٥

{أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } : نزلت في الأخنس بن شريق ، كان يجالس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ويحلف أنه ليحبه ويضمر خلاف ما يظهر قاله ابن عباس . وعنه أيضاً : في ناس كانوا يستحيون أن يفضوا إلى السماء في الخلاء ومجامعة النساء .

وقيل : في بعض المنافقين ، كان إذا مر بالرسول صلى اللّه عليه وسلم ثنى صدره وظهره وطأطأ رأسه وغطى وجهه كي لا يرى الرسول قاله : عبد اللّه بن شدّاد .

وقيل : في طائفة قالوا إذا أغلقنا أبوابنا ، وأرخينا ستورنا ، واستغشينا ثيابنا ، وثنينا صدورنا ، على عداوته كيف يعلم بنا ؟ ذكره الزجاج .

وقيل : فعلوا ذلك ليبعد عليهم صوت الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، ولا يدخل أسماعهم القرآن ذكره ابن الأنباري . ويثنون مضارع ثنى قراءة الجمهور .

وقرأ سعيد بن جبير : يثنون بضم الياء مضارع أثنى صدورهم بالنصب . قال صاحب اللوامح : ولا يعرف الاثناء في هذا الباب إلا أن يراد به وجدتها مثنية مثل أحمدته وأمجدته ، ولعله فتح النون وهذا مما فعل بهم ، فيكون نصب صدورهم بنزع الجار ، ويجوز على ذلك أن يكون صدورهم رفعاً على البدل بدل البعض من الكل . وقال أبو البقاء : ماضية أثنى ، ولا يعرف في اللغة إلا أن يقال معناه : عرضوها للاثناء ، كما يقال : أبعت الفرس إذا عرضته للبيع .

وقرأ ابن عباس ، وعلي بن الحسين ، وابناه زيد ومحمد ، وابنه جعفر ، ومجاهد ، وابن يعمر ، ونصر بن عاصم ، وعبد الرحمن بن ابزي ، والجحدري ، وابن أبي إسحاق ، وأبو الأسود الدؤلي ، وأبو رزين ، والضحاك : تثنوني بالتاء مضارع اثنوني على وزن افعوعل نحو اعشوشب المكان صدورهم بالرفع ، بمعنى تنطوي صدورهم .

وقرأ أيضاً ابن عباس ، ومجاهد ، وابن يعمر ، وابن أبي إسحاق : يثنوني بالياء صدورهم بالرفع ، ذكر على معنى الجمع دون الجماعة .

وقرأ ابن عباس أيضاً ليثنون بلام التأكيد في خبر إنْ ، وحذف الياء تخفيفاً وصدورهم رفع .

وقرأ ابن عباس أيضاً ، وعروة ، وابن أبي أبزي ، والأعشى : يثنون ووزنه يفعوعل من الثن ، بنى منه افعوعل وهو ما هش وضعف من الكلأ ، وأصله يثنونن يريد مطاوعة نفوسهم للشيء ، كما ينثني الهش من النبات . أو أراد ضعف إيمانهم ومرض قلوبهم وصدورهم بالرفع .

وقرأ عروة ومجاهد أيضاً : كذلك إلا أنه همز فقرأ يثنئن مثل يطمئن ، وصدورهم رفع ، وهذه مما استثقل فيه الكسر على الواو كما قيل : أشاح . وقد قيل أن يثنئن يفعئل من الثن . المتقدّم ، مثل تحمارّ وتصفارّ ، فحركت الألف لالتقائهما بالكسر ، فانقلبت همزة .

وقرأ الأعشى : يثنؤون مثل يفعلون مهموز اللام ، صدورهم بالنصب . قال صاحب اللوامح : ولا أعرف وجهه لأنه يقال : ثنيت ، ولم أسمع ثنأت . ويجوز أنه قلب الياء ألفاً على لغة من يقول : أعطأت في أعطيت ، ثم همز على لغة من يقول :{ وَلاَ الضَّالّينَ }

وقرأ ابن عباس : يثنوي بتقديم الثاء على النون ، وبغير نون بعد الواو على وزن ترعوي . قال أبو حاتم : وهذه القراءة غلط لا تتجه انتهى . وإنما قال ذلك لأنه لاحط الواو في هذا الفعل لا يقال : ثنوته فانثوى كما يقال : رعوته أي كففته فارعوى فانكف ، ووزنه أفعل .

وقرأ نضير بن عاصم ، وابن يعمر ، وابن أبي إسحاق : يثنون بتقديم النون على الثاء ، فهذه عشر قراءات في هذه الكلمة . والضمير في أنهم عائد على بعض من بحضرة الرسول صلى اللّه عليه وسلم من الكفار أي : يطوون صدورهم على عدوانه .

قال الزمخشري : يثنون صدورهم يزوّرون عن الحق وينحرفون عنه ، لأنّ من أقبل على الشيء استقبله بصدره ، ومن ازورّ عنه وانحرف ثنى عنه صدره وطوى عنه كشحه ليستخفوا منه ، يعني : ويريدون ليستخفوا من اللّه ، فلا يطلع رسوله والمؤمنين على ازورارهم . ونظير إضمار يريدون ، لعود المعنى إلى إضماره الإضمار في قوله تعالى :{ أَنِ اضْرِب بّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ } معناه : فضرب فانفلق . ومعنى ألا حين : يستغشون ثيابهم ويريدون الاستخفاء حين يستغشون ثيابهم أيضاً كراهة لاستماع كلام اللّه كقول نوح عليه السلام :{ جَعَلُواْ أَصَابِعَهُمْ فِى وَاسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّواْ } انتهى . فالضمير في منه على قوله عائد على اللّه ، قال

ابن عطية : وهذا هو الأفصح الأجزل في المعنى انتهى . ويظهر من بعض أسباب النزول أنه عائد على الرسول صلى اللّه عليه وسلم كما قال ابن عطية . قال : قيل : إنّ هذه الآية نزلت في الكفار الذين كانوا إذا لقيهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تطامنوا وثنوا صدورهم كالمتستر ، وردّوا إليه ظهورهم ، وغشوا وجوههم بثيابهم تباعداً منهم وكراهية للقائه ، وهم يظنون أنّ ذلك يخفى عليه أو عن اللّه تعالى فنزلت الآية انتهى . فعلى هذا يكون ليستخفوا متعلقاً بقوله يثنون ، وكذا قال الحوفي .

وقيل : هي استعارة للغل ، والحقد الذي كانوا ينطون عليه كما تقول : فلان يطوي كشحه على عداوته ، ويثني صدره عليها ، فمعنى الآية : ألا أنهم يسرون العداوة ويتكتمون لها ، ليخفي في ظنهم عن اللّه عز وجل ، وهو تعالى حين تغشيهم بثيابهم وإبلاغهم في التستر يعلم ما يسرون انتهى . فعلى هذا يكون حين معمولاً لقوله : يعلم ، وكذا قاله الحوفي لا للمضمر الذي قدره الزمخشري وهو قوله : ويريدون الاستخفاء حين يستغشون ثيابهم . وقال أبو البقاء : ألا حين العامل في الظرف محذوف أي : ألا حين يستغشون ثيابهم يستخفون ، ويجوز أن يكون ظرفاً ليعلم .

وقيل : كان بعضهم ينحني على بعض ليساره في الطعن على المسلمين ، وبلغ من جهلهم أنّ ذلك يخفى على اللّه تعالى . قال قتادة : أخفى ما يكون إذا حتى ظهره واستغشى ثوبه ، وأضمر في نفسه همته . وقال مجاهد : يطوونها على الكفر .

وقال ابن عباس : يخفون ما في صدورهم من الشحناء . وقال قتادة : يخفون ليسمعوا كلام اللّه . وقال ابن زيد : يكتمونها إذا ناجى بعضاً في أمر الرسول صلى اللّه عليه وسلم.

وقيل : يثنونها حياءً من اللّه تعالى ، ومعنى يستغشون : يجعلونها أغشية . ومنه قول الخنساء : أرعى النجوم وما كلفت رعيتها

وتارة أتغشى فضل أطماري

وقيل : المراد بالثياب الليل ، واستعيرت له لما بينهما من العلاقة بالستر ، لأن الليل يستر كما تستر الثياب ومنه قولهم : الليل أخفى للويل ،

وقرأ ابن عباس : على حين يستغشون .

قال ابن عطية : ومن هذا الاستعمال قول النابغة : على حين عاتبت المشيب على الصبا

وقلت ألما أصح والشيب وازع

انتهى .

وقال ابن عباس : ما يسرون بقلوبهم ، وما يعلنون بأفواههم .

وقيل : ما يسرون بالليل وما يعلنون بالنهار . وقال ابن الأنباري : معناه أنه يعلم سرائرهم كما يعلم مظهرانهم .

وقال الزمخشري : يعني أنه لا تفاوت في علمه بين إسرارهم وإعلانهم ، فلا وجه لتوصلهم إلى ما يريدون من الاستخفاء واللّه مطلع على ثنيهم صدورهم ، واستغشائهم بثيابهم ، ونفاقهم غير نافق عنده . وقال صاحب التحرير : الذي يقتضيه سياق الآية أنه أراد بما يسرون ما انطوت عليه صدورهم من الشرك والنفاق والغل والحسد والبغض للنبي صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه ، لأنّ ذلك كله من أعمال

القلوب ، وأعمال القلوب خفيه جدًّا ، وأراد بما يعلنون ما يظهرونه من استدبارهم النبي صلى اللّه عليه وسلم وتغشيه ثيابهم ، وسدّ آذانهم وهذه كلها أعمال ظاهرة لا تخفى .

﴿ ٥