسحر والأمر بالكفر كفر ، قلنا : إنه عليه الصلاة والسلام أمرهم بإلقاء الحبال والعصى ليظهر للخلق أن ما ألقوا عمل فاسد وسعى باطل ، لا على طريق أنه عليه السلام أمرهم بالسحر انتهى .

وقرأ أبو عمرو ، ومجاهد وأصحابه ، وابن القعقاع : بهمزة الاستفهام في قوله : آلسحر ممدودة ، وباقي السبعة والجمهور بهمزة الوصل ، فعلى الاستفهام قالوا : يجوز أن تكون ما استفهامية مبتدأ ، والسحر بدل منها ، . وأن تكون منصوبة بمضمر تفسيره جئتم به ، والسحر خبر مبتدأ محذوف . ويجوز عندي في هذا الوجه أن تكون ما موصولة مبتدأة ، وجملة الاستفهام خبر ، إذ التقدير : أهو السحر ، أو آلسحر هو ، فهو الرباط كما تقول : الذي جاءك أزيد هو ؟ وعلى همزة الوصل جاز أن نكون ما موصولة مبتدأة ، والخبر السحر ، ويدل عليه قراءة عبد اللّه والأعمش : سحر . وقراءة أبيّ ما أتيتم به سحر . ويجوز عندي أن تكون في هذا الوجه استفهامية في موضع رفع بالابتداء ، أو في موضع نصب على الاشتغال ، وهو استفهام على سبيل التحقير والتعليل لما جاؤوا به ، والسحر خير مبتدأ محذوف أي : هو السحر .

قال ابن عطية : والتعريف هنا في السحر ارتب ، لأنه قد تقدم منكراً في قولهم : إن هذا لسحر ، فجاء هنا بلام العهد كما يقال : أول الرسالة سلام عليك ، وفي آخرها والسلام عليك

انتهى . وهذا أخذه من الفراء . قال الفراء : وإنما قال السحر بالألف واللام ، لأن النكرة إذا أعيدت أعيدت بالألف واللام ، ولو قال له من رجل لم يقع في وهمه أنه يسأله عن الرجل الذي ذكر له انتهى . وما ذكراه هنا في السحر ليس هو من باب تقدم النكرة ، ثم أخبر عنها بعد ذلك ، لأن شرط هذا أن يكون المعرّف بالألف واللام هو النكرة المتقدم ، ولا يكون غيره كما

قال تعالى : { كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ } وتقول : زارني رجل فأكرمت الرجل ، ولما كان إياه جاز أن يأتي بالضمير بدله فتقول : فأكرمته . والسحر هنا ليس هو السحر الذي هو في قوله : أنّ هذا لسحر ، لأن الذي أخبروا عنه بأنه سحر هو ما ظهر على يدي موسى عليه السلام من معجزة العصا ، والسحر الذي في قول موسى إنما هو سحرهم الذي جاؤوا به ، فقد اختلف المدلولان وقالوا هم عن معجزة موسى وقال موسى عما جاؤوا به ، ولذلك لا يجوز أن يأتي هنا بالضمير بدل السحر ، فيكون عائداً على قولهم السحر . والظاهر أنّ الجمل بعده من كلام موسى عليه السلام . وسيبطله يمحقه ، بحيث يذهب أو يظهر بطلانه بإظهار المعجزة على الشعوذة .

وقيل : هذه الجمل من كلام اللّه تعالى . ومعنى بكلماته ، بقضاياه السابقة في وعده . وقال ابن سلام : بكلماته بقوله :{ لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الاْعْلَى }

وقيل بكلماته بحججه وبراهينه وقرىء بكلمته على التوحيد أي بأمره ومشيئته .

٨٣

انظر تفسير الآية:٨٦

٨٤

انظر تفسير الآية:٨٦

٨٥

انظر تفسير الآية:٨٦

٨٦

{فَمَا ءامَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرّيَّةٌ مّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مّن فِرْعَوْنَ ...} :

الظاهر في الفاء من حيث أنّ مدلولها التعقيب أن هذا الإيمان الصادر من الذرية لم يتأخر عن قصة الإلقاء . والظاهر أن الضمير في قومه عائد على موسى ، وأنه لا يعود على فرعون ، لأنّ موسى هو المحدث عنه في هذه الآية ، وهو أقرب مذكور . ولأنه لو كان عائداً على فرعون لم يظهر لفظ فرعون ، وكان التركيب على خوف منه . ومن ملاتهم أن يفتنهم ، وهذا الإيمان من الذرية كان أول مبعثه إذ قد آمن به بنو إسرائيل قومه كلهم ، كان أولاً دعا الآباء فلم يجيبوه خوفاً من فرعون ، وإجابته طائفة من أبنائهم مع الخوف . وقال مجاهد والأعمش : معنى الآية أنّ قوماً أدركهم موسى ولم يؤمنوا ، وإنما آمن ذراريهم بعد هلاكهم لطول الزمن .

قال ابن عطية : وهذا قول غير صحيح ، إذا آمن قوم بعد موت آبائهم ، فلا معنى لتخصيصهم باسم الذرية . وأيضاً فما روي من أخبار بني إسرائيل لا يعطي هذا ، ويفيه قوله : فما آمن ، لأنه يعطي تقليل المؤمنين به ، لأنه نفي الإيمان ثم أوجبه لبعضه ، ولو كان الأكثر مؤمناً لأوجب الإيمان أولاً ثم نفاه عن الأقل ، وعلى هذا الوجه يتخرج قول ابن عباس في الذرية : إنه القليل ، إلا أنه أراد أنّ لفظ الذرية بمعنى القليل كما ظن مكي وغيره . وقالت فرقة : إنما سماهم ذرة لأنّ أمهاتهم كانت من بني إسرائيل ، وإماؤهم من القبط . رواه عكرمة عن ابن عباس : فكان يقال لهم الذرية كما قيل لفرس اليمن الأبناء ، وهم الفرس المنتقلون مع وهوز بسعاية سيف بن ذي يزن . وممن ذهب إلى أن الضمير في قومه على موسى : ابن عباس قال : وكانوا ستماة ألف ، وذلك أن يعقوب عليه السلام دخل مصرفي اثنين وسبعين نفساً ، فتوالدوا بمصر حتى صاروا ستمائة ألف

وقيل : الضمير في قومه يعود على فرعون ، روي أنه آمنت زوجة فرعون وخازنه وامرأة خازنه وشباب من قومه . قال ابن عباس أيضاً : والسحرة أيضاً ، فإنهم معدودون في قوم فرعون . وقال السدي : كانوا سبعين أهل بيت من قوم فرعون .

قال ابن عطية : ومما يضعف عود الضمير على موسى عليه السلام أنّ المعروف من أخبار بني إسرائيل أنهم كانوا قوماً قد فشت فيهم السوآت ، وكانوا في مدة فرعون قد نالهم ذل مفرط ، وقد رجوا كشفه على يد مولود يخرج فيهم يكون نبياً ، فلما جاءهم موسى عليه السلام أصفقوا عليه وبايعوه ، ولم يحفظ قط أن طائفة من بني إسرائيل كفرت به ، فكيف تعطى هذه الآية أنّ الأقل منهم كان الذي آمن ، فالذي يترجح بحسب هذا أنّ الضمير عائد على فرعون . ويؤيد ذلك أيضاً ما تقدم من محاورة موسى ورده عليهم ، وتوبيخهم على قولهم هذا سحر ، فذكر اللّه ذلك عنهم ثم قال : فما آمن لموسى إلا ذرية من قوم فرعون الذي هذه أقوالهم . وتكون القصة على هذا التأويل بعد ظهور الآية والتعجيز بالعصا ، وتكون الفاء مرتبة للمعاني التي عطفت انتهى . ويمكن أن يكون معنى فما آمن أي : ما أظهر إيمانه وأعلن به إلا ذرية من قوم موسى ، فلا يدل ذلك على أنّ طائفة من بني إسرائيل كفرت به . والظاهر عود الضمير في قوله : وملاهم ، على الذرية وقاله الأخفش ، واختاره الطبري أي : أخوف بني إسرائيل الذرية وهم أشراف بني إسرائيل إن كان الضمير في قومه عائداً على موسى ، لأنهم كانوا يمنعون أعقابهم خوفاً من فرعون على أنفسهم . ويدل عليه قوله تعالى : أن يفتنهم أي يعذبهم .

وقال ابن عباس : أن يقتلهم .

وقيل : يعود على قومه أي : وملا قوم موسى ، أو قوم فرعون .

وقيل : يعود على المضاف المحذوف تقديره : على خوف من آل فرعون ، قاله الفراء . كما حذف في ،  { وَاسْئَلِ الْقَرْيَةَ } ورد عليه بأنّ الخوف يمكن من فرعون ، ولا يمكن سؤال القرية ، فلا يحذف إلا ما دل عليه الدليل . وقد يقال : ويدل على هذا المحذوف جمع الضمير في وملاهم .

وقيل : ثم معطوف محذوف يدل عليه كون الملك لا يكون وحده ، بل له حاشية وأجناد ، وكأنه قيل : على خوف من فرعون وقومه وملاهم أي : ملا فرعون وقومه ، وقاله الفراء أيضاً :

وقيل : لما كان ملكاً جباراً أخبر عنه بفعل الجميع .

وقيل : سميت الجماعة بفرعون مثل هود . وأن يفتنهم بدل من فرعون بدل اشتمال أي : فتنته ، فكون في موضع جر ، ويجوز أن يكون في موضع نصب بخوف إما على التعليل ،

وإما على أنه في موضع المفعول به ، أي : على خوف لأجل فتنته ، أو على خوف فتنته .

وقرأ الحسن وجراح ونبيج : يفتنهم بضم الياء من أفتن ، ولعال متجر أو باع ظالم ، أو متعال أو قاهر كما قال : فاعمد لما تعلو فما لك بالذي

لا تستطيع من الأمور يدان أي لما تقهر أقوال متقاربة ، وإسرافه كونه كثير القتل والتعذيب .

وقيل : كونه من أخس العبيد فادعى الإلهية ، وهذا الإخبار مبين سبب خوف أولئك المؤمنين منه .

وفي الآية مسلاة للرسول صلى اللّه عليه وسلم بقلة من آمن لموسى ومن استجاب له مع ظهور ذلك المعجز الباهر ، ولم يؤمن له إلا ذرية من قومه ، وخطاب موسى عليه السلام لمن آمن بقوله : يا قوم ، دليل على أن المؤمنين الذرية كانوا من قومه ، وخاطبهم بذلك حين اشتد خوفهم مما توعدهم به فرعون من

قتل الآباء وذبح الذرية .

وقيل : قال لهم ذلك حين قالوا إنا لمدركون .

وقيل : حين قالوا : أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا ، قيل : والأول هو الصواب ، لأنّ جواب كل من القولين مذكور بعده وهو : { كَلاَّ إِنَّ مَعِىَ رَبّى سَيَهْدِينِ } وقوله :{ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ } الآية وعلق توكلهم على شرطين : متقدم ، ومتأخر . ومتى كان الشرطان لا يترتبان في الوجود فالشرط الثاني شرط في الأول ، فمن حيث هو شرط فيه يجب أن يكون متقدماً عليه . فالإسلام هو الانقياد للتكاليف الصادرة من اللّه ، وإظهار الخضوع وترك التمرّد ، والإيمان عرفان القلب باللّه تعالى ووحدانيته وسائر صفاته ، وأنّ ما سواه محدث تحت قهره وتدبيره . وإذا حصل هذان الشرطان فو العبد جميع أموره إلى اللّه تعالى ، واعتمد عليه في كل الأحوال . وأدخل أنْ على فعلي الشرط وإن كانت في الأغلب إنما تدخل على غير المحقق مع علمه بإيمانهم على وجه إقامة الحجة وتنبيه الأنفس وإثارة الأنفة ، كما تقول : إن كنت رجلاً فقاتل ، تخاطب بذلك رجلاً تريد إقامة البينة . وطول ابن عطية هنا في مسألة التوكل بما يوقف عليه في كتابه ، وأجابوا موسى عليه السلام بما أمرهم به من التوكل على اللّه لأنهم كانوا مخلصين في إيمانهم وإسلامهم ، ثم سألوا اللّه تعالى شيئين :

أحدهما : أن لا يجعلهم فتنة للقوم الظالمين .

قال الزمخشري : أي موضع فتنة لهم ، أي عذاب تعذبوننا أو تفتنوننا عن ديننا ، أو فتنة لهم يفتنون بها ويقولون : لو كان هؤلاء على الحق ما أصيبوا . وقال مجاهد وأبو مجلز وأبو الضحى وغيرهم : معنى القول الآخر قال : المعنى لا ينزل بنا ملأنا بأيديهم أو بغير ذلك مدة محاربتنا لهم فيفتنون ويعتقدون أنْ هلا كنا إنما هو بقصد منك لسوء ديننا وصلاح دينهم وأنهم أهل الحق . وقالت فرقة : المعنى لا نفتنهم ونبتليهم بقتلنا وإذايتنا فنعذبهم على ذلك في الآخرة .

قال ابن عطية : وفي هذا التأويل قلق . وقال ابن الكلبي : لا تجعلنا فتنة بتقتير الرزق علينا وبسطه لهم . والآخر : ينجيهم من الكافرين أي : من تسخيرهم واستعبادهم . والذي يظهر أنهم سألوا اللّه تعالى أنْ لا يفتنوا عن دينهم ، وأن يخلصوا من الكفار ، فقدموا ما كان عندهم أهم وهو سلامة دينهم لهم ، وأخروا سلامة أنفسهم ، إذ الاهتمام بمصالح الدين آكد من الاهتمام بمصالح الأبدان .

٨٧

{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلَواةَ وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ } : لم يصرح باسم أخيه لأنه قد تقدّم أولاً في قوله :{ ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِمْ مُّوسَى وَهَارُونَ } وتبوآ اتخذا مباءة أي مرجعاً للعبادة والصلاة كما تقول : توطن اتخذ موطناً ، والظاهر اتخاذ البيوت بمصر . قال الضحاك : وهي مصر المحروسة ، ومصر من البحر إلى أسوان ، والاسكندرية من أرض مصر . وقال مجاهد : هي الاسكندرية ، وكان فرعون قد استولى على بني إسرائيل خرب مساجدهم ومواضع عباداتهم ، ومنعهم من الصلوات ، وكلفهم الأعمال الشاقة . وكانوا في أول أمرهم مأمورين بأنْ يصلوا في بيوتهم في خفية من الكفرة لئلا يظهروا عليهم ، فيردوهم ويفتنوهم عن دينهم ، كما كان المؤمنون على ذلك في أول الإسلام .

وقرأ حفص في رواية هبيرة : تبويا بالياء ، وهذا تسهيل غير قياسي ، ولو جرى على القياس لكان بين الهمزة والألف ، والظاهر أنّ المأمور بأنْ يجعل قبلة هي المأمور بتبوئها . ومعنى قبلة مساجد : أمروا بأن يتخذوا بيوتهم مساجد قاله : النخعي ، وابن زيد ، وروي عن ابن عباس . وعن

ابن عباس أيضاً : واجعلوا بيوتكم قبل القبلة ، وعنه أيضاً : قبل مكة . وقال مجاهد وقتادة ومقاتل والفراء : أمروا بأن يجعلوها مستقبلة الكعبة .

وعن ابن عباس أيضاً وابن جبير : قبلة يقابل بعضها بعضاً . وأقيموا الصلاة وهذا قبل نزول التوراة ، لأنها لم تنزل إلا بعد إجارة البحر . وبشر المؤمنين يعني : بالنصر في الدنيا وبالجنة في الآخرة ، وهو أمر لموسى عليه السلام أن يتبوآ لقومهما ويختاراها للعبادة ، وذلك مما يفوض إلى الأنبياء . ثم نسق الخطاب عاماً لهما ولقومهما باتخاذ المساجد والصلاة فيها ، لأن ذلك واجب على الجمهور ، ثم خص موسى عليه السلام بالتبشير الذي هو الغرض تعظيماً له وللمبشر به .

٨٨

انظر تسفير الآية:٨٩

٨٩

وقال موسى ربنا . . . . .

{وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ ءاتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلاَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى } : لما بالغ موسى عليه السلام في إظهار المعجزات وهم مصرون على العناد واشتد أذاهم عليه وعلى من آمن معه ، وهم لا يزيدون على عرض الآيات إلا كفراً ، وعلى الإنذار إلا استكباراً . أو علم بالتجربة وطول الصحبة أنه لا يجيء منهم إلا الغي والضلال ، أو علم ذلك بوحي من اللّه تعالى ، دعا اللّه تعالى عيهم بما علم أنه لا يكون غيره كما تقول : لعن اللّه إبليس وأخزى الكفرة . كما دعا نوح على قومه حين أوحى إليه { وَأُوحِىَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ } وقدم بين يدي الدعاء ما آتاهم اللّه من النعمة في الدنيا وكان ذلك سبباً للإيمان به ولشكر نعمه ، فجعوا ذلك سبباً لجحوده ولكفر نعمه . والزينة عبارة عما يتزين به ويتحسن من الملبوس والمركوب والأثاث والمال ، ما يزيد على ذلك من الصامت والناطق . قال المؤرخون والمفسرون : كان لهم فسطاط مصر إلى أرض الحبشة جبال فيها معادن الذهب والفضة والزبرجد والياقوت . وفي تكرار ربنا توكيد للدعاء والاستغاثة ، واللام في ليضلوا الظاهر أنها لام كي على معنى : آتيتهم ما آتيتهم على سبيل الاستدراج ، فكان الإتيان لكي يضلوا . ويحتمل أن تكون لام الصيرورة والعاقبة كقوله :{ فَالْتَقَطَهُ ءالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } وكما قال الشاعر : وللمنايا تربي كل مرضعة

وللخراب يجد الناس عمراناً

وقال الحسن : هو دعاء عليهم ، وبهذا بدأ الزمخشري قال : كأنه قال ليثبتوا على ما هم عليه من الضلال ، وليكونوا ضلالاً ، وليطبع اللّه على قلوبهم فلا يؤمنوا . ويبعد أن يكون دعاء قراءة من قرأ ليضلوا بضم الياء ، إذ يبعد أن يدعو بأن يكونوا مضلين غيرهم ، وهي قراءة الكوفيين ، وقتادة والأعمش ، وعيسى ، والحسن ، والأعرج بخلاف عنهما .

وقرأ الحرميان ، والعربيان ، ومجاهد ، وأبو رجاء ، والأعرج ، وشيبة ، وأبو جعفر ، وأهل مكة : بفتحها .

وقرأ الشعبي بكسرها ، ولى بين الكسرات الثلاث .

وقيل : لا محذوفة ، التقدير لئلا يضلوا عن سبيلك قاله : أبو علي الجبائي .

وقرأ أبو الفضل الرقاشي : أإنك آتيت على الاستفهام . ولما تقدم ذكر الأموال وهي أعز ما ادخر دعا بالطموس عليها

وهي التعفية والتغيير أو الإهلاك . قال ابن عباس ، ومحمد بن كعب : صارت دراهمهم حجارة منقوشة صحاحاً وأثلاثاً وأنصافاً ، ولم يبق لهم معدن إلاطمس اللّه عليه فلم ينتفع بها أحد بعد . وقال قتادة : بلغنا أن أموالهم وزروعهم صارت حجارة . وقال مجاهد وعطية : أهلكها حتى لا ترى . وقال ابن زيد : صارت دنانيرهم ودراهمهم وفرضهم وكل شيء لهم حجارة . قال محمد بن كعب : سألني عمر بن عبد العزيز فذكرت ذلك له ، فدعا بخريطة أصيبت بمصر فأخرج منها الفواكه والدراهم والدنانير ، وأنها الحجارة . وقال قتادة ، والضحاك ، وأبو صالح ، والقرطبي : جعل سكرهم حجارة . وقال السدي : مسخ اللّه الثمار والنخل والأطعمة حجارة . وقال شيخنا أبو عبد اللّه محمد بن سليمان المقدسي عرف بابن النقيب وهو جامع كتاب التحرير والتحبير في هذا الكتاب : أخبرني جماعة من الصالحين كان شغلهم السياحة أنهم عاينوا بجبال مصر وبراريها حجارة على هيئة الدنانير والدراهم ، وفيها آثار النفس ، وعلى هيئة الفلوس ، وعلى هيئة البطيخ العبد لاويّ ، وهيئة البطيخ الأخضر ، وعلى هيئة الخيار ، وعلى هيئة القثاء ، وحجارة مطولة رقيقة معوجة على هيئة النقوش ، وربما رأوا على صورة الشجر . واشدد على قلوبهم :

وقال ابن عباس ومقاتل والفراء والزجاج اطبع عليها وامنعها من الإيمان .

وقال ابن عباس أيضاً والضحاك : أهلكهم كفاراً . وقال مجاهد : اشدد عليها بالضلالة . وقال ابن قتيبة : قس قلوبهم . وقال ابن بحر : اشدد عليها بالموت . وقال الكرماني : أي لا تجذوا سلواً عن أموالهم ، ولا صبراً على ذهابها .

وقرأ الشعبي وفرقة : اطمُس بضم الميم ، وهي لغة مشهورة . فلا يؤمنوا مجزوم على أنه دعاء عند الكسائي والفراء ، كما قال الأعشى : فلا ينبسط من بين عينيك ما انزوى

ولا تُلْفَينّ إلا وأنفك راغم ومنصوب على أنه جواب اشدد بدأ به الزمخشري ، ومعطوف على ليضلوا على أنه منصوب قاله : الأخفش وغيره . وما بينهما اعتراض ، أو على أنه مجزوم عل قول من قال : إن لام ليضلوا لام الدعاء ، وكان رؤية العذاب غاية ونهاية ، لأن الإيمان إذ ذاك لا ينفع ولا تخرج من الكفر ، وكان العذاب الأليم غرقهم .

وقال ابن عباس : قال محمد بن كعب : كان موسى يدعو وهارون يؤمن ، فنسبت الدعوة إليهما . ويمكن أن يكونا دعوا ، ويبعد قول من قال : كنى عن الواحد بلفظ التثنية ، لأن الآية تضمنت بعد مخاطبتهما في غير شيء . وروي عن ابن جريج ، ومحمد بن علي ، والضحاك : أن الدعوة لم تظهر إجابتها إلا بعد أربعين سنة ، وأعلما أن دعاء هما صادف مقدوراً ، وهذا معنى إجابة الدعاء .

وقيل لهما : لا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون أي في أن تستعجلا قضائي ، فإن وعدي لا خلف له .

وقرأ السلمي والضحاك : دعواتكما على الجمع .

وقرأ ابن السميقع : قد أجبت دعوتكما خبراً عن اللّه تعالى ، ونصب دعوة والربيع دعوتيكما ، وهذا يؤكد قول من قال : إن هارون دعا مع موسى . وقراءة دعوتيكما تدل على أنه قرأ قد أجبت على أنه فعل وفاعل ، ثم أمرا بالاستقامة ، والمعنى : الديمومة عليها وعلى ما أمرتما به من الدعوة إلى اللّه تعالى ، وإلزام حجة اللّه .

وقرأ الجمهور : تتبعان بتشديد التاء والنون ، وابن عباس وابن ذكوان بتخفيف التاء وشد النون ، وابن ذكوان أيضاً بتشديد التاء وتخفيف النون ، وفرقة بتخفيف التاء وسكون النون ، وروى ذلك الأخفش الدمشقي عن أصحابه عن ابن عامر ، فأما شد النون فعلى أنها نون التوكيد الشديدة لحقت فعل النهي المتصل به ضمير الاثنين ،

وأما تخفيفها مكسورة فقيل : هي نون التوكيد الخفيفة ، وكسرت كما كسرت الشديدة . وقد حكى النحويون كسر النون الخفيفة

في مثل هذا عن العرب ، ومذهب سيبويه والكسائي أنها لا تدخل هنا الخفيفة ، ويونس والفراء يريان ذلك .

وقيل : النون المكسورة الخفيفة هي علامة الرفع ، والفعل منفي ، والمراد منه النهي ، أو هو خبر في موضع الحال أي : غير متبعين قاله الفارسي . والذين لا يعلمون فرعون وقومه قاله : ابن عباس . أو الذين يستعجلون القضاء قبل مجيئه ، ذكره أبو سليمان .

٩٠

انظر تسفير الآية:٩٢

٩١

انظر تسفير الآية:٩٢

٩٢

{وَجَاوَزْنَا بِبَنِى إِسْراءيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ ءامَنتُ أَنَّهُ لا إِلِاهَ إِلاَّ } : قرأ الحسن وجوَّزنا بتشديد الواو ، وتقدّم الكلام في الباء في ببني إسرائيل ، وكم كان الذين جازوا مع موسى عليه السلام في سورة الأعراف .

وقرأ الحسن وقتادة فاتبعهم بتشديد التاء .

وقرأ الجمهور : وجاوزنا فاتبعهم رباعياً ،

قال الزمخشري : وليس من جوز الذي في بيت الأعشى :

وإذا تجوزها جبال قبيلة

لأنه لو كان منه لكان حقه أن يقال : وجوزنا ببني إسرائيل في البحر كما قال :

كما جوز السبكي في الباب فينق انتهى

وقال الحوفي : تبع واتبع بمعنى واحد .

وقال الزمخشري : فاتبعهم لحقهم ، يقال : تبعه حتى اتبعه . وفي اللوامح : تبعه إذا مشى خلفه ، واتبعه كذلك ، إلا أنه حاذاه في المشي واتبعه لحقه ، ومنه العامة يعني : ومنه قراءة العامة فاتبعهم وجنود فرعون قيل : ألف ألف وستمائة ألف .

وقيل : غير ذلك .

وقرأ الحسن : وعدوا على وزن علو ، وتقدمت في الإنهام . وعدوا وعدوّا من العدوان ، واتباع فرعون هو في مجاوزة البحر . روي أن فرعون لما انتهى إلى البحر فوجده قد انفرق ومضى فيه بنو إسرائيل قال لقومه : إنما انلفق بأمري ، وكان على فرس ذكر فبعث اللّه إليه جبريل عليه السلام على فرس أنثى ، ودنوا فدخل بها البحر ولج فرس فرعون ورآه ونب الجيوش خلفه ، فلما رأى أنّ الانفراق ثبت له

استمر ، وبعث اللّه ميكائيل عليه السلام يسوق الناس حتى حصل جميعهم في البحر فانطبق عليهم .

وقرأ الجمهور : أنه بفتح الهمزة على حذف الباء .

وقرأ الكسائي وحمزة : بكسرها على الاستئناف ابتداء كلام ، أو بدلاً من آمنت ، أو على إضمار القول أي : قائلاً أنه . ولما حلقه من الدهش ما لحقه كرر المعنى بثلاث عبارات ، إما على سبيل التلعثم إذ ذلك مقام تحار فيه القلوب ، أو حرصاً على القبول ولم يقبل اللّه منه إذ فاته وقت القبول وهو حالة الاختيار وبقاء التكليف ، والتوبة بعد المعاينة تنفع . ألا ترى إلى قوله تعالى : { فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا سُنَّتُ اللّه الَّتِى قَدْ خَلَتْ فِى عِبَادِهِ } وتقدم الخلاف في قراءة آلآن في قوله :{ وَقَدْ كُنتُم بِهِ } والمعنى : أتؤمن الساعة في حال الاضطرار حين أدركك الغرق وأيست من نفسك ؟ قيل : قال ذلك حين ألجمه الغرق .

وقيل : بعد أنْ غرق في نفسه .

قال الزمخشري : والذي يحكى أنه حين قال : آمنت ، أخذ جبريل من حال البحر فدسه في فيه ، فللغضب في اللّه تعالى على حال الكافر في وقت قد علم أن إيمانه لا ينفعه .

وأما ما يضم إليه من قولهم خشيت أن تدركه رحمة اللّه تعالى فمن زيادات الباهتين للّه تعالى وملائكته ، وفيه جهالتان : إحداهما : أنّ الإيمان يصح بالقلب كإيمان الأخرس ، فحال البحر لا يمنعه . والآخر : أن من كره الإيمان الكافر وأحب بقاءه على الكفر فهو كافر ، لأنّ الرضا بالكفر كفر . والظاهر أن قوله : آلآن إلى آخره من كلام اللّه له على لسان ملك . فقيل : هو جبريل .

وقيل : ميكائيل .

وقيل : غيرهما ، لخطابه فاليوم ننجيك .

وقيل : من قول فرعون في نفسه وإفساده ولضلالة الناس ، ودعواه الربوبية .{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّه زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ } فاليوم ننجيك الظاهر أنه خبر .

وقيل : هو استفهام فيه تهديد أي : أفاليوم ننجيك ؟ فهلا كان الإيمان قبل الإشراف على الهلاك ، وهذا بعيد لحذف همزة الاستفهام ولقوله : لتكون لمن خلفك لآية ، لأنّ التعليل لا يناسب هنا الاستفهام . قال ابن عباس : ننجيك نلقيك بنجوة من الأرض وهي المكان المرتفع ، ببدنك بدرعك ، وكان من لؤلؤ منظوم لا مثال له .

وقيل : من ذهب .

وقيل : من حديد وفيها سلاسل من ذهب . والبدن بدن الإنسان ، والبدن الدرع القصيرة . قال : ترى الأبدان فيها مسبغات

على الأبطال والكلب الحصينا

يعني : الدروع . وقال عمرو بن معدي كرب : أعاذل شكتي بدني وسيفي

وكل مقلص سلس القياد

وكانت له درع من ذهب يعرف بها ،

وقيل : نلقيك ببدنك عرياناً ليس عليك ثياب ولا سلاح ، وذلك أبلغ في إهانته .

وقيل : نخرجك صحيحاً لم يأكلك شيء من الدواب .

وقيل : يدنا بلا روح قاله مجاهد .

وقيل : نخرجك من ملكك وحيداً فريداً .

وقيل : نلقيك في البحر من النجاء ، وهو ما سلخته عن الشاة أو ألقيته عن نفسك من ثياب أو

سلاح .

وقيل : نتركك حتى تغرق ، والنجاء الترك .

وقيل : نجعلك علامة ، والنجاء العلامة .

وقيل : نغرقك من قولهم : نجى البحر أقواماً إذا أغرقهم . وقال الكرماني : يحتمل أن يكون من النجاة وهو الإسراع أي : نسرع بهلاكك .

وقيل : معنى ببدنك بصورتك التي تعرف بهما ، وكان قصيراً أشقر أزرق قريب اللحية من القامة ، ولم يكن في بني إسرائيل شبيه لع يعرفونه بصورته ، وببدنك إذا غنى به الجثة تأكيد كما تقول : قال فلان بلسانه وجاء بنفسه .

وقرأ يعقوب : ننجيك مخففاً مضارع أنجى .

وقرأ أبيّ وابن السميقع ، ويزيد البربري : ننحيك بالحاء المهملة من التنحية . ورويت عن ابن مسعود أي : نلقيك بناحية مما يلي البحر . قال كعب : رماه البحر إلى الساحل كأنه نور .

وقرأ أبو حنيفة : بأبدانك أي بدروعك ، أو جعل كل جزء من البدن بدناً كقولهم : شابت مفارقه .

وقرأ ابن مسعود ، وابن السميقع : بندائك مكان ببدنك ، أي : بدعائك ، أي بقولك آمنت إلى آخره . لنجعلك آية مع ندائك الذي لا ينفع ، أو بما ناديت به في قومك . ونادى فرعون في قومه فحشر فنادى فقال : أنا ربكم الأعلى ، ويا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري . ولما كذبت بنو إسرائيل بغرق فرعون رمى به البحر على ساحله حتى رأوه قصيراً أحمر كأنه ثور . لمن خلفك لمن وراءك علامة وهم بنو إسرائيل ، وكان في أنفسهم أن فرعون أعظم شأناً من أن يغرق ، وكان مطرحه على ممر بني إسرائيل حتى قيل لمن خلفك آية .

وقيل : لمن يأتي بعدك من القرون ،

وقيل : لمن بقي من قبط مصر وغيرهم . وقرىء : لمن خلفك بفتح اللام أي : من الجبابرة والفراعنة ليتعظوا بذلك ، ويحذروا أن يصيبهم ما أصابك إذا فعلوا فعلك . ومعنى كونه آية : أن يظهر للناس عبوديته ومهانته ، أو ليكون عبرة يعتبر بها الأمم . وقرأت فرقة : لمن خلقك من الخلق وهو اللّه تعالى أي : ليجعلك اللّه آية له في عباده .

وقيل : المعنى ليكون طرحك على الساحل وحدك ، وتمييزك من بين المغرقين لئلا يشتبه على الناس أمرك ، ولئلا يقولوا لادعائك العظمة : إنّ مثله لا يغرق ولا يموت ، آية من آيات اللّه التي لا يقدر عليها غيره ، وإن كثيراً من الناس ظاهره الناس كافة ، قاله الحسن . وقال مقاتل : من أهل مكة عن آياتنا أي : العلامات الدالة على الوحدانية وغيرها من صفنات العلى ، لغافلون لا يتدبرون ، وهذا خبر في ضمنه توعد .

٩٣

{وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِى إِسْراءيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مّنَ الطَّيّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُواْ حَتَّى جَاءهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُمْ يَوْمَ } : لما ذكر تعالى ما جرى لفرعون وأتباعه من الهلاك ، ذكر ما أحسن به لبني إسرائيل وما امتن به عليهم ، إذ كان بنو إسرائيل قد أخرجوا من مساكنهم خائفين من فرعون ، فذكر تعالى أنه اختار لهم من الأماكن أحسنها . والظاهر أنّ بني إسرائيل هم الذين كانوا آمنوا بموسى ونجوا من الغرق ، وسياق الآيات يشهد لهم .

وقيل : هم الذين كانوا بحضرة النبي صلى اللّه عليه وسلم من بني إسرائيل قريظة والنضير وبني قينقاع ، وانتصب مبوأ صدق على أنه مفعول ثان لبوأنا كقوله :{ لَنُبَوّئَنَّهُمْ مّنَ الْجَنَّةِ غُرَفَاً }

وقيل : يجوز أن يكون مصدراً . ومعنى صدق أي : فضل وكرامة ومنة { فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ}

وقيل : مكان صدق الوعد ، وكان وعدهم فصدقهم وعده .

وقيل : صدق تصدّق به عليهم ، لأن الصدقة والبر من الصدق .

وقيل : صدق فيه ظن قاصده وساكنه .

وقيل : منزلاً صالحاً مرضياً ،

وعن ابن عباس : هو الأردن وفلسطين . وقال الضحاك وابن زيد ، وقتادة : الشام وبيت المقدس . وقال مقاتل : بيت المقدس . وعن الضحاك أيضاً : مصر ، وعنه أيضاً : مصر والشام .

قال ابن عطية : والأصح أنه الشام وبيت المقدس

بحسب ما حفظ من أنهم لم يعودوا إلى مصر ، على أنه في القرآن كذلك . { وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِى إِسْراءيلَ } يعني ما ترك القبط من جنات وعيون وغير ذلك . وقد يحتمل أن يكون وأورثناها معناها الحالة من النعمة وإن لم تكن في قطر واحد انتهى .

وقيل : ما بين المدينة والشام من أرض يثرب ذكره علي بن أحمد النيسابوري ، وهذا على قول من قال : إن بني إسرائيل هم الذين بحضرة النبي صلى اللّه عليه وسلم. ولما ذكر أنه بوّأهم مبوّأ صدق ذكر امتنانه عليهم بما رزقهم من الطيبات وهي : المآكل المستلذات ، أو الحلال ، فما اختلفوا أي : كانوا على ملة واحدة وطريقة واحدة مع موسى عليه السلام في أول حاله ، حتى جاءهم العلم أي : علم التوراة فاختلفوا ، وهذا ذم لهم . أي أن سبب الإيقاف هو العلم ، فصار عندهم سبب الاختلاف ، فتشعبوا شعباً بعدما قرؤوا التوراة .

وقيل : العلم بمعنى المعلوم ، وهو محمد صلى اللّه عليه وسلم ، لأن رسالته كانت معلومة عندهم مكتوبة في التوراة ، وكانوا يستفتحون به أي : يستنصرون ، وكانوا قبل مجيئه إلى المدينة مجمعين على نبوّته يستنصرون به في الحروب يقولون : اللّهم بحرمة النبي المبعوث في آخر الزمان انصرنا فينصرون ، فلما جاء قالوا : النبي الموعود به من ولد يعقوب ، وهذا من ولد إسماعيل ، فليس هو ذاك ، فآمن به بعضهم كعبد اللّه بن سلام وأصحابه .

وقيل : العلم القرآن ، واختلافهم قول بعضهم هو من كلام محمد ، وقول بعضهم من كلام اللّه وليس لنا إنما هو للعرب . وصدق به قوم فآمنوا ، وهذا الاختلاف لا يمكن زواله في الدنيا ، وأنه تعالى يقضي فيه في الآخرة فيميز المحق من المبطل .

٩٤

انظر تسفير الآية:٩٥

٩٥

{فَإِن كُنتَ فِي شَكّ مّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللّه فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ } : الظاهر أنّ إنْ شرطية . وروي عن الحسن والحسين بن الفضل أنّ إنْ نافية .

قال الزمخشري : أي مما كنت في شك فسئل ، يعني : لا نأمرك بالسؤال لأنك شاك ، ولكن لتزداد يقيناً كما ازداد إبراهيم عليه السلام بمعاينة إحياء الموتى انتهى . وإذا كانت إن شرطية فذكروا أنها تدخل على الممكن وجوده ، أو المحقق وجوده ، المنبهم زمان وقوعه ، كقوله تعالى :{ وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مّن } والذي أقوله : إنّ إنْ الشرطية تقتضي تعليق شيء على شيء ، ولا تستلزم تحتم وقوعه ولا إمكانه ، بل قد يكون ذلك في المستحيل عقلاً كقوله تعالى :{ قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَانِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ الْعَابِدِينَ } ومستحيل أن يكون له ولد ، فكذلك هذا مستحيل أن يكون في شك ، وفي المستحيل عادة كقوله تعالى :{ وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِن اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِىَ نَفَقاً فِى الاْرْضِ أَوْ } أي فافعل . لكنّ وقوع إن للتعليق على المستحيل قليل ، وهذه الآية من ذلك . ولما خفي هذا الوجه على أكثر الناس اختلفوا في تخريج إن للتعليق على المستحيل قليل ، وهذه الآية من ذلك . ولما خفي هذا الوجه على أكثر الناس اختلفوا في تخريج هذه الآية ، ف

قال ابن عطية : الصواب أنها مخاطبة للنبي صلى اللّه عليه وسلم ، والمراد بها سواه من كل من يمكن أن يشك أو يعارض انتهى . ولذلك جاء :{ قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِى شَكّ مّن دِينِى } وقال قوم : الكلام بمنزلة قولك : إن كنت ابني فبرني ، وليس هذا المثال بجيد ، وإنما مثال هذه قوله تعالى لعيسى عليه السلام :{ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِى } انتهى . وهذا القول مروي عن الفراء . قال الكرماني : واختاره جماعة ، وضعف بأنه يُصير تقدير الآية : أأنت

في شك ؟ إذ ليس في الآية ما يدل على نفي الشك .

وقيل : كنى هنا بالشك عن الضيق أي : فإن كنت في ضيق من اختلافهم فيما أنزل إليك وتعنتهم عليك .

وقيل : كنى بالشاك عن العجب أي : فإن كنت في تعجب من عناد فرعون . ومناسبة المجاز أنّ التعجب فيه تردد ، كما أن الشك تردد بين أمرين . وقال الكسائي : معناه إن كنت في شك أنّ هذا عادتهم مع الأنبياء فسلهم كيف كان صبر موسى عليه السلام حين اختلفوا عليه ؟

وقال الزمخشري : فإن كنت في شك بمعنى العرض والتمثيل ، كأنه قيل : فإن وقع لك شك مثلاً وخيل لك الشيطان خيالاً منه تقديراً فسئل الذين يقرؤون الكتاب ، والمعنى : أن اللّه تعالى قدم ذكر بني إسرائيل وهم قرأة الكتاب ، ووصفهم بأن العلم قد جاءهم ، لأنّ أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مكتوب عندهم في التوراة والإنجيل وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، فأراد أن يؤكد عليهم بصحة القرآن وصحة نبكوة محمد صلى اللّه عليه وسلم ، ويبالغ في ذلك ف

قال تعالى : فإن وقع لك شك فرضاً وتقديراً وسبيل من خالجته شبهة في الدين أن يسارع إلى حلها وإماطتها ، إما بالرجوع إلى قوانين الدين وأدلته ،

وإما بمقادحة العلماء المنبهين على الحق انتهى .

وقيل أقوال غير هذه ،

وقرأ يحيى وابراهيم : يقرؤون الكتب على الجمع . والحق هنا : الإسلام ، أو القرآن ، أو النبوة ، أو الآيات ، والبراهين القاطعة ، أقوال : فاثبت ودم على ما أنت فيه من انتفاء المرية والتكذيب ، والخطاب للسامع غير الرسول . وكثيراً ما يأتي الخطاب في ظاهره لشخص ، والمراد غيره ، وروي أنه عليه السلام قال : { لا وَفِى أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ }

وعن ابن عباس : واللّه ما شك طرفة عين ، ولا سأل أحداً منهم . والامتراء التوقف في الشيء والشك فيه ، وأمره أسهل من أمر المكذب فبدىء به أولاً . فنهى عنه ، واتبع بذكر المكذب ونهى أن يكون منهم .

٩٦

انظر تسفير الآية:٩٧

٩٧

{إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ ءايَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الاْلِيمَ } : ذكر تعالى عباداً قضى عليهم بالشقاوة فلا تتغير ، والكلمة التي حقت عليهم قال قتادة : هي اللعنة والغضب .

وقيل : وعيده أنهم يصيرون إلى العذاب .

وقال الزمخشري : قول اللّه تعالى الذي كتب في اللوح وأخبر به الملائكة أنهم يموتون كفاراً فلا يكون غيره ، وتلك كتابه معلوم لا كتابة مقدر ومراد اللّه تعالى عن ذلك انتهى . وكلامه أخيراً على طريقة الاعتزال . وقال أبو عبد اللّه الرازي : المراد من هذه الكلمة كلم اللّه بذلك ، وإخباره عنه ، وخلقه في العبد مجموع القدرة ، والداعية وهو موجب لحصول ذلك الأمر . و

قال ابن عطية : المعنى أنّ اللّه أوجب لهم سخطه من الأزل وخلقهم لعذابه ، فلا يؤمنون ولو جاءهم كل بيان وكل وضوح إلا في الوقت الذي لا ينفعهم فيه الإيمان ، كما صنع فرعون وأشباهه ، وذلك وقت المعاينة . وفي ضمن الألفاظ التحذير من هذه الحال ، وبعث كل على المبادرة إلى الإيمان والفرار من سخط اللّه . ويجوز أن يكون العذاب الأليم عند تقطع أسبابهم يوم القيامة ، وتقدم الخلاف في قراءة كلمة بالإفراد وبالجمع .

٩٨

{فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ ءامَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا ءامَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْىِ فِى الْحَيَواةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ } : لولا هنا هي التحضيضية التي صحبها التوبيخ ، وكثيراً ما جاءت في القرآن للتحضيض ، فهي بمعنى هلا .

وقرأ أبي وعبد اللّه فهلا ، وكذا هو في مصحفيها ، والتحضيض أن يريد الإنسان فعل الشيء الذي يحض عليه ، وإذا كانت للتوبيخ فلا يريد المتكلم الحض على ذلك الشيء ، كقول الشاعر : تعدون عقر النيب أفضل مجدكم

بني ضوطري لولا الكمى المقنعا

لم يقصد حضهم على عقر الكمى المقنع ، وهنا وبخهم على ترك الإيمان النافع . والمعنى : فهلا آمن أهل القرية وهم على مهل لم يلتبس العذاب بهم ، فيكون الإيمان نافعاً لهم في هذه الحال . وقوم منصوب على الاستثناء المنقطع ، وهو قول سيبويه والكسائي والفراء والأخفش ، إذ ليسوا مندرجين تحت لفظ قرية .

وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون متصلاً ، والجملة في معنى النفي كأنه قيل : ما آمنت قرية من القرى الهالكة إلا قوم يونس . و

قال ابن عطية : هو بحسب اللفظ استثناء منقطع ، وكذلك رسمه النحويون ، وهو بحسب المعنى متصل ، لأنّ تقديره ما آمن أهل قرية إلا قوم يونس ، والنصب هو الوجه ، ولذلك أدخله سيبويه في باب ما لا يكون فيه إلا النصب ، وذلك مع انقطاع الاستثناء . وقالت فرقة : يجوز فيه الرفع ، وهذا مع اتصال الاستثناء . وقال المهدوي : والرفع على البدل من قرية ،

وقال الزمخشري : وقرىء بالرفع على البدل عن الحرمي والكسائي ، وتقدم الخلاف في قراءة يونس بضم النون وكسرها ، وذكر جواز فتحها .

وقوم يونس : هم أهل نينوي من بلاد الموصل ، كانوا يعبدون الأصنام ، فبعث اللّه إليهم يونس فأقاموا على تكذيبه سبع سنين ، وتوعدهم العذاب بعد ثلاثة أيام .

وقيل : بعد أربعين يوماً . وذكر المفسرون قصة قوم يونس وتفاصيل فيها ، وفي كيفية عذابهم اللّه أعلم بصحة ذلك ، ويوقف على ذلك في كتبهم . وقال الطبري : وذكره عن جماعة أن قوم يونس خصوا من بين الأمم بأن تنب عليهم بعد معاينة العذاب . وقال الزجاج : هؤلاء دنا منهم العذاب ولم يباشرهم كما باشر فرعون ، فكانوا كالمريض الذي يخاف الموت ويرجو العافية ، فأما الذي يباشره العذاب فلا توبة له . وقال ابن الأنباري : علم منهم صدق النيات بخلاف من تقدمهم من الهالكين . قال السدي : إلى حين ، إلى وقت انقضاء آجالهم .

وقيل : إلى يوم القيامة ، وروي عن ابن عباس . ولعله لا يصح ، فعلى هذا يكونون باقين أحياء ، وسترهم اللّه عن الناس .

 ٩٩

انظر تسفير الآية:١٠٠

١٠٠

{وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِى الاْرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّه وَيَجْعَلُ الرّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ } : قيل : نزلت في أبي طالب ، لأنه صلى اللّه عليه وسلم أسف بموته على ملة عبد المطلب وكان حريصاً على إيمانه . ولما كان أخرص الناس على هدايتهم وأسعى في وصول الخير إليهم والفوز بالإيمان منهم وأكثر اجتهاداً في نجاة العالمين من العذاب ، أخبره

تعالى أنه خلق أهلاً للسعادة وأهلاً للشقاوة ، وأنه لو أراد إيمانهم كلهم لفعل ، وأنه لا قدرة لأحد على التصرف في أحد . والمقصود بيان أنّ القدرة القاهرة والمشيئة النافذة ليست إلا له تعالى . وتقديم الاسم في الاستفهام على الفعل يدل على إمكان حصول الفعل ، لكن من غير ذلك الإسم فللّه تعالى أن يكره الناس على الإيمان لو شاء ، وليس ذلك لغيره .

وقال الزمخشري : ولو شاء ربك مشيئة القسر وإلا لجاء لآمن من في الأرض كلهم على وجه الإحاطة والشمول جميعاً ، مجتمعين على الإيمان ، مطبقين عليه ، لا يختلفون فيه . ألا ترى إلى قوله تعالى : { أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ } يعني إنما يقدر على إكراههم واضطرارهم على الإيمان هؤلاء أنت . وإتلاء الاسم حرف الاستفهام للإعلام بأنّ الإكراه ممكن مقدور عليه ، وإنما الشان في المكره من هو ، وما هو إلا هو وحده ولا يشارك فيه ، لأنه تعالى هو القادر على أن يفعل في قلوبهم ما يضطرون عنده إلى الإيمان ، وذلك غير مستطاع للبشير انتهى . وقوله : مشيئة القسر والإلجاء هو مذهب المعتزلة . و

قال ابن عطية : المعنى أنّ هذا الذي تقدم ذكره إنما كان جميعه بقضاء اللّه عليهم ومشيئته فيهم ، ولو شاء اللّه لكان الجميع مؤمناً ، فلا تتأسف أنت يا محمد على كفر من لم يؤمن بك ، وادع ولا عليك ، فالأمر محتوم . أتريد أنت أن تكره الناس بإدخال الإيمان في قلوبهم ، وتضطرهم إلى ذلك واللّه عز وجل قد شاء غيره ؟ فهذا التأويل الآية عليه محكمة أي : ادع وقاتل من خالفك ، وإيمان من آمن مصروف إلى المشيئة . وقالت فرقة : المعنى أفأنت تكره الناس بالقتال حتى يدخلوا في الإيمان ؟ وزعمت أن هذه الآية في صدر الإسلام ، وأنها منسوخة بآية السيف ، والآية على كلا التأويلين رادة على المعتزلة انتهى . ولذلك ذهب الزمخشري إلى تفسير المشيئة بمشيئة القسر والإلجاء ، وهو تفسير الجبائي والقاضي . ومعنى إلا بإذن اللّه . أي بإرادته وتقديره لذلك والتمكن منه .

وقال الزمخشري : بتسهيله وهو منح الإلطاف . ويجعل الرجس : وهو الخذلان على الذين لا يعقلون ، وهم المصرون على الكفر . وسمى الخذلان رجساً وهو العذاب ، لأنه سببه انتهى . وهو على طريق الاعتزال .

وقال ابن عباس : الرجس السحط ، وعنه الإثم والعذوان . وقال مجاهد : ما لا خير فيه . وقال الحسن ، وأبو عبيدة ، والزجاج : العذاب . وقال الفراء : العذاب والغضب . وقال الحسن أيضاً : الكفر . وقال قتادة : الشيطان ، وقد تقدّم تفسيره ، ولكن نقلنا ما قاله العلماء هنا .

وقرأ أبو بكر ، وزيد بن علي : ونجعل

بالنون ،

وقرأ الأعمش : ويجعل اللّه الرجز بالزاي .

١٠١

انظر تسفير الآية:١٠٢

١٠٢

{قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا تُغْنِى الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُواْ إِنَّى مَعَكُمْ مّنَ الْمُنْتَظِرِينَ } : أمر تعالى بالفكر فيما أودعه تعالى في السموات والأرض ، إذ السبيل إلى معرفته تعالى هو بالتفكر في مصنوعاته ، ففي العالم العلوي في حركات الأفلاك ومقاديرها وأوضاعها والكواكب ، وما يختص بذلك من المنافع والفوائد ، وفي العالم السفلي في أحوال العناصر والمعادن والنبات والحيوان ، وخصوصاً حال الإنسان . وكثيراً ما ذكر اللّه تعالى في كتابه الحض على الفكر في مخلوقاته تعالى وقال : ماذا في السموات والأرض تنبيهاً على القاعدة الكلية ، والعاقل يتنبه لتفاصيلها وأقسامها . ثم لما أمر بالنظر أخبر أنه من لا يؤمن لا تغنيه الآيات .

والنذر جمع نذير ، إما مصدر فمعناه الإنذارات ،

وإما بمعنى منذر فمعناه المنذرون والرسل . وما الظاهر أنها للنفي ، ويجوز أن تكون استفهاماً أي : وأي شيء تغني الآيات وهي الدلائل ؟ وهو استفهام على جهة التقرير . وفي اة ية توبيخ لحاضري رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من المشركين .

وقرأ الحرميان

والعربيان ، والكسائي : قل انظروا بضم اللام ، وقرىء : وما تغني بالتاء ، وهي قراءة الجمهور وبالياء . وماذا يحتمل أن يكون استفهاماً في موضع رفع بالابتداء ، والخبر في السموات . ويحتمل أن يكون الخبر ذا بمعنى الذي ، وصلته في السموات . وانظروا معلقة ، فالجملة الابتدائية في موضع نصب ، ويبعد أن تكون ماذا كله موصولاً بمعنى الذي ، ويكون مفعولاً لقوله : انظروا ، لأنه إن كانت بصرية تعدت بإلى ، وإن كانت قلبية تعدت بفي . و

قال ابن عطية : ويحتمل أن تكون ما في قوله : وما تغني ، مفعولة لقوله : انظروا ، معطوفة على قوله : ماذا أي : تأملوا نذر غنى الآيات . والنذر عن الكفار إذا قبلوا ذلك ، كفعل قوم يونس ، فإنه يرفع العذاب في الدنيا والآخرة وينجي من الهلكات . والآية على هذا تحريض على الإيمان ، وتجوز اللفظ على هذا التأويل ، إنما هو في قوله : لا يؤمنون انتهى . وهذا احتمال فيه ضعف .

وفي قوله : مفعولة معطوفة على قوله ماذا ، تجوز يعني أنّ الجملة الاستفهامية التي هي ماذا في السموات والأرض في موضع المفعول ، لأنّ ماذا منصوب وحده بانظروا ، فيكون ماذا موصولة . وانظروا بصرية لما تقدم ، والأيام هنا وقائع اللّه فيم ، كما يقال أيام العرب لوقائعها . وفي الاستفهام تقرير وتوعد ، وحض على الإيمان ، والمعنى : إذا لجوا في الكفر حل بهم العذاب ، وإذا آمنوا نجوا ، هذه سنة اللّه في الأمم الخالية . قل فانتظروا أمر تهديد أي : انتظروا ما يحل بكم كما خل بمن قبلكم من مكذبي الرسل .

١٠٣

{ثُمَّ نُنَجّى رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءامَنُواْ كَذَلِكَ حَقّا عَلَيْنَا نُنجِى الْمُؤْمِنِينَ } : لما تقدم قوله : فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم ، وكان ذلك مشعراً بما حل بالأمم الماضية المكذبة ومصرحاً بهلاكهم في غير ما آية ، أخبر تعالى عن حكاية حالهم الماضية فقال : ثم ننجي رسلنا ، والمعنى : إن الذين خلوا أهلكناهم لما كذبوا الرسل ، ثم نجينا الرسل والمؤمنين . ولذلك

قال الزمخشري : ثم ننجي معطوف على كلام محذوف يدل عليه إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم ، كأنه قيل : نهلك الأمم ثم ننجي رسلنا على مثل الحكايات الماضية . والظاهر أن كذلك في موضع نصب تقديره : مثل ذلك الإنجاء الذي نجينا الرسل ومؤمنيهم ، ننجي من آمن بك يا محمد ، ويكون حقاً على تقدير : حق ذلك حقاً . وقال أبو البقاء : يجوز أن يكون حقاً بدلاً من المحذوف النائب عنه الكاف تقديره : إنجاء مثل ذلك حقاً . وأجاز أن يكون كذلك ، وحقاً منصوبين بننجي التي بعدهما ، وأن يكون كذلك منصوباً بننجي الأولى ، وحقاً بننجي الثانية ، وأجاز هو تابعاً لابن عطية أن تكون الكاف في موضع رفع ، وقدره الأمر كذلك : وحقاً منصوب بما بعدها .

وقال الزمخشري مثل ذلك الإنجاء ننجي المؤمنين منكم ونهلك المشركين ، وحقاً علينا اعتراض يعني حق ذلك علينا حقاً . قال القاضي : حقاً علينا المراد به الوجوب ، لأن تخليص الرسول صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنين من العذاب إلى الثواب واجب ، ولولاه ما حسن من اللّه أن يلزمهم : الأفعال الشاقة . وإذا ثبت لهذا السبب جرى مجرى قضاء الدين للسبب المتقدّم ، وأجيب بأنه حق . بحسب الوعد والحكم لا بحسب الاستحقاق ، لما ثبت أن العبد لا يستحق على خالقه شيئاً .

وقرأ الكسائي ، وحفص : ننجي المؤمنين بالتخفيف مضارع أنجى ، وخط المصحف ننج بغير ياء .

١٠٤

انظر تسفير الآية:١٠٧

١٠٥

انظر تسفير الآية:١٠٧

١٠٦

انظر تسفير الآية:١٠٧

١٠٧

{قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِى شَكّ مّن دِينِى فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّه وَلَاكِنْ أَعْبُدُ اللّه الَّذِى يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ }  

خطاب لأهل مكة يقول : إن كنتم لا تعرفون ما أنا عليه فأنا أبينه لكم ، فبدأ أولاً بالانتفاء من عبادة ما يعبدون من الأصنام تسفيهاً لآرائهم ، وأثبت ثانياً من الذي يعبده وهو اللّه الذي يتوفاكم . وفي ذكر هذا الوصف الوسط الدال على التوفي . دلالة على البدء وهو الخلق ، وعلى الإعادة ، فكأنه أشار إلى أنه يعبد اللّه الذي خلقكم ويتوفاكم ويعيدكم ، وكثيراً ما صرح في القرآن بهذه الأطوار الثلاثة ، وكان التصريح بهذا الوصف لما فيه من التذكير بالموت وإرهاب النفوس به ، وصيرورتهم إلى اللّه بعده ، فهو الجدير بأنْ يخاف ويتقي ويعبد لا الحجارة التي تعبدونها . وأمرت أن أكون من المؤمنين لما ذكر أنه يعبد اللّه ، وكانت العبادة أغلب ما عليها عمل الجوارح ، أخبر أنه أمر بأن يكون من المصدقين باللّه الموحدين له ، المفرد له بالعبادة ، وانتقل من عمل الجوارح إلى نور المعرفة ، وطابق الباطن الظاهر .

قال الزمخشري : يعني أن اللّه تعالى أمرني بما ركب فيّ من العقل ، وبما أوحي إليّ في كتابه .

وقيل معناه إن كنتم في شك من ديني ومما أنا عليه ، أأثبت أم أتركه وأوافقكم ، فلا تحدثوا أنفسكم بالمحال ، ولا تشكوا في أمري ، واقطعوا عني أطماعكم ، واعلموا أني لا أعبد الذين تعبدون من دون اللّه ، ولا أختار الضلالة على الهدى كقوله : { قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } وأمرت أن أكون أصله : بأن أكون ، فحذف الجار وهذا الحذف يحتمل أن يكون من الحذف المطرد الذي هو حذف الحروف الجارة ، مع أنّ وإن يكون من الحذف غير المطرد وهو قوله : أمرتك الخير { فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ } انتهى يعني بالحذف غير المطرد وهو قوله : أمرتك الخير ، إنه لا يحذف حرف الجر من المفعول الثاني إلا في أفعال محصورة سماعاً لا قياساً وهي : اختار ، واستغفر ، وأمر ، وسمى ، ولبى ، ودعا بمعنى سمى ، وزوّج ، وصدّق ، خلافاً لمن قاس الحذف بحرف الجر من المفعول الثاني ، حيث يعني الحرف ووموضع الحذف نحو : بريت القلم بالسكين ، فيجيز السكين بالنصب . وجواب إن كنتم في شك قوله : فلا أعبد ، والتقدير : فأنا لا أعبد ، لأنّ الفعل المنفي بلا إذا وقع جواباً انجزم ، فإذا دخلت عليه الفاء علم أنه على إضمار المبتدأ . وكذلك لو ارتفع دون لا لقوله .

ومن عاد فينتقم اللّه منه أي : فهو ينتقم اللّه منه . وتضمن قوله : فلا أعبد ، معنى فأنا مخالفكم . وأن أقم يحتمل أنْ تكون معمولة لقوله : وأمرت ، مراعى فيها المعنى . لأن معنى قوله أنْ أكون كن من المؤمنين ، فتكون أن مصدرية صلتها الأمر . وقد أجاز ذلك النحويون ، فلم يلتزموا في صلتها ما التزم في صلات الأسماء الموصولة من كونها لا تكون إلا خبرية بشروطها المذكورة في النحو . ويحتمل أن تكون على إضمار فعل أي : وأوحي إليّ أن أقم ، فاحتمل أن تكون مصدرية ، واحتمل أن تكون حرف تفسير ، لأن الجملة المقدرة فيها معنى القول وإضمار الفعل أولى ، ليزول قلق العطف لوجود الكاف ، إذ لو كان وأنّ أقم عطفاً على أن أكون ، لكان التركيب وجهي بياء المتكلم ومراعاة المعنى فيه ضعف ، وإضمار الفعل أكثر من مراعاة العطف على المعنى . والوجه هنا المنحى ، والمقصد أي : استقم للدين ولا تحد عنه ، وكنى بذلك عن صرف العقل بالكلية إلى طلب الدين . وحنيفاً : حال من الضمير في أقم ، أو من المفعول . وأجاز الزمخشري أن تكون حالاً من الدين ، ولا تدع يحتمل أن يكون استئناف

نهي ، ويحتمل أن يكون معطوفاً على أقم ، فيكون في حيز أن على قسميها من كونها مصدرية ، وكونها حرف تفسير . وإذا كان دعاء الأصنام منهياً عنه فأحرى أن ينهي عن عبادتها ، فإن فعلت كنى بالفعل عن الدعاء إيجازاً أي : فإن دعوت ما لا ينفعك ولا يضرك . وجواب الشرط فإنك وخبرها ، وتوسطت إذاً بين اسم إنّ والخبر ، ورتبتها بعد الخبر ، لكنْ روعي في ذلك الفاصلة . قال الحوفي : الفاء جواب الشرط ، وإذا متوسطة لا عمل لها يراد بها في هذا إذا كان ذلك هذا تفسير ، المعنى لا يجيء على معنى الجواب انتهى .

وقال الزمخشري : إذا جواب الشرط ، وجواب لجواب مقدر كان سائلاً سأل عن تبعة عبادة الأوثان ، وجعل من الظالمين لأنه لا ظلم أعظم من الشرك ،  { إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } انتهى . وكلامه في إذا يحتاج إلى تأمل ، وقد تقدم لنا الكلام فيها مشبعاً في سورة البقرة . ولما وقع النهي عن دعاء الأصنام وهي لا تضر ولا تنفع ، ذكر أن الحول والقوة والنفع والضر ليس ذلك إلا للّه ، وأنه تعالى هو المنفرد بذلك ، وأتى في الضر بلفظ المس ، وفي الخير بلفظ الإرادة ، وطابق بين الضر والخير مطابقة معنوية لا لفظية ، لأنّ مقابل الضر النفع ومقابل الخير الشر ، فجاءت لفظة الضر ألطف وأخص من لفظة الشر ، وجاءت لفظة الخير أتم من لفظة النفع ، ولفظة المس أوجز من لفظ الإرادة وأنص على الإصابة وأنسب لقوله : فلا كاشف له إلا هو ، ولفظ الإرادة أدل على الحصول في وقت الخطاب وفي غيره وأنسب للفظ الخير ، وإن كان المس والإرادة معناهما الإصابة . وجاء جواب : وإن يمسسك بنفي عام وإيجاب ، وجاء جواب : وإن يردك بنفي عام ، لأنّ ما أراده لا يرده رادّ لا هو ولا غيره ، لأن إرادته قديمة لا تتغير ، فلذلك لم يجيء التركيب فلا رادّ له إلا هو . والمس من حيث هو فعل صفة فعل يوقعه ويرفعه بخلاف الإرادة ، فإنها صفة ذات ، وجاء فلا رادّ لفضله سمى الخير فضلاً إشعاراً بأنّ الخيور من اللّه تعالى ، هي صادرة على سبيل الفضل والإحسان والتفضل . ثم اتسع في الإخبار عن الفضل والخير فقال : يصيب به من يشاء من عباده ، ثم أخبر بالصفتين الدالتين على عدم المؤاخذة وهما : الغفور الذي يستر ويصفح عن الذنوب ، والرحيم الذي رحمته سبقت غضبه . ولما تقدم قوله : ولا تدع من دون اللّه ما لا ينفعك ولا يضرك ، فأخر الضر ، ناسب أن تكون البداءة بجملة الشرط المتعلقة بالضر . وأيضاً فإنه لما كان الكفار يتوقع منهم الضر للمؤمنين والنفع لا يرجى منهم ، كان تقديم جملة الضر آكد في الإخبار فبدىء بها .

وقال الزمخشري: { فإن قلت } : لم ذكر المس في أحدهما ، والإرادة في الثاني ؟ { قلت} : كأنه أراد أن يذكر الأمرين جميعاً : الإرادة ، والإصابة في كل واحد من الضر والخير ، وأنه لا رادّ لما يريد منهما ، ولا مزيل لما يصيب به منهما ، فأوجز الكلام بأنّ ذكر المس وهو الإصابة في أحدهما ، والإرادة في الإنجاز ، ليدل بما ذكر على ما ترك على أنه قد كرر الإصابة في الخير في قوله : يصيب به من يشاء من عباده ، والمراد بالمشيئة المصلحة .

١٠٨

انظر تسفير الآية:١٠٩

١٠٩

{قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبّكُمْ فَمَنُ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللّه وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ } الحق : القرآن ، أو الرسول ، أو دين الإسلام ، ثلاثة أقوال والمعنى : فإنما ثواب هدايته حاصل له ، ووبال ضلاله عليه ، والهداية والضلال واقعان بإرادة اللّه تعالى من العبد ، هذا مذهب أهل السنة . وأن من حكم له في الأزل بالاهتداء فسيقع ذلك ، وإن من حكم له بالضلال فكذلك ولا حيلة في ذلك . وقال القاضي : إنه تعالى بيّن أنه أكمل الشريعة وأزاح العلة وقطع المعذرة فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ، ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم

بوكيل ، فلا يجب عليّ من السعي في إيصالكم إلى الثواب العظيم ، وفي تخليصكم من العذاب الأليم ، أزيد مما فعلت .

وقال الزمخشري : لم يبق لكم عذر ولا على اللّه تعالى حجة ، فمن اختار الهدى واتباع الحق فما نفع باختياره إلا نفسه ، ومن آثر الضلال فما ضر إلا نفسه . واللام وعلى على معنى النفع والضر ، وكل إليهم الأمر بعد إزاحة العلل وإبانة الحق . وفيه حث على إتيان الهدى واطراح الضلال مع ذلك ، وما أنا عليكم بوكيل بحفيظ موكول إليّ أمركم وحملكم على ما أريد ، إنما أنا بشير ونذير انتهى . وكلامه تذييل كلام القاضي ، وهو جار على مذهب المعتزلة . وأمره تعالى نبيه باتباع ما يوحى إليه أمر بالديمومة وبالصبر على ما ينالك في اللّه من أذى الكفار وإعراضهم ، وغيا الأمر بالصبر بقوله : حتى يحكم اللّه وهو وعد منه تعالى بإعلاء كلمته ونصره على أعدائه كما وقع . وذهب ابن عباس وجماعة إلى أنّ قوله : وما أنا عليكم بوكيل واصبر ، منسوخ بآية السيف . وذهب جماعة إلى أنه محكم ، وحملوا وما أنا عليكم بوكيل على أنه ليس بحفيظ على أعمالهم ليجازيهم عليها ، بل ذلك للّه . وقوله : واصبر على ، الصبر على طاعة اللّه وحمل أثقال النوبة وأداء الرسالة ، وعلى هذا لا تعارض بين هاتين الآيتين وبين آية السيف ، وإلى هذا مال المحققون . وروي أنه لما نزلت : واصبر ، جمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الأنصار فقال :  { إنكم ستجدون بعدي إثرة فاصبروا حتى تلقوني }

قال الزمخشري : يعني أنّي أمرت في هذه الآية بالصبر على ما سامني الكفرة ، فصبرت واصبروا أنتم على ما يسومكم الأمراء الجورة . قال أنس : فلم نصبر ، ثم ذكر حكاية جرت بين أبي قتادة ومعاوية رضي اللّه عنهما يوقف عليها من كتابه .

﴿ ٠