سورة هود

بسم اللّه الرحمن الرحيم

١

انظر تسفير الآية:٤

٢

انظر تسفير الآية:٤

٣

 انظر تسفير الآية:٤

٤

الر كتاب أحكمت . . . . .

ثنى الشيء ثنياً طواه ، يقال : ثنى عطفه ، وثنى صدره ، وطوى كشحه . الحزب : جماعة من الناس يجتمعون على أمر يتعصبون فيه . رذل الرجل رذالة فهو رذل إذا كان سفلة لا خلاق له ، ولا يبالي بما يقول ما يفعل . الإخبات : التواضع والتذلل ، مأخوذ من الخبت وهو المطمئن من الأرض .

وقيل : البراح القفر المستوي ،

ويقال : أخبت دخل في الخبت ، مأنجد دخل نجداً وأنهم دخل تهامة ، ثم توسع فيه فقيل : خبت ذكره خمد . ويتعدى أخبت بإلى وباللام ، ويقال للشيء الدنيء : الخبيث . قال الشاعر : ينفع الطيب الخبيث من الرزق ولا ينفع الكثير الخبيث

لزم الشيء واظب عليه لا يفارقه ، ومنه اللزام . زرى يزري حقر ، وأزرى عليه عابه ، وازدرى افتعل من زرى أي : احتقر . التنور مستوقد النار ، ووزنه فعول عند أبي علي ، وهو أعجمي وليس بمشتق . وقال ثعلب : وزنه تفعول من النور ، وأصله تنوور فهمزت الواو ثم خففت ، وشدّد الحرف الذي قبله كما قال : رأيت عرابة اللوسي يسمو إلى الغايات منقطع القرين يريد عرابة الأوسى . وللمفسرين أقوال في التنور ستأتي إن شاء اللّه تعالى .

{الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءايَاتُهُ ثُمَّ فُصّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّه إِنَّنِى لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ } : قال ابن عباس ، والحسن ، وعكرمة ، ومجاهد ، وقتادة ، وجابر بن زيد : هذه السورة مكية كلها ،

وعن ابن عباس : مكية كلها إلا قوله :{ فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ } الآية

وقال مقاتل : مكية إلا قوله : فلعلك تارك الآية . وقوله : { أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } نزلت في ابن سلام وأصحابه . وقوله :{ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيّئَاتِ } نزلت في نبهان التمار .

وكتاب خبر مبتدأ محذوف يدل عليه ظهوره بعد هذه الحروف المقطعة كقوله : الم ذلك الكتاب ، وأحكمت صفة له . ومعنى الأحكام : نظمه نظماً رضياً لا نقص فيه ولا خلل ، كالبناء المحكم . وهو الموثق في الترصيف ، وعلى هذا فالهمزة في أحكمت ليست للنقل ، ويجوز أن تكون للنقل من حكم بضم الكاف إذا صار حكيماً ،

فالمعنى : جعلت حكيمة كقولك : تلك آيات الكتاب الحكيم على أحد التأويلين في قوله :{ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ }

وقيل : من أحكمت الدابة إذا منعها من الجماح بوضع الحكمة عليها ،

فالمعنى : منعت من النساء كما قال جرير : أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم

إني أخاف عليكم أن أغضبا

وعن قتادة : أحكمت من الباطل . قال ابن قتيبة : أحكمت أتقنت شبه ما يحكم من الأمور المتقنة الكاملة ، وبهذه الصفة كان القرآن في الأول ، ثم فصل بتقطيعه وتبيين أحكامه وأوامره عل محمد صلى اللّه عليه وسلم فثم على بابها ، وهذه طريقة الإحكام والتفصيل . إذ الإحكام صفة ذاتية ، والتفصيل إنما هو بحسب من يفصل له ، والكتاب أجمعه محكم مفصل ، والإحكام الذي هو ضد النسخ ، والتفصيل الذي هو خلاف الإجمال ، إنما يقالان مع ما ذكرناه باشتراك .

وحكى الطبري عن بعض المتأولين : أحكمت بالأمر والنهي ، وفصلت بالثواب والعقاب . وعن بعضهم : أحكمت من الباطل ، وفصلت بالحلال والحرام ، ونحو هذا من التخصيص الذي هو صحيح المعنى ، ولكن لا يقتضيه اللفظ .

وقيل : فصلت معناه فسرت ،

وقال الزمخشري : ثم فصلت كما تفصل القلائد بالدلائل من دلائل التوحيد والأحكام والمواعظ والقصص ، أو جعلت فصولاً سورة سورة وآية آية ، أو فرقت في التنزيل ولم تنزل جملة واحدة ، أو فصل بها ما يحتاج إليه العباد أي بيّن ولخص .

وقرأ عكرمة ، والضحاك ، والجحدري ، وزيد بن علي ، وابن كثير في رواية : ثم فصلت بفتحتين ، خفيفة على لزوم الفعل للآيات . قال صاحب اللوامح : يعني انفصلت وصدرت . و

قال ابن عطية : فصلت بين المحق والمبطل من الناس ، أو نزلت إلى الناس كما تقول : فصل فلان بسفره .

قال الزمخشري : وقرىء أحكمت آياته ثم فصلت أي : أحكمتها أنا نائم ، فصلتها . { فإن قلت} : ما معنى ؟ ثم { قلت} : ليس معناها التراخي في الوقت ولكن في الحال ، كما تقول : هي محكمة أحسن الأحكام ، ثم مفصلة أحسن التفصيل ، وفلان كريم الأصل ، ثم كريم الفعل انتهى . يعني أنّ ثم جاءت لترتيب الإخبار لا لترتيب الوقوع في الزمان ، واحتمل من لدن أن يكون في موضع الصفة . ومن أجاز تعداد الأخبار إذا لم تكن في معنى خبر واحد أجاز أن يكون خبراً بعد خبر .

قال الزمخشري : أن يكون صلة أحكمت وفصلت أي : من عنده أحكامها وتفصيلها . وفيه طباق حسن ، لأنّ المعنى أحكمها حكيم وفصلها أي : بينها وشرحها خبير بكيفيات الأمور انتهى . ولا يريد أن من لدن متعلق بالفعلين معاً من حيث صناعة الإعراب ، بل يريد أن ذلك من باب الاعمال ، فهي متعلقة بهما من حيث المعنى . وأن لا تعبدوا يحتمل أن يكون أن حرف تفسير ، لأنّ في تفصيل الآيات معنى القول وهذا أظهر ، لأنه لا يحتاج إلى إضمار .

وقيل : التقدير لأنْ لا تعبدوا أو بأنْ لا تعبدوا ، فيكون مفعولاً من أجله ، ووصلت أنْ بالنهي .

وقيل أنْ نصبت لا تعبدوا ، فالفعل خبر منفي .

وقيل : أنْ هي المخففة من الثقيلة ، وجملة النهي في موضع الخبر ، وفي هذه الأقوال العامل فصلت .

وأما من أعربه أنه بدل من لفظ آيات أو من موضعها ، أو التقدير : من النظر أنْ لا تعبدوا إلا اللّه ، أو في الكتاب ألا تعبدوا ، أو هي أنْ لا تعبدوا ، أو ضمن أنْ لا تعبدوا ، أو تفصله أنْ لا تعبدوا ، فهو بمعزل عن علم الإعراب . والظاهر عود الضمير في منه إلى اللّه أي : إني لكم نذير من جهته وبشير ، فيكون في موضع الصفة ، فتعلق بمحذوف أي : كائن من جهته . أو تعلق بنذير أي : أنذركم من عذابه إنْ كفرتم ، وأبشركم بثوابه إن آمنتم .

وقيل : يعود على الكتابة أي : نذير لكم من مخالفته ، وبشير منه لمن آمن وعمل به . وقدم النذير لأن التخويف هو الأهم . وأنْ استغفروا معطوف على أنْ لا تعبدوا ، نهي أو نفي أي : لا يعبد إلا اللّه . وأمر بالاستغفار من الذنوب ، ثم بالتوبة ، وهما معنيان متباينان ، لأنّ الاستغفار طلب المغفرة وهي الستر ، والمعنى : أنه لا يبقى لها تبعة . والتوبة الانسلاخ من المعاصي ، والندم على ما سلف منها ، والعزم على عدم العود إليها . ومن قال : الاستغفار توبة ، جعل قوله : ثم توبوا ، بمعنى أخلصوا التوبة واستقيموا عليها .

قال ابن عطية : وثم مرتبة ، لأن الكافر أول ما ينيب ، فإنه في طلب مغفرة ربه ، فإذا تاب وتجرد من الكفر تم إيمانه .

وقال الزمخشري{ فإن قلت } : ما معنى ثمّ في قوله : ثم توبوا إليه ؟ { قلت} : معناه استغفروا من الشرك ، ثم ارجعوا إليه بالطاعة .

وقرأ الحسن ، وابن هرمز ، وزيد بن علي ، وابن محيصن : يمتعكم بالتخفيف من أمتع ، وانتصب متاعاً على أنه مصدر جاز على غير الفعل ، أو على أنه فمعول به . لأنك تقول : متعت زيداً ثوباً ، والمتاع الحسن الرضا بالميسور والصبر على المقدور ، أو حسن العمل وقطع الأمل ، أو النعمة الكافية مع الصحة والعافية ، أو الحلال الذي لا طلب فيه ولا تعب ، أو لزوم القناعة وتوفيق الطاعة أقوال .

وقال الزمخشري : يطول نفعكم في الدنيا بمنافع حسنة مرضية ، وعيشة واسعة ، ونعمة متتابعة .

قال ابن عطية :

وقيل هو فوائد الدنيا وزينتها ، وهذا ضعيف . لأنّ الكفار يشاركون في ذلك أعظم مشاركة ، وربما زادوا على المسلمين في ذلك . قال : ووصف المتاع بالحسن إنما هو لطيب عيش المؤمن برجائه في اللّه عز وجل ، وفي ثوابه وفرحه بالتقرب إليه بمفروضاته ، والسرور بمواعيده ، والكافر ليس في شيء من هذا ، والأجل المسمى هو أجل الموت قاله : ابن عباس والحسن . وقال ابن جبير : يوم القيامة ، والضمير في فضله يحتمل أن يعود على اللّه تعالى أي : يعطي في الآخرة كل من كان له فضل في عمل الخير ، وزيادة ما تفضل به تعالى وزاده . ويحتمل أن يعود على كل أي : جزاء ذلك الفضل الذي عمله في الدنيا لا يبخس منه شيء ، كما قال : { نُوَفّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا } أي جزاءها . والدرجات تتفاضل في الجنة بتفاضل الطاعات ، وتقدم أمران بينهما تراخ ، ورتب عليهما جوابان بينهما تراخ ، ترتب على الاستغفار التمتيع المتاع الحسن في الدنيا ، كما قال : فقلت { اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً } الآية وترتب على التوبة إيتاء الفضل في الآخرة ، وناسب كل جواب لما وقع جواباً له ، لأنّ الاستغفار من الذنب أول حال الراجع إلى اللّه ، فناسب أن يرتب عليه حال الدنيا . والتوبة هي المنجية من النار ، والتي تدخل الجنة ، فناسب أن يرتب عليها حال الآخرة . والظاهر أنّ تولوا مضارع حذف منه التاء أي : وإنْ تتولوا .

وقيل : هو ماض للغائبين ، والتقدير قيل لهم : إني أخاف عليكم .

وقرأ اليماني ، وعيسى بن عمر : وإن تولوا بضم التاء واللام ، وفتح الواو ، مضارع وليّ ، والأولى مضارع تولى . وفي كتاب اللوامح اليماني وعيسى البصرة : وإن تولوا بثلاث ضمات مرتباً للمفعول به ، وهو ضد التبري .

وقرأ الأعرج : تولوا بضم التاء واللام . وسكون الواو ، مضارع أولى ، ووصف يوم بكبير وهو يوم القيامة لما يقع فيه من الأهوال .

وقيل : هو يوم بدر وغيره من الأيام التي رموا فيها بالخذلان والقتل والسبي والنهب وأبعد من ذهب إلى أنّ كبير صفة لعذاب ، وخفض على الجوار . وباقي الآية تضمنت تهديداً عظيماً وصرحت بالبعث ، وذكر أنّ قدرته عامة لجميع ما يشاء ، ومن ذلك البعث ،

فهو لا يعجزه ما شاء من عذابهم .

٥

{أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } : نزلت في الأخنس بن شريق ، كان يجالس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ويحلف أنه ليحبه ويضمر خلاف ما يظهر قاله ابن عباس . وعنه أيضاً : في ناس كانوا يستحيون أن يفضوا إلى السماء في الخلاء ومجامعة النساء .

وقيل : في بعض المنافقين ، كان إذا مر بالرسول صلى اللّه عليه وسلم ثنى صدره وظهره وطأطأ رأسه وغطى وجهه كي لا يرى الرسول قاله : عبد اللّه بن شدّاد .

وقيل : في طائفة قالوا إذا أغلقنا أبوابنا ، وأرخينا ستورنا ، واستغشينا ثيابنا ، وثنينا صدورنا ، على عداوته كيف يعلم بنا ؟ ذكره الزجاج .

وقيل : فعلوا ذلك ليبعد عليهم صوت الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، ولا يدخل أسماعهم القرآن ذكره ابن الأنباري . ويثنون مضارع ثنى قراءة الجمهور .

وقرأ سعيد بن جبير : يثنون بضم الياء مضارع أثنى صدورهم بالنصب . قال صاحب اللوامح : ولا يعرف الاثناء في هذا الباب إلا أن يراد به وجدتها مثنية مثل أحمدته وأمجدته ، ولعله فتح النون وهذا مما فعل بهم ، فيكون نصب صدورهم بنزع الجار ، ويجوز على ذلك أن يكون صدورهم رفعاً على البدل بدل البعض من الكل . وقال أبو البقاء : ماضية أثنى ، ولا يعرف في اللغة إلا أن يقال معناه : عرضوها للاثناء ، كما يقال : أبعت الفرس إذا عرضته للبيع .

وقرأ ابن عباس ، وعلي بن الحسين ، وابناه زيد ومحمد ، وابنه جعفر ، ومجاهد ، وابن يعمر ، ونصر بن عاصم ، وعبد الرحمن بن ابزي ، والجحدري ، وابن أبي إسحاق ، وأبو الأسود الدؤلي ، وأبو رزين ، والضحاك : تثنوني بالتاء مضارع اثنوني على وزن افعوعل نحو اعشوشب المكان صدورهم بالرفع ، بمعنى تنطوي صدورهم .

وقرأ أيضاً ابن عباس ، ومجاهد ، وابن يعمر ، وابن أبي إسحاق : يثنوني بالياء صدورهم بالرفع ، ذكر على معنى الجمع دون الجماعة .

وقرأ ابن عباس أيضاً ليثنون بلام التأكيد في خبر إنْ ، وحذف الياء تخفيفاً وصدورهم رفع .

وقرأ ابن عباس أيضاً ، وعروة ، وابن أبي أبزي ، والأعشى : يثنون ووزنه يفعوعل من الثن ، بنى منه افعوعل وهو ما هش وضعف من الكلأ ، وأصله يثنونن يريد مطاوعة نفوسهم للشيء ، كما ينثني الهش من النبات . أو أراد ضعف إيمانهم ومرض قلوبهم وصدورهم بالرفع .

وقرأ عروة ومجاهد أيضاً : كذلك إلا أنه همز فقرأ يثنئن مثل يطمئن ، وصدورهم رفع ، وهذه مما استثقل فيه الكسر على الواو كما قيل : أشاح . وقد قيل أن يثنئن يفعئل من الثن . المتقدّم ، مثل تحمارّ وتصفارّ ، فحركت الألف لالتقائهما بالكسر ، فانقلبت همزة .

وقرأ الأعشى : يثنؤون مثل يفعلون مهموز اللام ، صدورهم بالنصب . قال صاحب اللوامح : ولا أعرف وجهه لأنه يقال : ثنيت ، ولم أسمع ثنأت . ويجوز أنه قلب الياء ألفاً على لغة من يقول : أعطأت في أعطيت ، ثم همز على لغة من يقول :{ وَلاَ الضَّالّينَ }

وقرأ ابن عباس : يثنوي بتقديم الثاء على النون ، وبغير نون بعد الواو على وزن ترعوي . قال أبو حاتم : وهذه القراءة غلط لا تتجه انتهى . وإنما قال ذلك لأنه لاحط الواو في هذا الفعل لا يقال : ثنوته فانثوى كما يقال : رعوته أي كففته فارعوى فانكف ، ووزنه أفعل .

وقرأ نضير بن عاصم ، وابن يعمر ، وابن أبي إسحاق : يثنون بتقديم النون على الثاء ، فهذه عشر قراءات في هذه الكلمة . والضمير في أنهم عائد على بعض من بحضرة الرسول صلى اللّه عليه وسلم من الكفار أي : يطوون صدورهم على عدوانه .

قال الزمخشري : يثنون صدورهم يزوّرون عن الحق وينحرفون عنه ، لأنّ من أقبل على الشيء استقبله بصدره ، ومن ازورّ عنه وانحرف ثنى عنه صدره وطوى عنه كشحه ليستخفوا منه ، يعني : ويريدون ليستخفوا من اللّه ، فلا يطلع رسوله والمؤمنين على ازورارهم . ونظير إضمار يريدون ، لعود المعنى إلى إضماره الإضمار في قوله تعالى :{ أَنِ اضْرِب بّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ } معناه : فضرب فانفلق . ومعنى ألا حين : يستغشون ثيابهم ويريدون الاستخفاء حين يستغشون ثيابهم أيضاً كراهة لاستماع كلام اللّه كقول نوح عليه السلام :{ جَعَلُواْ أَصَابِعَهُمْ فِى وَاسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّواْ } انتهى . فالضمير في منه على قوله عائد على اللّه ، قال

ابن عطية : وهذا هو الأفصح الأجزل في المعنى انتهى . ويظهر من بعض أسباب النزول أنه عائد على الرسول صلى اللّه عليه وسلم كما قال ابن عطية . قال : قيل : إنّ هذه الآية نزلت في الكفار الذين كانوا إذا لقيهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تطامنوا وثنوا صدورهم كالمتستر ، وردّوا إليه ظهورهم ، وغشوا وجوههم بثيابهم تباعداً منهم وكراهية للقائه ، وهم يظنون أنّ ذلك يخفى عليه أو عن اللّه تعالى فنزلت الآية انتهى . فعلى هذا يكون ليستخفوا متعلقاً بقوله يثنون ، وكذا قال الحوفي .

وقيل : هي استعارة للغل ، والحقد الذي كانوا ينطون عليه كما تقول : فلان يطوي كشحه على عداوته ، ويثني صدره عليها ، فمعنى الآية : ألا أنهم يسرون العداوة ويتكتمون لها ، ليخفي في ظنهم عن اللّه عز وجل ، وهو تعالى حين تغشيهم بثيابهم وإبلاغهم في التستر يعلم ما يسرون انتهى . فعلى هذا يكون حين معمولاً لقوله : يعلم ، وكذا قاله الحوفي لا للمضمر الذي قدره الزمخشري وهو قوله : ويريدون الاستخفاء حين يستغشون ثيابهم . وقال أبو البقاء : ألا حين العامل في الظرف محذوف أي : ألا حين يستغشون ثيابهم يستخفون ، ويجوز أن يكون ظرفاً ليعلم .

وقيل : كان بعضهم ينحني على بعض ليساره في الطعن على المسلمين ، وبلغ من جهلهم أنّ ذلك يخفى على اللّه تعالى . قال قتادة : أخفى ما يكون إذا حتى ظهره واستغشى ثوبه ، وأضمر في نفسه همته . وقال مجاهد : يطوونها على الكفر .

وقال ابن عباس : يخفون ما في صدورهم من الشحناء . وقال قتادة : يخفون ليسمعوا كلام اللّه . وقال ابن زيد : يكتمونها إذا ناجى بعضاً في أمر الرسول صلى اللّه عليه وسلم.

وقيل : يثنونها حياءً من اللّه تعالى ، ومعنى يستغشون : يجعلونها أغشية . ومنه قول الخنساء : أرعى النجوم وما كلفت رعيتها

وتارة أتغشى فضل أطماري

وقيل : المراد بالثياب الليل ، واستعيرت له لما بينهما من العلاقة بالستر ، لأن الليل يستر كما تستر الثياب ومنه قولهم : الليل أخفى للويل ،

وقرأ ابن عباس : على حين يستغشون .

قال ابن عطية : ومن هذا الاستعمال قول النابغة : على حين عاتبت المشيب على الصبا

وقلت ألما أصح والشيب وازع

انتهى .

وقال ابن عباس : ما يسرون بقلوبهم ، وما يعلنون بأفواههم .

وقيل : ما يسرون بالليل وما يعلنون بالنهار . وقال ابن الأنباري : معناه أنه يعلم سرائرهم كما يعلم مظهرانهم .

وقال الزمخشري : يعني أنه لا تفاوت في علمه بين إسرارهم وإعلانهم ، فلا وجه لتوصلهم إلى ما يريدون من الاستخفاء واللّه مطلع على ثنيهم صدورهم ، واستغشائهم بثيابهم ، ونفاقهم غير نافق عنده . وقال صاحب التحرير : الذي يقتضيه سياق الآية أنه أراد بما يسرون ما انطوت عليه صدورهم من الشرك والنفاق والغل والحسد والبغض للنبي صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه ، لأنّ ذلك كله من أعمال

القلوب ، وأعمال القلوب خفيه جدًّا ، وأراد بما يعلنون ما يظهرونه من استدبارهم النبي صلى اللّه عليه وسلم وتغشيه ثيابهم ، وسدّ آذانهم وهذه كلها أعمال ظاهرة لا تخفى .

٦

{وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الاْرْضِ إِلاَّ عَلَى رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ } : الدابة هنا عام في كل حيوان يحتاج إلى رزق ، وعلى اللّه ظاهر في الوجوب ، وإنما هو تفضل ، ولكنه لما ضمن تعالى أن يتفضل به عليهم أبرزه في حيز الوجوب . قال ابن عباس : مستقرها حيث تأوى إليه من الأرض ، ومستودعها الموضع الذي تموت فيه فتدفن . وعنه أيضاً : مستقرها في الرحم ، ومستودعها في الصلب . وقال الربيع بن أنس : مستقرها في أيام حياتها ، ومستودعها حين تموت وحين تبعث .

وقيل : مستقرها في الجنة أو في النار ، ومستودعها في القبر ، ويدل عليه :{ حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً }{ وَسَاءتْ مُسْتَقِرّاً }

وقيل : ما يستقر عليه عملها ، ومستودعها ما تصير إليه .

وقيل : المستقر ما حصل موجوداً من الحيوان ، والمستودع ما سيوجد بعد المستقر .

وقال الزمخشري : المستقر مكانه من الأرض ومسكنه ، والمستودع حيث كان موجوداً قبل الاستقرار من صلب أو رحم أو بيضة انتهى . ومستقر ومستودع يحتمل أن يكونا مصدرين ، ويحتمل أن يكونا اسمي مكان ، ويحتمل مستودع أن يكون اسم مفعول لتعدّي الفعل منه ، ولا يحتمله مستقر للزوم فعله كل أي : كل من الرزق والمستقر والمستودع في اللوح يعني : وذكرها مكتوب فيه مبين .

وقيل : الكتاب هنا مجاز ، وهو إشارة إلى علم اللّه ، وحمله على الظاهر أولى .

٧

انظر تسفير الآية:٨

٨

{وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُمْ مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ } : لما ذكر تعالى ما يدل على كونه تعالى عالماً ، ذكر ما يدل على كونه قادراً ، وتقدّم تفسير الجملة الأولى في سورة يونس . والظاهر أنّ قوله : وكان عرشه على الماء ، تقديره قبل خلق السموات والأرض ، وفي هذا دليل على أنّ الماء والعرش كانا مخلوقين قبل . قال كعب : خلق اللّه ياقوتة خضراء فنظر إليها بالهيبة فصارت ماء ، ثم خلق الريح فجعل الماء على متنها ، ثم وضع العرش على الماء . وروي عن ابن عباس أنه وقد قيل له : على أي شيء كان الماء ؟ قال : كان على متن الريح ، والظاهر تعليق ليبلوكم بخلق .

قال الزمخشري : أي خلقهن لحكمة بالغة ، وهي أنْ يجعلها مساكن لعباده ، وينعم عليهم فيها بفنون النعم ، ويكلهم فعل الطاعات واجتناب المعاصي ، فمن شكر وأطاع أثابه ، ومن كفر وعصى عاقبه . ولما أشبه ذلك اختبار المختبر قال : ليبلوكم ، يريد ليفعل بكم ما يفعل المبتلي لأحوالكم كيف تعملون . { فإن قلت} : كيف جاز تعليق فعل البلوى ؟ { قلت} : لما في الاختبار من معنى العلم ، لأنه طريق اللّه ، فهو ملابس له كما تقول : انظر أيهم أحسن وجهاً ، واستمع أيهم أحسن صوتاً ، لأنّ النظر والاستماع من طرق العلم انتهى .

وفي قوله : ومن كفر وعصى عاقبه ، دسيسة الاعتزال .

وأما قوله : واستمع أيهم أحسن صوتاً ، فلا أعلم أحداً ذكر أن استمع تعلق ، وإنما ذكروا من غير أفعال القلوب سل وانظر ، وفي جواز تعليق رأي البصرية خلاف .

وقيل : ليبلوكم متعلق بفعل محذوف تقديره أعلم بذلك ليبلوكم ، ومقصد هذا التأوي أنّ هذه المخلوقات لم تكن بسبب البشر .

وقيل : تقدير الفعل ، وخلقكم ليبلوكم .

وقيل : في الكلام جمل محذوفة ، التقدير : وكان خلقه لهما لمنافع يعود عليكم نفعها في الدنيا دون الأخرى ، وفعل ذلك ليبلوكم . ومعنى أيكم أحسن عملاً : أهذا أحسن أم هذا . قال ابن بحر : روي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم { أيكم أحسن عقلاً ، وأورع عن محارم اللّه ، وأسرع في طاعة اللّه} ولو صح هذا التفسير عن الرسول صلى اللّه عليه وسلم لم يعدل عنه . وقال الحسن : أزهد في اللّه . وقال مقاتل : أتقى للّه . وقال الضحاك : أكثركم شكراً .

قال الزمخشري{ فإن قلت } : فكيف قيل : أيكم

أحسن عملاً وأعمال المؤمنين هي التي تتفاوت إلى حسن وأحسن ، فأما أعمال المؤمنين والكافرين فتفاوتهما إلى حسن وقبيح ؟ { قلت} : الذين هم أحسن عملاً هم المتقون ، وهم الذين استبقوا إلى تحصيل ما هو غرض اللّه منن عباده ، فخصهم بالذكر ، واطرح ذكر من وراءهم تشريفاً لهم وتنبيهاً على مكانهم ، وليكون ذلك تيقظاً للسامعين وترغيباً في حيازة فضلهم انتهى . ولئن قلت ، خطاب للرسول صلى اللّه عليه وسلم.

وقرأ عيسى الثقفي : ولئن قلت بضم التاء إخباراً عنه تعالى ، والمعنى : ولئن قلت مستدلاً على البعث من بعد الموت ، إذ في قوله تعالى : وهو الذي خلق ، دلالة على القدرة : العظيمة ، فمتى أخبر بوقوع ممكن وقع لا محالة ، وقد أخبر بالبعث فوجب قبوله وتيقن وقوعه . وقرىء : أيكم بفتح الهمزة .

قال الزمخشري : ووجهه أن يكون من قولهم : ائت السوق إنك تشتري لحماً ، بمعنى علك أي : ولئن قلت لهم لعلكم مبعوثون بمعنى توقعوا بعثكم وظنوه ، لأثبتوا القول بإنكاره لقالوا : ويجوز أن يضمن . قلت معنى ذكرت انتهى يعني : فبفتح الهمزة لأنها في موضع مفعول ذكرت ، والظاهر الإشارة بهذا إلى القول أي : إن قولك إنكم مبعوثون إلا سحر أي بطلان هذا القول كبطلان السحر ، ويحتمل أن يكون إشارة إلى ما دلت عليه الجملة من البعث . أي : إن البعث .

وقيل : أشاروا بهذا إلى القرآن ، وهو الناطق بالبعث ، فإذا جعلوه سحراً فقد اندرج تحته إنكار ما فيه من البعث وغيره .

قال ابن عطية : كذبوا وقالوا : هذا سحر ، فهذا تناقض منهم إن كان مفطوراً بقربات اللّه فاطر السموات والأرض فهو من جملة المقرب بهذا ، وهم مع ذلك ينكرون ما هو أيسر منه بكثير وهو البعث من القبور ، إذ البداءة أعسر من الإعادة ، وإذ خلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس انتهى .

وقرأ الحسن ، والأعرج ، وأبو جعفر ، وشيبة ، وفرقة من السبعة : سحر . وقرأت فرقة : ساحر ، يريدون والساحر كاذب مبطل ، ولئن أخرنا حكى تعالى نوعاً آخر من أباطيلهم واستهزائهم ، والعذاب هنا عذاب القيامة .

وقيل : عذاب يوم بدر .

وعن ابن عباس : قتل جبريل المستهزئين ، والظاهر العذاب الموعود به ، والأمّة هنا المدة من الزمان قاله : ابن عباس ، وقتادة ، ومجاهد ، والجمهور ، ومعناه : إلى حين . ووقت معلوم ما يحبسه استفهام ، قالوه وهو على سبيل التكذيب والاستهزاء . قال الطبري : سميت المدة أمة ، لأنها يقضي فيها أمة من الناس وتحدث أخرى ، فهي على هذا المدة الطويلة ، ثم استفتح الأخبار بأنه يوم لا يردّه شيء ولا يصرفه . والظاهر أنّ يوم منصوب بقوله : مصروفاً ، فهو معمول لخبر ليس . وقد استدل به على جواز تقديم خبر ليس عليها قالوا : لأن تقدم المعمول يؤذن بتقدم العامل ، ونسب هذا المذهب لسيبويه ، وعليه أكثر البصريين . وذهب الكوفيون والمبرد : إلى أنه لا يجوز ذلك ، وقالوا : لا يدل جواز تقدم المعمول على جواز تقدم العامل . وأيضاً فإنّ الظرف المجرور يتسع فيهما ما لا يتسع في غيرهما ، ويقعان حيث لا يقع العامل فيهما نحو : إن اليوم زيداً مسافر ، وقد تتبعت جملة من دواوين العرب فلم أظفر بتقدم خبر ليس عليها ، ولا بمعموله ، إلا ما دل عليه ظاهر هذه الآية ، وقول الشاعر : فيأبى فما يزداد إلا لجاجه

وكنت أبياً في الخفا لست أقدم

وتقدم تفسير جملة وحاق بهم .

٩

انظر تسفير الآية:١١

١٠

انظر تسفير الآية:١١

١١

{وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاء بَعْدَ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيّئَاتُ عَنّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } : لما ذكر تعالى عذاب الكفار وإنْ تأخر لا بد أن يحيق بهم ، ذكر ما يدل على كفرهم وكونهم مستحقين العذاب لما جبلوا عليه من كفر نعماء اللّه ، وما يترتب على إحسانه تعالى إليهم مما لا يليق بهم من فخرهم على عباد اللّه . والظاهر أنّ الإنسان هنا هو جنس ، والمعنى إن هذا الخلق في سجايا الناس ، ثم استثنى منهم الذين ردّتهم الشرائع والإيمان إلى الصبر والعمل الصالح ، ولذلك جاء الاستثناء منه في قوله : إلا الذين صبروا متصلاً .

وقيل : المراد هنا بالإنسان الكافر

وقيل : المراد به إنسان معين ، فقال ابن عباس : هو الوليد بن المغيرة ، وفيه نزلت .

وقيل : عبد اللّه بن أمية المخزومي ، وذكره الواحدي ، وعلى هذين القولين يكون استثناء منقطعاً ومعنى رحمة : نعمة من صحة ، وأمن وجدة ، ثم نزعناها أي سلبناها منه . ويؤوس كفور ، صفتا مبالغة والمعنى : إنه شديد اليأس كثيرة ، ييأس أنْ يعود إليه مثل تلك النعمة المسلوبة ، ويقطع رجاءه من فضل اللّه من غير صبر ولا تسليم لقضائه . كفور كثير الكفر ، إن لما سلف للّه عليه من نعمة ذكر حالة الإنسان إذ بدىء بالنعمة ولم يسبقه الضر ، ثم ذكر حاله إذا جاءته النعمة بعد الضر . ومعنى ذهب السيئات أي : المصائب التي تسوءني . وقوله هذا يقتضي نظراً وجهلاً ، لأن ذلك بإنعام من اللّه ، وهو يعتقد أنّ ذلك اتفاق أو يسعد ، وهو اعتقاد فاسد . إنه لفرح أشر بطر ، وهذا الفرح مطلق ، فلذلك ذم المتصف به ، ولم يأت في القرآن للمدح إلا مقيداً بما فيه خير كقوله : { فَرِحِينَ بِمَا ءاتَاهُمُ اللّه مِن فَضْلِهِ }

وقرأ الجمهور : لفرح بكسر الراء ، وهي قياس اسم الفاعل من فعل اللازم . وقرأت فرقة : لفرح بضم الراء ، وهي كما تقول : ندس ، ونطس . وفخره هو تعاظمه على الناس بما أصابه من النعماء ، واستثنى تعالى الصابرين يعني على الضراء وعاملي الصالحات . ومنها الشكر على النعماء . أولئك لهم مغفرة لذنوبهم يقتضي زوال العقاب والخلاص منه ، وأجر كبير هو الجنة ، فيقتضي الفوز بالثواب . ووصف الأجر بقوله : كبير ، لما احتوى عليه من النعيم السرمدي ورفع التكاليف ، وإلا من العذاب ، ورضا اللّه عنهم ، والنظر إلى وجهه الكريم .

١٢

{فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحِى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنُزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ وَاللّه عَلَى كُلّ } :

قال الزمخشري : كانوا يقترحون عليه آيات تعنتاً لا استرشاد ، لأنهم لو كانوا مسترشدين لكانت آية واحدة مما جاء به كافية في رشادهم . ومن اقتراحاتهم : لولا أنزل عليه كنز ، أو جاء معه ملك ، وكانوا لا يعتدون بالقرآن ، ويتهاونون به وبغيره مما جاء به من البينات ، فكان يضيق صدر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يلقي إليهم ما لا يقبلونه ويضحكون منه ، فحرك اللّه منه وهيجه لأداء الرسالة وطرح المبالاة بردهم واستهزائهم واقتراحهم بقوله : فلعلك تارك بعض ما يوحي إليك أي : لعلك تترك أن تلقيه إليهم ، وتبلغه إياهم مخافة ردهم وتهاونهم به ، وضائق به صدرك بأنْ تتلو عليهم أن يقولوا مخافة أن يقولوا : لولا أنزل عليه كنز ، هلا أنزل عليه ما اقترحنا نحن من الكنز والملائكة ، ولم ينزل عليه ما لا نريده ولا نقترحه . ثم قال : إنما أنت نذير أي : ليس عليك إلا أن تنذرهم بما أوحي إليك ، وتبلغهم ما أمرت بتبليغه ، ولا عليك ردّوا أو تهاونوا أو اقترحوا ، واللّه على كل شيء وكيل يحفظ ما يقولون ، وهو فاعل بهم ما يجب أن يفعل ، فتوكل عليه ، وكل أمرك إليه .

و

قال ابن عطية : سبب نزول هذه الآية أن كفار قريش قالوا : يا محمد لو تركت سب آلهتنا وتسفيه آبائنا لجالسناك واتبعناك ، وقالوا : إئت بقرآن غير هذا أو بدله ، ونحو هذا من الأقوال ، فخاطب اللّه تعالى نبيه صلى اللّه عليه وسلم على هذه الصورة من المخاطبة ، وقفه بها توقيفاً رادّاً على أقوالهم ، ومبطلاً لها . وليس المعنى أنه عليه السلام هم بشيء من ذلك ثم خرج عنه ، فإنه لم يرد قط ترك شيء مما أوحي إليه ، ولا ضاق صدره به ، وإنما كان يضيق صدره بأقوالهم

وأفعالهم وبعدهم عن الإيمان . ولعلك ههنا بمعنى التوقيف والتقرير ، وما يوحي إليه هو القرآن والدعاء إلى اللّه كان في ذلك سب آلهتهم ، وتسفيه آبائهم أو غيره . ويحتمل أن يكون النبي صلى اللّه عليه وسلم قد عظم عليه ما يلقى من الشدة ، فمال إلى أن يكون من اللّه إذن في مساهلة الكفار بعض المساهلة ، ونحو هذا من الاعتقادات التي تليق به صلى اللّه عليه وسلم كما جاءت آيات الموادعة . وعبر بضائق دون ضيق للمناسبة في اللفظ مع تارك ، وإن كان ضيق أكثر استعمالاً ، لأنه وصف لازم ، وضائق وصف عارض .

وقال الزمخشري{ فإن قلت } : لم عدل عن ضيق إلى ضائق ؟ { قلت} : ليدل على أن ضيق عار غير ثابت ، لأن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان أفسح الناس صداً . ومثله قولك : سيد وجواد ، تريد السيادة والجود الثابتين المستقرين ، فإذا أردت الحدوث

قلت : سائد وجائد انتهى . وليس هذا الحكم مختصاً بهذه الألفاظ ، بل كل ما يبنى من الثلاثي للثبوت والاستقرار على غير وزن فاعل رد إليه إذا أريد معنى الحدوث ، فنقول : حاسن من حسن ، وثاقل من ثقل ، وفارح من فرح ، وسامن من سمن ، وقال بعض اللصوص يصف السجن ومن سجن فيه : بمنزلة أما اللئيم فسامن بها

وكرام الناس باد شحوبها

والظاهر عود الضمير في به على بعض .

وقيل : على ما ،

وقيل : عل التبليغ ،

وقيل : على التكذيب ، قيل ولعل هنا للاستفهام بمعنى هل ، والمعنى : هل أنت تارك ما فيه تسفيه أحلامهم وسب آلهتهم كما سألوك ؟ وقدروا كراهته أن يقولوا ، ولئلا يقولوا ، وبأن يقولوا ، ثلاثة أقوال . والكنز المال الكثير . وقالوا : أنزل ، ولم يقولوا أعطى ، لأن مرادهم التعجيز ، وأنهم التمسوا أن ينزل عليه من السماء كنز على خلاف العادة ، فإنّ الكنوز إنما تكون في الأرض . وطلبهم آية تضطر إلى الإيمان ، واللّه عز وجل لم يبعث الأنبياء بآيات اضطرار ، إنما بعثهم بآيات النظر والاستدلال ، ولم يجعل آية الاضطرار إلا للأمة التي أراد تعذيبها لكفرها بعد آية الاستدلال ، كالناقة لثمود ، وآنسه تعالى بقوله ؛ إنما أنت نذير ، أي : الذي فوض إليك هو النذارة لا تحصيل هدايتهم ، فإن ذلك إنما هو للّه تعالى . وقال مقاتل :

وقيل : كافل بالمصالح قادر عليها . و

قال ابن عطية : المحصي لإيمان من شاء ، وكفر من شاء . قيل : وهذه الآية منسوخة ،

وقيل : محكمة .

١٣

انظر تسفير الآية:١٤

١٤

{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مّن دُونِ اللّه إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَإِلَّمْ } : الظاهر أنّ أم منقطعة تتقدر ببل ، والهمزة أي : أيقولون افتراه . وقال ابن القشيري : أم استفهام توسط الكلام على معنى : أيكتفون بما أوحيت إليك من القرآن ، أم يقولون إنه ليس من عند اللّه ، فإن قالوا : إنه ليس من عند اللّه فليأتوا بمثله انتهى . فجعل أم متصلة ، والظاهر الانقطاع كما قلنا ، والضمير في افتراه عائد على قوله : ما يوحى إليك ، وهو القرآن .

ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنها لا تتعلق أطماعهم بأن يترك بعض ما يوحى إليه إلا لدعواهم ، أنه ليس من عند اللّه ، وأنه هو الذي افتراه ، وإنما تحداهم أولاً بعشر سور مفتريات قبل تحديهم بسورة ، إذ كانت هذه السورة مكية ، والبقرة مدنية ، وسورة يونس أيضاً مكية ، ومقتضى التحدي بعشر أن يكون قبل طلب المعارضة بسورة ، فلما نسبوه إلى الافتراء طلب منهم أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات إرخاء لعنانهم ، وكأنه يقول : هبوا إني اختلقته ولم يوح إليّ فأتوا أنتم بكلام مثله مختلق من عند أنفسكم ، فأنتم عرب فصحاء مثلي لا تعجزون عن مثل ما أقدر عليه من الكلام ، وإنما عين بقوله : مثله ، في حسن النظم والبيان وإن كان مفتري وشأن من يريد تعجيز شخص أن يطالبه أولاً بأنْ يفعل أمثالاً مما فعل هو ، ثم إذا تبين عجزه قال له : افعل مثلاً واحداً ومثل يوصف به المفرد والمثنى والمجموع كما

قال تعالى :{ أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا } وتجوز المطابقة في التثنية والجمع كقوله :{ ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَالَكُم }{ وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ } وإذا أفرد وهو تابع لمثنى أو مجموع فهو بتقدير المثنى ، والمجموع أي : مثلين وأمثال . والمعنى هنا بعشر سور أمثاله ذهاباً إلى مماثلة كل سورة منها له . و

قال ابن عطية : وقع التحدي في هذه الآية بعشر لأنه قيدها بالافتراء ، فوسع عليهم في القدر لتقوم الحجة غاية القيام ، إذ قد عجزهم في غير هذه الآية بسورة مثله دون تقييد ، فهي مماثلة تامة في غيوب القرآن ونظمه ووعده ووعيده ، وعجزوا في هذه الآية بأن قيل لهم : عارضوا القدر منه بعشر أمثاله في التقدير ، والغرض واحد ، واجعلوه مفتري لا يبقى لكم إلا نظمه ، فهذه غاية التوسعة . وليس المعنى عارضوا عشر سور بعشر ، لأكن هذه إنما كانت تجيء معارضة سورة بسورة مفتراة ، ولا يبالي عن تقديم نزول هذه على هذه ، ويؤيد هذا النظر أن التكليف في آية البقرة إنما هو بسبب الريب ، ولا يزيل الريب إلا العلم بأنهم لا يقدرون على المماثلة التامة . وفي هذه الآية إنما التكليف بسبب قولهم افتراه وكلفوا نحو ما قالوا : ولا يطرد هذا في آية يونس . وقال بعض الناس : هذه مقدمة في النزول على تلك ، ولا يصح أن تكون السورة الواحدة إلا مفتراة ، وآية سورة يونس في تكليف سورة مرتبة على قولهم افتراه ، وكذلك آية البقرة إنما رمتهم بأن القرآن مفتري . وقائل هذا القول لم يلحظ الفرق بين التكليفين في كمال المماثلة مرة ، ووقوفها على النظم مرة انتهى . والظاهر أن قوله : مثله ، لا يراد به الثلية في كون المعارض عشر سور ، بل مثله يدل على مماثلة في مقدار ما من القرآن . وروي عن ابن عباس : أنّ السور التي وقع بها طلب المعارضة لها هي معينة البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف ، والأنفال ، والتوبة ، ويونس ، وهود . فقوله : مثله ، أي مثل هذه عشر السور ، وهذه السور أكثرها مدني ، فكيف تصح الحوالة بمكة على ما لم ينزل بعد ؟ ولعل هذا لا يصح عن ابن عباس . والضمير في فإن لم يستجيبوا لكم ، عائد على ن طلب مهم المعارضة ، ولكم الضمير جمع يشمل الرسول والمؤمنين . وجوز أن يكون خطاباً للرسول صلى اللّه عليه وسلم على سبيل التعظيم ، كما جاء { فإن لم يستجيبوا لك} قاله : مجاهد .

وقيل : ضمير يستجيبوا عائد على المدعوين ، ولكم خطاب للمأمورين بدعاء من استطاعوا قاله الضحاك أي فإنْ لم يستجب من تدعونه إلى المعارضة فأذعنوا حينئذ ، واعلموا أنه من عند اللّه وأنه أنزل ملتبساً بما لا يعلمه لا اللّه من نظم معجز للخلق ، وإخبار بغيوب لا سبيل لهم إليه . واعلموا عند ذلك أنه لا إله إلا هو ، وأن توحيده واجب ، فهل أنتم مسلمون ؟ أي تابعون للإسلام بعد ظهور هذه الحجة القاطعة ؟ وعلى أن الخطاب للمؤمنين معنى فاعلموا أي : دوموا على العلم وازدادوا يقيناً وثبات قدم أنه من عند اللّه . ومعنى فهل أنتم مسلمون : أي مخلصو الإسلام ، وقال مقاتل : بعلم اللّه ، بإذن اللّه . وقال الكلبي : بأمره . وقال القتبي : من عند اللّه ، والذي يظهر أن الضمير في فإن لم يستجيبوا عائد على من استطعتم ، وفي لكم عائد على الكفار ، لعود الضمير على أقرب مذكور ، ولكون الخطاب يكون لواحد . ولترتب الجواب على الشرط ترتباً حقيقياً من الأمر بالعلم ، ولا يتحرر بأنه أراد به فدوموا على العلم ، ودوموا على العلم بأنه لا إله إلا هو ، ولأن يكون قوله : فهل أنتم مسلمون تحريضاً على تحصيل الإسلام ، لا أنه يراد به الإخلاص . ولما طولبوا بالمعارضة وأمروا بأن يدعوا من يساعدهم على تمكن المعارضة ، ولا استجاب أصنامهم ولا آلهتهم لهم ، أمروا بأن يعلموا أنه من عند اللّه وليس مفتري فتمكن معارضته ، وأنه تعالى هو المختص بالألوهية لا يشركه في شيء منها آلهتهم وأصنامهم ، فلا يمكن أن يجيبوا لظهور عجزهم ، وأنها لا تنفع ولا تضر في شيء من المطالب .

وقرأ زيد بن علي : إنما نزل بفتح النون والزاي وتشديدها ، واحتمل أن تكون ما مصدرية أي : أنّ التنزيل ، واحتمل أن تكون بمعنى الذي أي : إن الذي نزله ، وحذف الضمير المنصوب لوجود جواز الحذف .

١٥

انظر تسفير الآية:١٦

١٦

{مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِى الاْخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } : مناسبة هذه الآية لما قبلها ، أنه تعالى لما ذكر شيئاً من أحوال الكفار المناقضين في القرآن ، ذكر شيئاً من أحوالهم الدنيوية وما يؤولون إليه في الآخرة . وظاهر من العموم في كل من يريد زينة الحياة الدنيا ، والجزاء مقرون بمشيئته تعالى كما بين ذلك في قوله تعالى :{ مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء } الآية . وقال مجاهد : في في الكفرة ، وفي أهل الرياء من المؤمنين . وإلى هذا ذهب معونة حين حدث بقول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في المرائين ، فتلا هذه الآية . وقال أنس : هي في اليهود والنصارى .

قال ابن عطية : ومعنى هذا أنهم يدخلون في هذه الآية لا أنها ليست لغيرهم .

وقيل : في المنافقين الذين جاهدوا مع الرسول فأسهم لهم ، ومعنى يريد الحياة الدنيا أي يقصد بأعماله التي يظهر أنها صالحة الدنيا فقط ، ولا يعتقد آخره . فإنّ اللّه يجازيه على حسن أعماله كما جاء ،

وأما الكافر فيطعمه في الدنيا بحسناته . وإن اندرج في العموم المراؤون من أهل القبلة كما ترى أحدهم إذا صلى إماماً يتنغم بألفاظ القرآن ، ويرتله أحسن ترتيل ، ويطيل ركوعه وسجوده ، ويتباكى في قراءته ، وإذا صل وحده اختلسها اختلاساً ، وإذا تصق أظهر صدقته أمام من يثني عليه ، ودفعها لمن لا يستحقها حتى يثني عليه الناس ، وأهل الرباط المتصدق عليهم . وأين هذا من رجل يتصدق خفية وعلى من لا يعرفه ، كما جاء في : { السبعة الذين يظلهم اللّه في ظله يوم لا ظل إلا ظله ، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه } وهذه مبالغة في إخفاء الصدقة جداً ، وإذا تعلم علماً راءى به وتبجح ، وطلب بمعظمه يسير حطام من عرض الدنيا . وقد فشا الرياء في هذه الآية فشواً كثيراً حتى لا تكاد ترى مخلصاً للّه لا في قول ، ولا في فعل ، فهؤلاء من أول من تسعر بهم النار يوم القيامة .

وقرأ الجمهور : نوفّ بنون العظمة ، وطلحة بن ميمون : يوف بالياء على الغيبة .

وقرأ زيد بن علي : يوف بالياء مخففاً مضارع أوفى . وقرىء توف بالتاء مبنياً للمفعول ، وأعمالهم بالرفع ، وهو على هذه القراءات مجزوم جواب الشرط ، كما انجزم في قوله : { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الاْخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِى حَرْثِهِ } وحكي عن الفراء أنّ كان زائدة ، ولهذا جزم الجواب . ولعله لا يصح ، إذ لو كانت زائدة لكان فعل الشرط يريد ، وكان يكون مجزوماً ، وهذا التركيب من مجيء فعل الشرط ماضياً والجواب مضارعاً ليس مخصوصاً بكان ، بل هو جائز في غيرها . كما روي في بيت زهير : ومن أهاب أسباب المنايا ينلنه

ولو رام أن يرقى السماء بسلم

وقرأ الحسن : توفي بالتخفيف وإثبات الياء ، فاحتمل أن يكون مجزوماً بحذف الحركة المقدرة على لغة من قال : ألم يأتيك وهي لغة لبعض العرب ، واحتمل أن يكون مرفوعاً كما ارتفع في قول الشاعر : وإن شل ريعان الجميع مخافة

يقول جهاراً ويلكم لا تنفروا

والحصر في كينونة النار لهم ظاهر في أنّ الآية في الكفار ، فإنْ اندرج أهل الرياء فيها فيكون المعنى في حقهم : ليس يجب لهم أو لا يحق لهم إلا النار كقوله :{ فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ } وجائز أن يتغمدهم اللّه برحمته وهو ظاهر قول ابن عباس وابن جبير . والضمير في قوله : ما صنعوا فيها ، الظاهر أنه عائد على الآخرة ، والمحرور متعلق بحبط ، والمعنى : وظهر حبوط ما صنعوا في الآخرة . ويجوز أن تتعلق بقوله : صنعوا ، فيكون عائداً على الحياة الدنيا ، كما عاد عليها في فيها قبل . وما في ماصنعوا بمعنى الذي . أو مصدرية ، وباطل وما بعده توكيداً لقوله : وحبط ما صنعوا

وباطل خبر مقدم إن كان من عطف الجمل ، وما كانوا هو المبتدأ ، وإن كان خبراً بعد خبرٍ ارتفع ما بباطل على الفاعلية .

وقرأ زيد بن علي : وبطل جعله فعلاً ماضياً .

وقرأ أبي ، وابن مسعود : وباطلاً بالنصب ، وخرجه صاحب اللوامح على أنه مفعول ليعملون ، فهو معمول خبر كان متقدماً . وما زائدة أي : وكانوا يعملون باطلاً ، وفي جواز هذا التركيب خلاف بين النحويين . وهو أن يتقدم معمول الخبر على الجملة بأسرها من كان اسمها وخبرها ، ويشهد للجواب قوله تعالى : { أَهَؤُلاَء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ } ومن منع تأول . وأجاز الزمخشري أن ينتصب باطلاً على معنى المصدر على بطل بطلانا ما كانوا يعملون ، فتكون ما فاعلة ، وتكون من إعمال المصدر الذي هو بدل من الفعل في غير الاستفهام والأمر ، وحق أن يبطل أعمالهم لأنها لم تعمل لوجه صحيح ، والعمل الباطل لا ثواب له .

١٧

{أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إَمَامًا وَرَحْمَةً أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن } : لمّا ذكر حال من يريد الحياة الدنيا ذكر حال من يريد وجه اللّه تعالى بأعماله الصالحة ، وحذف المعادل الذي دخلت عليه الهمزة والتقدير : كمن يريد الحياة الدنيا . وكثيراً ما حذف في القرآن كقوله :{ أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ فَرَءاهُ حَسَناً } وقوله :{ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءانَاء الَّيْلِ } وهذا استفهام معناه اتقرير .

قال الزمخشري : أي ، لا تعقبونهم في المنزلة ولا تفارقونهم ، يريد أنّ بين الفريقين تفاوتاً بعيداً وتبايناً بيناً ، وأراد بهم من آمن من اليهود كعبد اللّه بن سلام وغيره ، كان على بينة من ربه أي : على برهان من اللّه تعالى وبيان أن دين الإسلام حق وهو دليل العقل ، ويتلوه ويتبع ذلك البرهان شاهد منه أي : شاهد يشهد بصحته وهو القرآن منه من اللّه ، أو شاهد من القرآن ومن قبله . ومن قبل القرآن كتاب موسى وهو التوراة أي : ويتلو ذلك أيضاً من قبل القرآن كتاب موسى . وقرىء كتاب موسى بالنصب ، ومعناه كان على بينة من ربه وهو الدليل على أنّ القرآن حق ، ويتلوه ويقرأ القرآن شاهد منه ، شاهد ممن كان على بينة كقوله :{ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّن بَنِى إِسْراءيلَ عَلَى مِثْلِهِ } قل :{ كَفَى بِاللّه شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ }{ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى } ويتلوه ومن قبل التوراة إماماً كتاباً مؤتماً في الدين قدوة فيه انتهى .

وقيل في أفمن كان : المؤمنون بالرسول ،

وقيل : محمد صلى اللّه عليه وسلم خاصة . وقال علي بن أبي طالب ، وابن عباس ، وقتادة ، ومجاهد ، والضحاك : محمد والمؤمنون جميعاً ، والبينة القرآن أو الرسول ، والهاء للمبالغة والشاهد . قال ابن عباس ، والنخعي ، ومجاهد ، والضحاك ، وأبو صالح ، وعكرمة : هو جبريل . وقال الحسن بن علي : هو الرسول . وقال أيضاً مجاهد : هو ملك وكله اللّه بحفظ القرآن .

قال ابن عطية : ويحتمل أن يريد بهذه الألفاظ جبريل ،

وقيل : هو علي بن أبي طالب . وروى المنهال عن عبادة بن عبد اللّه ، قال علي كرم اللّه وجهه : ما في قريش أحد إلا وقد نزلت فيه آية قيل : فما نزل فيك ؟ قال : ويتلوه شاهد منه ، وبه قال محمد بن علي وزيد بن علي .

وقيل : هو الإنجيل قاله : الفراء .

وقيل : هو القرآن ،

وقيل : هو إعجاز القرآن قاله الحسين بن الفضل ،

وقيل : صورة الرسول صلى اللّه عليه وسلم ووجهه ومخايله ، لأنّ كل عاقل نظر إليه علم أنه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.

وقيل : هو أبو بكر رضي اللّه تعالى عنه ، والضمير في منه يعود إلى الدين أو إلى الرسول ، أو إلى القرآن . ويتلوه بمعنى يتعه ، أو يقرؤه ، والضمير المرفوع في يتلوه والمنصوب والمجرور في منه يترتب على ما يناسبه كل قوم من هذه .

وقرأ محمد بن السائب الكلبي وغيره : كتاب موسى بالنصب عطفاً على مفعول يتلوه ، أو بإضمار فعل . وإذا لم يعن بالشاهد الإنجيل فإنما خص التوراة بالذكر ، لأنّ الملتين مجتمعتان على أنها من عند اللّه ، والإنجيل يخالف فيه اليهود ، فكان الاستشهاد بما تقوم

به الحجة على الفريقين أولى . وهذا يجري مع قول الجن : { إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى } ومع قول النجاشي : إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة . وانتصب إماماً على الحال ، والذي يظهر في تفسير هذه الآية أنه تعالى لما ذكر الكفار وأنهم ليس لهم إلا النار ، أعقب بضدهم وهم المؤمنون ، وهم الذين على بينة من ربهم ، والشاهد القرآن ، ومنه عائد على ربه . ويدل على أنّ الشاهد القرآن ذكر قوله : ومن قبله ، أي : ومن قبل القرآن كتاب موسى ، فمعناه : أنه تظافر على هدايته شيئان : كونه على أمر واضح من برهان العقل ، وكونه يوافق ذلك البرهان هذين الكتابين الإلهيين القرآن والتوراة ، فاجتمع له العقل والنقل . والإشارة بأولئك إلى من كان على بينة راعي معنى مع ، فجمع والضمير في به يعود إلى التوراة ، أو إلى القرآن ، أو إلى الرسول ، ثلاثة أقوال . والأحزاب جميع الملل قاله : ابن جبير ، أو اليهود ، والنصارى ، قاله قتادة . أو قريش قاله : السدي ، أو بنو أمية وبنو المغيرة بن عبد اللّه المخزومي ، وآل أبي طلحة بن عبيد اللّه ، قاله مقاتل .

وقال الزمخشري : يعني أهل مكة ومن ضامّهم من المتحزبين على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انتهى . فالنار موعده أي : مكان وعده الذي يصيرون إليه . وقال حسان : أوردتمونا حياض الموت ضاحية

فالنار موعدها والموت لاقيها

والضمير في منه عائد على القرآن ،

وقيل : على الخبر ، بأن الكفار موعدهم النار .

وقرأ الجمهور : في مرية بكسر الميم ، وهي لغة الحجاز .

وقرأ السلمي ، وأبو رجاء ، وأبو الخطاب السدوسي ، والحسن : بضمها وهي لغة أسد وتميم والناس أهل مكة قاله : ابن عباس ، أو جميع الكفار من شاك وجاهل ومعاند قاله : صاحب العيتان .

 ١٨

انظر تسفير الآية:٢٢

١٩

انظر تسفير الآية:٢٢

٢٠

انظر تسفير الآية:٢٢

٢١

انظر تسفير الآية:٢٢

٢٢

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّه كَذِبًا أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبّهِمْ وَيَقُولُ الاْشْهَادُ هَؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبّهِمْ أَلاَ } : لما سبق قولهم : أم يقولون افتراه ، ذكر أنه لا أحد أظلم ممن افترى على اللّه كذباً ، وهم المفترون الذين نسبوا إلى اللّه الولد ، واتخذوا معه آلهة ، وحرموا وحللوا من غير شرع اللّه ، وعرضهم على اللّه بمعنى التشهير لخزيهم والإشارة بكذبهم ، وإلا فالطائع والعاصي يعرضون على اللّه { وَعُرِضُواْ عَلَى رَبّكَ صَفَّا } والاشهاد : جمع شاهد ، كصاحب وأصحاب ، أو جمع شهيد كشريف وأشراف ، والأشهاد الملائكة الذين يحفظون عليهم أعمالهم في الدنيا ، أو الأنبياء ، أو هما المؤمنون ، أو ما يشهد عليهم من أعضائهم أقوال .

وفي قوله : هؤلاء إشارة إلى تحقيرهم وإصغارهم بسوء مرتكبهم .

وفي قوله : على ربهم أي : على من يحسن إليهم ويملك نواصيهم ، وكانوا جديرين أن لا يكذبوا عليه ، وهذا كما تقول إذا رأيت مجرماً : هذا الذي فعل كذا وكذا . وتقدم تفسير الجملة بعد هذا . وهم تأكيد لقوله : وهم ، وقوله : معجزين ، أي كانوا لا يعجزون اللّه في الدنيا أن يعاقبهم لو أراد عقابهم ، وما كان لهم من ينصرهم ويمنعهم من العقاب ، ولكنه أراد انظارهم وتأخير عقابهم إلى هذا اليوم .

قال الزمخشري : وهو كلام الاشهاد يعني : أن كلامهم من قولهم هؤلاء إلى آخر هذه الجملة التي هي وما كان لهم من دون اللّه من أولياء . وقد يظهر أن قوله تعالى : ألا لعنة اللّه على الظالمين من كلام اللّه تعالى لا على سبيل الحكاية ، ويدل لقول الزمخشري قوله :{ فَأَذَّنَ مُؤَذّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللّه عَلَى الظَّالِمِينَ } الآية فكما أنه من كلام المخلوقين في تلك الآية ، فكذلك هنا يضاعف لهم العذاب يشدد ويكثر ، وهذا استئناف إخبار عن حالهم في الآخرة ، لأنهم جمعوا إلى الكفر بالبعث الكذب على اللّه ، وصدّ عباده عن سبيل اللّه ، وبغي العوج لها

وهي الطريقة المستقيمة . ما كانوا يستطيعون السمع أخبار عن حالهم في الدنيا على سبيل المبالغة يعني : السمع للقرآن ، ولما جاء به الرسول صلى اللّه عليه وسلم. وما كانوا يبصرون أي : ينظرون إليه لبغضهم فيه . ألا ترى إلى حشو الطفيل بن عمرو أذنيه من الكرسف ، وإباية قريش أن يسمعوا ما نقل إليهم من كلام الرسول حتى تردّهم عن ذلك مشيختهم ؟ أو أخبار عن حالهم إذا ضعف لهم العذاب أي : أنه تعالى حتم عليهم بذلك ، فهم لا يسمعون لذلك سماعاً ينتفعون به ، ولا يبصرون لذلك .

وقيل : الضمير في كانوا عائد على أولياؤهم آلهتهم أي : فما كان لهم في الحقيقة من أولياء وإن كانوا يعتقدون أنهم أولياء . ويعني أنه من لا يستطيع أن يسمع ولا يبصر فكيف يصلح للولاية ؟ ويكون يضاعف لهم العذاب اعتراضاً ، وما على هذه الأقوال نفي .

وقيل : ما مصدرية أي : يضاعف لهم العذاب مدة استطاعتهم السمع وأبصارهم ، والمعنى : أن العذاب وتضعيفه دائم لهم متماد . وأجاز الفراء أن تكون ما مصدرية ، وحذف حرف الجر منها كما يحذف مع إنْ وأن أختيها ، وهذا فيه بعد في اللفظ وفي المعنى .

وقال الزمخشري : أراد أنهم لفرط تصامّهم عن اتباع الحق وكراهتهم له كأنهم لا يستطيعون السمع ، ولعل بعض المجبرة يتوثب إذا عثر عليه فيوعوع به على أهل العدل ، كأنه لم يسمع الناس يقولون في كل لسان هذا الكلام لا أستطيع أسمعه ، وهذا مما يمجه سمعي انتهى . يعني : أنه يمكن أن يستدل به على أنّ العبد لا قدرة له ، لأن اللّه تعالى قد نفى عنه استطاعة السمع ، وإذا انتفت الاستطاعة منه انتفت قدرته . والزمخشري على عادته في السفه على أهل السنة وخسرانهم أنفسهم ، كونهم اشتروا عبادة الآلهة بعبادة اللّه تعالى ، فخسروا في تجارتهم خسراناً لا خسران أعظم منه . وهو على حذف مضاف أي : راحة أو سعادة أنفسهم ، وإلا فأنفسهم باقية معذبة . وبطل عنهم ما افتروه من عبادة الآلهة ، وكونهم يعتقدون شفاعتها إذا رأوا أنها لا تشفع ولا تنفع . لا جرم مذهب الخليل وسيبويه أنهما ركبا من لا وجرم ، وبنيا ، والمعنى : حق ، وما بعده رفع به على الفاعلية . وقال الحوفي : جرم منفي بلا بمعنى حق ، وهو مبني مع لا في موضع رفع بالابتداء ، وأنهم في موضع رفع على خبر جرم . وقال قوم : إنّ جرم مبنية مع لا على الفتح نحو قولك : لا رجل ، ومعناها لا بد ولا محالة . وقال الكسائي : معناها لا ضد ولا منع ، فتكون اسم لا وهي مبنية على الفتح كالقول الذي قبله ، وتكون جرم هنا من معنى القطع ، نقول : جرمت أي قطعت . وقال الزجاج : لا تركيب بينهما ولا ردّ عليهم . ولما تقدّم من كل ما قبلها مما قالوا : إن الأصنام تنفعهم . وجرم فعل ماض معناه كسب ، والفاعل مضمر أي كسب ، هو أي : فعلهم ، وأن وما بعدها في موضع نصب على المفعول به ، وجرم القوم كاسبهم . وقال الشاعر : نصبنا رأسه في جذع نخل

بما جرمت يداه وما اعتدينا

وقال آخر : جريمة ناهض في رأس نيق

ترى لعظام ما جمعت صليبا

ويقال : لا جرم بالكسر ، ولا جر يحذف الميم . قال النحاس : وزعم الكسائي أنّ فيها أربع لغات : لا جرم ، ولا عن ذا جرم ، ولا أن ذا جرم ، قال : وناس من فزارة يقولون : لا جرم .

وحكى الفراء فيه لغتين أخريين ، قال : بنو عامر يقولون : لا ذا جرم ، وناس من العرب يقولون : لا جرم بضم الجمي . وقال الجبائي في نوادره : حكى عن فزارة لا جرّ واللّه لا أفعل ذاك ، قال : ويقال لا ذا جرم ، ولا ذو جرم ، ولا عن ذا جرم ، ولا أن ذا جرم ، ولا أن

جرم ، ولا عن جرم ، ولا ذا جر ، واللّه بغير ميم لا أفعل ذاك .

وحكى بعضهم بغير لا جرم : أنك أنك فعلت ذاك ، وعن أبي عمرو : لأجرم أنّ لهم النار على وزن لا كرم ، ولا جر حذفوه لكثرة الاستعمال كما قالوا : سو ترى يريدون سوف ترى . ولما كان خسران النفس أعظم الخسران ، حكم عليهم بأنهم هم الزائدون في الخسران على كل خاسر من سواهم من العصاة مآله إلى الراحة ، وإلى انقطاع خسرانه بخلاف هؤلاء ، فإنّ خسرانهم لا انقطاع له .

٢٣

انظر تسفير الآية:٢٤

٢٤

{إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُواْ إِلَى رَبّهِمْ أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالاْعْمَى وَالاْصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } : لما ذكر ما يؤول إليه الكفار من النار ، ذكر ما يؤول إليه المؤمنون من الجنة ، والفريقان هنا الكافر والمؤمن . ولما كان تقدم ذكر الكفار وأعقب بذكر المؤمنين ، جاء التمثيلم هنا مبتدأ بالكافر فقال : كالأعمى والأصم . ويمكن أن يكون من باب تشبيه اثنين باثنين ، فقوبل الأعمى بالبصير وهو طباق ، وقوبل الأصم بالسميع وهو طباق أيضاً ، والعمى والصمم آفتان تمنعان من البصر والسمع ، وليستا بضدّين ، لأنه لا تعاقب بينهما . ويحتمل أن يكون من تشبيه واحد بوصفيه بواحد بوصفيه ، فيكون من عطف الصفات كما قال الشاعر : إلى الملك القرن وابن الهمام

وليث الكريهة في المزدحم

ولم يجيء التركيب كالأعمى والبصير والأصم والسميع فيكون مقابلة في لفظ الأعمى وضده ، وفي لفظة الأصم وضده ، لأنه تعالى لما ذكرانسداد العين أتبعه بانسداد السمع ، ولما ذكر انفتاح البصر أتبعه بانفتاح السمع ، وذلك هو الأسلوب في المقابلة ، والأتم في الإعجاز . ويأتي إن شاء اللّه تعالى نظير هذه المقابلة في قوله في طه :{ إِنَّ لَكَ أَن لا تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَؤُا فِيهَا وَلاَ تَضْحَى } واحتمل أنْ تكون الكاف نفسها هي خبر المبتدأ ، فيكون معناها معنى المثل ، فكأنه قيل : مثل الفريقين مثل الأعمى . واحتمل أن يراد بالمثل الصفة ، وبالكاف مثل ، فيكون على حذف مضاف أي : كمثل الأعمى ، وهذا التشبيه تشبيه معقول بمحسوس ، فأعمى البصيرة أصمها ، شبه بأعمى البصر أصم السمع ، ذلك في ظلمات الضلالات متردد تائه ، وهذا في الطرقات محير لا يهتدي إليها . وجاء أفلا تذكرون لينبه على أنه يمكن زوال هذا العمى وهذا الصمم المعقول ، فيجب على العاقل أن يتذكر ما هو فيه ، ويسعى في هداية نفسه . وانتصب مثلاً على التمييز ،

قال ابن عطية : ويجوز أن يكون حالاً انتهى . وفيه بعد ، والظاهر التمييز وأنه منقول من الفاعل أصله : هل يستوي مثلاهما .

٢٥

انظر تسفير الآية:٢٧

٢٦

انظر تسفير الآية:٢٧

٢٧

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنَّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّه إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ فَقَالَ الْمَلا الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَادَ لَنَا بَادِىَ الرَّأْى وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ } : هذه السورة في قصصها شبيهة بسورة الأعراف بدىء فيها بنوح ، ثم يهود ، ثم بصالح ، ثم بلوط ، مقدّماً عليه إبراهيم بسبب قوم لوط ، ثم بشعيب ، ثم بموسى وهارون ، صلى اللّه على نبينا وعليهم أجمعين . وذكروا وجوه حكم وفوائد لتكرار هذه القصص في القرآن .

وقرأ النحويان وابن كثير : أني بفتح الهمزة أي : بأبي ، وباقي السبعة بكسرها على إضمار القول . وقال أبو علي في قراءة الفتح : خروج من الغيبة إلى المخاطبة ،

قال ابن عطية : وفي هذا نظر ، وإنما هي حكاية مخاطبة لقومه وليس هذا حقيقة الخروج من غيبة إلى مخاطبة ، ولو كان الكلام أنْ أنذرهم أو نحوه لصح ذلك انتهى . وأنْ لا تعبدوا إلا اللّه ظاهر في أنهم كانوا يعبدون الأوثان كما جاء مصرّحاً في غير هذه السورة ، وأن بدل من أي لكم في قراءة من فتح ، ويحتمل أن تكون أنْ المفسرة .

وأما في قراءة من كسر فيحتمل أن تكون المفسرة ، والمراعى قبلها : أما أرسلنا

وإما نذير مبين ، ويحتمل أن تكون معمولة لأرسلنا أي : بأن لا تعبدوا إلا اللّه ، وإسناد الألم إلى اليوم مجاز لوقوع الألم فينه لا به .

قال الزمخشري{ فإن قلت } : فإذا وصف به العذاب ؟ { قلت} : مجازى مثله ، لأن الأليم في الحقيقة هو المعذب ، ونظيرهما قولك : نهاره صائم انتهى . وهذا على أن يكون أليم صفة مبالغة من آلم ، وهو من كثر ألمه . فإنْ كان أليم بمعنى مؤلم ، فنسبته لليوم مجاز ، وللعذاب حقيقة . لما أنذرهم من عذاب اللّه وأمرهم بإفراده بالعبادة ، وأخبر أنه رسول من عند اللّه ، ذكروا أنه مماثلهم في البشرية ، واستبعدوا أن يبعث اللّه رسولاً من البشر ، وكأنهم ذهبوا إلى مذهب البراهمة الذين ينكرون نبوة البشر على الإطلاق ، ثم عيروه بأنه لم يتبعه إلا الأراذل أي : فنحن لا نساويهم ، ثم نفوا أن يكون له عليهم فضل . أي : أنت مساوينا في البشرية ولا فضل لك علينا ، فكيف امتزت بأنك رسول اللّه ؟

وفي قوله : إلا الذين هم أراذلنا ، مبالغة في الأخبار ، وكأنه مؤذن بتأكيد حصر من اتبعه ، وأنهم هم الأراذل لم يشركهم شريف في ذلك . وفي الحديث { إنهم كانوا حاكة وحجامين} وقال النحاس : هم الفقراء والذين لا حسب لهم ، والخسيسوا الصناعات . وفي حديث هرقل :  { أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم ؟ فقال : بل ضعفاؤهم ، فقال : هم أتباع الرسل قبل } وإنما كان كذلك لاستيلاء الرئاسة على الأشراف وصعوبة الانفكاك عنها ، والأنفة من الانقياد لغيرهم ، والفقير خلى عن تلك الموانع فهو سريع إلى الإجابة والانقياد . ونراك يحتمل أن تكون بصرية ، وأن تكون علمية . قالوا : وأراذل جمع الجمع ، فقيل : جمع أرذل ككلب وأكلب وأكالب .

وقيل : جمع أرذلنا ، وقياسه أزاذيل . والظاهر أنه جمع أرذل التي هي أفعل التفضيل وجاء جمعاً ، كما جاء أكابر مجرميها وأحاسنكم أخلاقاً .

وقال الزمخشري : ما نراك إلا بشراً مثلنا ، تعريض بأنهم أحق منه بالنبوّة ، وأن اللّه لو أراد أن يجعلها في أحد من البشر لجعلها فيهم ، فقالوا : هب أنك واحد من الملأ وموازيهم في المنزلة ، فما جعلك أحق منهم ؟ ألا ترى إلى قولهم : وما نرى لكم علينا من فضل ، أو أرادوا أنه كان ينبغي أن يكون ملكاً لا بشراً ، ولا يظهر ما قاله الزمخشري من الآية .

وقرأ أبو عمرو ، وعيسى الثقفي : بادىء الرأي من بدأ يبدأ ومعناه : أول الرأي .

وقرأ باقي السبعة : بادي بالياء من بدا يبدو ، ومعناه ظاهر الرأي .

وقيل : بادي بالياء معناه بادىء بالهمز ، فسهلت الهمزة بإبدالها ياء لكسر ما قبلها . وذكروا أنه منصوب على الظرف ، والعامل فيه نراك أو اتبعك أو أراذلنا أي : وما نراك فيما يظهر لنا من الرأي ، أو في أول رأينا ، أو وما نراك اتبعك أول رأيهم ، أو ظاهر رأيهم . واحتمل هذا الوجه معنيين :

أحدهما : أن يريد اتبعك في ظاهر أمرهم ، وعسى أن تكون بواطنهم ليست معك . والمعنى

الثاني : أن يريد اتبعوك بأول نظر وبالرأي البادىء دون تعقب ، ولو تثبتوا لم يتبعوك ، وفي هذا الوجه ذم الرأي غير المروي .

وقال الزمخشري : اتبعوك أول الرأي ، أو ظاهر الرأي ، وانتصابه على الظرف أصله وقت حدوث أول أمرهم أو وقت حدوث ظاهر رأيهم ، فحذف ذلك ، وأقيم المضاف إليه مقامه ، أرادوا أنّ اتباعهم لك إنما هو شيء عنّ لهم بديهة من غير روية ونظر انتهى . وكونه منصوباً على الظرف هو قول أبيّ على في الحجة ، وإنما حمله على الظرف وليس بزمان ولا مكان ، لأنّ في مقدرة فيه أي : في ظاهر الأمر ، أو في أول الأمر . وعلى هذين التقديرين أعني أنْ يكون العامل فيه نراك ، أو اتبعك يقتضي أن لا يجوز ذلك ، لأنّ ما بعد إلا لا يكون معمولاً لما قبلها إلا إن كان مستثنى منه نحو : قام إلا زيداً القوم ، أو مستثنى نحو : جاء القوم إلا زيداً ، أو تابعاً للمستثنى منه نحو : ما جاءني أحد إلا زيد أخبرني عمرو ، وبادىء الرأي ليس واحداً من هذه الثلاثة . وأجيب بأنه ظرف ، أو كالظرف مثل جهد رأي أنك ذاهب ، أي أنك ذاهب في جهد رأي ، والظروف يتسع فيها . وإذا كان العامل أراذل فمعناه الذين هم أراذلنا بأدل نظر فيهم ، وببادىء الرأي يعلم ذلك منهم .

وقيل : بادي الرأي نعت لقوله : بشراً .

وقيل : انتصب حالاً من ضمير نوح في اتبعك ، أي : وأنت

مكشوف الرأي لا حصافة لك .

وقيل : انتصب على النداء لنوح أي : يا بادي الرأي ، أي ما في نفسك من الرأي ظاهر لكل أحد ، قالوا : ذلك تعجيزاً له .

وقيل : انتصب على المصدر ، وجاء الظرف والمصدر على فاعل ، وليس بالقياس . فالرأي هنا إما من رؤية العين ،

وإما من الفكر .

قال الزمخشري : وإنما استرذلوا المؤمنين لفقرهم وتأخرهم في الأسباب الدنيوية ، لأنهم كانوا جهالاً ما كانوا يعلمون إلا ظاهراً من الحياة الدنيا ، فكان الأشرف عندهم من له جاه ومال انتهى . وظاهر الخطاب في لكم شامل لنوح ومن اتبعه ، والمعنى : ليس لكم علينا زيادة في مال ، ولا نسب ، ولا دين .

وقال ابن عباس : في الخلق والخلق ،

وقيل : بكثرة الملك والملك ،

وقيل : بمتابعتكم نوحاً ومخالفتكم لنا ،

وقيل : من شرف يؤهلكم للنبوّة ، وقال الكلبي : نظنكم نتيقنكم ، وقال مقاتل : نحسبكم أي في دعوى نوح وتصديقكم ، وقال صاحب العتيان : بل نظنكم كاذبين توسلاً إلى الرئاسة والشهرة .

٢٨

{قَالَ يَاءادَمُ قَوْمٌ قَالَ ياقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيّنَةٍ مّن رَّبّى وَءاتَانِى رَحْمَةً مّنْ عِندِهِ فَعُمّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ } : لما حكى شبههم في إنكار نبوّة نوح عليه السلام وهي قولهم :{ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مّثْلَنَا } ذكر أنّ المساواة في البشرية لا تمنع من حصول المفارقة في صفة النبوّة والرسالة ، ثم ذكر الطريق الدال على إمكانه على جهة التعليق والإمكان ، وهو متيقن أنه على بينة من معرفة اللّه وتوحيده ، وما يجب له وما يمتنع ، ولكنه أبرزه على سبيل العرض لهم والاستدراج للإقرار بالحق ، وقيام الحجة على الخصم ، ولو قال : على إني على حق من ربي لقالوا له كذبت ، كقوله :{ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبّىَ اللّه } الآية فقال فيها : وإن يك كاذباً فعليه كذبه . والبينة البرهان ، والشاهد بصحة دعواه ابن عباس الرحمة والنبوّة مقاتل الهداية غيرهما التوفيق والنبوّة والحكمة . والظاهر أن البينة غير الرحمة ، فيجوز أن يراد بالبينة المعجزة ، وبالرحمة النبوّة . ويجوز أن تكون البينة هي الرحمة ، ومن عنده تأكيد وفائدته رفع الاشتراك ولو بالاستعارة ، فعميت عليكم . الظاهر أنّ الضمير عائد على البينة ، وبذلك يحصل الذم لهم من أنه أتى بالمعجزة الجلية الواضحة ، وأنها على وضوحها واستنارتها خفيت عليهم ، وذلك بأنه تعالى سلبهم علمها ومنعهم معرفتها . فإن كانت الرحمة هي البينة فعود الضمير مفرداً ظاهر ، وإن كانت غيرها كما اخترناه . فقوله : وآتاني رحمة من عنده ، اعتراض بين المتعاطفين .

قال الزمخشري : حقه أن يقال : فعميتا . { قلت} : الوجه أن يقدر فعميت بعد البينة ، وأن يكون حذفه للاقتصار على ذكره ، فتلخص أن الضمير يعود إما على البينة ،

وإما على الرحمة ،

وإما عليهما باعتبار أنهما واحد . ويقول للسحاب العماء لأنه يخفي ما فيه ، كما يقال له الغمام لأنه يغمه .

وقيل : هذا من المقلوب ، فعميتم أنتم عنها كما تقول العرب : أدخلت القلنسوة في رأسي ، ومنه قول الشاعر :

ترى الثور فيها مدخل الظل رأسه

قال أبو علي : وهذا مما يقلب ، هذ ليس فيه إشكال ، وفي القرآن : { فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّه مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ } انتهى . والقلب عند أصحابنا مطلقاً لا يجوز إلا في الضرورة ،

وأما قول الشاعر : فليس من باب القلب بل من باب الاتساع في الظرف .

وأما الآية فأخلف يتعدّى إلى مفعولين ، ولكان يضيف إلى أيهما شئت فليس من باب القلب ، ولو كان فعميت عليكم من باب القلب لكان التعدي بعن دون على . ألا ترى أنك تقول : عميت عن كذا ،

ولا تقول عميت على كذا ؟

وقرأ الإخوان وحفص : فعميت بضم العين وتشديد الميم مبنياً للمفعول ، أي أبهمت عليكم وأخفيت ، وباقي السبعة فعميت بفتح العين وتخفيف الميم مبنياً للفاعل .

وقرأ أبيّ ، وعليّ ، والسلميّ ، والحسن ، والأعمش : فعماها عليكم . وروى الأعمش عن أبي وثاب : وعميت بالواو خفيفة .

قال الزمخشري{ فإن قلت } : فما حقيقته ؟ { قلت} : حقيقته أنّ الحجة كما جعلت بصيرة ومبصرة جعلت عمياء ، لأنّ الأعمى لا يهتدي ، ولا يهدي غيره ، فمعنى فعميت عليكم البينة فلم تهدكم ، كما لو عمي على القوم دليلهم في المفازة بقوا بغير هاد . { فإن قلت} : فما معنى قراءة أبيّ ؟ { قلت} : المعنى أنهم صمموا على الإعراض عنها فخلاهم اللّه وتصميمهم ، فجعلت تلك التخلية تعمية منه ، والدليل عليه : أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ؟ يعني : أنكرهكم على قبولها ونقسركم على الاهتداء بها وأنتم تكرهونها ولا تختارونها ، ولا إكراه في الدين انتهى . وتوجيهه قراءة أبيّ هو على طريقة المعتزلة ، وتقدّم في سورة الأنعام الكلام على { أَرَءيْتُمْ } مشبعاً ، وذكرنا أن العرب تعديها إلى مفعولين : أحدهما منصوب ، والثاني أغلب ما يكون جملة استفهامية . تقول : أرأيتك زيداً ما صنع ، وليس استفهاماً حقيقياً عن الجملة . وأنّ العرب ضمنت هذه الجملة معنى أخبرني ، وقررنا هناك أن قوله :{ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّه } أنه من باب الأعمال تنازع على عذاب اللّه . أرأيتكم يطلبه منصوباً ، وفعل الشرط يطلبه مرفوعاً ، فأعمل الثاني ، وهذا البحث يتقرر هنا أيضاً ، فمفعول أرأيتكم محذوف والتقدير : أرأيتكم البينة من ربي إن كنت عليها أنلزمكموها ؟ فهذه الجملة الاستفهامية في موضع المفعول الثاني لقوله : أرأيتم ، وجواب الشرط محذوف يدل عليه أرأيتم ، وجيء بالضميرين متصلين في أنلزمكموها ، لتقدّم ضمير الخطاب على ضمير الغيبة ، ولو انعكس لانفصل ضمير الخطاب خلافاً لمن أجاز الاتصال .

قال الزمخشري : ويجوز أن يكون الثاني منفصلاً كقولك : أنلزمكم إياها ونحوه ، فسيكفيكهم اللّه ، ويجوز فسيكفيك إياهم ، وهذا الذي قاله الزمخشري من جواز انفصال الضمير في نحو أنلزمكموها ، هو نحو قول ابن مالك في التسهيل . قال : وتختار اتصال نحوها ءأعطيتكه . وقال ابن أبي الربيع : إذا قدمت ما له الرتبة اتصل لا غير ، تقول : أعطيتكه .

قال تعالى : أنلزمكموها ؟ وفي كتاب سيبويه ما يشهد له ، قال سيبويه : فإذا كان المفعولان اللذان تعدّى إليهما فعل الفاعل مخاطباً وغائباً ، فبدأت بالمخاطب قبل الغائب ، فإنّ علامة الغائب العلامة التي لا يقع موقعها إياه وذلك قولك : أعطيتكه وقد أعطاكه . قال اللّه تعالى : أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ، فهذا كهذا ، إذا بدأت بالمخاطب قبل الغائب انتهى . فهذا نص من سيبويه على ما قاله ابن أبي الربيع خلافاً للزمخشري وابن مالك ومن سبقهما إلى القول بذلك .

وقال الزمخشري :

وحكى عن أبي عمرو إسكان الميم ، ووجهه أنّ الحركة لم تكن إلا خلسة خفيفة ، فظنها الراوي سكوناً . والإسكان الصريح لحن عند الخليل وسيبويه وحذاق البصريين ، لأن الحركة الإعرابية لا يسوغ طرحها إلا في ضرورة الشعر انتهى . وأخذه الزمخشري من الزجاج ، قال الزجاج : أجمع النحويون البصريون على أنه لا يجوز إسكان حركة الإعراب إلا في ضرورة الشعر ، فأما ما روي عن أبي عمرو فلم يضبطه عنه القراء ، وروى عنه سيبويه أنه كان يخف الحركة ويختلسها ، وهذا هو الحق . وإنما يجوز الإسكان في الشعر نحو قول امرىء القيس :

فاليوم أشرب غير مستحقب

والزمخشري على عادته في تجهيل القراء وهم أجل من أن يلتبس عليهم الاختلاس بالسكون ، وقد حكى الكسائي والفراء أنلزمكموها بإسكان الميم الأولى تخفيفاً . قال النحاس : ويجوز على قول يونس أنلزمكمها ، كما تقول : أنلزمكم ذلك ويريد إلزام جبر بالقتل ونحوه ،

وأما إلزام الإيجاب فهو حاصل ، وقال النحاس : أنوحيها عليكم ، وقوله في ذلك خطأ .

قال ابن عطية : وفي قراءة أبيّ بن كعب أنلزمكموها من شطر أنفسنا ، ومعناه من تلقاء أنفسنا . وروي عن ابن عباس أنه قرأ ذلك من شطر قلوبنا انتهى . ومعنى شطر نحو ، وهذا على جهة التفسير لا على أنه قرآن لمخالفته سواد المصحف .

٢٩

انظر تسفير الآية:٣٤

٣٠

انظر تسفير الآية:٣٤

٣١

انظر تسفير الآية:٣٤

٣٢

انظر تسفير الآية:٣٤

٣٣

انظر تسفير الآية:٣٤

٣٤

{لَهَا كَارِهُونَ وَياقَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى اللّه ...} : تلطف نوح عليه السلام بندائه بقوله : ويا قوم ، استدراجاً لهم في قبول كلامه ، كما تلطف إبراهيم عليه السلام بقوله { يا أبت يا أبت } وكما تلطف مؤمن آل فرعون بقوله { افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ } والضمير في عليه عائد إلى الإنذار . وإفراد اللّه بالعبادة المفهوم من قوله لهم :{ إِنَّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّه } ،

وقيل : على الدين ،

وقيل : على الدعاء إلى التوحيد ،

وقيل : على تبليغ الرسالة . وكلها أقوال متقاربة ، والمعنى : إنكم وهؤلاء الذين اتبعونا سواء في أنّ أدعوكم إلى اللّه ، وإني لا أبتغي عما ألقيه إليكم من شرائع اللّه مالاً ، فلا يتفاوت حالكم وحالهم . وأيضاً فلعلهم ظنوا أنه يريد الاسترفاد منهم ، فنفاه بقوله : لا أسألكم عليه مالاً إنْ أجري على اللّه ، فلا تحرموا أنفسكم السعادة الأبدية بتوهم فاسد . ثم ذكر أنه قام بهؤلاء وصف يجب العكوف عليهم به والانضواء معهم ، وهو الإيمان فلا يمكن طردهم ، وكانوا سألوا منه طرد هؤلاء المؤمنين رفعاً لأنفسهم من مساواة أولئك الفقراء . ونظير هذا ما اقترحت قريش على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من طرد أتباعه الذين لم يكونوا من قريش .

وقرىء : بطارد بالتنوين ،

قال الزمخشري : على الأصل يعني : أنّ اسم الفاعل إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال أصله أن يعمل ولا يضاف ، وهذا ظاهر كلام سيبويه . ويمكن أن يقال : إن الأصل الإضافة لا العمل ، لأنه قد اعتوره شبهان أحدهما شبه بالمضارع وهو شبهه بغير جنسه . والآخر شبه بالأسماء إذا كانت فيها الإضافة ، فكان إلحاقه بجنسه أولى من إلحاقه بغير جنسه . إنهم ملاقوا ربهم : ظاهره التعليل لانتفاء طردهم ، أي : إنهم يلاقون اللّه ، أي : جزاءه ، فيوصلهم إلى حقهم عندي إن ظلمتهم بالطرد .

وقال الزمخشري : معناه أنهم يلاقون اللّه فيعاقب من طردهم ، أو يلاقونه فيجازيهم على ما في قلوبهم من إيمان صحيح ثابت كما ظهر لي منهم ، وما أعرف غيره منهم ، أو على خلاف ذلك مما تعرفونهم به من بناء إيمانهم على بادىء الرأي من غير نظر ولا تفكر ، وما عليّ أنْ أشق على قلوبهم وأتعرف ذلك منهم حتى أطردهم ونحوه { وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ } الآية أو هم مصدّقون بلقاء ربهم ، موقنون به عالمون أنهم ملاقوه لا محالة انتهى . ووصفهم بالجهل لكونهم بنوا أمرهم على الجهل بالعواقب ، والاغترار بالظواهر . أو لأنهم

يتسافلون على المؤمنين ويدعونهم أراذل من قوله : ألا لا يجهلن أحد علينا . أو تجهلون لقاء ربكم ، أو تجهلون أنهم خير منكم ، أو وصفهم بالجهل في هذا الاقتراح ، وهو طرد المؤمنين ونحوه : من ينصرني ، استفهام معناه لا ناصر لي من عقاب اللّه إن طردتهم عن الخير الذي قد قبلوه ، أو لأجل إيمانهم قاله : الفراء ، وكانوا يسألونه أنْ يطردهم ليؤمنوا به أنفة منهم أن يكونوا معهم على سواء ، ثم وقفهم بقوله : أفلا تذكرون ، على النظر المؤدّي إلى صحة هذا الاحتجاج . وتقدم تفسير الجمل الثلاث في الأنعام . وتزدري تفتعل ، والدال بدل من التاء قال : ترى الرجل النحيف فتزدريه

وفي أثوابه أسد هصور

وأنشد الفراء : يباعده الصديق وتزدريه

حليلته وينهره الصغير

والعائد على الموصول محذوف أي : تزدرونهم ، أي : تستحقرهم أعينكم . ولن يؤتيهم معمول لقوله : ولا أقول ، وللذين معناه لأجل الذين . ولو كانت اللام للتبليغ لكان القياس لن يؤتيكم بكاف الخطاب ، أي : ليس احتقاركم إياهم ينقص ثوابهم عند اللّه ولا يبطل أجورهم ، اللّه أعلم بما في أنفسهم ، تسليم للّه أي : لست أحكم عليهم بشيء من هذا ، وإنما الحكم بذلك للّه تعالى الذي يعلم ما في أنفسهم فيجازيهم عليه .

وقيل : هو رد على قولهم : اتبعك أراذلنا ، أي لست أحكم عليهم بأنْ لا يكونن لهم خير لظنكم بهم ، إن بواطنهم ليست كظواهرهم ، اللّه عز وجل أعلم بما في نفوسهم ، إني لو فعلت ذلك لمن الظالمين ، وهم الذين يضعون الشيء في غير مواضعه ، قد جادلتنا الظاهر المبالغة في الخصومة والمناظرة . وقال الكلبي : دعوتنا .

وقيل : وعظتنا ،

وقيل : أتيت بأنواع الجدال وفنونه فما صح دعواك .

وقرأ ابن عباس : فأكثرت جدلنا كقوله : { وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَىء جَدَلاً } فأتنا بما تعدنا من العذاب المعجل وما بمعنى الذي ، والعائد محذوف أي بما تعدناه ، أو مصدرية ، وإنما كثرت مجادته لهم لأنه أقام فيهم ما أخبر اللّه به ألف سنة إلا خمسين عاماً ، وهو كل وقت يدعوهم إلى اللّه وهم يجيبونه بعبادتهم أصنامهم . قال : إنما يأتيكم به اللّه ، أي ليس ذلك إليّ إنما هو للإله الذي يعاقبكم على عصيانكم إن شاء أي : إن اقتضت حكمته أن يعجل عذابكم وأنتم في قبضته لا يمكن أن تفلتوا منه ، ولا أن تمتنعوا . ولما قالوا : قد جادلتنا ، وطلبوا تعجيل العذاب ، وكان مجادلته لهم إنما هو على سبيل النصح والإنقاذ من عذاب اللّه قال : ولا ينفعكم نصحي .

وقرأ عيسى بن عمر الثقفي : نصحي بفتح النون ، وهو مصدر . وقراءة الجماعة بضمها ، فاحتمل أن يكون مصدراً كالشكر ، واحتمل أن يكون اسماً . وهذان الشرطان اعتقب الأول منهما قوله : ولا ينفعكم نصحي ، وهو دليل على جواب الشرط تقديره : إنْ أردت أن أنصح لكم فلا ينفعكم نصحي ، والشرط

الثاني : اعتقب الشرط الأول وجوابه أيضاً ما دل عليه قوله : ولا ينفعكم نصحي ، تقديره : إن كان

اللّه يريد أن يغويكم فلا ينفعكم نصحي . وصار الشرط الثاني شرطاً في الأول ، وصار المتقدم متأخراً والمتأخر متقدّماً ، وكأن التركيب إن أردت أن أنصح لكم أن كان اللّه يريد أن يغويكم ، فلا ينفعكم نصحي ، وهو من حيث المعنى كالشرط إذا كان بالفاء نحو : إنْ كان اللّه يريد أن يغويكم . فإن أردت أن أنصح لكم فلا ينفعكم نصحي . ونظيره : { وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِىّ إِنْ أَرَادَ النَّبِىُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا }

وقال الزمخشري : قوله إن كان اللّه يريد أن يغويكم جزاؤه ما دل عليه قوله : لا ينفعكم نصحي ، وهذا الدليل في حكم ما دل عليه ، فوصل بشرط كما وصل الجزاء بالشرط في قوله : إن أحسنت إليّ أحسنت إليك إن أمكنني . و

قال ابن عطية : وليس نصحي لكم بنافع ، ولا إرادتي الخير لكم مغنية إذا كان اللّه تعالى قد أراد بكم الإغواء والإضلال والإهلاك . والشرط الثاني اعتراض بين الكلام ، وفيه بلاغة من اقتران الإرادتين ، وأنّ إرادة البشر غير مغنية ، وتعلق هذا الشرط هو بنصحي ، وتعلق الآخر هو بلا ينفع انتهى . وكذا قال أبو الفرج بن الجوزي قال : جواب الأول النصح ، وجواب الثاني النفع .

والظاهر أنّ معنى يغويكم يضلكم من قوله : غوى الرجل يغوي وهو الضلال . وفيه إسناد الإغواء إلى اللّه ، فهو حجة على المعتزلة إذ يقولون : إن الضلال هو من العبد .

وقال الزمخشري : إذا عرف اللّه من الكافر الإصرار فخلاه وشأنه ولم يلجئه سمى ذلك إغواء وإملاء ، كما إنه إذا عرف منه أن يتوب ويرعوي فلطف به سمى إرشاداً وهداية انتهى . وهو على طريقة الاعتزال ، ونصوا على أنه لا يوصف اللّه بأنه عارف ، فلا ينبغي أن يقال : إذا عرف اللّه كما

قال الزمخشري ، وللمعتزلي أن يقول : لا يتعين أن تكون إن شرطية ، بل هي نافية والمعنى : ما كان اللّه يريد أن يغويكم ، ففي ذلك دليل على نفي الإضلال عن اللّه تعالى ، ويكون قوله : ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح ، إخبار منه لهم وتعزية لنفسه عنهم ، لما رأى من إصرارهم وتماديهم على الكفر .

وقيل : معنى يغويكم يهلككم ، والغوي المرض والهلاك . وفي لغة طيء : أصبح فلان غاوياً أي مريضاً ، والغوي بضم الفصيل وقاله : يعقوب في الإسلاح .

وقيل : فقده اللبن حتى يموت جوعاً قاله : الفراء ، وحكاه الطبري يقال منه : غوى يغوي .

وحكى الزهراوي أنه الذي قطع عنه اللبن حتى كاد يهلك ، أو لما يهلك بعد . قال ابن الأنباري : وكون معنى يغويكم يهلككم قول مرغوب عنه ، وأنكر مكي أن يكون الغوي بمعنى الهلاك موجوداً في لسان العرب ، وهو محجوج بنقل الفراء وغيره . وإذا كان معنى يغويكم يهلككم ، فلا حجة فيه لا لمعتزلي ولا لسني ، بل الحجة من غير هذا ، ومعناه : أنكم إذا كنتم من التصميم على الكفر فالمنزلة التي لا تنفعكم نصائح اللّه ومواعظه وسائر ألطافه ، كيف ينفعكم نصحي ؟

وفي قوله : هو ربكم ، تنبيه على المعرفة بالخالق ، وأنه الناظر في مصالحكم ، إن شاء أن يغويكم ، وإن شاء أن يهديكم .

وفي قوله : وإليه ترجعون ، وعيد وتخويف .

٣٥

{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَىَّ إِجْرَامِى وَأَنَاْ بَرِىء مّمَّا تُجْرَمُونَ } : قيل : هذه الآية اعترضت في قصة نوح ، والأخبار فيها عن قريش . يقولون ذلك لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلمأي : افترى القرآن ، وافترى هذا الحديث عن نوح وقومه ، ولو صح ذلك بسند صحيح لوقف عنده ، ولكن الظاهر أن الضمير في يقولون عائد على قوم نوح ، أي : بل أيقولون افترى ما أخبرهم به من دين اللّه وعقاب من أعرض عنه ، فقال عليه السلام قل : إن افتريته فعليّ إثم إجرامي ، والإجرام مصدر أجرم ،

ويقال : أجرم وهو الكثير ، وجرم بمعنى . ومنه قول الشاعر : طريد عشيرة ورهين ذنب

بما جرمت يدي وجنى لساني

وقرىء أجرامي بفتح الهمزة جمع جرم ، ذكره النحاس ، وفسر بآثامي . ومعنى مما تجرمون من إجرامكم في إسناد الافتراء إليّ ،

وقيل : مما تجرمون من الكفر والتكذيب .

٣٦

انظر تسفير الآية:٣٧

٣٧

{وَأُوحِىَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ ءامَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِى فِى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ } : قرأ الجمهور وأوحي

مبنياً للمفعول ، أنه بفتح الهمزة .

وقرأ أبو البر هشيم : وأوحي مبنياً للفاعل ، إنه بكسر الهمزة على إضمار القول على مذهب البصريين ، وعلى إجراء أوحى مجرى قال : على مذهب الكوفيين ، أيأسه اللّه من إيمانهم ، وأنه صار كالمستحيل عقلاً بأخباره تعالى عنهم . ومعنى إلا من قد آمن أي : من وجد منه ما كان يتوقع من إيمانه ، ونهاه تعالى عن ابتآسه بما كانوا يفعلون ، وهو حزنه عليهم في استكانة . وابتأس افتعل من البؤس ،

ويقال : ابتأس الرجل إذا بلغه شيء يكرهه ، وقال الشاعر : وكم من خليل أو حميم رزئته

فلم نبتئس والرزء فيه جليل

وقال آخر : ما يقسم اللّه أقبل غير مبتئس

منه واقعد كريماً ناعم البال

وقال آخر : فارس الخيل إذا ما ولولت

ربة الخدر بصوت مبتئس

وقال آخر : في مأتم كنعاج صا

رة يبتئسن بما لقينا

صارة موضع بما كانوا يفعلون من تكذيبك وإيذائك ومعاداتك ، فقد حان وقت الانتقام منهم . واصنع عطف على فلا تبتئس ، بأعيننا بمرأى منا ، وكلاءة وحفظ فلا تزيغ صنعته عن الصواب فيها ، ولا يحول بين العمل وبينه أحد . والجمع هنا كالمفرد في قوله : ولتصنع على عيني ، وجمعت هنا لتكثير الكلاءة والحفظ وديمومتها .

وقرأ طلحة بن مصرف : باعينا مدغمة . ووحينا نوحي إليك ونلهمك كيف تصنع .

وعن ابن عباس : لم يعلم كيف صنعة الفلك ، فأوحى اللّه أن يصنعها مثل جؤجؤ الطائر . قيل : ويحتمل قوله بأعيننا أي بملائكتنا الذي نجعلناهم عيوناً على مواضع حفظك ومعونتك ، فيكون اللفظ هنا للجمع حقيقة . وقول من قال : معنى ووحينا بأمرنا لك أو بعلمنا ضعيف ، لأن قوله : واصنع الفلك ، مغن عن ذلك . وفي الحديث :  { كان زان سفينة نوح جبريل } والزان القيم بعمل السفينة . والذين ظلموا قوم نوح ، تقدم إلى نوح أن لا يشفع فيهم فيطلب إمهالهم ، وعلل منع مخاطبته بأنه حكم عليهم بالغرق ، ونهاه عن سؤال الإيجاب إليه كقوله : { مُّنِيبٌ يإِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَاذَا إِنَّهُ قَدْ جَاء أَمْرُ رَبّكَ وَإِنَّهُمْ اتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ }

وقيل الذين ظلموا واعلة زوجته وكنعان ابنه .

٣٨

انظر تسفير الآية:٤٠

٣٩

انظر تسفير الآية:٤٠

٤٠

 { وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ } ويصنع الفلك حكاية حال ماضية ، والفلك السفينة . ولما أمره تعالى بأن يصنع الفلك قال : يا رب ما أنا بنجار ، قال : بلى ، ذلك بعيني . فأخذ القدوم ، وجعلت

يده لا تخطىء ، فكانوا يمرون به ويقولون : هذا الذي يزعم أنه نبي صار نجاراً ؟

وقيل : كانت الملائكة تعلمه ، واستأجر أجراء كانوا ينحتون معه ، وأوحى اللّه إليه أن عجل عمل السفينة فقد اشتد غضبي على من عصاني ، وكان سام وحام ويافث ينحتون معه ، والخشب من الساج قاله : قتادة ، وعكرمة ، والكلبي . قيل : وغرسه عشرين سنة .

وقيل : ثلاثمائة سنة يغرس ويقطع وييبس . وقال عمرو بن الحرث : لم يغرسها بل قطعها من جبل لبنان .

وقال ابن عباس : من خشب الشمشار ، وهو البقص قطعة من جبل لبنان . واختلفوا في هيئتها من التربيع والطول ، وفي مقدار مدة عملها ، وفي المكان الذي عملت فيه ، ومقدار طولها وعرضها ، على أقوال متعارضة لم يصح منها شيء . وسخريتهم منه لكونهم رأوه يبني السفينة ولم يشاهدوا قبلها سفينة بنيت ، قالوا : يا نوح ما تصنع ؟ قال : ابني بيتاً يمشي على الماء ، فعجبوا من قوله وسخروا منه قاله : مقاتل .

وقيل : لكونه يبني في قرية لا قرب لها من البحر ، فكانوا يتضاحكون ويقولون : يا نوح صرت نجاراً بعدما كنت نبياً . وكلما ظرف العامل فيه سخروا منه ، وقال : مستأنف على تقدير سؤال سائل . وجوزوا أن يكون العامل قال : وسخروا صفة لملا ، أو بدل من مرّ ، ويبعد البدل لأنّ سخر ليس في معنى مرّ لا يراد ذا ولا نوعاً منه .

قال ابن عطية : وسخروا منه استجهلوه ، فإن كان الأمر كما روي أنهم لم يكونوا رأوا سفينة قط ، ولا كانت ، فوجه الاستجهال واضح ، وبذلك تظاهرت التفاسير ، وإن كانت السفائن جينئذ معروفة فاستجهلوه في أنّ صنعها في قرية لا قرب لها من البحر انتهى ، فأنا نسخر منكم في المتقبل كما تسخرون منا الآن أي : مثل سخريتكم إذا أغرقتم في الدنيا ، وأحرقتم في الآخرة ، أو إن تستجهلونا فيما نصنع فإنا نستجهلكم فيما أنتم عليه من الكفر والتعريض لسخط اللّه وعذابه ، فأنتم أولى بالاستجهال منا قال : قريباً من معناه الزجاج . أو إن تستجهلونا فإنا نستجهلكم في استجهالكم ، لأنكم لا تستجهلون إلا عن جهل بحقيقة الأمر ، وبناء على ظاهر الحال ، كما هو عادة الجهلة في البعد عن الحقائق . وقال ابن جريج : إن يسخروا منا في الدنيا فإنا نسخر منكم في الآخرة . والسخرية استجهال مع استهزاء .

وفي قوله : فسوف تعلمون ، تهديد بالغ ، والعذاب المخزي الغرق ، والعذاب المقيم عذاب الآخرة ، لأنه دائم عليهم سرمد . ومن يأتيه مفعول بتعلمون ، وما موصولة ، وتعدى تعلمون إلى واحد استعمالاً لها استعمال عرف في التعدية إلى واحد . و

قال ابن عطية : وجائز أن تكون التعدية إلى مفعولين ، واقتصر على الواحد انتهى . ولا يجوز حذف الثاني اقتصاراً ، لأنّ أصله خبر مبتدأ ، ولا اختصاراً هنا ، لأنه لا دليل على حذفه وتعنتهم بقوله : من يأتيه .

وقيل : مَن استفهام في موضع رفع على الابتداء ، ويأتيه الخبر ، والجملة في موضع نصب ، وتعلمون معلق سدت الجملة مسد المفعولين .

وحكى الزهراوي أنه يقرأ ويحل بضم الحاء ، ويحل بكسرها بمعنى ويجب .

قال الزمخشري : حلول الدين والحق اللازم الذي لا انفكاك له عنه ، ومعنى يخزيه : يفضحه ، أو يهلكه ، أو يذله ، وهو الغرق . أقوال متقاربة حتى إذا جاء أمرنا تقدم الكلام على دخول حتى على إذا في أوائل سورة الأنعام ، وهي هنا غاية لقوله : ويصنع الفلك . ويصنع كما قلنا حكاية حال أي : وكان يصنع الفلك إلى أن جاء وقت الوعد الموعود . والجملة من قوله : وكلما مرّ عليه حال ، كأنه قيل : وينصعها ، والحال أنه كلما مر ، وأمرنا واحد الأمور ، أو مصدر أي : أمرنا بالفوران أو للسحاب بالإرسال ، وللملائكة بالتصرف في ذلك ، ونحو هذا مما يقدر في النازلة . وفار : معناه انبعث بقوة ، والتنور وجه الأرض ، والعرب تسميه تنوراً قاله : ابن عباس ، وعكرمة ، والزهري ، وابن عيينة ، أو التنور الذي يخبز فيه ، وكان من حجارة ، وكان لحواء حتى صار لنوح قاله : الحسن ، ومجاهد ، وروي أيضاً عن ابن عباس .

وقيل : كان لآدم ،

وقيل : كان تنور ، نوح ، أو أعلى الأرض والمواضع المرتفعة قاله : قتادة ، أو العين التي بالجزيرة عين الوردة رواه عكرمة ، أو من أقصى دار نوح قاله : مقاتل ، أو موضع اجتماع الماء في السفينة ، روي عن الحسن ، أو طلوع الشمس وروي عن علي ، أو نور الصبح من قولهم :

نور الفجر تنويراً قاله : علي ومجاهد ، أو هو مجاز والمراد غلبة الماء وظهور العذاب كما قال صلى اللّه عليه وسلم لشدة الحرب : { حمي الوطيس } والوطيس أيضاً مستوقد النار ، فلا فرق بين حمى وفار ، إذ يستعملان في النار . قال اللّه تعالى :{ أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقًا وَهِىَ تَفُورُ } ولا فرق بين الوطيس والتنور . والظاهر من هذه الأقوال حمله على التنور الذي هو مستوقد النار ، ويحتمل أن تكون أل فيه للعهد لتنور مخصوص ، ويحتمل أن تكون للجنس . ففار النار من التنانير ، وكان ذلك من أعجب الأشياء أن يفور الماء من مستوقد النيران . ولا تنافي بين هذا وبين قوله :{ وَفَجَّرْنَا الاْرْضَ عُيُوناً } إذ يمكن أن يراد بالأرض أماكن التنانير ، والتفجير غير الفوران ، فحصل الفوران للتنور ، والتفجير للأرض . والضمير في فيها عائد على الفلك ، وهو مذكر أنث على معنى السفينة ، وكذلك قوله : وقال اركبوا فيها .

وقرأ حفص : من كل زوجين بتنوين ، كل أي من كل حيوان وزوجين مفعول ، واثنين نعت توكيد ، وباقي السبعة بالإضافة ، واثنين مفعول احمل ، وزوجين بمعنى العموم أي : من كل ما له ازدواج ، هذا معنى من كل زوجين قاله أبو علي وغيره .

قال ابن عطية : ولو كان المعنى احمل فيها من كل زوجين حاصلين اثنين ، لوجب أن يحمل من كل نوع أربعة ، والزوج في مشهور كلام العرب للواحد مما له ازدواج ، فيقال : هذا زوج ، هذا وهما زوجان ، وهذا هو المهيع في القرآن في قوله تعالى :{ ثَمَانِيَةَ أَزْواجٍ } ثم فسرها وفي قوله { وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالاْنثَى } وقال الأخفش : وق يقال في كلام العرب للاثنين زووج ، هكذا تأخذه العدديون . والزوج أيضاً في كلام العرب النوع كقوله تعالى :{ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ بَهِيجٍ }

وقال تعالى :{ سُبْحَانَ الَّذِى خَلَق الاْزْواجَ كُلَّهَا } انتهى .

ولما جعل المطر ينزل كأفواه القرب جعلت الوحوش تطلب وسط الأرض هرباً من الماء ، حتى اجتمعن عند السفينة فأمره اللّه أن يحمل من الزوجين اثنين ، يعني : ذكراً وأنثى ليبقى أصل النسل بعد الطوفان . فروي أنه كان يأتيه أنواع الحيوان فيضع يمينه على الذكر ويساره على الأنثى ، وكانت السفينة ثلاث طبقات : السفلى للوحوش ، والوسطى للطعام والشراب ، والعليا له ولمن آمن . وأهلك معطوف على زوجين إن نوِّن كل ، وعلى اثنين إن أضيف ، واستثنى من أهله من سبق عليه القول بالهلاك وأنه من أهل النار .

قال الزمخشري : سبق عليه القول أنه يختار الكفر لا لتقديره عليه وإرادته تعالى غير ذلك انتهى . وهو على طريقة الاعتزال ، والذي سبق عليه القول امرأته واعلة بالعين المهملة ، وابنه كنعان . ومن آمن عطف على وأهلك ، قيل : كانوا ثمانين رجلاً وثمانين امرأة ،

وقيل : كانوا ثلاثة وثمانين .

وقال ابن عباس : آمن معه ثمانون رجلاً ، وعنه ثمانون إنساناً ، ثلاثة من بنيه سام وحام ويافث ، وثلاث كنائن له ، ولما خرجوا من السفينة بنوا قرية تدعى اليوم قرية الثمانين بناحية الموصل .

وقيل : كانوا ثمانية وسبعين ، نصفهم رجال ، ونصفهم نساء . وقال ابن إسحاق : كانوا عشرة سوى نسائهم : نوح ، وبنوه سام وحام ويافث ، وستة ناس من كان آمن به وأزواجهم جميعاً . وعن ابن إسحاق : كانوا عشرة : خمسة رجال ، وخمس نسوة .

وقيل : كانوا تسعة ونوح ، وثمانية أبناء له وزوجته .

وقيل : كانوا ثمانية ونوح وزوجته غير التي عوقبت ، وبنوه الثلاثة وزوجاتهم ، وهو قول : قتادة ، والحكم ، وابن عيينة ، وابن جريج ، ومحمد بن كعب . وقال الأعمش : كانوا سبعة : نوح ، وثلاث كنائن ، وثلاث بنين . وهذه أقوال متعارضة ، والذي أخبر اللّه تعالى به أنه ما آمن معه إلا قليل ، ولا يمكن التنصيص على عدد هذا النفر القليل الذي أبهم اللّه عددهم إلا بنص عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.

٤١

انظر تسفير الآية:٤٣

٤٢

انظر تسفير الآية:٤٣

٤٣

وقال اركبوا فيها . . . . .

رسا الشيء يرسو ، ثبت واستقر . قال : فصبرت نفسنا عند ذلك حرة

ترسو إذا نفس الجبان تطلع

البلع : معروف ، والفعل منه بلع بكسر اللام وبفتحها لغتان حكاهما الكسائي والفراء ، يبلع بلعاً ، والبالوعة الموضع الذي يشرب الماء . الإقلاع : الإمساك ، يقال : أقلع المطر ، وأقلعت الحمى ، أي أمسكت عن المحموم .

وقيل : أقلع عن الشيء ٠ تركه ، وهو قريب من الإمساك . غاض الماء نقص في نفسه ، وغضته نقصته ، جاء لازماً ومتعدياً . الجودي : علم لجبل بالموصل ، ومن قال بالجزيرة أو بآمد ، فلأنهما قريبان من الموصل .

وقيل الجودي : اسم لكل جبل ، ومنه قول زيد بن عمرو بن نفيل : سبحانه ثم سبحانا نعوذ له

وقبلنا سبح الجودي والجمد

اعتراه بكذا : أصابه به ،

وقيل افتعل من عراه يعروه . الناصية : منبت الشعر في مقدم الرأس ، ويسمى الشعر النابت هناك ناصية باسم منبته . ونصوت الرجل انصوه نصواً ، مددت ناصيته . الجبار : المتكبر . العنيد : الطاغي الذي لا يقبل الحق ولا يصغي إليه ، من عند يعند حاد عن الحق إلى جانب ،

وقيل : ومنه عندي كذا أي : في جانبي . وقال أبو عبيدة : العنيد والعنود والمعاند والعاند المعارض بالخلاف ، ومنه قيل للعرق الذي ينفجر بالدم : عاند .

{وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللّه مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبّى لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ وَهِىَ تَجْرِى بِهِمْ فِى مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِى مَعْزِلٍ يابُنَىَّ بَنِى ارْكَبَ مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ قَالَ سَاوِى إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِى مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّه إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا } : الضمير في : وقال ، عائد على نوح أي : وقال نوح حين أمر بالجمل في السفينة لمن آمن معه ومن أمر بحمله : اركبوا فيها .

وقيل : الضمير عائد على اللّه ، والتقدير : وقال اللّه لنوح ومن معه ، ويبعد ذلك قوله : إن ربي لغفور رحيم . قيل : وغلب من يعقل في قوله : اركبوا ، وإنْ كانوا قليلاً بالنسبة لما لا يعقل ممن حمل فيها ، والظاهر أنه خطاب لمن يعقل خاصة ، لأنه لا يليق بما لا يعقل . وعدي اركبوا بفي لتضمينه معنى صيروا فيها ، أو معنى ادخلوا فيها .

وقيل : التقدير اركبوا الماء فيها .

وقيل : في زائدة للتوكيد أي : اركبوها . والباء في بسم اللّه في موضع الحال ، أو متبركين بسم اللّه . مجراها ومرساها منصوبان إما على أنهما ظرفا زمان أو مكان ، لأنهما يجيئان لذلك . أو ظرفا زمان على جهة الحذف ، كما حذف من جئتك مقدّم إلحاح ، أي : وقت قدوم الحاج ، فيكون مجراها ومرساها مصدران في الأصل حذف منهما المضاف ، وانتصبا بما في بسم اللّه من معنى الفعل . ويجوز أن يكون باسم اللّه حالاً من ضمير فيها ، ومجراها ومرساها مصدران مرفوعان على الفاعلية ، أي : اركبوا فيها ملتبساً باسم اللّه إجراؤها وإرساؤها أي : ببركة اسم اللّه . أو يكون مجراها ومرساها مرفوعين على الابتداء ، وباسم اللّه الخبر ، والجملة حال من الضمير في فيها . وعلى هذه التوجيهات الثلاثة فالكلام جملة واحدة ، والحال مقدرة . ولا يجوز مع رفع مجراها ومرساها على الفاعلية أو الابتداء أن يكون حالاً من ضمير اركبوا ، لأنه لا عائد عليه فيما وقع حالاً . ويجوز أن يكون باسم اللّه مجراها ومرساها جملة ثانية من مبتدإ وخبر ، لا تعلق لها بالجملة الأولى من حيث الإعراب أمرهم أولاً بالركوب ، ثم أخبر أنّ مجراها ومرساها بذكر اللّهأو بأمره وقدرته ، فالجملتان كلامان محكيان . يقال : كما أن الجملة الثانية محكية أيضاً بقال . وقال الضحاك : إذا أراد جري السفينة قال بسم اللّه مجراها فتجري ، وإذا أراد وقوفها قال بسم اللّه مرساها فتقف .

وقرأ مجاهد ، والحسن ، وأبو رجاء ، والأعرج ، وشيبة ، والجمهور من السبعة الحرميان ، والعربيان ، وأبو بكر : مجراها بضم الميم .

وقرأ الأخوان ، وحفص : بفتحها ، وكلهم ضم ميم مرساها .

وقرأ ابن مسعود ، وعيسى الثقفي ، وزيد بن عليّ ، والأعمش ، ومجراها

ومرساها بفتح الميمين ، ظرفي زمان أو مكان ، أو مصدرين على التقارير السابقة .

وقرأ الضحاك ، والنخعي ، وابن وثاب ، وأبو رجاء ، ومجاهد ، وابن جند ، والكلبي ، والجحدري ، مجريها ومرسيها اسمي فاعل من أجرى وأرسى على البدل من اسم اللّه ، فهما في موضع خبر ، ولا يكونان صفتين لكونهما نكرتين . و

قال ابن عطية : وهما على هذه القراءة صفتان عائدتان على ذكره في قولهم بسم اللّه انتهى . ولا يكونان صفتين إلا على تقدير أنْ يكونا معرفتين . وقد ذهب الخليل إلى أن ما كانت إضافته غير محضة قد يصح أن تجعل محضة ، فتعرّف إلا ما كان من الصفة المشبهة فلا تتمحض إضافتها فلا تعرّف . إن ربي لغفور ستور عليكم ذنوبكم بتوبتكم وإيمانكم ، رحيم لكم إذا نجاكم من الغرق . وروي في الحديث :  { أن نوحاً ركب في السفينة أول يوم من رجب ، وصام الشهر أجمع } وعن عكرمة : لعشر خلون من رجب . وهي تجري بهم إخبار من اللّه تعالى بما جرى للسفينة ، وبهم حال أي : ملتبسة بهم ، والمعنى : تجري وهم فيها في موج كالجبال ، أي في موج الطوفان شبه كل موجة منه بجبل في تراكمها وارتفاعها . روي أن السماء أمطرت جميعها حتى لم يكن في الهواء جانب إلا أمطر ، وتفجرت الأرض كلها بالنبع ، وهذا معنى التقاء الماء . وروي أن الماء علا على الجبال وأعالي الأرض أربعين ذراعاً ،

وقيل : خمسة عشر . وكون السفينة تجري في موج دليل على أنه كان في الماء موج ، وأنه لم يطبق الماء ما بين السماء والأرض ، وأنّ السفينة لم تكن تجري في جوف الماء والماء أعلاها وأسفلها ، فكانت تسبح في الماء كما تسبح السمكة ، كما أشار إليه الزجاج والزمخشري وغيرهما . وقد استبعد ابن عطية هذا قال : وأين كان الموج كالجبال على هذا ؟ ثم كيف استقامت حياة من في السفينة ؟ وأجاب الزمخشري : بأن الجريان في الموج كان قبل التطبيق ،

وقيل أنْ يعم الماء الجبال . ألا ترى إلى قول ابنه : سآوي إلى جبل يعصمني من الماء . ونادى نوح ابنه ، الواو لا ترتب . وهذا النداء كان قبل جري السفينة في قوله : وهي تجري بهم في موج ، وفي إضافته إليه هنا

وفي قوله : إن ابني من أهلي ، وندائه دليل على أنه ابنه لصلبه ، وهو قول : ابن مسعود ، وابن عباس ، وعكرمة ، والضحاك ، وابن جبير ، وميمون بن مهران ، والجمهور ، واسمه كنعان .

وقيل : يام ،

وقيل : كان ابن قريب له ودعاه بالبنوّة حناناً منه وتلطفاً .

وقرأ الجمهور : بكسر تنوين نوح ،

وقرأ وكيع بن الجراح : بضمه ، أتبع حركته حركة الإعراب في الحاء . قال أبو حاتم : هي لغة سوء لا تعرف .

وقرأ الجمهور : بوصل هاء الكناية بواو ،

وقرأ ابن عباس : أنه بسكون الهاء ، قال ابن عطية وأبو الفضل الرازي : وهذا على لغة الازد الشراة ، يسكنون هاء الكناية من المذكر ، ومنه قول الشاعر :

ونضواي مشتاقان له أرقان

وذكر غيره أنها لغة لبني كلاب وعقيل ، ومن النحويين من يخص هذا السكون بالضرورة وينشدون : وأشرب الماء ما بي نحوه عطش

إلا لأن عيونه سيل واديها

وقرأ السدّيّ ابناه بألف وهاء السكت . قال أبو الفتح : ذلك على النداء . وذهبت فرقة إلى أنه على الندبة والرثاء .

وقرأ عليّ ، وعروة ، وعليّ بن الحسين ، وابنه أبو جعفر ، وابنه جعفر : ابنه بفتح الهاء من غير ألف أي : ابنها مضافاً لضمير امرأته ، فاكتفى بالفتحة عن الألف .

قال ابن عطية : وهي لغة ، ومنه قول الشاعر : إما تقود بها شاة فتأكلها

أو أن تبيعه في بعض الأراكيب

وأنشد ابن الأعرابي على هذا : فلست بمدرك ما فات مني

بلهف ولا بليت ولا لواني

انتهى . يريد تبيعها وتلهفاً ، وخطأ النحاس أبا حاتم في حذف هذه الألف ،

قال ابن عطية : وليس كما قال انتهى . وهذا أعنى مثل تلهف بحذف الألف عند أصحابنا ضرورة ، ولذلك لا يجيزون يا غلام بحذف الألف ، والاجتزاء بالفتحة عنها كما اجتزؤوا بالكسرة في يا غلام عن الياء ، وأجاز ذلك الأخفش .

وقرأ أيضاً عليّ وعروة ابنها بفتح الهاء وألف أي : ابن امرأته . وكونه ليس ابنه لصلبه ، وإنما كان ابن امرأته قول : علي ، والحسن ، وابن سيرين ، وعبيد بن عمير . وكان الحسن يحلف أنه ليس ابنه لصلبه ، قال قتادة : فقلت له : إن اللّه حكى عنه أن ابني من أهلي ، وأنت تقول : لم يكن ابنه ، وأهل الكتاب لا يختلفون في أنه كان ابنه فقال : ومن يأخذ دينه من أهل الكتاب ؟ واستدل بقوله من أهلي ولم يقل مني ، فعلى هذا يكون ربيباً . وكان عكرمة ، والضحاك ، يحلفان على أنه ابنه ، ولا يتوهم أنه كان لغير رشدة ، لأن ذلك غضاضة عصمت منه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وروي ذلك عن الحسن وابن جريج ، ولعله لا يصح عنها .

وقال ابن عباس : ما بغت امرأة نبي قط ، والذي يدل عليه ظاهر الآية أنه ابنه ،

وأما قراءة من قرأ ابنه أو ابنها فشاذة ، ويمكن أن نسب إلى أمه وأضيف إليها ، ولم يضف إلى أبيه لأنه كان كافراً مثلها ، يلحظ فيه هذا المعنى ولم يضف إليه استبعاداً له ، ورعياً أن لا يضاف إليه كافر ، وإنما ناداه ظناً منه أنه مؤمن ، ولولا ذلك ما أحب نجاته . أو ظناً منه أنه يؤمن إنْ كان كافراً لما شاهد من الأهوال العظيمة ، وأنه يقبل الإيمان . ويكون قوله : اركب معنا كالدلالة على أنه طلب منه الإيمان ، وتأكد بقوله : ولا تكن مع الكافرين ، أي اركب مع المؤمنين ، إذ لا يركب معهم إلا مؤمن لقوله : ومن آمن .

وفي معزل أي : في مكان عزل فيه نفسه عن أبيه وعن مركب المؤمنين .

وقيل : في معزل عن دين أبيه ، ونداؤه بالتصغير خطاب تحنن ورأفة ، والمعنى : اركب معنا في السفينة فتنجو ولا تكن مع الكافرين فتهلك .

وقرأ عاصم يا بني بفتح الياء ، ووجه على أنه اجتزأ بالفتحة عن الألف ، وأصله يا بنيا كقولك : يا غلاماً ، كما اجتزأ باقي السبعة بالكسرة عن الياء في قراءتهم يا بني بكسر الياء ، أو أن الألف انحذفت لالتقائها مع راء اركب . وظن ابن نوح أن ذلك المطر والتفجير على العادة ، فلذلك قال : سآوي إلى جبل يعصمني من الماء أي : من وصول الماء إليّ فلا أغرق ، وهذا يدل على عادته في الكفر ، وعدم وثوقه بأبيه فيما أخبر به .

قيل : والجبل الذي عناه طور زيتا فلم يمنعه ، والظاهر إبقاء عاصم على حقيقته وأنه نفي كل عاصم من أمر اللّه في ذلك الوقت ، وأنّ من رحم يقع فيه من على المعصوم . والضمير الفاعل يعود على اللّه تعالى ، وضمير الموصول محذوف ، ويكون الاستثناء منقطعاً أي : لكنْ من رحمة اللّه معصوم ، وجوزوا أن يكون من اللّه تعالى أي لا عاصم إلا الراحم ، وأن يكون عاصم بمعنى ذي عصمة ، كما قالوا لاين أي : ذو لبن ، وذو عصمة ، مطلق على عاصم وعلى معصوم ، والمراد به هنا المعصوم . أو فاعل بمعنى مفعول ، فيكون عاصم بمعنى معصوم ، كماء دافق بمعنى مدفوق . وقال الشاعر : بطيء الكلام رخيم الكلام

أمسى فؤادي به فاتنا

أي مفتوناً . ومن للمعصوم أي : لا ذا عصمة ، أو لا معصوم إلا المرحوم . وعلى هذين التجويزين يكون استثناء

متصلاً ، وجعله الزمخشري متصلاً بطريق أخرى : وهو حذف مضاف وقدره : لا يعصمك اليوم معتصم قط من جبل ونحوه سوى معتصم واحد ، وهو مكان من رحمهم اللّه ونجاهم ، يعني في السفينة انتهى . والظاهر أن خبر لا عاصم محذوف ، لأنه إذا علم كهذا الموضع التزم حذفه بنو تميم ، وكثر حذفه عند أهل الحجاز ، لأنه لما قال : سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال له نوح : لا عاصم ، أي لا عاصم موجود . ويكون اليوم منصوباً على إضمار فعل يدل عليه عاصم ، أي : لا عاصم يعصم اليوم من أمر اللّه ، ومن أمر متعلق بذلك الفعل المحذوف . ولا يجوز أن يكون اليوم منصوباً بقوله : لا عاصم ، ولا أن يكون من أمر اللّه متعلقاً به ، لأن اسم لا إذ ذاك كان يكون مطولاً ، وإذا كان مطولاً لزم تنوينه وإعرابه ، ولا يبنى وهو مبنى ، فبطل ذلك . وأجاز الحوفي وابن عطية أن يكون اليوم خبراً لقوله : لا عاصم . قال الحوفي : ويجوز أن يكون اليوم خبراً ويتعلق بمعنى الاستقرار ، وتكون من متعلقة بما تعلق به اليوم . و

قال ابن عطية : واليوم ظرف وهو متعلق بقوله : من أمر اللّه ، أو بالخبر الذي تقديره : كائن اليوم انتهى . وردّ ذلك أبو البقاء فقال : فأما خبر لا فلا يجوز أن يكون اليوم ، لأن ظرف الزمان لا يكون خبراً عن الجنة ، بل الخبر من أمر اللّه ، واليوم معمول من أمر اللّه . وقال الحوفي : ويجوز أن يكون اليوم نعتاً لعاصم ومن الخبر انتهى . ويردّ بما ردّ به أبو البقاء من أن ظرف الزمان لا يكون نعتاً للجثث ، كما لا يكون خبراً . وقرىء إلا من رحم بضم الراء مبنياً للمفعول ، وهذا يدل على أنّ المراد بمن في قراءة الجمهور الذين فتحوا الراء هو المرحوم لا الراحم ، وحال بينهما أي بين نوح وابنه . قيل : كانا يتراجعان الكلام ، فما استتمت المراجعة حتى جاءت موجة عظيمة ، وكان راكباً على فرس قد بطر وأعجب بنفسه فالتقمته وفرسه ، وحيل بينه وبين نوح فغرق . وقال الفراء : بينهما أي بين ابن نوح والجبل الذي ظن أنه يعصمه .

٤٤

انظر تسفير الآية:٤٧

٤٥

انظر تسفير الآية:٤٧

٤٦

انظر تسفير الآية:٤٧

٤٧

قال الزمخشري : نادى الأرض والسماء بما ينادي به الإنسان المميز على لفظ التخصيص ، والإقبال عليهما بالخطاب من بين سائر المخلوقات وهو قوله : يا أرض ويا سماء ، ثم أمرهما بما يؤمر به أهل التمييز والعقل من قوله : ابلعي ماءك وأقلعي ، من الدلالة على الاقتدار العظيم ، وأنّ السموات والأرض وهذه الأجرام العظام منقادة لتكوينه فيها ما يشاء ، غير ممتنعة عليه كأنها عقلاء مميزون ، قد عرفوا عظمته وجلاله وثوابه وعقابه ، وقدرته على كل مقدور ، وتبينوا تحتم طاعته عليهم وانقيادهم له ، وهم يهابونه ويفرعون من التوقف دون الامتثال له والنزول عن مشيئته على الفور من غير ريب . فكما يرد عليهم أمره كان المأمور به مفعولاً لا حبس ولا بطء . وبسط الزمخشري وذيل في هذا الكلام الحسن ، قال الحسن : يدل على عظمة هذه الأجسام ، والحق تعال مستول عليها متصرف فيها كيف يشاء ، وأراد فصار ذلك سبباً لوقوف القوة العقلية على كمال جلال اللّه تعالى وعلوّ قدرته وهيبته انتهى . وبناء الفعل في

وقيل وما بعدها للمفعول أبلغ في التعظيم والجبروت وأخصر .

قال الزمخشري : ومجيء أخباره على الفعل المبني للمفعول للدلالة على الجلال والكبرياء ، وأن تلك الأمور العظام لا يكون إلا بفعل فاعل قادر ، وتكوين مكون قاهر ، وأن فاعل هذه الأفعال فاعل واحد لا يشارك في أفعاله ، فلا يذهب الوهم إلى أن يقول غيره يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي ، ولا أن يقضي ذلك الأمر الهائل غيره ، ولا أت تستوي السفينة عل الجودي وتستقر عليه إلا بتسويته وإقراره . ولما ذكرناه من المعاني والنكت واستفصح علماء البيان هذه الآية ورقصوا لها رؤوسهم ، لا لتجانس الكلمتين وهما قوله : ابلعي واقلعي ، وذلك وأن كان الكلام لا يخلو من حسن ، فهو كغير الملتفت إليه بإزاء تلك المحاسن التي هي اللب ، وما عداها قشور انتهى . وأكثره خطابة ،

وهذا النداء والخطاب بالأمر هو استعارة مجازية ، وعلى هذا جمهور الحذاق .

وقيل : إن اللّه تعالى أحدث فيهما إدراكاً وفهماً لمعاني الخطاب . وروي أن أعرابياً سمع هذه الآية فقال : هذا كلام القادرين ، وعارض ابن المقفع القرآن فلما وصل إلى هذه الآية أمسك عن المعارضة وقال : هذا كلام لا يستطيع أحد من البشر أن يأتي بمثله .

وقال ابن عباسفي قوله : وقضي الأمر ، غرق من غرق ، ونجا من نجا . وقال مجاهد : قضي الأمر بهلاكهم ، وقال ابن قتيبة ، قضي الأمر فرغ منه ، وقال ابن الأنباري : أحكمت هلكة قوم نوح ،

وقال الزمخشري : أنجز ما وعد اللّه نوحاً من هلاك قومه . واستوت أي استقرت السفينة على الجودي ، واستقرارها يوم عاشوراء من المحرّم قاله : ابن عباس ، والضحاك .

وقيل : يوم الجمعة ،

وقيل : في ذي الحجة . وأقامت على الجوي شهراً ، وهبط بهم يوم عاشوراء . وذكروا أن الجبال تطاولت وتخاشع الجودي . وحديث بعث نوح عليه السلام الغراب والحمامة ليأتياه بخبر كمال الغرق اللّه أعلم بما كان من ذلك .

وقرأ الأعمش وابن أبي عبلة على الجودي بسكون الياء مخففة .

قال ابن عطية : وهما لغتان ، وقال صاحب اللوامح : هو تخفيف ياءي النسب ، وهذا التخفيف بابه الشعر لشذوذه ، والظاهر أن قوله :

وقيل بعداً من قول اللّه تعالى كالأفعال السابقة ، وبنى الجميع للمفعول للعلم بالفاعل ،

وقيل : من قول نوح والمؤمنين ، قيل : ويحتمل أن يكون من قول الملائكة ، قيل : ويحتمل أن يكون ذلك عبارة عن بلوغ الأمر ذلك المبلغ وإن لم يكن ، ثم قول محسوس . ومعنى بعد إهلاكاً يقال : بعد يبعد بعداً وبعداً إذا هلك ، واللام في للقوم من صلة المصدر .

وقيل : تتعلق بقوله :

وقيل ، والتقدير

وقيل لأجل الظالمين ، إذ لا يمكن أن يخاطب الهالك إلا على سبيل المجاز . ومعنى ونادى نوح ربه أي : أراد أن يناديه ، ولذلك أدخل الفاء ، إذ لو كان أراد حقيقة النداء والأخبار عن وقوعه منه لم تدخل الفاء في فقال : ولسقطت كما لم تدخل في قوله : { إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيّاً قَالَ رَبّ } والواو في هذه الجملة لا ترتب أيضاً ، وذلك أن هذه القصة كانت أول ما ركب نوح السفينة ، ويظهر من كلام الطبري أن ذلك من بعد غرق الابن .

وفي قوله : إن ابني من أهلي ، ظهور أنه ولده لصلبه . ومعنى من أهلي أي : الذي أمرت أن أحملهم في السفينة لقوله :{ احْمِلْ فِيهَا مِن كُلّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ } ولم يظن أنه داخل فيمن استثناه اللّه بقوله : إلا من سبق عليه القول منهم لظنه أنه مؤمن وعموم قوله : ومن آمن يشمل من آمن من أهله ومن غير أهله ، وحسن الخطاب بقوله : وإن وعدك الحق ، أي الوعد الثابت الذي لا شك في إنجازه والوفاء به ، وقد وعدتني أن تنجي أهلي ، وأنت أعلم الحكام وأعدلهم .

قال الزمخشري : ويجوز أن تكون من الحكمة حاكم بمعنى النسبة ، كما يقال : دارع من الدرع ، وحائض وطالق على مذهب الخليل انتهى . ومعنى ليس من أهلك على قول من قال : إنه ابنه لصلبه أي الناجين ، أو الذين عمهم الوعد . ومن زعم أنه ربيبه فهو ليس من أهله حقيقة ، إذ لا نسبة بينه وبينه بولادة ، فعلى هذا نفي ما قدّر أنه داخل في قوله : وأهلك ، ثم علل انتفاء كونه ليس من أهله بأنه عمل غير صالح . والظاهر أنّ الضمير في أنه عائد على ابن نوح لا على النداء المفهوم من قوله : ونادى المتضمن سؤال ربه ، وجعله نفس العمل مبالغة في ذمه كما قال : فإنما هي إقبال وإدبار ، هذا على قراءة جمهور السبعة .

وقرأ الكسائي : عمل غير صالح جعله فعلاً ناصباً غير صالح ، وهي قراءة : علي ، وأنس ، وابن عباس ، وعائشة ، وروتها عائشة وأم سلمة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم ، وهذا يرجح أن الضمير يعود على ابن نوح . قيل : ويرجح كون الضمير في أنه عائد على نداء نوح المتضمن السؤال أنّ في مصحف ابن مسعود أنه عمل غير صالح إن تسألني ما ليس لك به علم .

وقيل : يعود على الضمير في هذه القراءة على ركوب ولد نوح معهم الذي تضمنه سؤال نوح المعنى : أن كونه مع الكافرين وتركه الركوب مع المؤمنين عمل غير صالح ، وكون الضمير في أنه عائداً على غير ابن نوح عليه السلام تكلف وتعسف لا يليق بالقرآن .

قال الزمخشري: { فإن قلت } : فهلا قيل إنه عمل فاسد ؟ { قلت} : لما نفاه من

أهله نفى عنه صفتهم بكلمة النفي التي يستنفي معها لفظ المنفي وأذن بذلك أنه إنما أنجى من أنجى من أهله بصلاحهم ، لا لأنهم أهلك وأقاربك ، وإن هذا لما انتفي عنه الصلاح لم تنفعه أبوّتك .

وقرأ الصاحبان : تسألنّ بتشديد النون مكسورة ،

وقرأ أبو جعفر وشيبة وزيد بن علي كذلك ، إلا أنهم أثبتوا الباء بعد النون ، وابن كثر بتشديدها مفتوحة وهي قراءة ابن عباس .

وقرأ الحسن وابن أبي مليكة : تسألني من غير همز ، من سال يسال ، وهما يتساولان ، وهي لغة سائرة .

وقرأ باقي السبعة بالهمز وإسكان اللام وكسر النون وتخفيفها ، وأثبت الياء في الوصل ورش وأبو عمرو ، وحذفها الباقون .

قال الزمخشري : فلا تلتمس ملتمساً أو التماساً لا تعلم أصواب هو أم غير صواب حتى تقف على كنهه ، وذكر المسألة دليل على أنّ النداء كان قبل أن يغرق حين خاف عليه . { فإن قلت} : لم سمي نداءه سؤالاً ولا سؤال فيه ؟ { قلت} : قد تضمن دعاؤه معنى السؤال وإن لم يصرح به ، لأنه إذا ذكر الموعد بنجاة أهله في وقت مشارفة الغرق فقد استنجز ، وجعل سؤال ما لا يعرف كنهه جهلاً وغباوة ووعظه أن لا يعود إليه وإلى أمثاله من أفعال الجاهلين . { فإن قلت} قد وعد اللّه أن ينجيَ أهله ، وما كان عنده أنّ ابنه ليس منهم ديناً ، فلما أشفي على الغرق تشابه عليه الأمر ، لأنّ العدة قد سبقت له ، وقد عرف اللّه حكيماً لا يجوز عليه فعل القبيح وخلف الميعاد ، فطلب إماطة الشبهة وطلب إماطة الشبهة واجب ، فلم زجر وجعل سؤاله جهلاً ؟ { قلت} : أن في جملة أهله من هو مستوجب العذاب لكونه غير صالح ، وأنّ كلهم ليسوا بناجين ، وأنْ لا تخالجه شبهة حين شارف ولده الغرق في أنه من المستثنين لا من المستثنى منهم ، فعوتب على أن اشتبه عليه ما يجب بما يجب أن لا يشتبه . و

قال ابن عطية : معنى قوله : فلا تسألن ما ليس لك به علم ، أي إذ وعدتك فاعلم يقيناً أنه لا خلف في الوعد ، فإذا رأيت ولدك لم يحمل فكان الواجب عليك أن تقف وتعلم أنّ ذلك لحق واجب عند اللّه ، ولكنّ نوحاً عليه السلام حملته شفقة البنوة وسجية البشر على التعرض لنفحات الرحمة والتذكير ، وعلى هذا القدر وقع عقابه ، ولذلك جاء بتلطف وترج في قوله : إني أعظك أن تكون من الجاهلين . ويحتمل قوله : فلا تسألن ما ليس لك به علم ، أي : لا تطلب مني أمراً لا تعلم المصلحة فيه علم يقين ، ونحا إلى هذا أبو علي الفارسي وقال : إن به يجوز أن يتعلق بلفظ عام كما قال الشاعر :

كأن جزائي بالعصا أن أجلدا

ويجوز أن يكون به بمنزلة فيه ، فتتعلق الباء بالمستقر . واختلاف هذين الوجهين إنما هو لفظي ، والمعنى في الآية واحدة . وذكر الطبري عن ابن زيد تأويلاً في قوله : إني أعظك أن تكون من الجاهلين لا يناسب النبوة تركناه ، ويوقف عليه في تفسير ابن عطية .

وقيل : سأل نوح ربه حين صار عنه ابنه بمعزل ،

وقيل : قبل أن عرف هلاكه ،

وقيل : بعد أن عرف هلاكه سأل اللّه له المغفرة أنْ أسألك من أن أطلب في المستقبل ما لا علم لي بصحته تأديباً بأدبك ، واتعاظاً بموعظتك ، وهذه إنابة من نوح عليه السلام وتسليم لأمر اللّه .

قال ابن عطية : والسؤال الذي وقع النهي عنه والاستعاذة والاستغفار منه هو سؤال العزم الذي معه محاجة ، وطلبه ملحة فيما قد حجب وجه الحكمة فيه .

وأما السؤال في الأمور على جهة التعلم والاسترشاد فغير داخل في هذا ، وظاهر قوله : فلا تسألن ما ليس لك به علم ، يعم النحوين من السؤال ، ولذلك نبهت على أنّ المراد أحدهما دون الآخر ، والخاسرون هم المغبونون حظوظهم من الخير انتهى ، ونسب نوح النقص والذنب إلى نفسه تأدباً مع ربه فقال : وألا تغفر لي ، أي ما فرط من سؤالي وترحمني بفضلك ، وهذا كما قال آدم عليه السلام .

٤٨

انظر تسفير الآية:٤٩

٤٩

{قِيلَ يانُوحُ نُوحٌ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ ... } : بني الفعل للمفعول ، فقيل : القائل هو اللّه تعالى ،

وقيل : الملائكة تبليغاً عن اللّه تعالى . والظاهر الأول لقوله : منا . وسنمتعهم أمر عند نزوله بالهبوط من السفينة ومن الجبل مع أصحابه للانتشار في الأرض ، والباء للحال أي : مصحوباً بسلامة وأمن وبركات ، وهي الخيرات النامية في كل الجهات . ويجوز أن تكون اللام بمعنى التسليم أي : اهبط مسلماً عليك مكرماً . وقرىء اهبط بضم الباء ،

وحكى عبد العزيز بن يحيى وبركة على التوحيد عن الكسائي وبشر بالسلامة إيذاناً له بمغفرة ربه له ورحمته إياه ، وبإقامته في الأرض آمناً من الآفات الدنيوية ، إذ كانت الأرض قد خلت مما ينتفع به من النبات والحيوان ، فكان ذلك تبشيراً له بعود الأرض إلى أحسن حالها ، ولذلك قال : وبركات عليك أي دائمة باقية عليك . والظاهر أنّ من لابتداء الغاية أي : ناشئة من الذين معك ، وهم الأمم المؤمنون إلى آخر الدهر .

قال الزمخشري : ويحتمل أن تكون من للبيان فتراد الأمم الذين كانوا معه في السفينة لأنهم كانوا جماعات .

وقيل لهم : أمم ، لأنّ الأمم تشعبت منهم انتهى . وهذا فيه بعد تكلف ، إذ يصير التقدير : وعلى أمم هم من معك ، ولو أريد هذا المعنى لا غنى عنه ، وعلى أمم معك أو على من معك ، فكان يكون أخضر وأقرب إلى الفهم ، وأبعد عن اللبس . وارتفع أمم على الابتداء .

قال الزمخشري : وسنمتعهم صفة ، والخبر محذوف تقديره وممن معك أمم سنمتعهم ، وإنما حذف لأن قوله : ممن معك ، والمعنى : أن السلام منا والبركات عليك وعلى أمم مؤمنين ينشئون ممن معك ، وأمم ممتعون بالدنيا منقلبون إلى النار انتهى . ويجوز أن يكون أمم مبتدأ ، ومحذوف الصفة وهي المسوغة لجواز الابتداء بالنكرة ، والتقدير : وأمم منهم أي ممن معك ، أي ناشئة ممن معك ، وسنمتعهم هو الخبر كما قالوا : السمن منوان بدرهم ، أي منوان منه ، فحذف منه وهو صفة لمنوان ، ولذلك جاز الابتداء بمنوان وهو نكرة . ويجوز أن يقدر مبتدأ ولا يقدر صفة الخبر سنمتعهم ، ومسوغ الابتداء كون المكان مكان تفصيل ، فكان مثل قول الشاعر : إذا ما بكى من خلفها انحرفت له

بشق وشق عندنا لم يحول

وقال القرطبي : ارتفعت وأمم على معنى : ويكون أمم انتهى . فإنْ كان أراد تفسير معنى فحسن ، وإن أراد الإعراب ليس بجيد ، لأن هذا ليس من مواضع إضمار يكون ، وقال الأخفش : هذا كما تقول كلمت : زيداً وعمر وجالس انتهى . فاحتمل أن يكون من باب عطف الجمل ، واحتمل أنْ تكون الواو للحال ، وتكون حالاً مقدرة لأنه وقت الأمر بالهبوط لم تكن تلك الأمم موجودة . وقال أبو البقاء : وأمم معطوف على الضمير في اهبط تقديره : اهبط أنت وأمم ، وكان الفصل بينهما مغنياً عن التأكيد ، وسنمتعهم نعت لأمم انتهى . وهذا التقدير والمعنى لا يصلحان ، لأنّ الذين كانوا مع نوح في السفينة إنما كانوا مؤمنين لقوله : ومن آمن ، ولم يكونوا قسمين كفاراً ومؤمنين ، فتكون الكفار مأمورين بالهبوط مع نوح ، إلا إن قدر أن من أولئك المؤمنين من يكفر بعد الهبوط ، وأخبر عنهم بالحالة التي يؤولون إليها فيمكن على بعد ، والذي ينبغي أن يفهم من الآية أنّ من معه ينشأ منهم مؤمنون وكافرون ، ونبه على الإيمان بأن المتصفين به من اللّه عليهم سلام وبركة ، وعلى الكفر بأن المتصفين به يمتعون في الدنيا ثم يعذبون في الآخرة ، وذلك من باب الكناية كقولهم : فلان طويل

النجاد كثير الرماد . وظاهر قوله : ممن معك يدل على أنّ المؤمنين والكافرين نشأوا ممن معه ، والذين كانوا معه في السفينة إن كانوا أولاده الثلاثة فقط ، أو معهم نساؤهم ، انتظم قول المفسرين أنّ نوحاً عليه السلام هو أبو الخلق كلهم ، وسمي آدم الأصغر لذلك وإن كانوا أولاده وغيرهم على الاختلاف في العدد ، فإن كان غير أولاده مات ولم ينسل صح أنه أبو البشر بعد آدم ، ولم يصح أنه نشأ ممن معه مؤمن وكافر ، إلا إن أريد بالذين معه أولاده ، فيكون من إطلاق العام ويراد به الخاص . وإن كانوا نسلوا كما عليه أكثر المفسرين فلا ينتظم أنه أبو البشر بعد آدم بل الخلق بعد الطوفان منه ، وممن كان معه في السفينة والأمم الممتعة ليسوا معينين ، بل هم عبارة عن الكفار .

وقيل : هم قوم هود ، وصالح ، ولوط ، وشعيب ، عليهم الصلاة والسلام .

تلك إشارة إلى قصة نوح ، وتقدمت أعاريب في مثل هذا التركيب في قوله : { ذالِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ } في آل عمران ، وتلك إشارة للبعيد ، لأنّ بين هذه القصة والرسول مدداً لا تحصى .

وقيل : الإشارة بتلك إلى آيات القرآن ، ومن أنباء الغيب وهو الذي تقادم عهده ولم يبق علمه إلا عند اللّه ، ونوحيها إليك ليكون لك هداية وأسوة فيما لقيه غيرك من الأنبياء ، ولم يكن علمها عندك ولا عند قومك ، وأعلمناهم بها ليكون مثالاً لهم وتحذيراً أن يصيبهم إذا كذبوك ما أصاب أولئك ، وللحظ هذا المعنى ظهرت فصاحة قوله : فاصبر على أذاهم مجتهداً في التبليغ عن اللّه ، فالعاقبة لك كما كانت لنوح في هذا القصة . ومعنى ما كنت تعلمها : أي مفصلة كما سردناها عليك ، وعلم الطوفان كان معلوماً عند العالم على سبيل الإجمال ، والمجوس الآن ينكرونه . والجملة من قوله : ما كنت في موضع الحال من مفعول نوحيها ، أو من مجرور إليك ، وقدرها الزمخشري تقدير معنى فقال : أي مجهولة عندك وعند قومك ويحتمل أن يكون خبراً بعد خبر ، والإشارة بقوله : من قبل هذا إلى الوقت أو إلى الإيحاء أو إلى العلم الذي اكتسبه بالوحي احتمالات ، وفي مصحف ابن مسعود من قبل هذا القرآن .

وقال الزمخشري : ولا قومك معناه : أن قومك الذين أنت منهم على كثرتهم ووفور عددهم إذا لم يكن ذلك شأنهم ، ولا سمعوه ولا عرفوه ، فكيف برجل منهم كما تقول : لم يعرف هذا عبد اللّه ولا أهل بلده ؟ .

٥٠

انظر تسفير الآية:٥٢

٥١

انظر تسفير الآية:٥٢

٥٢

{وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ قَوْمٌ اعْبُدُواْ اللّه مَا لَكُمْ مّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ ...} : وإلى عاد أخاهم معطوف على قوله : أرسلنا نوحاً إلى قومه ، عطف الواو على المجرور ، والمنصوب على المنصوب ، كما يعطف المرفوع والمنصوب على المرفوع والمنصوب نحو : ضرب زيد عمراً ، وبكر خالداً ، وليس من باب الفصل بالجار والمجرور بين حرف العطف والمعطوف نحو : ضربت زيداً ، وفي البيت عمراً ، فيجيء منه الخلاف الذي بين النحويين : هل يجوز في الكلام ، أو يختص بالشعر ؟ وتقدير الكلام في هود وعاد وأخوته منهم في الأعراف ، وقراءة الكسائي غيره بالخفض ،

وقيل : ثم فعل محذوف أي : وأرسلنا إلى عاد أخاهم ، فيكون إذ ذاك من عطف الجمل ، والأول من عطف المفردات ، وهذا أقرب لطول الفصل بالجمل الكثيرة بين المتعاطفين . وهوداً بدل أو عطف بيان .

وقرأ محيصن : يا قوم بضم الميم كقراءة حفص : قل رب احكم بالحق بالضم ، وهي لغة في المنادي المضاف حكاها سيبويه وغيره ، وافتراؤهم قال الحسن : في جعلهم الألوهية لغير اللّه تعالى .

وقال الزمخشري : باتخاذكم الأوثان له شركاء . والضمير في عليه عائد على الدعاء إلى اللّه ، ونبه بقوله : الذي فطرني ، على الرد عليهم في عبادتهم الأصنام ، واعتقادهم أنها تفعل ، وكونه تعالى هو الفاطر للموجودات يستحق إفراده بالعبادة . وأفلا تعقلون توقيف على استحالة الألوهية لغير الفاطر ، ويحتمل أن يكون أفلا تعقلون راجعاً إلى أنه إذا لم أطلب عرضاً منكم ، وإنما أريد نفعكم فيجب انقيادكم لما فيه نجاتكم ، كأنه قيل : أفلا تعقلون نصيحة من لا يطلب عليها أجراً إلا من اللّه تعالى ، وهو ثواب الآخرة ، ولا شيء أنفى للتهمة من ذلك . وتقدّم الكلام في { اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ } أول هذه السورة قصد هود استمالتهم إلى الإيمان وترغيبهم فيه بكثرة المطر وزيادة القوة ، لأنهم كانوا أصحاب زورع وبساتين

وعمارات حراصاً عليها أشد الحرص ، فكانوا أحوج شيء إلى الماء ، وكانوا مدلين بما أوتوا من هذه القوة والبطش والبأس مهيئين في كل ناحية .

وقيل : أراد القوة في المال ،

وقيل : في النكاح . قيل : وحبس عنهم المطر ثلاث سنين ، وعقمت أرحام نسائهم . وقد انتزع الحسن بن علي رضي اللّه عنه من هذا ومن قوله : ويمددكم بأموال وبنين ، أن كثرة الاستغفار قد يجعله اللّه سبباً لكثرة الولد . وأجاب من سأله وأخبره أنه ذو مال ولا يولد له بالاستغفار ، فأكثر من ذلك فولد له عشر سنين . وروى أبو صالح عن ابن عباس في قوله : ويزدكم قوة إلى قوتكم ، أنه الولد وولد الولد . وقال مجاهد وابن زيد : في الجسم والبأس ، وقال الضحاك : خصباً إلى خصبكم ،

وقيل : نعمة إلى نعمته الأولى عليكم ،

وقيل : قوة في إيمانكم إلى قوة في أبدانكم .

٥٣

انظر تسفير الآية:٥٧

٥٤

انظر تسفير الآية:٥٧

٥٥

انظر تسفير الآية:٥٧

٥٦

انظر تسفير الآية:٥٧

٥٧

{قَالُواْ يأَبَانَا هُودٍ مَا جِئْتَنَا بِبَيّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِىءالِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ ...} : ببينة أو بحجة واضحة تدل على صدقك ، وقد كذبوا في ذلك وبهتوه كما كذبت قريش في قولهم :{ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ مّن رَّبّهِ } وقد جاءهم بآيات كثيرة ، أو لعمائهم عن الحق وعدم نظرهم في الآيات اعتقدوا ما هو آية ليس بآية فقالوا : ما جئتنا ببينة تلجئنا إلى الإيمان ، وإلا فهود وغيره من الأنبياء لهم معجزات وإن لم يعين لنا بعضها . ألا ترى إلى قول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :{ مَّا مِن نَّبِىٍّ إِلا وَقَدْ أُوتِيَ مِنَ الاْيَاتِ مَا مّثْلِهِ مِن عَلَيْهِ الْبَشَرِ } وعن في عن قولك حال من الضمير في تاركي آلهتنا ، كأنه قيل : صادرين عن قولك ، قاله الزمخشري .

وقيل : عن للتعليل كقوله تعالى :{ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ } فتتعلق بتاركي ، كأنه قيل لقولك ، وقد أشار إلى التعليل والسبب فيها ابن عطية ، فقال : أي لا يكون قولك سبباً لتركنا ، إذ هو مجرد عن آية ، والجملة بعدها تأكيد وتقنيط له من دخولهم في دينه ، ثم نسبوا ما صدر منه من دعائهم إلى اللّه وإفراده بالألوهية إلى الخبل والجنون ، وأن ذلك مما اعتراه به بعض آلهتهم لكونه سبها وحرض على تركها ودعا إلى ترك عبادتها ، فجعلته يتكلم مكافأة بما يتكلم به المجانين ، كما قالت قريش : معلم مجنون { أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ } واعتراك جملة محكية بنقول ، فهي في موضع المفعول ، ودلت على بله شديد وجهل مفرط ، حيث اعتقدوا في حجارة أنها تنتصر وتنتقم . وقول هود لهم في جواب ذلك : إني أشهد اللّه إلى آخره ، حيث تبرأ من آلهتهم ، وحرضهم كلهم مع انفراده وحده على كيده بما يشاؤون ، وعدم تأخره من أعظم الآيات على صدقه وثقته بموعود ربه من النصر له ، والتأييد والعصمة من أن ينالوه بمكروه ، هذا وهم حريصون على قتله يرمونه عن قوس واحدة . ومثله قول نوح لقومه :{ ثُمَّ اقْضُواْ إِلَىَّ وَلاَ تُنظِرُونَ } وأكد براءته من آلهتهم وشركهم ، ووفقها بما جرت عليه عادة الناس من توثيقهم الأمر بشهادة اللّه وشهادة العباد .

قال الزمخشري: { فإن قلت } : هلا قيل : إني أشهد اللّه وأشهدكم { قلت} : لأنّ إشهاد اللّه على البراءة من الشرك إشهاد صحيح ثابت في معنى تثبيت التوحيد ،

وأما إشهادهم فما هو إلا تهاون بدينهم ودلالة على قلة المبالاة بهم فحسب ، فعدل به عن لفظ الأول لاختلاف ما بينهما ، وجيء به على لفظ الأمر بالشهادة انتهى . وإني بريء تنازع فيه أشهد واشهدوا ، وقد يتنازع المختلفان في التعدي الاسم الذي يكون صالحاً ، لأن يعملا فيه تقول أعطيت زيداً ووهبت لعمرو ديناراً ، كما يتنازع اللازم والمتعدي نحو : قام وضربت زيداً . وما في ما تشركون موصولة ، إما مصدرية ،

وإما بمعنى الذي أي : بريء من إشراككم آلهة من دونه ، أو

من الذين تشركون ، وجميعاً حال من ضمير كيدوني الفاعل ، والخطاب إنما هو لقومه .

وقال الزمخشري : أنتم وآلهتكم انتهى . قيل : ومجاهرة هود عليه السلام لهم بالبراءة من أديانهم ، وحضه إياهم على كيده هم وأصنامهم معجزة لهود ، أو حرض جماعتهم عليه مع انفراده وقوتهم وكثرتهم ، فلم يقدروا على نيله بسوء ، ثم ذكر توكله عل اللّه معلماً أنه ربه وربهم ، ومنبهاً على أنه من حيث هو ربكم يجب عليكم أن لا تعبدوا إلا إياه ، ومفوضاً أمره إليه تعالى ثقة بحفظه وانجاز موعوده ، ثم وصف قدرة اللّه تعالى وعظيم ملكه من كون كل دابة في قبضته وملكه وتحت قهره وسلطانه ، فأنتم من جملة أولئك المقهورين . وقوله : آخذ بناصيتها تمثيل ، إذ كان القادر المالك يقود المقدور عليه بناصيته ، كما يقاد الأسير والفرس بناصيته ، حتى صار الأخذ بالناصية عرفاً في القدرة على الحيوان ، وكانت العرب تجز ناصية الأسير الممنون عليه علامة أنه قد قدر عليه وقبض على ناصيته . قال ابن جريج : وخص الناصية لأن العرب إذا وصفت إنساناً بالذلة والخضوع قالت : ما ناصية فلان إلا بيد فلان ، أي أنه مطيع له يصرفه كيف يشاء ثم أخبر أنّ أفعاله تعالى في غاية الإحكام ، وعلى طريق الحق والعدل في ملكه ، لا يفوته ظالم ولا يضيع عنده من توكل عليه ، قوله الصدق ، ووعده الحق .

وقرأ الجمهور : فإن تولوا أي تتولوا مضارع تولى .

وقرأ الأعرج وعيسى الثقفي : تولوا بضم التاء ، واللام مضارع وليّ ،

وقيل : تولوا ماض ويحتاج في الجواب إلى إضمار قول ، أي : فقل لهم فقد أبلغتكم ، ولا حاجة تدعو إلى جعله ماضياً وإضمار القول . و

قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون تولوا فعلاً ماضياً ، ويكون في الكلام رجوع من غيبة إلى خطاب أي : فقد أبلغتكم انتهى . فلا يحتاج إلى إضمار ، والظاهر أنّ الضمير في تولوا عائد على قوم هود ، وخطاب لهم من تمام الجمل المقولة قبل . وقال التبريزي : هو عائد على كفار قريش ، وهو من تلوين الخطاب ، انتقل من خطاب قوم هود إلى الإخبار عمن بحضرة الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، وكأنه قيل : أخبرهم عن قصة قوم هود ، وادعهم إلى الإيمان باللّه لئلا يصيبهم كما أصاب قوم هود ، فإن تولوا فقل لهم : قد أبلغتكم . وجواب الشرط هو قوله : فق أبلغتكم ، وصح أن يكون جواباً ، لأن في إبلاغه إليهم رسالته تضمن ما يحل بهم من العذاب المستأصل ، فكأنه قيل : فإن تتولوا استؤصلتم بالعذاب . ويدل على ذلك الجملة الخبرية وهي قوله : ويستخلف ربي قوماً غيركم .

وقال الزمخشري{ فإن قلت } : الإبلاغ كان قبل التولي ، فكيف وقع جزاء للشرط ؟ { قلت} : معناه فإن تولوا لم أعاقب على تفريط في الإبلاغ ، فإنّ ما أرسلت به إليكم قد بلغكم فأبتم إلا تكذيب الرسالة وعداوة الرسول . و

قال ابن عطية : المعنى أنه ما عليّ كبيرهم منكم إن توليتم فقد برئت ساحتي بالتبليغ ، وأنتم أصحاب الذنب في الإعراض عن الإيمان .

وقرأ الجمهور : ويستخلف بضم الفاء على معنى الخبر المستأنف أي : يهلككم ويجيء بقوم آخرين يخلفونكم في دياركم وأموالكم .

وقرأ حفص في رواية هبيرة : بجزمها عطفاً على موضع الجزاء ،

وقرأ عبد اللّه كذلك ، وبجزم ولا تضروه ،

وقرأ الجمهور : ولا تضرونه أي شيئاً من الضرر بتوليتكم ، لأنه تعالى لا تجوز عليه المضار والمنافع .

قال ابن عطية : يحتمل من المعنى وجهين :

أحدهما : ولا تضرونه بذهابكم وهلاككم شيئاً أي : لا ينقص ملكه ، ولا يختل أمره ، وعلى هذا المعنى قرأ عبد اللّه بن مسعود ولا تنقصونه شيئاً . والمعنى الآخر : ولا تضرونه أي : ولا تقدرون إذا أهلككم على إضراره بشيء ، ولا على انتصار منه ، ولا تقابلون فعله بشيء يضره انتهى . وهذا فعل منفي ومدلوله نكرة ، فينتفي جميع وجوه الضرر ، ولا يتعين واحد منها . ومعنى حفيظ رقيب محيط بالأشياء علماً لا يخفى عليه أعمالكم ، ولا يغفل عن مؤاخذتكم ، وهو يحفظني مما تكيدونني به .

٥٨

انظر تسفير الآية:٦٠

٥٩

انظر تسفير الآية:٦٠

٦٠

{وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا ... } : الأمر واحد الأمور ، فيكون كناية عن العذاب ، أو عن القضاء بهلاكهم . أو مصدر أمر أي أمرنا للريح أو

لخزنتها . والذين آمنوا معه قيل : كانوا أربعة آلاف ، قيل : ثلاثة آلاف . والظاهر تعلق برحمة منا بقوله : نجينا أي ، نجيناهم بمجرد رحمة من اللّه لحقتهم ، لا بأعمالهم الصالحة . أو كنى بالرحمة عن أعمالهم الصالحة ، إذ توفيقهم لها إنما هو بسبب رحمته تعالى إياهم . ويحتمل أن يكون متعلقاً بآمنوا أي : أنّ إيمانهم باللّه وبتصديق رسوله إنما هو برحمة اللّه تعالى إياهم ، إذ وفقهم لذلك . وتكررت التنجية على سبيل التوكيد ، ولفلق من لو لاصقت منا فأعيدت التنجية وهي الأولى ، أو تكون هذه النتيجة هي من عذاب الآخرة ولا عذاب أغلظ منه ، فأعيدت لأجل اختلاف متعلقيها .

وقال الزمخشري{ فإن قلت } : فما معنى تكرير التنجية ؟ { قلت} : ذكر أولاً أنه حين أهلك عدوهم نجاهم ثم قال ونجيناهم من عذاب غليظ على معنى ، وكانت التنجية من عذاب غليظ قال : وذلك أن اللّه عز وعلا بعث عليهم السموم ، فكانت تدخل في أنوفهم وتخرج من أدبارهم وتقطعم عضواً عضواً انتهى . وهذا قاله الزجاج . و

قال ابن عطية : ويحتمل أن يريد ، وكانت النجاة المتقدمة من عذاب غليظ يريد الريح ، فيكون المقصود على هذا تعديد النعمة ، والمشهور في عذابهم بالريح أنها كانت تحملهم وتهدم مساكنهم وتنسفها ، وتحمل الظعينة كما هي ، ونحو هذا . وتلك عاد إشارة إلى قبورهم وآثارهم كأنه قال : { فَسِيحُواْ فِى الاْرْضِ } فانظروا إليها واعتبروا ، ثم استأنف الأخبار عنهم فقال : جحدوا بآيات ربهم أي : أنكروها . وأضاف الآيات إلى ربهم تنبيهاً على أنه مالكهم ومربيهم ، فأنكروا آياته ، والواجب إقرارهم بها . وأصل جحد أن يتعدى بنفسه ، لكنه أجرى مجرى كفر فعدى بالباء ، كما عدى كفر بنفسه في قوله : إلا أن عادا كفروا ربهم ، إجراء له مجرى جحد .

وقيل : كفر كشكر يتعدى تارة بنفسه ، وتارة بحرف جر . وعصوا رسله ، قيل : عصوا هوداً والرسل الذين كانوا من قبله ،

وقيل : ينزل تكذب الرسول الواحد منزلة تكذيب الرسل ، لأنهم كلهم مجمعون على الإيمان باللّه والإقرار بربوبيته كقوله :{ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ } وأتبعوا أي : اتبع سقاطهم أمر رؤسائهم وكبرائهم ، والمعنى : أنهم أطاعوهم فيما أمروهم به . قال الكلبي : الجبار هو الذي يقتل على الغضب ، ويعاقب على المعصية ، وقال الزجاج : هو الذي يجبر الناس على ما يريد . وذكر ابن الأنباري : أنه العظيم في نفسه ، المتكبر على العباد . والظاهر أن قوله : واتبعوا عام في جميع عاد .

وقال الزمخشري : لما كانوا تابعين له دون الرسل جعلت اللعنة تابعة لهم في الدارين تكبهم على وجوههم في عذاب اللّه انتهى . فظاهر كلامه يدل على أن اللعنة مختصة بالتابعين للرؤساء ، ونبه على علة اتباع اللعنة لهم في الدارين بأنهم كفروا ربهم ، فالكفر هو الموجب للعنة . ثم كرر التنبيه بقوله : ألا في الدعاء عليهم تهويلاً لأمرهم ، وتفظيعاً له ، وبعثاً على الاعتبار بهم والحذر من مثل حالهم . وفائدة قوله : قوم هود مزيد التأكيد للمبالغة في التنصيص ، أو تعيين عاد هذه من عاد ارم ، لأنّ عاد إثنان ولذلك

قال تعالى : وأنه أهلك ، عاد الأولى فتحقق أن الدعاء على عاد هذه ، ولم تلتبس بغيرها .

٦١

انظر تسفير الآية:٦٢

٦٢

وإلى ثمود أخاهم . . . . .

الصيحة : فعلة للمرة الواحدة من الصياح ، يقال : صاح يصبح إذا صوت بقوة . حنذت الشاة أحنذها حنذا شويتها ،

وجعلت فوقها حارة لتنضجها فهي حنيذ ، وحنذت الفرس أحضرته شوطاً أو شوطين ثم ظاهرت عليه الجلال في الشمس ليعرق . أوجس الرجل قال الأخفش : خامر قلبه ، وقال الفراء : اتشعر ،

وقيل : أحسن . والوجيس ما يعتري النفس عند أوائل الفزع ، ووجس في نفسه كذا خطر بها يجس وجسا ووجوساً وتوجس تسمع وتحسن . قال : وصادقتا سمع التوجس للسرى

لهجس خفي أو لصوت مندد

الضحك معروف ، وكان ينبغي أن يذكر في سورة التوبة في قوله : { فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً }

ويقال : ضحك بفتح الحاء ، والضحكة الكثير الضحك ، والضحكة المضحوك منه ،

ويقال : ضحكت الأرنب أي حاضت ، وأنكر أبو عبيدة والفراء وأبو عبيد : ضحك بمعنى حاض ، وعرف ذلك غيرهم . وقال الشاعر أنشده اللغويون : وضحك الأرانب فوق الصفا

كمثل دم الجوف يوم اللقا

وقال الآخر : وعهدي بسلمى ضاحكاً في لبانة

ولم يعد حقاً ثديها أن يحلما

أي حائضاً في لبانة ، واللبانة والعلاقة والشوذر واحد . ومنه ضحكت الكافورة إذا انشقت ، وضحكت الشجرة سال منا صمغها وهو شبه الدم ، وضحك الحوض امتلأ وفاض .

الشيح : معروف ، والفعل شاخ يشيخ ، وقد يقال للأنثى : شيخة . قال :

وتضحك مني شيخة عبشمية

ويجمع على أشياخ وشيوخ وشيخان ، ومن أسماء الجموع مشيخة ومشيوخاً . المجيد قال ابن الأعرابي : الرفيع . يقال : مجد يمجد مجداً ومجادة ومجد ، لغتان أي كرم وشرف ، وأصله من قولهم : مجدت الإبل تمجد مجداً شبعت . وقال : أمجدت الدابة أكثرت علفها ، وقال أبو حية النميري : تزيد على صواحبها وليست

بماجدة الطعام ولا الشراب

أي : ليست بكثيرة الطعام ولا الشراب . وقال الليث : أمجد فلان عطاء ومجده إذا كثره ، ومن أمثالهم { في كل شجر نار} واستمجد المرخ والعفار أي استكثر من النار . و

قال ابن عطية : مجد الشيء إذا حسنت أوصافه . الروع : الفزع قال الشاعر : إذا أخذتها هزة الروع أمسكت

بمنكب مقدام على الهول أروعا

والفعل راع يروع قال : ما راعني إلا حمولة أهلها

وسط الديار نسف حب الخمخم

وقال النابغة : فارتاع من صوت كلاب فبات له

طوع الشوامت من خوف ومن صرد

والروع بضم الراء النفس ، لأنها موضع الروع . الذرع مصدر ذرع البعير بيديه في سيره إذا سار على قدر خطوه ، مأخوذ من الذراع ، ثم وضع موضع الطاقة فقيل : ضاق به ذرعاً . وقد يجعلون الذراع موضع الذراع قال :

إليك إليك ضاق بها ذرعاً

وقيل : كنى بذلك عن ضيق الصدر . العصيب والعصبصب والعصوصب الشديد اللازم ، الشر الملتف بعضه ببعض قال : وكنت لزاز خصمك لم أعدد

وقد سلكوك في يوم عصيب

قال أبو عبيدة : سمى عصيباً لأنه يعصب الناس بالشر ، والعصبة والعصابة الجماعة المجتمعة كلمتهم ، أو المجتمعون في النسب . وتعصبت لفلان وفلان معصوب أي : مجتمع الخلق . الإهراغ : قال شمر مشي بين الهرولة والجمز . وقال الهروي : هرع الرجل وأهرع استحث . الضيف : مصدر ، وإذا أخبر به أو وصف لم يطابق في تثنية ولا جمع ، هذا المشهور . وسمع فيه ضيوف وأضياف وضيفان . الركن : معروف وهو الناحية من البيت ، أو الجبل .

ويقال : ركن بضم الكاف ، ويجمع على أركان وأركن . وركنت إلى فلان انضويت إليه . سرى وأسرى بمعنى واحد قاله أبو عبيدة والأهري ، وعن الليث أسرى سار أو الليل ، وسرى سار آخره ، ولا يقال في النهار إلا سار . السجيل والسجين الشديد من الخجر قاله أبو عبيدة . وقال الفراء : طين طبخ حتى صار بمنزلة الآجر .

وقيل : هو فارسي ، وسنك

الحجر ، وكل الطين يعرب فقيل : سجين . المنضود : المجمعول بعضه فوق بعض .

{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ قَوْمٌ اعْبُدُواْ اللّه مَا لَكُمْ مّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مّنَ الاْرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبّى } : قرأ ابن وثاب والأعمش : وإلى ثمود بالصرف على إرادة الحي ، والجمهور على منع الصرف ذهاباً إلى القبيلة . أنشأكم اخترعكم وأوجدكم ، وذلك باختراع آدم أصلهم ، فكان إنشاء الأصل إنشاء للفرع .

وقيل : من الأرض باعتبار الأصل المتولد منه النبات ، المتولد منه الغذاء ، المتولد منه المني ودم الطمث ، المتولد منهما الإنسان .

وقيل : من بمعنى في واستعمركم جعلكم عماراً .

وقيل : استعمركم من العمر أي : استبقاكم فيها قاله الضحاك أي ، أطال أعماركم .

وقيل : من العمرى ، قاله مجاهد : فيكون استعمر في معنى أعمر ، كاستهلكه في معنى أهلكه . والمعنى : أعمركم فيها دياركم ، ثم هو وارثها منكم . أو بمعنى : جعلكم معمرين دياركم فيها ، لأنّ من ورث داره من بعده فإنه أعمره إياها ، لأنه يسكنها عمره ثم يتركها لغيره . وقال زيد بن أسلم : استعمركم أمركم بعمارة ما تحتاجون إليه من بناء مساكن وغرس أشجار .

وقيل : ألهمكم عمارتها من الحرث والغرس وحفر الأنهار وغيرها ، إن ربي قريب أي : داني الرحمة ، مجيب لمن دعاه . قد كنت فينا مرجواً . قال كعب : كانوا يرجوه للملكة بعد ملكهم ، لأنه كان ذا حسب وثروة .

وعن ابن عباس : فاضلاً خيراً نقدمك على جميعنا . وقال مقاتل : كانوا يرجعون رجوعه إلى دينهم ، إذ كان يبغض أصنامهم ، ويعدل عن دينهم ، فلما أظهر إنذارهم انقطع رجاؤهم منه . وذكر الماوردي يرجون خيره ، فلما أنذرهم انقطع رجاؤه خيره . وبسط الزمخشري هذا القول فقال : فينا فيما بيننا مرجواً كانت تلوح فيك مخايل الخير وجمارات الرشد ، فكنا نرجوك لننتفع بك ، وتكون مشاوراً في الأمور مسترشداً في التدابير ، فلما نطقت بهذا القول انقطع رجاؤنا عنك ، وعلمنا أنْ لا خير فيك انتهى .

وقيل : لما كان قوى الخاطر ، وكان من قبيلتهم ، قوي رجاؤهم في أنْ ينصر دينهم ويقوي مذهبهم . و

قال ابن عطية : والظاهر الذي حكاه الجمهور أن قوله : مرجواً مشوراً ، نؤمل فيك أن تكون سيداً سادًّا مسدّ الأكابر ، ثم قرروه على التوبيخ في زعمهم بقولهم : أتنهانا .

وحكى النقاش عن بعضهم أنه قال : معناه حقيراً ، فإما أن يكون لفظ مرجو بمعنى حقير ، فليس ذلك في كلام العرب ، وإنما يتجه ذلك على جهة التفسير للمعنى ، وذلك أنّ القصد بقولهم : مرجواً بقول : لقد كنت فينا سهلاً مرامك ، قريباً رد أمرك ممن لا يظن أنْ يستعجل من أمره مثل هذا . فمعنى مرجواً أي : مؤخراً اطراحه وغلبته . ونحو هذا فيكون ذلك على جهة الاحتقار ، ولذلك فسر بحقير ، ثم يجيء قولهم : أتنهانا ، على جهة التوعد والاستبشاع لهذه المقالة منه انتهى . وما يعبد آباؤنا حكاية حال ماضية ، وأنا وإننا لغتان لقريش . قال الفراء : من قال إننا أخرج الحرف على أصله ، لأن كناية المتكلمين نا ، فاجتمعت ثلاث نونات . ومن قال : أنا استثقل ، اجتماعها ، فأسقط الثالثة وأبقى الأولتين انتهى . والذي أختاره أن نا ضمير المتكلمين لا تكون المحذوفة ، لأن في حذفها حذف بعض اسم وبقي منه حرف ساكن ، وإنما المحذوفة النون الثانية أنّ فحذفت لاجتماع الأمثال ، وبقي من الحرف الهمزة والنون الساكنة ، وهذا أولى من حذف ما بقي منه حرف . وأيضاً فقد عهد حذف هذه النون مع غير ضمير المتكلمين ، ولم يعهد حذف نون نا ، فكان حذفها من أن أولى . ومريب اسم فاعل من متعد ، أرابه أوقعه في الريبة ، وهي قلق النفس وانتفاء الطمأنينة . أو من لازم أراب الرجل إذا كان ذا ريبة ، وأسند ذلك إلى الشك إسناداً مجازياً ، ووجود مثل هذا الشك كوجود التصميم على الكفر .

٦٣

انظر تسفير الآية:٦٥

٦٤

انظر تسفير الآية:٦٥

٦٥

{قَالَ يَاءادَمُ قَوْمٌ قَالَ ياقَوْمِ أَرَءيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيّنَةً مّن رَّبّى وَءاتَانِى مِنْهُ رَحْمَةً فَمَن يَنصُرُنِى مِنَ اللّه إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا } : تقدم الكلام في أرأيتم في قصة نوح ، والمفعول الثاني هنا لا رأيتم محذوف يدل عليه قوله : فمن ينصرني من اللّه إن عصيته ،

والتقدير : أعصيه في ترك ما أنا عليه من البينة . و

قال ابن عطية : أرأيتم هو من رؤية القلب ، والشرط الذي بعده وجوابه يسد مسد مفعولي علمت وأخواتها ، وإدخال أداة الشرط التي هي إن على جملة محققة ، وهي كان على بينة من ربه ، لكنه خاطب الجاحدين للبينة فكأنه قال : قدروا أني على بينة من ربي وانظروا إنْ تابعتكم وعصيت ربي في أو أمره ، فمن يمنعني من عذابه ؟

قال ابن عطية : وفي الكلام محذوف تقديره : أيضرني شككم ، أو أيمكنني طاعتكم ، ونحو هذا مما يليق بمعنى الآية انتهى . وهذا التقدير الذي قدره استشعار منه بالمفعول الثاني الذي يقتضيه أرأيتم ، وأن الشرط وجوابه لا يقعان ولا يسدان مسد مفعولي أرأيتم ، والذي قدرناه نحن هو الظاهر لدلالة قوله : فمن ينصرني من اللّه إن عصيته ، فما تزيدونني غير تخسير .

قال الزمخشري : غير أن أخسركم أي أنسبكم إلى الخسران ، وأقول أنكم خاسرون انتهى . يفعل هذا للنسبة كفسقته وفجرته أي : نسبته أي الفق والفجور . قال ابن عباس : معناه ما تزيدونني بعبادتكم إلا بصارة في خسرانكم انتهى . فهو على حذف مضاف أي : غير بصاوة تخسيركم . وقال مجاهد : ما تزدادون أنتم باحتجاجكم بعبادة آبائكم إلا خساراً ، وأضاف الزيادة إلى نفسه لأنهم أعطوه ذلك وكان سألهم الإيمان . و

قال ابن عطية : فما تعطوني فيما اقتضيته منكم من الإيمان غير تخسير لأنفسكم ، وهو من الخسارة وليس التخسير إلا لهم ، وفي حيزهم ، وأضاف الزيادة إليه من حيث هو مقتض لأقوالهم موكل بإيمانهم كما تقول لمن توصيه : أنا أريدك خيراً وأنت تريدني سوأ ، وكان الوجه البين أن يقول : وأنت تريد شراً ، لكن من حيث كنت مريد خير ، ومقتضى ذلك حسن أن يضيف الزيادة إلى نفسك انتهى .

وقيل : التقدير فما تحملونني عليه ، غير أني أخسركم أي : أرى منكم الخسران .

وقيل : التقدير تخسروني أعمالكم وتبطلونها . قيل وهذا أقرب ، لأن قوله : فمن ينصرني من اللّه إن عصيته كالدلالة على أنه أراد إن اتبعتكم فيما أنتم عليه ودعوتموني إليه لم أزدد إلا خسراناً في الدين ، فأصبر من الهالكين الخاسرين . وانتصب آية على الحال ، والخلاف في الناصب في نحو هذا زيد منطلقاً ، أهو حرف التنبيه ؟ أو اسم الإشارة ؟ أو فعل محذوف ؟ جاز في نصب آية ولكم في موضع الحال ، لأنه لو تأخر لكان نعتاً لآية ، فلما تقدم على النكرة كان حالاً ، والعامل فيها محذوف .

وقال الزمخشري{ فإن قلت } : فبم يتعلق لكم ؟ { قلت} : بآية حالاً منها متقدمة ، لأنها لو تأخرت لكان صفة لها ، فلما تقدمت انتصب على الحال انتهى . وهذا متناقض ، لأنه من حيث تعلق لكم بآية كان لكم معمولاً لآية ، وإذا كان معمولاً لها امتنع أن يكون حالاً منها ، لأنّ الحال تتعلق بمحذوف ، فتناقض هذا الكلام ، لأنه من حيث كونه معمولاً لها كانت هي العاملة ، ومن حيث كونه حالاً منها كان العامل غيرها ، وتقدم الكلام على الجمل التي بعد آية . وقرأت فرقة : تأكل بالرفع على الاستئناف ، أو على الحال . وقريب عاجل لا يستأخر عن مسكموها بسوء إلا يسيراً ، وذلك ثلاثة أيام ، ثم يقع عليكم ، وهذا الإخبار بوحي من اللّه تعالى فعقروها نسب إلى جميعهم وإن كان العاقر واحداً لأنه كان برضا منهم ، وتمالؤا . ومعنى تمتعوا استمتعوا بالعيش في داركم في بلدكم ، وتسمي البلاد الديار لأنها يدار فيها أي : يتصرف ، يقال : ديار بكر لبلادهم قاله الزمخشري . و

قال ابن عطية : في داركم جمع دارة ، كساحة وساح وسوح ، ومنه قول أمية بن أبي الصلت : له داع بمكة مشمعل

وآخر فوق دارته ينادي

ويمكن أن يسمي جميع مسكن الحي داراً انتهى . ذلك أي : الوعد بالعذاب غير مكذوب ، أي صدق حق . والأصل غيره مكذوب فيه ، فاتسع فحذف الحرف وأجرى الضمير مجرى المفعول به ، أو جعل غير مكذوب لأنه وفى به فقد صدق ، أو على أنّ المكذوب هنا مصدر عند من يثبت أنّ المصدر يجيء على زنة مفعول .

٦٦

انظر تسفير الآية:٦٨

٦٧

انظر تسفير الآية:٦٨

٦٨

{فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً وَالَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا... } والكلام في جاء أمرنا كالكلام السابق في قصة قوم هود . قيل : الواو زائدة في ومن أي من خزي يومئذ فيتعلق من بنجينا ، وهذا لا يجوز عند البصريين ، لأن الواو لا تزاد عندهم بل تتعلق من بمحذوف أي : ونجيناهم من خزي ، أي وكانت التنجية من خزي يومئذ .

وقرأ طلحة وأبان بن تغلب : ومن خزي بالتنوين ، ونصب يومئذ على الظرف معمولاً لخزي .

وقرأ الجمهور بالإضافة ، وفتح الميم نافع والكسائي ، وهي فتحة بناء لإضافته إلى إذ ، وهو غير متمكن .

وقرأ باقي السبعة بكسر الميم وهي حركة إعراب ، والتنوين في إذ تنوين عوض من الجملة المحذوفة المتقدمة الذكر أي : ومن فضيحة يوم إذ جاء الأمر وحل بهم .

وقال الزمخشري : ويجوز أن يريد بيومئذ يوم القيامة ، كما فسر العذاب الغليظ بعذاب الآخرة انتهى . وهذا ليس مجيد ، لأن التنوين في إذ تنوين العوض ولم يتقدم إلا قوله ، فلما جاء أمرنا ولم تتقدم جملة فيها ذكر يوم القيامة ولا ما يكون فيها ، فيكون هذا التنوين عوضاً من الجملة التي تكون في يوم القيامة . وناسب مجيء الأمر وصفه تعالى بالقوي العزيز ، فإنهما من صفات الغلبة والقهر والانتقام ، والجملة التي بعد هذا تقدم الكلام عليها في الأعراف ألا إن ثمود ، منع حمزة وحفص صرفه ، وصرفه الباقون ، لثمود صرفه الكسائي ، ومنعه باقي السبعة .

٦٩

انظر تسفير الآية:٧٣

٧٠

انظر تسفير الآية:٧٣

٧١

انظر تسفير الآية:٧٣

٧٢

انظر تسفير الآية:٧٣

٧٣

{وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرَى ...} : تقدم أن ترتيب قصص هذه السورة كترتيب قصص الأعراف ، وإنما أدرج شيئاً من أخبار إبراهيم عليه السلام بين قصة صالح ولوط ، لأنّ له مدخلاً في قصة لوط ، وكان إبراهيم بن خالة لوط . والرسل هنا الملائكة ، بشرت إبراهيم بثلاث بشائر : بالولد ، وبالخلة ، وبإنجاء لوط ومن آمن معه . قيل : كانوا اثنى عشر ملكاً ، روى ذلك عن ابن عباس . وقال السدي : أحد عشر ،

وحكى صاحب الغنيان عشرة منهم جبريل . وقال الضحاك : تسعة ، وقال محمد بن كعب : ثمانية ،

وحكى الماوردي : أربعة ،

وقال ابن عباس وابن جبير : ثلاثة جبريل ، وميكائيل ، وإسرافيل . وقال مقاتل : جبريل ، وميكائيل ، وملك الموت . وروي : أن جبريل عليه السلام كان مختصاً بإهلاك قوم لوط ، وميكائيل ببشرى إبراهيم بإسحاق عليهما السلام ، وإسرافيل بإنجاء لوط ومن آمن معه . قيل : وكانت الملائكة جرداً مرداً على غاية من الحسن والجمال والبهجة ، ولهذا يضرب بهم المثل في الحسن كما قال تعال حكاية عما قيل في يوسف :{ مَا هَاذَا بَشَرًا إِنْ هَاذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ } وقال الغزي : قوم إذا قوبلوا كانوا ملائكة

حسناً وإن قوتلوا كانوا عفاريتا

وانتصب سلاماً على إضمار الفعل أي : سلمنا عليك سلاماً ، فسلاماً قطعه معمولاً للفعل المضمر المحكى بقالوا ،

قال ابن عطية : ويصح أن يكون سلاماً حكاية لمعنى ما قالوا ، لا حكاية للفظهم ، قاله : مجاهد ، والسدي . ولذلك عمل فيه القول ، كما تقول لرجل قال : لا إله إلا اللّه

قلت : حقاً وإخلاصاً ، ولو حكيت لفظهم لم يصح أن يعمل فيه القول انتهى . ويعني لم يصح أن يعمل في لفظهم القول ، يعني في اللفظ ، وإن كان ما لفظوا به في موضع المفعول للقول . وسلام خبر مبتدأ محذوف أي : أمري أو أمركم سلام ، أو مبتدأ محذوف الخبر أي : عليكم سلام ، والجملة محمية وإن كان حذف منها أحد جزءيها كما قال :

إذا ذقت فاهاً قلت طعم مدامة

أي طعمه طعم مدامة .

وقرأ الإخوان قال : سلم ، والسلم السلام كحرم وحرام ، ومنه قول الشاعر : مررنا فقلنا ايه سلم فسلمت

كما اكتل بالبرق الغمام اللوائح

اكتل اتخذ إكليلاً .

قال ابن عطية : ويحتمل أن يريد بالسلم ضد الحرب تقول : نحن سلم لكم انتهى . ونصب سلاماً يدل على التجدد ، ورفع سلام يدل على الثبوت والاستقرار ، والأقرب في إعراب فما لبث أن تكون ما نافية ، ولبث معناه تأخر وأبطأ ، وأن جاء فاعل بلبث التقدير فما تأخر مجيئه قاله : الفراء . وجوزوا أن يكون في لبث ضمير إبراهيم فهو فاعل ، وأن جاء على إسقاط الحرف فقدر بأن وبعن ، وبفي ، وجعل بعضهم أن بمعنى حتى حكاه ابن العربي . وأن تكون ما مصدرية ، وذلك المصدر في موضع رفع بالابتداء ، وأن تكون بمعنى الذي أي : فلبثه ، أو الذي لبثه ، أو الذي لبثه ، والخبر أن جاء على حذف أي : قدر مجيئه ، وهذا من أدب الضيافة ، وهو تعجيل القرى . وكان مال إبراهيم البقر ، فقدم أحسن ما فيه وهو العجل . قال مجاهد : حنيذ مطبوخ ، وقال الحسن : نضج مشوي سمين يقطر ودكا . وقال السدي : سمين ،

وقيل : سميط لا يصل إليه ، أي إلى العجل . والمعنى : لا يمدون أيديهم إلى أكله ، فلم ينف الوصول الناشىء عن المدبل ، جعل عدم الوصول استعارة عن امتناعهم من الأكل . نكرهم أي أنكرهم قال الشاعر : وأنكرتني وما كان الذي نكرت

من الحوادث إلا الشيب والصلعا .

وقيل : نكر فيما يرى ، وأنكر فيما لا يرى من المعاني ، فكأنّ الشاعر قال : وأنكرت مودتي ثم جاءت بنكر الشيب والصلع مما يرى بالبصر . ومنه قول أبي ذؤيب :

فنكرنه فنفرن وامترست به

هو جاء هادية وهاد جرشع

وروي أنهم كانوا ينكثون بقداح كانت بأيديهم في اللحم ولا تصل أيديهم إليه ، وينبغي أن ينظر من الضيف هل يأكل أولاً ويكون بتلفت ومسارعة ، لا بتحديد النظر ، لأن ذلك مما يجعل الضيف مقصراً في الأكل . قيل : كان إبراهيم عليه السلام ينزل في طرف من الأرض مخافة أن يريدوا به مكروهاً .

وقيل : كانت عادتهم إذا مس من يطرقهم طعامهم أمنوا وإلا خافوه .

قال الزمخشري : ويظهر أنه أحس بأنهم ملائكة ونكرهم ، لأنه تخوف أن يكون نزولهم لأمر أنكره اللّه عليه ، أو لتعذيب قومه . ألا ترى إلى قولهم : لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط ، وإنما يقال هذا لمن عرفهم ولم يعرف فيما أرسلوا . قال مقاتل : فأوجس وقع في قلبه . وقال الحسن : حدث به نفسه ، قيل : وأصل الوجوس الدخول ، فكان الخوف دخل عليه . والظاهر أنه لم يعرف أنهم ملائكة لمجيئهم في صورة البشر ، وكان مشغوفاً بإكرام الأضياف ، فلذلك جاؤوا في صورهم ، ولمسارعته إلى إحضار الطعام إليهم ، ولأنّ امتناع الملائكة من الأكل لا يدل على حصول الشر ، وإنما عرف أنهم ملائكة بقولهم : لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط ، فنهوه عن شيء وقع في نفسه ، وعرفوا خيفته بكون اللّه جعل لهم من الاطلاع ما لم يجعل لغيرهم كقوله تعالى : { يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ } وفي الحديث

الصحيح : { قَالَتِ الْمَلَئِكَةُ رَبّى رَحْمَةً فَرِحُواْ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ } الحديث ، أو بما يلوح في صفحات وجه الخائف . وامرأته قائمة جملة من ابتداء وخبر قال الحوفي وأبو البقاء : في موضع الحال ، قال أبو البقاء : من ضمير الفاعل في أرسلنا ، يعني المفعول الذي لم يسم فاعله ، والزمخشري يسميه فاعلاً لقيامه مقام الفاعل . وقال الحوفي : والتقدير أرسلنا إلى قوم لوط في حال قيام امرأته ، يعني امرأة إبراهيم . والظاهر أنه حال من ضمير قالوا أي : قالوا لا إبراهيم لا تخف في حال قيام امرأته وهي سارة بنت هاران بن ناخور وهي ابنة عمه ، قائمة أي : لخدمة الأضياف ، وكانت نساؤهم لا تحتجب كعادة الأعراب ، ونازلة البوادي والصحراء ، ولم يكن التبرج مكروهاً ، وكانت عجوزاً ، وخدمة الضيفان مما يعد من مكارم الأخلاق قاله : مجاهد . وجاء في شريعنا مثل هذا من حديث أبي أسيد الساعدي : وكانت امرأته عروساً ، فكانت خادمة الرسول ومن حضر معه من أصحابه . وقال وهب : كانت قائمة وراء الستر تسمع محاورتهم . وقال ابن إسحاق : قائمة تصلي . وقال المبرد : قائمة عن الولد .

قال الزمخشري : وفي مصحف عبد اللّه وامرأته قائمة وهو قاعد . و

قال ابن عطية : وفي قراءة ابن مسعود : وهي قائمة وهو جالس . ولم يتقدّم ذكر امرأة إبراهيم فيضمر ، لكنه يفسره سياق الكلام .

قال مجاهد وعكرمة : فضحكت حاضت . قال الجمهور : هو الضحك المعروف . فقيل : هو مجاز معبر به عن طلاقة الوجه وسروره بنجاة أخيها وهلاك قومه ، يقال : أتيت على روضة تضحك أي مشرقة .

وقيل : هو حقيقة . فقال مقاتل : وروي عن ابن عباس ضحكت من شدّة خوف إبراهيم وهو في أهله وغلمانه . والذين جاؤه ثلاثة ، وهي تعهده يغلب الأربعين ،

وقيل : المائة . وقال قتادة : ضحكت من غفلة قوم لوط وقرب العذاب منهم . وقال السدي : ضحكت من إمساك الأضياف عن الأكل وقالت : عجباً لأضيافنا نخدمهم بأنفسنا ، وهم لا يأكلون طعامنا . وقال وهب بن منبه : وروي عن ابن عباس : ضحكت من البشارة بإسحاق ، وقال : هذا مقدم بمعنى التأخير . وذكر ابن الأنباري أنّ ضحكها كان سروراً بصدق ظنها ، لأنها كانت تقول لابراهيم : اضمم إليك ابن أخيك لوطاً وكان أخاها ، فإنه سينزل العذاب بقومه .

وقيل : ضحكت لما رأت من المعجز ، وهو أنّ الملائكة مسحت العجل الحنيذ فقام حياً يطفر ، والذي يظهر واللّه أعلم أنهم لما لم يأكلوا ، وأوجس في نفسه خيفة بعدما نكر حالهم ، لحق المرأة من ذلك أعظم ما لحق الرجل . فلما قالوا : لا تخف ، وذكروا سبب مجيئهم زال عنه الخوف وسرّ ، فلحقها هي من السرور إن ضحكت ، إذ النساء في باب الفرح والسرور أطرب من الرجال وغالب عليهن ذلك . وقد أشار الزمخشري إلى طرف من هذا فقال : ضحكت سروراً بزوال الخيفة . وذكر محمد بن قيس سبباً لضحكها تركنا ذكره لفظاعته ، يوقف عليه في تفسير ابن عطية :

وقرأ محمد بن زياد الأعرابي رجل من قراء مكة : فضحكت بفتح الحاء . قال المهدوي : وفتح الحاء غير معروف ، فبشرناها هذا موافق لقوله تعالى : ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى ، والمعنى : فبشرناها على لسان رسلنا بشرتها الملائكة بإسحاق ، وبأن إسحاق سيلد يعقوب .

قال ابن عطية : أضاف فعل الملائكة إلى ضمير اسم اللّه تعالى ، إذ كان ذلك بأمره ووحيه . وقال غيره : لما ولد لابراهيم اسماعيل عليهما السلام من هاجر تمنت سارة أن يكون لها ابن ، وأيست لكبر سنها ، فبشرت بولد يكون نبياً وبلد نبياً ، فكان هذا بشارة لها بأن ترى ولد ولدها . وإنما بشروها دونه ، لأنّ المرأة أعجل فرحاً بالولد ، ولأن إبراهيم قد بشروه وأمنوه من خوفه ، فأتبعوا بشارته ببشارتها .

وقيل : خصت بالبشارة حيث لم يكن لها ولد ، وكان لإبراهيم عليه السلام ولده إسماعيل .

والظاهر أن وراء هنا ظرف استعمل اسماً غير ظرف بدخول من عليه كأنه قيل : ومن بعد إسحاق ، أو من خلف إسحاق ، وبمعنى بعد ، روي عن ابن عباس واختاره مقاتل وابن قتيبة ،

وعن ابن عباس أيضاً : أن الوراء ولد الولد ، وبه قال الشعبي : واختاره أبو عبيدة . وتسميته وراء هي قريبة من معنى وراء الظرف ، إذ هو ما يكون خلف الشيء وبعده . فإن قيل : كيف يكون يعقوب وراء لإسحاق وهو ولده لصلبه ، وإنما الوراء ولد الولد ؟ فقد أجاب عنه ابن الأنباري فقال :

المعنى ومن الوراء المنسوب إلى إسحاق يعقوب ، لأنه قد كان الوراء لإبراهيم من جهة إسحاق ، فلو قال : ومن الوراء يعقوب ، لم يعلم أهذا الوراء منسوب إلى إسحاق أم إلى إسماعيل ، فأضيف إلى إسحاق لينكشف المعنى ويزول اللبس انتهى . وبشرت من بين أولاد إسحاق بيعقوب ، لأنها رأته ولم تر غيره ، وهذه البشارة لسارة كانت وهي بنت تسع وتسعين سنة ، وابراهيم ابن مائة سنة .

وقيل : كان بينهما غير ذلك ، وهي أقوال متناقضة .

وهذه الآية تدل على أنّ إسماعيل هو الذبيح ، لأن سارة حين أخدمها الملك الجبار هاجر أم إسماعيل كانت شابة جميلة ، فاتخذ إبراهيم هاجر سرية ، فغارت منها سارة ، فخرج بها وبابنها إسماعيل من الشام على البراق ، وجاء من يومه مكة ، وانصرف إلى الشام من يومه ، ثم كانت البشارة بإسحاق وسارة عجوز محالة ، وسيأتي الدليل على ذلك أيضاً من سورة والصافات . ويجوز أن يكون اللّه سماها حالة البشارة بهذين الاسمين ، ويجوز أن يكون الإسمان حدثا لها وقت الولادة ، وتكون البشارة بولد ذكر بعده ولد ذكر ، وحالة الإخبار عن البشارة ذكراً باسمها كما يقول المخبر : إذا بشر في النوم بولد ذكر فولد له ولد ذكر فسماه مثلاً عبد اللّه : بشرت بعبد اللّه .

وقرأ الحرميان ، والنحويان ، وأبو بكر يعقوب : بالرفع على الابتداء ومن وراء الخبر كأنه قيل : ومن وراء إسحاق يعقوب كائن ، وقدره الزمخشري مولود أو موجود . قال النحاس : والجملة حال داخلة في البشارة أي : فبشرناها بإسحاق متصلاً به يعقوب . وأجاز أبو علي أنْ يرتفع بالجار والمجرور ، كما أجازه الأخفش أي : واستقرّ لها من وراء إسحاق يعقوب . وقالت فرقة : رفعه على القطع بمعنى ومن وراء إسحاق يحدث يعقوب . وقال النحاس : ويجوز أن يكون فاعلاً بإضمار فعل تقديره : ويحدث من وراء إسحاق يعقوب .

قال ابن عطية : وعلى هذا لا تدخل البشارة انتهى . ولا حاجة إلى تكلف القطع والعدول عن الظاهر المقتضى للدخول في البشارة .

وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، وحفص ، وزيد بن علي : يعقوب بالنصب .

قال الزمخشري : كأنه قيل ووهبنا له إسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب على طريقة قوله : ليسوا مصلحين عشيرة ، ولا ناعب ، انتهى . يعني أنه عطف على التوهم ، والعطف على التوهم لا ينقاس ، والأظهر أن ينتصب يعقوب بإضمار فعل تقديره : ومن وراء إسحاق وهبنا يعقوب ، ودل عليه قوله : فبشرناها لأن البشارة في معنى الهبة ، ورجح هذا الوجه أبو علي ومن ذهب إلى أنه مجرور معطوف على لفظ بإسحاق ، أو على موضعه . فقوله ضعيف ، لأنه لا يجوز الفصل بالظرف أو المجرور بين حرف العطف ومعطوفه المجرور ، لا يجوز مررت بزيد اليوم وأمس عمرو ، فإن جاء ففي شعر . فإنْ كان المعطوف منصوباً أو مرفوعاً ، ففي جواز ذلك خلاف نحو : قام زيد واليوم عمرو ، وضربت زيداً واليوم عمراً والظهر أن الألف في يا ويلتا بدل من ياء الإضافة نحو : يا لهفا ويا عجباً ، وأمال الألف من يا ويلتا عاصم وأبو عمرو والأعشى ، إذ هي بدل من الياء .

وقرأ الحسن : يا ويلتي بالياء على الأصل .

وقيل : الألف ألف الندبة ، ويوقف عليها بالهاء . وأصل الدعاء بالويل ونحوه في التفجع لشدة مكروه يدهم النفس ، ثم استعمل بعد في عجب يدهم النفس . ويا ويلتا كلمة تخف على أفواه النساء إذا طرأ عليهن ما يعجبن منه ، واستفهمت بقولها أألد استفهام إنكار وتعجب ، وأنا عجوز وما بعده جملتا حال ، وانتصب شيخاً على الحال عند البصريين ، وخبر التقريب عند الكوفيين . ولا يستغنى عن هذه الحال إذا كان الخبر عروفاً عند المخاطب ، لأنّ الفائدة إنما تقع بهذه الحال ، أما إذا كان مجهولاً عنده فأردت أن تفيد المخاطب ما كان يجهله ، فتجيء الحال على بابها مستغنى عنها .

وقرأ ابن مسعود وهو في مصحفه والأعمش ، شيخ بالرفع . وجوزوا فيه . وفي بعلي أن يكونا خيرين كقولهم : هذا حلو حامض ، وأن يكون بعلى الخبر ، وشيخ خبر محذوف ، أو بدل من بعلي ، وأن يكون بعلي بدلاً أو عطف بيان ، وشيخ الخبر . والإشارة بهذا إلى الولادة أو البشارة بها تعجبت من حدوث ولد بين شيخين هرمين ، واستغربت ذلك من حيث العادة ، لا إنكاراً لقدرة اللّه تعالى . قالوا : أي الملائكة أتعجبين ؟ استفهام إنكار لعجبها .

قال الزمخشري : لأنها كانت في بيت الآيات ومهبط المعجزات والأمور الخارقة للعادة ، فكان عليها أن تتوفر ولا يزدهيها ما

يزدهي سائر النساء في غير بيت النبوة ، وأن تسبح اللّه وتمجده مكان التعجب . وإلى ذلك أشارت الملائكة في قولهم : رحمة اللّه وبركاته عليكم أهل البيت ، أرادوا أنّ هذه وأمثالها مما يكرمكم رب العزة ويخصكم بالإنعام به يا أهل بيت النبوّة ؟ فليست بمكان عجيب ، وأمر اللّه قدرته وحكمته . وقوله : رحمة اللّه وبركاته عليكم كلام مستأنف علل به إنكار التعجب ، كأنه قيل : إياك والتعجب ، فإن أمثال هذه الرحمة والبركة متكاثرة من اللّه عليكم .

وقيل : الرحمة النبوة ، والبركات الأسباط من بني إسرائيل ، لأن الأنبياء منهم ، وكلهم من ولد إبراهيم انتهى .

وقيل : رحمته تحيته ، وبركاته فواضل خيره بالخلة والإمامة . وروي أن سارة قالت لجبريل عليه السلام : ما آية ذلك ؟ فأخذ عوداً بابساً فلواه بين أصابعه ، فاهتز أخضر ، فسكن روعها وزال عجبها . وهذه الجملة المستأنفة يحتمل أن تكون خبراً وهو الأظهر ، لأنه يقتضي حصول الرحمة والبركة لهم ، ويحتمل أن يكون دعاء وهو مرجوح ، لأن الدعاء إنما يقتضي أنه أمر يترجى ولم يتحصل بعد . وأهل منصوب على النداء ، أو على الاختصاص ، وبين النصب على المدح والنصب على الاختصاص فرق ، ولذلك جعلهما سيبويه في بابين وهو أنّ المنصوب على المدح لفظ يتضمن بوضعه المدح ، كما أن المنصوب على الذم يتضمن بوضعه الذم ، والمنصوب على الاختصاص لا يكون إلا لمدح أو ذم ، لكن لفظه لا يتضمن بوضعه المدح ولا الذم كقوله : بنا تميماً يكشف الضباب . وقوله : ولا الحجاج عيني بنت ماء . وخطاب الملائكة أياهاً بقولهم : أهل البيت ، دليل على اندراج الزوجة في أهل البيت ، وقد دل على ذلك أيضاً في سورة الأحزاب خلافاً للشيعة إذ لا يعدون الزوجة من أهل بيت زوجها ، والبيت يراد به بيت السكنى . إنه حميد : وقال أبو الهيثم تحمد أفعاله وهو بمعنى المحمود .

وقال الزمخشري : فاعل ما يستوجب من عباده ، مجيد كريم كثير الإحسان إليهم .

٧٤

انظر تسفير الآية:٧٦

٧٥

انظر تسفير الآية:٧٦

٧٦

{فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِى قَوْمِ لُوطٍ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ مُّنِيبٌ يإِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَاذَا إِنَّهُ قَدْ جَاء أَمْرُ رَبّكَ وَإِنَّهُمْ اتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ } الروع الخيفة التي كان أو جسها في نفسها حين نكر أضيافه ، والمعنى : اطمأن قلبه بعلمه أنّهم ملائكة . والبشرى تبشيره بالولد ، أو بأنَّ المراد بمجيئهم غيره . وجواب لما محذوف كما حذف في قوله :{ فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ } وتقديره : اجترأ على الخطاب اذ فطن للمجادلة ، أو قال : كيت وكيت . ودل على ذلك الجملة المستأنفة وهي يجادلنا ، قال معناه الزمخشري .

وقيل : الجواب يجادلنا وضع المضارع موضع الماضي ، أي جادلنا . وجاز ذلك لوضوح المعنى ، وهذا أقرب الأقوال .

وقيل : يجادلنا حال من إبراهيم ، وجاءته حال أيضاً ، أو من ضمير في جاءته . وجواب لما محذوف تقديره : قلنا يا إبراهيم أعرض عن هذا ، واختار هذا التوجيه أبو علي .

وقيل : الجواب محذوف تقديره : ظل أو أخذ يجادلنا ، فحذف اختصاراً لدلالة ظاهر الكلام عليه . والمجادلة قيل : هي سؤاله العذاب واقع بهم لا محالة ، أم على سبيل الإخافة ليرجعوا إلى الطاعة .

وقيل : تكلماً على سبيل الشفاعة ، والمعنى : تجادل رسلنا . وعن حذيفة انهم لما قالوا له : إنا مهلكوا أهل هذه القرية قال : أرأيتم ان كان فيها خمسون من المسلمين ، أتهكلونها ؟ قالوا : لا ، قال : فأربعون ؟ قالوا : لا . قال : فثلاثون ؟ قالوا : لا ، قال : فعشرون ؟ قالوا : لا . قال : فإن كان فيهم عشرة أو خمسة شك الراوي ؟ قالوا : لا . قال : أرأيتم

إن كان فيها رجل . واحد من المسلمين أتهلكونها ؟ قالوا : لا ، فعند ذلك قال : إنَّ فيها لوطا ، قالوا : نحن أعلم بمن فيها ، لننجينه وأهله . وكان ذلك من إبراهيم حرصاً على إيمان قوم لوط ونجاتهم ، وكان في القرية أربعة آلاف ألف انسان وتقدم تفسير حليم وأواه ومنيب . يا إبراهيم أي : قالت الملائكة ، والاشارة بهذا إلى الجدال والمحاورة في شيء مفروغ منه ، والأمر ما قضاه وحكم به من عذابه الواقع بهم لا محالة . ولا مرد له بجدال ، ولا دعاء ، ولا غير ذلك .

وقرأ عمرو بن هرم : وإنهم أتاهم بلفظ الماضي ، وعذاب فاعل به عبر بالماضي عن المضارع لتحقق وقوعه كقوله { أَتَى أَمْرُ اللّه}

٧٧

انظر تسفير الآية:٨٠

٧٨

انظر تسفير الآية:٨٠

٧٩

انظر تسفير الآية:٨٠

٨٠

{وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِىء بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا ... } خرجت الملائكة من قرية إبراهيم إلى قرية لوط وبنيهما قيل : ثمانية أميال .

وقيل : أربعة فراسخ ، فأتوها عشاء .

وقيل : نصف النهار ، ووجدوا لوطا في حرث له .

وقيل : وجدوا ابنته تستقي ماء في نهر سدوم ، وهي أكبر حواضر قوم لوط ، فسألوها الدلالة على من يضيفهم ، ورأت هيئتهم فخافت عليهم منقوم لوط وقالت لهم : مكانكم ، وذهبت إلى أبيها فأخبرته ، فخرج إليهم فقالوا : إنّا نريد أنْ تضيفنا الليلة فقال لهم : أو ما سمعتم بعمل هؤلاء القوم ؟ فقالوا : وما عملهم ؟ فقال : أشهد باللّه انهم شر قوم في الأرض . وقد كان اللّه قال للملائكة : لا تعذبوهم حتى يشهد عليهم لوط أربع شهادات ، فلما قال هذه قال جبريل : هذه واحدة ، وتردد القول منهم حتى كرر لوط الشهادة أربع مرات ، ثم دخل لوط المدينة فحينئذ سيء بهم أي : لحقه سوء بسببهم ، وضاق ذرعه بهم ، وقال : هذا يوم عصيب أي شديد ، لما كان يتخوفه من تعدى قومه على أضيافه . وجاءه قومه يهرعون إليه ، لما جاء لوط بضيفه لم يعلم بذلك أحداً لا أهل بيته ، فخرجت امرأته حتى أتت مجالس قومها فقالت : إن لوطاً قد أضاف الليلة فتية ما رؤي مثلهم جمالاً وكذا وكذا ، فحينئذ جاؤا يهرعون أي : يسرعون ، كما يدفعون دفعاً فعل الطامع الخائف فوت ما يطلبه .

وقرأ الجمهور : يهرعون مبنياً للمفعول من أهرع أي يهرعهم الطمع . وقرأت فرقة : يهرعون بفتح الياء من هرع . وقال مهلهل : فجاؤا يهرعون وهم أسارى

يقودهم على رغم الانوف

ومن قبل كانوا يعملون السيئة أي : كان ذلك ديدنهم وعادتهم ، أصروا على ذلك ومرنوا عليه ، فليس ذلك بأول انشاء هذه المعصية ، جاؤا يهرعون لا يكفهم حياء لضراوتهم عليها ، والتقدير في ومن قبل أي : من قبل مجيئهم . إلى هؤلاء الاضياف وطلبهم إياهم .

وقيل : ومن قبل بعث لوط رسولاً إليهم . وجمعت السيآت وإن كان المراد بها معصية اتيان الذكور ، إما باعتبار فاعليها ، أو باعتبار تكررها .

وقيل : كانت سيآت كثيرة باختلاف أنواعها ، منها اتيان الذكور ، واتيان النساء في غير المأتي ، وحذف الحصا ، والحيق في المجالس والاسواق ، والمكاء ، والصفير ، واللعب بالحمام ، والقمار ، والاستهزاء بالناس في الطرقات ، ووضع درهم على الأرض وهم بعيدون منه فمن أخذه صاحوا عليه وخجلوه ، وإنْ أخذه صبي تابعوه وراودوه . هؤلاء بناتي : الاحسن أنْ تكون الإضافة مجازية ، أي : بنات قومي ، أي البنات أطهر لكم ، إذا لنبي يتنزل منزلة الاب لقومه . وفي قراءة ابن مسعود :{ النَّبِىُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } وهو أب لهم ويدل عليه أنَّه فيما قيل : لم يكن له الابنتان ، وهذا بلفظ الجمع . وأيضاً فلا يمكن أنْ يزوج ابنتيه من جميع قومه .

وقيل : أشار إلى بنات نفسه وندبهم إلى النكاح ، إذْ كان من سنتهم تزويج المؤمنة بالكافر . أو على أنَّ في ضمن كلامه أنْ يؤمنوا .

وقيل : كان لهم سيدان مطاعان فاراد أنْ يزوجهما ابنتيه زغورا وزيتا .

وقيل : كنّ ثلاثاً .

ومعنى أطهر : أنظف فعلاً .

وقيل : أحل وأطهر بيتاً ليس أفعل التفضيل ، إذ لا طهارة في اتيان الذكور .

وقرأ الجمهور : أطهر بالرفع والأحسن في الإعراب أنّ يكون جملتان كل منهما مبتدأ وخبر . وجوز في بناتي أنْ يكون بدلاً ، أو عطف بيان ، وهن فصل وأطهر الخبر .

وقرأ الحسن ، وزيد بن علي ، وعيسى بن عمر ، وسعيد بن جبير ، ومحمد بن مروان السدي : أطهر بالنصب . وقال سيبويه : هو لحن . وقال أبو عمرو بن العلاء : احتبي فيه ابن مروان في لحنه يعني : تربع . ورويت هذه القراءة عن مروان بن الحكم ، وخرجت هذه القراءة على أنَّ نصب أطهر على الحال . فقيل : هؤلاء مبتدا ، وبناتي هنّ مبتدأ وخبر في موضع خبر هؤلاء ، وروي هذا عن المبرد .

وقيل : هؤلاء بناتي مبتدأ وخبر ، وهن مبتدأ ولكم خبره ، والعامل قيل : المضمر .

وقيل : لكم بما فيه من معنى الاستقرار .

وقيل : هؤلاء بناتي مبتدأ وخبر ، وهن فصل ، وأطهر حال . ورد بأنَّ الفصل لا يقع إلا بين جزءي الجملة ، ولا يقع بين الحال وذي الحال . وقد أجاز ذلك بعضهم وادعى السماع فيه عن العرب ، لكنه قليل . ثم أمرهم بتقوى اللّه في أنْ يؤثروا البنات على الاضياف . ولا تخزون : يحتمل أنْ يكون من الخزي وهو الفضيحة ، أو من الخزاية وهو الاستحياء ، لأنّه إذا خزي ضيف الرجل أو جاره فقد خزي هو ، وذلك من عراقة الكرم وأصل المروءة أليس منكم رجل يهتدي إلى سبيل الحق وفعل الجميل ، والكف عن السوء ؟ وفي ذلك توبيخ عظيم لهم ، حيث لم يكن منهم رشيد البتة . قال ابن عباس : رشيد مؤمن . وقال أبو مالك : ناه عن المنكر . ورشيد ذو رشد ، أو مرشد كالحكيم بمعنى المحكم ، والظاهر أنَّ معنى من حق من نصيب ، ولا من غرض ولا من شهوة ، قالوا له ذلك على وجه الخلاعة .

وقيل : من حق ، لأنك لا ترى منا كحتنا ، لأنّهم كانوا خطبوا بناته فردهم ، وكانت سنتهم إنَّ من رد في خطبة امرأة لم تحل له أبداً .

وقيل : لما اتخذوا اتيان الذكران مذهباً كان عندهم أنّه هو الحق ، وإن نكاح الاناث من الباطل .

وقيل : لأنّ عادتهم كانت أنْ لا يتزوج الرجل منهم إلا واحدة ، وكانوا كلهم متزوجين . وإنك لتعلم ما نريد يعني : من اتيان الذكور ، ومالهم فيه من الشهوة . قال : لو أنّ لي بكم قوة ، قال ذلك على سبيل التفجع . وجواب لو محذوف كما حذف في :{ وَلَوْ أَنَّ قُرْانًا سُيّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ } وتقديره : لفعلت بكم وصنعت والمعنى في إلى ركن شديد : من يستند إليه ويمتنع به من عشيرته ، شبه الذي يمتنع به بالركن من الجبل في شدته ومنعته ، وكأنه امتنع عليه أن ينتصر ويمتنع بنفسه أو بغيره مما يمكن أن يستند إليه . وقال الحوفي ، وأبو البقاء : أو آوي عطف على المعنى تقديره : أو أني آوي . والظاهر أن أو عطف جملة فعلية ، على جملة فعلية إن قدرت إني في موضع رفع على الفاعلية على ما ذهب إليه المبرد أي : لو ثبت أن لي بكم قوة ، أو آوي . ويكون المضارع المقدر وآوى هذا وقعاً موقع الماضي ، ولو التي هي حرف لما كان سيقع لوقوع غيره نقلت المضارع إلى الماضي ، وإن قدرت أن وما بعدها جملة اسمية على مذهب سيبويه فهي عطف عليها من حيث أنّ لو تأتي بعدها الجملة المقدرة اسمية إذا كان الذي ينسبك إليها أنّ ومعمولاها . وقال أبو البقاء : ويجوز أن يكون أو آوي مستأنفاً انتهى . ويجوز على رأي الكوفيين أن تكون أو بمعنى بل ، ويكون قد أضرب عن الجملة السابقة وقال : بل آوى في حالي معكم إلى ركن شديد ، وكنى به عن جناب اللّه تعالى .

وقرأ شيبة ، وأبو جعفر : أو آوي بنصب الياء بإضمار أن بعد ، أو فتتقدر بالمصدر عطفاً على قوله : قوة . ونظيره من النصب بإضمار أنْ بعد أو قول الشاعر :

ولولا رجال من رزام أعزة

وآل سبيع أو يسوؤك علقما

أي أو ومساءتك علقماً .

 ٨١

انظر تسفير الآية:٨٣

٨٢

انظر تسفير الآية:٨٣

٨٣

{قَالُواْ يأَبَانَا لُوطٍ إِنَّا رُسُلُ رَبّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مّنَ الَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا } : روي أن لوطاً عليه السلام غلبوه ، وهموا بكسر الباب وهو يمسكه قال له الرسل : تنح عن الباب فتنحى ، وانفتح الباب فضربهم جبريل عليه السلام بجناحه ، فطمس أعينهم وعموا ، وانصرفوا على أعقابهم يقولون : النجاة النجاة ، فعند لوط قوم سحرة وتوعدوا لوطاً ، فحينئذ قالوا له : إنا رسل ربك . وروي أن جبريل نقب من خصاص الباب ، ورمى في أعينهم فعموا .

وقيل : أخذ قبضة من تراب وأذراها في وجوههم ، فأوصل إلى عين من بعد ومن قرب من ذلك التراب ، فطمست أعينهم فلم يعرفوا طريقاً ولم يهتدوا إلى بيوتهم .

وقيل : كسروا بابه وتهجموا عليه ، ففعل بهم جبريل ما فعل . والجملة من قوله : لن يصلوا إليك ، موضحة للذي قبلها لأنهم إذا كانوا رسل اللّه لن يصلوا إليه ، ولم يقدروا على ضرره ، ثم أمروه بأنْ يسري بأهله .

وقرأ الحرميان : فاسر ، وإن أسر بوصل الألف من سرى ، وباقي السبعة بقطعها ، وأهله ابنتاه ، وطائفة يسيرة من المؤمنين بقطع من الليل . قال ابن عباس : بطائفة من الليل ، وقال الضحاك : ببقية من آخره ، وقال قتادة : بعد مضي صدر منه ، وقال ابن الأعرابي : أي ساعة من الليل ،

وقيل : بظلمة ،

وقيل : إنه نصف ،

وقيل : إنه نصف الليل مأخوذ من قطعه نصفين . وقال الشاعر : ونائحة تنوح بقطع ليل

على رجل بقارعة الصعيد

وقال محمد بن زياد : السحر ، لقوله : نجيناهم بسحر .

قال ابن عطية : ويحتمل أنه أسرى بأهله من أول الليل حتى جاوز البلد المقتلع ، ووقعت نجاته بسحر . فتجتمع هذه الآية مع قوله { إِلاَّ الَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ } انتهى .

وقال ابن الأنباري : القطع بمعنى القطعة ، مختص بالليل ، ولا يقال عندي قطع من الثوب .

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : إلا امرأتك بالرفع ، وباقي السبعة بالنصب ، فوجه النصب على أنه استثناء من قوله بأهلك ، إذ قبله أمر ، والأمر عندهم كالواجب . ويتعين النصب على الاستثناء من أهلك في قراءة عبد اللّه ، إذ سقط في قراءته وفي مصحفه : ولا يلتفت منكم أحد . وجوزوا أن يكون منصوباً على الاستثناء من أحد وإن كان قبله نهى ، والنهي كالنفي على أصل الاستثناء ، كقراءة ابن عامر : ما فعلوه إلا قليلاً منهم بالنصب ، وإن كان قبله نفي . ووجه الرفع على أنه بدل من أحد ، وهو استثناء متصل . وقال أبو عبيد : لو كان الكلام ولا يلتفت برفع الفعل ، ولكنه نهى . فإذا استثنيت المرأة من أحد وجب أن تكون المرأة أبيح لها الالتفات ، فيفيد معنى الآية يعني أنّ التقدير يصير إلا امرأتك ، فإنها لم تنه عن الالتفات .

قال ابن عطية : وهذا الاعتراض حسن يلزم أنّ الاستثناء من أحد رفعت التاء أو نصبت ، والانفصال عنه يترتب بكلام محكي عن المبرد وهو أنّ النهي إنما قصد به لوط وحده ، والالتفات منفي عنهم ،

فالمعنى : أن لا تدع أحداً منهم يلتفت . وهذا كما تقول لرجل : لا يقم من هؤلاء أحد ، وأولئك لم يسمعوك ،

فالمعنى : لا تدع من هؤلاء يقوم ، والقيام في المعنى منفى عن المشار إليهم .

وقال الزمخشري : وفي إخراجها مع أهله روايتان : روي أنه أخرجها معهم وأمر أن لا يلتفت منهم أحد إلا هي ، فلما سمعت هدّة العذاب التفتت وقالت : واقوماه ، فأدركها حجر فقتلها . وروي أنه أمر بأن يخلفها مع قومها ، وأن هواها إليهم ، ولم يسر بها . واختلاف القراءتين لاختلاف الروايتين انتهى . وهذا وهم فاحش إذ بنى القراءتين على اختلاف الروايتين من أنه سري بها ، أو أنه لم يسر بها ، وهذا تكاذب في الأخبار يستحيل أن تكون الفراءتان وهما من كلام اللّه تترتبان على التكاذب .

وقيل في الاستثناء من الأهل إشكال من جهة المعنى ، إذ يلزم أن لا يكون سري بها ، ولما التفتت كانت قد سرت معهم قطعاً ، وزال هذا الإشكال أن يكون لم يسر بها ، ولكنها لما تبعتهم التفتت .

وقيل : الذي يظهر أن الاستثناء على كلتا القراءتين منقطع ، لم يقصد به إخراجها من المأمور بالإسراء بهم ، ولا من المنهيين عن الالتفات ، ولكن استؤنف الأخبار عنها ،

فالمعنى : لكن امرأتك يجري لها كذا وكذا . ويؤيد هذا المعنى أن مثل هذه الآية جاءت في سورة الحجر ، وليس فيها استثناء ألبتة

قال تعالى : فاسر بأهلك بقطع من الليل واتبع أدبارهم ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون ، فم تقع العناية في ذلك إلا بذكر من أنجاهم اللّه تعالى . فجاء شرح حال امرأته في سورة هود تبعاً لا مقصوداً بالإخراج مما تقدم ، وإذا اتضح هذا المعنى علم أن القراءتين وردتا على ما تقتضيه العربية في الاستثناء المنقطع ، ففيه النصب والرفع . فالنصب لغة أهل الحجاز وعليه الأكثر ، والرفع لبني تميم وعليه اثنان من القرّاء انتهى . وهذا الذي طول به لا تحقيق فيه ، فإنه إذا لم يقصد إخراجها من المأمور بالإسراء بهم ولا من المنهييين عن الالتفات ، وجعل استثناء منقطعاً كان الاستثناء المنقطع الذي لم يتوجه عليه العامل بحال ، وهذا النوع من الاستثناء المنقطع يجب فيه النصب بإجماع من العرب ، وليس فيه النصب والرفع باعتبار اللغتين ، وإنما هذا في الاستثناء المنقطع ، وهو الذي يمكن توجه العامل عليه . وفي كلا النوعين يكون ما بعد إلا من غير الجنس المستثنى منه ، فكونه جاز فيه اللغتان دليل على أنه مما يمكن أن يتوجه عليه العامل ، وهو قد فرض أنه لم يقصد بالاستثناء إخراجها عن المأمور بالإسراء بهم ، ولا من المنهيين عن الالتفات ، فكان يجب فيه إذذاك النصب قولاً واحداً . والظاهر أن قوله ولا يلتفت ، من التفات البصر . وقالت فرقة : من لفت الشيء يلفته إذا ثناه ولواه ، فمعناه : ولا يتثبط . وفي كتاب الزهراوي أنّ المعنى : ولا يلتفت أحد إلى ما خلف بل يخرج مسرعاً . والضمير في أنه ضميرالشأن ، ومصيبها مبتدأ ، وما أصابهم الخبر . ويجوز على مذهب الكوفيين أن يكون مصيبها خبر إن ، وما أصابهم فاعل به ، لأنهم يجيزون أنه قائم أخواك . ومذهب البصريين أنّ ضمير الشان لا يكون خبره إلا جملة مصرحاً بجزءيها ، فلا يجوز هذا الإعراب عندهم .

وقرأ عيسى بن عمر : الصيح بضم الباء . قيل : وهي لغة ، فلا يكون ذلك اتباعاً وهو على حذف مضاف أي : إنّ موعد هلاكهم الصبح . ويروى أن لوطاً عليه السلام قال : أريد أسرع من ذلك ، فقالت له الملائكة : أليس الصبح بقريب ؟ وجعل الصبح ميقاتاً لهلاكهم ، لأنّ النفوس فيه أودع ، والراحة فيه أجمع . ويروى أن لوطاً خرج بابنتيه ليس معه غيرهما عند طلوع الفجر ، وطوى اللّه له الأرض في وقته حتى نجا ، ووصل إلى إبراهيم عليهما السلام . والضمير في عاليها عائد على مدائن قوم لوط ، جعل جبريل جناحه في أسفلها ثم رفعها إلى السماء ، حتى سمع أهل السماء نباح الكلاب وصياح الديكة ، ثم قلبها عليهم ، وأتبعوا الحجارة من فوقهم وهي المؤتفكات سبع مدائن .

وقيل : خمس عدّها المفسرون ، وفي ضبطها إشكال ، فأهملت ذكرها . وسدوم في القرية العظمى ، وأمطرنا عليها أي على أهلها . وروي أن الحجارة أصابت منهم من كان خارج مدنهم حتى قتلتهم أجمعين ، وأنّ رجلاً كان في الحرم فبقي الحجر معلقاً في الهواء حتى خرج من الحرم فقتله الحجر . قال أبو العالية ، وابن زيد : السجيل اسم لسماء الدنيا ، وهذا ضعيف لوصفه بمنضود ، وتقدم شرحه في المفردات .

وقيل : من أسجله إذا

أرسله ،

وقيل : مما كتب اللّه أن يعذب به من السجل ، وسجل لفلان . ومعنى هذه اللفظة : ماء وطين ، هذا قول : ابن عباس ، ومجاهد ، وابن جبير ، وعكرمة ، والسدّي ، وغيرهم . وذهبوا إلى أنّ الحجارة التي رموا بها كانت كالآجر المطبوخ .

وقيل : حجر مخلوط بطين أي حجر وطين ، ويمكن أن يعود هذا إلى الآجر . وقال أبو عبيدة : الشديد من الحجارة الصلب ، مسومة عليها سيما يعلم بها أنها ليست من حجارة الأرض قاله : ابن جريج . وقال عكرمة وقتادة : إنه كان فيها بياض .

وقيل : مكتوب على كل حجر اسم من رمى به ، قاله الربيع .

وعن ابن عباس ، والحسن : بياض في حمرة .

وعن ابن عباس أيضاً : الحجر أبيض فيه نقطة سوداء ، وأسود فيه نقطة بيضاء . وعن عكرمة وقتادة أيضاً : فيها خطوط حمر على هيئة الجزع .

وقيل : وكانت مثل رؤوس الإبل ، ومثل مبارك الإبل .

وقيل : قبضة الرجل . قال ابن عباس ومقاتل : معنى من عند ربك ، جاءت من عند ربك .

وقيل : معدة عند ربك قاله : أبو بكر الهذلي . قال ابن الأنباري : المعنى لزم هذا التسويم الحجارة عند اللّه إيذاناً بنفاذ قدرته وشدة عذابه . والظاهر أن ضمير هي عائد على القرى التي جعل اللّه أعاليها أسافلها ، والمعنى : أنّ ذوات هذه المدن كانت بين المدينة والشام ، يمرّ عليها قريش في مسيرهم ، فالنظر إليه وفيها فيه اعتبار واتعاظ .

وقيل : هي عائدة على الحجارة ، وهي أقرب مذكور .

وقال ابن عباس : وما عقوبتهم ممن يعمل عملهم ببعيد ، والظاهر عموم الظالمين .

وقيل : عنى به قريش . وفي الحديث :  { إنه سيكون في أمتي خسف ومسخ وقذف بالحجارة }

وقيل : مشركو العرب .

وقيل : قوم لوط أي : لم تكن الحجارة تخطئهم . وفي الحديث :  { سيكون في أواخر أمتي قوم يكتفي رجالهم بالرجال والنساء بالنساء فإذا كان كذلك فارتقبوا عذاب قوم لوط أن يرسل اللّه عليهم حجارة من سجيل ثم تلا وما هي من الظالمين ببعيد } وإذا كان الضمير في قوله : وما هي ، عائد على الحجارة ، فيحتمل أن يراد بشيء بعيد ، ويحتمل أن يراد بمكان بعيد ، لأنها وإن كانت في السماء وهي مكان بعيد إلا أنها إذا هويت منها فهي أسرع شيء لحوقاً بالمرمى ، فكأنها بمكان قريب منه .

٨٤

انظر تسفير الآية:٨٦

٨٥

انظر تسفير الآية:٨٦

٨٦

وإلى مدين أخاهم . . . . .

الرهط : قال ابن عطية جماعة الرجل ،

وقيل : الرهط والراهط اسم لما دون العشرة من الرجال ، ولا يقع الرهط والعصبة والنفر إلا على الرجال .

وقال الزمخشري : من الثلاثة إلى العشرة .

وقيل : إلى التسعة ، ويجمع على أرهط ، ويجمع أرهط على أراهط ، فهو جمع جمع . قال الرماني : وأصل الرهط الشد ، ومنه الرهيط شدة الأكل ، والراهط اسم لجحر اليربوع لأنه يتوثق به ويخبأ فيه ولده .

الورد قال ابن السكيت : هو ورود القوم الماء ، والورد الإبل الواردة انتهى . فيكون مصدراً بمعنى الورود ، واسم مفعول في المعنى كالطحن بمعنى المطحون .

رفد الرجل يرفده رفاً ورفداً أعطاه وأعانه ، من رفد الحائط دعمه ، وعن الأصمعي الرفد بالفتح القدح ، والرفد بالكسر ما في القدح من

الشراب . وقال الليث : أصل الرفد العطاء والمعونة ، ومنه رفادة قريش يقال رفده يرفده رفداً ورفداً بكسر الراء وفتحها ، ويقال بالكسر الاسم وبالفتح المصدر . التتبيب التخسير ، تب خسر ، وتبه خسره . وقال لبيد : ولقد بليت وكل صاحب جدة

يبلى بعود وذاكم التتبيب

الزفير والشهيق : زعم أهل اللغة من الكوفيين والبصريين أنّ الزفير بمنزلة ابتداء صوت الحمار ، والشهيق بمنزلة آخر نهيقه . وقال رؤبة : حشرج في الصدر صهيلاً وشهق

حتى يقال ناهق وما نهق

وقال ابن فارس : الشهيق ضد الزفير ، لأن الشهيق رد النفس ، والزفير إخراج النفس من شدة الجري ، مأخوذ من الزفر وهو الحمل على الظهر لشدته . وقال الشماخ : بعيد مدى التطريب أول صوته

زفير ويتلوه شهيق محشرج

والشهيق النفس الطويل الممتد ، مأخوذ من قولهم : جبل شاهق أي طويل . وقال الليث : الزفير أن يملأ الرجل صدره حال كونه في الغم الشديد من النفس ويخرجه ، والشهيق أن يخرج ذلك النفس بشدّة يقال : إنه عظيم الزفرة .

الشقاء نكد العيش . وسوؤه . يقال منه : شقي يشقى شقاء وشقوة وشقاوة والسعادة ضده ، يقال منه : سعد يسعد ، ويعديان بالهمزة فيقال : أشقاه اللّه ، وأسعده اللّه . وقد قرىء شقوا وسعدوا بضم الشين والسين ، فدل على أنهما قد يتعدّيان . ومنه قولهم مسعود ، وذكر أنّ الفراء حكى أن هذيلاً تقول : سعده اللّه بمعنى أسعده . وقال الجوهري : سعد بالكسر فهو سعيد ، مثل سلم فهو سليم ، وسعد فهو مسعود . وقال أبو نصر عبد الرحيم القشيري : ورد سعده اللّه فهو مسعود ، وأسعده اللّه فهو مسعد .

الجذ القطع بالمعجمة والمهملة . قال ابن قتيبة : جذذت وجددت ، وهو بالذال أكثر . قال النابغة : تجذ السلوقي المضاعف يسجه

وتوقد بالصفاح نار الحباحب

{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ قَوْمٌ اعْبُدُواْ اللّه مَا لَكُمْ مّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنّى أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ } : كان قوم شعيب عبدة أوثان ، فدعاهم إلى عبادة اللّه وحده . وبالكفر استوجبوا العذاب ، ولم يعذب اللّه أمة عذاب استئصال إلا بالكفر ، وإن انضافت إلى ذلك معصية كانت تابعة . قال ابن عباس : بخير أي : في رخص الأسعار وعذاب اليوم المحيط ، هو حلول الغلاء المهلك . وينظر هذا التأويل إلى قول النبي صلى اللّه عليه وسلم : { ما نقص قوم المكيال والميزان إلا ارتفع عنهم الرزق } ونبه بقوله بخير على العلة المقتضية للوفاء لا للنقص . وقال غيره : بثروة وسعة تغنيكم عن التطفيف ، أو بنعمة من اللّه حقها

أن تقابل بغير ما تفعلون ، أو أراكم بخير فلا تزيلوه عنكم بما أنتم عليه . يوم محيط أي : مهلك من قوله : { وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ } وأصله من إحاطة العدو ، وهو العذاب الذي حل بهم في آخره . ووصف اليوم بالإحاطة أبلغ من وصف العذاب به ، لأن اليوم زمان يشتمل على الحوادث ، فإذا أحاط بعذابه فقد اجتمع للمعذب ما اشتمل عليه منه ، كما إذا أحاط بنعيمه . ونهوا أولاً : عن القبيح الذي كانوا يتعاطونه وهو نقص المكيال والميزان ، وفي التصريح بالنهي نعي على المنهى وتعيير له . وأمروا ثانياً : بإيفائهما مصرحاً بلفظهما ترغيباً في الإيفاء ، وبعثا عليه . وجيء بالقسط ليكون الإيفاء على جهة العدل والتسوية وهو الواجب ، لأنّ ما جاوز العدل فضل وأمر منذوب إليه . ونهوا ثالثاً : عن نقص الناس أشياءهم ، وهو عام في الناس ، وفيما بأيديهم من الأشياء كانت مما تكال وتوزن أو غير ذلك . ونهوا رابعاً : عن الفساد في الأرض وهو أعم من أن يكون نقصاً أو غيره ، فبدأهم أولاً بالمعصية الشنيعة التي كانوا عليها بعد الأمر بعبادة اللّه ، ثم ارتقى إلى عام ، ثم إلى أعم منه وذلك مبالغة في النصح لهم ولطف في استدراجهم إلى طاعة اللّه . وتفسير معاني هذه الجمل سبق في الأعراف . بقية اللّه قال ابن عباس : ما أبقى اللّه لكم من الحلال بعد الإيفاء خير من البخس ، وعنه رزق اللّه . وقال مجاهد والزجاج : طاعة اللّه . وقال قتادة : حظكم من اللّه . وقال ابن زيد : رحمة اللّه . وقال قتادة : ذخيرة اللّه . وقال الربيع : وصية اللّه . وقال مقاتل : ثواب اللّه في الآخرة ، وذكر الفراء : مراقبة اللّه . وقال الحسن : فرائض اللّه .

وقيل : ما أبقاه اللّه حلالاً لكم ولم يحرمه عليكم .

قال ابن عطية : وهذا كله لا يعطيه لفظ الآية ، وإنما المعنى عندي إبقاء اللّه عليكم إن أطعتم . وقوله : إن كنتم مؤمنين ، شرط في أن يكون البقية خيراً لهم ،

وأما من الكفر فلا خير لهم في شيء من الأعمال . وجواب هذا الشرط متقدم . والحفيظ المراقب الذي يحفظ أحوال من يرقب ، والمعنى : إنما أنا مبلغ ، والحفيظ المحاسب هو الذي يجازيكم بالأعمال انتهى . وليس جواب الشرط متقدماً كما ذكر ، وإنما الجواب محذوف لدلالة ما تقدم عليه على مذهب جمهور البصريين .

وقال الزمخشري : وإنما خوطبوا بترك التطفيف والبخس والفساد في الأرض وهم كفرة بشرط الإيمان ، ويجوز أن يريد ما يبقى لهم عند اللّه من الطاعات كقوله :{ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَابًا } وإضافة البقية إلى اللّه من حيث أنها رزقه الذي يجوز أن يضاف إليه ،

وأما الحرام فلا يجوز أن يضاف إلى اللّه ، ولا يسمى رزقاً انتهى ، على طريق المعتزلة في الرزق ،

وقرأ إسماعيل بن جعفر عن أهل المدينة : بقية بتخفيف الياء .

قال ابن عطية : هي لغة انتهى . وذلك أن قياس فعل اللازم أن يكون على وزن فعل نحو : سجيت المرأة فهي سجية ، فإذا شددت الياء كان على وزن فعيل للمبالغة .

وقرأ الحسن : تقية بالتاء ، وهي تقواه ومراقبته الصارفة عن المعاصي .

٨٧

انظر تسفير الآية:٩٥

٨٨

انظر تسفير الآية:٩٥

٨٩

انظر تسفير الآية:٩٥

٩٠

انظر تسفير الآية:٩٥

٩١

انظر تسفير الآية:٩٥

٩٢

انظر تسفير الآية:٩٥

٩٣

انظر تسفير الآية:٩٥

٩٤

انظر تسفير الآية:٩٥

٩٥

{قَالُواْ يأَبَانَا شُعَيْبٌ بِحَفِيظٍ قَالُواْ ياشُعَيْبُ أَصَلَواتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِى أَمْوَالِنَا مَا نَشَؤُا إِنَّكَ لاَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ...} : لما أمرهم شعيب بعبادة اللّه عبادة أوثانهم ، وبإيفاء المكيال والميزان ، ردّوا عليه على سبيل الاستهزاء والهزء بقولهم : أصلاتك ، وكان كثير الصلاة ، وكان إذا صلى تغامزوا وتضاحكوا أن نترك ما يعبد آباؤنا مقابل لقوله :{ اعْبُدُواْ اللّه مَا لَكُم مّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ } أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء مقابل لقوله :{ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ } وكون الصلاة آمرة هو على وجه المجاز ، كما كانت ناهية في قوله :{ اتْلُ مَا أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ } أو يقال : إنها تأمر بالجميل والمعروف أي : تدعو إليه وتبعث عليه . إلا أنهم ساقوا الكلام مساق الطنز ، وجعلوا الصلاة آمرة على سبيل التهكم بصلاته . والمعنى : فأمرك بتكليفنا أن نترك ، فحذف

المضاف لأن الإنسان لا يؤمر بفعل غيره . والظاهر أنه أريد بالصلاة الصلاة المعهودة في تلك الشريعة . وقال الحسن : لم يبعث اللّه نبياً إلى فرض عليه الصلاة والزكاة .

وقيل : أريد قراءتك .

وقيل : مساجدك .

وقيل : دعواتك .

وقرأ ابن وثاب والأخوان وحفص : أصلاتك على التوحيد .

وقرأ الجمهور : أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء بالنون فيهما .

وقرأ الضحاك بن قيس ، وابن أبي عبلة ، وزيد بن علي : بالتاء فيهما على الخطاب ، ورويت عن أبي عبد الرحمن .

وقرأ أبو عبد الرحمن وطلحة : نفعل بالنون ، ما نشاء بالتاء على الخطاب ، ورويت عن ابن عباس . فمن قرأ بالنون فيهما فقوله : أو أن نفعل معطوف على قوله : ما يعبد أي : أن نترك ما يعبد آباؤنا وفعلنا في أموالنا ما نشاء . ومن قرأ بالتاء فيهما أو بالنون فيهما فمعطوف على أن نترك أي : تأمرك بترك ما يعبد آباؤنا ، وفعلك في أموالنا ما تشاء ، أو وفعلنا في أموالنا ما تشاء . وأو للتنويع أي : تأمرك مرة بهذا ، ومرة بهذا .

وقيل : بمعنى الواو . والظاهر أنّ الذي كانوا يفعلونه في أموالهم هو بخس الكيل والوزن المقدّم ذكره . وقال محمد بن كعب : قرضهم الدينار والدرهم ، وإجراء ذلك مع الصحيح على جهة التدليس ، وعن ابن المسيب : قطع الدنانير والدراهم من الفساد في الأرض .

وقيل : تبديل السكك التي يقصد بها أكل أموال الناس . ومن قرأ بالتاء فيهما أو في نشاء ، والظاهر أنه إيفاء المكيال والميزان . وقال سفيان الثوري : كان يأمرهم بالزكاة . وقوله : إنك لأنت الحليم الرشيد ظاهره أنه إخبار منهم عنه بهذين الوصفين الجميلين ، فيحتمل أن يريدوا بذلك الحقيقة أي : أنك للمتصف بهذين الوصفين ، فكيف وقعت في هذا الأمر من مخالفتك دين آبائنا وما كانوا عليه ، ومثلك من يمنعه حلمه ورشده عن ذلك . أو يحتمل أن يريدوا بذلك إنك لأنت الحليم الرشيد بزعمك إذ تأمرنا بما تأمر به . أو يحتمل أن قالوا ذلك على سبيل الاستهزاء والتهكم ، قاله قتادة . والمراد : نسبته إلى الطيش والعي كما تقول للشحيح : لو رآك حاتم لسجد لك ، وقالوا للحبشي : أبو البيضاء . قال : يا قوم أرأيتم إن كنت هذه مراجعة لطيفة واستنزال حسن ، واستدعاء رقيق ، ولذلك قال فيه رسول للّه صلى اللّه عليه وسلم { ذلك خطيب الأنبياء } وهذا النوع يسمى استدراج المخاطب عند أرباب علم البيان ، وهو نوع لطيف غريب المغزى يتوصل به إلى بلوغ الغرض ، وقد ورد منه في قصة إبراهيم عليه السلام مع أبيه ، وفي قصة نوح وهود وصالح ، وفي قصة مؤمن آل فرعون مع قومه .

قال الزمخشري :

فإن قلت : أين جواب أرأيتم ، وما له لم يثبت كما ثبت في قصة نوح وصالح ؟

قلت : جوابه محذوف ، وإنما لم يثبت لأنّ إثباته في الصفتين دل على مكانه ، ومعنى الكلام يناوي عليه ، والمعنى أخبروني إن كنت على حجة واضحة ويقين من ربي ، وكنت نبياً على الحقيقة ، أيصح لي أن لا آمركم بترك عبادة الأوثان والكف عن المعاصي ، والأنبياء لا يبعثون إلا لذلك انتهى . وتسمية هذا جواباً لأرأيتم ليس بالمصطلح ، بل هذه الجملة التي قدرها هي في موضع المفعول الثاني لأرأيتم ، لأنّ أرأيتم إذا ضمنت معنى أخبرني تعدت إلى مفعولين ، والغالب في الثاني أن يكون جملة استفهامية تنعقد منها ومن المفعول الأول في الأصل جملة ابتدائية كقول العرب : أرأيتك زيداً ما صنع . وقال الحوفي : وجواب الشرط محذوف لدلالة الكلام عليه ، والتقدير : فاعدل عن ما أنا عليه من عبادته على هذه الحال . و

قال ابن عطية : وجواب الشرط الذي في قوله : إن كنت على بينة من ربي محذوف تقديره : أضل كما ضللتم ، أو أترك تبليغ الرسالة ونحو هذا مما يليق بهذه المحاجة انتهى . وليس قوله : أضل جواباً للشرط ، لأنه إن كان مثبتاً فلا يمكن أن يكون جواباً لأنه لا يترتب على الشرط وإن كان استفهاماً حذف منه الهمزة ، فهو في موضع المفعول الثاني لأرأيتم ، وجواب الشرط محذوف تدل عليه الجملة السابقة مع متعلقها . والظاهر في قوله : رزقاً حسناً أنه الحلال الطيب من غير بخس ولا تطفيف أدخلتموه أموالكم . قال ابن عباس : الحلال ، وكان شعيب عليه السلام كثير المال .

وقيل : النبوة .

وقيل : العلم . وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه المعنى : لست أريد أن أفعل الشيء الذي نهيتكم عنه من نقص الكيل والوزن واستأثر بالمال قاله : ابن عطية . وقال قتادة : لم أكن لأنهاكم عن أمر ثم أرتكبه . وقال صاحب الغنيان : ما أريد أنْ أخالفكم في السرّ إلى ما أنهاكم عنه في العلانية .

ويقال : خالفني فلان إلى كذا إذا

قصده وأنت مولّ عنه ، وخالفني عنه إذا ولّي عنه وأنت قاصده ، ويلقاك الرجل صادراً عن الماء فتسأله عن صاحبه فتقول : خالفني إلى الماء ، تريد أنه قد ذهب إليه وارداً ، وأنا ذاهب عنه صادراً . والمعنى أنّ أسبقكم إلى شهواتكم التي نهيتكم عنها لاستبد بها دونكم ، فعلى هذا الظاهر أن قوله : أن أخالفكم في موضع المفعول لا ريد ، أي وما أريد مخالفتكم ، ويكون خالف بمعنى خلف نحو : جاوز وجاز أي : وما أريد أن أخلفكم أي : أكون خلفاً منكم . وتتعلق إلى باخالفكم ، أو بمحذوف أي : مائلاً إلى ما أنهاكم عنه ، ولذلك قال بعضهم : فيه حذف يقتضيه إلى تقديره : وأميل إلى ، أو يبقى أن أخالفكم على ظاهر ما يفهم من المخالفة ، ويكون في موضع المفعول به بأريد ، وتقدر : مائلاً إلى ، أو يكون أن أخالفكم مفعولاً من أجله ، وتتعلق إلى بقوله وما أريد بمعنى ، وما أقصد أي : وما أقصد لأجل مخالفتكم إلى ما أنهاكم عنه ، ولذلك قال الزجاج : وما أقصد بخلافكم إلى ارتكاب ما أنهاكم عنه . والظاهر أن ما مصدرية ظرفية أي مدة استطاعتي للإصلاح ، وما دمت متمكناً منه لا آلوا فيه جهداً . وأجاز الزمخشري في ما وجوهاً

أحدها : أن يكون بدلاً من الإصلاح أي : المقدر الذي استطعته ، أو على حذف مضاف تقديره : إلا الإصلاح إصلاح ما استطعت ، فهذان وجهان في البدل . و

الثالث : أن يكون مفعولاً كقوله :

ضعيف النكاتة أعداءه . أي ما أريد إلا أن أصلح ما استطعت إصلاحه من فاسدكم ، وهذا الثالث ضعيف ، لأن المصدر المعرّف بأل لا يجوز إعماله في المفعول به عند الكوفيين ،

وأما البصريون فإعماله عندهم فيه قليل .

وما توفيقي أي لدعائكم إلى عبادة اللّه وحده ، وترك ما نهاكم عنه إلا بموعونة اللّه . أو وما توفيقي لأنْ تكون أفعالي مسددة موافقة لرضا اللّه لا بمعونته ، عليه توكلت لا على غيره ، وإليه أنيب أرجع في جميع أقوالي وأفعالي . وفي هذا طلب التأييد من اللّه تعالى ، وتهديد للكفار وحسم لأطماعهم أن ينالوه بشر . ومعنى لا يجرمنكم : لا يكسبنكم شقاقي ، أي خلافي وعداوتي . قال السدي : كأنه في شق وهم في شق . وقال الحسن : ضراري جعله من المشقة .

وقيل : فراقي .

وقرأ ابن وثاب والأعمش : بضم الياء من أجرم ، ونسبها الزمخشري إلى ابن كثير ، وجرم في التعدية مثل كسب يتعدى إلى واحد . جرم فلان الذنب ، وكسب زيد المال ، ويتعدى إلى اثنين جرمت زيداً الذنب ، وكسبت زيداً المال . وبالألف يتعدى إلى اثنين أيضاً ، أجرم زيد عمراً الذنب ، وأكسبت زيداً المال ، وتقدم الكلام في جرم في العقود .

وقرأ مجاهد ، والجحدري ، وابن أبي إسحاق ، ورويت عن نافع : مثل بفتح اللام ، وخرج على وجهين :

أحدهما : أن تكون الفتحة فتحة بناء ، وهو فاعل كحاله حين كان مرفوعاً ، ولما أضيف إلى غير متمكن جاز فيه البناء ، كقراءة من قرأ أنه لحق مثل ما أنكم تنطقون .

والثاني : أن تكون الفتحة فتحة إعراب ، وانتصب على أنه نعت لمصدر محذوف أي : إصابة مثل إصابة قوم نوح . والفاعل مضمر يفسره سياق الكلام أي : إن يصيبكم هو أي العذاب . وما قوم لوط منكم ببعيد ، إما في الزمان لقرب عهد هلاكهم من عهدكم ، إذ هم أقرب الهالكين ،

وإما في الكفر والمعاصي وما يستحق به الهلاك . وأجرى بعيداً على قوم إما باعتبار الزمان أو المكان ، أي : بزمان بعيد ، أو بمكان بعيد . أو باعتبار موصوف غيرهما أي : بشيء بعيد ، أو باعتبار مضاف إلى قوم أي : وما إهلاك قوم لوط . ويجوز أن يسوي في قريب وبعيد وكثير وقليل بين المفرد والجمع ، وبين المذكر والمؤنث ، كما قالوا : هو صديق ، وهم صديق ، وهي صديق ، وهن صديق . وودود بناء مبالغة من ودّ الشيء أحبه وآثره ، وهو على فعل . وسمع الكسائي : وددت بفتح العين ، والمصدر ودود بناء مبالغة ودّ الشيء أحبه وآثره ، وهو على فعل . وسمع الكسائي . وددت بفتح العين ، والمصدر ود وداد وودادة . وقال بعض أهل اللغة : يجوز أن يكون ودود فعول بمعنى مفعول .

وقال المفسرون : ودود متحبب إلى عباده بالإحسان إليهم .

وقيل : محبوب المؤمنين ورحمته لعباده ، ومحبته لخم سبب في استغفارهم وتوبتهم ، ولولا ذلك ما وفقهم إلى استغفاره والرجوع إليه ، فهو يفعل بهم فعل الوادّ بمن يودّه من الإحسان إليه .

كانوا لا يلقون إليه أذهانهم ، ولا يصغون لكلامه رغبة عنه وكراهة له كقوله تعالى : { وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ } أو كانوا يفهمونه ولكنهم لم يقبلوه ، فكأنهم لم يفقهوه ، أو قالوا ذلك على وجه الاستهانة به كما يقول الرجل لصاحبه إذا لم يعبأ بحديثه : ما أدري ما تقول ، أو جعلوا كلامه هذياناً وتخليطاً لا يتفهم كثير منه ، وكيف لا يتفهم كلامه وهو خطيب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام . ثم الذي جاورهم به من الكلام وخاطبهم به هو من أفصح الكلام وأجله وأدله على معانيه بحيث يفقهه من كان بعيداً لفهم ، فضلاً عن الأذكياء العقلاء ، ولكن اللّه تعالى أراد خذلانهم . ومعنى ضعيفاً : لا قوة لك ولا عز فيما بيننا ، فلا تقدر على الامتناع منه إن أردناك بمكروه ، وعن الحسن : ضعيفاً مهيناً .

وقيل : كان ناحل البدن زمنه لا يقع في القلب منه هيبة ولا في العين منه امتلاء ، والعرب تعظم بكبر الأجسام ، وتذم بدمامتها . وقال الباقر : مهجوراً لا تجالس ولا تعاشر . وقال مقاتل : ضعيفاً أي لم يؤمن بك رهطك . وقال السدي : وحيداً في مذهبك واعتقادك . وقال ابن جبير وشريك القاضي : ضعيفاً ضرير البصر أعمى .

وحكى الزهراوي والزمخشري : أنّ حمير تسمي الأعمى ضعيفاً ، ويبعده تفسيره هنا بأعمى أو بناحل البدن أو بضعيف البصر كما قاله الثوري . وزعم أبو وق : أن اللّه لم يبعث نبياً أعمى ، ولا نباً به زماتة ، بل الظاهر أنه ضعيف الانتصار والقدرة . ولولا رهطك احترموه لرهطه إذ كانوا كفاراً مثلهم ، أو كان في عزة ومنعة منهم لرجمناك . ظاهره القتل بالحجارة ، وهي من شر القتلات ، وبه قال ابن زيد ، وقال الطبري : رجمناك بالسب ، وهذا أيضاً تستعمله العرب ومنه :{ لارْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِى مَلِيّاً }

وقيل : لأبعدناك وأخرجناك من أرضنا . وما أنت علينا بعزيز أي : لا تعز ولا تكرم حتى نكرمك من القتل ، ونرفعك عن الرجم . وإنما يعز علينا رهطك لأنهم من أهل ديننا لم يحتاجوك علينا .

وقيل : بعزيز بذي منعة ، وعزة منزلة في نفوسنا .

وقيل : بذي غلبة .

وقيل : بملك ، وكانوا يسمون الملك عزيزاً .

قال الزمخشري : وقد دل إيلاء ضميره حرف النفي على أن الكلام واقع في الفاعل ، لا في الفعل ، كأنه قيل : وما أنت علينا بعزيز بل رهطك هم الأعزة علينا ، ولذلك قال في جوابهم : أرهطي أعز عليكم من اللّه ؟ ولو قيل : وما عززمت علينا لم يصح هذا الجواب . { فإن قلت} : فالكلام واقع فيه وفي رهطه وأنهم الأعزة عليهم دونه ، فكيف صح قوله : أرهطي أعز عليكم من اللّه ؟ { قلت} : تهاونهم به وهو نبي اللّه تهاون باللّه فحين عز عليهم رهطه دونه ، كان رهطه أعز عليهم من اللّه . ألا ترى إلى قوله تعالى : { مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّه } انتهى . والظاهر في قوله : واتخذتموه ، أن الضمير عائد على اللّه تعالى أي : ونسيتموه وجعلتموه كالشيء المنبوذ وراء الظهر لا يعبأ به . والظهري بكسر الظاء منسوب إلى الظهر من تغييرات النسب ، ونظيره قولهم في النسب إلى الأمس أمسى بكسر الهمزة ، ولما خاطبوه خطاب الإهانة والجفاء جرياً على عادة الكفار مع أنبيائهم ، خاطبهم خطاب الاستعطاف والتلطف جرياً على عادته في إلا أنه القول لهم ، والمعنى : أعز عليكم من اللّه حتى جعلتم مراعاتي من أجلهم ولم يسندوها إلى اللّه ، وأنا أولى وأحق أن أراعي من أجله ، فالمراعاة لأجل الخالق أعظم من المراعاة لأجل المخلوق ، والظهري المنسي المتروك الذي جعل كأنه خلف الظهر .

وقيل :

الضمير في واتخذتموه به عائد على الشرع الذي جاء شعيب عليه السلام .

وقيل : الظهري العون وما يتقوى به . قال المبرد : فالمعنى واتخذتم العصيان عنده لدفعي انتهى . فيكون على حذف مضاف أي : واتخذتموه أي عصيانه .

قال ابن عطية : وقالت فرقة : واتخذتموه أي وأنتم متخذون اللّه سند ظهوركم وعماد آمالكم . فقول الجمهور : على أن كفر قوم شعيب كان جحداً باللّه وجهلاً به ، وهذا القول الثاني على أنهم كانوا يقرون بالخالق الرازق ويعتقدون الأصنام وسائط ووسائل ، ومن اللفظة الاستظهار بالبينة . وقال ابن زيد : الظهري الفضل ، مثل الحمل يخرج معه بابل ظهارية يعدها إن احتاج إليها ، وإلا فهي فضلة . محيط أحاط بأعمالكم فلا يخفى عليه شيء منها ، وفي ضمنه توعد وتهديد ، وتقدم تفسير نظير قوله : { لاَ يُؤْمِنُونَ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ } وخلاف القراء في مكانتكم . وجوز الفراء ، والزمخشري : في من يأتيه أن تكون موصولة مفعولة بقوله : تعلمون أي : تعلمون الشقي الذي يأتيه عذاب يخزيه والذي هو كاذب ، واستفهامية في موضع رفع على الابتداء ، وتعلمون معلق كأنه قيل : أين يأتيه عذاب يخزيه ، وأينا هو كاذب .

قال ابن عطية : والأول أحسن ، يعني كونها مفعولة قال : لأنها موصولة ، ولا يوصل في الاستفهام ، ويقضي بصلتها إن المعطوفة عليها موصولة لا محالة انتهى . وقوله : ويقضي بصلتها الخ لا يقضي بصلتها ، إذ لا يتعين أن تكون موصولة لا محالة كما قال ، بل تكون استفهامية إذا قدرتها معطوفة على من الاستفهامية ، كما قدّرناه وأينا هو كاذب .

قال الزمخشري: { فإن قلت } : أي فرق بين إدخال الفاء ونزعها في سوف تعلمون ؟ { قلت} : أدخال الفاء وصل ظاهر بحرف موضوع للوصل ، ونزعها وصل خفي تقديري بالاستئناف الذي هو جواب لسؤال مقدر كأنهم قالوا : فماذا يكون إذا عملنا نحن على مكانتنا ، وعملت أنت ؟ فقال : سوف تعلمون ، يوصل تارة بالفاء ، وتارة بالاستئناف ، كما هو عادة البلغاء من العرب . وأقوى الوصلين وأبلغهما الاستئناف ، وهو باب من أبواب علم البيان تتكاثر محاسنه .

قال الزمخشري{ فإن قلت } : قد ذكر عملهم على مكانتهم ، وعمله على مكانته ، ثم أتبعه ذكر عاقبة العاملين منه ومنهم ، فكان القياس أن يقول من يأتيه عذاب يجزيه ، ومن هو صادق حتى ينصرف من يأتيه عذاب يخزيه إلى الجاحدين ، ومن هو صادق إلى النبي المبعوث إليهم . { قلت} : القياس ما ذكرت ، ولكنهم لما كانوا يعدونه كاذباً قال : ومن هو كاذب يعني في زعمكم ودعواكم تجهيلاً لهم انتهى . وفي ألفاظ هذا الرجل سوء أدب ، والذي قاله ليس بقياس ، لأن التهديد الذي وقع ليس بالنسبة إليه ، ولا هو داخل في التهديد المراد بقوله : سوف تعلمون ، إذ لم يأت التركيب اعملوا على مكانتكم ، وأعمل على مكانتي ، ولا سوف تعلمون . واعلم أن التهديد مختص بهم . واستسلف الزمخشري قوله : قد ذكر عملهم على مكانتهم ، وعمله على مكانته ، فبنى على ذلك سؤالاً فاسداً ، لأن المترتب على ما ليس مذكوراً لا يصح البتة ، وجميع الآية والتي قبلها إنما هي بالنسبة إليهم على سبيل التهديد ، ونظيره في سورة تنزيل : { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } ، فهذا جاء بالنبة للمخاطبين في قوله : قل يا قوم اعملوا على مكانتكم كما جاء هنا ، وارتقبوا : انتظروا العاقبة ، وما أقول لكم . والرقيب بمعنى الراقب فعيل للمبالغة ، أو بمعنى المراقب كالعشير والجليس ، أو بمعنى المرتقب كالفقير والرفيع بمعنى المفتقر والمرتفع ، ويحسن هذا مقابلة فارتقبوا .

وقال الزمخشري: { فإن قلت } : ما بال ساقتي قصة عاد وقصة مدين جاءتا بالواو والساقتان الوسطيان بالفاء ؟ { قلت} : قد وقعت الوسطيان بعد ذكر الوعد وذلك قوله : { إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ }{ ذالِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ } فجيء بالفاء التي للتسبب كما تقول : وعدته فلما جاء الميعاد كان كيت وكيت ،

وأما الأخريان فلم يقعا بتلك المنزلة ، وإنما وقعتا مبتدأتين ، فكان حقهما أن يعطفا بحرف الجمع على ما قبلهما ؟ كما تعطف قصة على قصة انتهى . وتقدم تفسير مثل ولما جاء أمرنا إلى قوله كان لم يغنوا فيها .

وقرأ السلمي وأبو حيوة : كما بعدت بضم العين من البعد الذي هو ضد القرب ، والجمهور بكسرها ، أرادت العرب التفرقة بين البعد من جهة الهلاك ، وبين غيره ، فغيروا البناء وقراءة السلمي جاءت على الأصل اعتبار المعنى البعد من غير تخصيص كما يقال : ذهب فلان ، ومضى في معنى القرب .

وقيل : معناه بعدا لهم من رحمة اللّه كما بعدت ثمود منها . وقال ابن قتيبة : بعد يبعد إذا كان بعده هلكة ، وبعد يبعد إذ أتاني . وقال النحاس : المعروف في اللغة بعد يبعد بعداً وبعداً إذا هلك . وقال المهدوي : بعد يستعمل في الخير والشر ، وبعد في الشر خاصة . وقال ابن الأنباري : من العرب من يسوي بين الهلاك والبعد الذي هو ضد القرب ، فيقول فيهما بعد يبعد ، وبعد يبعد . وقال مالك بن الريب : في بعد بمعنى هلك ؛ يقولون لا تبعدوهم يدفنونني

وأين مكان البعد إلا مكانيا

وبعد الفلان دعاء عليه ، ولا يدعى به إلا على مبغض كقولك : سحقاً للكافرين . وقال أهل علم البيان : لم يرد في القرآن استطراد إلا هذا الموضع ، والاستطراد قالوا : هو أن تمدح شيئاً أو تذمه ، ثم تأتي في آخر الكلام بشيء هو غرضك في أوله . قال حسان : إن كنت كاذبة الذي حدثتني

فنجوت منجى الحرث بن هشام

ترك الأحبة أن يقاتل دونهم

ونجا برأس طمرة ولجام

٩٦

انظر تسفير الآية:٩٩

٩٧

انظر تسفير الآية:٩٩

٩٨

انظر تسفير الآية:٩٩

٩٩

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِ...} : الآيات المعجزات التسع : العصا ، واليد ، والطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، ونقص من الأموال والأنفس والثمرات ، ومنهم من أبدل النقص بإظلال الجبل .

وقيل : الآيات التوراة ، وهذا ليس بسديد ، لأنه قال إلى فرعون وملائه ، والتوراة إنما نزلت بعد هلاك فرعون وملائه . والسلطان المبين هو الحجج الواضحة ، ويحتمل أن يريد بقوله : وسلطان مبين فيها أي في الآيات ، وهي دالة على صدق موسى عليه السلام . ويحتمل أن يريد بها العصا لأنها أبهر تلك الآيات ، فنص عليها كما نص على جبريل وميكائيل بعد ذكر الملائكة على سبيل التشريف بالذكر . والظاهر أن يراد بقوله : أمر فرعون أمره إياهم بالكفر وجحد معجزات موسى ، ويحتمل أن يريد الطريق والشان . وما أمر فرعون برشيد : نفى عنه الرشد ، وذلك تجهيل لمتبعيه حيث شايعوه على أمره ، وهو ضل مبين لا يخفى على من فيه أدنى مسكة من العقل . وذلك أنه ادعى الإلهية وهو بشر مثلهم . عاينوا الآيات والسلطان المبين في أمر موسى عليه السلام ، وعلموا أن معه الرشد والحق ، ثم عدلوا عن اتباعه إلى اتباع من ليس في اتباعه رشد . ويحتمل أن يكون رشيد بمعنى راشد ، ويكون رشيد بمعنى مرشد أي بمرشد إلى خير . وكان فرعون دهرياً نافياً للصانع والمعاد ، وكان يقول : لا إله للعالم ، وإنما يجب على أهل كل بلد أن يشتغلوا بطاعة سلطانهم ، فلذلك كان أمره خالياً عن الرشد بالكلية . والرشد يستعمل في كل ما يحمد ويرتضى ، والغي ضده .

ويقال : قدم زيد القوم يقدم قدماً ، وقدوماً تقدمهم والمعنى : أنه يقدم قومه المغزقين إلى النار ، وكما كان قدوة في الضلال متبعاً كذلك يتقدمهم إلى النار وهم يتبعونه ، ويحتمل أن يكون قوله : برشيد بحميد ، العاقبة ، ويكون قوله : يقدم قومه ، تفسيراً لذلك وإيضاحاً أي : كيف يرشد أمر من هذه عاقبته ؟ وعدل عن قبوردهم إلى فأوردهم لتحقق وقوعه لا محالة ، فكأنه قد وقع ، ولما في ذلك من الإرهاب والتخويف . أو هو ماض حقيقة أي : فأوردهم في الدنيا النار أي : موجبه وهو الكفر . ويبعد هذا التأويل الفاء والورود في هذه الآية . ورود الخلود وليس بورود الإشراف على الشيء والإشفاء كقوله :{ وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ } ويحتمل أن تكون النار تصيبه على إعمال الثاني لأنه تنازعه يقدم

أي : إلى النار وفأوردهم ، فأعمل الثاني وحذف معمول الأول . والهمزة في فأوردهم للتعدية ، ورد يتعدى إلى واحد ، فلما أدخلت الهمزة تعدى إلى اثنين ، فتضمن وارداً وموروداً . ويطلق الورد على الوارد ، فالورد لا يكون المورود ، فاحتيج إلى حذف ليطابق فاعل بئس المخصوص بالذم ، فالتقدير : وبئس مكان الورد المورود ويعني به النار . فالورد فاعل ببئس ، والمخصوص بالذم المورود وهي النار . ويجوز في إعراب المورود ما يجوز في زيد من قولك : بئس الرجل زيد ، وجوز ابن عطية وأبو البقاء أن يكون المورود صفة للورد أي : بئس مكان الورد المورود النار ، ويكون المخصوص محذوفاً لفهم المعنى ، كما حذف في قوله : { فَبِئْسَ الْمِهَادُ } وهذا التخريج يبتني على جواز وصف فاعل نعم وبئس ، وفيه خلاف . ذهب ابن السراج والفارسي إلى أن ذلك لا يجوز ،

وقال الزمخشري : والورد المورود الذي وردوه شبهه بالفارط الذي يتقدم الواردة إلى الماء ، وشبه اتباعه بالواردة ، ثم قيل : بئس الورد الذي يردونه النار ، لأن الورد إنما يورد لتسكين العطش وتبريد الأكباد ، والنار ضده انتهى . وقوله : والورد المورود إطلاق الورد على المورود مجاز ، إذ نقلوا أنه يكون صدراً بمعنى الورود ، أو بمعنى الواردة من الإبل وتقديره : بئس الورد الذي يردونه النار ، يدل على أنّ المورود صفة للورد ، وأن المخصوص بالذم محذوف ، ولذلك قدّره النار . وقد ذكرنا أن ذلك يبتني على جواز وصف فاعل بئس ونعم .

وقيل : التقدير بئس القوم المورود بهم هم ، فيكون الورد عنى به الجمع الوارد ، والمورود صفة لهم ، والمخصوص بالذم الضمير المحذوف وهو هم ، فيكون ذلك ذماً للواردين ، لإذ ما لموضع الورود . والإشارة بقوله : في هذه إلى الدنيا وقد جاء مصرحاً بها في قصة هود ، ودل عليها قوله : ويوم القيامة ، لأنه الآخرة . فيوم معطوف على موضع في هذه ، والمعنى : أنهم ألحقوا لعنة في الدنيا وفي الآخرة . قال الكلبي : في هذه لعنة من المؤمنين أو بالغرق ، ويوم القيامة من الملائكة أو بالنار . وقال مجاهد : فلهم لعنتان ، وذهب قوم إلى أنّ التقسيم هو أنّ لهم في الدنيا لعنة ، ويوم القيامة يرفدون به فهي لعنة واحدة أولاً ، وقبح ارفاد آخر انتهى . وهذا لا يصح لأنّ هذا التأويل يدل على أنّ يوم القيامة معمول لبئس ، وبئس لا يتصرف ، فلا يتقدم معمولها عليها ، فلو تأخر يوم القيامة صح كما قال الشاعر : ولنعم حشو الدرع أنت إذا

دعيت نزال ولج في الذعر

.

وقال الزمخشري : بئس الرفد المرفود رفدهم ، أي : بئس العون المعان ، وذلك أنّ اللعنة في الدنيا رفد للعذاب ومدد له ، وقد رفدت باللعنة في الآخرة .

وقيل : بئس العطاء المعطى انتهى . ويظهر من كلامه أنّ المرفود صفة للرفد ، وأنّ المخصوص بالذم محذوف تقديره : رفدهم ، وما ذكر من تفسيره أي بئس العون المعان هو قول أبي عبيدة ، وسمى العذاب رفداً على نحو قولهم : تحية بينهم ضرب وجيع . وقال الكلبي : الرفد الرفادة أي بئس ما يرفدون به بعد الغرق النار .

١٠٠

انظر تسفير الآية:١٠١

١٠١

{ذالِكَ مِنْ أَنْبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَاكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ ءالِهَتَهُمُ الَّتِى يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّه مِن شَىْء لَّمَّا جَاء أَمْرُ } : الإشارة بذلك إلى ما تقدم من ذكر الأنبياء وقومهم ، وما حل بهم من العفو ، بات أي ذلك النباء بعض أنباء القرى . ويحتمل أن يعني بالقرى قرى أولئك المهلكين المتقدم ذكرهم ، وأن يعني القرى عموماً أي :

هذا النبأ المقصوص عليك هو ديدن المدن إذ كفرت ، فدخل المدن المعاصرة . والضمير في منها عائد على القرى . قال ابن عباس : قائم وحصيد عامر كزغر وداثر ، وهذا على تأويل عموم القرى . وقال قتادة وابن جريج : قائم الجدران ومنهدم ، وهذا على تأويل خصوص القرى ، وأنها قرى أولئك الأمم المهلكين ،

وقال الزمخشري : بعضها باق وبعضها عافى الأثر كالزرع القائم على ساقه ، والذي حصد انتهى . وهذا معنى قول قتادة ، قال قتادة : قائم الأثر ودارسه ، جعل حصد الزرع كناية عن الفناء قال الشاعر : والناس في قسم المنية بينهم

كالزرع منه قائم وحصيد

. وقال الضحاك : قائم لم يخسف ، وحصيد قد خسف . وقال ابن إسحاق : قائم لم يهلك بعد ، وحصيد قد أهلك .

وقيل : قائم أي باق نسله ، وحصيد أي منقطع نسله . وهذا يتمشى على أن يكون التقدير ذلك من أنباء أهل القرى . وقد قيل : هو على حذف مضاف أي : من أنباء أهل القرى ، ويؤيده قوله : وما ظلمناهم ، فعاد الضمير على ذلك المحذوف . وقال الأخفش : حصيد أي محصود ، وجمعه حصدى وحصاد ، مثل : مرضى ومراض ، وباب فعلى جمعاً لفعيل بمعن مفعول ، أن يكون فيمن يعقل نحو : قتيل وقتلى .

وقال الزمخشري{ فإن قلت } : ما محل هذه الجملة ؟

قلت : هي مستأنفة لا محل لها انتهى . وقال أبو البقاء : منها قائم ابتداء ، وخبر في موضع الحال من الهاء في نقصه ، وحصيد مبتدأ خبره محذوف أي : ومنها حصيد انتهى . وما ذكره تجوز أي : نقصه عليك وحال القرى ذلك ، والحال أبلغ في التخويف وضرب المثل للحاضرين أي : نقص عليك بعض أنباء القرى وهي على هذه الحال يشاهدون فعل اللّه بها . وما ظلمناهم أي : بإهلاكنا إياههم ، بل وضعنا عليهم من العذاب ما يستحقونه ، ولكن ظلموا أنفسهم بوضع الكفر موضع الإيمان ، وارتكاب ما به أهلكوا . والظاهر أنّ قوله : فما أغنت ، نفي أي ، لم ترد عنهم من بأس اللّه شيئاً ولا أجدت . يدعون حكاية حال أي : التي كانوا يدعون ، أي يعبدون ، أو يدعونها اللات والعزى وهبل .

قال الزمخشري : ولما منصوب بما أغنت انتهى . وهذا بناء على أنّ لما ظرف ، وهو خلاف مذهب سيبويه ، لأنّ مذهبه أنها حرف وجوب لوجوب . وأمر ربك هو عذابه ونقمته . وما زادوهم عومل معاملة العقلاء في الإسناد إلى واو الضمير الذي هو لمن يعقل ، لأنهم نزلوهم منزلة العقلاء في اعتقادهم أنها تنفع ، وعبادتهم إياهم . والتتبيب التخسير . قال ابن زيد : الشر ، وقال قتادة : الخسران والهلاك ، وقال مجاهد : التخسير ،

وقيل : التدمير . وهذه كلها أقوال متقاربة .

قال ابن عطية : وصورة زيادة الأصنام التتبيب ، إنما هو يتصور بأنّ تأميلها والثقة بها والتعب في عبادتها شغلت نفوسهم عن النظر في الشرع وعاقبته ، فلحق من ذلك عقاب وخسران .

وأما بأن عذابهم على الكفر يزاد به عذاب على مجرد عبادة الأوثان .

١٠٢

انظر تسفير الآية:١٠٥

١٠٣

انظر تسفير الآية:١٠٥

١٠٤

انظر تسفير الآية:١٠٥

١٠٥

{وَكَذالِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِىَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَةً لّمَنْ خَافَ عَذَابَ الاْخِرَةِ ذالِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ ...} : أي ومثل ذلك الأخذ أخذ اللّه الأمم السابقة أخذ ربك . والقرى عام في القرى الظالمة ، والظلم يشمل ظلم الكفر وغيره . وقد يمهل اللّه تعالى بعض الكفرة .

وأما الظلمة في الغالب فمعاجلون ، وفي الحديث : { إن اللّه يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته } ثم قرأ : وكذلك أخذ ربك إذاً .

وقرأ أبو رجاء والجحدري : وكذلك أخذ ربك ، إذ أخذ على أنّ أخذ ربك فعل وفاعل ، وإذ ظرف لما مضى ، وهو إخبار عما جرب به عادة اللّه في

إهلاك من تقدم من الأمم .

وقرأ طلحة بن مصرف : وكذلك أحذ ربك هذا أخذ .

قال ابن عطية : وهي قراءة متمكنة المعنى ، ولكن قراءة الجماعة تعطي الوعيد واستمراره في الزمان ، وهو الباب في وضع المستقبل موضع الماضي ، والقرى مفعول بأخذ على الإعمال إذ تنازعه المصدر وهو : أخذ ربك ، وأخذ ، فاعمل الثاني وهي ظالمة جملة حالية إن أخذه أليم موجع صعب على المأخوذ . والأخذ هنا أخذ الإهلاك .

إنّ في ذلك أي : فيما قص اللّه من أخبار الأمم الماضية وإهلاكهم لآية لعلامة لمن خاف عذاب الآخرة ، أي : إنهم إذا عذبوا في الدنيا لأجل تكذيبهم الأنبياء وإشراكهم باللّه ، وهي دار العمل فلأن يعذبوا على ذلك في الآخرة التي هي دار الجزاء أولى ، وذلك أنّ الأنبياء أخبروا باستئصال من كذبهم ، وأشركوا باللّه . ووقع ما أخبروا به وفق إخبارهم ، فدل على أنّ ما أخبروا به من البعث والجزاء صدق لا شك فيه .

قال الزمخشري : لآية لمن خاف لعبرة له ، لأنه ينظر إلى ما أحل اللّه بالمجرمين في الدنيا ، وما هو إلا أنموذج مما أعد لهم في الآخرة ، فإذا رأى عظمته وشدته اعتبر به من عظيم العذاب الموعود فيكون له عظة وعبرة ولطفاً في زيادة التقوى والخشية من اللّه ونحوه : { إِنَّ فِى ذَلِكَ لَعِبْرَةً لّمَن يَخْشَى } ذلك إشارة إلى يوم القيامة الدال عليه قوله : عذاب الآخرة ، والناس مفعول لم يسم فاعله رافعه مموع ، وأجاز ابن عطية أن يكون الناس مبتدأ ، ومجموع خبر مقدم ، وهو بعيد لإفراد الضمير في مجموع ، وقياسه على إعرابه مجموعون ، ومجموع له الناس عبارة عن الحشر ، ومشهود عام يشهده الأولون والآخرون من الإنس والجن والملائكة والحيوان في قول الجمهور .

وقال الزمخشري: { فإن قلت } : أي فائدة في أن أوثر اسم المفعول على فعله ؟ { قلت} : لما في اسم المفعول من دلالته على ثبات معنى الجمع لليوم ، وأنه لا بد أن يكون ميعاد مضروباً لجمع الناس له ، وأنه هو الموصوف بذلك صفة لازمة ، وهو أثبت أيضاً لإسناد الجمع إلى الناس وأنهم لا ينفكون منه ، وفيه من تمكن الوصف وثباته ما ليس في الفعل . ومعنى مشهود ، مشهود فيه ، فاتسع في الجار والمجرور ووصل الفعل إلى الضمير إجراء له مجرى المفعول به على السعة لقوله :

ويوماً شهدناه سليماً وعامراً

والمعنى : يشهد فيه الخلائق الموقف لا يغيب عنه أحد ، ومنه قولهم لفلان : مجلس مشهود ، وطعام محضور . وإنما لم يجعل اليوم مشهوداً في نفسه كما قال : { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ } لأن الغرض وصف ذلك اليوم بالهول والعظم وغيره من بين الأيام ، وكونه مشهوداً في نفسه لا يميزه ، إذ هو موافق لسائر الأيام في كونها مشهودة . وما نؤخره أي : ذلك اليوم .

وقيل : يعود على الجزاء قاله الحوفي ، إلا لأجل معدود أي لقضاء سابق قد نفذ فيه بأجل محدود لا يتقدم عليه ولا يتأخر عنه .

وقرأ الأعمش : وما يؤخره بالياء ،

وقرأ النحويان ونافع : يأتي بإثبات الياء وصلاً ، وحذفها وقفاً ، وابن كثير بإثباتها وصلاً ووقفاً ، وهي ثابتة في مصحف أبيّ .

وقرأ باقي السبعة بحذفها وصلاً ووقفاً ، وسقطت في مصحف الإمام عثمان .

وقرأ الأعمش يأتون ، وكذا في مصحف عبد اللّه ، وإثباتها وصلاً ووقفاً هو الوجه ، ووجه حذفها في الوقف التشبيه بالفواصل ، وقفاً ووصلاً التخفيف كما قالوا : لا أدرِ ولا أبالِ . وذكر الزمخشري أنّ الاجتزاء بالكسرة عن الياء كثير في لغة هذيل . وأنشد الطبري :

كفاك كف ما يليق درهما

جود وأخرى تعط بالسيف الدما

والظاهر أنّ الفاعل بيأتي ضمير يعود على ما عاد عليه الضمير في نؤخره وهو قوله : ذلك يوم ، والناصب له لا تكلم ، والمعنى : لا تكلم نفس يوم يأتي ذلك اليوم إلا بإذن اللّه ، وذلك من عظم المهابة والهول في ذلك اليوم . وهو نظير : { لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ } هو ناصب كقوله :{ يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفّاً } والمراد بإتيان اليوم إتيان أهواله وشدائده ، إذ اليوم لا يكون وقتاً لإتيان اليوم .

وأجاز الزمخشري أن يكون فاعل يأتي ضميراً عائداً على اللّه قال : كقوله :{ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّه }{أَوْ يَأْتِىَ رَبُّكَ } وجاء ربك ، ويعضده قراءة وما يؤخره بالياء ، وقوله :{ بِإِذْنِهِ } وأجاز أيضاً أن ينتصب يوم يأتي باذكر أو بالانتهاء المحذوف في قوله : إلا لأجل معدود ، أي ينتهي الأجل يوم يأتي . وأجاز الحوفي أن يكون لا تكلم حالاً من ضمير اليوم المتقدم في مشهود ، أو نعتاً لأنه نكره ، والتقدير : لا تكلم نفس فيه يوم يأتي إلا بإذنه . و

قال ابن عطية : لا تكلم نفس ، يصح أن يكون جملة في موضع الحال من الضمير الذي في يأتي ، وهو العائد على قوله ذلك يوم ، ويكون على هذا عائد محذوف تقديره : لا تكلم نفس فيه إلا بإذنه . ويصح أن يكون قوله : لا تكلم نفس ، صفة لقوله : يوم يأتي ، أو يوم يأتي يراد به الحين والوقت لا النهار بعينه . وما ورد في القرآن من ذكر كلام أهل الموقف في التلازم والتساؤل والتجادل ، فإما أن يكون بإذن اللّه ،

وإما أن يكون هذه مختصة هنا في تكلم شفاعة أو إقامة حجة انتهى . وكلامه في إعراب لا تكلم كأنه منقول من كلام الحوفي .

وقيل : يوم القيامة يوم طويل له مواقف ، ففي بعضها يجادلون عن أنفسهم ، وفي بعضها يكفون عن الكلام فلا يؤذن لهم ، وفي بعضها يؤذن لهم فيتكلمون ، وفي بعضها يختم على أفواههم وتكلم أيديهم وتشهد أرجلهم ، والضمير في منهم عائد على الناس في قوله : مجموع له الناس .

وقال الزمخشري : الضمير لأهل الموقف ، ولم يذكروا إلا أن ذلك معلوم ، ولأنّ قوله : لا تكلم نفس ، يدل عليه ، وقد مرّ ذكر الناس في قوله : مجموع له الناس . وقال ابن عطية فمنهم عائد على الجميع الذي تضمنه قوله : نفس ، إذ هو اسم جنس يراد به الجميع انتهى . قال ابن عباس : الشقي من كتبت عليه الشقاوة ، والسعيد الذي كتبت له السعادة .

وقيل : معذب ومنعم ،

وقيل : محروم ومرزوق ،

وقيل : الضمي في منهم عائد على أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم ، ذكره ابن الأنباري .

١٠٦

انظر تسفير الآية:١٠٨

١٠٧

انظر تسفير الآية:١٠٨

١٠٨

{فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِى النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ ... } قال الضحاك ومقاتل والفراء : الزفير أول نهيق الحمار ، والشهيق آخره ، وروي عن ابن عباس ، وقال أبو العالية والربيع بن أنس : الزفير في الحلق ، والشهيق في الصدر ، وروي عن ابن عباس أيضاً . وقال ابن السائب : الزفير زفير الحمار ، والشهيق شهيق البغال . وانتصاب خالدين على أنها حال مقدرة ، وما مصدرية ظرفية أي : مدة دوام السموات والأرض ، والمراد بهذا التوقيت التأييد كقول العرب : ما أقام ثبير وما لاح كوكب ، وضعت العرب ذلك للتأييد من غير نظر لفناء ثبير أو الكوكب ، أو عدم فنائهما .

وقيل : سموات الآخرة وأرضها وهي دائمة لا بد ، يدل على ذلك { يَوْمَ تُبَدَّلُ الاْرْضُ غَيْرَ الاْرْضِ } وقوله :{ وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الاْرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء } ولأنه لا بد لأهل الآخرة مما يقلهم ويظلمهم ، إما سماء يخلقها اللّه ، أو يظلهم العرش وكلما أظلك فهو سماء .

وعن ابن عباس : إن السموات والأرض في الآخرة يردان إلى النور الذي أخذتا منه

فهما دائمتان أبداً في نور العرش . والظاهر أنّ قوله : إلا ما شاء ربك استثناء من الزمان الدال عليه قوله : خالدين فيهما ما دامت السموات والأرض . والمعنى : إلا الزمان الذي شاءه اللّه تعالى ، فلا يكون في النار ، ولا في الجنة ، ويمكن أن يكون هذا الزمان المستثنى هو الزمان الذي يفصل اللّه بين الخلق يوم القيامة ، إذا كان الاستثناء من الكون في النار والجنة ، لأنه زمان يخلو فيه الشقي والسعيد من دخول النار أو الجنة .

وأما إن كان الاستثناء من الخلود فيمكن ذلك بالنسبة إلى أهل النار ، ويكون الزمان المستثنى ، هو الزمان الذي فات أهل النار العصاة من المؤمنين الذين يخرجون من النار ويدخلون الجنة ، فليسوا خالدين في النار إذ قد أخرجوا منها وصاروا في الجنة ، وهذا روى معناه عن قتادة والضحاك وغيرهما ، ويكون الذين شقوا شاملاً للكفار وعصارة المسلمين .

وأما بالنسبة إلى أهل الجنة فلا يتأتى منهم ما تأتى في أهل النار ، إذ ليس منهم من يدخل الجنة ثم لا يخلد فيها ، لكن يمكن ذلك باعتبار أن يكون أريد الزمان الذي فات أهل النار العصاة من المؤمنين ، أو الذي فات أصحاب الأعراف ، فإنهم بفوات تلك المدة التي دخل المؤمنون فيها الجنة وخلدوا فيها صدق على العصاة المؤمنين وأصحاب الأعراف أنهم ما خلدوا في الجنة تخليد من دخلها لأول وهلة ، ويجوز أن يكون استثناء من الضمير المستكن في الجار والمجرور ، أو في خالدين ، وتكون ما واقعة على نوع من يعقل ، كما وقعت في قوله : { فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَاء } أو تكون واقعة على من يعقل على مذهب من يرى وقوعها على من يعقل مطلقاً ، ويكون المستثنى في قصة النار عصاة المؤمنين ، وفي قصة الجنة هم ، أو أصحاب الأعراف لأنهم لم يدخلوا الجنة لأول وهلة ، ولا خلدوا فيها خلود من دخلها أول وهلة .

وقال الزمخشري: { فإن قلت } : ما معنى الاستثناء في قوله : إلا ما شاء ربك ، وقد ثبت خلود أهل الجنة والنار في الآية من غير استثناء ؟ { قلت} : هو استثناء من الخلود في عذاب النار ، ومن الخلود في نعيم أهل الجنة ، وذلك أنّ أهل النار لا يخلدون في عذاب النار وحده ، بل يعذبون بالزمهرير وبأنواع من العذاب يساوي عذاب النار ، وبما هو أغلظ منها كلها وهو سخط اللّه عليهم وخسؤه لهم وإهانته إياهم . وهكذا أهل الجنة لهم مع تبوّء الجنة ما هو أكبر منها وأحل موقعاً منهم ، وهو رضوان اللّه تعالى . كما قال : { وَعَدَ اللّه } الآية إلى قوله :{ وَرِضْوانٌ مّنَ اللّه أَكْبَرُ } ولهم ما يتفضل به عليهم سوى ثواب الجنة ما لا يعرف كنهه إلا هو ، فهو المراد بالاستثناء ، والدليل عليه قوله : عطاء غير مجذوذ . ومعنى قوله في مقابلته : إن ربك فعال لما يريد ، أنه يفعل بأهل النار ، ما يريد من العذاب ، كما يعطي أهل الجنة عطاءه الذي لا انقطاع له ، فتأمله فإنّ القرآن يفسر بعضه بعضاً ولا يخدعنك عنه قول المجبرة : المراد بالاستثناء خروج أهل الكبائر من النار بالشفاعة ، فإن الاستثناء الثاني ينادي على تكذيبهم ويسجل بافترائهم . وما ظنك بقوم نبذوا كتاب اللّه وراء ظهورهم لما روي لهم بعض الثوابت عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص : ليأتين على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها ليس فيها أحد ، وذلك عندما يلبثون فيها أحقاباً . وقد بلغني أن من الضلال من اعتبر هذا الحديث ، فاعتقد أنّ الكفار لا يخلدون في النار ، وهذا ونحوه والعياذ باللّه من الخذلان المبين زادنا اللّه هداية إلى الحق ومعرفة بكتابه ، وتنبيهاً عن أن نغفل عنه . ولئن صح هذا عن أبي العاص فمعناه يخرجون من النار إلى برد الزمهرير ، فذلك خلو جهنم وصفق أبوابها انتهى . وهو على طريق الاعتزال في تخليد أهل الكبائر غير التائبين من المؤمنين في النار ،

وأما ما ذكره من الاستثناء في أهل النار من كونهم لا يخدلون في عذاب النار ، إذ ينتقلون إلى الزمهرير فلا يضيق عليهم أنهم خالدون في عذاب النار ، فقد يتمشى .

وأما ما ذكره من الاستثناء في أهل الجنة من قوله : خالدين ، فلا يتمشى لأنهم مع ما أعطاهم اللّه من رضوانه ، وما تفضل عليهم به منسوى ثواب الجنة ، لا يخرجهم ذلك عن كونهم خالدين في الجنة ، فلا يصح الاستثناء على هذا ، بخلاف أهل النار فإنه لخروجهم من عذابها إلى الزمهرير يصح الاستثناء .

و

قال ابن عطية :

وأما قوله إلا ما شاء ربك ، فقيل فيه :

إن ذلك على طريق الاستثناء الذي ندب الشرع إلى استعماله في كل كلام ، فهو على نحو قوله : { لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللّه ءامِنِينَ } استثناء في واجب ، وهذا الاستثناء هو في حكم الشرط كأنه قال : إن شاء اللّه ، فليس يحتاج أن يوصف بمتصل ولا منقطع .

وقيل : هو استثناء من طول المدة ، وذلك على ما روي أن جهنم تخرب ويعدم أهلها ، وتخفق أبوابها ، فهم على هذا يخدلون حتى يصير أمرهم إلى هذا ، وهذا قول محيل . والذي روى ونقل عن ابن مسعود وغيره : أنها تخلو من النار إنما هو الدرك الأعلى المختص بعصاة المؤمنين ، وهو الذي يسمى جهنم ، وسمى الكل به تجوزاً .

وقيل : إلا بمعنى الواو ، وفمعنى الآية : وما شاء اللّه زائداً على ذلك .

وقيل : في هذه الآية بمعنى سوى ، والاستثناء منقطع كما تقول : لي عندك ألفا درهم إلا الألف التي كنت أسلفتك ، بمعنى سوى تلك الألف . فكأنه قال : خالدين فيها ما دامت السموات والأرض ، سوى ما شاء اللّه زائداً على ذلك ، ويؤيد هذا التأويل قوله تعالى بعد هذا : عطاء غير مجذوذ ، وهذا قول الفرّاء .

وقيل : سوى ما أعد لهم من أنواع العذاب مما لا يعرف كالزمهرير .

وقيل : استثناء من مدة السموات والأرض التي فرطت لهم في الحياة الدنيا .

وقيل : في البرزخ بين الدنيا والآخرة .

وقيل : في المسافات التي بينهم في دخول النار إذ دخولهم إنما هو زمراً بعد زمر .

وقيل : الاستثناء من قوله ففي النار ، كأنه قال : إلا ما شاء ربك من تأخير قوم عن ذلك ، وهذا قول رواه أبو نصرة عن جابر ، أو عن أبي سعيد الخدري ، ثم أخبر منبهاً على قدرة اللّه تعالى فقال : إن ربك فعال لما يريد انتهى . وقال أبو مجلز : إلا ما شاء ربك أن يتجاوز عنه بعذاب يكون جزاؤه الخلود في النار ، فلا يدخله النار .

وقيل : معنى إلا ما شاء ربك كما شاء ربك قيل :كقوله :{ وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ مّنَ النّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } أي كما قد سلف .

وقرأ الحسن : شقوا بضم الشين ، والجمهور بفتحها .

وقرأ ابن مسعود ، وطلحة بن مصرّف ، وابن وثاب ، والأعمش ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص سعدوا بضم السين ، وباقي السبعة والجمهور بفتحها . وكان علي بن سليمان يتعجب من قراءة الكسائي سعدوا مع علمه بالعربية ، ولا يتعجب من ذلك إذ هي قراءة منقولة عن ابن مسعود ومن ذكرنا معه . وقد احتج الكسائي بقولهم : مسعود ، قيل : ولا حجة فيه لأنه يقال : مكان مسعود فيه ، ثم حذف فيه وسمى به ، وقال المهدوي : من قرأ سعدوا فهو محمول على مسعود ، وهو شاذ قليل لأنه لا يقال سعده اللّه ، إنما يقال : أسعده اللّه . وقال الثعلبي : سعد وأسعد بمعنى واحد ، وانتصب عطاء على المصدر أي : أعطوا عطاء بمعنى إعطاء كقوله :{ وَاللّه أَنبَتَكُمْ مّنَ الاْرْضِ نَبَاتاً } أي إنباتاً . ومعنى غير مجذوذ : غير مقطوع ، بل هو ممتد إلى غير نهاية .

١٠٩

فلا تك في . . . . .

الزلفة قال الليث : طائفة من أول الليل ، والجمع الزلف ، وقال ثعلب : الزلف أول ساعات الليل ، واحدها زلفة . وقال أبو عبيدة ، والأخفش ، وابن قتيبة ، الزلف ساعات الليل وآناؤه ، وكل ساعة زلفة . وقال العجاج : ناح طواه الأين مما وجَفَا

طيَّ الليالي زلفاً فزلفا

سماؤه الهلال حتى احقوقنا

وأصل الكلمة من الزلفى وهي القربة ،

ويقال : أزلفه فازدلف أي قربه فاقترب ، وأزلفني أدناني . الترف : النعمة ، صبي مترف منعم البدن ، ومترف أبطرته النعمة وسعة العيش . وقال الفراء : أترف عود الترفة وهي النعمة .

{فَلاَ تَكُ فِى مِرْيَةٍ مّمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاء مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ ءابَاؤهُم مّن قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ } : لما ذكر تعالى قصص عبدة الأوثان من الأمم السالفة ، واتبع ذلك بذكر أحوال الأشقياء والسعداء ، شرح للرسول صلى اللّه عليه وسلم أحوال الكفار من قومه ، وإنهم متبعو آبائهم كحال من تقدم من الأمم في اتباع آبائهم في الضلال . وهؤلاء إشارة إلى مشركي العرب باتفاق ، وأنَّ ديدنهم كديدن الأمم الماضية في التقليد والعمى عن النظر في الدلائل والحجج . وهذه تسلية للرسول صلى اللّه عليه وسلم ، وعدة بالانتقام منهم ، إذ حالهم في ذلك حال الأمم السالفة ، والأمم السالفة قد قصصنا عليك ما جرى لهم من سوء العاقبة . والتشبيه في قوله : كما يعبد ، معناه أنّ حالهم في الشرك مثل حال آبائهم من غير تفاوت ، وقد بلغك ما نزل بأسلافهم ، فسينزل بهم مثله . وما يعبد استئناف جرى مجرى التعليل للنهي عن المرية ، وما في مما وفي كما يحتمل أن تكون مصدرية وبمعنى الذي .

وقرأ الجمهور : لموفوهم مشدداً من وفى ، وابن محيصن مخففاً من أوفى ، والنصيب هنا قال ابن عباس : ما قدر لهم من خير ومن شر . وقال أبو العالية : من الرزق . وقال ابن زيد : من العذاب ، وكذا

قال الزمخشري قال : كما وفينا آباءهم أنصباءهم ، وغير منقوص حال من نصيبهم ، وهو عندي حال مؤكدة ، لأنّ التوفية تقتضي التكميل .

وقال الزمخشري: { فإن قلت } : كيف نصب غير منقوص حالاً من النصيب الموفى ؟ { قلت} : يجوز أن يوفى وهو ناقص ، ويوفى وهو كامل . ألا تراك تقول : وفيته شطر حقه ، وثلث حقه ، وحقه كاملاً وناقصاً ؟ انتهى وهذه مغلطة إذا قال : وفيته شطر حقه ، فالتوفية وقعت في الشطر ، وكذا ثلث حقه ، والمعنى أعطيته الشطر أو الثث كاملاً لم أنقصه منه شيئاً .

وأما قوله : وحقه كاملاً وناقصاً ، أما كاملاً فصحيح ، وهي حال مؤكدة لأن التوفية تقتضي الإكمال ،

وأما وناقصاً فلا يقال لمنافاته التوفية . والخطاب في فلا تك متوجه إلى من داخله الشك ، لا إلى الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، والمعنى : واللّه أعلم قل يا محمد لكل من شك لا تك في مرية مما يعبد هؤلاء ، فإنّ اللّه لم يأمرهم بذلك ، وإنما اتبعوا في ذلك آباءهم تقليداً لهم وإعراضاً عن حجج العقول .

١١٠

{وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَاب فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِى شَكّ مُرِيبٍ } : لما بين تعالى إصرار كفار مكة على إنكار التوحيد ونبوّة الرسول والقرآن الذي أتى به ، بيّن أنّ الكفار من الأمم السابقة كانوا على هذه السيرة الفاخرة مع أنبيائهم ، فليس ذلك ببدع مِن مَن عاصر الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، وضرب لذلك مثلاً وهو : إنزال التوراة على موسى فاختلفوا فيها . والكتاب هنا التوراة ، فقبله بعض ، وأنكره بعض ، كما اختلف هؤلاء في القرآن . والظاهر عود الضمير فيه على الكتاب لقربه ، ويجوز أن يعود على موسى عليه السلام . ويلزم من الاختلاف في أحدهما الاختلاف في الآخر . وجوز أن تكون في بمعنى على ، أي : فاختلف عليه ، وكان بنو إسرائيل أشدّ تعنتاً على موسى وأكثر اختلافاً عليه . وقد تقدم شرح :{ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ } والظاهر عود الضمير في بينهم على قوم موسى عليه السلام ، إذ هم المختلفون فيه ، أو في الكتاب .

وقيل : يعود على المختلفين في الرسول من معاصريه .

قال ابن عطية : وأنْ يعمهم اللفظ أحسن عندي ، وهذه الجملة من جملة تسليته أيضاً .

١١١

{وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } : الظاهر عموم كل وشموله للمؤمن والكافر .

وقال الزمخشري : التنوين عوض من المضاف إليه يعني : وإن كلهم ، وإن جميع المختلفين فيه . وقال مقاتل : يعني به كفار هذه الأمة .

وقرأ الحرميان وأبو بكر : وإن كلا بتخفيف النون ساكنة .

وقرأ ابن عامر ، وعاصم ، وحمزة : لما بالتشديد هنا وفي { يس } و { الطَّارِقُ } وأجمعت السبعة على نصب كلا ، فتصور في قراءتهم أربع قراآت : إحداها : تخفيف أن ولما ، وهي قراءة الحرميين . والثانية : تشديدهما ، وهي قراءة ابن عامر وحمزة وحفص . والثالثة : تخفيف إنْ وتشديد لما وهي قراءة أبي بكر . والرابعة : تشديد أنْ وتخفيف لمّا ، وهي قراءة الكسائي وأبي عمرو .

وقرأ أبيّ والحسن بخلاف عه ، وإبان بن ثعلب وإنْ بالتخفيف كل بالرفع لمّا مشدداً .

وقرأ الزهري وسليمان بن أرقم : وإن كلا لمّا بتشديد الميم وتنوينها ، ولم يتعرضوا لتخفيف إنْ ولا تشديدها . وقال أبو حاتم : الذي في مصحف أبيّ وإن من كل إلا ليوفينهم .

وقرأ الأعمش : وإن كل إلا ، وهو حرف ابن مسعود ، فهذه أربعة وجوه في الشاذ . فأما القراءة الأولى فأعمال أنْ مخففة كأعمالها مشددة ، وهذا المسألة فيها خلاف : ذهب الكوفيون إلى أنّ تخفيف أن يبطل عملها ، ولا يجوز أن تعمل . وذهب البصريون إلى أنّ إعمالها جائز ، لكنه قليل إلا مع المضمر ، فلا يجوز إلا أن ورد في شعر ، وهذا هو الصحيح لثبوت ذلك في لسان العرب . حكى سيبويه أن الثقة أخبره أنه سمع بعض العرب أنّ عمر المنطلق ، ولثبوت هذه القراءة المتواترة وقد تأولها الكوفيون .

وأما لما فقال الفراء : فاللام فيها هي اللام الداخلة على خبر إنّ ، وما موصولة بمعن الذي كما جاء :{ فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ } والجملة من القسم المحذوف وجوابه الذي هو ليوفينهم صلة ، لما نحو قوله تعالى :{ وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطّئَنَّ } وهذا وجه حسن ، ومن إيقاع ما على من يعقل قولهم : لا سيما زيد بالرفع ، أي لاسي الذي هو زيد .

وقيل : ما نكرة موصوفة وهي لمن يعقل ، والجملة القسمية وجوابها قامت مقام الصفة ، لأن المعنى : وإنْ كلا لخلق موفى عمله ، ورجح الطبري هذا القول واختاره . وقال أبو عليّ : العرف أن تدخل لام الابتداء على الخير ، والخبر هنا هو القسم وفيه لام تدخل على جوابه ، فلما اجتمع اللامان والقسم محذوف ، واتفقا في اللفظ ، وفي تلقي القسم فصل بينهما بما كما فصلوا بين أن واللام انتهى . ويظهر من كلامه أنّ اللام في لما هي اللام التي تدخل في الخبر ، ونص الحوفي على أنها لام إنْ ، إلا أنّ المنقول عن أبي علي أنّ الخبر هو ليوفينهم ، وتحريره ما ذكرنا وهو القسم وجوابه .

وقيل : اللام في لما موطئة للقسم ، وما مزيدة ، والخبر الجملة القسمية وجوابها ، وإلى هذا القول في التحقيق يؤول قول أبي علي .

وأما القراءة الثانية فتشديد إنّ وإعمالها في كل واضح .

وأما تشديد لمّا فقال المبرد : هذا لحن ، لا تقول العرب إنّ زيداً لما خارج ، وهذه جسارة من المبرد على عادته . وكيف تكون قراءة متواترة لحناً وليس تركيب الآية كتركيب المثال الذي قال : وهو أنّ زيداً لما خارج هذا المثال لحن ،

وأما في الآية فليس لحناً ، ولو سكت وقال كما قال

الكسائي : ما أدري ما وجه هذه القراءة لكن قد وفق ،

وأما غير هذين من النحويين فاختلفوا في تخريجها . فقال أبو عبيد : أصله لما منونا وقد قرىء كذلك ، ثم بني منه فعلى ، فصار كتتري نون إذ جعلت ألفه للإلحاق كارطي ، ومنع الصرف إذ جعلت ألف تأنيث ، وهو مأخوذ من لممته أي جمعته ، والتقدير : وإنْ كلاًّ جميعاً ليوفينهم ، ويكون جميعاً فيه معنى التوكيد ككل ، ولا يقال لما هذه هي لما المنونة وقف عليها بالألف ، لأنها بدل من التنوين ، وأجرى الأصل مجرى الوقف ، لأنّ ذلك إنما يكون في الشعر . وما قاله أبو عبيد بعيد ، إذ لا يعرف بناء فعلى من اللم ، ولما يلزم لمن أمال ، فعلى أن يميلها ولم يملها أحد بالإجماع ، ومن كتابتها بالياء ولم تكتب بها ،

وقيل : لما المشدّدة هي لما المخففة ، وشدّدها في الوقف كقولك : رأيت فرّحاً يريد فرحاً ، وأجرى الوصل مجرى الوقف ، وهذا بعيد جداً ، وروي عن المازني . وقال ابن جني وغيره : تقع إلا زائدة ، فلا يبعد أن تقع لما بمعناها زائدة انتهى . وهذا وجه ضعيف مبني على وجه ضعيف في إلا . وقال المازني : إنْ هي المخفف ثقلت ، وهي نافية بمعنى ما ، كما خففت إنْ ومعناها المثقلة ، ولما بمعنى إلا ، وهذا باطل لأنه لم يعهد تثقيل إن النافية ، ولنصب كل وإن النافية لا تنصب .

وقيل : لما بمعنى إلا كقولك : نشدتك باللّه لما فعلت ، تريد إلا فعلت ، وقاله الحوفي ، وضعفه أبو علي قال : لأن لما هذه لا تفارق القسم انتهى . وليس كما ذكر ، قد تفارق القسم . وإنما يبطل هذا الوجه ، لأنه ليس موضع دخول إلا ، لو

قلت : إنْ زيداً إلا ضربته لم يكن تركيباً عربياً .

وقيل : لما أصلها لمن ما ، ومن هي الموصولة ، وما بعدها زائدة ، واللام في لما هي داخلة في خبر إن ، والصلة الجملة القسمية ، فلما أدغمت من في الزائدة اجتمعت ثلاث ميمات ، فحذفت الوسطى منهن وهي المبدلة من النون ، فاجتمع المثلان ، فأدغمت ميم من في ميم ما ، فصار لمّا وقاله المهدوي . وقال الفراء ، وتبعه جماعة منهم نصر الشيرازي : أصل لمّا لمن ما دخلت من الجارة على ما ، كما في قول الشاعر : وإنا لمن ما يضرب الكبش ضربة

على رأسه تلقى اللسان من الفم

فعمل بها ما عمل في الوجه الذي قبله . وهذان الوجهان ضعيفان جداً لم يعهد حذف نون من ، ولا حذف نون من إلا في الشعر ، إذا لقيت لام التعريف أو شبهها غير المدغمة نحو قولهم : ملمال يريدون من المال .

وهذه كلها تخريجات ضعيفة جداً ينزه القرآن عنها . وكنت قد ظهر لي فيها وجه جار على قواعد العربية ، وهو أنّ لمّا هذه هي لما الجارمة حذف فعلها المجزوم لدلة المعنى عليه ، كما حذفوه في قولهم قاربت المدينة ، ولما يريدون ولما أدخله . وكذلك هنا التقدير وإن كلا لما ينقص من جزاء عمله ، ويدل عليه قوله تعالى : ليوفينهم ربك أعمالهم ، لما أخبر بانتفاء نقص جزاء أعمالهم أكده بالقسم فقال : ليوفينهم ربك أعمالهم ، وكنت اعتقدت إني سبقت إلى هذا التخريج السائغ العاري من التكلف وذكرت ذلك لبعض من يقرأ عليّ فقال : قد ذكر ذلك أبو عمرو وابن الحاجب ، ولتركي النظر في كلام هذا الرجل لم أقف عليه ، ثم رأيت في كتاب التحرير نقل هذا التخريج عن ابن الحاجب قال : لما هذه هي الجازمة حذف فعلها للدلالة عليه لما ثبت من جواز حذف فعلها في قولهم : خرجت ولما سافرت ، ولما ونحوه ، وهو سائغ فصيح ، فيكون التقدير : لما يتركوا ، لما تقدم من الدلالة عليه من تفصيل المجموعين في قوله : { فَمِنْهُمْ شَقِىٌّ وَسَعِيدٌ } ثم ذكر الأشقياء والسعداء ومجازاتهم ، ثم بين ذلك بقوله : ليوفينهم ربك أعمالهم ، قال : وما أعرف وجهاً أشبه من هذا ، وإن كان النفوس تستبعده من جهة أن مثله لم يقع في القرآن .

وأما القراءة الثالثة والرابعة

فتخريجهما مفهوم من تخريج القراءتين قبلهما ،

وأما قراءة أبي ومن ذكر معه فإنْ نافية ، ولمّا بمعنى إلا ، والتقدير : ما كل إلا واللّه ليوفينهم . وكل مبتدأ الخبر الجملة القسمية وجوابها التي بعد لما كقراءة من قرأ { وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ }{ إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ } ولا التفات إلى قول أبي عبيد والفراء من إنكارهما أن لما تكون بمعنى إلا . قال أبو عبيد : لم نجد هذا في كلام العرب ، ومن قال هذا لزمه أن يقول : رأيت القوم لما أخاك يريد إلا أخاك ، وهذا غيره موجود . وقال الفراء : أما من جعل لما بمعنى إلا ، فإنه وحجه لا نعرفه ، وقد قالت العرب مع اليمين باللّه : لما قمت عنا ، وإلا قمت عنا ، فأما في الاستثناء فلم ننقله في شعر . ألا ترى أنّ ذلك لو جاز لسمع في الكلام : ذهب الناس لما زيدا ؟ والقراءة المتواترة في قوله : وإنْ كل لما ، وإن كل نفس لما ، حجة عليهما . وكون لما بمعنى إلا نقله الخليل وسيبويه والكسائي ، وكون العرب خصصت مجيئها ببعض التراكيب لا يقدح ولا يلزم اطرادها في باب الاستثناء ، فكم من شيء خص بتركيب دون ما أشبهه .

وأما قراءة الزهري ، وابن أرقم : لما بالتنوين والتشديد ، فلما مصدر من قولهم : لممت الشيء جمعته ، وخرج نصبه على وجهين :

أحدهما : أن يكون صفة لكلا وصف بالمصدر وقدر كل مضافاً إلى نكرة حتى يصح الوصف بالنكرة ، كما وصف به في قوله :{ أَكْلاً لَّمّاً } وهذا تخريج أبي علي . والوجه

الثاني : أن يكون منصوباً بقوله : ليوفينهم ، على حد قولهم : قياماً لأقومن ، وقعوداً لا قعدن ، فالتقدير توفية جامعة لأعمالهم ليوفينهم . وهذا تخريج ابن جني وخبر إنّ على هذين الوجهين هو جملة القسم وجوابه .

وأما ما في مصحف أبي فإنْ نافية ، ومن زائدة .

وأما قراءة الأعمش فواضحة ، والمعنى : جميع ما لهم . قيل : وهذه الجملة تضمنت توكيدات بأن وبكل وباللام في الخبر وبالقسم ، وبما إذا كانت زائدة ، وبنون التوكيد وباللام قبلها وذلك مبالغة في وعد الطائع ووعيد العاصي ، وأردف ذلك بالجملة المؤكدة وهي : أنه بما يعملون خبير . وهذا الوصف يقتضي علم ما خفي .

وقرأ ابن هرمز : بما تعملون على الخطاب .

١١٢

{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } : قال ابن عيينة وجماعة : معناه استقم على القرآن ، وقال الضحاك : استقم بالجهاد ، وقال مقاتل : امض على التوحيد ، وقال جماعة : استقم على أمر ربك بالدعاء إليه ، وقال جعفر الصادق : استقم في الأخبار عن اللّه بصحة العزم ،

وقال الزمخشري : فاستقم استقامة مثل الاستقامة التي أمرت بها على جادة الحق غير عادل عنها . و

قال ابن عطية : أمر بالاستقامة وهو عليها ، وهو أمر بالدوام والثبوت . والخطاب للرسول وأصحابه الذين تابوا من الكفر ولسائر الأمة ،

فالمعنى : وأمرت مخاطبة تعظيم انتهى .

وقيل : استفعل هنا للطلب أي : اطلب الإقامة على الدين ، كما تقول : استغفر أي اطلب الغفران . ومن تاب معطوف على الضمير المستكن في فاستقم ، وأغنى الفاصل عن التوكيد . ولا تطغوا قال ابن عباس : في القرآن فتحلوا وتحرموا ما لم آمركم به . وقال ابن زيد : لا تعصوا ربكم . وقال مقاتل : لا تخلطوا التوحيد بالشك .

وقال الزمخشري : لا تخرجوا عن حدود اللّه .

وقرأ الحسن والأعمش : بما يعملون بالياء على الغيبة ، ورويت عن عيسى الثقفي بصير مطلع على أعمالهم يراها ويجازى عليهتا .

١١٣

{وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مّن دُونِ اللّه مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ } : قال ابن عباس : معنى الركون الميل . وقال السدي ، وابن زيد : لا تداهنوا الظلمة . وقال قتادة : لا تلحقوا بهم . وقال سفيان : لا تدنوا إلى الذين ظلموا . وقال أبو العالية : لا ترضوا أعمالهم ،

وقيل : لا تجالسوهم ، وقال جعفر الصادق : إلى الذين ظلموا إلى أنفسكم فإنها ظالمة ، وهذا شبيه بتفسير الباطنية .

وقيل : لا تتشبهوا بهم .

وقرأ الجمهور : تركنوا بفتح الكاف ، والماضي ركن بكسرها ، وهي لغة قريش . وقال الأزهري : هي اللغة الفصحى . وعن أبي عمرو : بكسر التاء على لغة تميم في مضارع علم غير الياء .

وقرأ قتادة ، وطلحة ، والأشهب ، ورويت عن أبي عمر : وتركنوا بضم الكاف ماضي ركن بفتحها ، وهي لغة قيس وتميم ، وقال الكسائي : وأهل نجد . وشد يركن بفتح الكاف ، مضارع ركن بفتحها .

وقرأ ابن أبي عبلة : ولا تركنوا مبنياً للمفعول من أركنه إذا أماله ، والنهي متناول لانحطاط في هواهم ، والانقطاع إليهم ، ومصاحبتهم ،

ومجالستهم ، وزيارتهم ، ومداهتنهم ، والرضا بأعمالهم ، والتشبه بهم ، والتزيي بزيهم ، ومدالعين إلى زهرتهم ، وذكرهم بما فيه تعظيم لهم . وتأمّل قوله : ولا تركنوا ، فإن الركون هو الميل اليسير . وقوله : إلى الذين ظلموا ، أي الذين وجد منهم الظلم ، ولم يقل الظالمين ، قاله : الزمخشري . و

قال ابن عطية : ومعناه السكون إلى الشيء والرضا به . قال أبو العالية : الركون الرضا . وقال ابن زيد : الركون الإدهان ، والركون يقع في قليل هذا وكثيره . والنهي هنا يترتب من معنى الركون عن الميل إليهم بالشرك معهم إلى أقل الرتب ، من ترك التعبير عليهم مع القدرة ، والذين ظلموا هنا هم الكفرة ، وهو النص للمتأولين ، ويدخل بالمعنى أهل المعاصي انتهى . وقال سفيان الثوري : في جهنم واد لا يسكنه إلا القراء الزائرون الملوك . وسئل سفيان عن ظالم أشرف على الهلاك في برية هل يسقى شربة ماء ؟ فقال : لا . فقيل له : يموت ، فقال : دعه يموت . وفي الحديث :  { من دعا لظالم بالبقاء فقد أحب أن يعصي اللّه في أرضه } وكتب إلى الزهري حين خالط السلاطين أخ له في الدين كتاباً طويلاً قرّعه فيه أشد التقريع ، يوقف عليه في تفسير الزمخشري .

وقرأ ابن وثاب ، وعلقمة ، والأعمش ، وابن مصرف ، وحمزة فيما روي عنه : فتمسكم بكسر التاء على لغة تميم ، والمس كناية عن الإصابة . وانتصب الفعل في جواب النهي ، والجملة بعدها حال . ومعنى من أولياء ، من أنصار يقدرون على منعكم من عذابه . ثم لا تنصرون

قال الزمخشري : ثم لا ينصركم هو لأنه وجب في حكمته تعذيبكم ، وترك الإبقاء عليكم . { فإن قلت} : ما معنى ؟ ثم

قلت : معناها الاستبعاد ، لأنّ النصرة من اللّه مستبعدة مع استيجابهم العذاب وقضاء حكمته له انتهى ، وهي ألفاظ المعتزلة .

وقرأ زيد بن علي : ثم لا تنصروا بحذف النون ، والفعل منصوب عطفاً على قوله : فتمسكم ، والجملة حال ، أو اعتراض بين المتعاطفين .

١١٤

انظر تسفير الآية:١١٥

١١٥

{وَأَقِمِ الصَّلَواةَ طَرَفَىِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ الَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيّئَاتِ ذالِكَ ذِكْرَى لِلذكِرِينَ وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللّه لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } : سبب نزولها ما في صحيح مسلم من حديث الرجل الذي عالج امرأة أجنبية منه ، فأصاب منها ما سوى إتيانها فنزلت .

وقيل : نزلت قبل ذلك ، واستعملها الرسول صلى اللّه عليه وسلم في قصة هذا الرجل فقال رجل : أله خاصة ؟ قال : { لا ، بل للناس عامة } وانظر إلى الأمر والنهي في هذه الآيات ، حيث جاء الخطاب في الأمر ،  { وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ } ، وأقم الصلاة ، موحداً في الظاهر ، وإن كان المأمور به من حيث المعنى عاماً ، وجاء الخطاب في النهي :{ وَلاَ تَرْكَنُواْ } موجهاً إلى غير الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، مخاطباً به أمته ، فحيث كان بأفعال الخير توجه الخطاب إليه ، وحيث كان النهي عن المحظورات عدل عن الخطاب عنه إلى غيره من أمته ، وهذا من جليل الفصاحة . ولا خلاف أنّ المأمور بإقامتها هي الصلوات المكتوبة ، وإقامتها دوامها ،

وقيل : أداؤها على تمامها ،

وقيل : فعلها في أفضل أوقاتها ، وهي ثلاثة الأقوال التي في قوله تعالى : وأقيموا الصلاة .

وانتصب طرفي النهار على الظرف . وطرف الشيء يقتضي أن يكون من الشيء ، فالذي يظهر أنهما الصبح والعصر ، لأنهما طرفا النهار ، ولذلك وقع الإجماع ، إلا من شذ على أنّ من أكل أو جامع بعد طلوع الفجر متعمداً أنّ يومه يوم فطر وعليه القضاء والكفارة ، وما بعد طلوع الفجر من النهار . وقد ادعى الطبري والماوردي : الإجماع على أنّ أحد الطرفين الصبح ، والخلاف في ذلك على ما نذكره . وممن قال : هما الصبح والعصر الحسن ، وقتادة ، والضحاك ، وقال : الزلف المغرب والعشاء ، وليست الظاهر في هذه الآية على هذا القول ، بل هي في غيرها . وقال مجاهد ومحمد بن كعب : الطرف الأول الصبح ، والثاني الظهر والعصر ، والزلف المغرب والعشاء ،

وليست الصبح في هذه الآية .

وقال ابن عباس والحسن أيضاً : هما الصبح والمغرب ، والزلف العشاء ، وليست الظهر والعصر في الآية .

وقيل : هما الظهر والعصر ، والزلف المغرب والعشاء والصبح ، وكان هذا القائل راعي الجهر بالقراءة والإخفاء . واختار ابن عطية قول مجاهد ، وجعل الظهر من الطرف الثاني ليس بواضح ، إنما الظهر نصف النهار ، والنصف لا يسمى طرفاً إلا بمجاز بعيد ، ورجح الطبري قول ابن عباس : وهو أنّ الطرفين هما الصبح والمغرب ، ولا تجعل المغرب طرفاً للنهار إلا بمجاز ، إنما هو طرف الليل .

وقال الزمخشري : غدوة وعشية قال : وصلاة الغدوة الصبح ، وصلاة العشية الظهر والعصر ، لأنّ ما بعد الزوال عشي ، وصلاة الزلف المغرب والعشاء انتهى . ولا يلزم من إطلاق العشي على ما بعد الزوال أن يكون الظهر طرفاً للنهار ، لأن الأمر إنما جاء بالإقامة للصلاة في طرفي النهار ، لا في الغداة والعشي .

وقرأ الجمهور : وزلفاً بفتح اللام ، وطلحة وعيسى البصرة وابن أبي إسحاق وأبو جعفر : بضمها كأنه اسم مفرد .

وقرأ ابن محيصن ومجاهد : بإسكانها وروي عنهما : وزلفى على وزن فعلى على صفة الواحد من المؤنث لما كانت بمعنى المنزلة .

وأما القرءات الأخر من الجموع فمنزلة بعد منزلة ، فزلف جمع كظلم ، وزلف كبسر في بسر ، وزلف كبسر في بسرة ، فهما اسما جنس ، وزلفى بمنزلة الزلفة . والظاهر عطف وزلفاً من الليل على طرفي النهار ، عطف طرفاً على طرف .

وقال الزمخشري : وقد ذكر هذه القراآت وهو ما يقرب من آخر النهار من الليل .

وقيل : زلفاً من الليل ، وقرباً من الليل ، وحقها على هذا التفسير أن تعطف على الصلاة أي : أقم الصلاة في النهار ، وأقم زلفى من الليل على معنى صلوات يتقرب بها إلى اللّه عز وجل في بعض الليل . والظاهر عموم الحسنات من الصلوات المفروضة ، وصيام رمضان ، وما أشبههما من فرائض الإسلام . وخصوص السيئات وهي الصغائر ، ويدل عليه الحديث الصحيح :  { ما اجتنبت الكبائر } وذهب جمهور المتأولين من الصحابة والتابعين : إلى أنّ الحسنات يراد بها الصلوات الخمس ، وإليه ذهب عثمان عند وضوءه على المقاعد ، وهو تأويل مالك . وقال مجاهد : الحسنات قول الرجل : سبحان اللّه ، والحمد للّه ، ولا إله إلا اللّه ، واللّه أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم . وينبغي أن يحمل هذا كله على جهة المثال في الحساب ، ومن أجل أنّ الصلوات الخمس هي أعظم الأعمال . والصغائر التي تذهب هي بشرط التوبة منها وعدم الإصرار عليها ، وهذا نص حذاق الأصوليين . ومعنى إذهابها : تكفير الصغائر ، والصغائر قد وجدت وأذهبت الحسنات ما كان يترتب عليها ، لا أنها تذهب حقائقها ، إذ هي قد وجدت .

وقيل : المعنى إنّ فعل الحسنات يكون لطفاً في ترك السيئات ، لا أنها واقعة كقوله : { اتْلُ مَا أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ } والظاهر أنّ الإشارة قوله ذلك ، إلى أقرب مذكور وهو قوله : أقم الصلاة أي إقامتها في هذه الأوقات . ذكرى أي : سبب عظة وتذكرة للذاكرين أي المتعظين .

وقيل : إشارة إلى الإخبار بأنّ الحسنات يذهبن السيئات ، فيكون في هذه الذكرى حضًّا على فعل الحسنات .

وقيل : إشارة إلى ما تقدم من الوصية بالاستقامة وإقامة الصلاة ، والنهي عن الطغيان ، والركون إلى الظالمين ، وهو قول الزمخشري . وقال الطبري : إشارة إلى الأوامر والنواهي في هذه السورة ،

وقيل : إشارة إلى القرآن ،

وقيل : ذكرى معناها توبة ، ثم أمر تعالى بالصبر على التبليغ والمكاره في ذات اللّه بعدما تقدم من الأوامر والنواهي ، ومنبهاً على محل الصبر ، إذ لا يتم شيء مما وقع الأمر به والنهي عنه إلا به ، وأتى بعام وهو قوله : أجر المحسنين ، ليندرج فيه كل من أحسن بسائر خصال الإحسان مما يحتاج إلى الصبر فيه ، وما قد لا يحتاج كطبع من خلق كربما ، فلا يتكلف الإحسان إذ هو مركوز في طبعه .

وقال ابن عباس : المحسنون هم المصلون ، كأنه نظر إلى سياق الكلام . وقال مقاتل : هم المخلصون ، وقال أبو سليمان : المحسنون في أعمالهم .

١١٦

{فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِى الاْرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ } : لولا هنا للتحضيض ، صحبها معنى التفجع والتأسف الذي ينبغي أن يقع من البشر على هذه الأمم التي لم

تهتد ، وهذا نحو قوله : { خَامِدُونَ ياحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ } والقرون : قوم نوح ، وعاد ، وثمود ، ومن تقدم ذكره . والبقية هنا يراد بها الخير والنظر والجزم في الدين ، وسمي الفضل والجود بقية ، لأنّ الرجل يستبقي مما يخرجه أجوده وأفضله ، فصار مثلاً في الجودة والفضل . فلان من بقية القوم أي من خيارهم ، وبه فسر بيت الحماسة : إن تذنبوا ثم يأتيني بقيتكم . ومنه قولهم : في الزوايا خبايا ، وفي الرجال بقايا . وإنما قيل : بقية لأنّ الشرائع والدول ونحوها قوتها في أولها ، ثم لا تزال تضعف ، فمن ثبت في وقت الضعف فهو بقية الصدر الأول . وبقية فعيلة اسم فاعل للمبالغة .

وقال الزمخشري : ويجوز أن تكون البقية بمعنى البقوي ، كالتقية بمعنى التقوى أي : فلا كان منهم ذوو بقاء على أنفسهم وصيانة لها من سخط اللّه وعقابه . وقرأت فرقة : بقية بتخفيف الياء اسم فاعل من بقي ، نحو : شجيت فهي شجية .

وقرأ أبو جعفر ، وشيبة : بقية بضم الباء وسكون القاف ، وزن فعله . وقرىء : بقية على وزن فعله للمرة من بقاه يبقيه إذا رقبه وانتظره ، والمعنى : فلولا كان منهم أولو مراقبة وخشية من انتقام اللّه ، كأنهم ينتظرون إيقاعه بهم لإشفاقهم . والفساد هنا الكفر وما اقترن به من المعاصي ، وفي ذلك تنبيه لهذه الأمة وحض لها على تغيير المنكر . إلا قليلاً استثناء منقطع أي : لكن قليلاً ممن أنجينا منهم نهوا عن الفساد وهم قليل بالإضافة إلى جماعاتهم ، ولا يصح أن يكون استثناء متصلاً مع بقاء التحضيض على ظاهره لفساد المعنى ، وصيرورته إلى أنّ الناجين لم يحرضوا على النهي عن الفساد . والكلام عند سيبويه بالتحضيض واجب ، وغيره يراه منفياً من حيث معناه : أنه لم يكن فيهم أولو بقية ، ولهذا

قال الزمخشري بعد أن منع أن يكون متصلاً : { فإن قلت } : في تحضيضهم على النهي عن الفساد معنى نفيه عنهم ، فكأنه قيل : ما كان من القرون أولوا بقية إلا قليلاً ، كان استثناء متصلاً ، ومعنى صحيحاً ، وكان انتصابه على أصل الاستثناء وإن كان الأفصح أن يرجع على البدل انتهى .

وقرأ زيد بن علي : إلا قليل بالرفع ، لحظ أنّ التحضيض تضمن النفي ، فأبدل كما يبدل في صريح النفي . وقال الفراء : المعنى فلم يكن ، لأنّ في الاستفهام ضرباً من الجحد ، وأبي الأخفش كون الاستثناء منقطعاً ، والظاهر أنّ الذين ظلموا هم تاركو النهي عن الفساد . وما أترفوا فيه أي : ما نعموا فيه من حب الرياسة والثروة وطلب أسباب العيش الهني ، ورفضوا ما فيه صلاح دينهم . واتبع استئناف أخبار عن حال هؤلاء الذين ظلموا ، وأخبار عنهم أنهم مع كونهم تاركي النهي عن الفساد كانوا مجرمين أي : ذوي جرائم غير ذلك .

وقال الزمخشري : إن كان معناه واتبعوا الشهوات كان معطوفاً على مضمر ، لأنّ المعنى إلا قليلاً ممن أنجينا منهم نهوا عن الفساد في الأرض ، واتبع الذين ظلموا شهواتهم ، فهو عطف على نهوا ، وإن كان معناه : واتبعوا جزاء الإتراف . قالوا وللحال ، كأنه قيل : أنجينا القليل وقد اتبع الذين ظلموا جزاءهم . وقال : وكانوا مجرمين ، عطف على أترفوا ، أي اتبعوا الإتراف وكونهم مجرمين ، لأن تابع الشهوات مغمور بالآثام انتهى . فجعل ما في قوله : ما أترفوا ، فيه مصدرية ، ولهذا قدره : اتبعوا الإتراف ، والظاهر أنها بمعنى الذي لعود الضمير في فيه عليها . وأجاز أيضاً أنْ يكون معطوفاً على اتبعوا أي : اتبعوا شهواتهم وكانوا مجرمين بذلك . قال : ويجوز أن يكون اعتراضاً وحكماً عليهم بأنهم قوم مجرمون انتهى . ولا يسمى هذا اعتراضاً في اصطلاح النحو ، لأنه آخر آية ، فليس بين شيئين يحتاج أحدهما إلى الآخر .

وقرأ جعفر بن محمد ، والعلاء بن سيابة كذا في كتاب اللوامح ،

وأبو عمر في رواية الجعفي : واتبعوا ساكنة التاء مبنية للمفعول على حذف مضاف ، لأنه مما يتعدى إلى مفعولين ، أي جزاء ما أترفوا فيه .

وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون المعنى في القراءة المشهورة أنهم اتبعوا جزاء إترافهم ، وهذا معنى قوي لتقدم الإنجاء كأنه قيل : إلا قليلاً ممن أنجينا منهم وهلك السائر .

١١٧

{وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ } : تقدم تفسير شبيه هذه الآية في الأنعام ، إلا أن هنا ليهلك وهي آكد في النفي ، لأنه على مذهب الكوفيين زيدت اللام في خبر كان على سبيل التوكيد ، وعلى مذهب البصريين نوجه النفي إلى الخبر المحذوف المتعلق به اللام ، وهنا وأهلها مصلحون . قال الطبري : بشرك منهم وهم مصلحون أي : مصلحون في أعمالهم وسيرهم ، وعدل بعضهم في بعض أي : أنه لا بد من معصيتة تقترن بكفرهم ، قاله الطبري ناقلاً .

قال ابن عطية : وهذا ضعيف ، وإنما ذهب قائله إلى نحو ما قال : إن اللّه يمهل الدول على الكفر ولا يمهلها على الظلم والجور ، ولو عكس لكان ذلك متجهاً أي : ما كان اللّه ليعذب أمة بظلمهم في معاصيهم وهم مصلحون في الإيمان . والذي رجح ابن عطية أن يكون التأويل بظلم منه تعالى عن ذلك .

وقال الزمخشري : وأهلها مصلحون تنزيهاً لذاته عن الظلم ، وإيذاناً بأن إهلاك المصلحين من الظلم انتهى . وهو مصادم للحديث : { أنهلك وفينا الصالحون } قال : نعم ،  { إذا كثر الخبث } وللآية : { وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً}

١١٨

انظر تسفير الآية:١١٩

١١٩

{وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذالِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } :

قال الزمخشري : يعني لاضطرارهم إلى أن يكونوا أهل ملة واحدة وهي مبلة الإسلام كقوله :{ وَأَنَّ هَاذَا أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } وهذا كلام يتضمن نفي الاضطرار ، وأنه لم يقهرهم على الاتفاق على دين الحق ، ولكنه مكنهم من الاختبار الذي هو أساس التكليف ، فاختار بعضهم الحق ، وبعضهم الباطل ، فاختلفوا ولا يزالون مختلفين ، إلا من رحم ربك الا ناساً هداهم اللّه ولطف بهم فاتفقوا على دين الحق غير مختلفين فيه انتهى . وهو على طريقة الاعتزال .

وقال ابن عباس وقتادة : أمة واحدة مؤمنة حتى لا يقع منهم كفر ، لكنه تعالى لم يشأ ذلك . وقال الضحاك : لو شاء لجعلهم على هدى أو ضلالة ، والظاهر أن قوله : ولا يزالون مختلفين ، هو من الاختلاف الذي هو ضد الاتفاق ، وأنّ المعنى في الحق والباطل قاله : ابن عباس ، وقال مجاهد : في الأديان ، وقال الحسن : في الأرزاق والأحوال من تسخير بعضهم لبعض ، وقال عكرمة : في الأهواء ، وقال ابن بحر : المراد أنْ بعضهم يخلف بعضاً ، فيكون الآتي خلفاً للماضي . قال : ومنه قولهم : ما اختلف الجديدان ، أي خلف أحدهما صاحبه . وإلاّ من رحم استثناء متصل من قوله : ولا يزالون مختلفين ، ولا ضرورة تدعو إلى أنه بمعنى لكن ، فيكون استثناء منقطعاً كما ذهب إليه الحوفي ، والإشارة بقوله : ولذلك خلقهم ، إلى المصدر المفهوم من قوله : مختلفين ، كما قال : إذا نهى السفيه جرى إليه . فعاد الضمير إلى المصدر المفهوم من اسم الفاعل ، كأنه قيل : وللاختلاف خلقهم ، ويكون على حذف مضاف أي

لثمرة الاختلاف من الشقاوة والسعادة خلقهم . ودل على هذا المحذوف أنه قد تقرر من قاعدة الشريعة أن اللّه تعالى خلق خلقاً للسعادة ، وخلقا للشقاوة ، ثم يسر كلا لما خلق له ، وهذا نص في الحديث الصحيح .

وهذه اللام في التحقيق هي لام الصيرورة في ذلك المحذوف ، أو تكون لام الصيرورة بغير ذلك المحذوف ، أي : خلقهم ليصير أمرهم إلى الاختلاف . ولا يتعارض هذا مع قوله : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } لأنّ معنى هذا الأمر بالعبادة . وقال مجاهد وقتادة : ذلك إشارة إلى الرحمة التي تضمنها قوله : إلا من رحم ربك ، والضمير في خلقهم عائد على المرحومين .

وقال ابن عباس ، واختاره الطبري : الإشارة بذلك إلى الاختلاف والرحمة معاً ، فيكون على هذا أشير بالمفرد إلى اثنين كقوله :{ عَوَانٌ بَيْنَ ذالِكَ } أي بين الفارض والبكر ، والضمير في خلقهم عائد على الصنفين : المستثني ، والمستثنى منه ، وليس في هذه الجملة ما يمكن أن يعود عليه الضمير إلا الاختلاف كما قال الحسن وعطاء ، أو الرحمة كما قال مجاهد ، وقتادة ، أو كلاهما كما قال ابن عباس . وقد أبعد المتأولون في تقدير غير هذه الثلاث ، فروي أنه إشارة إلى ما عده . وفيه تقديم وتأخير أي : ونمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ، ولذلك خلقهم أي لملء جهنم منهم ، وهذا بعيد جداً من تراكيب كلام العرب .

وقيل : إشارة إلى شهود ذلك اليوم المشهود ،

وقيل : إلى قوله :{ فَمِنْهُمْ شَقِىٌّ وَسَعِيدٌ }

وقيل : إشارة إلى أن يكون فريق في الجنة وفريق في السعير ،

وقيل : إشارة إلى قوله :{ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِى الاْرْضِ }

وقيل : إشارة إلى العبادة ،

وقيل : إلى الجنة والنار ،

وقيل : للسعادة والشقاوة .

وقال الزمخشري : ولذلك إشارة إلى ما دل عليه الكلام ، أولاً من التمكين والاختيار الذي عنه الاختلاف ، خلقهم ليثيب مختار الحق بحسن اختياره ، ويعاقب مختار الباطل بسوء اختياره انتهى . وهو على طريقة الاعتزال . ولولا أن هذه الأقوال سطرت في كتب التفسير لضربت عن ذكرها صفحاً .

وتمت كلمة ربك أي : نفذ قضاؤه وحق أمره . واللام في لأملأن ، هي التي يتلقى بها القسم ، أو الجملة قبلها ضمنت معنى القسم كقوله { وَإِذْ أَخَذَ اللّه مِيثَاقَ النَّبِيّيْنَ } ثم قال :{ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ } والجنة والجن بمعنى واحد .

قال ابن عطية : والهاء فيه للمبالغة ، وإن كان الجن يقع على الواحد ، فالجنة جمعه انتهى . فيكون مما يكون فيه الواحد بغير هاء ، وجمعه بالهاء لقول بعض العرب : كمء للواحد ، وكمأة للجمع .

١٢٠

{وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِى هَاذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } : الظهر أن كلاً مفعول به ، والعامل فيه نقص ، والتنوين عوض من المحذوف ، والتقدير : وكل نبأ نقص عليك . ومن أنباء الرسل في موضع الصفة لقوله : وكلاً إذ هي مضافة في التقدير إلى نكرة ، وما صلة كما هي في قوله :{ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } قيل :أو بدل ، أو خبر مبتدأ محذوف أي : هو ما نثبت ، فتكون ما بمعنى الذي ، أو مصدرية . وأجازوا أن ينتصب كلاً على المصدر ، وما نثبت مفعول به بقولك نقص ، كأنه قيل : ونقص علك الشيء الذي نثبت به فؤادك كل قص . وأجازوا أن يكون كلاً نكرة بمعنى جميعاً ، وينتصب على الحال من المفعول الذي هو ما ، أو من المجرور الذي هو الضمير في به على مذهب من يجوز تقديم حال المجرور

بالحرف عليه ، التقدير : ونقص عليك من أنباء الرسل الأشياء الت نثبت بها فئادك جميعاً أي : المثبتة فؤادك جميعاً . قال ابن عباس : نثبت نسكن ، وقال الضحاك : نشد ، وقال ابن جريج : نقوي . وتثبيت الفؤاد هو بما جرى للأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولاتباعهم المؤمنين ، وما لقوا من مكذبيهم من الأذى ، ففي هذا كله أسوة بهم ، إذ المشاركة في الأمور الصعبة تهون ما يلقى الإنسان من الأذى ، ثم الإعلام بما جرى على مكذبيهم من العقوبات المستأصلة بأنواع من العذاب من غرق وريح ورجفة وخسف ، وغير ذلك فيه طمأنينة للنفس ، وتأنيس بأنْ يصب اللّه من كذب الرسول صلى اللّه عليه وسلم بالعذاب ، كما جرى لمكذبي الرسل . وإنباء له عليه الصلاة والسلام بحسن العاقبة له ولأتباعه ، كما اتفق للرسل وأتباعهم . والإشارة بقوله : في هذه ، إلى أنباء الرسل التي قصها اللّه تعالى عليه ، أي النبأ الصدق الحق الذي هو مطابق بما جرى ليس فيه تغيير ولا تحريف ، كما ينقل شيئاً من ذلك المؤرخون . وموعظة أي : اتعاظ وازدجار لسامعه ، وذكرى لمن آمن ، إذ الموعظة والذكرى لا ينتفع بها إلا المؤمن كقوله { وَذَكّرْ فَإِنَّ الذّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ } وقوله :{ سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى وَيَتَجَنَّبُهَا الاْشْقَى }

وقال ابن عباس : الإشارة إلى السورة والآيات التي فيها تذكر قصص الأمم ، وهذا قول الجمهور . ووجه تخصيص هذه اسورة بوصفها بالحق ، والقرآن كله حق ، أنّ ذلك يتضمن معنى الوعيد للكفرة والتنبيه للناظر ، أي : جاءك في هذه السورة الحق الذي أصاب الأمم الظالمة . وهذا كما يقال عند الشدائد : جاء الحق ، وإن كان الحق يأتي في غير شديدة وغير ما وجه ، ولا تستعمل في ذلك جاء الحق . وقال الحسن وقتادة : الإشارة إلى دار الدنيا . قال قتادة : والحق النبوة .

وقيل : إشارة إلى السورة مع نظائرها .

١٢١

انظر تسفير الآية:١٢٢

١٢٢

{وَقُل لّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ وَانْتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ } : اعملوا صيغة أمر ومعناه : التهديد والوعيد ، والخطاب لأهل مكة وغيرها . على مكانتكم أي : جهتكم وحالكم التي أنتم عليها .

وقيل : اعملوا في هلاكي على إمكانكم ، وانتظروا بناء الدوائر ، إنا منتظرون أن ينزل بكم نحو ما اقتصّ اللّه من النقم النازلة بأشباهكم . ويشبه أن يكون إيتاء موادعة ، فلذلك قيل : إنهما منسوختان ،

وقيل : محكمتان ، وهما للتهديد والوعيد والحرب قائمة .

١٢٣

{وَللّه غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ الاْمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } : لا يخفى عليه شيء من أعمالكم ، ولا حظ لمخلوق في علم الغيب .

وقرأ نافع وحفص : يرجع مبنياً للمفعول ، الأمر كله أمرهم وأمرك ، فينتقم لك منهم . وقال أبو علي الفارسي : علم ما غاب في السموات والأرض ، أضاف الغيب إليهما توسعا انتهى . والجملة الأولى دلت على أن علمه محيط بجميع الكائنات كليها وجزئيها حاضرها وغائبها ، لأنه إذا أحاط علمه بما غاب فهو بما حضر محيط ، إذ علمه تعالى لا يتفاوت . والجملة الثانية دلت على القدرة النافذة والمشيئة . والجملة الثالثة دلت على الأمر بإفراد من هذه صفاته بالعبادة الجسدية والقلبية ، والعبادة أولى الرتب التي يتحلى بها العبد . والجملة الرابعة دلت على الأمر بالتوكل ، وهي آخرة الرتب ، لأنه بنور العبادة أبصر أنّ جميع الكائنات معذوقة باللّه تعالى

وأنه هو المتصرف وحده في جميعها ، لا يشركه في شيء منها أحد من خلقه ، فوكل نفسه إليه تعالى ، ورفض سائر ما يتوهم أنه سبب في شيء منها . والجملة الخامسة تضمنت التنبيه على المجازاة ، فلا يضيع طاعة مطيع ولا يهمل حال متمرد .

وقرأ الصاحبان ، وحفص ، وقتادة ، والأعرج ، وشيبة ، وأبو جعفر ، والجحدري : تعملون بتاء الخطاب ، لأنّ قبله اعملوا على مكانتكم .

وقرأ باقي السبعة : بالياء على الغيبة ، واختلف عن الحسن وعيسى بن عمر .

﴿ ٠