٢٩{وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ فَكَفَى } : الضمير في نحشرهم عائد على من تقدم ذكرهم من { الَّذِينَ أَحْسَنُواْ }{ وَالَّذِينَ كَسَبُواْ } وقرأ الحسن وشيبة والقراء السبعة : نحشرهم بالنون ، وقرأت فرقة بالياء . وقيل : يعود الضمير على الذين كسبوا السيئات ، ومنهم عابد غير اللّه ، ومن لا يعبد شيئاً . وانتصب يوم على فعل محذوف أي : ذكرهم أو خوفهم ونحوه . وجميعاً حال ، والشركاء الشياطين أو الملائكة أو الأصنام أو من عبد من دون اللّه كائناً من كان أربعة أقوال . ومن قال : الأصنام ، قال : ينفخ فيها الروح فينطقها اللّه بذلك مكان الشفاعة التي علقوا بها أطماعهم . وروي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم : { أن الكفار إذا رأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب قيل لهم : اتبعوا ما كنتم تعبدون ، فيقولون واللّه لإياكم كنا نعبد ، فتقول الآلهة : فكفى باللّه شهيداً } الآية . قال ابن عطية : فظاهر هذه الآية أنّ محاورتهم إنما هي مع الأصنام دون الملائكة وعيسى ابن مريم ، بدليل القول لهم : مكانكم أنتم وشركاؤكم ، ودون فرعون ومن عبد من الجن بدليل قولهم : إن كنا عن عبادتكم لغافلين . وهؤلاء لم يغفلوا قط عن عبادة من عبدهم . ومكانكم عده النحويون في أسماء الأفعال ، وقد ربا ثبتوا كما قال : وقولي كلما جشأت وجاشت مكانك تحمدي أو تستريحي أي اثبتي . ولكونها بمعنى اثبتي جزم تحمدي ، وتحملت ضميراً فأكد وعطف عليه في قوله : أنتم وشركاؤكم . والحركة التي في مكانك ودونك ، أهي حركة إعراب ، أو حركة بناء تبتني على الخلاف الذي بين النحويين في أسماء الأفعال ؟ ألها موضع من الإعراب أم لا ؟ فمن قال : هي في موضع نصب جعل الحركة إعراباً ، ومن قال : لا موضع لها من الإعراب جعلها حركة بناء . وعلى الأول عول الزمخشري فقال : مكانكم الزموا مكانكم لا تبرحوا حتى تنظروا ما يفعل بكم . واختلفوا في أنتم ، فالظاهر ما ذكرناه من أنه تأكيد للضمير المستكن في مكانكم ، وشركاؤكم عطف على ذلك الضمير المستكن وهو قول الزمخشري قال : وأنتم أكّد به الضمير في مكانكم لسده مسد قوله : الزموا وشركاؤكم عطف عليه انتهى . يعني عطفاً على الضمير المستكن ، وتقديره : الزموا ، وأنّ مكانكم قام مقامه ، فيحمل الضمير الذي في الزموا ليس بجيد ، إذ لو كان كذلك لكان مكانك الذي هو اسم فعل يتعدى كما يتعدى الزموا . ألا ترى أن اسم الفعل إذا كان الفعل لازماً كان اسم الفعل لازماً ، وإذا كان متعدياً كان متعدياً مثال ذلك : عليك زيداً لما ناب مناب ، الزم تعدى . وإليك لما ناب مناب تنح ، لم يتعد . ولكون مكانك لا يتعدى ، قدره النحويون اثبت ، واثبت لا يتعدى . قال الحوفي : مكانكم نصب بإضمار فعل أي : الزموا مكانكم أو اثبتوا . وقال أبو البقاء : مكانكم ظرف مبني لوقوعه موقع الأمر ، أي الزموا انتهى . وقد بينا أن تقدير الزموا ليس بجيد ، إذ لم تقل العرب مكانك زيداً فتعديه ، كما تعدى الزم . و قال ابن عطية : أنتم رفع بالابتداء ، والخبر مخزيون أو مهانون ونحوه انتهى . فيكون مكانكم قد تم ، ثم أخبر أنهم كذا ، وهذا ضعيف لفك الكلام الظاهر اتصال بعض أجزائه ببعض ، ولتقدير إضمارلا ضرورة تدعو إليه ، ولقوله : فزيلنا بينهم ، إذ يدل على أنهم ثبتوا هم وشركاؤكم في مكان واحد حتى وقع التزييل بينهم وهو التفريق . ولقراءة من قرأ أنتم وشركاءكم بالنصب على أنه مفعول معه ، والعامل فيه اسم الفعل . ولو كان أنتم مبتدأ وقد حذف خبره ، لما جاز أن يأتي بعده مفعول معه تقول : كل رجل وضيعته بالرفع ، ولا يجوز فيه النصب . وقال ابن عطية أيضاً : ويجوز أن يكون أنتم تأكيداً للضمير الذي في الفعل المقدر الذي هو قفوا أو نحوه انتهى . وهذا ليس بجيد ، إذ لو كان تأكيداً لذلك الضمير المتصل بالفعل لجاز تقديمه على الظرف ، إذ الظرف لم يتحمل ضميراً على هذا القول فيلزم تأخيره عنه ، وهو غير جائز لا تقول : أنت مكانك ، ولا يحفظ من كلامهم . والأصح أنْ لا يجوز حذف المؤكد في التأكيد المعنوي ، فكذلك هذا ، لأن التأكيد ينافي الحذف . وليس من كلامهم : أنت زيداً لمن رأيته قد شهر سيفاً ، وأنت تريد ضرب أنت زيد ، إنما كلام العرب زيداً تريد اضرب زيداً . يقال زلت الشيء عن مكانه أزيله . قال الفراء : تقول العرب : زلت الضأن من المعز فلم تزل . وقال الواحدي : التزييل والتزيل والمزايلة التمييز والتفرق انتهى . وزيل مضاعف للتكثير ، وهو لمفارقة الخبث وهن من ذوات الياء ، بخلاف زال يزول فمادتهما مختلفة . وزعم ابن قتيبة أن زيلنا من مادة زال يزول ، وتبعه أبو البقاء . وقال أبو البقاء : فزيلنا عين الكلمة وأو لأنه من زال يزول ، وإنما قلبت لأنّ وزن الكلمة فيعل أي : زيولنا مثل بيطر وبيقر ، فلما اجتعمت الواو والياء على الشرط المعروف قلبت ياء انتهى . وليس بجيد ، لأنّ فعل أكثر من فيعل ، ولأنّ مصدره تزييل . ولو كان فيعل لكان مصدره فيعله ، فكان يكون زيلة كبيطرة ، لأنّ فيعل ملحق بفعلل ، ولقولهم في قريب من معناه : زايل ، ولم يقولوا زاول بمعنى فارق ، إنما قالوه بمعنى حاول وخالط وشرح ، فزيلنا ففرقنا بينهم وقطعنا أقرانهم ، والوصل التي كانت بينهم في الدنيا ، أو فباعدنا بينهم بعد الجمع بينهم في الموقف وبين شركائهم كقوله تعالى : { أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا } وقرأت فرقة : فزايلنا حكاه الفراء . قال الزمخشري : كقولك صاعر خده ، ووصعر ، وكالمته وكلمته انتهى . يعني أن فاعلبمعنى فعل ، وزايل في لسان العرب بمعنى فارق . قال : وقال العذارى إنما أنت عمنا وكان الشباب كالخليط يزايله وقال آخر : لعمري لموت لا عقوبة بعده لذي البث أشفى من هوى لا يزايله والظاهر أن التزييل أو المزايلة هو بمفارقة الأجسام وتباعده . وقيل : فرقنا بينهم في الحجة والمذهب قاله ابن عطية ، وفزيلنا . وقال : هنا ماضيان لفظاً ، والمعنى : فنزيل بينهم ونقول : لأنهما معطوفان على مستقبل ، ونفي الشركاء عبادة المشركين هو رد لقولهم : إياكم كنا نعبد ، والمعنى : إنكم كنتم تعبدون من أمركم أن تتخذوا للّه تعالى أنداداً فأطعتموهم ، ولما تنازعوا استشهد الشركاء باللّه تعالى . وانتصب شهيداً ، قيل : على الحال ، والأصح على التمييز لقبوله مِن . وتقدم الكلام في كفى وفي الياء ، وأنْ هي الخفيفة من الثقيلة . وعند القراء هي النافية ، واللام بمعنى إلا ، وقد تقدم الكلام في ذلك . واكتفاؤهم بشهادة اللّه هو على انتفاء أنهم عبدوهم . ثم استأنفوا جملة خبرية أنهم كانوا غافلين عن عبادتهم أي : لا شعور لنا بذلك . وهذا يرجح أن الشركاء هي الأصنام كما قال ابن عطية ، لأنه لو كان الشركاء ممن يعقل من إنسي أو جني أو ملك لكان له شعور بعبادتهم ، ولا شيء أعظم سبباً للغفلة من الجمادية ، إذ لا تحس ولا تشعر بشيء البتة . |
﴿ ٢٩ ﴾