٨

{وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُمْ مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ } : لما ذكر تعالى ما يدل على كونه تعالى عالماً ، ذكر ما يدل على كونه قادراً ، وتقدّم تفسير الجملة الأولى في سورة يونس . والظاهر أنّ قوله : وكان عرشه على الماء ، تقديره قبل خلق السموات والأرض ، وفي هذا دليل على أنّ الماء والعرش كانا مخلوقين قبل . قال كعب : خلق اللّه ياقوتة خضراء فنظر إليها بالهيبة فصارت ماء ، ثم خلق الريح فجعل الماء على متنها ، ثم وضع العرش على الماء . وروي عن ابن عباس أنه وقد قيل له : على أي شيء كان الماء ؟ قال : كان على متن الريح ، والظاهر تعليق ليبلوكم بخلق .

قال الزمخشري : أي خلقهن لحكمة بالغة ، وهي أنْ يجعلها مساكن لعباده ، وينعم عليهم فيها بفنون النعم ، ويكلهم فعل الطاعات واجتناب المعاصي ، فمن شكر وأطاع أثابه ، ومن كفر وعصى عاقبه . ولما أشبه ذلك اختبار المختبر قال : ليبلوكم ، يريد ليفعل بكم ما يفعل المبتلي لأحوالكم كيف تعملون . { فإن قلت} : كيف جاز تعليق فعل البلوى ؟ { قلت} : لما في الاختبار من معنى العلم ، لأنه طريق اللّه ، فهو ملابس له كما تقول : انظر أيهم أحسن وجهاً ، واستمع أيهم أحسن صوتاً ، لأنّ النظر والاستماع من طرق العلم انتهى .

وفي قوله : ومن كفر وعصى عاقبه ، دسيسة الاعتزال .

وأما قوله : واستمع أيهم أحسن صوتاً ، فلا أعلم أحداً ذكر أن استمع تعلق ، وإنما ذكروا من غير أفعال القلوب سل وانظر ، وفي جواز تعليق رأي البصرية خلاف .

وقيل : ليبلوكم متعلق بفعل محذوف تقديره أعلم بذلك ليبلوكم ، ومقصد هذا التأوي أنّ هذه المخلوقات لم تكن بسبب البشر .

وقيل : تقدير الفعل ، وخلقكم ليبلوكم .

وقيل : في الكلام جمل محذوفة ، التقدير : وكان خلقه لهما لمنافع يعود عليكم نفعها في الدنيا دون الأخرى ، وفعل ذلك ليبلوكم . ومعنى أيكم أحسن عملاً : أهذا أحسن أم هذا . قال ابن بحر : روي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم { أيكم أحسن عقلاً ، وأورع عن محارم اللّه ، وأسرع في طاعة اللّه} ولو صح هذا التفسير عن الرسول صلى اللّه عليه وسلم لم يعدل عنه . وقال الحسن : أزهد في اللّه . وقال مقاتل : أتقى للّه . وقال الضحاك : أكثركم شكراً .

قال الزمخشري{ فإن قلت } : فكيف قيل : أيكم

أحسن عملاً وأعمال المؤمنين هي التي تتفاوت إلى حسن وأحسن ، فأما أعمال المؤمنين والكافرين فتفاوتهما إلى حسن وقبيح ؟ { قلت} : الذين هم أحسن عملاً هم المتقون ، وهم الذين استبقوا إلى تحصيل ما هو غرض اللّه منن عباده ، فخصهم بالذكر ، واطرح ذكر من وراءهم تشريفاً لهم وتنبيهاً على مكانهم ، وليكون ذلك تيقظاً للسامعين وترغيباً في حيازة فضلهم انتهى . ولئن قلت ، خطاب للرسول صلى اللّه عليه وسلم.

وقرأ عيسى الثقفي : ولئن قلت بضم التاء إخباراً عنه تعالى ، والمعنى : ولئن قلت مستدلاً على البعث من بعد الموت ، إذ في قوله تعالى : وهو الذي خلق ، دلالة على القدرة : العظيمة ، فمتى أخبر بوقوع ممكن وقع لا محالة ، وقد أخبر بالبعث فوجب قبوله وتيقن وقوعه . وقرىء : أيكم بفتح الهمزة .

قال الزمخشري : ووجهه أن يكون من قولهم : ائت السوق إنك تشتري لحماً ، بمعنى علك أي : ولئن قلت لهم لعلكم مبعوثون بمعنى توقعوا بعثكم وظنوه ، لأثبتوا القول بإنكاره لقالوا : ويجوز أن يضمن . قلت معنى ذكرت انتهى يعني : فبفتح الهمزة لأنها في موضع مفعول ذكرت ، والظاهر الإشارة بهذا إلى القول أي : إن قولك إنكم مبعوثون إلا سحر أي بطلان هذا القول كبطلان السحر ، ويحتمل أن يكون إشارة إلى ما دلت عليه الجملة من البعث . أي : إن البعث .

وقيل : أشاروا بهذا إلى القرآن ، وهو الناطق بالبعث ، فإذا جعلوه سحراً فقد اندرج تحته إنكار ما فيه من البعث وغيره .

قال ابن عطية : كذبوا وقالوا : هذا سحر ، فهذا تناقض منهم إن كان مفطوراً بقربات اللّه فاطر السموات والأرض فهو من جملة المقرب بهذا ، وهم مع ذلك ينكرون ما هو أيسر منه بكثير وهو البعث من القبور ، إذ البداءة أعسر من الإعادة ، وإذ خلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس انتهى .

وقرأ الحسن ، والأعرج ، وأبو جعفر ، وشيبة ، وفرقة من السبعة : سحر . وقرأت فرقة : ساحر ، يريدون والساحر كاذب مبطل ، ولئن أخرنا حكى تعالى نوعاً آخر من أباطيلهم واستهزائهم ، والعذاب هنا عذاب القيامة .

وقيل : عذاب يوم بدر .

وعن ابن عباس : قتل جبريل المستهزئين ، والظاهر العذاب الموعود به ، والأمّة هنا المدة من الزمان قاله : ابن عباس ، وقتادة ، ومجاهد ، والجمهور ، ومعناه : إلى حين . ووقت معلوم ما يحبسه استفهام ، قالوه وهو على سبيل التكذيب والاستهزاء . قال الطبري : سميت المدة أمة ، لأنها يقضي فيها أمة من الناس وتحدث أخرى ، فهي على هذا المدة الطويلة ، ثم استفتح الأخبار بأنه يوم لا يردّه شيء ولا يصرفه . والظاهر أنّ يوم منصوب بقوله : مصروفاً ، فهو معمول لخبر ليس . وقد استدل به على جواز تقديم خبر ليس عليها قالوا : لأن تقدم المعمول يؤذن بتقدم العامل ، ونسب هذا المذهب لسيبويه ، وعليه أكثر البصريين . وذهب الكوفيون والمبرد : إلى أنه لا يجوز ذلك ، وقالوا : لا يدل جواز تقدم المعمول على جواز تقدم العامل . وأيضاً فإنّ الظرف المجرور يتسع فيهما ما لا يتسع في غيرهما ، ويقعان حيث لا يقع العامل فيهما نحو : إن اليوم زيداً مسافر ، وقد تتبعت جملة من دواوين العرب فلم أظفر بتقدم خبر ليس عليها ، ولا بمعموله ، إلا ما دل عليه ظاهر هذه الآية ، وقول الشاعر : فيأبى فما يزداد إلا لجاجه

وكنت أبياً في الخفا لست أقدم

وتقدم تفسير جملة وحاق بهم .

﴿ ٨