سورة يوسف

مائة وإحدى عشرة آية مكية

بسم اللّه الرحمن الرحيم

١

الر تلك آيات . . . . .

الطرح للشيء رميه وإلقاؤه ، وطرح عليه الثوب ألقاه ، وطرحت الشيء أبعدته ومنه قول عروة بن الورد : ومن يك مثلي ذا عيال ومقترا

من المال يطرح نفسه كل مطرح والنوى : الطروح البعيدة . الجب : الركية التي لم تطو ، فإذا طويت فهي بئر . قال الأعشى :

لئن كنت في جب ثمانين قامة ورقيت أسباب السماء بسلم

ويجمع على جبب وجباب وأجباب ، وسمى جباً لأنه قطع في الأرض ، من جببت أي قطعت . الالتقاط : تناول الشيء من الطريق ، يقال : لقطه والتقطه . وقال : ومنهل لقطته التقاطاً . ومنه : اللقطة واللقيط .

ارتعى افتعل من الرعي بمعنى المراعاة وهي الحفظ للشيء ، أو من الرعي وهو أكل الحشيش والنبات ، يقال : رعت الماشية الكلأ ترعاه رعياً أكلته ، والرعي بالكسر الكلأ ، ومثله ارتعى . قال الأعشى : ترتعي السفح فالكثيب فذاقا

رفروض القطا فذات الرمال

رتع أقام في خصب وتنعم ، ومنه قول الغضبان بن القبعثري : القيد ، والمتعة ، وقلة الرتعة . وقول الشاعر : أكفراً بعد رد الموت عني

وبعد عطائك المائة الرتاعا

الذئب : سبع معروف ، وليس في صقعنا الأندلسي ، ويجمع على أذؤب وذئاب وذؤبان قال : وأزور يمطوفي بلاد بعيدة

تعاوى به ذؤبانه وثعالبه

وأرض مذأبة كثيرة الذئاب ، وتذاءبت الريح جاءت من هنا ومن هنا ، فعل الذئب ومنه الذؤابة من الشعر لكونها تنوس إلى هنا وإلى هنا . الكدب بالدال المهملة الكدر ،

وقيل : الطري . سول من السول ، ومعناه سهل ،

وقيل : زين . أدلى الدلو أرسلها ليملأها ، ولادها يدلوها جذبها وأخرجها من البئر . قال : لا تعقلواها وادلواها دلواً . والدهر معروف ، وهي مؤنثة فتصغر على دليته ، وتجمع على أدل ودلاء ودلى . البضاعة : القطعة من المال تجعل للتجارة ، من بضعته إذا قطعته ، ومنه المبضع . المراودة الطلب برفق ولين القول ، والرود التأني يقال : أرودني أمهلني ، والريادة طلب النكاح . ومشى رويداً أي برفق أغلق الباب وأصفده وأقفله بمعنى . وقال الفرزدق : ما زالت أغلق أبواباً وأفتحها

حتى أتيت أبا عمرو بن عمار

هيت اسم فعل بمعنى أسرع . قد الثوب : شقه . السيد فيعل من ساد يسود ، يطلق على المالك ، وعلى رئيس القوم . وفيعل بناء مختص بالمعتل ، وشذ بيئس وصيقل اسم امرأة . السجن : الحبس .

٢

{الر تِلْكَ ءايَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْانًا عَرَبِيّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } : هذه السورة مكية كلها .

وقال ابن عباس وقتادة : إلا ثلاث آيات من أولها . وسبب نزولها أن كفار مكة أمرتهم اليهود أن يسألوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن السبب الذي أحل بني إسرائيل بمصر فنزلت .

وقيل : سببه تسلية الرسول صلى اللّه عليه وسلم عما كان يفعل به قومه بما فعل أخوة يوسف به .

وقيل : سألت اليهود رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يحدثهم أمر يعقوب وولده ، وشأن يوسف . وقال سعد بن أبي وقاص : أنزل القرآن فتلاه عليهم زماناً فقالوا : يا رسول اللّه لو قصصت علينا ، فنزلت .

ووجه مناسبتها لما قبلها وارتباطها أن في آخر السورة التي قبلها :{ وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبّتُ بِهِ فُؤَادَكَ } وكان في تلك الأنباء المقصوصة فيها ما لاقى الأنبياء من قومهم ، فاتبع ذلك بقصة يوسف ، وما لاقاه من أخوته ، وما آلت إليه حاله من حسن العاقبة ، ليحصل للرسول صلى اللّه عليه وسلم التسلية الجامعة لما يلاقيه من أذى البعيد والقريب . وجاءت هذه القصة مطولة مستوفاة ، فلذلك لم يتكرر في القرآن إلا ما أخبر به مؤمن آل فرعون في سورة غافر . والإشارة بتلك آيات إلى الر وسائر حروف المعجم التي تركبت منها آيات القرآن ، أو إلى التوراة والإنجيل ، أو الآيات التي ذكرت في سورة هود ، أو إلى آيات السورة . والكتاب المبن السورة أي : تلك الآيات التي أنزلت إليك في هذه السورة أقوال . والظاهر أنّ المراد بالكتاب القرآن . والمبين إما البين في نفسه الظاهر أمره في إعجاز العرب وتبكيتهم ،

وإما المبين الحلال والحرام والحدود والأحكام وما يحتاج إليه من

أمر الدين ، قاله : ابن عباس ومجاهد ، أو المبين الهدى والرشد والبركة قاله قتادة ، أو المبين ما سألت عنه اليهود ، أو ما أمرت أن يسأل من حال انتقال يعقوب من الشام إلى مصر وعن قصة يوسف ، أو المبين من جهة بيان اللسان العربي وجودته ، إذ فيه ستة أحرف لم تجمع في لسان ، روي هذا عن معاذ بن جبل .

قال المفسرون : وهي الطاء ، والظاء ، والضاد ، والصاد ، والعين ، والخاء انتهى . والضمير في إنا أنزلناه ، عائد على الكتاب الذي فيه قصة يوسف ،

وقيل : على القرآن ،

وقيل : على نبأ يوسف ، قاله الزجاج وابن الأنباري .

وقيل : هو ضمير الإنزال . وقرآناً هو المطعوف به ، وهذان ضعيفان . وانتصب قرآناً ، قيل : على البدل من الضمير ،

وقيل على الحال الموطئة . وسمي القرآن قرآناً لأنه اسم جنس يقع على القليل والكثير ، وعربياً منسوب إلى العرب . والعرب جمع عربي ، كروم ورومي ، وعربة ناحية دار إسماعيل بن إبراهيم عليهما الصلاة والسلام . قال الشاعر : وعربة أرض ما يحل حرامها

من الناس إلا اللوذعي الحلاحل

ويعني النبي صلى اللّه عليه وسلم أحلت له مكة . وسكن راء عربة الشاعر ضرورة . قيل : وإن شئت نسبت القرآن إليها ابتداء أي : على لغة أهل هذه الناحية . لعلكم تعقلون ما تضمن من المعاني ، واحتوى عليه من البلاغة والإعجاز فتؤمنون ، إذ لو كان بغير العربية لقيل : { لَوْلاَ فُصّلَتْ ءايَاتُهُ}

٣

انظر تسفير الآية:٦

٤

انظر تسفير الآية:٦

٥

 انظر تسفير الآية:٦

٦

{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَاذَا الْقُرْءانَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ... } : القصص : مصدر قص ، واسم مفعول إما لتسميته بالمصدر ، وأما لكون الفعل يكون للمفعول ، كالقبض والنقص . والقصص هنا يحتمل الأوجه الثلاثة . فإن كان المصدر فالمراد بكونه أحسن أنه اقتص على أبدع طريقة ، وأحسن أسلوب . ألا ترى أنّ هذا الحديث مقتص في كتب الأولين ، وفي كتب التواريخ ، ولا ترى اقتصاصه في كتاب منها مقارباً لاقتصاصه في القرآن ، وإن كان المفعول فكان أحسنه لما يتضمن من العبر والحكم والنكت والعجائب التي ليستفي غيره . والظاهر أنه أحسن ما يقص في بابه كما يقال للرجل : هو أعلم الناس وأفضلهم ، يراد في فنه .

وقيل : كانت هذه السورة أحسن القصص لانفرادها عن سائرها بما فيها من ذكر الأنبياء ، والصالحين ، والملائكة ، والشياطين ، والجن ، والإنس ، والأنعام ، والطير ، وسير الملوك ، والممالك ، والتجار ، والعلماء ، والرجال ، والنساء وكيدهن ومكرهن ، مع ما فيها من ذكر التوحيد ، والفقه ، والسير ، والسياسة ، وحسن الملكة ، والعفو عند المقدرة ، وحسن المعاشرة ، والحيل ، وتدبير المعاش ، والمعاد ، وحسن العاقبة ، في العفة ، والجهاد ، والخلاص من المرهوب إلى المرغوب ، وذكر الحبيب والمحبوب ، ومرأى السنين وتعبير الرؤيا ، والعجائب التي تصلح للدين والدنيا .

وقيل : كانت أحسن القصص لأنّ كل من ذكر فيها كان مآله إلى السعادة . انظر إلى يوسف وأبيه وأخوته وامرأة العزيز والملك أسلم بيوسف وحسن إسلامه . ومعبر الرؤيا الساقي ، والشاهد فما يقال .

وقيل : أحسن هنا ليست أفعل التفضيل ، بل هي بمعنى حسن ، كأنه قيل : حسن القصص ، من باب إضافة الصفة إلى الموصوف أي : القصص الحسن . وما في بما أوحينا مصدرية أي : بإيحائنا . وإذا كان القصص مصدراً فمفعول نقص من حيث المعنى هو هذا القرآن ، إلا أنه من باب الإعمال ، إذ تنازعه نقص . وأوحينا فاعمل الثاني على الأكثر ، والضمير في من قبله يعود على الإيحاء . وتقدمت مذاهب النحاة في أن المخففة ومجيء اللام في ثاني الجزءين . ومعنى من الغافلين : لم يكن لك شعور

بهذه القصة ، ولا سبق لك علم فيها ، ولا طرق سمعك طرف منها . والعامل في إذ

قال الزمخشري وابن عطية : اذكر . وأجاز الزمخشري أن تكون بدلاً من أحسن القصص قال : وهو بدل اشتمال ، لأن الوقت يشتمل على القصص وهو المقصوص ، فإذا قص وقته فقد قص . و

قال ابن عطية : ويجوز أن يعمل فيه نقص كان المعنى : نقص عليك الحال ، إذ وهذه التقديرات لا تتجه حتى تخلع إذ من دلالتها على الوقت الماضي ، وتجرد للوقت المطلق الصالح للأزمان كلها على جهة البدلية .

وحكى مكي أنّ العامل في إذ الغافلين ، والذي يظهر أن العامل فيه قال : يا بني ، كما تقول : إذ قام زيد قام عمر ، وتبقى إذ على وضعها الأصلي من كونها ظرفاً لما مضى . ويوسف اسم عبراني ، وتقدمت ست لغات فيه . ومنعه الصرف دليل على بطلان قول من ذهب إلى أنه عربي مشتق من الأسف ، وإن كان في بعض لغاته يكون فيه الوزن الغالب ، لامتناع أن يكون أعجمياً غير أعجمي .

وقرأ طلحة بن مصرف بالهمز وفتح السين .

وقرأ ابن عامر ، وأبو جعفر ، والأعرج : يا أبت بفتح التاء ، وباقي السبعة والجمهور بكسرها ، ووقف الابنان عليها بالهاء ، وهذه التاء عوض من ياء الإضافة فلا يجتمعان ، وتجامع الألف التي هي بدل من التاء قال : يا أبتا علك أو عساكا . ووجه الاقتصار على التاء مفتوحة أنه اجتزأ بالفتحة عن الألف ، أو رخم بحذف التاء ، ثم أقحمت قاله أبو علي . أو الألف في أبتا للندبة ، فحذفها قاله : الفراء ، وأبو عبيد ، وأبو حاتم ، وقطرب . ورد بأنه ليس موضع ندبة أو الأصل يا أبة بالتنوين ، فحذف والنداء ناد حقف قاله قطرب ، ورد بأنّ التنوين لا يحذف من المنادي المنصوب نحو : يا ضارباً رجلاً ، وفتح أبو جعفر ياء إني .

وقرأ الحسن ، وأبو جعفر ، وطلحة بن سليمان : أحد عشر بسكون العين لتوالي الحركات ، وليظهر جعل الاسمين اسماً واحداً ورأيت هي حلمية لدلالة متعلقها على أنه منام ، والظاهر أنه رأى في منامه كواكب الشمس والقمر .

وقيل : رأى إخوته وأبويه ، فعبر عنهم بذلك ، وعبر عن الشمس عن أمه .

وقيل : عن خالته راحيل ، لأنّ أمه كانت ماتت . ومن حديث جابر بن عبد اللّه : أن يهودياً جاء إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال : يا محمد أخبرني عن أسماء الكواكب التي رآها يوسف ، فسكت عنه ، ونزل جبريل فأخبره بأسمائها ، فدعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اليهودي فقال : هل أنت مؤمن إن أخبرتك بذلك ؟ فقال : نعم . قال : جريان ، والطارق ، والذيال ، وذو الكتفين ، وقابس ، ووثاب ، وعمودان ، والفليق ، والمصبح ، والضروح ، والفرغ ، والضياء ، والنور . فقال اليهودي : أي واللّه إنها لأسماؤها . وذكر السهيلي مسنداً إلى الحرث بن أبي أسامة فذكر الحديث ، وفيه بعض اختلاف ، وذكر النطح عوضاً عن المصبح . وعن وهب أن يوسف رأى وهو ابن سبع سنين أن إحدى عشرة عصاً طوالاً كانت مركوزة في الأرض كهيئة الدارة ، وإذا عصا صغيرة تثب عليها حتى اقتلعتها وغلبتها ، فوصف ذلك لأبيه فقال : إياك أن تذكر هذا لإخوتك ، ثم رأى وهو ابن ثنتي عشرة سنة الشمس والقمر والكواكب سجوداً له

فقصها على أبيه فقال له : لا تقصها عليهم فيبغوا لك الغوائل ، وكان بين رؤيا يوسف ومسير أخوته إليه أربعون سنة ،

وقيل : ثمانون . وروي أن رؤيا يوسف كانت ليلة القدر ليلة جمعة . والظاهر أنّ الشمس والقمر ليسا مندرجين في الأحد عشر كوكباً ، ولذلك حين عدهما الرسول لليهودي ذكر أحد عشر كوكباً غير الشمس والقمر ، ويظهر من كلام الزمخشري أنهما مندرجان في الأحد عشر .

قال الزمخشري{ فإن قلت } : لم أخر الشمس والقمر ؟ { قلت} : أخرهما ليعطفهما على الكواكب على طريق الاختصاص إثباتاً لفضلهما ، واستبدادهما بالمزية على غيرهما من الطوالع ، كما أخر جبريل وميكائيل عن الملائكة ثم عطفهما عليهما . لذلك ويجوز أن تكون الواو بمعنى مع ، أي : رأيت الكواكب مع الشمس والقمر انتهى . والذي يظهر أن التأخير إنما هو من باب الترقي من الأدنى إلى الأعلى ، ولم يقع الترقي في الشمس والقمر جرياً على ما استقر في القرآن من أنه إذا اجتمعا قدمت عليه .

قال تعالى : { الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ } وقال : وجمع الشمس والقمر { هُوَ الَّذِى جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً } وقدمت عليه لسطوع نورها وكبر جرمها وغرابة سيرها ، واستمداده منها ، وعلو مكانها . والظاهر أنّ رأيتهم كرر على سبيل التوكيد للطول بالمفاعيل ، كما كرر إنكم في قوله { أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ } لطول الفصل بالظرف وما تعلق به .

وقال الزمخشري: { فإن قلت } : ما معنى تكرار رأيتهم ؟ { قلت} : ليس بتكرار ، إنما هو كلام مستأنف على تقدير سؤال وقع جواباً له ، كان يعقوب عليه السلام قال له عند قوله : إني رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر ، كيف رأيتها سائلاً عن حال رؤيتها ؟ فقال : رأيتهم لي ساجدين انتهى . وجمعهم جمع من يعقل ، لصدور السجود له ، وهو صفة من يعقل ، وهذا سائغ في كلام العرب ، وهو أنْ يعطي الشيء حكم الشيء للاشتراك في وصف ما ، وإن كان ذلك الوصف أصله أن يخص أحدهما . والسجود : سجود كرامة ، كما سجدت الملائكة لآدم .

وقيل : كان في ذلك الوقت السجود تحية بعضهم لبعض . ولما خاطب يوسف أباه بقوله : يا أبت ، وفيه إظهار الطواعية والبر والتنبيه على محل الشفقة بطبع الأبوة خاطبه أبوه بقوله : يا بني ، تصغير التحبيب والتقريب والشفقة .

وقرأ حفص هنا وفي لقمان ، والصافات : يا بني بفتح الياء . وابن كثير في لقمان { يَعِظُهُ يابُنَىَّ لاَ تُشْرِكْ } وقنبل يا بنيْ أقمْ بإسكانها ، وباقي السبعة بالكسر .

وقرأ زيد بن علي : لا تقص مدغماً ، وهي لغة تميم ، والجمهور بالفك وهي لغة الحجاز . والرؤيا مصدر كالبقيا .

وقال الزمخشري : الرؤيا بمعنى الرؤية ، إلا أنها مختصة بما كان في النوم دون اليقظة ، فرق بينهما بحر في التأنيث كما قيل : القربة والقربى انتهى .

وقرأ الجمهور : رؤياك والرؤيا حيث وقعت بالهمز من غير إمالة .

وقرأ الكسائي : بالإمالة وبغير الهمز ، وهي لغة أهل الحجاز .

وإخوة يوسف : هم كاذ ، وبنيامين ، ويهوذا ، ونفتالي ، وزبولون ، وشمعون ، وروبين ، ويقال باللام كجبريل ، وجبرين ، ويساخا ، ولاوي ، وذان ، وياشير ، فيكيدوا لك : منصوب بإضمار أنْ على جواب النهي ، وعدي فيكيدوا باللام ، وفي { فكيدون} بنفسه ، فاحتمل أن يكون من باب شكرت زيداً وشكرت لزيد ، واحتمل أن يكون من باب التضمين ، ضمّن فيكيدوا معنى ما يتعدى باللام ، فكأنه قال : فيحتالوا لك بالكيد ، والتضمين أبلغ لدلالته على معنى الفعلين ، وللمبالغة أكد بالمصدر . ونبه يعقوب على سبب الكيد وهو : ما يزينه الشيطان للإنسان ويسوله له ، وذلك للعداوة التي بينهما ، فهو يجتهد دائماً أنْ يوقعه في المعاصي ويدخله فيها ويحضه عليها ، وكان يعقوب دلته رؤيا يوسف عليهما السلام على أنّ اللّه تعالى يبلغه مبلغاً من الحكمة ، ويصطفه للنبوة ، وينعم عليه بشرف الدارين كما فعل بآبائه ، فخاف عليه من حسد إخوته ، فنهاه من أن يقص رؤياه لهم . وفي خطاب يعقوب ليوسف تنهيه عن أن يقص على إخوته مخافة كيدهم ، دلالة على تحذير المسلم أخاه المسلم ممن يخافه عليه ، والتنبيه على بعض ما لا يليق ، ولا يكون ذلك داخلاً في باب الغيبة . وكذلك يجتبيك ربك أي :

مثل ذلك الاجتباء ، وهو ما أراه من تلك الرؤيا التي دلت على جليل قدره ، وشريف منصبه ، ومآله إلى النبوة والرسالة والملك . ويجتبيك : يختارك ربك للنبوة والملك . قال الحسن : للنبوة ، وقال مقاتل : للسجود لك ،

وقال الزمخشري : لأمور عظام . ويعلمك من تأويل الأحاديث كلام مستأنف ليس داخلاً في التشبيه ، كأنه قال : وهو يعلمك . قال مجاهد والسدي : تأويل الأحاديث عبارة الرؤيا . وقال الحسن : عواقب الأمور ،

وقيل : عامة لذلك ولغيره من المغيبات ، وقال مقاتل : غرائب الرؤيا ، وقال ابن زيد : العلم والحكمة .

وقال الزمخشري : الأحاديث الرؤى ، لأن الرؤى إما حديث نفس أو ملك أو شيطان ، وتأويلها عبارتها وتفسيرها ، فكان يوسف عليه السلام أعبر الناس للرؤيا وأصحهم عبارة . ويجوز أن يراد بتأويل الأحاديث معاني كتب اللّه وسير الأنبياء ، وما غمض واشتبه على الناس في أغراضها ومقاصدها ، يفسرها لهم ويشرحها ، ويدلهم على مودعات حكمها . وسميت أحاديث لأنها تحدث بها عن اللّه ورسله فيقال : قال اللّه : وقال الرسول : كذا وكذا . ألا ترى إلى قوله : { فَبِأَيّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ }{ اللّه نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ } كتاباً وهي اسم جمع للحديث ، وليس بجمع أحدوثة انتهى . وليس باسم جمع كما ذكر ، بل هو جمع تكسير لحديث على غير قياس ، كما قالوا : أباطل وأباطيل ، ولم يأت اسم جمع على هذا الوزن . وإذا كانوا يقولون في عباديد ويناذير أنهما جمعا تكسير ولم يلفظ لهما بمفرد ، فكيف لا يكون أحاديث وأباطيل جمعي تكسير ؟ .

ويتم نعمته عليك ، وإتمامها بأنه تعالى وصل لهم نعمة الدنيا بأن جعلهم أنبياء وملوكاً ، بنعمة الآخرة بأن نقلهم إلى أعلى الدرجات في الجنة . وقال مقاتل : بإعلاء كلمتك وتحقيق رؤياك ، وقال الحسن : هذا شيء أعلمه اللّه يعقوب من أنه سيعطي يوسف النبوّة .

وقيل : بأن يحوج إخوتك إليك ، فتقابل الذنب بالغفران ، والإساءة بالإحسان .

وقيل : بإنجائك من كل مكروه ، . وآل يعقوب الظاهر أنه أولاده ونسلهم أي : نجعل النبوة فيهم .

وقال الزمخشري : هن نسلهم وغيرهم .

وقيل أهل دينه وأتباعهم ، كما جاء في الحديث : من آلك ؟ فقال :{ كُلٌّ }

وقيل : امرأته وأولاده الأحد عشر .

وقيل : المراد يعقوب نفسه خاصة . وإتمام النعمة على إبراهيم بالخلة ، والإنجاء من النار ، وإهلاك عدوه نمروذ . وعلى إسحاق بإخراج يعقوب والأسباط من صلبه . وسمي الجدو أبا الجد أبوين ، لأنهما في عمود النسب كما قال :{ إِلَاهَكَ وَإِلَاهَ آبَائِكَ } ولهذا يقولون : ابن فلان ، وإن كان بينهما عدة في عمود النسب . إن ربك عليم بمن يستحق الاجتباء ، حكيم يضع الأشياء مواضعها . وهذان الوصفان مناسبان لهذا الوعد الذي وعده يعقوب ويوسف عليهما الصلاة والسلام في قوله : وكذلك يجتبيك ربك قيل : وعلم يعقوب عليه السلام ذلك من دعوة إسحاق عليه السلام حين تشبه له بعيصو .

٧

انظر تسفير الآية:٩

٨

انظر تسفير الآية:٩

٩

{لَّقَدْ كَانَ فِى يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ ءايَاتٌ لّلسَّائِلِينَ إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِى ضَلالٍ مُّبِينٍ اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ } : آيات أي : علامات ودلائل على قدرة اللّه تعالى وحكمته في كل شيء للسائلين من سأل عنهم وعرف قصتهم .

وقيل : آيات على نبوة النبي صلى اللّه عليه وسلم للذين سألوه من اليهود عنها ، فأخبرهم بالصحة من غير سماع من أحد ، ولا قراءة كتاب . والذي يظهر أن الآيات الدلالات على صدق الرسول وعلى ما أظهر اللّه في قصة يوسف من عواقب البغي عليه ، وصدق رؤياه ، وصحة تأويله ، وضبط نفسه وقهرها حتى قام بحق الأمانة ، وحدوث السرور بعد اليأس .

وقيل : المعنى لمن سأل ولمن لم يسأل لقوله :{ سَوَاء لّلسَّائِلِينَ } أي سواء لمن سأل ولمن لم يسأل . وحسن الحذف لدلالة قوة الكلام عليه لقوله :{ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ } أي والبرد . و

قال ابن عطية : وقوله للسائلين ، يقتضي تحضيضاً للناس على تعلم هذه الأنباء لأنه إنما المراد آيات للناس ، فوصفهم بالسؤال ، إذ كل أحد ينبغي أن يسأل عن مثل هذه القصص ، إذ هي مقر العبر والاتعاظ . وتقدم لنا ذكر أسماء أخوة يوسف منقولة من خط الحسين بن أحمد بن القاضي الفاضل عبد الرحيم البياسني ، ونقلها من خط الشريف النقيب النسابة أبى البركات محمد بن أسعد الحسيني الجوّاني محرّرة

بالنقط ، وتوجد في كتب التفسير محرفة مختلفة ، وكان روبيل أكبرهم ، وهو ويهوذا ، وشمعون ، ولاوي ، وزبولون ، ويساخا ، شقائق أمهم ليا بنت ليان بن ناهر بن آزر وهي : بنت خال يعقوب ، وذان ونفتالي ، وكاذوياشير ، أربعة من سريتين كانتا لليا وأختها راحيل ، فوهبتا هما ليعقوب ، فجمع بينهما ولم يحل الجمع بين الأختين لأحد بعده . وأسماء السريتين فيما قيل : ليا ، وتلتا ، وتوقيت أم السبعة فتزوج بعدها يعقوب أختها راحيل ، فولدت له يوسف وبنيامين ، وماتت من نفاسه .

وقرأ مجاهد ، وشبل وأهل مكة ، وابن كثير : آية على الإفراد . والجمهور آيات ، وفي مصحف أبي عُبرة للسائلين مكان آية . والضمير في قالوا عائد على أخوة يوسف وأخوه هو بنيامين ، ولما كانا شقيقين أضافوه إلى يوسف . واللام في ليوسف لام الابتداء ، وفيها تأكيد وتحقيق لمضمون الجملة أي : كثرة حبه لهما ثابت لا شبهة فيه . وأحب أفعل تفضيل ، وهي مبني من المفعول شذوذاً ، ولذلك عدى بإلى ، لأنه إذا كان ما تعلق به فاعلاً من حيث المعنى عدى إليه بإلى ، وإذا كان مفعولاً عدى إليه بفي ، تقول : زيد أحب إلى عمرو من خالد ، فالضمير في أحب مفعول من حيث المعنى ، وعمرو هو المحب . وإذا

قلت : زيد أحب إلى عمرو من خالد ، كان الضمير فاعلاً وعمرو هو المحبوب . ومن خالد في المثال الأول محبوب ، وفي الثاني فاعل ، ولم يبن أحب لتعدّيه بمن . وكان بنيامين أصغر من يوسف ، فكان يعقوب يحبهما بسبب صغرهما وموت أمهما ، وحب الصغير والشفقة عليه مركوز في فطرة البشر .

وقيل لابنة الحسن : أي بنيك أحب إليك ؟ قالت : الصغير حتى يكبر ، والغائب حتى يدم ، والمريض حتى يفيق . وقد نظم الشعراء في محبة الولد الصغير قديماً وحديثاً ، ومن ذلك ما قاله الوزير أبو مروان عبد الملك بن إدريس الجزيري في قصيدته التي بعث بها إلى أولاده وهو في السجن وصغيركم عبد العزيز فإنني

أطوي لفرقته جوي لم يصغر

ذاك المقدم في الفؤاد وإن غدا

كفؤالكم في المنتمي والعنصر

إن البنات الخمس أكفاء معا

والحلى دون جميعها للخنصر

وإذا الفتى بعد الشباب سما له

حب البنين ولا كحب الأصغر

ونحن عصبة جملة حالية أي : تفضلهما علينا في المحبة ، وهما ابنان صغيران لا كفاية فيهما ولا منفعة ، ونحن جماعة عشرة رجال كفاة نقوم بمرافقة ، فنحن أحق بزيادة المحبة منهما . وروى النزال بن سبرة عن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه : ونحن عصبة .

وقيل : معناه ونحن نجتمع عصبة ، فيكون الخبر محذوفاً وهو عامل في عصبة ، وانتصب عصبة على الحال ، وهذا كقول العرب : حكمك مسمطاً حذف الخبر . قال المبرد : قال الفرزدق :

يا لهذم حكمك مسمطا

أراد لك حكمك مسمطاً ، واستعمل هذا فكثر حتى حذف استخفا ، فالعلم السامع ما يريد القائل كقولك : الهلال واللّه أي : هذا الهلال ، والمسمط المرسل غير المردود . وقال ابن الأنباري : هذا كما تقول العرب : إنما العامري عمته ، أي يتعمم عمته انتهى . وليس مثله ، لأنّ عصبة ليس مصدراً ولا هيئة ، فالأجود أن يكون من باب حكمك مسمطاً . وقدره بعضهم : حكمك ثبت مسمطاً .

وعن ابن عباس : العصبة ما زاد على العشرة ، وعنه : ما بين العشرة إلى

الأربعين ، وعن قتادة : ما فوق العشرة إلى الأربعين ، وعن مجاهد : من عشرة إلى خمسة عشر ، وعن مقاتل : عشرة ، وعن ابن جبير : ستة أو سبعة ،

وقيل : ما بين الواحد إلى العشرة ،

وقيل : إلى خمسة عشر ، وعن الفراء : عشرة فما زاد ، وعن ابن زيد ، والزجاج ، وابن قتيبة : العصبة ثلاثة نفر ، فإذا زادوا فهم رهط إلى التسعة ، فإذا زادوا فهم عصبة ، ولا يقال لأقل من عشرة عصبة . والضلال هنا هو الهوى قاله ابن عباس ، أو الخطأ من الرأي قاله ابن زيد ، أو الجور في الفعل قاله ابن كامل ، أو الغلط في أمر الدنيا . روي أنه بعد إخباره لأبيه بالرؤيا كان يضمه كل ساعة إلى صدره ، وكأن قلبه أيقن بالفراق فلا يكاد يصبر عنه ، والظاهر أنّ اقتلوا يوسف من جملة قولهم ،

وقيل : هو من قول قوم استشارهم أخوة يوسف فيما يفعل به فقالوا ذلك . والظاهر أن اطرحوه هو من قولهم أن يفعلوا به أحد الأمرين ، ويجوز أن تكون أو للتنويع أي : قال بعض : اقتلوا يوسف ، وبعض اطرحوه ، وانتصب أرضاً على إسقاط حرف الجر قاله الحوفي وابن عطية ، أي : في أرض بعيدة من الأرض التي هو فيها ، قريب من أرض يعقوب .

وقيل : مفعول ثان على تضمين اطرحوه معنى أنزلوه ، كما تقول : أنزلت زيداً الدار . وقالت فرقة : ظرف ، واختاره الزمخشري ، وتبعه أبو البقاء .

قال الزمخشري : أرضاً منكورة مجهولة بعيدة من العمران ، وهو معنى تنكيرها وإخلائها من الناس ، ولا يهامها من هذا الوجه نصبت نصب الظروف المبهمة . و

قال ابن عطية : وذلك خطأ بمعنى كونها منصوبة على الظرف قال : لأن الظرف ينبغي أن يكون مبهماً ، وهذه ليست كذلك ، بل هي أرض مقيدة بأنها بعيدة أو قاصية ونحو ذلك ، فزال بذلك إبهامها . ومعلوم أنّ يوسف لم يخل من الكون في أرض فتبين أنهم أرادوا أرضاً بعيدة غير التي هو فيها قريب من أبيه انتهى . وهذا الردّ صحيح ، لو

قلت : جلست داراً بعيدة ، أو قعدت مكاناً بعيد لم يصح إلا بوساطة في ، ولا يجوز حذفها إلا في ضرورة شعر ، أو مع دخلت على الخلاف في دخلت أهي لازمة أو متعدية . والوجه هنا قيل : الذات ، أي يخل لكم أبوكم .

وقيل : هو استعارة عن شغله بهم ، وصرف مودته إليهم ، لأنّ من أقبل عليك صرف وجهه إليك وهذا كقول نعامة حين أحبته أمه لما قتل أخوته وكانت قبل لا تحبه . قال : الثكل أرامها أي : عطفها ، والضمير في بعده عائد على يوسف ، أو قتله ، أو طرحه . وصلاحهم إما صلاح حالهم عند أبيهم وهو قول مقاتل ، أو صلاحهم بالتوبة والتنصل من هذا الفعل وهذا أظهر ، وهو قول الجمهور منهم الكلبي . واحتمل تكونوا أن . يكون مجزوماً عطفاً على مجزوم ، أو منصوباً على إضمار أنْ . والقائل : لا تقتلوا يوسف ، روبيل قاله قتادة وابن إسحاق ، أو شمعون قاله مجاهد ، أو يهوذا وكان أحلمهم وأحسنهم فيه رأياً وهو الذي قال : فلن أبرح الأرض قال لهم : القتل عظيم ، قاله السدي ، أوذان : أربعة أقوال ، وهذا عطف منهم على أخيه . لما أراد اللّه من إنفاذ قضائه وإبقاء على نفسه ، وسبب لنجاتهم من الوقوع في هذه الكبيرة وهو إتلاف النفس بالقتل . قال الهروي : الغيابة في الجب شبه لحف ، أو طاق في البئر فويق الماء يغيب ما فيه عن العيون . وقال الكلبي : الغيابة كمون في قعر الجب ، لأن أسفله واسع ورأيه ضيق ، فلا يكاد الناظر يرى ما في جوانبه .

وقال الزمخشري : غوره وهو ما غاب منه عن عين الناظر وأظلم من أسفله انتهى . منه قيل للقبر : غيابة ، قال المنحل السعدي :

فإن أنا يوماً غيبتني غيابتي

فسيروا بسيري في العشيرة والأهل

.

وقرأ الجمهور : غيابة على الإفراد ، ونافع : غيابات على الجمع ، جعل كل جزء مما يغيب فيه غيابة .

وقرأ ابن هرمز : غيابات بالتشديد والجمع ، والذي يظهر أنه سمى باسم الفاعل الذي للمبالغة ، فهو وصف في الأصل ، وألحقه أبو علي بالاسم الجائي على فعال نحو ما ذكر سيبويه من الغياد . قال أبو الفتح : ووجدت من ذلك المبار المبرح والفخار الخزف . وقال صاحب اللوامح : يجوز أن يكون على فعالات كحمامات ، ويجوز أن يكون على فيعالات كشيطانات في جمع شيطانة ، وكل للمبالغة .

وقرأ الحسن : في غيبة ، فاحتمل أن يكون في الأصل مصدراً كالغلبة ، واحتمل أن يكون جمع غائب كصانع وصنعة . وفي حرف أبي في غيبة بسكون الياء ، وهي ظلمة الركية . وقال قتادة في جماعة : الجب بئر بيت المقدس ، وقال وهب : بأرض الأردن ، وقال مقاتل : على ثلاث فراسخ من منزل يعقوب ،

وقيل : بين مدين ومصر .

وقرأ الحسن ، ومجاهد ، وقتادة ، وأبو رجاء : تلتقطه بتاء التأنيث ، أنث على المعنى كما قال : إذا بعض السنين تعرفتنا

كفى الأيتام فقد أبى اليتيم

والسيارة جمع سيار ، وهو الكثير السير في الأرض . والظاهر أن الجب كان فيه ماء ، ولذلك قالوا : يلتقطه بعض السيارة .

وقيل : كان فيه ماء كثير يغرق يوسف ، فنشرز حجر من أسفل الجب حتى ثبت يوسف عليه .

وقيل : لم يكن ماء فأخرجه اللّه فيه حتى قصده الناس . وروي : أنهم رموه بحبل في الجب ، فتماسك بيديه حتى ربطوا يديه ونزعوا قميصه ورموه ، حينئذ وهموا بعد برضحه بالحجارة فمنعهم أخوهم المشير بطرحه من ذلك . ومفعول فاعلين محذوف أي : فاعلين ما يحصل به غرضكم من التفريق بينه وبين أبيه .

١٠

انظر تسفير الآية:١٤

١١

انظر تسفير الآية:١٤

١٢

انظر تسفير الآية:١٤

١٣

انظر تسفير الآية:١٤

١٤

{قَالُواْ يأَبَانَا أَبَا مَالِكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ ... } : لما تقرر في أذهانهم التفريق بين يوسف وأبيه ، أعملوا الحيلة على يعقوب وتلطفوا في إخراجه معهم ، وذكروا نصحهم له وما في إرساله معهم من انشراح صدره بالارتعاء واللعب ، إذ هو مما يشرح الصبيان ، وذكروا حفظهم له مما يسوؤه . وفي قولهم : ما لك لا تأمنا ، دليل على أنهم تقدم منهم سؤال في أنْ يخرج معهم ، وذكروا سبب الأمن وهو النصح أي : لم لا تأمنا عليه وحالتنا هذا ؟ والنصح دليل على الأمانة ، ولهذا قرنا في قوله : ناصح أمين ، وكان قد أحسن منهم قبل ما أوجب أنْ لا يأمنهم عليه . ولا تأمنا جملة حالية ، وهذا الاستفهام صحبة التعجب .

وقرأ زيد بن علي ، وأبو جعفر ، والزهري ، وعمرو بن عبيد : بإدغام نون تأمن في نون الضمير من غير إشمام ومجيئه بعد مالك ، والمعنى : يرشد إلى أنه نفي لا نهي ، وليس كقولهم : ما أحسننا في التعجب ، لأنه لو أدغم لالتبس بالنفي .

وقرأ الجمهور : بالإدغام والإشمام للضم ، وعنهم إخفاء الحركة ، فلا يكون إدغاماً محضاً .

وقرأ ابن هرمز : بضم الميم ، فتكون الضمة منقولة إلى الميم من النون الأولى بعد

سلب الميم حركتها ، وإدغام النون في النون .

وقرأ أبي ، والحسن ، وطلحة بن مصرف ، والأعمش : لا تأمننا بالإظهار ، وضم النون على الأصل ، وخط المصحف بنون واحدة .

وقرأ ابن وثاب ، وأبو رزين : لا يتمنا على لغة تميم ، وسهل الهمزة بعد الكسرة ابن وثاب . وفي لفظه : أرسله ، دليل على أنه كان يمسكه ويصحبه دائماً . وانتصب غداً على الظرف ، وهو ظرف مستقبل يطلق على اليوم الذي يلي يومك ، وعلى الزمن المستقبل من غير تقييد باليوم الذي يلي يومك . وأصله : غدو ، فحذفت لامه وقد جاء تاماً .

وقرأ الجمهور : يرتع ويلعب بالياء والجزم ، والإبنان وأبو عمر وبالنون والجزم وكسر العين الحرميان ، واختلف عن قنبل في إثبات الياء وحذفها . وروي عن ابن كثي : ويلعب بالياء ، وهي قراءة جعفر بن محمد .

وقرأ العلاء بن سيابة : يرتع بالياء وكسر العين مجزوماً محذوف اللام ، ويلعب بالياء وضم الباء خبر مبتدأ محذوف أي : وهو يلعب .

وقرأ مجاهد ، وقتادة ، وابن محيصن : بنون مضمومة من ارتعنا ونلعب بالنون ، وكذلك أبو رجاء ، إلا أنه بالياء فيهما يرتع ويلعب ، والقراءتان على حذف المفعول أي : يرتع المواشي أو غيرها .

وقرأ النخعي : نرتع بنون ، ويلعب بياء ، بإسناد اللعب إلى يوسف وحده لصباه ، وجاء كذلك عن أبي إسحاق ، ويعقوب . ولك هذه القراآت الفعلان فيها مبنيان للفاعل .

وقرأ زيد بن علي : يرتع ويلعب بضم الياءين مبنياً للمفعول ، ويخرجها على أنه أضمر المفعول الذي لم يسم فاعله وهو ضمير غد ، وكان أصله يرتع فيه ويلعب فيه ، ثم حذف واتسع ، فعدى الفعل للضمير ، فكان التقدير : يرتعه ويلعبه ، ثم بناه للمفعول فاستكن الضمير الذي كان منصوباً لكونه ناب عن الفاعل . واللعب هنا هو الاستباق والانتضال ، فيدربون بذلك لقتال العدو ، سموه لعباً لأنه بصورة اللعب ، ولم يكن ذلك للّهو بدليل قولهم : إننا ذهبنا نستبق ، ولو كان لعب لهو ما أقرهم عليه يعقوب . ومن كسر العين من يرتع فهو يفتعل . قال مجاهد : هي من المراعاة أي : يراعي بعضنا بعضاً ويحرسه . وقال ابن زيد : من رعى الإبل أي يتدرب في الرعي ، وحفظ المال ، أو من رعى النبات والكلأ ، أي : يرتفع على حذف مضاف أي : مواشينا . ومن أثبت الياء . ف

قال ابن عطية : هي قراءة ضعيفة لا تجوز إلا في الشعر كقول الشاعر : ألم يأتيك والأنباء تنمي

بما لاقت لبون بني زياد

انتهى .

وقيل : تقدير حذف الحركة في الياء لغة ، فعلى هذا لا يكون ضرورة . ومن قرأ بسكون العين

فالمعنى : نقم في خصب وسعة ، ويعنون من الأكل والشرب . وإنا له لحافظون جملة حالية ، والعامل فيه الأمر أو الجواب ، ولا يكون ذلك من باب الإعمال ، لأن الحال لا تضمر ، وبأنّ الإعمال لا بد فيه من الإضمار إذا أعمل الأول ، ثم اعتذر لهم يعقوب بشيئين :

أحدهما : عاجل في الحال ، وهو ما يلحقه من الحزن لمفارقته وكان لا يصبر عنه .

والثاني : خوفه عليه من الذئب إن غفلوا عنه برعيهم ولعبهم ، أو بقلة اهتمامهم بحفظه وعنايتهم ، فيأكله ويحزن عليه الحزن المؤبد . وخص الذئب لأنه كان السبع الغالب على قطره ، أو لصغر يوسف فخاف عليه هذا السبع الحقير ، وكان تنبيهاً على خوفه عليه ما هو أعظم افتراساً . ولحقارة الذئب خصه الربيع بن ضبع الفزاري في كونه يخشاه لما بلغ من السن في قوله : والذئب أخشاه إن مررت به

وحدي وأخشى الرياح والمطرا

وكان يعقوب بقوله : وأخاف أن يأكله الذئب لقنهم ما يقولون من العذر إذا جاؤوا وليس معهم يوسف ، فلقنوا ذلك

وجعلوه عدة للجواب ، وتقدّم خلاف القراء في يحزن .

وقرأ زيد بن علي ، وابن هرمز ، وابن محيصن : ليحزني بتشديد النون ، والجمهور بالفك . وليحزنني مضارع مستقبل لا حال ، لأن المضارع إذا أسند إلى متوقع تخلص للاستقبال ، لأنّ ذلك المتوقع مستقبل وهو المسبب لأثره ، فمحال أنْ يتقدم الأثر عليه ، فالذهاب لم يقع ، فالحزن لم يقع . كما قال : يهولك أن تموت وأنت ملغ

لما فيه النجاة من العذاب

وقرأ زيد بن علي : تذهبوا به من أذهب رباعياً ، ويخرج على زيادة الباء في به ، كما خرج بعضهم تنبت بالدهن . في قراءة من ضم التاء وكسر الباء أي : تنبت الدهن وتذهبوه .

وقرأ الجمهور : والذئب بالهمز ، وهي لغة الحجز .

وقرأ الكسائي ، وورش ، وحمزة : إذا وقف بغير همز . وقال نصر : سمعت أبا عمر ولا يهمز . وعدل إخوة يوسف عن أحد الشيئين وهو حزنه على ذهابهم به لقصر مدة الحزن ، وإيهامهم أنهم يرجعون به إليه عن قريب ، وعدلوا إلى قضية الذئب وهو السبب الأقوى في منعه أن تذهبوا به ، فحلفوا له لئن كان ما خافه من خطفة الذئب أخاهم من بينهم ، وحالهم أنهم عشرة رجال بمثلهم تعصب الأمور وتكفي الخطوب . إنهم إذاً لقوم خاسرون أي : هالكون ضعفاء وجوراً وعجزاً ، أو مستحقون أن يهلكوا ، لأنهم لا غنى عندهم ولا جدوى في حياتهم ، أو مستحقون بأن يدعى عليهم بالخسار والدمار ، وأن يقال : خسرهم اللّه ودمرهم حين أكل الذئب بعضهم وهم حاضرون .

وقيل : إن لم نقدر على حفظه بعضنا فقد هلكت مواشينا ، إذاً وخسرنا . وروي أن يعقوب رأى في منامه كأنه على ذروة جبل ، وكان يوسف في بطن الوادي ، فإذا عشرة من الذئاب قد احتوشته يردن أكله ، فدرأ عنه واحد ، ثم انشقت الأرض فتوارى يوسف فيها ثلاثة أيام .

١٥

انظر تسفير الآية:١٩

١٦

انظر تسفير الآية:١٩

١٧

انظر تسفير الآية:١٩

١٨

 انظر تسفير الآية:١٩

١٩

{فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِى غَيَابَةِ الْجُبّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَاذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ لاَ يَشْعُرُونَ ...} : حكي أنهم قالوا ليوسف : اطلب من أبيك أن يبعثك معنا ، فأقبل على يوسف فقال : أتحب ذلك ؟ قال : نعم . قال يعقوب : إذا كان غداً أذنت لك ، فلما أصبح يوسف لبس ثيابه وشد عليه منطقته ، وخرج مع أخوته فشيعهم يعقوب وقال : يا بني أوصيكم بتقوى اللّه وبحبيبي يوسف ، ثم أقبل على يوسف وضمه إلى صدره وقبل بين عينيه ثم قال : استودعتك اللّه رب العالمين ، وانصرف . فحملوا يوسف على أكتافهم ما دام يعقوب يراهم ، ثم لما غابوا عن عينه طرحوه ليعدا معهم إضراراً به . وذكر المسفرون أشياء كثيرة تتضمن كيفية إلقائه في غيابة الجب ومجاورته لهم بما يلين الصخر ، وهم لا يزدادون إلا قساوة . ولم يتعرض القرآن ولا الحديث الصحيح لشيء منها ، فيوقف عليها في كتب التفسير . وبين هذه الجملة والجمل التي قبلها محذوف يدل عليه المعنى تقديره : فأجابهم إلى ما سألوه وأرسل معهم يوسف ، فلما ذهبوا به وأجمعوا أي : عزموا واتفقوا على إلقائه في الجب ، وأن يجعلوه مفعول أجمعوا ، يقال : أجمع الأمر وأزمعه بمعنى العزم عليه ، واحتمل أن يكون الجعل هنا بمعنى الإلقاء ، وبمعنى التصيير . واختلفوا في جواب لمّا أهو مثبت ؟ أو محذوف ؟ فمن قال : مثبت ، قال : هو قولهم قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق أي : لما كان كيت وكيت ، قالوا وهو تخريج حسن .

وقيل : هو أوحينا ، والواو زائدة ، وعلى هذا مذهب الكوفيين يزاد عندهم بعد لما ، وحتى إذا . وعلى ذلك خرجوا قوله : فلما أسلما وتله للجيين وناديناه أي : ناديناه وقوله : حتى إذا جاؤوها وفتحت أي : فتحت . وقول امرىء القيس :

فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى

أي : انتحى . ومن قال : هو محذوف ، وهو رأي البصريين ، فقدره الزمخشري : فعلوا به ما فعلوا من الأذى ،

وحكى الحكاية الطويلة فيما فعلوا به ، وما حاوروه وحاورهم به . قدره بعضهم : فلما ذهبوا به وأجمعوا أنْ يجعلوه في غيابة الجب عظمت فتنتهم ، وقدّره بعضهم جعلوه فيها ، وهذا أولى إذ يدل عليه قوله : وأجمعوا أن يجعلوه والظاهر أنّ الضمير في وأوحينا إليه عائد على يوسف ، وهو وحي إلهام قاله مجاهد . وروي عن ابن عباس : أو منام . وقال الضحاك وقتادة : نزل عليه جبريل في البئر . وقال الحسن : أعطاه اللّه النبوة في الجب وكان صغيراً ، كما أوحى إلي يحيى وعيسى عليهما السلام ، وهو ظاهر أوحينا ، ويدل على أنّ الضمير عائد على يوسف قوله لهم قال : هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون .

وقيل : الضمير في إليه عائد على يعقوب ، وإنما أوحي إليه ليأنس في الظلمة من الوحدة ، وليبشر بما يؤول إليه أمره ، ومعناه : للتخلص مما أنت فيه ، ولتحدثن إخوتك بما فعلوا بك . وهم لا يشعرون جملة حالية من قوله : لتنبئنهم بهذا أي : غير عالمين أنك يوسف وقت التنبئة قاله ابن جريج ، وذلك لعلو شأنك وعظمة سلطانك ، وبعد حالك عن أذهانهم ، ولطول العمر المبدل للّهيئات والأشكال . وذكر أنهم حين دخلوا عليه ممتارين فعرفهم وهم له منكرون ، دعا بالصواغ فوضعه على يده ثم نقره فطن فقال : إنه ليخبرني هذا الجام أنه كان لكم أخ من أبيكم يقال له : يوسف ، وكان يدنيه دونكم ، وأنكم انطلقتم به وألقيتموه في غيابة الجب وقلتم لأبيكم : أكله الذئب . وبيع بثمن بخس ، ويجوز أن يكون وهم لا يشعرون حالاً من قوله : وأوحينا أي : وهم لا يشعرون ، قاله قتادة . أي : بإيحائنا إليك وما أخبرناك به من نجاتك وطول عمرك ، إلى أن تنبئهم بما فعلوا بك .

وقرأ الجمهور لتنبئنهم بتاء الخطاب ، وابن عمر بياء الغيبة ، وكذا في بعض مصاحف البصرة .

وقرأ سلام بالنون .

والذي يظهر من سياق الأخبار والقصص أن يوسف كان صغيراً ، فقيل : كان عمره إذ ذاك سبع سنين .

وقيل : ست ، قاله الضحاك . وأبعد من ذهب إلى أنه اثنتا عشرة سنة ، وثمان عشرة سنة ، وكلاهما عن الحسن ، أو سبع عشرة سنة قاله ابن السائب . ويدل على أنه كان صغيراً بحيث لا يدفع نفسه قوله : وأخاف أن يأكله الذئب ويرتع ويلعب وإنا له لحافظون ، وأخذ السيارة له ، وقول الوارد : هذا غلام ، وقول العزيز : عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً ، وما حكى من حملهم إياه واحداً بعد واحد ، ومن كلامه لأخيه يهوذا : ارحم ضعفي وعجزي وحداثة سني ، وارحم قلب أبيك يعقوب . ومن هو ابن ثمان عشرة سنة لا يخاف عليه من الذئب ولا سيما إن كان في رفقة ، ولا يقال فيه : وإنا له لحافظون ، لأنه إذ ذاك قادر على التحيل في نجاة نفسه ، ولا يسمى غلاماً إلا بمجاز ، ولا يقال فيه : أو نتخذه ولداً . وعشاء نصب على الظرف ، أو من العشوة والعشوة : الظلام ، فجمع على فعال مثل راع ورعاء ، ويكون انتصابه على الحال كقراءة الحسن عشا على وزن دجى ، جمع عاش ، حذف منه الهاء كما حذفت في مالك ، وأصله مالكة . وعن الحسن عشياً على التصغير . قيل : وإنما جاؤوا عشاء ليكون أقدر على الاعتذار في الظلمة ، ولذا قيل : لا تطلب الحاجة

بالليل فإنّ الحياء في العينين ، ولا تعتذر في النهار من ذنب فتتلجلج في الاعتذار . وفي الكلام حذف تقديره : وجاؤوا أباهم دون يوسف عشاء يبكون ، فقال : أين يوسف ؟ قالوا : إنا ذهبنا . وروي أن يعقوب لما سمع بكاءهم قال : ما لكم ، أجرى في الغنم شيء ؟ قالوا : لا . قال : فأين يوسف ؟ قالوا : إنا ذهبنا نستبق فأكله الذئب ، فبكى ، وصاح ، وخر مغشياً عليه ، فأفاضوا عليه الماء فلم يتحرك ، ونادوه فلم يجب ، ووضع يهوذا يده على مخارج نفسه فلم يحس بنفسه ولا تحرك له عرق فقال : ويل لنا من ديان يوم الدين الذي ضيعنا أخانا وقتلنا أبانا ، فلم يفق لا ببرد السحر . قال الأعمش : لا يصدق باك بعد أخوة يوسف . ونستبق . أي : نترامى بالسهام ، أو نتجارى على الأقدام أينا أشد عدواً ، أو نستبق في أعمال نتوزعها من سقي ورعي واحتطاب ، أو نتصيد . أربعة أقوال . عند متاعنا أي : عند ثيابنا ، وما تجردنا له حالة الاستباق ، وهذا أيضاً يدل على صغر يوسف ، إذ لو كان ابن ثمان عشرة سنة أو سبع عشرة لكان يستبق معهم ، فأكله الذئب قد ذكرنا أنهم تلقنوا هذا الجواب من قول أبيهم ، وأخاف أن يأكله الذئب ، لأن أكل الذئب إياه كان أغلب ما كان خاف عليه . وما أنت بمؤمن لنا أي : بمصدق لنا الآن ولو كنا صادقين . أو لست مصدقاً لنا على كل حال حتى في حالة الصدق ، لما غلب عليك من تهمتنا وكراهتنا في يوسف ، وإنا نرتاد له الغوائل ، ونكيد له المكائد ، وأوهموا بقولهم : ولو كنا صادقين أنهم صادقون في أكل الذئب يوسف ، فيكون صدقهم مقيداً بهذه النازلة . أو من أهل الصدق والثقة عند يعقوب قبل هذه النازلة ، لشدّة محبتك ليوسف ، فكيف وأنت سيىء الظن بنا في هذه النازلة ، غير واثق بقولنا فيه ؟ .

روي أنهم أخذوا سخلة أو جدياً فذبحوه ، ولطخوا قميص يوسف بدمه ، وقالوا : ليعقوب هذا قميص يوسف فأخذه ، ولطخ به وجهه وبكى ، ثم تأمله فلم ير خرقاً ولا ارتاب ، فاستدل بذلك على خلاف ما زعموا وقال لهم : متى كان الذئب حليماً يأكل يوسف ولا يخرق قميصه ؟ قيل : كان في قميص يوسف ثلاث آيات ، كان دليلاً ليعقوب على أن يوسف لم يأكله الذئب ، وألقاه عل وجهه فارتد بصيراً ، ودليلاً على براءة يوسف حين قدّ من دبر .

قال الزمخشري{ فإن قلت } : على قميصه ما محله ؟ { قلت} : محله النصب على الظرف ، كأنه قيل : وجاؤوا فوق قميصه بدم كما تقول : جاء على جماله بأحمال . { فإن قلت} : هل يجوز أن يكون حالاً مقدمة ؟ { قلت} : لا ، لأن حال المجرور لا يتقدم عليه انتهى . ولا يساعد المعنى على نصب على على الظرف بمعنى فوق ، لأن العامل فيه إذ ذاك جاؤوا ، وليس الفوق ظرفاً لهم ، بل يستحيل أن يكون ظرفاً لهم . وقال الحوفي : على متعلق بجاؤوا ، ولا يصح أيضاً .

وأما المثال الذي ذكره الزمخشري وهو جاء على جماله بأحمال فيمكن أن يكون ظرفاً للجائي ، لأنه تمكن الظرفية فيه باعتبار تبدله من جمل على جمل ، ويكون بأحمال في موضع الحال أي : مصحوباً بأحمال . وقال أبو البقاء : على قميصه في موضع نصب حالاً من الدم ، لأن التقدير : جاؤوا بدم كذب على قميصه انتهى . وتقديم الحال على المجرور بالحرف غير الزائد في جوازه خلاف ، ومن أجاز استدل على ذلك بأنه موجود في لسان العرب ، وأنشد على ذلك شواهد هي مذكورة في علم النحو ، والمعنى : يرشد إلى ما قاله أبو البقاء .

وقرأ الجمهور : كذب وصف لدم على سبيل المبالغة ، أو على حذف مضاف أي : ذي كذب ، لما كان دالاً على الكذب وصف به ، وإن كان الكذب صادراً من غيره .

وقرأ زيد بن علي : كذباً بالنصب ، فاحتمل أن يكون مصدراً في موضع الحال ، وأن يكون مفعولاً من أجله . وقرأت عائشة ، والحسن : كدب بالدال غير معجمة ، وفسر بالكدر ،

وقيل : الطري ،

وقيل : اليابس ، وقال صاحب اللوامح : ومعناه ذي كذب أي : أثر لأن الكذب هو بياض يخرج في أظافير الشبان ويؤثر فيها ، كالنقش ، ويسمى ذلك البياض الفوف ، فيكون هذا استعارة لتأثيره

في القميص ، كتأثير ذلك في الأظافير . قال : بل سولت هنا محذوف تقديره : لم يأكله الذئب ، بل سولت . قال ابن عباس : أمرتكم أمراً ، وقال قتادة : زينت ،

وقيل : رضيت أمراً أي : صينعاً قبيحاً .

وقيل : سهلت . فصبر جميل أي : فأمري صبر جميل ، أو فصبر جميل أمثل .

وقرأ أبي ، والأشهب ، وعيسى بن عمر : فصبراً جميلاً بنصبهما ، وكذا هي في مصحف أبيّ ، ومصحف أنس بن مالك . وروي كذلك عن الكسائي . ونصبه على المصدر الخبري أي : فاصبر صبراً جميلاً . قيل : وهي قراءة ضعيفة عند سيبويه ، ولا يصلح النصب في مثل هذا إلا مع الأمر ، وكذلك يحسن النصب في قوله : شكا إلي جملي طول السرى

صبراً جميلاً فكلانا مبتلي

ويروى صبر جميل في البيت . وإنما تصح قراءة النصب على أنْ يقدر أنّ يعقوب رجع إلى مخاطبة نفسه فكأنه قال : فاصبري يا نفسُ صبراً جميلاً . وفي الحديث :  { أن الصبر الجميل أنه الذي لا شكوى فيه } أي : إلى الخلق . ألا ترى إلى قوله : { إِنَّمَا أَشْكُو بَثّى وَحُزْنِى إِلَى اللّه }

وقيل : أتجمل لكم في صبري فلا أعاشركم على كآبة الوجه ، وعبوس الجبين ، بل على ما كنت عليه معكم . وقال الثوري : من الصبر أنْ لا تحدث بما يوجعك ولا بمصيبتك ولا تبكي نفسك . واللّه المستعان أي : المطلوب منه العون على احتمال ما تصفون من هلاك يوسف ، والصبر على الرزية . وجاءت سيارة قيل : كانوا من مدين قاصدين إلى مصر ،

وقيل : في الكلام حذف تقديره : وأقام يوسف في الجب ثلاثة أيام ، وكان أخوه يهوذا يأتيه بالطعام خفية من إخوته .

وقيل : جاءت السيارة في اليوم الثاني من طرحه في الجب .

وقيل : كان التسبيح غذاءه في الجب . قيل : وكانت السيارة تائهة تسير من أرض إلى أرض ،

وقيل : سيارة في الطريق أخطئه فنزلوا قريباً من الجب ، وكان في قفرة بعيدة من العمران لم تكن إلا للرعاة ، وفيهم مالك بن دعر الخزاعي فأرسلوه ليطلب لهم الماء . والوارد الذي يرد الماء ليستقي للقوم ، وإضافة الوارد للضمير كإضافته في قوله : ألقيت كاسبهم . ليست إضافة إلى المفعول ، بل المعنى الذي يرد عليهم والذي يكسب لهم . والظاهر أن الوارد واحد . و

قال ابن عطية : والوارد هنا يمكن أن يقع على الواحد وعلى جماعة انتهى . وحمل على معنى السيارة في قوله : فأرسلوا ، ولو حمل على اللفظ لكان الترتيب فأرسلت واردها . فأدلى دلوه أي : أرسلها ليستقي الماء قال : يا بشراي . في الكلام حذف تقديره : فتعلق يوسف بحبل الدلو ، فلما بصر به المدلي قال : يا بشراي . وتلقه بالحبل يدل على صغره ، إذ لو كان ابن ثمانية عشر أو سبعة عشر لم يحمله الحبل غالباً ، ولفظه غلام ترجح ذلك ، إذ يطلق عليه ما بين الحولين إلى البلوغ حقيقة ، وقد يطلق على الرجل الكامل لقول ليلى الأخيلية في الحجاج بو يوسف :

غلام إذا هز القناة سقاها

وقوله : يا بشراي هو على سبيل السرور والفرح بيوسف ، هذ رأى أحسن ما خلق . وأبعد السدّي في زعمه أنّ بشرى اسم رجل ، وأضاف البشرى إلى نفسه فكأنه

قال تعالى : فهذا من آونتك .

وقرأ يا بشرى بغير إضافة الكوفيون ، وروى ورش عن نافع : يا بشراي : بسكون ياء الإضافة ، وهو جمع بين ساكنين على غير حدة وتقدم تقرير مثله في { وَمَحْيَاىَ }

وقرأ أبو الطفيل ، والحسن ، وابن أبي إسحاق ، والجحدري : يا بشرى بقلب الألف ياء وإدغامها في ياء الإضافة ، وهي لغة لهذيل . ولناس غيرهم تقدم الكلام عليها في البقرة ، في { فَمَن تَبِعَ هُدَايَ } قيل : ذهب به الوارد ، فلما دنا من أصحابه صاح بذلك ، فبشرهم به وأسروه . الظاهر أنّ الضمير للسيارة التي الوارد منهم أي : أخفوه من الرفقة ، أو كتموا أمره من وجدانهم له في الجب وقالوا : دفعه إلينا أهل الماء لنبيعه لهم بمصر .

وقال ابن عباس : الضمير في وأسروه وشروه لإخوة يوسف ، وأنهم قالوا للرفقة : هذا غلام قد أبق لنا فاشتروه منا ، وسكت يوسف مخافة أن يقتلوه ، وذلك أنه روي أن بعضهم رجع إلى الجب ليتحققوا أمر يوسف ويقفوا على الحقيقة من فقده ، فلما علموا أن الوارد قد أخذوه ، جاؤوهم وقالوا تلك المقالة . وانتصب بضاعة على الحال أي : متجراً لهم ومكسباً . واللّه عليم بما يعملون أي : لم تخف عليه أسرارهم ، وهو وعيد لهم حيث استبضغوا ما ليس لهم ، أو واللّه عليم بعمل أخوة يوسف بأبيهم وأخيهم من سوء الصنع ، وفي ذلك أعظم تذكار بما فعلوا بيوسف . قيل : أوحى اللّه إليه في الجب أن لا يطلع أباه ولا غيره على حاله ، لحكمة أراد مضاءها ، وظهر بعد ذلك ما جرى له من جعله على خزائن الأرض ، وإحواج أخواته إليه ، ورفع أبويه على العرش ، وما جرى مجرى ذلك مما كان مكنوناً في القدر .

٢٠

انظر تسفير الآية:٢٢

٢١

انظر تسفير الآية:٢٢

٢٢

{وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزهِدِينَ وَقَالَ الَّذِى اشْتَرَاهُ مِن مّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِى مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذالِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الاْرْضِ } : شرى بمعنى باع ، وبمعنى اشترى قال يزيد بن مفرع الحميري : وشريت برداً ليتني من بعد برد كنت هامه

أي بعت برداً ، وبرد غلامه . وقال الآخر : ولو أن هذا الموت يقبل فدية شريت أبا زيد بما ملكت يدي

أي اشتريت أبا زيد . والظاهر أن الضمير في وشروه عائد على السيارة ، أي : وباعوا يوسف . ومن قال : إن الضمير في وأسروه عائد على إخوة يوسف جعله عائداً عليهم أي : باعوا أخاهم يوسف بثمن بخس . وبخس مصدر وصف به بمعنى مبخوس . وقال مقاتل : زيف ناقص العيار . وقال عكرمة : والشعبي : قليل . وهو معنى

الزمخشري : ناقص عن القيمة نقصاً ظاهراً . وقال ابن قتيبة : البخس الخسيس الذي بخس به البائع . وقال قتادة : بخس ظلم ، لأنهم ظلموه في بيعه .

وقال ابن عباس وقتادة أيضاً في آخرين : بخس حرام . وقال ابن عطاء : إنما جعله بخساً لأنه عوض نفس شريفة لا تقابل بعوض وإن جل انتهى . وذلك أن الذين باعوه إن كانوا الواردة فإنهم لم يعطوا به ثمناً ، فما أخذوا فيه ربح كله وإن كانوا إخوته ، فالمقصود خلو وجه أبيهم منه لا ثمنه . ودراهم بدل من ثمن ، فلم يبيعوه بدنانير . ومعدودة إشارة إلى القلة ، وكانت عادتهم أنهم لا يزنون إلا ما بلغ أوقية وهي أربعون درهماً ، لأنّ الكثيرة يعسر فيها العد ، بخلاف القليلة . قال عكرمة في رواية عن ابن عباس وابن إسحاق : أربعون درهماً .

وقيل : ثلاثون درهماً ، ونعلام وحلة . وقال السدي : كانت اثنين وعشرين درهماً ، كذا نقله الزمخشري عنه ، ونقله ابن عطية عن مجاهد : أخذها أخوته درهمين درهمين ، وصاحب التحرير عنه ،

وعن ابن عباس . وقال ابن مسعود وابن عباس في رواية ، وعكرمة في رواية ، ونوف الشامي ، ووهب ، والشعبي ، وعطية ، والسدي ، ومقاتل في آخرين : عشرون درهماً .

وعن ابن عباس أيضاً : عشرون ، وحلة ، ونعلان .

وقيل : ثمانية عشر درهماً اشتروا بها أخفافاً ونعالاً .

وقيل : عشرة دراهم ، والظاهر عود الضمير في فيه إلى يوسف أي : لم يعلموا مكانه من اللّه تعالى قاله : الضحاك ، وابن جريج .

وقيل : يعود على الثمن ، وزهدهم فيه لرداءة الثمن ، أو لقصد إبعاد يوسف لا الثمن . وهذا إذا كان الضمير في وشروه وكانوا عائداً على أخوة يوسف ، فأما إذا كان عائداً على السيارة فزهدهم فيه لكونهم ارتابوا فيه ، أو لوصف أخوته بالخيانة والاباف ، أو لعلمهم أنه حر .

وقال الزمخشري : من الزاهدين ، ممن يرغب عما في يده فيبيعه بما طف من الثمن ، لأنهم التقطوه ، والملتقط للشيء متهاون به لا يبالي بما باعه ، ولأنه يخاف أن يعرض له مستحق فينزعه من يده فيبيعه من أول مساوم بأوكس الثمن . ويجوز أن يكون معنى وشروه اشتروه ، يعني الرفقة من أخوته . وكانوا فيه من الزاهدين لأنهم اعتقدوا فيه أنه آبق ، فخافوا أن يخاطروا بما لهم فيه . ويروى أنّ أخوته اتبعوهم يقولون : استوثقوا منه لا يابق انتهى . وفيه تقدم نظيره في { إِنّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ } وأنه خرج تعلق الجار إما باعني مضمره ، أو بمحذوف يدل عليه من الزاهدين . أي : وكانوا زاهدين فيه من الزاهدين ، أو بالزاهدين لأنه يتسامح في الجار والظرف . فجوز فيهما ما لا يجوز في غيرهما .

وقال الذي اشتراه من مصر : ذكروا أقوالاً متعارضة فيمن اشتراه ، وفي الثمن الذي اشتراه به ، ولا يتوقف تفسير كتاب اللّه على تلك الأقوال المتعارضة . فقيل : اشتراه رجل من العماليق وقد آمن بيوسف ، ومات في حياة يوسف . قيل : وهو إذ ذاك الملك بمصر ، واسمه الريان بن الوليد بن بروان بن أراشه بن فاران بن عمرو بن عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح ، فملك بعده قابوس بن مصعب بن تمر بن السلواس بن فاران بن عمرو المذكور في نسب الريان ، فدعاه يوسف إلى الإيمان فأبى ، فاشتراه العزيز وهو ابن سبع عشرة سنة ، وأقام في منزله ثلاث عشرة سنة ، واستوزره الريان بن الوليد وهو ابن ثلاثين سنة ، وآتاه اللّه الحكمة والعلم وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة ، وتوفي وهو ابن مائة وعشرين سنة .

وقيل : كان الملك في أيامه فرعون موسى عاش أربعمائة سنة ، بدليل قوله :{ وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيّنَاتِ }

وقيل : فرعون موسى من أولاد فرعون يوسف ،

وقيل : عرض في السوق وكان أجمل الناس ، فوقعت فيه مزايدة حتى بلغ ثمناً عظيماً . فقيل : وزنه من ذهب ومن فضة ومن حرير ، فاشتراه العزيز وهو كان صاحب الملك وخازنه ، واسم الملك الريان بن الوليد .

وقيل : مصعب بن الريان ، وهو أحد الفراعنة ، واسم العزيز قطفير ، قاله ابن عباس ،

وقيل : اطفير ،

وقيل : قنطور ، واسم امرأته راعيل ،

وقيل : زليخا .

قال ابن عطية : وظاهر أمر العزيز أنه كان كافراً ، ويدل على ذلك كون الصنم في بيته حسبما يذكر . وقال مجاهد : كان مسلماً ، واسم امرأة العزيز راعيل بنت رعاييل . وقال السدي : العزيز هو الملك ، واسم امرأته زليخا بنت تمليخا ، ومثواه مكان إقامته وهو كناية عن الإحسان إليه في مأكل ومشرب وملبس . ولام لامرأته تتعلق بقال فهي للتبليغ ، نحو قلت لك : لا باشتراه عسى أن ينفعنا ، لعله إذا تدرب وراض الأمور وعرف مجاريها نستعين به على بعض ما نحن بصدده ، فينفعنا بكفايته ، أو نتبناه ونقيمه مقام الولد ، وكان قطفير عقيماً لا يولد له ، فتفرس فيه الرشد فقال ذلك . وكذلك أي : مثل ذلك التمكين من قلب العزيز حتى عطف عليه ، وأمر امرأته بإكرام مثواه . مكنا ليوسف في الأرض أي : أرض مصر يتصرف فيها بأمره ونهيه ، أي : حكمناه فيها . ولام ولنعلمه متعلقة بمحذوف ، إما قبله لتملكه ولنعلمه ،

وإما بعده أي ولنعلمه من تأويل الأحاديث كان ذلك الإنجاء والتمكين ، أو الواو مقحمة أي : مكنا ليوسف في الأرض لنعلمه وكل مقول . والأحاديث : الرّؤيا ، قاله مجاهد .

وقيل : أحاديث الأنبياء والأمم . والضمير في على أمره الظاهر عوده على اللّه قاله ابن جبير ، لا يمنع عما يشاء ولا ينازع فيما يريد ، ويقضي . أو على يوسف قاله الطبري ، أي : يديره ولا يكله إلى غيره . قد أراد أخوته به ما أرادوا ، ولم يكن إلا ما أراد اللّه ودبره ، وأكثر الناس المنفى عنهم العلم هم الكفار قاله ابن عطية .

وقال الزمخشري : لا يعملون أن الأمر بيد اللّه ،

وقيل : المراد بالأكثر الجميع أي : لا يطلعون على غيبه .

وقيل : المراد بأكثر الناس أهل مصر ،

وقيل : أهل مكة . والأشد عند سيبويه جمع واحد شدة ، وأشد كنعمة وأنعم . وقال الكسائي : شد وأشد نحو صك وأصك ، وقال الشاعر : عهدي به شد النهار كأنما

خضب البنان ورأسه بالعظلم

وزعم أبو عبيدة أنه لا واحد له من لفظه عند العرب والأشد بلوغ الحلم قاله : الشعبي ، وربيعة ، وزيد بن أسلم ، أو سبعة عشر عاماً إلى نحو الأربعين قاله الزجاج ، أو ثمانية عشر إلى ستين أو ثمانية عشر قاله عكرمة ، ورواه أبو صالح عن ابن عباس ، أو عشرون قاله الضحاك ، أو إحدى وعشرون سنة أو ثلاثون أو ثلاثة وثلاثون قاله مجاهد وقتادة . ورواه ابن جبير عن ابن عباس ، أو ثمان وثلاثون حكاه ابن قتيبة ، أو أربعون قاله الحسن . وسئل الفاضل النحوي مهذب الدين محمد بن علي بن علي بن أبي طالب رضي اللّه تعالى عنه الخيمي عن الأشد فقال : هو خمس وثلاثون ، وتمامه أربعون .

وقيل : أقصاه اثنان وستون . والحلم الحكم ، والعلم النبوّة .

وقيل : الحكم بين الناس ، والعلم : الفقه في الدين . وهذا أشبه لمجيء قصة المراودة بعد هذه القصة ، وكذلك أي : مثل ذلك الجزاء لمن صبر ورضي بالمقادير نجزي المحسنين . وفيه تنبيه على أن يوسف كان محسناً في عنفوان شبابه فآتاه اللّه الحكم والعلم جزاء على إحسانه . وعن الحسن : من أحسن عبادة اللّه في شبيبته آتاه اللّه الحكمة في اكتهاله .

وقال ابن عباس : المحسنين المهتدين ، وقال الضحاك : الصابرين على النوائب .

٢٣

انظر تسفير الآية:٢٤

٢٤

{وَرَاوَدَتْهُ الَّتِى هُوَ فِى بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الاْبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّه إِنَّهُ رَبّى أَحْسَنَ مَثْوَاىَّ } : المراودة : المطالبة برفق ، من راد يرود إذا ذهب وجاء ، وهي مفاعلة من واحد نحو : داويت المريض ، وكنى به عن طلب النكاح والمخادعة لأجله . كان المعنى

وخادعته عن نفسه ، ولذلك عداه بعن . وقال التي هو في بيتها ، ولم يصرح باسمها ، ولا بامرأة العزيز ، ستراً على الحرم . والعرب تضيف البيوت إلى النساء فتقول : ربة البيت ، وصاحبة البيت قال الشاعر :

يا ربة البيت قومي غير صاغرة

وغلقت الأبواب هو تضعيف تكثير بالنسبة إلى وقوع الفعل بكل باب باب . قيل : وكانت سبعة أبواب هيت اسم فعل بمعنى أسرع . ولك للتبيين أي : لك أقول ، أمرته بأن يسرع إليها . وزعم الكسائي والفراء أنها لغة حورانية وقعت إلى أهل الحجاز فتكلموا بها ومعناها : تعال ، وقاله عكرمة . وقال أبو زيد : هي عبرانية . هيتلخ أي تعاله فأعربه القرآن ،

وقال ابن عباس والحسن : بالسريانية ، وقال السدي : بالقبطية هلمّ لك ، وقال مجاهد وغيره : عربية تدعوه بها إلى نفسها ، وهي كلمة حث وإقبال انتهى . ولا يبعد اتفاق اللغات في لفظ ، فقد وجد ذلك في كلام العرب مع لغات غيرهم . وقال الجوهري : هوت وهيت به صاح به فدعاه ، ولا يبعد أن يكون مشتقاً من اسم الفعل ، كما اشتقوا من الجمل نحو سبح وحمدك . ولما كان اسم فعل لم يبرز فيه الضمير ، بل يدل على رتبة الضمير بما يتصل باللام من الخطاب نحو : هيت لك ، وهيت لك ، وهيت لكما ، وهيت لكم ، وهيت لكن .

وقرأ نافع ، وابن ذكوان ، والأعرج ، وشيبة ، وأبو جعفر : هيت بكسر الهاء بعدها ياء ساكنة وفتح التاء ، والحلواني عن هشام كذلك إلا أنه همز وعلى ، وأبو وائل ، وأبو رجاء ، ويحيى ، وعكرمة ، ومجاهد ، وقتادة ، وطلحة ، والمقري ، وابن عباس ، وأبو عامر في رواية عنهما ، وأبو عمرو في رواية وهشام في رواية كذلك ، إلا أنهم ضموا التاء . وزيد بن عليّ وابن أبي إسحاق كذلك ، إلا أنهما سهلا الهمزة . وذكر النحاس : أنه قرىء بكسر الهاء بعدها ياء ساكنة ، وكسر التاء .

وقرأ ابن كثير وأهل مكة : بفتح الهاء وسكون الياء وضم التاء ، وباقي السبعة أبو عمرو ، والكوفيون ، وابن مسعود ، والحسن ، والبصريون ، كذلك ، إلا أنهم فتحوا التاء . وابن عباس وأبو الأسود ، وابن أبي إسحاق ، وابن محيصن ، وعيسى البصرة كذلك .

وعن ابن عباس : هييت مثل حييت ، فهذه تسع قراءات هي فيها اسم فعل ، إلا قراءة ابن عباس الأخيرة فإنها فعل مبني للمفعول مسهل الهمزة من هيأت الشيء ، وإلا من ضم التاء وكسر الهاء سواء همز أم لم يهمز ، فإنه يحتمل أن يكون اسم فعل كحالها عند فتح التاء أو كسرها ، ويحتمل أن يكون فعلاً واقعاً ضمير المتكلم من هاء الرجل يهيىء إذا أحسن هيئته على مثال : جاء يجيء ، أو بمعنى تهيأت . يقال : هيت وتهيأت بمعنى واحد . فإذا كان فعلاً تعلقت اللام به ، وفي هذه الكلمة لغات أخر . وانتصب معاد اللّه على المصدر أي : عياذاً باللّه من فعل السوء ، والضمير في أنه الأصح أنه يعود على اللّه تعالى أي : إن اللّه ربي أحسن مثواي إذ نجاني من الجب ، وأقامني في أحسن مقام .

وإما أن يكون ضمير الشأن وغني بربه سيده العزيز فلا يصلح لي أن أخونه ، وقد أكرم مثواي وائتمني قاله : مجاهد ، والسدي ، وابن إسحاق . ويبعد جداً ، إذ لا يطلق نبي كريم على مخلوق أنه ربه ، ولا بمعنى السيد ، لأنه لم يكن في الحقيقة مملوكاً له . إنه لا يفلح الظالمون أي المجازون الإحسان بالسوء .

وقيل : الزناة ،

وقيل : الخائنون .

وقرأ أبو الطفيل والجحدري مثويّ ، كما قرأ يا بشرى ، وما أحسن هذا التنصل من الوقوع في السوء . استعاذ أولاً باللّه الذي بيده العصمة وملكوت كل شيء ، ثم نبه على أنّ إحسان اللّهأو إحسان العزيز الذي سبق منه لا يناسب أن يجازى بالإساءة ، ثم نفى الفلاح عن الظالمين وهو الظفر والفوز بالبغية فلا يناسب أن أكون ظالماً أضع الشيء غير موضعه ، وأتعدى ما حده اللّه تعالى لي .

ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه طول المفسرون في تفسير هذين الهمين ، ونسب بعضهم ليوسف ما لا يجوز نسبته لآحاد الفساق .

والذي أختاره أن يوسف عليه السلام لم يقع منه همّ بها البتة ، بل هو منفي لوجود رؤية البرهان كما تقول : لقد قارفت لولا أن عصمك اللّه ، ولا تقول : إنّ جواب لولا متقدم عليها وإنْ كان لا يقوم دليل على امتناع ذلك ، بل صريح أدوات الشرط العاملة مختلف في جواز تقديم أجوبتها عليها ، وقد ذهب إلى ذلك الكوفيون ، ومن أعلام البصريين أبو زيد الأنصاري ، وأبو العباس المبرد . بل نقول : إن جواب لولا محذوف لدلالة ما قبله عليه ، كما تقول جمهور البصريين في قول العرب : أنت ظالم إن فعلت ، فيقدرونه إن فعلت فأنت ظالم ، ولا يدل قوله : أنت ظالم على ثبوت الظلم ، بل هو مثبت على تقدير وجود الفعل . وكذلك هنا التقدير لولا أن رأى برهان ربه لهم بها ، فكان موجداً لهم على تقدير انتفاء رؤية البرهان ، لكنه وجد رؤية البرهان فانتفي الهم . ولا التفات إلى قول الزجاج . ولو كان الكلام ولهم بها كان بعيداً فكيف مع سقوط اللام ؟ لأنه يوهم أن قوله : وهمّ بها هو جواب لولا ، ونحن لم نقل بذلك ، وإنما هو دليل الجواب . وعلى تقدير أن يكون نفس الجواب فاللام ليست بلازمة لجواز أن ما يأتي جواب لولا إذا كان بصيغة الماضي باللام ، وبغير لام تقول : لولا زيد لأكرمتك ، ولولا زيد أكرمتك . فمن ذهب إلى أن قوله : وهم بها هو نفس الجواب لم يبعد ، ولا التفات لقول ابن عطية إنّ قول من قال : إن الكلام قد تم في قوله : ولقد همت به ، وإن جواب لولا في قوله وهم بها ، وإن المعنى لولا أن رأى البرهان لهمّ بها فلم يهم يوسف عليه السلام قال ، وهذا قول يرده لسان العرب وأقوال السلف انتهى . أما قوله : يرده لسان العرب فليس كما ذكر ، وقد استدل من ذهب إلى جواز ذلك بوجوده في لسان العرب قال اللّه تعالى : { إِن كَادَتْ لَتُبْدِى بِهِ لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } فقوله : إنْ كادت لتبدي به ، إما أن يتخرج على أنه الجواب على ما ذهب إليه ذلك القائل ،

وإما أن يتخرج على ما ذهبنا إليه من أنه دليل الجواب ، والتقدير : لولا أن ربطنا على قلبها لكادت تبدى به .

وأما أقوال السلف فنعتقد أنه لا يصح عن أحد منهم شيء من ذلك ، لأنها أقوال متكاذبة يناقض بعضها بعضاً ، مع كونها قادحة في بعض فساق المسلمين ، فضلاً عن المقطوع لهم بالعصمة . والذي روي عن السلف لا يساعد عليه كلام العرب ، لأنهم قدروا جواب لولا محذوفاً ، ولا يدل عليه دليل ، لأنهم لم يقدروا لهم بها . ولا يدل كلام العرب إلا على أن يكون المحذوف من معنى ما قبل الشرط ، لأنّ ما قبل الشرط دليل عليه ، ولا يحذف الشيء لغير دليل عليه . وقد طهرنا كتابنا هذا عن نقل ما في كتب التفسير مما لا يليق ذكره ، واقتصرنا على ما دل عليه لسان العرب ، ومساق الآيات التي في هذه السورة مما يدل على العصمة ، وبراءة يوسف عليه السلام من كل ما يشين . ومن أراد أن يقف على ما نقل عن المفسرين في هذه الآية فليطالع ذلك في تفسير الزمخشري ، وابن عطية ، وغيرهما .

والبرهان الذي رآه يوسف هو ما آتاه اللّه تعالى من العلم الدال على تحريم ما حرمه اللّه ، واللّه لا يمكن الهم به فضلاً عن الوقوع فيه . كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء .

قال الزمخشري : الكاف منصوب المحل أي : مثل ذلك التثبيت ثبتناه أو مرفوعة أي : الأمر مثل ذلك . و

قال ابن عطية : والكاف من قوله : كذلك ، متعلة بمضمر تقديره : جرت أفعالنا وأقدارنا كذلك لنصرف . ويصح أن تكون الكاف في موضع رفع بتقدير عصمته ، كذلك لنصرف .

وقيل : في الكلام تقديم وتأخير تقديره : همت به وهم بها كذلك ، ثم قال : لولا أن رأى برهان ربه ، لنصرف عنه ما هم به انتهى . وقال الحوفي : كذلك الكاف للتشبيه في موضع نصب أي : أريناه البراهين كذلك .

وقيل : في موضع رفع أي : أمر البراهين كذلك ، والنصب أجود لمطالبة حروف الجر للأفعال أو معانيها . وقال أبو البقاء : كذلك في موضع رفع أي الأمر كذلك .

وقيل : في موضع نصب أي : نراعيه كذلك ، انتهى . وأقول : إن التقدير مثل تلك الرؤية ، أو مثل ذلك الرأي ، نرى براهيننا لنصرف عنه ، فتجعل الإشارة إلى الرأي أو الرؤية ، والناصب للكاف ما دل عليه قوله : لولا أن رأى برهان ربه . ولنصرف متعلق بذلك الفعل الناصب للكاف . ومصدر رأى رؤية ورأي قال :

ورأى عيني الفتى أباكا

يعطي الجزيل فعليك ذاكا

وقرأ الأعمش : ليصرف ، بياء الغيبة عائداً على ربه .

وقرأ العربيان ، وابن كثير : المخلصين إذا كان فيه إلى حيث وقع بكسر اللام ، وباقي السبعة بفتحها . وفي صرف السوء والفحشاء عنه وكونه من المخلصين دليل على عصمته .

٢٥

انظر تسفير الآية:٢٩

٢٦

انظر تسفير الآية:٢٩

٢٧

انظر تسفير الآية:٢٩

٢٨

انظر تسفير الآية:٢٩

٢٩

{وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءا إِلا أَن يُسْجَنَ ... } : أي واستبق يوسف وامرأة العزيز إلى الباب هذا للخروج والهروب منها ، وهذه لمنعه ومراودته . وأصل استبق أن يتعدى بإلى ، فحذف اتساعاً . وتقدم أنّ الأبواب سبعة ، فكان تنفتح له الأبواب باباً باباً من غير مفتاح ، على ما نقل عن كعب أن فراش القفل كان يتناثر ويسقط ، حتى خرج من الأبواب . ويحتمل أن تكون الأبواب المغلقة ليست على الترتيب باباً فباباً ، بل تكون في جهات مختلفة كلها منافذ للمكان الذي كانا فيه ، فاستبقا إلى باب يخرج منه . ولا يكون السابع على الترتيب ، بل أحدها . وقدت يحتمل أن يكون معطوفاً على واستبقا ، ويحتمل أن يكون حالاً أي : وقد قدّت جذبته من خلفه بأعلى القميص من طوقه ، فانخرق إلى أسفله . والقدّ : القطع والشق ، وأكثر استعماله فيما كان طولاً قال : تقدّ السلوقي المضاعف نسجه وتوقد بالصفاح نار الحباحب

والقط : يستعمل فيما كان عرضاً ، وقال المفضل بن حرب : رأيت في مصحف قط من دبر أي شق . قال يعقوب : الشق في الجلد في الصحيح ، والثوب الصحيح . و

قال ابن عطية : وقرأت فرقة قط . وألفيا سيدها أي : وجد أو صادفا زوجها وهو قطفير . والمرأة تقول لبعلها : سيدي ، ولم يضف إليهما ، لأن قطفير ليس سيد يوسف على الحقيقة .

ويقال : ألفاه ووارطه وصادفه ووالطه ولاظه ، كله بمعنى واحد . قيل : ألفياه مقبلاً يريد أن يدخل ،

وقيل : مع ابن عم المرأة . وفي الكلام حذف تقديره : فرابه أمرهما وقال : ما لكما ؟ فلما سأل وقد خافت لومه ، أو سبق يوسف بالقول ، بادرت أن جاءت بحيلة جمعت فيها بين تبرئة ساحتها من الريبة ، وغضبها على يوسف وتخويفه طمعاً في مواقعتها خيفة من مكرها ، كرهاً لما آيست أن يواقعها طوعاً ألا ترى إلى قولها : ولئن لم يفعل ما آمره ليسجن ؟ ولم تصرح باسم يوسف ، بل أتت بلفظ عام وهو قولها : ما جزاء من أراد ، وهو أبلغ في التخويف . وما الظاهر أنها نافية ، ويجوز أن تكون استفهامية أي : أي شيء جزاؤه إلا السجن ؟ وبدأت بالسجن إبقاء على محبوبها ، ثم ترقت إلى العذاب الأليم ، قيل : وهو الضرب بالسوط . وقولها : ما جزاء أي : إن الذنب ثابت متقرر في حقه ، وأتت بلفظ بسوء أي : بما يسوء ، وليس نصاً في معصية كبرى ، إذ يحتمل خطابه لها بما يسوؤها ، أو ضربه إياها . وقوله : إلا أن يسجن أو عذاب ، يدل على عظم موقع السجن من ذوي الأقدار حيث قرنته بالعذاب الأليم .

وقرأ زيد بن علي : أو عذاباً أليماً ، وقدره الكسائي أو يعذب عذاباً أليماً . ولما أغرت بيوسف وأظهرت تهمته احتاج إلى إزالة التهمة عن نفسه فقال : هي راودتني عن نفسي ، ولم يسبق إلى القول أولاً ستراً عليها ، فلما خاف على نفسه وعلى عرضه الطاهر قال : هي ، وأتى بضمير الغيبة ، إذ كان غلب عليه الحياء أن يشير إليها ويعينها بالإشارة فيقول : هذه راودتني ، أو تلك راودتني ، لأكن في المواجهة بالقبيح ما ليس في الغيبة . ولما تعارض قولاهما عند العزيز وكان رجلاً فيه إناءة ونصفة ، طلب الشاهد من كل منهما ، فشهد شاهد من أهلها . فقال أبو هريرة ، وابن عباس ، والحسن ، وابن جبير ، وهلال بن يساف ، والضحاك : كان ابن خالتها طفلاً في المهد أنطقه اللّه تعالى ليكون أدل على الحجة . وروي في الحديث : { إِنَّهُ مِنَ نُكَلّمُ مَن كَانَ فِى الْمَهْدِ } وأسنده الطبري . وفي صحيح البخاري وصحيح مسلم : { لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة ، عيسى بن مريم ، وصاحب جريج ، وابن السوداء }

وقيل : كان ابن عمها الذي كان مع زوجها لدى الباب ، ولا ينافي هذا قول قتادة ، كان رجلاً حليماً من أهلها ذا رأي يأخذ الملك برأيه ويستشيره .

وقيل : كان حكماً حكمه زوجها فحكم بينهما ، وكان الشاهد من أهلها ليكون أوجب للحجة عليها ، وأوثق لبراءة يوسف ، وأنفى للتهمة . ويحتمل أن يكون معهما في الدار بحيث لا يشعر به ، فبصر بما جرى بينهما ، فأغضبه اللّه ليوسف ، وشهد بالحق . ويبعد قول مجاهد وابن حبيب أنّ الشاهد هو القميص المقدود لقوله : شاهد من أهلها ، ولا يوصف القميص بكونه شاهداً من أهل المرأة . وسمى الرجل شاهداً من حيث دل على الشاهد ، وهو تخريق القميص .

وقال الزمخشري : سمى قوله شهادة لأنه أدى تأديتها في ثبت قول يوسف وبطل قولها ، وإن كان قميصه محكي إما بقال مضمرة على مذهب البصريين ،

وإما بشهد ، لأنّ الشهادة قول من الأقوال على مذهب الكوفيين . وكان هنا دخلت عليها أداة الشرط ، وتقدم خلاف المبرد والجمهور فيها ، هل هي باقية على مضيها ولم تقلها أداة الشرط ؟ أو المعنى : أن يتبين كونه . فأداة الشرط في الحقيقة إنما دخلت على هذا المقدر . وجواب الشرط فصدقت وفكذبت ، وهو على إضمار قد أي : فقد صدقت ، وفقد كذبت . ولو كان فعلاً جامداً أو دعاء لم يحتج إلى تقدير قد .

وقرأ الجمهور : من قبل ، ومن دبر ، بضم الباء فيهما والتنوين .

وقرأ الحسن وأبو عمر ،

وفي رواية : بتسكينها وبالتنوين ، وهي لغة الحجاز وأسد .

وقرأ ابن يعمر ، وابن أبي إسحاق ، والعطاردي ، وأبو الزناد ، ونوح القارىء ، والجار ودبن أبي سبرة بخلاف عنه : من قبل ، ومن دبر ، بثلاث سمات .

وقرأ ابن يعمر ، وابن أبي إسحاق ، والجارود أيضاً في رواية عنهم : بإسكان الباء مع بنائهما على الضم ، جعلوها غاية نحو : من قبل . ومعنى الغاية أن يصير المضاف غاية نفسه بعدما كان المضاف إليه غايته ، والأصل إعرابهما لأنهما اسمان

متمكنان ، وليسا بظرفين . وقال أبو حاتم : وهذا رديء في العربية ، وإنما يقع هذا البناء في الظروف .

وقال الزمخشري : والمعنى من قبل القميص ومن دبره ،

وأما التنكير فمعناه من جهة يقال لها : قبل ، ومن جهة يقال لها : دبر . وعن ابن أبي إسحاق : أنه قرأ من قبل ومن دبر بالفتح ، كان جعلهما علمين للجهتين ، فمنعهما الصرف للعلمية والتأنيث . وقال أيضاً :  { فإن قلت } : إن دل قد قميصه من دبر على أنها كاذبة وأنها هي التي تبعته واجتذبت ثوبه إليها فقدّته ، فمن أين دل قدّه من قبل على أنها صادقة ، وأنه كان تابعها ؟ { قلت} : من وجهين :

أحدهما : أنه إذا كان تابعها وهي دافعة عن نفسها فقدت قميصه من قدامه بالدفع .

والثاني : أن يسرع خلفها ليلحقها ، فيتعثر في قدام قميصه فيشقه انتهى . وقوله : وهو من الكاذبين ، وهو من الصادقين ، جملتان مؤكدتان لأنّ من قوله : فصدقت ، يعلم كذبه . ومن قوله : فكذبت ، يعلم صدقه . وفي بناء قد للمفعول ستر على من قده ، ولما كان الشاهد من أهلها راعي جهة المرأة فبدأ بتعليق صدقها على تبين كون القميص قد من قبل ، ولما كانت كل جملة مستقلة بنفسها أبرز إسم كان بلفظ المظهر ، ولم يضمر ليدل على الاستقلال ، ولكون التصريح به أوضح . وهو نظير قوله : { مَّنْ يُطِعِ اللّه وَرَسُولَهُ فَقَدْ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى } فلما رأى العزيز ،

وقيل : الشاهد قميصه قد من دبر قال : إنه أي إن قولك : ما جزاء إلى آخره قاله الزجاج ، أو أن هذا الأمر وهو طمعها في يوسف ذكره الماوردي والزمخشري ، أو إلى تمزيق القميص قاله : مقاتل والخطاب في من كيدكن لها ولجواريها ، أولها وللنساء . ووصف كيد النساء بالعظم ، وإن كان قد يوجد في الرجال ، لأنهن ألطف كيداً بما جبلن عليه وبما تفرغن له ، واكتسب بعضهن من بعض ، وهن أنفذ حيلة .

وقال تعالى :{ وَمِن شَرّ النَّفَّاثَاتِ فِى الْعُقَدِ }

وأما اللواتي في القصور فمعهن من ذلك ما لا يوجد لغيرهن ، لكونهن أكثر تفرغاً من غيرهن ، وأكثر تأنساً بأمثالهن .

يوسف أعرض عن هذا أي : عن هذا الأمر واكتمه ، ولا تتحدث به . وفي ندائه باسمه تقريب له وتلطيف ، ثم أقبل عليها وقال : واستغفري لذنبك ، والظاهر أنّ المتكلم بهذا هو العزيز .

وقال ابن عباس : ناداه الشاهد وهو الرجل الذي كان مع العزيز وقال : استغفري لذنبك ، أي لزوجك وسيدك انتهى . ثم ذكر سبب الاستغفار وهو قوله : لذنبك ، ثم أكد ذلك بقوله : إنك كنت من الخاطئين ، ولم يقل من الخاطئات ، لأن الخاطئين أعم ، لأنه ينطلق على الذكور والإناث بالتغليب . يقال : خطىء إذا أذنب متعمداً .

قال الزمخشري : وما كان العزيز إلا حليماً ، روي أنه كان قليل الغيرة انتهى . وتربة إقليم قطفير اقتضت هذا ، وأين هذا مما جرى لبعض ملوكنا أنه كان مع ندمائه المختصين به في مجلس أنه وجارية تغنيهم من وراء ستر ، فاستعاد بعض خلصائه بيتين من الجارية كانت قد غنت بهما ، فما لبث أن جيء برأس الجارية مقطوعاً في طست وقال له الملك : استعد البيتين من هذا الرأس ، فسقط في يد ذلك المستعيد ، ومرض مدة حياة ذلك الملك .

٣٠

وقال نسوة في . . . . .

النسوة بكسر النون فعلة ، وهو جمع تكسير للقلة لا واحد له من لفظه . وزعم ابن السراج أنه اسم جمع .

وقال الزمخشري : النسوة اسم مفرد لجمع المرأة ، وتأنيثه غير حقيقي ، ولذا لم تلحق فعله تاء التأنيث انتهى . وعلى أنه جمع تكسير لا يلحق التاء لأنه يجوز : قامت الهنود ، وقام الهنود . وقد تضم نونه فتكون إذ ذاك اسم جمع ، وتكسيره للكثرة على نسوان ، والنساء جمع تكسير للكثرة أيضاً ، ولا واحد له من لفظه .

شغف : خرق الشغاف ، وهو حجاب القلب .

وقيل : سويداؤه ،

وقيل : داء يصل إلى القلب فينفذ إلى القلب . وكسر الغين لغة تميم .

وقيل : الشغاف جلدة رقيقة يقال لها لسان القلب ، شغف وصلت الحدة إلى القلب فكان يحترق من شغف البعير إذا هنأه فأحرقه بالقطران ، والمشغوف الذي أحرق الحب قلبه . ومنه قول الأعشى : يعصي الوشاة وكان الحب آونة

مما يزين للمشفوف ما صنعا

وقد تكسر غينه . المتكأ : الوسادة ، والنمرقة . المتك : الأترج ، والواحد متكة قال الشاعر :

فاهدت متكة لهي أبيها

وقيل : اسم يعم جميع ما يقطع بالسكين الأترج وغيره من الفواكه . قال : يشرب الإثم بالصواع جهارا

ونرى المتك بيننا مستعارا

وهو من متك بمعنى بتك الشيء أي قطعه . وقال صاحب اللوامح : المتك بالضم عند الخليل ، العسل ، وعند الأصمعي الأترج . وقال أبو عمر : والشراب الخالص . وقال أبو عمر : وفيه ثلاث لغات ، المتك بالحركات الثلاث ،

وقيل : بالكسر الخلال ،

وقيل : بل المسك . وقال الكسائي أيضاً : فيه اللغات الثلاث ، وقد يكون بالفتح المجمر عند قضاعة . وقال أيضاً : قد يكون في اللغات الثلاث الفالوذ المعقد . وقال الفضل : في اللغات الثلاث هو المبزماورد ، وكل ملفوف بلحم ورقاق . وقال أيضاً : المتك بالضم المائدة ، أو الخمر في لغة كندة . السكين : تذكر وتؤنث ، قاله الفراء والكسائي . ولم يعرف الأصمعي فيه إلا التذكير . حاش : قال الفراء من السرب من يتمها ، وفي لغة الحجاز : حاش لك ، وبعض العرب : حشى زيد كأنه أراد حشى لزيد ، وهي في أهل الحجاز انتهى .

وقال الزمخشري : حاشى كلمة تفيد معنى التنزيه في الاستثناء ، تقول : أساء القوم حاشى زيد . قال : حاشى أبي ثوبان أن لنا

ضنا عن الملحاة والشتم

وهي حرف من حروف الجر فوضعت موضع التنزيه والبراءة ، فمعنى حاش اللّه : براءة اللّه ، وتنزيه اللّه انتهى . وما ذكر أنها تفيد معنى التنزيه في باب الاستثناء غير معروف عند النحويين ، لا فرق بين قولك : قام القوم إلا زيداً ، وقام القوم حاشى زيد . ولما مثل بقوله أساء القوم حاشى زيد ، وفهم من هذا التمثيل براءة زيد من الإساءة ، جعل ذلك مستفاداً منها في كل موضع .

وأما ما أنشده من قوله : حاشى أبي ثوبان ، فكذا ينشده ابن عطية ، وأكثر النحاة . وهو بيت ركبوا فيه صدر بيت على عجز آخر ، وهما من بيتين وهما :

حاشى أبي ثوبان أن أبا ثوبان ليس ببُكْمَة فدْمِ عمرو بن عبد اللّه إن به

ضنًّا عن الملحاة والشتَم

عصر العنب وغيره أخرج ما فيه من المائع بقوة . الخبر : معروف ، وجمعه اخباز ، ومعانيه خباز . البضع : ما بين الثلاث إلى التسع قاله قتادة . وقال مجاهد : من الثلاثة إلى السبعة ، وقال أبو عبيدة : البضع لا يبلغ العقد ولا نصف العقد ، وإنما هو من الواحد إلى العشرة . وقال الفراء : ولا يذكر البضع إلا مع العشرات ، ولا يذكر مع مائة ولا

ألف . السمن : معروف وهو مصدر سمن يسمن ، واسم الفاعل سمين ، والمصدر واسم الفاعل على غير قياس . العجفاء : المهذولة جداً قال :

ورجال مكة مستنون عجاف

الضغث أقل من الحزمة وأكثر من القبضة من النبات والعشب من جنس واحد أو ، من أخلاط النبات والعشب فمن جنس واحد ما روي في قوله : { وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِب بّهِ } إنه أخذ عثكالاً من النخل . وروي أنّ الرسول صلى اللّه عليه وسلم فعل نحو هذا في إقامة حد على رجل . وقال ابن مقبل : خود كأن راشها وضعت به

أضغاث ريحان غداة شمال

ومن الأخلاط قول العرب في أمثالها : ضغث على إمالة .

{وَقَالَ نِسْوَةٌ فِى الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ } : لم تلحق تاء التأنيث لأنه جمع تكسير المؤنث ، ويجوز فيه الوجهان . ونسوة كما ذكرنا جمع قلة . وكن على ما نقل خمساً : امرأة خبازة ، وامرأة ساقية ، وامرأة بوابة ، وامرأة سجانة ، وامرأة صاحب دوابة في المدينة هي مصر . ومعنى في المدينة : أنهم أشاعوا هذا الأمر من حب امرأة العزيز ليوسف ، وصرحوا بإضافتها إلى العزيز مبالغة في التشنيع ، لأن النفوس أقبل لسماع ذوي الأخطار وما يجري لهم . وعبرت بتراود وهو المضارع الدال على أنه صار ذلك سجية لها ، تخادعه دائماً عن نفسه كما تقول : زيد يعطي ويمنع . ولم يقلن : راودت فتاها ، ثم نبهن على علة ديمومة المراودة وهي كونه قد شغفها حباً أي : بلغ حبه شغاف قلبها . وانتصب حباً على التمييز المنقول من الفاعل كقوله : ملأت الإناء ماء ، أصله ملأ الماء الإناء . وأصل هذا شغفها حبه ، والفتى الغلام وعرفه في المملوك . وفي الحديث : { لا يقل أحدكم عبدي وأمتي وليقل فتاي وفتاتي } ، وقد قيل في غير المملوك . وأصل الفتى في اللغة الشاب ، ولكنه لما كان جل الخدمة شباناً استعير لهم اسم الفتى .

وقرأ ثابت البناتي : شغفها بكسر الغين المعجمة ، والجمهور بالفتح .

وقرأ علي بن أبي طالب ، وعلي بن الحسين ، وابنه محمد بن علي ، وابنه جعفر بن محمد ، والشعبي ، وعوف الأعرابي : بفتح العين المهملة ، وكذلك قتادة وابن هرمز ومجاهد وحميد والزهري بخلاف عنهم ، وروي عن ثابت البناني وابن رجاء كسر العين المهملة . قال ابن زيد : الشغف ف يالحب ، والشغف في البغض . وقال الشعبي : الشغف والمشغوف بالغين منقوطة في الحب ، والشغف الجنون ، والمشعوف المجنون . وأدغم النحويان ، وحمزة ، وهشام ، وابن محيصن دال قد في شين شغفها . ثم نقمن عليها ذلك فقلن : إنا لنراها في ضلال مبين أي : في تحير واضح للناس .

٣١

{فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئًا وَءاتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مّنْهُنَّ سِكّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ } : روي أن تلك المقالة الصادرة عن النسوة إنما قصدن بها المكر بامرأة العزيز ليغضبنها حتى تعرض عليهن يوسف ليبين عذرها ، أو يحق لومها ومكرهن هو اغتيابهن إياها ، وسوّء مقالتهن فيها أنها عشقت يوسف . وسمي الاغتياب مكراً ، لأنه في خفية وحال غيبة ، كما يخفي الماكر مكره .

وقيل : كانت استكتمتهن سرها فأفشينه عليها ، أرسلت إليهن ليحضرن . قيل : دعت أربعين امرأة منهن الخمس المذكورات . والظاهر عود الضمير على تلك النسوة القائلة ما قلن عنها .

وأعتدت لهن متكئاً أي : يسرت

وهيئأت لهن ما يتكئن عليه من النمارق والمخادّ والوسائد ، وغير ذلك مما يكون في مجلس أعد للكرامة . ومن المعلوم أن هذا النوع من الإكرام لا يخلو من طعام وشراب ، وهنا محذوف تقديره : فجئن واتكأن . ومتكئاً إما أن يراد به الجنس ،

وإما أن يكون المراد وأعتدت لكل واحدة منهن متكئاً ، كما جاءت وآتت كل واحدة منهن سكيناً . قال ابن عباس متكئاً مجلساً ، ذكره الزهراوي ، ويكون متكئاً ظرف مكان أي : مكاناً يتكئن فيه . وعلى ما تقدم تكون الآلات التي يتكأ عليها . وقال مجاهد : المتكأ الطعام يحز حزاً . قال القتبي : يقال اتكأ عند فلان أي أكلنا ، ويكون هذا من المجاز عبر بالهيئة التي يكون عليها الآكل المترف بالمتكأ وهي عادة المترفين ، ألا ترى إلى قوله صلى اللّه عليه وسلم : { أَمَّا أَنَاْ فَلا أَكَلَ مُتَّكَئًا } أو كما قال : وإذا كان المتكأ ليس معبراً به عما يؤكل ، فمعلوم أنّ مثل هذا المجلس لا بد فيه من طعام وشراب ، فيكون في جملة الطعام ما يقطع بالسكاكين . فقيل : كان لحماً وكانوا لا ينهشون اللحم ، إنما كانوا يأكلونه حزاً بالسكاكين .

وقيل : كان أترجاً ،

وقيل : كان بزماورد وهو شبيه بالأترج موجود في تلك البلاد .

وقيل : هو مصنوع من سكر ولوز وأخلاط ، ومضمونه : أنه يحتاج إلى أن يقطع بالسكين ، وعادة من يقطع شيئاً أن يعتمد عليه ، فيكون متكئاً عليه . قيل : وكان قصدها في بروزهن على هذه الهيئات متكئات في أيديهن سكاكين يحززن بها شيئين :

أحدهما : دهشن عند رؤيته وشغلهن بأنفسهن ، فتقع أيديهن على أيديهن فيقطعنها فتبكتهن ، ويكون ذلك مكراً بهن إذ ذهلن عما أصابهنّ من تقطيع أيديهن ، وما أحسسن به مع الألم الشديد لفرط ما غلب عليهن من استحسان يوسف وسلبه عقولهن .

والثاني : التهويل على يوسف بمكرها إذا خرج على نساء مجتمعات في أيديهن الخناجر ، توهمه أنهن يثبن عليه ، فيكون يحذر مكرها دائماً . ولعله يجيبها إلى مرادها على زعمها ذلك ، ويوسف قد عصمه اللّه من كل ما تريده به من السوء .

وقرأ الزهري ، وأبو جعفر ، وشيبة : متكي مشدد التاء من غير همز بوزن متقي ، فاحتمل ذلك وجهين :

أحدهما : أن يكون من الاتكاء ، وفيه تخفيف الهمز كما قالوا في توضأت توضئة .

والثاني : يكون مفتعلاً من أوكيت السقاء إذا شددته أي : ما يشتددن عليه ، إما بالاتكاء ،

وإما بالقطع بالسكين .

وقرأ الأعرج : متكئاً مفعلاً من تكأ يتكأ إذا اتكأ .

وقرأ الحسن : وابن هرمز : متكأ بالمد والهمز ، وهو مفتعل من الاتكاء ، إلا أنه أشبع الفتحة فتولدت منها الألف كما قالوا : ومن ذم الرجال بمنتزاح . وقالوا : أعوذ باللّه من العقراب

الشائلات عقد الاذناب

وقرأ ابن عباس ، وابن عمر ، ومجاهد ، وقتادة ، والضحاك ، والجحدري ، والكلبي ، وإبان بن تغلب : متكئاً بضم الميم وسكون التاء وتنوين الكاف ، وجاء كذلك عن ابن هرمز .

وقرأ عبد اللّه ومعاذ ، وكذلك إلا أنهما فتحا الميم ، وتقدم تفسير متك ، ومتك في المفردات . وقالت : اخرج عليهن ، هذا الخطاب ليوسف عليه السلام . وخروجه يدل على طواعيتها فيما لا يعصي اللّه فيه ، وفي الكلام حذف تقديره : فخرج عليهن . ومعنى أكبرنه : أعظمنه ودهشن برؤية ذلك الجمال الفائق الرائع . قيل : كان فضل يوسف على الناس في الحسن كفضل القمر ليلة البدر على نجوم السماء . وفي حديث الإسراء أن الرسول صلى اللّه عليه وسلم لما أخبر بلقيا يوسف قيل : يا رسول اللّه كيف رأيته ؟ قال : { كالقمر ليلة البدر }

وقيل : كان إذا سار في أزقة مصر يرى تلألؤ وجهه على الجدران ، كما يرى نور الشمس .

وقيل : كان يشبه آدم يوم خلقه ربه .

وقيل : ورث الجمال عن جدته سارة . وقال عبد الصمد بن علي الهاشمي ، عن أبيه ، عن جده : معناه حضن ، وأنشد بعض النساء حجة لهذا التأويل :

تأتي النساء على أطهارهن ولا

تأتي النساء إذا أكبرن إكبارا

قال ابن عطية : وهذا قول ضعيف ، والبيت مصنوع مختلق ، كذلك قال الطبري وغيره من المحققين ، وليس عبد الصمد من رواة العلم رحمة اللّه .

وقال الزمخشري :

وقيل أكبرن بمعنى حضن ، والهاء للسكت يقال : أكبرت المرأة إذا حاضت ، وحقيقته من الكبر لأنها بالحيض تخرج عن حد الصغر إلى حد الكبر ، وكأن أبا الطيب أخذ من هذا التفسير قوله : خف اللّه واستر ذا الجمال ببرقع

فإن لحت حاضت في الخدور العواتق انتهى . وإجماع القراء على ضم الهاء في الوصل دليل على أنها ليست هاء السكت ، إذ لو كانت هاء السكت ، وكان من أجرى الوصل مجرى الوقف ، لم يضم الهاء . والظاهر أن الضمير يعود في أكبرنه على يوسف إن ثبت أن أكبر بمعنى حاض ، فتكون الهاء عائدة على المصدر أي : أكبرن الإكبار . وقطعن أيديهن أي جرحنها ، كما تقول : كنت أقطع اللحم فقطعت يدي . والتضعيف للتكثير إما بالنسبة لكثرة القاطعات ،

وإما بالنسبة لتكثير الحز في يد كل واحدة منهن . فالجرح كأنه وقع مراراً في اليد الواحدة وصاحبتها لا تشعر لما ذهبت بما راعها من جمال يوسف ، فكأنها غابت عن حسها . والظاهر أن الأيدي هي الجوارح المسماة بهذا الاسم .

وقال عكرمة : الأيدي هنا الأكمام ، ولما فعلن هذا الفعل الصعب من جرح أيديهن ، وغلب عليهن ما رأين من يوسف وحسنه قلن : حاش للّه . قرأ الجمهور : حاش للّه بغير ألف بعد الشين ، وللّه بلام الجر .

وقرأ أبو عمرو : حاشا للّه بغير ألف ، ولام الجر . وقرأت فرقة منهم الأعمش : حشى على وزن رمى للّه بلام الجر .

وقرأ الحسن : حاش بسكون الشين وصلاً ، ووقفاً بلام الجر .

وقرأ أبيّ وعبد اللّه : حاشى اللّه بالإضافة ، وعنهما كقراءة أبي عمرو ، قاله صاحب اللوامح .

وقرأ الحسن : حاش الإله .

قال ابن عطية : محذوفاً من حاشى . وقال صاحب اللوامح : بحذف الألف ، وهذه تدل على كونه حرف جر يجر ما بعده . فأما الإله فإنه فكه عن الإدغام ، وهو مصدر أقيم مقام المفعول ، ومعناه المألوه بمعنى المعبود . قال : وحذفت الألف من حاش للتخفيف انتهى . وهذا الذي قاله ابن عطية وصاحب اللوامح : من أن الألف في حاشى في قراءة الحسن محذوفة لا تتعين ، إلا أن نقل عنه أنه يقف في هذه القراءة بسكون الشين ، فإن لم ينقل عنه في ذلك شيء فاحتمل أن تكون الألف حذفت لالتقاء الساكنين ، إذ الأصل حاشى الإله ، ثم نقل فحذف الهمزة وحرّك اللام بحركتها ، ولم يعتد بهذا التحريك لأنه عارض ، كما تنحذف في يخشى الإله . ولو اعتد بالحركة لم تحذف الألف .

وقرأ أبو السمأل : حاشا للّه بالتنوين كرعياً للّه ، فأما القرءات للّه بلام الجر في غير قراءة أبي السمأل فلا يجوز أن يكون ما قبلها من حاشى ، أو حاش ، أو حشى ، أو حاش حرف جر ، لأنّ حرف الجر لا يدخل على حرف الجر ، ولأنه تصرف فيهما بالحذف ، وأصل التصرف بالحذف أن لا يكون في الحروف . وزعم المبرد وغيره كابن عطية : أنه يتعين فعليتها ، ويكون الفاعل ضمير يوسف أي : حاشى يوسف أن يقارف ما رمته به . ومعنى للّه : لطاعة اللّه ، أو لمكانة من اللّه ، أو لترفيع اللّه أن يرمي بما رمته به ، أو يذعن إلى مثله ، لأنّ ذلك أفعال البشر ، وهو ليس منهم ، إنما هو ملك . وعلى هذا تكون اللام في للّه للتعليل أي : جانب يوسف المعصية لأجل طاعة اللّه ، أو لما ذهب قبل . وذهب غير المبرد إلى أنها اسم ، وانتصابها انتصاب المصدر الواقع بدلاً من اللفظ بالفعل كأنه قال : تنزيهاً للّه . ويدل على اسميتها قراءة أبي السمال حاشا

منوناً ، وعلى هذا القول يتعلق للّه بمحذوف على البيان كلك بعد سقيا ، ولم ينون في القراآت المشهورة مراعاة لأصله الذي نقل منه وهو الحرف . ألا تراهم قالوا : من عن يمينه ، فجعلوا عن اسماً ولم يعربوه وقالوا : من عليه فلم يثبتوا ألفه مع المضمر ، بل أبقوا عن على بنائه ، وقلبوا ألف على مع الضمير مراعاة لأصلها ،

وأما قراءة الحسن وقراءة أبي بالإضافة فهو مصدر مضاف إلى ألفه كما قالوا : سبحان اللّه ، وهذا اختيار الزمخشري . و

قال ابن عطية :

وأما قراءة أبي بن كعب وابن مسعود فقال أبو علي : إن حاشى حرف استثناء ، كما قال الشاعر :

حاشى أبي ثوبان

وأما قراءة الحسن حاش بالتسكين ففيها جمع بين ساكنين ، وقد ضعفوا ذلك .

قال الزمخشري : والمعنى تنزيه اللّه من صفات العجز ، والتعجب من قدرته على خلق جميل مثله .

وأما قوله : حاشى للّه ، ما علمنا عليه من سوء ، فالتعجب من قدرته على خلق عفيف مثله . ما هذا بشراً لما كان غريب الجمال فائق الحسن عما عليه حسن صور الإنسان ، نفين عنه البشرية ، وأثبتن له الملكية ، لما كان مركوزاً في الطباع حسن الملك ، وإن كان لا يرى . وقد نطق بذلك شعراء العرب والمحدثون قال بعض العرب : فلست لأنسى ولكن لملاك

تنزل من جو السماء يصوب

وقال بعض المحدثين : قوم إذا قوبلوا كانوا ملائكة

حسناً وإن قوتلوا كانوا عفاريتا

وانتصاب بشراً على لغة الحجاز ، ولذا جاء { مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ } وما منكم من أحد عنه حاجزين ، ولغة تميم الرفع .

قال ابن عطية : ولم يقرأ به .

وقال الزمخشري : ومن قرأ على سليقته من بني تميم قرأ بشر بالرفع ، وهي قراءة ابن مسعود انتهى .

وقرأ الحسن وأبو الحويرث الحنفي : ما هذا بشرى ، قال صاحب اللوامح : فيحتمل أن يكون معناه بمبيع أو بمشرى أي : ليس هذا مما يشترى ويباع . ويجوز أن يكون ليس بثمن كأنه قال : هو أرفع من أن يجري عليه شيء من هذه الأشياء ، فالشراء هو مصدر أقيم مقام المفعول به . وتابعهما عبد الوارث عن أبي عمرو على ذلك ، وزاد عليهما : إلا ملك بكسر اللام واحد الملوك ، فهم نفوا بذلك عنه ذل المماليك وجعلوه في حيز الملوك ، واللّه أعلم انتهى . ونسب ابن عطية كسر اللام للحسن وأبي الحويرث اللذين قرآ بشرى قال : لما استعظمن حسن صورته قلن هذا ما يصلح أن يكون عبداً بشرى ، إنْ هذا إلا يصلح أن يكون ملكاً كريماً .

وقال الزمخشري : وقرىء ما هذا بشرى أي : بعبد مملوك لئيم ، إنْ هذا إلا ملك كريم . تقول : هذا بشرى أي حاصل بشرى ، بمعنى هذا مشتري . وتقول : هذا لك بشرى ، أي بكراً . وقال : وإعمال ما عمل ليس هي اللغة القدمى الحجازية ، وبها ورد القرآن انتهى . وإنما قال القدمي ، لأنّ الكثير في لغة الحجاز إنما هو جر الخبر بالباء ، فتقول : ما زيد بقائم ، وعليه أكثر ما جاء في القرآن .

وأما نصب الخبر فمن لغة الحجاز القديمة ، حتى أنّ النحويين لم يجدوا شاهداً على نصب الخبر في أشعار الحجازيين غير قول الشاعر :

وأنا النذير بحرة مسودة

تصل الجيوش إليكم أقوادها

أبناؤها متكنفون أباهم

حنقو الصدور وما هم أولادها

وقال الفراء وهو سامع لغة حافظ ثقة : لا يكاد أهل الحجاز ، ينطقون إلا بالباء ، فلما غلب على أهل الحجاز النطق بالباء

قال الزمخشري : اللغة القدمى الحجازية ، فالقرآن جاء باللغتين القدمى وغيرها .

٣٢

انظر تسفير الآية:٣٥

٣٣

انظر تسفير الآية:٣٥

٣٤

انظر تسفير الآية:٣٥

٣٥

{قَالَتْ فَذالِكُنَّ الَّذِى لُمْتُنَّنِى فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا ءامُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مّن الصَّاغِرِينَ } : ذا اسم الإشارة ، واللام لبعد المشار ، وكن خطاب لتلك النسوة . واحتمل أن يكون لما رأى دهشهن وتقطيع أيديهن بالسكاكين وقولهن : ما هذا بشراً ، بعد عنهن إبقاء عليهن في أنْ لا تزداد فتنتهن ، وفي أنْ يرجعن إلى حسنهن ، فأشارت إليه باسم الإشارة الذي للبعيد ، ويحتمل أن تكون أشارت إليه وهو للبعد قريب بلفظ البعيد رفعاً لمنزلته في الحسن ، واستبعاد المحله فيه ، وأنه لغرابته بعيد أن يوجد منه . واسم الإشارة تضمن الأوصاف السابقة فيه كأنه قيل : الذي قطعتن أيديكن بسببه وأكبرتنه وقلتن فيه ما قلتن من نفي البشرية عنه وإثبات الملكية له ، هو الذي لمتنني فيه أي : في محبته وشغفي به ،

قال الزمخشري : ويجوز أن يكون إشارة إلى المعنى بقولهن : عشقت عبدها الكنعاني تقول : هذا ذلك العبد الكنعاني الذي صورتن في أنفسكن ثم لمتنني فيه ، يعني : إنكن لو تصورنه بحق صورته ، ولو صورتنه بما عاينتن لعذرتنني في الافتننان به انتهى . والضمير في فيه عائد على يوسف . و

قال ابن عطية : ويجوز أن تكون الإشارة إلى حب يوسف ، والضمير عائد على الحب ، فيكون ذلك إشارة إلى غائب على بابه انتهى . ثم أقرت امرأة العزيز للنسوة بالمراودة ، واستنامت إليهن في ذلك ، إذ علمت أنهن قد عذرنها .

فاستعصم

قال ابن عطية : معناه طلب العصمة ، وتمسك بها وعصاني .

وقال الزمخشري : والاستعصام بناء مبالغة يدل على الامتناع البليغ والتحفظ الشديد ، كأنه في عصمة وهو يجتهد في الاستزادة منها ، ونحو : استمسك ، واستوسع ، ، واستجمع الرأي ، واستفحل الخطب . وهذا بيان لما كان من يوسف عليه السلام لا مزيد عليه ، وبرهان لا شيء أنور منه على أنه بريء مما أضاف إليه أهل الحشو مما فسروا به الهمّ والبرهان انتهى . والذي ذكر التصريفيون في استعصم أنه موافق لاعتصم ، فاستفعل فيه موافق لافتعل ، وهذا أجود من جعل استفعل فيه للطلب ، لأن اعتصم يدل على وجود اعتصامه ، وطلب العصمة لا يدل على حصولها .

وأما أنه بناء مبالغة يدل على الاجتهاد في الاستزادة من العصمة ، فلم يذكر التصريفيون هذا المعنى لاستفعل .

وأما استمسك واستوسع واستجمع الرأي فاستفعل فيه موافقة لافتعل ، والمعنى : امتسك واتسع واجتمع الرأي ،

وأما استفحل الخطب فاستفعل فيه موافقة لتفعل أي : تفحل الخطب نحو : استكبر وتكبر . ثم جعلت تتوعده مقسمة على ذلك وهو يسمع قولها بقولها : ولئن لم يفعل ما آمره . والضمير في آمره عائد على الموصول أي : ما آمر به ، فحذف الجار ، كما حذف في أمرتك الخير . ومفعول آمر الأول محذوف ، وكان التقدير ما آمره به . وإن جعلت ما مصدرية جاز ، فيعود الضمير على يوسف أي : أمري إياه ، ومعناه : موجب أمري . وقرأت فرقة : وليكونن بالنون المشددة ، وكتبها في المصحف بالألف مراعاة لقراءة الجمهور بالنون الخفيفة ، ويوقف عليها بالألف كقول الأعشى :

ولا تعبد الشيطان واللّه فاعبدا

ومن الصاغرين : من الأذلاء ، ولم يذكر هنا العذاب الأليم الذي ذكرته في ما جزاء من أراد بأهلك سوءا ، لأنها إذ ذاك كانت في طراوة غيظها ومتنصلة من أنها هي التي راودته ، فناسب هناك التغليظ بالعقوبة .

وأما هنا فإنها في طماعية ورجاء ، وأقامت عذرها عند النسوة ، فرقت عليه ، فتوعدته بالسجن . وقال له النسوة : أطع وافعل ما أمرتك به ، فقال : رب السجن أحب إليّ مما يدعونني إليه . فأسند الفعل إليهن لما ينصحن له وزين له مطاوعتها ، ونهينه عن الفاء نفسه في السجن والصغار ، فالتجأ إلى اللّه تعالى . والتقدير : دخول السجن .

وقرأ عثمان ، ومولاه طارق ، وزيد بن علي ، والزهري ، وابن أبي إسحاق ، وابن هرمز ، ويعقوب : السجن بفتح السين وهو مصدر سجن أي : حبسهم إياي في السجن أحب إليّ وأحب هنا ليست على بابها من التفضيل ، لأنه لم يحب ما يدعونه إليه قط ، وإنما هذان شران ، فآثر أحد الشرّين على الآخر ، وإن كان في أحدهما مشقة وفي الآخر لذة ، لكن لما يترتب على تلك اللذة من معصية اللّه وسوء العاقبة ، ولم يخطر له ببال . ولما في الآخر من احتمال المشقة في ذات اللّه ، والصبر على النوائب ، وانتظار الفرج ، والحضور مع اللّه تعالى في كل وقت داعياً له في تخليصه . آثره ثم ناط العصمة باللّه ، واستسلم للّه كعادة الأنبياء والصالحين ، وأنه تعالى لا يصرف السوء إلا هو ، فقال : وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن أي : أمل إلى ما يدعونني إليه . وجعل جواب الشرط قوله : أصب ، وهي كلمة مشعرة بالميل فقط ، لا بمباشرة المعصية . وقرىء أصب إليهن من صببت صباة فأنا صب ، والصبابة إفراط الشوق ، كأنه ينصب فيما يهوي . وقراءة الجمهور : أصب من صبا إلى اللّهو يصبو صباً وصبوا ،

ويقال : صبا يصبا صباً ، والصبا بالكسر اللّهو واللعب . وأكن من الجاهلين من الذين لا يعلمون ، لأن من لا جدوى لعلمه فهو ومن لا يعلم سواء ، أو من السفهاء لأنّ الوقوع في موافقة النساء والميل إليهن سفاهة . قال الشاعر : إحدى بليلي وما هام الفؤاد بها

إلا السفاه وإلا ذكرة حلما وذكر استجابة اللّه له ولم يتقدم لفظ دعاء لأن قوله : وإلا تصرف عني ، فيه معنى طلب الصرف والدعاء ، وكأنه قال : رب اصرف عني كيدهن ، فصرف عنه كيدهن أي : حال بينه وبين المعصية . إنه هو السميع لدعاء الملتجئين إليه ، العليم بأحوالهم وما انطوت عليه نياتهم . ثم بدا لهم أي : ظهر لهم ، والفاعل لبدا ضمير يفسره ما يدل عليه المعنى أي : بدا لهم هو أي رأى أو بدا . كما قال :

بدا لك من تلك القلوص بداء

هكذا قاله النحاة والمفسرون ، إلا من أجاز أن تكون الجملة فاعلة ، فإنه زعم أن قوله : ليسجننه في موضع الفاعل لبدا أي : سجنه حتى حين ، والرد على هذا المذهب مذكور في علم النحو . والذي أذهب إليه أن الفاعل ضمير يعود على السجن المفهوم من قوله : ليسجنن ، أو من قوله : السجن على قراءة الجمهور ، أو

على السجن على قراءة من فتح السين . والضمير في لهم للعزيز وأهله ، والآيات هي : الشواهد الدالة على براءة يوسف . قال مجاهد وغيره : قد القميص ، فإن كان الشاهد طفلاً فهي آية عظيمة ، وإن كان رجلاً فيكون استدلالاً بالعادة . والذي يظهر أنّ الآية إنما يعبر بها عن الواضح الجلي ، وجمعها يدل على ظهور أمور واضحة دلت على براءته ، وقد تكون الآيات التي رأوها لم ينص على جميعها في القرآن ، بل رأوا قول الشاهد . وقد القميص وغير ذلك مما لم يذكره .

وأما ما ذكره عكرمة أن من الآيات خمش وجهها ، والسدي من حز أيديهن ، فليس في ذلك دلالة على البراءة فلا يكون آية وليسجننه جواب قسم محذوف والقسم وجوابه معمول لقول محذوف تقديره قائلين .

وقرأ الحسن : لتسجننه بالتاء على خطاب بعضهم العزيز ومن يليه ، أو العزيز وحده على وجه التعظيم .

وقرأ ابن مسعود : عتى بإبدال حاء حتى عيتا ، وهي لغة هذيل . وأقرأ بذلك فكتب إليه يأمره أن يقرىء بلغة قريش حتى لا بلغة هذيل ، والمعنى : إلى زمان . والحبن يدل على مطلق الوقت ، ومن عين له هنا زماناً فإنما كان ذلك باعتبار مدة سجن يوسف ، لا أنه موضوع في اللغة كذلك ، وكأنها اقترحت زماناً حتى تبصر ما يكون منه . وفي سجنهم ليوسف دليل على مكيدة النساء ، واستنزال المرأة لزوجها ومطاوعته لها ، وعشقه لها ، وجعله زمام أمره بيدها ، هذا مع ظهور خيانتها وبراءة يوسف . روي أنه لما امتنع يوسف من المعصية ، ويئست منه امرأة العزيز قالت لزوجها : إن هذا الغلام العبراني قد فضحني في الناس ، وهو يعتذر إليهم ويصف الأمر بحسب اختياره ، وأنا محبوسة محجوبة ، فأما أذنت لي فخرجت إلى الناس فاعتذرت وكذبته ، وإلا حبسته كما أنا محبوسة ، فحينئذ بدا لهم سجنه ، قال ابن عباس : فأمر به فحمل على حمار ، وضرب بالطبل ، ونودي عليه في أسواق مصر أنّ يوسف العبراني أراد سيدته ، فهذا جزاؤه أن يسجن . قال أبو صالح : ما ذكر ابن عباس هذا الحديث إلا بكي .

٣٦

{وَدَخَلَ مَعَهُ السّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَا أَرَانِى أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنّى أَرَانِى أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِى خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ } : في الكلام حذف تقديره : فسجنوه ، فدخل معه السجن غلامان . وروي أنهما كانا للملك الأعظم الوليد بن الريان ، أحدهما خبازه ، والآخر ساقيه . وروي أن الملك اتهمهما بأن الخابز منهما أراد سمه ووافقه على ذلك الساقي ، فسجنهما قاله : السدي . ومع تدل على الصحبة واستحداثها ، فدل على أنهم سجنوا الثلاثة في ساعة واحدة . ولما دخل يوسف السجن استمال الناس بحسن حديثه وفضله ونبله ، وكان يسلي حزينهم ، ويعود مريضهم ، ويسال لفقيرهم ، ويندبهم إلى الخير ، فأحبه الفتيان ولزمان ، وأحبه صاحب السجن والقيم عيه وقال له : كن في أي البيوت شيئت فقال له يوسف : لا تحبني يرحمك اللّه ، فلقد أدخلت على المحبة مضرات ، أحبتني عمتي فامتحنت بمحبتها ، وأحبني أبي فامتحنت بمحبته ، وأحبتني امرأة العزيز فامتحنت بمحبتها بما ترى . وكان يوسف عليه السلام قد قال لأهل السجن : إني أعبر الرؤيا وأجيد . وروي أن الفيتين قالا له إنا لنحبك من حين رأيناك فقال : أنشدكما اللّه أنْ لا تحباني ، وذكر ما تقدم . وعن قتادة : كان في السجن ناس قد انقطع رجاؤهم وطال حزنهم ، فجعل يقول : اصبروا وابشروا تؤجروا أن لهذا لأجراً فقالوا : بارك اللّه عليك ، ما أحسن وجهك ، وما أحسن خلقك لقد بورك لنا في جوارك فمن أنت يا فتى ؟ قال يوسف : ابن صفي اللّه يعقوب ، ابن ذبيح اللّه إسحاق بن خليل اللّه إبراهيم . فقال له عامل السجن : لو استطعت خليت سبيلك .

وهذه الرؤيا التي للفتيين قال مجاهد : رأيا ذلك حقيقة فأراد سؤاله . وقال ابن مسعود والشعبي : استعملاها ليجرباه . والذي رأى عصر لخمر اسمه بنو قال : رأيت حبلة من كرم لها ثلاثة أغصان حسان ، فيها عناقيد عنب حسان ، فكنت أعصرها وأسقي الملك . والذي رأى الخبز اسمه ملحب قال : كنت أرى أن أخرج من مطبخة الملك وعلى رأسي ثلاث سلال فيها

خبز ، والطير تأكل من أعلاه ، ورأى الحلمية جرت مجرى أفعال القلوب في جواز كون فاعلها ومفعولها ضميرين متحدي المعنى ، فأراني فيه ضمير الفاعل المستكن ، وقد تعدى الفعل إلى الضمير المتصل وهو رافع للضمير المتصل ، وكلاهما لمدلول واحد . ولا يجوز أن يقول : اضربني ولا أكرمني . وسمى العنب خمراً باعتبار ما يؤول إليه .

وقيل : الخمر بلغة غسان اسم العنب .

وقيل : في لغة ازدعمان . وقال المعتمر : لقيت أعرابياً يحمل عنباً في وعاء فقلت : ما تحمل ؟ قال : خمراً ، أراد العنب .

وقرأ أبي وعبد اللّه : أعصر عنباً ، وينبغي أن يحمل ذلك على التفسير لمخالفته سواد المصحف ، وللثابت عنهما بالتواتر قراءتهما أعصر خمراً .

قال ابن عطية : ويجوز أن يكون وصف الخمر بأنها معصورة ، إذ العصر لها ومن أجلها . وفي مصحف عبد اللّه : فوق رأسي ثريداً تأكل الطير منه ، وهو أيضاً تفسير لا قراءة . والضمير في تأويله عائداً إلى ما قصا عليه ، أجرى مجرى اسم الإشارة كأنه قيل : بتأويل ذلك . وقال الجمهور : من المحسنين أي في العلم ، لأنهما رأيا سنة ما علما به أنه عالم . وقال الضحاك وقتادة : من المحسنين في حديثه مع أهل السجن وإجماله معهم . وقال ابن إسحاق : أرادا إخباره أنهما يريان له إحساناً عليهما ويداً ، إذا تأول لهما ما رأياه .

٣٧

انظر تسفير الآية:٣٨

٣٨

{قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا ذالِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِى رَبّى إِنّى تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ } :

قال الزمخشري : لما استعداه ووصفاه بالإحسان افترض ذلك ، فوصف يوسف نفسه بما هو فوق علم العلماء ، وهو الإخبار بالغيب ، وأنه ينبئهما بما يحمل إليهما من الطعام في السجن قبل أن يأتيهما ، ويصفه لهما ويقول : اليوم يأتيكما طعام من صفته كيت وكيت ، فيجدانه كما أخبرهما ، ويجعل ذلك تخليصاً إلى أن يذكر لهما التوحيد ، ويعرض عليهما الإيمان ويزينه لهما ، ويقبح لهما الشرك باللّه ، وهذه طريقة على كل ذي علم أن يسلكها مع الجهال والفسقة إذا استفتاه واحد منهم أن يقدم الإرشاد والموعظة والنصيحة أولاً ، ويدعوه إلى ما هو أولى به وأوجبه عليه مما استفتى فيه ، ثم يفتيه بعد ذلك . وفيه أن العالم إذا جهلت منزلته في العلم فوصف نفسه بما هو بصدده ، وغرضه أن يقتبس منه ، وينتفع به في الدين ، لم يكن من باب التزكية بتأويله ببيان ماهيته وكيفيته ، لأنّ ذلك يشبه تفسير المشكل والإعراب عن معاينة انتهى . وهذا الذي قاله الزمخشري يدل على أن إتيان الطعام يكون في اليقظة ، وهو قول ابن جريج قال : أراد يوسف لا يأتيكما في اليقظة ترزقانه إلا نبأتكما منه بعلم ، وبما يؤول إليه أمركما أن يأتيكما ، فعلى هذا أراد أن يعلمهم أنه يعلم مغيبات لا تتعلق بالرؤيا ، وهذا على ما روي أنه نبىء في السجن . وقال السدي وابن إسحاق ، لما علم من تعبير منامه رأى الخبز أنها تؤذن بقتله ، أخذ في غير ذلك الحديث تنسية لهما أمر المنام ، وطماعية في أيمانهما ، ليأخذ المقتول بحظه من الإيمان ، وتسلم له آخرته فقال لهما معلناً بعظيم علمه للتعبير : إنه لا يجيئكما طعام في يومكما تريان أنكما رزقتماه ألا أعلمتكما بتأويل ذلك الطعام أي : بما يؤول إليه أمره في اليقظة ، قبل أن يظهر ذلك التأويل الذي أعلمكما به . فروى أنهما قالا له : ومن أين لك ما تدعيه من العلم وأنت لست بكاهن ولا منجم ؟ فقال لهما : ذلك مما علمني ربي . والظاهر أن قوله لا يأتيكما إلى آخره ، أنه في اليقظة ، وأن قوله : مما علمني ربي دليل على أني إذ ذاك كان نبياً يوحى إليه . والظاهر أن قوله : إني تركت ، استئناف إخبار بما هو عليه ، إذ كانا قد أحباه وكلفا بحبه وبحسن أخلاقه ، ليعلمهما ما هو عليه من مخالفة قومهما فيتبعاه . وفي الحديث : { لأن يهدي اللّه بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم } وعبر بتركت مع أنه لم يتشبث بتلك الملة قط ، إجراء للترك مجرى التجنب من أول حالة ، واستجلاباً لهما لأن يتركا تلك الملة التي كانا فيها . ويجوز أن يكون إني تركت تعليلاً لما قبله أي : علمني ذلك ، وأوحي إلي لأني رفضت ملة أولئك ، واتبعت ملة الأنبياء ، وهي الملة الحنيفية . وهؤلاء الذين لا يؤمنون هم أهل مصر ، ومن كان الفتيان على دينهم . ونبه على أصلين عظيمين وهما : الإيمان باللّه ، والإيمان بدار الجزاء ، وكررهم على سبيل التوكيد وحسن ذلك الفصل .

وقال الزمخشري : وتكريرهم للدلالة على أنهم خصوصاً كافرون بالآخرة ، وأن

غيرهم مؤمنون بها . ولتوكيد كفرهم بالجزاء تنبيهاً على ما هم عليه من الظلم والكبائر التي لا يرتكبها إلا من هو كافر بدار الجزاء انتهى . وليست عندنا هم تدل على الخصوص ، وباقي ألفاظه ألفاظ المعتزلة . ولما ذكر أنه رفض ملة أولئك ذكر اتباعه ملة آبائه ليريهما أنه من بيت النبوة ، بعد أن عرفهما أنه نبي ، بما ذكر من أخباره بالغيوب لتقوى رغبتهما في الاستماع إليه واتباع قوله .

وقرأ الأشهب العقيلي والكوفيون : آبائي بإسكان الياء ، وهي مروية عن أبي عمرو . ما كان لنا ما صح ولا استقام لنا معشر الأنبياء أن نشرك باللّه من شيء عموم في الملك والجني والإنسيّ ، فكيف بالصنم الذي لا يسمع ولا يبصر ؟ فشيء يراد به المشرك . ويجوز أن يراد به المصدر أي : من شيء من الإشراك ، فيعم الإشراك ، ويلزم عموم متعلقاته . ومن زائدة لأنها في حيز النفي ، إذ المعنى : ما نشرك باللّه شيئاً ، والإشارة بذلك إلى شركهم وملتهم أي : ذلك الدين والشرع الحنيفي الذي انتفى فيه الإشراك باللّه ، ومن فضل اللّه علينا أي : على الرسل ، إذ خصوا بأن كانوا وسائط بين اللّه وعباده . وعلى الناس أي : على المرسل إليهم ، إذ يساقون به إلى النجاة حيث أرشدوهم اليه . وقوله : لا يشكرون أي : لا يشكرون فضل اللّه فيشركون ولا ينتبهون .

وقيل : ذلك من فضل اللّه علينا ، لأنه نصب لنا الأدلة التي ننظر فيها ونستدل بها ، وقد نصب مثل ذلك لسائر الناس من غير تفاوت ، ولكن أكثر الناس لا ينظرون ولا يشكرون اتباعاً لأهوائهم ، فيبقون كافرين غير شاكرين .

٣٩

انظر تسفير الآية:٤٠

٤٠

{يَشْكُرُونَ ياصَاحِبَىِ السّجْنِ ءأَرْبَابٌ مُّتَّفَرّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّه الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَءابَاؤُكُمْ مَّا أَنزَلَ اللّه بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للّه} : لما ذكر ما هو عليه من الدين الحنيفي تلطف في حسن الاستدلال على فساد ما عليه قوم الفتيين من عبادة الأصنام ، فناداهما باسم الصحبة في المكان الشاق الذي تخلص فيه المودة وتتمخض فيه النصيحة . واحتمل قوله : يا صاحبي السجن ، أن يكون من باب الإضافة إلى الظرف ، والمعنى : يا صاحبيّ في السجن ، واحتمل أن يكون من إضافته إلى شبه المفعول كأنه قيل : يا ساكني السجن ، كقوله { أَصْحَابِ النَّارِ }{ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ } ثم أورد الدليل على بطلان ملة قومهما بقوله : أأرباب ، فأبرز ذلك في صورة الاستفهام حتى لا تنفر طباعهما من المفاجأة بالدليل من غير استفهام . وهكذا الوجه في محاجة الجاهل أن يؤخذ بدرجة يسيرة من الاحتجاج يقبلها ، فإذا قبلها لزمته عنها درجة أخرى فوقها ، ثم كذلك إلى أن يصل إلى الإذعان بالحق . وقابل تفرق أربابهم بالواحد ، وجاء بصفة القهار تنبيهاً على أنه تعالى له هذا الوصف الذي معناه الغلبة والقدرة التامة ، وإعلاماً بعروّ أصنامهم عن هذا الوصف الذي لا ينبغي أن يعبد إلا المتصف به ، وهم عالمون بأن تلك الأصنام جماد . والمعنى : أعبادة أرباب متكاثرة في العدد خير أم عبادة واحد قهار وهو اللّه ؟ فمن ضرورة العاقل يرى خيرية عبادته ، ثم استطرد بعد الاستفهام إلى إخبار عن حقيقة ما يعبدون . والخطاب بقوله : ما تعبدون ، لهما ولقومهما من أهل . ومعنى إلا أسماء : أي ألفاظاً أحدثتموها أنتم وآباؤكم فهي فارغة لا مسميات تحتها ، وتقدّم تفسير مثل هذه الجملة في الأعراف . إنْ الحكم إلا للّه أي : ليس لكم ولا لأصنامكم حكم ما الحكم في العبادة والدين إلا للّه ثم بين ما حكم به فقال أمر أن لا تعبدوا إلا إياه . ومعنى القيم : الثابت الذي دلت عليه البراهين . لا يعلمون بجهالاتهم وغلبة الكفر عليهم .

٤١

انظر تسفير الآية:٤٢

٤٢

{يَعْلَمُونَ ياصَاحِبَىِ السّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِى رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الاْخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِىَ الاْمْرُ الَّذِى فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ وَقَالَ لِلَّذِى ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مّنْهُمَا اذْكُرْنِى عِندَ رَبّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبّهِ فَلَبِثَ فِى السّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ } : لما ألقى إليهما ما كان أهم وهو أمر الدين رجاء في إيمانهما ، ناداهما ثانياً لتجتمع أنفسهما لسماع الجواب ، فروي أنه قال : لبنوّ : أما أنت فتعود إلى مرتبتك وسقاية ربك ، وما رأيت من الكرامة وحسنها هو الملك وحسن حالك عنده ،

وأما القضبان الثلاثة فإنها ثلاثة أيام تمضي في السجن ثم تخرج وتعود إلى ما كنت عليه . وقال لملحب : أما أنت فما رأيت من السلال ثلاثة أيام ثم تخرج فتصلب ، فروي أنهما قالا : ما رأينا شيئاً ، وإنما تحالمنا لنجرّبك . وروي أنه لم يقل ذلك إلا الذي حدثه بالصلب . وروي أنهما رأيا ثم أنكرا .

وقرأ الجمهور : فيسقي ربه من سقى ، وفرقة : فيسقي من أسقى ، وهما

لغتان بمعنى واحد . وقرىء في السبعة : نسقيكم ونسقيكم . وقال صاحب اللوامح : سقى وأسقى بمعنى واحد في اللغة ، والمعروف أن سقاه ناوله ليشرب ، وأسقاه جعل له سقياً . ونسب ضم الفاء لعكرمة والجحدري ، ومعنى ربه . سيده . و

قال ابن عطية :

وقرأ عكرمة والجحدري : فيسقي ربه خمراً بضم الياء وفتح القاف ، أي ما يرويه .

وقال الزمخشري :

وقرأ عكرمة فيسقى ربه ، فيسقى ما يروى به على البناء للمفعول ، ثم أخبرهما يوسف عليه السلام عن غيب علمه من قبل اللّه أنّ الأمر قد قضى ووافق القدر ، وسواء كان ذلك منكما حلم ، أو تحالم . وأفرد الأمر وإن كان أمر هذا ، لأنّ المقصود إنما هو عاقبة أمرهما الذي أدخلا به السجن ، هو اتهام الملك إياهما بسمه ، فرأيا ما رأيا ، أو تحالما بذلك ، فقضيت وأمضيت تلك العاقبة من نجاة أحدهما ، وهلاك الآخر . وقال أي : يوسف للذي ظن : أي أيقن هو أي يوسف : إنه ناج وهو الساقي . ويحتمل أن يكون ظن على بابه ، والضمير عائد على الذي وهو الساقي أي : لما أخبره يوسف بما أخبره ، ترجح عنده أنه ينجو ، ويبعد أن يكون الظن على بابه ، ويكون مسنداً إلى يوسف على ما ذهب إليه قتادة والزمخشري . قال قتادة : الظن هنا على بابه ، لأن عبارة الرؤيا ظن .

وقال الزمخشري : الظان هو يوسف عليه السلام إن كان تأويله بطريق الاجتهاد فيبعد ، لأنه قوله : قضي الأمر ، فيه تحتم ما جرى به القدر وإمضاؤه ، فيظهر أن ذلك بطريق الوحي ، إلا أن حمل قضي الأمر على قضى كلامي ، وقلت ما عندي ، فيجوز أن يعود على يوسف . فالمعنى أن يوسف عليه السلام قال لساقي الملك حين علم أنه سيعود إلى حالته الأولى مع الملك : اذكرني عند الملك أي : بعلمي ومكانتي وما أنا عليه مما آتاني اللّه ، أو اذكرني بمظلمتي وما امتحنت به بغير حق . وهذا من يوسف على سبيل الاستعانة والتعاون في تفريج كربه ، وجعله بإذن اللّه وتقديره سبباً للخلاص كما جاء عن عيسى عليه السلام : { مَنْ أَنصَارِى إِلَى اللّه } وكما كان الرسول يطلب من يحرسه . والذي أختاره أن يوسف إنما قال لساقي الملك : اذكرني عند ربك ليتوصل إلى هدايته وإيمانه باللّه ، كما توصل إلى إيضاح الحق للساقي ورفيقه . والضمير في فأنساه عائد على الساقي ، ومعنى ذكر ربه : ذكر يوسف لربه ، والإضافة تكون بأدنى ملابسة . وإنساء الشيطان له بما يوسوس إليه من اشتغاله حتى يذهل عما قال له يوسف ، لما أراد اللّه بيوسف من إجزال أجره بطول مقامه في السجن . ويضع سنين مجمل ، فقيل : سبع ،

وقيل : اثنا عشر . والظاهر أن قوله : فلبث في السجن ، إخبار عن مدّة مقامه في السجن ، منذ سجن إلى أن أخرج .

وقيل : هذا اللبث هو ما بعد خروج الفتيين وذلك سبع .

وقيل : سنتان .

وقيل : الضمير في أنساه عائد على يوسف . ورتبوا على ذلك أخباراً لا تليق نسبتها إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام .

٤٣

انظر تسفير الآية:٤٤

٤٤

{وَقَالَ الْمَلِكُ إِنّى أَرَى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يأَيُّهَا أَيُّهَا الْمَلا أَفْتُونِى فِى رُؤْيَاىَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الاْحْلَامِ بِعَالِمِينَ } : لما دنا فرج يوسف عليه السلام رأى ملك مصر الرّيان بن الوليد رؤيا عجيبة هالته ، فرأى سبع بقرات سمان خرجن من نهر يابس ، وسبع بقرات عجاف ، فابتلعت العجاف السمان . ورأى سبع سنبلات خضر قد انعقد حبها ، وسبعاً أخر يابسات قد استحصدت وأدركت ، فالتوت اليابسات على الخضر حتى غلبن عليها ، فلم يجد في قومه من يحسن عبارتها . أرى : يعني في منامه ، ودل على ذلك : أفتوني في رؤياي . وأرى حكاية حال ، فلذلك جاء بالمضارع دون رأيت . وسمان صفة لقوله : بقرات ، ميز العدد بنوع من البقرات وهي السمان منهن لا يحسنهن . ولو نصب صفة لسبع لكان التمييز بالجنس لا بالنوع ، ويلزم من وصف البقرات بالسمن وصف السبع به ، ولا يلزم من وصف السبع به وصف الجنس به ، لأنه يصير المعنى سبعاً من البقرات سماناً . وفرق بين قولك : عندي ثلاث رجال كرام ، وثلاث رجال كرام ، لأن المعنى في الأول ثلاثة من الرجال الكرام ، فيلزم كرم الثلاثة لأنهم بعض من الرجال الكرام . والمعنى في

الثاني : ثلاثة من الرجال كرام ، فلا يدل على وصف الرجال بالكرم . ولم يضف سبع إلى عجاف لأن اسم العدد لا

يضاف إلى الصفة إلا في الشعر ، إنما تتبعه الصفة . وثلاثة فرسان ، وخمسة أصحاب من الصفات التي أجريت مجرى الأسماء . ودل قوله : سبع بقرات على أن السبع العجاف بقرات ، كأنه قيل : سبع بقرات عجاف ، أو بقرات سبع عجاف . وجاء جمع عجفاء على عجاف ، وقياسه عجف كخضراء أو خضر ، حملاً على سمان لأنه نقيضه . وقد يحمل النقيض على النقيض ، كما يحمل النظر على النظير . والتقسيم في البقرات يقتضي التقسيم في السنبلات ، فيكون قد حذف اسم العدد من قوله : وأخر يابسات ، لدلالة قسمية وما قبله عليه ، فيكون التقدير : وسبعاً أخر يابسات . ولا يصح أن يكون وأخر مجروراً عطفاً على سنبلات خضر ، لأنه من حيث العطف عليه كان من جملة مميز سبع ، ومن جهة كونه أخر كان مبايناً لسبع ، فتدافعا بخلاف أن لو كان التركيب سبع سنبلات خضر ويابسات ، فإنه كان يصح العطف ، ويكون من توزيع السنبلات إلى خضر ويابسات . والملأ : أشراف دولته وأعيانهم الذين يحضرون عند الملك .

وقرأ أبو جعفر : بالإدغام في الرؤيا ، وبابه بعد قلب الهمزة واواً ، ثم قلبها ياء ، لاجتماع الواو والياء ، وقد سبقت إحداهما بالسكون . ونصوا على شذوذه ، لأن الواو هي بدل غير لازم ، واللام في الرؤيا مقوية لوصول الفعل إلى مفعوله إذا تقدم عليه ، فلو تأخر لم يحسن ذلك بخلاف اسم الفاعل فإنه لضعفه قد تقوى بها فتقول : زيد ضارب لعمر وفصيحاً . والظاهر أن خبر كنتم هو قوله : تعبرون . وأجاز الزمخشري فيه وجوهاً متكلفة

أحدها : أن تكون الرؤيا للبيان قال : كقوله : وكانوا فيه من الزاهدين ، فتتعلق بمحذوف تقديره أعني فيه ، وكذلك تقدير هذا إن كنتم أعني الرؤيا تعبرون ، ويكون مفعول تعبرون محذوفاً تقديره تعبرونها .

والثاني : أن تكون الرؤيا خبر كان قال : كما تقول : كان فلان لهذا الأمر إذا كان مستقلاً به متمكناً منه ، وتعبرون خبراً آخر أو حالاً . و

الثالث : أن يضمن تعبرون معنى فعل يتعدى باللام ، كأنه قيل : إن كنتم تنتدبون لعبارة الرّؤيا ، وعبارة الرّؤيا مأخوذة من عبر النهر إذا جازه من شط إلى شط ، فكان عابر الرّؤيا ينتهي إلى آخر تأويلها . وعبر الرّؤيا بتخفيف الباء ثلاثياً وهو المشهور ، وأنكر بعضهم التشديد ، وأنشد المبرد في الكامل قول الشاعر : رأيت رؤياً ثم عبرتها

وكنت للأحلام عباراً

وأضغاث جمع ضغث أي تخاليط أحلام ، وهي ما يكون من حديث النفس ، أو وسوسة الشيطان ، أو مزاج الإنسان . وأصله أخلاط النبات ، استعير للأحلام ، وجمعوا الأحلام . وأن رؤياه واحدة إما باعتبار متعلقاتها إذ هي أشياء ،

وإما باعتبار جواز ذلك كما تقول : فلان يركب الخيل وإن مل يركب إلا فرساً واحداً ، تعليقاً بالجنس .

وإما بكونه قص عليهم مع هذه الرّؤيا غيرها . والأحلام جمع حلم ، وأضغاث خبر مبتدأ محذوف أي : هي أضغاث أحلام . والظاهر أنهم نفوا عن أنفسهم العلم بتأويل الأحلام أي : لسنا من أهل تعبيير الرؤيا . ويجوز أن تكون الأحلام المنفي علمها أرادوا بها الموصوفة بالتخليط والأباطيل أي : وما نحن بتأويل الأحلام التي هي أضغاث بعالمين أي : لا يتعلق علم لنا بتأويل تلك ، لأنه تأويل لها إنما التأويل للمنام الصحيح ، فلا يكون في ذلك نفي للعلم بتأويل المنام الصحيح ، ولا تصور علمهم . والباء في بتأويل متعلقة بقوله بعالمين .

٤٥

انظر تسفير الآية:٤٩

٤٦

انظر تسفير الآية:٤٩

٤٧

انظر تسفير الآية:٤٩

٤٨

انظر تسفير الآية:٤٩

٤٩

وقال الذي نجا . . . . .

أمة يأمه أمها وأمها نسي . يغاث : يحتمل أن يكون من الغوث وهو الفرج ، يقال : أغاثهم اللّه فرج عنهم ، ويحتمل أن يكون من الغيث تقول : غيثت البلاد إذا أمطرت ، ومنه قول الأعرابية : غثنا ما شئنا . الخطب : الشان والأمر الذي فيه خطر ، ويجمع على خطوب قال : وما المرء ما دامت حشاشة نفسه

بمدرك أطراف الخطوب ولا آل

حصحص تبين بعد الخفاء ، قاله الخليل .

وقيل : مأخود من الحصة حصحص الحق بانت حصته من حصة الباطل .

وقيل : ثبت واستقر ، ويكون متعدياً من حصحص البعير ألقى ثفناته للإناخة قال : حصحص في صم الصفا ثفناته . الجهاز : ما يحتاج إليه المسافر من زاد ومتاع ، وكل ما يحمل ، وجهاز العروس ما يكون معها من الأثاث والشورة ، وجهاز الميت ما يحتاج إليه في دفنه . الرحل : ما على ظهر المركوب من متاع الراكب أو غيره ، وجمعه رحال في الكثرة ، وأرحل في القلة . مار يمير ، وأمار يمير ، إذا جلب الخير وهي الميرة قال : بعثتك مائراً فمكثت حولا

متى يأتي غياثك من تغيث

البعير في الأشهر الجمل مقابل الناقة ، وقد يطلق على الناقة ، كما يطلق على الجمل فيقول : على هذا نعم البعير ، الجمل لعمومه ، ويمتنع على الأشهر لترادفه . وفي لغة تكسر باؤه ، ويجمع في القلة على أبعرة ، وفي الكثرة على بعران .

{وَقَالَ الَّذِى نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ يُوسُفُ أَيُّهَا الصّدِيقُ أَفْتِنَا فِى سَبْعِ بَقَراتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلّى أَرْجِعُ إِلَى } : لما استثنى الملك في رؤياه وأعضل على الملأ تأويلها ، تذكر الناجي من القتل وهو ساقي الملك يوسف ، وتأويل رؤياه ورؤيا صاحبه ، وطلبه إليه ليذكره عند الملك . وادكر أي تذكر ما سبق له مع يوسف بعد أمة أي : مدة طويلة . والجملة من قوله وادكر حاليه ، وأصله : واذتكر أبدلت التاء دالاً وأدغمت الذال فيها فصار ادّكر ، وهي قراءة الجمهور .

وقرأ الحسن : واذكر بإبدال التاء ذالاً ، وإدغام الذال فيها .

وقرأ الأشهب العقيلي : بعد إمّة بكسر الهمزة أي : بعد نعمة أنعم عليه بالنجاة من القتل . و

قال ابن عطية : بعد نعمة نعم اللّه بها على يوسف في تقريب إطلاقه ، والأمة النعمة قال : ألا لا أرى ذا إمة أصبحت به

فتتركه الأيام وهي كما هيا

قال الأعلم : الأمة النعمة ، والحال الحسنة .

وقرأ ابن عباس ، وزيد بن علي ، والضحاك ، وقتادة ، وأبو رجاء ، وشبيل بن عزرة الضبعي ، وربيعة بن عمرو : بعد أمه بفتح الهمزة ، والميم مخففة ، وهاء ، وكذلك قرأ ابن عمر ، ومجاهد ، وعكرمة ، واختلف عنهم .

وقرأ عكرمة وأيضاً مجاهد ، وشبيل بن عزرة : بعد أمه بسكون الميم ، مصدر أمه على غير قياس ، وقال

الزمخشري : ومن قرأ بسكون الميم فقد أخطأ انتهى . وهذا على عادته في نسبته الخطأ إلى الفراء . أنا أنبئكم بتأويله أي أخبركم به عمن عنده علمه لا من جهتي .

وقرأ الحسن أنا أتيكم مضارع أتى من الإتيان ، وكذا في الإمام . وفي مصحف أبي : فأرسلون ، أي ابعثوني إليه لأسأله ، ومروني باستعباره ، استأذن في المضي إلى يوسف . فقال ابن عباس : كان في السجن في غير مدينة الملك ،

وقيل : كان فيها ، ويرسم الناس اليوم سجن يوسف في موضع على النيل بينه وبين الفسطاط ثمانية أميال . وفي الكلام حذف التقدير : فأرسلوه إلى يوسف فأتاه فقال : والصديق بناء مبالغة كالشريب والكبر ، وكان قد صحبه زماناً وجرب صدقه في غير ما شيء كتأويل رؤياه ورؤيا صاحبه ، وقوله : لعلي أرجع إلى الناس أي : بتفسير هذه الرؤيا . واحترز بلفظة لعلي ، لأنه ليس على يقين من الرجوع إليهم ، إذ من الجائز أن يخترم دون بلوغه إليهم . وقوله : لعلهم يعلمون ، كالتعليل لرجوعه إليهم بتأويل الرؤيا .

وقيل : لعلهم يعلمون فضلك ومكانك من العلم ، فيطلبونك ويخلصونك من محنتك ، فتكون لعل كالتعليل لقوله : أفتنا . قال : تزرعون إلى آخره ، تضمن هذا الكلام من يوسف ثلاثة أنواع من القول :

أحدها : تعبير بالمعنى لا باللفظ .

والثاني : عرض رأي وأمر به ، وهو قوله : فذروه في سنبله . و

الثالث : الإعلام بالغيب في أمر العام الثامن ، قاله قتادة .

قال ابن عطية : ويحتمل هذا أن لا يكون غيباً ، بل علم العبارة أعطى انقطاع الخوف بعد سبع ، ومعلوم أنه الأخصب انتهى . والظاهر أن قوله : تزرعون سبع سنين دأباً خبراً ، أخبر أنهم تتوالى لهم هذه السنون لا ينقطع فيها زرعهم للري الذي يوجد .

وقال الزمخشري : تزرعون خبر في معنى الأمر كقوله : { تُؤْمِنُونَ بِاللّه وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ } وإنما يخرج الأمر في صورة الخبر للمبالغة في إيجاب إنجاز المأمور به ، فيجعل كأنه وجد فهو يخبر عنه . والدليل على كونه في معنى الأمن قوله : فذروه في سنبله انتهى . ولا يدل الأمر بتركه في سنبله على أنّ تزرعون في معنى ازرعوا ، بل تزرعون إخبار غيب بما يكون منهم من توالي الزرع سبع سنين .

وأما قوله : فذروه فهو أمر إشارة بما ينبغي أن يفعلوه . ومعنى دأباً : ملازمة ، كعادتكم في المزارعة .

وقرأ حفص : دأباً بفتح الهمزة ، والجمهور بإسكانها ، وهما مصدران لدأب ، وانتصابه بفعل محذوف من لفظه أي : تدابون داباً ، فهو منصوب على المصدر . وعند المبرد بتزرعون بمعنى تدأبون ، وهي عنده مثل قعد القرفصاء .

وقيل : مصدر في موضع الحال أي : دائبين ، أو ذوي دأب حالاً من ضمير تزرعون . وما في قوله : فما حصدتم شرطية أو موصولة ، بذروه في سنبله إشارة برأي نافع بحسب طعام مصر وحنطتها التي لا تبقى عامين بوجه إلا بحيلة إبقائها في السنبل ، فإذا بقيت فيها انحفظت ، والمعنى : اتركوا الزرع في السنبل إلا ما لا غنى عنه للأكل ، فيجتمع الطعام ويتركب ويؤكل الأقدم فالأقدم ، فإذا جاءت السنون الجدبة تقوت الأقدم فالأقدم من ذلك المدخر .

وقرأ السلمي : مما يأكلون بالياء على الغيبة أي : يأكل الناس ، وحذف المميز في قوله : سبع شداد أي : سبع سنين شداد ، لدلالة قوله : سبع سنين عليه . وأسند الأكل الذي في قوله : أكلن على سبيل المجاز من حيث أنه يؤكل فيهما كما قال :{ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً} ومعنى تحصنون تحرزون وتخبؤون ، مأخوذ من الحصن وهو الحرز والملجأ .

وقال ابن عباس ومجاهد والجمهور : يغاث من الغيث ،

وقيل : من الغوث ، وهو الفرج . ففي الأول بني من ثلاثي ، وفي الثاني من رباعي ، تقول : غاثنا اللّه من الغيث ، وأغاثنا من الغوث .

وقرأ الأخوان : تعصرون بالتاء على الخطاب ، وباقي السبعة بالياء على الغيبة ، والجمهور على أنه من عصر النبات كالعنب والقصب والزيتون والسمسم والفجل وجميع ما يعصر ، ومصر بلد عصير لأشياء كثيرة والحلب منه ، لأنه عصر للضروع . وروي أنهم لم يعصروا شيئاً مدة الجدب . وقال أبو عبيدة وغيره : مأخوذ من العصرة ، والعصر وهو المنجي ، ومنه قول أبي زبيد في عثمان رضي اللّه عنه : صادياً يستغيث غير مغاث

ولقد كان عصرة المنجود

فالمعنى : ينجون بالعصرة .

وقرأ جعفر بن محمد ، والأعرج ، وعيسى البصرة يعصرون بضم الياء وفتح الصاد مبنياً للمفعول ، وعن عيسى أيضاً : تعصرون بالتاء على الخطاب مبنياً للمفعول ، ومعناه : ينجون من عصره إذا أنجاه ، وهو مناسب لقوله : يغاث الناس . وقال ابن المستنير : معناه يمطرون ، من أعصرت السحابة ماءها عليهم فجعلوا معصرين مجازاً بإسناد ذلك إليهم ، وهو للماء الذي يمطرون به . وقرى زيد ابن علي : وفيه تعصرون ، بكسر التاء والعين والصاد وشدها ، وأصله تعتصرون ، فأدغم التاء في الصاد ونقل حركتها إلى العين ، واتبع حركة التاء لحركة العين . واحتمل أن يكون من اعتصر العنب ونحوه . ومن اعتصر بمعنى نجا قال الشاعر : لو بغير الماء حلقي شرق

كنت كالغصان بالماء اعتصاري

أي نجاتي . تأول يوسف عليه السلام البقرات السمان والسنبلات الخضر بسين مخصبة ، والعجاف واليابسات بسنين مجدبة ، ثم بشرهم بعد الفراغ من تأويل الرؤيا بمجيء العام الثامن مباركاً خصيباً كثير الخير غزير النعم ، وذلك من جهة الوحي . وعن قتادة : زاده اللّه علم سنة ، والذي من جهة الوحي هو التفضيل بحال العام بأنه فيه يغاث الناس ، وفيه يعصرون ، وإلا فمعلوم بانتهاء السبع الشداد مجيء الخصب .

٥٠

انظر تسفير الآية:٥١

٥١

{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِى بِهِ فَلَمَّا جَاءهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النّسْوَةِ الَّاتِى قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ } : في الكلام حذف تقديره : فحفظ الرسول ما أول به يوسف الرؤيا ، وجاء إلى الملك ومن أرسله وأخبرهم بذلك ، وقال الملك : و

قال ابن عطية : في تضاعيف هذه الآيات محذوفات يعطيها ظاهر الكلام ويدلّ عليها ، والمعنى : فرجع الرسول إلى الملك ومن مع الملك فنص عليهم مقالة يوسف ، فرأى الملك وحاضروه نبل التعبير ، وحسن الرأي ، وتضمن الغيب في أمر العام الثامن مع ما وصفه به الرسول من الصدق في المنام المتقدم ، فعظم يوسف في نفس الملك وقال : ائتوني به ، فلما وصل الرسول في إخراجه إليه وقال : إنّ الملك قد أمر بأن تخرج إليه ، قال له : ارجع إلى ربك أي : إلى الملك وقل له : ما بال النسوة ؟ ومقصد يوسف عليه السلام إنما كان وقل له يستقصي عن ذنبي ، وينظر في أمري ، هل صجنت بحق أو بظلم ؟ وكان هذا الفعل من يوسف إناءة وصبراً وطلباً لبراءة الساحة ، وذلك أنه فيما روي خشي أن يخرج وينال من الملك مرتبة ، ويسكت عن أمر دينه صفحاً ، فيراه الناس بتلك العين أبداً ويقولون : هذا الذي راود امرأة مولاه ، فأراد يوسف عليه السلام أن يبين براءته ويتحقق منزلته من العفة والخير ، وحينئذ يخرج للأحظاء والمنزلة .

وقال الزمخشري : إنما تأتي وتثبت في إجابة الملك ، وقدم سؤال النسوة لتظهر براءة ساحته عما فرق به وسجن فيه ، لئلا يتسلق به الحاسدون إلى تقبيح أمره عنده ، ويجعلوه سلماً إلى حط منزلته لديه ، ولئلا يقولوا : ما خلد في السجن سبع سنين إلا أمر عظيم وجرم كبير حق به أن يسجن ويعذب ، ويكشف سره ، وفيه دليل على أنّ الاجتهاد في نفي التهم واجبة وجوب ابقاء الوقوف في مواقفها . قال عليه السلام : { من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فلا يقفن مواقف التهم } انتهى ولأجل هذا كان الزمخشري ، وكان مقطوع الرجل قد أثبت على القضاة أن رجله لم تقطع في خيانة ولا فساد ، وكان يظهر ذلك المكتوب في كل بلد دخله خوفاً من تهمة السوء . وإنما قال : سل الملك عن شأن النسوة ، ولم يقل سله أن يفتش عنهن ، لأن السؤال مما يهيج الإنسان ويحركه للبعث عنما سئل عنه ، فأراد أن يورد عليه السؤال ليجري التفتيش عن حقيقة

القصة ، وقص الحديث حتى يتبين له براءته بياناً مكشوفاً يتميز فيه الحق من الباطل . ومن كرم يوسف عليه السلام أنه لم يذكر زوج العزيز مع ما صنعت به وتسببت فيه من السجن والعذاب ، واقتصر على ذكر المقطعات الأيدي .

وقرأ أبو حيوة وأبو بكر عن عاصم في رواية النسوة بضم النون ، وقرأت فرقة اللاي بالياء ، وكلاهما جمع التي . إن ربي أي : إن اللّه بكيدهنّ عليم . أراد أن كيدهن عظيم لا يعلمه إلا اللّه لبعد عوده ، واستشهد بعلم اللّه على أنهن كدنه ، وأنه بريء مما قذف به . أو أراد الوعيد لهن ، أو هو عليم بكيدهن فيجازيهن عليه . و

قال ابن عطية : ويحتمل أن يريد بالرب العزيز مولاه ، ففي ذلك استشهاد به وتقريع . وما ذكره ابن عطية من هذا الاحتمال لا يسوغ ، والضمير في بكيدهن عائد على النسوة المذكورات لا للجنس ، لأنها حالة توقيف على ذنب . قال : ما خطبكن في الكلام حذف تقديره : فرجع الرسول فأخبره بما قال يوسف ، فجمع الملك النسوة وامرأة اعزيز وقال لهن : ما خطبكن ؟ وهذا استدعاء منه أن يعلمنه بالقصة ، ونزه جانب يوسف بقوله : إذ راودتن يوسف عن نفسه ، ومراودتهن له قولهن ليوسف : أطع مولاتك .

وقال الزمخشري : هل وجدتن منه ميلاً لكن قلن : حاش للّه تعجباً من عفته ، وذهابه بنفسه عن شيء من الريبة ، ومن نزاهته عنها . و

قال ابن عطية : أجاب النساء بجواب جيد تظهر منه براءة أنفسهن جملة ، وأعطين يوسف بعض براءة ، وذلك أن الملك لما قررهن أنهن راودته قلن جواباً عن ذلك : حاش للّه . ويحتمل أن يكون قولهن : حاش للّه ، في جهة يوسف عليه السلام . وقولهن ما علمنا عليه من سوء ليس بإبراء تام ، وإنما كان الإبراء التام وصف القصة على وجهها حتى يتقرر الخطأ في جهتهن ، فلما سمعت امرأة العزيز مقالتهن وحيدتهن عن الوقوع في الخزي قالت : الآن حصحص الحق . وقرىء حصحص على البناء للمفعول ، أقرت على نفسها بالمراودة ، والتزمت الذنب ، وأبرأت يوسف البراءة التامة .

٥٢

انظر تسفير الآية:٥٣

٥٣

{ذالِكَ لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللّه لاَ يَهْدِى كَيْدَ الْخَائِنِينَ وَمَا أُبَرّىء نَفْسِى إِنَّ النَّفْسَ لامَّارَةٌ بِالسُّوء إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبّى إِنَّ رَبّى غَفُورٌ رَّحِيمٌ } : الظاهر أن هذا من كلام امرأة العزيز وهو داخل تحت قوله : قالت . والمعنى : ذلك الإقرار والاعتراف بالحق ، ليعلم يوسف أني لم أخنه في غيبته والذب عنه ، وأرميه بذنب هو منه بريء . ثم اعتذرت عما وقعت فيه مما يقع فيه البشر من الشهوات بقولها : وما أبرىء نفسي ، والنفوس مائلة إلى الشهوات إمارة بالسوء .

وقال الزمخشري : وما أبرىء نفسي مع ذلك من الخيانة فإني قد خنته حين قذفته وقلت : ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً إلا أن يسجن ، وأودعته السجن تريد الاعتذار لما كان منها أن كل نفس لأمارة بالسوء إلا نفساً رحمها اللّه بالعمصة إن ربي غفور رحيم ، استغفرت ربها واسترحمته مما ارتكبت . ومن ذهب إلى أن قوله : ذلك ليعلم إلى آخره ، من كلام يوسف يحتاج إلى تكلف ربط بينه وبين ما قبله ، ولا دليل يدل على أنه من كلام يوسف . فقال ابن جريج : في الكلام تقديم وتأخير ، وهذا الكلام متصل بقول يوسف : إن ربي بكيدهن عليم ، وعلى هذا فالإشارة بقوله ذلك إلى إلقائه في السجن والتماسه البراءة أي : هذا العلم سيدي أني لم أخنه .

وقال بعضهم : إنما قال يوسف هذه المقالة حين قالت امرأة العزيز كلامها إلى قولها : وإنه لمن الصادقين ، فالإشارة على هذا إلى قولها وصنع اللّه فيه ، وهذا يضعف ، لأنه يقتضي حضوره مع النسوة عند الملك . فكيف يقول الملك بعد ذلك : ائتوني به ؟ وفسر الزمخشري الآية أولاً على أنها من كلام يوسف فقال : أي ذلك التنبت والتشمر لظهور البراءة ، ليعلم العزيز أني لم أخنه بظهر الغيب في حرمته ، وأن اللّه لا يهدي كيد الخائنين لا ينفذه ولا يسدده ، وكأنه تعريض بامرأته في خيانتها في أمانة زوجها ، وبه في خيانته أمانة اللّه حين ساعدها بعد ظهور الآيات على حبسه . ويجوز أن يكون توكيداً لأمانته ، وأنه لو كان خائناً لما هدى اللّه كيده ، ولا سدّده ، ثم أراد أن يتواضع للّه ويهضم نفسه لئلا يكون لها مزكياً ، ولحالها في الأمانة معجباً كما قال الرسول صلى اللّه عليه وسلم : { أنا سيد ولد آدم ولا فخر } وليبين أن ما فيه من الأمانة ليس به وحده ، وإنما هو بتوفيق اللّه ولطفه وعصمته . فقال : وما أبرىء نفسي من الزلل ، وما أشهد لها بالبراءة الكلية ، ولا أزكيها ، إن النفس لأمارة بالسوء . أراد

الجنس أي : هذا الجنس يأمر بالسوء ، ويحمل على ما فه من الشهوات انتهى . وفيه تكثير وتحميل للفظ ما ليس فيه ، ويزيد على عادته في خطابته . ولما أحسّ الزمخشري بأشكال قول من قال : إنه من كلام يوسف قال :  { فإن قلت } : كيف صح أن يجعل من كلام يوسف ولا دليل على ذلك ؟ { قلت} : كفى بالمعنى دليلاً قائداً إلى أن يجعل من كلامه ، ونحوه قوله : قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون ؟ وهو من كلام فرعون يخاطبهم ويستشيرهم انتهى . وهذا ليس كما ذكر ، إذ لا يتعين في هذا التركيب أن يكون من كلام فرعون ، بل هو من كلام الملأ تقدمهم فرعون إلى هذه المقالة ، فقالوا ذلك بعض لبعض ، فيكون في قول فرعون : يريد أن يخرجكم خطاباً للملأ من فرعون ، ويكون في هذا التركيب خطاباً من بعضهم لبعض ، ولا يتنافى اجتماع المقالتين . وبالغيب يحتمل أن يكون حالاً من الفاعل أي : غائباً عنه ، أو من المفعول أي : غائباً عني ، أو ظرفاً أي بمكان الغيب . والظاهر أنّ إلا ما رحم ربي استثناء متصل من قوله : لأمارة بالسوء ، لأنه أراد الجنس بقوله : إن النفس ، فكأنه قال : إلا النفس التي رحمها ربي فلا تأمر بالسوء ، فكون استثناء من الضمير المستكن في أمارة . ويجوز أن يكون مستثنى من مفعول أمارة المحذوف إذ التقدير : لأمارة بالسوء صاحبها ، إلا الذي رحمه ربي فلا تأمره بالسوء . وجوزوا أن يكون مستثنى من ظرف الزمان المفهوم عمومه من ما قبل الاستثناء ، وما ظرفية إذ التقدير : لأمارة بالسوء مدة بقائها إلا وقت رحمة اللّه العبد وذهابه بها عن اشتهاء المعاصي . وجوزوا أن يكون استثناء منقطعاً ، وما مصدرية . وذكر ابن عطية أنه قول الجمهور أي : ولكن رحمة ربي هي التي تصرف الإساءة .

٥٤

انظر تسفير الآية:٥٧

٥٥

انظر تسفير الآية:٥٧

٥٦

انظر تسفير الآية:٥٧

٥٧

{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِى بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِى...} : روي أن الرسول جاءه فقال : أجب الملك ، فخرج من السجن ودعا لأهله اللّهم عطف عليهم قلوب الأخيار ، ولا تعم عليهم الأخبار ، فهم أعلم الناس بالأخبار في الواقعات . وكتب على باب السجن : هذه منازل البلوى ، وقبور الأحياء ، وشماتة الأعداء ، وتجربة الأصدقاء ، ثم اغتسل وتنظف من درن السجن ، ولبس ثياباً جدداً ، فلما دخل على الملك قال : اللّهم إني أسألك يخيرك من خيره ، وأعوذ بعزتك وقدرتك من شره ، ثم سلم عليه ودعا له بالعبرانية فقال : ما هذا اللسان ؟ فقال : لسان آبائي ، وكان الملك يتكلم بسبعين لساناً فكلمه بها ، فأجابه بجميعها ، فتعجب منه وقال : أيها الصديق إني أحب أن أسمع رؤياي منك قال : رأيت بقرات سمان فوصف لونهن وأحوالهن ، وما كان خروجهن ، ووصف السنابل وما كان منها على الهيئة التي رآها الملك لا يخرم منها حرفاً ، وقال له : من حفظك أن تجعل الطعام في الاهراء فيأتيك الخلق من النواحي يمتارون منك ، ويجتمع لك من المكنون ما لم يجتمع لأحد قبلك . وكان يوسف قصد أولاً بتثبته في السجن أن يرتقي إلى أعلى المنازل ، فكان استدعاء الملك إياه أولاً بسبب علم الرؤيا ، فلذلك قال : ائتوني به فقط ، فلما فعل يوسف ما فعل فظهرت أمانته وصبره وهمته وجوده نظره وتأنيه في عدم التسرع إليه بأول طلب عظمت منزلته عنده ، فطلبه ثانياً ومقصوده : استخلاصه لنفسه . ومعنى أستخلصه : أجعله خالصاً لنفسي وحاصاً بي ، وسمى اللّه فرعون مصر ملكاً إذ هي حكاية اسم مضى حكمه وتصرم زمنه ، فلو كان حياً لكان حكماً له إذا قيل لكافر ملك أو أمير ، ولهذا كتب النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى هرقل عظيم الروم ولم يقل ملكاً ولا أميراً ، لأن ذلك حكم . والجواب مسلم وتسلموا .

وأما كونه عظيمهم فتلك صفة لا تفارقه كيف ما

تقلب . وفي الكلام حذف التقدير : فسمع الملك كلام النسوة وبراءة يوسف مما رمى به ، فأراد رؤيته وقال : ائتنوني به ، فلما كلمه . والظاهر أن الفاعل بكلمه هو ضمير الملك أي : فلما كلمه الملك ورأى حسن جوابه ومحاورته . ويحتمل أن يكون الفاعل ضمير يوسف أي : فلما كلم يوسف الملك ، ورأى الملك حسن منطقه بما صدق به الخبر الخبر ، والمرء مخبوء تحت لسانه ، قال : إنك اليوم لدينا مكين أي : ذو مكانة ومنزلة ، أمين مؤتمن على كل شيء .

وقيل : أمين آمين ، والوصف بالأمانة هو الأبلغ في الإكرام ، وبالأمن يحط من إكرام يوسف . ولما وصفه الملك بالتمكن عنده ، والأمانة ، طلب من الأعمال ما يناسب هذين الوصفين فقال : اجعلني على خزائن الأرض أي : ولني خزائن أرضك إني حفيظ أحفظ ما تستحفظه ، عليم بوجوه التصرف . وصف نفسه بالأمانة والكفاءة وهما مقصود الملوك ممن يولونه ، إذ هما يعمان وجوه التثقيف والحياطة ، ولا خلل معهما لقائل .

وقيل : حفيظ للحساب ، عليم بالألسن .

وقيل : حفيظ لما استودعتني ، عليم بسني الجوع . وهذا التخصيص لا وجه له ، ودلّ إثناء يوسف على نفسه أنه يجوز للإنسان أن يثني على نفسه بالحق إذا جهل أمره ، ولا يكون ذلك التزكية المنهي عنها . وعلى جواز عمل الرجل الصالح للرجل التاجر بما يقتضيه الشرع والعدل ، لا بما يختاره ويشتهيه مما لا يسيغه الشرع ، وإنما طلب يوسف هذه الولاية ليتوصل إلى إمضاء حكم اللّه ، وإقامة الحق ، وبسط العدل ، والتمكن مما لأجله تبعث الأنبياء إلى العباد ، ولعلمه أن غيره لا يقوم مقامه في ذلك . فإنْ كان الملك قد أسلم كما روى مجاهد فلا كلام ، وإن كان كافراً ولا سبيل إلى الحكم بأمر اللّه ودفع الظلم إلا بتمكينه ، فللمتولي أن يستظهر به .

وقيل : كان الملك يصدر عن رأي يوسف ولا يعترض عليه في كل ما رأى ، فكان في حكم التابع . وما زال قضاة الإسلام يتولون القضاء من جهة من ليس بصالح ، ولولا ذلك لبطلت أحكام الشرع ، فهم مثابون على ذلك إذا عدلوا . وكذلك أي : مثل ذلك التمكين في نفس الملك مكناً ليوسف في أرض مصر ، يتبوأ منها حيث يشاء أي : يتخذ منها مباءة ومنزلاً كل مكان أراد ، فاستولى على جميعها ، ودخلت تحت سلطانه . روي أن الملك توجه بتاجه ، وختمه بخاتمه ، ورداه بسيفه ، ووضع له سريراً من ذهب مكللاً بالدر والياقوت ، فجلس على السرير ، ودانت له الملوك ، وفوض الملك إليه أمره وعزل قطفير ، ثم مات بعد ، فزوجه الملك امرأته ، فلما دخل عليها قال : أليس هذا خيراً مما طلبت ؟ فوجدها عذراء ، لأنّ العزيز كان لا يطأ ، فولدت له ولدين : افراثيم ، ومنشا . وأقام العدل بمصر ، وأحبه الرجال والنساء ، وأسلم على يده الملك وكثير من الناس ، وباع من أهل مصر في سني القحط الطعام بالدنانير والدراهم في السنة الأولى حتى لم يبق معهم شيء منها ، ثم بالحلي والجواهر ، ثم بالدواب ، ثم بالضياع والعقار ، ثم برقابهم ، ثم استرقهم جميعاً فقالوا : واللّه ما رأينا كاليوم ملكاً أجل ولا أعظم منه فقال للملك : كيف رأيت صنع اللّه بي فيما خولني ، فما ترى ؟ قال : الرأي رأيك قال : فإني أشهد اللّه وأشهدك أني أعتقت أهل مصر عن آخرهم ، ورددت عليهم أملاكهم . وكان لا يبيع من أحد من الممتارين أكثر من حمل بعير تقسيطاً بين الناس ، وأصاب أرض كنعان وبلاد الشام نحو ما أصاب مصر ، فأرسل يعقوب بنيه ليمتاروا ، واحتبس بنيامين .

وقرأ الحسن وابن كثير : بخلاف عنهم أبو جعفر وشيبه ونافع : حيث نشاء بالنون ، والجمهور بالياء . والظاهر أنّ قراءة الياء يكون فاعل نشاء ضميراً يعود على يوسف ، ومشيئته معذوقة بمشيئة اللّه ، إذ هو نبيه ورسوله .

وإما أن يكون الضمير عائداً على اللّه أي : حيث يشاء اللّه ، فيكون التفاتاً . نصيب برحمتنا أي : بنعمتنا من الملك والغني وغيرهما ، ولا نضيع في الدنيا أجر من أسن . ثم ذكر أن أجر الآخرة خير ، لأنه الدائم الذي لا يفنى . وقال سفيان بن عيينة : المؤمن يثاب على حسناته في الدنيا والآخرة ، والفاجر يعجل له الخير في الدنيا ، وما له في الآخرة من خلاق ، وتلا هذه الآية . وفي الحديث ما يوافق ما قال سفيان ، وفي الآية إشارة إلى أن حال يوسف في الآخرة خير من حالته العظيمة في الدنيا .

٥٨

انظر تسفير الآية:٦٢

٥٩

انظر تسفير الآية:٦٢

٦٠

انظر تسفير الآية:٦٢

٦١

انظر تسفير الآية:٦٢

٦٢

{وَجَاء إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ ... } : أي جاؤوا من القريات من أرض فلسطين بأرش الشام .

وقيل : من الأولاج من ناحية الشعب إلى مصر ليمتاروا منها ، فتوصلوا إلى يوسف للميرة ، فعرفهم لأنه فارقهم وهم رجال ، ورأى زيهم قريباً من زيهم إذ ذاك ، ولأنّ همته كانت معمورة بهم وبمعرفتهم ، فكان يتأمل ويتفطن . وروي أنهم انتسبوا في الاستئذان عليه فعرفهم ، وأمر بإنزالهم . ولذلك قال الحسن : ما عرفهم حتى تعرفوا له ، وإنكارهم إياه كان .

قال الزمخشري : لطول العهد ومفارقته إياهم في سن الحداثة ، ولاعتقادهم أنه قد هلك ، ولذهابه عن أوهامهم لقلة فكرهم فيه ، ولبعد حاله التي بلغها من الملك والسلطان عن حالته التي فارقوه عليها طريحاً في البئر مشريّاً بدراهم معدودة ، حتى لو تخيل لهم أنه هو لكذبوا أنفسهم . ولأن الملك مما يبدل الزي ويلبس صاحبه من التهيب والاستعظام ما ينكر منه المعروف .

وقيل : رأوه على زي فرعون عليه ثياب الحرير جالساً على سرير في عنقه طوق من ذهب ، وعلى رأسه تاج ، فما خطر لهم أنه هو .

وقيل : ما رأوه إلا من بعيد بينهم وبينه مسافة وحجاب ، وما وقفوا إلا حيث يقف طلاب الحوائج .

ولما جهزهم بجهازهم ، وكان الجهاز الذي لهم هو الطعام الذي امتاروه . وفي الكلام حذف تقديره : وقد كان استوضح منهم أنهم لهم أخ قعد عند أبيهم . روي أنه لما عرفهم أراد أن يخبروه بجميع أمرهم ، فباحثهم بأن قال لهم ترجمانه : أظنكم جواسيس ، فاحتاجوا إلى التعريف بأنفسهم فقالوا : نحن أبناء رجل صديق ، وكنا اثنى عشر ، ذهب منا واحد في البرية ، وبقي أصغرنا عند أبينا ، وجئنا نحن للميرة ، وسقنا بعير الباقي منا وكانوا عشرة ولهم أحد عشر بعيراً . فقال لهم يوسف : ولم تخلف أحدكم ؟ قالوا : المحبة أبينا فيه قال : فأتوني بهذا الأخ حتى أعلم حقيقة قولكم ، وأرى لم أحبه أبوكم أكثر منكم إن كنتم صادقين ؟ وأورد الزمخشري هذا القصص بألفاظ أخر تقارب هذه في المعنى ، وفي آخره قال : فمن يشهد لكم ؟ إنكم لستم بعيون ، وإن الذي تقولون حق . قالوا : إنا ببلاد لا يعرفنا فيها أحد يشهد لنا . قال : فدعوا بعضكم عندي رهينة وائتوني بأخيكم من أبيكم وهو حمل سالة من أبيكم حتى أصدقكم ، فاقترعوا فأصاب القرعة شمعون ، وكان أحسنهم رأياً في يوسف ، فخلفوه عنده ، وكان قد أحسن إنزالهم وضيافتهم .

وقيل : لم يرتهن أحداً ، وروي غير هذا في طلب الأخ من أبيهم . قيل : كان يوسف ملثماً أبداً ستراً لجماله ، وكان ينقر في الصواع فيفهم من طنينه صدق الحديث أو كذبه ، فسئلوا عن أخبارهم ، فكلما صدقوا قال لهم : صدقتم ، فلما قالوا : وكان لنا أخ أكله الذئب أطن يوسف الصواع وقال : كذبتم ، ثم تغير لهم وقال : أراكم جواسيس ، وكلفهم سوق الأخ الباقي ليظهر صدقهم . وقرىء : بجهازهم بكسر الجيم ، وتنكر أخ ، ولم يقل بأخيكم وإن كان قد عرفه وعرفهم مبالغة في كونه لا يريد أن يتعرف لهم ، ولا أنه يدري من هو . ألا ترى فرقاً بين مررت بغلامك ، ومررت بغلام لك ؟ إنك في التعريف تكون عارفاً بالغلام ، وفي التنكير أنت جال به . فالتعريف يفيد فرع عهد في الغلام بينك وبين المخاطب ، والتنكير لا عهد فيه البتة . وجائز أن نخبر عمن تعرفه أخبار النكرة فتقول : قال رجل لنا وأنت تعرفه لصدق إطلاق النكرة على المعرفة ، ثم ذكر ما يحرضهم به على الإتيان بأخيهم بقوله : ألا ترون إني أوف الكيل وأنا خير المنزلين أي المضيفين ؟ يعني في قطره وفي زمانه يؤنسهم بذلك ويستميلهم ، ثم توعدهم إن لم يأتوا به إليه بحرمانهم من الميرة في المستقبل . واحتمل قوله : ولا تقربون ، أن يكون نهياً ، وأن يكون نفياً مستقلاً ومعناه النهي . وحذفت النون وهو مرفوع ، كما حذفت في فبم تبشرون أن يكون نفياً داخلاً في الجزاء معطوفاً على محل فلا كيل لكم عندي ، فيكون مجزوماً والمعنى : أنهم لا يقربون له بكذا ولا طاعة . وظاهر كل ما فعله يوسف عليه السلام معهم أنه بوحي ، وإلا فإنه كان مقتضى البر أن يبادر إلى أبيه ويستدعيه ، لكن اللّه تعالى أراد تكميل أجر يعقوب ومحنته : ولتتفسر الرؤيا الأولى قالوا : سنراود عنه أباه أي :

سنخادعه ونستميله في رفق إلى أن يتركه يأتي معنا إليك ، ثم أكدوا ذلك الوعد بأنهم فاعلو ذلك لا محالة ، لا نفرط فيه ولا نتوانى .

وقرأ الأخوان وحفص : لفتيانه ، وباقي السبعة لفتيته ، فالكثرة على مراعاة المأمورين ، والقلة على مراعاة المتأوّلين . فهم الخدمة الكائلون أمرهم بجعل المال الذي اشتروا به الطعام في رحالهم مبالغة في استمالتهم لعلهم يعرفونها أي : يعرفون حق ردها ، وحق التكرم بإعطاء البدلين فيرغبون فينا إذا انقلبوا إلى أهلهم ، وفرغوا ظروفهم . ولعلهم يعرفونها تعليق بالجعل ، ولعلهم يرجعون تعليق بترجي معرفة البضاعة للرجوع إلى يوسف . قيل : وكانت بضاعتهم النعال والأدم .

وقيل : يرجعون متعد ، فالمعنى لعلهم يردون البضاعة .

وقيل : تخوف أن لا يكون عند أبيه من المتاع ما يرجعون به .

وقيل : علم أن ديانتهم تحملهم على رد البضاعة ، لا يستحلون إمساكها فيرجعون لأجلها .

وقيل : جعلها توطئة لجعل السقاية في رحل أخيه بعد ذلك ، ليتبين أنه لم يسرق لمن يتأمل القصة .

قال ابن عطية : ويظهر أن ما فعله يوسف من صلتهم وجبرهم في تلك الشدة كان واجباً عليه ، هذ هو ملك عادل وهم أهل إيمان ونبوة .

٦٣

انظر تسفير الآية:٦٤

٦٤

{فَلَمَّا رَجِعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُواْ يأَبَانَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ هَلْ امَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللّه خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرحِمِينَ } : أي : رجعوا من مصر ممتارين ، بادروا بما كان أهم الأشياء عندهم من التوطئة لإرسال أخيهم معهم ، وذلك قبل فتح متاعهم وعلمهم بإحسان العزيز إليهم من رد بضاعتهم . وأخبروا بما جرى لهم مع العزيز الذي على إهراء مصر ، وأنهم استدعى منهم العزيز أن يأتوا بأخيهم حتى يتبين صدقهم أنهم ليسوا جواسيس ، وقولهم : منع منا الكيل ، إشارة إلى قول يوسف : فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي . ويكون منع يراد به في المستأنف ، وإلا فقد كيل لهم . وجاؤوا أباهم بالميرة ، لكنْ لما أنذروا بمنع الكيل قالوا : منع .

وقيل : أشاروا إلى بعير بنيامين الذي منع من الميرة ، وهذا أولى بحمل منع على الماضي حقيقة ، ولقولهم : فأرسل معنا أخانا نكتل ، ويقويه قراءة يكتل بالياء أي : يكتل أخونا ، فإنما منع كيل بعيره لغيبته ، أو يكن سببلاً للاكتيال . فإن امتناعه في المستقبل تشبيه ، وهي قراءة الأخوين .

وقرأ باقي السبعة بالنون أي : نرفع المانع من الكيل ، أو نكتل من الطعام ما نحتاج إليه ، وضمنوا له حفظه وحياطته . قال : هل آمنكم ، هذا توقيف وتقرير . وتألم من فراقه بنيامين ، ولم يصرح بمنعه من حمله لما رأى في ذلك من المصلحة . وشبه هذا الائتمان في ابنه هذا بائتمانه إياهم في حق يوسف . قلتم فيه : وإنا له لحافظون ، كما قلتم في هذا ، فأخاف أن تكيدوا له كما كدتم لذلك ، لكن يعقوب لم يخف عليه كما خاف على يوسف ، واستسلم للّه وقال : فاللّه خير حفظاً ،

وقرأ الأخوان وحفص : حافظاً اسم فاعل ، وانتصب حفظاً وحافظاً على التمييز ، والمنسوب له الخير هو حفظ اللّه ، والحافظ الذي من جهة اللّه . وأجاز الزمخشري أن يكون حافظاً حالاً ، وليس بجيد ، لأن فيه تقييد خير بهذه الحال .

وقرأ الأعمش : خير حافظ على الإضافة ، فاللّه تعالى متصف بالحفظ وزيادته على كل حافظ .

وقرأ أبو هريرة : خير الحافظين ، كذا نقل الزمخشري . و

قال ابن عطية :

وقرأ ابن مسعود ، فاللّه خير حافظاً وهو خير الحافظين . وينبغي أن تجعل هذه الجملة تفسيراً لقوله : فاللّه خير حافظاً ، لا أنها قرآن . وهو أرحم الراحمين اعتراف بأن اللّه هو ذو الرحمة الواسعة ، فأرجو منه حفظه ، وأن لا يجمع على مصيبته ومصيبة أخيه .

٦٥

انظر تسفير الآية:٦٨

٦٦

انظر تسفير الآية:٦٨

٦٧

انظر تسفير الآية:٦٨

٦٨

{وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُواْ يأَبَانَا أَبَانَا مَا نَبْغِى هَاذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا ...}

قرأ علقمة ، ويحيى بن وثاب ، والأعمش ، ردت بكسر الراء ، نقل حركة الدال المدغمة إلى الراء بعد توهم خلوها من الضمة ، وهي لغة لبني ضبة ، كما نقلت العرب في قيل وبيع .

وحكى قطرب : النقل في الحرف الصحيح غير المدغم نحو : ضرب زيد ، سموا المشدود المربوط بجملته متاعاً ، فلذلك حسن الفتح فيه وما نبغي ، ما فيه استفهامية أي : أي شيء نبغي ونطلب من الكرامة هذه أموالنا ردت إلينا قاله قتادة . وكانوا قالوا لأبيهم : قدمنا على خير رجل أنزلنا وأكرمنا كرامة ، لو كان رجلاً من آل يعقوب ما أكرمنا كرامته . وقال الزجاج : يحتمل أن تكون ما نافية أي : ما بقي لنا ما نطلب . ويحتمل أيضاً أن تكون نافية من البغي أي : ما افترينا فكذبنا على هذا الملك ، ولا في وصف إجماله وإكرامه هذه البضاعة مردودة ، وهذا معنى قول الزمخشري ما نبغي في القول ما تتزيد فيما وصفنا لك من إحسان الملك والكرامة .

وقيل : معناه ما نريد منك بضاعة أخرى .

وقرأ عبد اللّه وأبو حيوة : ما تبغي بالتاء على خطاب يعقوب ، وروتها عائشة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم ، ويحتمل ما في هذه القراءة الاستفهام والنفي كقراءة النون .

وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي : ونميز بضم النون ، والجملة من قولهم هذه بضاعتنا ردت إلينا موضحة لقولهم : ما نبغي ، والجمل بعدها معطوفة عليها على تقدير : فنستظهر بها ونستعين بها ونمير أهلنا في رجوعنا إلى الملك ، ونحفظ أخانا فلا يصيبه شيء مما تخافه . وإذا كان ما نبغي ما نتزيد وما نكذب ، جاز أن يكون ونمير معطوفاً على ما نبغي أي : لا نبغي فيما نقول ، ونمير أهلنا ونفعل كيت وكيت . وجاز أن يكون كلاماً مبتدأ ، وكرروا حفظ الأخ مبالغة في الحض على إرساله ، ونزداد باستصحاب أخينا . وسق بعير على أوساق بعيرنا ، لأنه إنما كان حمل لهم عشرة أبعرة ، ولم يحمل الحادي عشر لغيبة صاحبه . والظاهر أنّ البعير هو من الإبل . وقال مجاهد : كيل حمار ، قال : وبعض العرب تقول للحمار : بعير ، وهذا شاذ . والظاهر أنّ قوله : ذلك كيل يسير ، من كلامهم لا من كلام يعقوب ، والإشارة بذلك الظاهر أنها إلى كيل بعير أي : يسير ، بمعنى قليل ، يحببنا إليه الملك ولا يضايقنا فيه ، أو يسير بمعنى سهل متيسر لا يتعاظمه .

وقيل : يسير عليه أن يعطيه . وقال الحسن : وقد كان يوسف عليه السلام وعدهم أن يزيدهم حمل بعير بغير ثمن .

قال الزمخشري : أي ذلك مكيل قليل لا يكفينا يعني : ما يكال لهم ، فازدادوا إليه ما يكال لأخيه . ويجوز أن يكون من كلام يعقوب أي : حمل بعير واحد شيء يسير لا يخاطر لمثله بالولد ، كقوله : ذلك ليعلم انتهى . ويعني أن ظاهر الكلام أنه من كلامهم ، وهو من كلام يعقوب ، كما أن قوله : ذلك ليعلم ، ظاهره أنه من كلام امرأة العزيز ، وهو من كلام يوسف . وهذا كله تحميل للفظ القرآن ما يبعد تحميله ، وفيه مخالفة الظاهر لغير دليل . ولما كان يعقوب غير مختار لإرسال ابنه ، وألحوا عليه في ذلك ، علق إرساله بأخذ الموثق عليهم وهو الحلف باللّه ، إذ به تؤكد العهود وتشدد

ولتأتني به جواب للحلف ، لأن معنى حتى تؤتون موثقاً : حتى تحلفوا لي لتأتنني به . وقوله : إلا أن يحاط بكم ، لفظ عام لجميع وجوه الغلبة ، والمعنى : نعمكم الغلبة من جميع الجهات حتى لا يكون لكم حيلة ولا وجه تخلص . وقال مجاهد : إلا أن تهلكوا . وعنه أيضاً : إلا أن تطيقوا ذلك . وهذا الاستثناء من المفعول من أجله مراعى في قوله : لتأتنني ، وإن كان مثبتاً معنى النفي ، لأن المعنى : لا تمتنعون من الإتيان به لشيء من الأشياء إلا لأن يحاط بكم . ومثاله من المثبت في اللفظ ومعناه النفي قولهم : أنشدك اللّه إلا فعلت أي : ما أنشدك إلا الفعل . ولا يجوز أن يكون مستثنى من الأحوال مقدراً بالمصدر الواقع حالاً ، وإن كان صريح المصدر قد يقع حالاً ، فيكون التقدير : لتأتنني به على كل حال إلا إحاط بكم أي : محاطاً بكم ، لأنهم نصوا على أنّ أنْ الناصبة للفعل لا تقع حالاً وإن كانت مقدرة بالمصدر الذي قد يقع بنفسه حالاً . فإن جعلت أنْ والفعل واقعة موقع المصدر الواقع ظرف زمان ، ويكون التقدير : لتأتنني به في كل وقت إلا إحاطة بكم أي : إلا وقت إحاطة بكم .

قلت : منع ذلك ابن الأنباري فقال : ما معناه : يجوز خروجنا صياح الديك أي : وقت صياح الديك ، ولا يجوز خروجنا أن يصيح الديك ، ولا ما يصيح الديك . وإن كانت أنْ وما مصدريتين ، وإنما يقع ظرفا المصدر المصرح بلفظه . وأجاز ابن جني أن تقع أنْ ظرفاً ، كما يقع صريح المصدر ، فأجاز في قول تأبط شراً : وقالوا لها لا تنكحيه فإنه

لأول فصل أن يلاقي مجمعا

وقول أبي ذؤيب الهذلي : وتاللّه ما أن شهلة أم واحد

بأوجد مني أن يهان صغيرها

أنْ يكون أنْ تلاقي تقديره : وقت لقائه الجمع ، وأن يكون أنْ يهان تقديره : وقت إهانة صغيرها . فعلى ما أجازه ابن جني يجوز أن تخرج الآية ويبقى لتأتنني به على ظاهره من الإثبات ، ولا يقدر فيه معنى النفي . وفي الكلام حذف تقديره : فأجابوه إلى ما طلبه ، فلما آتوه موثقهم قال يعقوب : اللّه على ما نقول من طلب الموثق وإعطائه وكيل رقيب مطلع .

ونهيه إياهم أن يدخلوا من باب واحد هو خشية العين ، وكانوا أحد عشر لرجل واحد أهل جمال وبسطة قاله : ابن عباس ، والضحاك ، وقتادة ، وغيرهم ، والعين ، حق . وفي الحديث :  { إن العين لتدخل الرجل القبر والجمل القدر وفي التعوذ ومن كل عين لامة } وخطب الزمخشري فقال : لأنهم كانوا ذوي بهاء وشارة حسنة ، وقد أشهرهم أهل مصر بالقربة عند الملك والكرامة الخاصة التي لم تكن لغيرهم ، فكانوا مظنة لطموح الأبصار إليهم من الوفود ، وأن يشار إليهم بالأصابع ،

ويقال : هؤلاء أضياف الملك انظروا إليهم ما أحسنهم من فتيان ، وما أحقهم بالإكرام ، لأمر ما أكرمهم الملك وقربهم وفضلهم على الوافدين عليه . فخاف لذلك أن يدخلوا كوكبة واحدة فيعانوا لجمالهم وجلالة أمرهم في الصدور ، ويصيبهم ما يسوءهم ، ولذلك لم يوصهم بالتفرق في المرة الأولى ، لأنهم كانوا مجهولين معمورين بين الناس انتهى . ويظهر أنّ خوفه عليهم من العين في هذه الكرة بحسب أنّ محبوبه فيهم وهو بنيامين الذي كان يتسلى به عن شقيقه يوسف ، ولم يكن فيهم

في الكرة الأولى ، فأهمل أمرهم ولم يحتفل بهم لسوء صنيعهم في يوسف .

وقيل : نهاهم خشية أن يستراب بهم لقول يوسف : أنتم جواسيس .

وقيل : طمع فافتراقهم أن يتسمعوا خبر يوسف ، ثم نفى عن نفسه أنْ يغني عنهم شيئاً يعني : بوصاته ، إنْ الحكم إلا للّه أي : هو الذي يحكم وحده وينفذ ما يريد ، فعليه وحده توكلت . ومن حيث أمرهم أبوهم أي : من أبواب متفرقة . روي أنهم لما ودعوا أباهم قال لهم : بلغوا ملك مصر سلامي وقولوا له : إن أبانا يصلي عليك ، ويدعو لك ، ويشكر صنيعك معنا . وفي كتاب أبي منصور المهراني : أنه خاطبة بكتاب قرىء على يوسف فبكى . وجواب لما قوله : ما كان يغني عنهم من اللّه من شيء ، وفيه حجة لمن زعم أن لما حرف وجوب لوجوب لا ، ظرف زمان بمعنى حين ، إذ لو كانت ظرف زمان ما جاز أن تكون معمولة لما بعد ما النافية . لا يجوز حين قام زيد ما قام عمرو ، ويجوز لما قام زيد ما قام عمرو ، فدل ذلك على أنّ لما حرف يترتب جوابه على ما بعده . و

قال ابن عطية : ويجوز أنْ يكون جواب لما محذوفاً مقدراً ، ثم يخبر عن دخولهم أنه ما كان يغني . ومعنى الجملة : لم يكن في دخولهم متفرقين دفع قدر اللّه الذي قضاه عليهم من تشريفهم وافتضاحهم بذلك ، وأخذ أخيهم بوجدان الصاع في رحله ، وتزايد مصيبته على أبيهم ، بل كان إرباً ليعقوب قضاه وتطييباً لنفسه .

وقيل : معنى ما كان يغني عنهم من اللّه من شيء ، ما يرد عنهم قدراً لأنه لو قضى أنْ يصيبهم عين لإصابتهم متفرقين أو مجتمعين ، وإنما طمع يعقوب أن تصادف وصيته قدر السلامة ، فوصى وقضى بذلك حاجة نفسه في أن بقي يتنعم برجائه أن يصادف وصيته القدر في سلامتهم . وإنه لذو علم يعني لقوله : إن الحكم إلا للّه ، وما بعده وعلمه بأنّ القدر لا يدفعه الحذر . وهذا ثناء من اللّه على يعقوب عليه السلام . وقال قتادة : لعامل بما علمناه . وقال سفيان : من لا يعمل لا يكون عالماً ، ولفظة ذو وعلم لا تساعده على هذا التفسير وإن كان صحيحاً في نفسه .

وقرأ الأعمش : مما علمناه .

٦٩

انظر تسفير الآية:٧٧

٧٠

انظر تسفير الآية:٧٧

٧١

انظر تسفير الآية:٧٧

٧٢

انظر تسفير الآية:٧٧

٧٣

انظر تسفير الآية:٧٧

٧٤

انظر تسفير الآية:٧٧

٧٥

انظر تسفير الآية:٧٧

٧٦

انظر تسفير الآية:٧٧

٧٧

ولما دخلوا على . . . . .

العير الإبل التي عليها الأحمال ، سميت بذلك لأنها تعير أي تذهب وتجيء .

وقيل : هي قافلة الحمير ، ثم كثر حتى قيل لكل قافلة عير ، كأنها جمع عير . وأصلها فعل كسقف ، وسقف فعل به ما فعل ببيض وعيد ، والعير مؤنث . وقالوا في الجمع : غيرات ، فشذوا في جمعه بالألف والتاء ، وفي فتح يائه وقال الشاعر : غشيت ديار الحي بالبكرات

فعارمة فبرقة العيرات

قال الأعلم : هنا مواضع الأعيار ، وهي الحمير . الصواع الصاع ، وفيه لغات تأتي في القرآن ، ويؤنث ويذكر . الوعاء : الظرف الذي يحفظ فيه الشيء ، وتضم واوه ، ويجوز أن تبدل واوه همزة . فتىء من أخوات كان الناقصة قال أوس بن حجر : فما فتئت حي كان غبارها

سرادق بوم ذي رياح يرفع

وقال أيضاً : فما فتئت خيل تثوب وتدعي

ويلحق منها لاحق وتقطع

ويقال فيها : فتأ على وزن ضرب ، وأفتأ على وزن أكرم . وزعم ابن مالك أنها تكون بمعنى سكن وأطفأ ، فتكون تامة . ورددنا عليه ذلك في شرح التسهيل ، وبينا أن ذلك تصحيف منه . صحف الثاء بثلاث ، بالتاء بثنتين من فوق ، وشرحها بسكن وأطفأ . الحرض : المشفي على الهلاك يقال : حرض فهو حرض بكسر الراء ، حرضاً بفتحها وهو

المصدر ، ولذلك يستوي فيه المذكر والمؤنث والمفرد والجمع . وأحرضه المرض فهو محرض قال : أرى المرء كالأزواد يصبح محرضا

كأحراض بكر في الديار مريض

وقال الآخر : إني امرؤ لج بي حب فأحرضني

حتى بليت وحتى شفني السقم وقال : رجل حرض بضمتين كجنب وشلل .

{وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ اوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنّى أَنَاْ أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ... } : روى أنهم قالوا له : هذا أخونا قد جئناك به ، فقال : أحسنتم وأصبتم ، وستجدون ذلك عندي ، فأنزلهم وأكرمهم ، ثم أضافهم ، وأجلس كل اثنين منهم على مائدة ، فبقي بنيامين وحده فبكى وقال : لو كان أخي يوسف حياً لأجلسني معه . فقال يوسف : بقي أخوكم وحيداً ، فأجلسه معه على مائدته ، وجعل يؤاكلهم وقال : أنتم عشرة ، فلينزل كل اثنين منكم بيتاً ، وهذا لا ثاني له فيكون معي ، فبات يوسف يضمه إليه ويشم رائحته حتى أصبح ، وسأله عن ولده فقال : لي عشرة بنين اشتققت أسماءهم من اسم أخ لي هلك ، فقال له : أتحب أنْ أكون أخاك بدل أخيك الهالك ؟ قال : من يجد أخا مثلك ، ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل ، فبكى يوسف وقام إليه وعانقه وقال له : أنا أخوك يوسف فلا تبتئس ، فلا تحزن بما كانوا يعملون بنا فيما مضى ، فإن اللّه قد أحسن إلينا وجمعنا على خير ، ولا تعلمهم بما أعلمتك .

وعن ابن عباس : تعرف إليه أنه أخوه ، وهو الظاهر . وهو قول ابن إسحاق وغيره ، أعلمه أنه أخوه حقيقة واستكتمه ، وقال له : لا تبالي بكل ما تراه من المكروه في تحيلي في أخذك منهم .

قال ابن عطية : وعلى هذا التأويل يحتمل أن يشير بقوله : بما كانوا يعملون إلى ما يعمله فتيان يوسف من أمر السقاية ونحو ذلك انتهى . ولا يحتمل ذلك لأنه لو كان التركيب بما يعملون بغير كانوا ، لأمكن على بعده ، لأن الكلام إنما هو مع أخوة يوسف .

وأما ذكر فتيانه فبعيد جداً ، لأنهم لم يتقدم لهم ذكر إلا في قوله : وقال لفتيانه ، وقد حال بينهما قصص . واتسق الكلام مع الأخوة اتساقاً لا ينبغي أن يعدل عن الضمير عائد إليهم ، وأن ذلك إشارة إلى ما كان يلقى منهم قديماً من الأذى ، إذ قد أمن من ذلك باجتماعه بأخيه يوسف . وقال وهب : إنما أخبر أنه أخوه في الود مقام أخيه الذاهب ، ولم يكشف إليه الأمر ، بل تركه تجوز عليه الحيلة كسائر إخوته .

والظاهر أنّ الذي جعل السقاية في رحل أخيه هو يوسف ، ويظهر من حيث كونه ملكاً أنه لم يباشر ذلك بنفسه ، بل جعل غيره من فتيانه ، أو غيرهم أن يجعلها . وتقدم قول وهب : إنه لم يكشف له أنه أخوه ، وأنه تركه تجوز عليه الحيلة . وروي أنه قال ليوسف : أنا لا أفارقك قال : قد علمت اغتمام والدي ، فإذا حبستك ازداد غمه ، ولا سبيل إلى ذلك إلا أن أنسبك إلى ما لا يحمل . قال ؛ لا أبالي ، فافعل ما بدا لك . قال : فإني أدس صاعي في رحلك ، ثم أنادي

عليك بأنك سرقته ليتهيأ لي ردّك بعد تسريحك معهم ، قال : فافعل .

وقرأ عبد اللّه فيما نقل الزمخشري : وجعل السقاية في رحل أخيه ، أمهلهم حتى انطلقوا ، ثم أذن . وفي نقل ابن عطية وجعل السقاية بزيادة واو في جعل دون الزيادة التي زادها الزمخشري بعد قوله : في رحل أخيه ، فاحتمل أن تكون الواود زائدة على مذهب الكوفيين ، واحتمل أن يكون جواب لما محذوفاً تقديره : فقدها حافظها كما قيل : إنما أوحى إلى يوسف أن يجعل السقاية فقط ، ثم إن حافظها فقدها ، فنادى برأيه على ما ظهر له ، ورجحه الطبري . وتفتيش الأوعية يرد هذا القول ، والذي يظهر أنّ تأذين المؤذن كان عن أمر يوسف . وقال السدي : كان هذا الجعل من غير علم من بنيامين ، وما تقدم يدل على أنه كان يعلم منه .

وقال الجمهور : وابن عمر ، وابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، والضحاك ، وابن زيد : السقاية إناء يشرب به الملك ، وبه كان يكال الطعام للناس .

وقيل : كان يسقي بها الملك ثم جعلت صاعاً يكال به ،

وقيل : كانت الدواب تسقي بها ويكال بها . وقال ابن جبير : الصواع هو مثل المكوك الفارسي ، وكان إناء يوسف الذي يشرب فيه ، وكان إلى الطول ماهر . قال : وحدثني ابن عباس أنه كان للعباس مثله يشرب في الجاهلية . وقال ابن جبير أيضاً : الصواع المكوك الفارسي الذي يلتقي طرفاه . كانت تشرب به الأعاجم . والسقاية من فضة أو ذهب أو فضة مموهة بالذهب ، أو نحاس ، أو مسك ، أو كانت مرصع بالجواهر أقوال أولها للجمهور ، ولعزة الطعام في تلك الأعوام قصر كيله على ذلك الإناء .

ثم أذن مؤذن أي : نادى مناد ، أذن : أعلم . وآذن أكثر الإعلام ، ومنه المؤذن لكثرة ذلك منه . وثم تقتضي مهلة بين جعل السقاية والتأذين ، فروي أنه لما فصلت العير بأوقارها وخرجوا من مصر أدركوا

وقيل لهم ذلك .

وقيل : قبل الخروج من مصر أمر بهم فحبسوا ، وأذن مؤذن . والظاهر وقول الجمهور : إن العير رالإبل . وقال مجاهد : كانت دوابهم حميراً ، ومناداة العير والمراد أصحابها كقوله : يا خيل اللّه اركبي ، ولذلك جاء الخطاب : إنكم لسارقون ، فروعي المحذوف ، ولم يراع العير كما روعي في اركبي .

وفي قوله : والعير التي أقبلنا فيها . ويجوز أن تطلق العير على القافلة ، أو الرفقة ، فلا يكون من مجاز الحذف : والذي يظهر أن هذا التحيل ، ورمى أبرياء السرقة ، وإدخال الهم على يعقوب ، بوحي من اللّه . لما علم تعالى في ذلك من الصلاح ، ولما أراد من محنتهم بذلك . ويقويه قوله : كذلك كدنا ليوسف .

وقيل : لما كانوا باعوا يوسف استجيز أن يقال لهم هذا ، ونسبة السرقة إليهم جميعاً : وإن كان الصواع إنما وجد في رحل واحد منهم كما تقول : بنو فلان فتلوا فلاناً ، والقاتل واحد منهم . قالوا : أي أخوة يوسف ، وأقبلوا جملة حالية أي : وقد أقبلوا عليهم ، أي : على طالبي السقاية ، أو على المؤذن إنْ كان أريد به جمع . كأنه جعل مؤذنين ينادون ، وساءهم أن يرموا بهذه المثلبة وقالوا : ماذا تفقدون ؟ ليقع التفتيش فتظهر براءتهم ، ولم يلوذوا بالإنكار من أول ، بل سألوا كمال الدعوى رجاء أن يكون فيها ما تبطل به فلا يحتاج إلى خصام . واحتمل أن يكون ماذا استفهاماً في موضع نصب بتفقدون ، ويحتمل أن يكون ما وحدها استفهاماً مبتدأ ، وذا موصولة بمعنى الذي خبر عن ما ، وتفقدون صلة لذا ، والعائذ محذوف أي : تفقدونه .

وقرأ السلمي تفقدون بضم التاء من أفقدته إذا وجدته فقيداً نحو : أحمدته إذا أصبته محموداً . وضعف هذه القراءة أبو حاتم ، وجهها ما ذكرناه .

وصواع الملك هو المكيال ، وهو السقاية سماه أولاً بإحدى جهتيه ، وآخراً بالثانية .

وقرأ الجمهور صواع بضم الصاد ، بعدها واو مفتوحة ، بعدها ألف ، بعدها عين مهملة .

وقرأ أبو حيوة ، والحسن ، وابن جبير فيما نقل ابن عطية كذلك ، إلا أنه كسر الصاد .

وقرأ أبو هريرة ، ومجاهد : صاع بغير واو على وزن فعل ، فالألف فيها بدل من الواو المفتوحة .

وقرأ أبو رجاء : صوع على وزن قوس .

وقرأ عبد اللّه بن عون بن أبي أرطيان : صوع بضم الصاد ، وكلها لغات في الصاع .

وقرأ الحسن ، وابن جبير فيما نقل عنهما صاحب اللوامح : صواغ بالغين المعجمة على وزن غراب .

وقرأ يحيى بن يعمر كذلك ، إلا أنه يحذف الألف ويسكن الواو .

وقرأ زيد بن علي : صوغ مصدر صاغ ، وصواغ صوغ مشتقان من الصوغ مصدر صاغ يصوغ ، أقيما مقام المفعول بمعنى مصوغ الملك . ولمن جاء به أي : ولمن دل على

سارقه وفضحه ، وهذا جعل وأنابه زعيم من كلام المؤذن . وأنا بحملالبعير كفيل أؤديه إلى ما جاء به ، وأراد به وسق بعير من طعام جعلاً لمن حصله . قالوا : تاللّه أقسموا بالتاء من حروف القسم ، لأنها تكون فيها التعجب غالباً كأنهم عجبوا من رميهم بهذا الأمر . وروي أنهم ردوا البضاعة التي وجدوها في الطعام وتحرجوا من أكل الطعام بلا ثمن ، وكانوا قد اشتهروا بمصر بصلاح ، وكانوا يجعلون الأكمة في أفواه إبلهم لئلا تنال زروع الناس ، فأقسموا على إثبات شيء قد علموه منهم ، وهو أنكم قد علمتم أن مجيئنا لم يكن لفساد ، ثم استأنفوا الأخبار عن نفي صفة السرقة عنهم ، وأن ذلك لم يوجد منهم قط . ويحتمل أن يكون في حيز جواب القسم ، فيكون معطوفاً على قوله : لقد علمتم .

قال ابن عطية : والتاء في تاللّه بدل من واو ، كما أبدلت في تراث ، وفي التوراة ، والتخمة ، ولا تدخل التاء في القسم إلا في المكتوبة من بين أسماء اللّه تعالى وغير ذلك لا تقول : تالرحمن ، ولا تالرحيم انتهى . أما قوله : والتاء في تاللّه بدل من واو ، فهو قول أكثر النحويين . وخالفهم السهيلي فزعم أنها أصل بنفسها وليست بدلاً من واو ، وهو الصحيح على ما قررناه في النحو .

وأما قوله : وفي التوراة فعلى مذهب البصريين إذ زعموا أنّ الأصل . ووراه من ورى الزند . ومن النحويين من زعم أن التاء زائدة ، وذلك مذكور في النحو .

وأما قوله : ولا تدخل إلى آخره فقد حكي عن العرب دخولها على الرب ، وعلى الرحمن ، وعلى حياتك ، قالوا : ترب الكعبة ، وتالرحمن ، وتحياتك . والخطاب في لقد علمتم لطالبي الصواع ، والضمير في جزاؤه عائد على السارق . فما جزاء السارق إن كنتم كاذبين في قولكم : وما كنا سارقين له ؟ قاله ابن عطية .

وقال الزمخشري : فما جزاؤه الضمير للصواع أي : فما جزاء سرقته إن كنتم كاذبين في جحودكم وادعائكم البراءة منه انتهى . وقوله : هو الظاهر لاتحاد الضمائر في قوله : قالوا جزاؤه من وجد في رحله ، إذ التقدير إذ ذاك قال : جزاء الصاع ، أي : سرقته من وجد الصاع في رحله . وقولهم : جزاؤه من وجد في رحله ، كلام من لم يشك أنهم برآء مما رموا به ، ولاعتقادهم البراءة علقوا الحكم على وجدان الصاع لا على سرقته ، فكأنهم يقولون : لا يمكن أن نسرق ، ألا يمكن أن يوجد الصاع في رحالنا . وكان في دين يعقوب استعباد السارق .

قال الزمخشري : سنة ، وكان في دين مصر أن يضرب ويضعف عليه الغرم ، ولذلك أجابوا على شريعتهم ، وجوزوا في إعراب هذا الكلام وجوه :

أحدها : أن يكون جزاؤه مبتدأ ، ومن شرطية أو موصولة مبتدأ ثان ، فهو جزاؤه جواب الشرط ، أو خبر ما الموصولة ، والجملة من قوله : من وجد إلى آخره خبر المبتدأ الأول ، والضمير في قالوا : جزاؤه للسارق قاله ابن عطية : وهذا لا يصح لخلو الجملة الواقعة خبر جزاؤه من رابط .

الثاني : أنّ المعنى قالوا : جزاء سرقته ، ويكون جزاؤه مبتدأ ، والجملة الشرطية كما هي خبره على إقامة الظاهر فيها مقام المضمر . والأصل جزاؤه من وجد في رحله ، فهو هو . فموضع الجزاؤ موضع هو ، كما تقول لصاحبك : من أخو زيد ؟ فتقول : أخوه من يقعد إلى جنبه ، فهو هو يرجع الضمير الأول إلى من ، والثاني إلى الأخ . ثم تقول : فهو أخوه مقيماً للمظهر مقام المضمر قاله الزمخشري . ووضع الظاهر موضع المضمر للربط إنما هو فصيح في مواضع التفخيم والتهويل ، وغير فصيح فيما سوى ذلك نحو : زيد قام زيد . وينزه القرآن عنه . قال سيبويه : لو قلت كان زيد منطلقاً زيد ، لم يكن ضد الكلام ، وكان ههنا ضعيفاً ، ولم يكن كقولك : ما زيد منطلقاً هو ، لأنك قد استغنيت عن إظهاره ، وإنما ينبغي لك أن تضمر .

الثالث : أن يكون جزاؤه خبر مبتدأ محذوف أي لنسؤل عنه جزاؤه ثم أفتوا بقولهم من وجد في رحله فهو جزاؤه كما تقول : من يستفتي في جزاء صيد الحرم جزاء صيد الحرم ، ثم تقول : { وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمّداً فَجَزَاء مّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ } قاله الزمخشري . وهو متكلف ، إذ تصير الجملة من قوله : المسؤول عنه جزائه ، على هذا التقدير ليس فيه كثير فائدة ، إذ قد علم من قوله : فما جزاؤه أنّ الشيء المسؤول عنه جزاء سرقته ، فأي فائدة في نطقهم بذلك ، وكذلك القول في المثال الذي مثل به من قول المستفتي .

الرابع : أن يكون جزاؤه مبتدأ أي : جزاء سرقة الصاع ، والخبر من وجد في رحله أي : أخذ من وجد في رحله . وقولهم :

فهو جزاؤه ، تقرير لحكم أي : فأخذ السارق نفسه هو جزاؤه لا غير كقولك : حق زيد أن يكسى ويطعم وينعم عليه فذلك جزاؤوه ، أو فهو حقه ، لتقرر ما ذكرته من استحقاقه قاله الزمخشري ، وقال معناه ابن عطية إلا أنه جعل القول الواحد قولين قال : ويصح أن يكون من خبراً على أنّ على أنّ المعنى جزاء السارق من وجد في رحله عائد على من ، ويكون قوله : فهو جزاؤه ، زيادة بيان وتأكيد . ثم قال : ويحتمل أن يكون التقدير جزاؤه استرقاق من وجد في رحله ، ثم يؤكد بقوله : فهو جزاؤه . وهذا القول هذا الذي قبله ، غير أنه أبرز المضاف المحذوف في قوله : استرقاق من وجد في رحله ، وفيما قبله لا بد من تقديره ، لأنّ الذات لا تكون خبراً عن المصدر ، فالتقدير في القول قبله جزائه أخذ من وجد في رحله ، أو استرقاق هذا لا بد منه على هذا الإعراب . وهذا الوجه هو أحسن الوجوه ، وأبعدها من التكلف . كذلك أي : مثل الجزاء ، وهو الاسترقاق . نجزي الظالمين أي بالسرقة وهو ديننا وسنتنافى أهل السرقة { فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ كَذالِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِى دِينِ } قيل : قال لهم : من وكل بهم لا بد من تفتيش أوعيتكم ، فانصرف بهم إلى يوسف ، فبدأ بتفتيش أوعيتهم قبل وعاء بنيامين لنفي التهمة ، وتمكين الحيلة ، وإبقاء ظهورها حتى بلغ وعاءه ، فقال : ما أظن هذا أخذ شيئاً فقالوا : واللّه ما تتركه حتى تنظر في رحله ، فإنه أطيب لنفسك وأنفسنا ، فاستخرجوه منه .

وقرأ الحسن من وعاء بضم الواو ، وجاء كذلك عن نافع .

وقرأ ابن جبير : من إعاء بإبدال الواو المكسورة همزة كما قالوا : إشاح وإسادة في وشاح ووسادة ، وذلك مطرد في لغة هذيل ، يبدلون من الواو المكسورة الواقعة أولاً همزة ، وأنث في قوله ثم استخرجها على معنى السقاية ، أو لكون الصواغ يذكر ويؤنث . وقال أبو عبيد : يؤنث الصواع من حيث سمى سقاية ، ويذكر من حيث هو صاع ، وكان أبا عبيد لم يحفظ تأنيث الصواع .

وقيل : الضمير في قوله : ثم استخرجها عائد على السرقة ، كذلك أي مثل ذلك الكيد العظيم كدنا ليوسف يعني : علمناه إياه ، وأوحينا به إليه . وقال الضحاك ، والسدي : كدنا صنعنا .

قال ابن عطية : وأضاف اللّه تعالى الكيد إلى ضميره ، لما أخرج القدر الذي أباح ليوسف أخذ أخيه مخرج ما هو في اعتياد الناس كيد . وفسر ابن عباس في دين الملك بسلطانه ، وفسره قتادة بالقضاء والحكم انتهى .

وقال الزمخشري : ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك تفسير للكيد وبيان له ، لأنه كان في دين ملك مصر ، وما كان يحكم به في السارق أن يغرم مثلي ما أخذ إلا أن يلزم ويستعبد ، إلا أن يشاء اللّه ، إلا بمشيئته وإذنه . و

قال ابن عطية : والاستثناء حكاية حال التقدير : إلا أن يشاء اللّه ما وقع من هذه الحيلة انتهى . والذي يظهر أنه استثناء منقطع أي : لكن بمشيئة اللّه أخذه في دين غير الملك ، وهو دين آل يعقوب : أنّ الاسترقاق جزاء السارق .

وقرأ الكوفيون ، وابن محيصن : نرفع بنون درجات منوناً من نشاء بالنون ، وباقي السبعة كذلك ، إلا أنهم أضافوا درجات .

وقرأ يعقوب بالياء في يرفع ، ويشاء أي : يرفع اللّه درجات من يشاء رفع درجاته .

وقرأ عيسى البصرة : نرفع بالنون درجات منوناً من يشاء بالياء . قال صاحب اللوامح : وهذه قراءة مرغوب عنها تلاوة وجملة ، وإن لم يمكن إنكارها . و

قال ابن عطية :

وقرأ الجمهور نرفع على ضمير المعظم وكذلك نشاء .

وقرأ الحسن وعيسى ويعقوب : بالياء أي : اللّه تعالى انتهى . ومعناه في العلم كما رفعنا درجة يوسف فيه . وعليم صفة مبالغة . وقوله : ذي علم أي : عالم . فالمعنى أن فوقه أرفع منه درجة في علمه ، وهذا معنى قول الحسن وقتادة وابن عباس . وعن أن العليم هو اللّه عز وجل . قيل : روى عنه أنه حدث بحديث عجيب ، فتعجب منه رجل ممن حضر فقال : الحمد للّه ، وفوق كل ذي علم عليم ، فقال له ابن عباس : بئس ما قلت ، إنما العليم اللّه ، وهو فوق كل ذي علم .

وقرأ عبد اللّه : وفوق كل ذي عالم ، فخرجت على زيادة ذي ، أو على أن قوله عالم مصدر بمعنى علم كالباطل ، أو على أن التقدير :

وفوق كل ذي شخص عالم .

روي أن أخوة يوسف عليه السلام لما رأوا إخراج الصواع من رحل أخيهم بنيامين قالوا : يا بنيامين ابن راحيل قبحك اللّه ، ولدت أمك أخوين لصين ، كيف سرقت هذه السقاية ؟ فرفع يديه إلى السماء وقال : واللّه ما فعلت ، فقالوا : فمن وضعها في رحلك ؟ قال : الذي وضع البضاعة في رحالكم .

وقال الزمخشري ما معناه : رموا بالسرقة تورية عما جرى مجرى السرقة من فعلهم بيوسف . وإن كنتم كاذبين ، فرض لانتفاء براءتهم ، وفرض التكذيب لا يكون تكذيباً على أنه لو صرح به كما صرح بالتسريق لكان له وجه ، لأنهم قالوا : { وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذّئْبُ } والكيد حكم الحيل الشرعية التي يتوصل بها إلى مصالح ومنافع دينية كقوله : وخذ بيدك ضغثاً فيتخلص من جلدها ولا يحنث . وقول إبراهيم عليه السلام : هي أختي لتسلم من يد الكافر . وعلم اللّه في هذه الحيلة التي لقنها ليوسف مصالح عظيمة ، فجعلهاسلماً وذريعة إليها ، فكانت حسننة جميلة انتهى . وقولهم : إنْ يسرق فقد سرق أخ له من قبل ، لا يدل على الجزم بأنه سرق ، بل أخرجوا ذلك مخرج الشرط أي : إن كان وقعت منه سرقة فهو يتأسى ممن سرق قبله ، فقد سرق أخ له من قبل . والتعليق على الشرط على أنّ السرقة في حق بنيامين وأخيه ليس مجزوماً بها ، كأنهم قالوا : إنْ كان هذا الذي رمى به بنيامين حقاً فالذي رمى به يوسف من قبل حق ، لكنه قوي الظن عندهم في حق يوسف بما ظهر لهم أنه جرى من بنيامين ، ولذلك قالوا : إن ابنك سرق .

وقيل : حققوا السرقة في جانب بنيامين وأخيه بحسب ظاهر الأمر ، فكأنهم قالوا : إن كان قد سرق فغير بدع من ابني راحيل ، لأن أخاه يوسف قد كان سرق ، فعلى هذا القول يكون قولهم أنحاء على يوسف وبنيامين .

وقيل : التقدير فقد قيل عن يوسف إنه سرق ، وقولهم هذا هو بحسب الظاهر والإخبار بأمر جرى لتزول المعرة عنهم ، وتختص بالشقيقين . وتنكير أخ في قوله : فقد سرق أخ له من قبل ، لأنّ الحاضرين لا علم لهم به وقالوا له : لأنه كان شقيقه . والجمهور على أن السرقة التي نسبت هي أن عمته ربته وشب ، وأراد يعقوب أخذه ، فأشفقت من فراقه فأخذت منطقة إسحاق ، وكانت متوارثة عندهم ، فنطقته بها من تحت ثيابه ثم صاحت وقالت : فقدت المنطقة ففتشت فوجدت عند يوسف ، فاسترقته حسبما كان في شرعهم وبقي عندها حتى ماتت ، فصار عند أبيه . وقال قتادة وابن جبير : أمرت أمه أن يسرق صنماً . وفي كتاب الزجاج : من ذهب لأبيها فسرقه وكسره ، وكان ذلك منها تغييراً للمنكر . وقال ابن إدريس عن أبيه : إنما أكل بنو يعقوب طعاماً ، فأخذ يوسف عرقاً فنحاه .

وقيل : كان في البيت غاق أو دجاجة ، فأعطاها السائل .

وقرأ أحمد بن جبير الأنطاكي ، وابن أبي شريح عن الكسائي ، والوليد بن حسان عن يعقوب وغيرهم : فقد سرق بالتشديد مبنياً للفعول بمعنى نسب إلى السرقة ، بمعنى جعل سارقاً ولم يكن كذلك حقيقة . والضمير في قوله : فأسرها يفسره سياق لاكلام أي : الحزازة التي حدثت في نفسه من قولهم كما فسره في قول حاتم : لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى

إذا حشرجت نفس وضاق بها الصدر .

وقيل : أسر المجازاة ،

وقيل : الحجة .

وقال الزمخشري : اختار على شريطة التفسير تفسيره أنتم شر مكاناً ، وإنما أنث لأن قوله : أنتم شر مكاناً جملة أو كلمة على تسميتهم الطائفة من الكلام كلمة ، كأنه قيل : فأسر الجملة أو الكلمة التي هي قوله .

وقرأ عبد اللّه ، وابن أبي عبلة : فأسره بضمير تذكير .

قال الزمخشري : يريد القول أو الكلام انتهى .

والظاهر من قوله : أنتم شر مكاناً ، خطابهم بهذا القول في الوجه ، فكأنه أسر كراهية مقالتهم ، ثم وبخهم بقوله : أنتم شر مكاناً ، وفيه إشارة إلى تكذيبهم وتقوية أنهم تركوا أن يشفعوا بأنفسهم ، وعدلوا إلى الشفاعة بأبيه الشيخ يعقوب عليه السلام . وقال قوم : لم يقل يوسف هذا الكلام لهم مواجهة ، إنما قاله في نفسه ، وهو تفسير قوله : الذي أسر في نفسه ، وهو قول الزمخشري المتقدم . ومعنى شر مكاناً أي منزلة في السرق ، لأنكم سارقون بالصحة لسرقتكم أخاكم من أبيكم . ومعنى أعلم بما تصفون يعني : هو أعلم بما تصفون منكم ، لأنه عالم بحقائق الأمور ، وكيف كانت سرقة أخيه التي أحلتم سرقته عليه . وروي أن روبيل غضب ووقف شعره حتى خرج من ثيابه ، فأمر يوسف ابناً له يمسه فسكن غضبه فقال روبيل : لقد مسني أحد من ولد يعقوب ، ثم أنهم تشاوروا في محاربة يوسف وكانوا أهل قوة لا يدانون في ذلك ، فلما أحس يوسف بذلك قام إلى روبيل فلببه وصرعه ، فرأوا من قوته ما استعظموه وعند ذلك .

٧٨

انظر تسفير الآية:٧٩

٧٩

{قَالُواْ يأَبَانَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ قَالَ مَعَاذَ اللّه أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّا إِذًا لَّظَالِمُونَ } : استعطفوا يوسف إذ كان قد أخذ عليهم الميثاق . ومعنى كبيراً في السن ، أو القدر . وكانوا قد أعلموا يوسف بأنه كان له ابن قد هلك ، وهذا شقيقه يستأنس به ، وخاطبوه بالعزيز إذ كان في تلك الخطة بعزل قطفير ، أو موته على ما سبق . ومعنى مكانه أي : بدله على جهة الاسترهان أو الاستعباد ، قاله الزمخشري . و

قال ابن عطية : يحتمل قولهم أن يكون مجازاً ، وهم يعلمون أنه لا يصح أخذ حرّ بسارق بدل من قد أحكمت السنة رقة ، وإنما هذا كمن يقول لمن يكره فعله : اقتلني ولا تفعل كذا وكذا ، وأنت لا تريد أن يقتلك ولكنك تبالغ في استنزاله ، وعلى هذا يتجه قول يوسف : معاذ اللّه لأنه تعود من غير جائز . ويحتمل أن يكون قولهم حقيقة ، وبعيد عليهم وهم أنبياء أن يريدوا استرقاق حر ، فلم يبق إلا أن يريدوا بذلك طريق الجمالة ، أي : خذ أحدنا حتى ينصرف إليك صاحبك . ومقصدهم بذلك أن يصل بنيامين إلى أبيه ويعرف يعقوب جلية الأمر . وقوله : من المحسنين ، وصفوه بما شاهدوه من إحسانه لهم ولغيرهم ، أو من المحسنين إلينا في هذه اليد إنْ أسديتها إلينا ، وهذا تأويل ابن إسحاق ومعاذ اللّه تقدم الكلام فيه في قوله : معاذ اللّه إنه ربي ، والمعنى : وجب على قضية فتواكم أخذ من وجد الصواع في رحله واستعباده . فلو أخذنا غيره كان ذلك ظلماً في مذهبكم ، فلم تطلبون ما عرفتم أنه ظلم ، وباطنه أن اللّه أمرني وأوحى إلي بأخذ بنيامين واحتباسه لمصلحة ، أو مصالح جمة علمها في ذلك . فلو أخذت غير من أمرني بأخذه كنت ظالماً وعاملاً على خلاف الوحي . وأن نأخذ تقديره : من أن نأخذ ، وإذا جواب وجزاء أي : إن أخذنا بدله ظلمنا . وروي أنه قال لما أيأسهم من حمله معهم : إذا أتيتم أباكم فاقرؤوا عليه السلام وقولوا له : إن ملك مصر يدعو لك أن لا تموت حتى ترى ولدك يوسف ، ليعلم أنّ في أرض مصر صديقين مثله .

٨٠

انظر تسفير الآية:٨٣

٨١

انظر تسفير الآية:٨٣

٨٢

انظر تسفير الآية:٨٣

٨٣

{فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُواْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقًا مّنَ اللّه وَمِن قَبْلُ } : استفعل هنا بمعنى المجرد ، يئس واستيأس بمعنى واحد نحو : سخر واستسخر ، وعجب واستعجب . وزعم الزمخشري أن زيادة السين والتاء في المبالغة قال : نحو ما مر في استعصم انتهى .

وقرأ ابن كثير : استيأسوا استفعلوا ، من أيس مقلوباً من يئس ، ودليل القلب كون ياء أيس لم تنقلب ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها . ومعنى خلصوا نجياً : انفردوا من غيرهم يناجي بعضهم بعضاً . والنجي فعيل بمعنى مفاعل ، كالخليط والعشير . ومعنى المصدر الذي هو التناجي كما قيل : النجوى بمعنى التناجي ، وهو لفظ يوصف به من له نجوى واحداً كان أو جماعة ، مؤنثاً أو مذكراً ، فهو كعدل ، ويجمع على أنجية قال لبيد :

وشهدت أنجية الأفاقة عاليا

كعبي وأرداف الملوك شهود

وقال آخر :

إني إذا ما القوم كانوا أنجيه

ويقول قوم : نجى وهم نجوى تنزيلاً للمصدر منزلة الأوصاف . ويجوز أن يكون هم نجى من باب هم صديق ، لأنه بزنة المصادر محصواً للتناجي ، ينظرون ماذا يقولون لأبيهم في شأن أخيهم لهذا الذي دهمهم من الخطب فيه ، فاحتاجوا إلى التشاور . وكبيرهم أي : رأياً وتدبيراً وعلماً ، وهو شمعون قاله : مجاهد . أو كبيرهم في السن وهو روبيل قاله : قتادة .

وقيل : في العقل والرأي ، وهو يهوذا . ذكرهم الميثاق في قول يعقوب : لتأتنني به إلا أن يحاط بكم ، وما زائدة أي : ومن قبل هذا فرطتم في يوسف . ومن قبل متعلق بفرطتم ، وقد جوزوا في إعرابه وجوهاً :

أحدها : أن تكون ما مصدرية أي : ومن قبل تفريطكم .

قال الزمخشري : على أن محل المصدر الرفع على الابتداء ، وخبره الظرف ، وهو ومن قبل ومعناه : ووقع من قبل تفريطكم في يوسف . و

قال ابن عطية : ولا يجوز أن يكون قوله : من قبل ، متعلقاً بما فرطتم ، وإنما تكون على هذا مصدرية ، التقدير : من قبل تفريطكم في يوسف واقع ومستقر . وبهذا القدر يتعلق قوله من قبل انتهى . وهذا وقول الزمخشري راجع إلى معنى واحد وهو : إن ما فرطتم يقدر بمصدر مرفوع بالابتداء ، ومن قبل في موضع الخبر ، وذهلاً عن قاعدة عربية ، وحق لهما أن يذهلا وهو أنّ هذه الظروف التي هي غايات إذا ثببتت لا تقع أخباراً للمبتدأ جرت أو لم تجر ، تقول : يوم السبت مبارك والسفر بعده ، ولا يجوز والسفر بعد وعمر وزيد خلفه . ولا يقال : عمر وزيد خلف . وعلى ما ذكراه يكون تفريطكم مبتدأ ، ومن قبل خبر ، وهو مبني ، وذلك لا يجوز وهذا مقرر في علم العربية . ولهذا ذهب أبو علي إلى أنّ المصدر مرفوع بالابتداء ، وفي يوسف هو الخبر أي : كائن أو مستقر في يوسف . والظاهر أنّ في يوسف معمول لقوله : فرطتم ، لا أنه في موضع خبر . وأجاز الزمخشري وابن عطية : أن تكون ما مصدرية ، والمصدر المسبوك في موضع نصب ، والتقدير : ألم تعلموا أخذ أبيكم عليكم موثقاً من قبل وتفريطكم في يوسف . وقدره الزمخشري : وتفريطكم من قبل في يوسف ، وهذا الذي ذهبا إليه ليس بجيد ، لأكن فيه الفصل بالجار والمجرور بين حرف العطف الذي هو على حرف واحد ، وبين المعطوف ، فصار نظير : ضربت زيداً وبسيف عمراً . وقد زعم أبو علي الفارسي أنه لا يجوز ذلك إلا في ضرورة الشعر .

وأما تقدير الزمخشري : وتفريطكم من قبل في يوسف ، فلا يجوز لأن فيه تقديم معمول المصدر المنحل لحرف مصدري والفعل عليه ، وهو لا يجوز . وأجاز أيضاً أن تكون موصولة بمعنى الذي .

قال الزمخشري : ومحله الرفع أو النصب على الوجهين انتهى . يعني بالرفع أن يرتفع على الابتداء ومن قبل الخبر ، وقد ذكرنا أن ذلك لا يجوز . ويعني بالنصب أن يكون عطفاً على المصدر . المنسبك من قوله : إن أباكم قد أخذ ، وفيه الفصل بين حرف العطف الذي هو الواو ، وبين المعطوف . وأحسن هذه الأوجه ما بدأنا به من كون ما زائدة ، وبرح التامة تكون بمعنى ذهب وبمعنى ظهر ، ومنه برح الخفاء أي ظهر . وذهب لا ينتصب الظرف المكاني المختص بها ، إنما يصل إليه بوساطة في فاحتيج إلى اعتقاد تضمين برح بمعنى فارق ، فانتصب الأرض على أنه مفعول به . ولا يجوز أن تكون ناقصة لأنه لا ينعقد من اسمها ، والأرض المنصوب على الظرف مبتدأ وخبر ، لأنه لا يصل إلا بحرف في . لو

قلت : زيد الأرض لم يجز ، وعني بالأرض

أرض مصر التي فيها الواقعة ، ثم غيا ذلك بغايتين : إحداهما : خاصة وهي قوله : حتى يأذن لي أبي ، يعني في الانصراف إليه . والثانية : عامة وهي قوله : أو يحكم اللّه لي ، لأنّ إذن اللّه له هو من حكم اللّه له في مفارقة أرض مصر ، وكأنه لما علق الأمر بالغاية الخاصة رجع إلى نفسه فأتى بغاية عامة تفويضاً لحكم اللّه تعالى ، ورجوعاً لي من له الحكم حقيقة ، ومقصوده التضييق على نفسه ، كأنه سجنها في القطر الذي أداه إلى سخط أبيه إبلاء لعذره . وحكم اللّه تعالى له بجميع أنواع العذر كالموت ، وخلاص أخيه ، أو انتصافه من أخذ أخيه . وقال أبو صالح : أو يحكم اللّه لي بالسيف ، أو غير ذلك . والظاهر أن ويحكم معطوف على يأذن . وجوز أن يكون منصوباً بإضمار أن بعد أو في جواب النفي ، وهو : فلن أبرح الأرض أي : إلا أن يحكم اللّه لي ، كقولك : لألزمنك أو تقضيني حقي ، أي : إلا أن تقضيني ، ومعناها ومعنى الغاية متقاربان .

روي أنهم لما وصلوا إلى يعقوب أخبروه بالقصة فبكى وقال : يا بني ما تذهبون عني مرة إلا نقصتم ، ذهبتم فنقصت مشمعون حيث ارتهن ، ثم ذهبتم فنقصتم بنيامين وروبيل . والظاهر أنّ الأمر بالرجوع هو من قول كبيرهم .

وقيل : من قول يوسف لهم .

وقرأ الجمهور : سرق ثلاثياً مبنياً للفاعل ، إخباراً بظاهر الحال .

وقرأ ابن عباس ، وأبو رزين ، والكسائي في رواية سرق بتشديد الراء مبنياً للمفعول ، لم يقطعوا عليه بالسرقة بل ذكروا أنه نسب إلى السرقة . ويكون معنى : وما شهدنا إلا بما علمنا من التسريق . وما كنا للغيب أي : للأمر الخفي حافظين ، أسرق بالصحة أم دس الصاع في رحله ولم يشعر ؟

وقرأ الضحاك : سارق اسم فاعل ، وعلى قراءة سرق وسارق اختلف التأويل في قوله : إلا بما علمنا .

قال الزمخشري : بما علمنا من سرقته ، وتيقناً لأنّ الصواع أخرج من وعائه ، ولا شيء أبين من هذا . و

قال ابن عطية : أي ، وقولنا لك إن ابنك سرق إنما هي شهادة عندك بما علمناه من ظاهر ما جرى ، والعلم في الغيب إلى اللّه تعالى ليس ذلك في حفظنا ، هذا قول ابن إسحاق : وقال ابن زيد : أرادوا وما شهدنا به عند يوسف أن السارق يسترق في شرعك ، إلا بما علمنا من ذلك ، وما كنا للغيب حافظين أنّ السرقة تخرج من رحل أحدنا ، بل حسبنا أن ذلك لا يكون البتة ، فشهدنا عنده حين سألنا بعلمنا . ويحتمل قوله : وما كنا للغيب حافظين أي : حين واثقناك ، إنما قصدنا أن لا يقع منا نحن في جهته شيء يكرهه ، ولم نعلم الغيب في أنه سيأتي هو بما يوجب رقه .

وقال الزمخشري : وما كنا للغيب حافظين ، وما علمنا أنه يسترق حين أعطيناك الموثق ، أو ربما علمنا أنك تصاب كما أصبت بيوسف . ومن غريب التفسير أن المعنى قولهم : للغيب ، لليل والغيب الليل بلغة حمير ، وكأنهم قالوا : وما شهدنا إلا بما علمنا من ظاهر حاله ، وما كنا بالليل حافظين لما يقع من سرقته هو ، أو التدليس عليه . وفي الكلام حذف تقديره : رجعوا إلى أبيهم وأخبر بالقصة . وقول من قال : ارجعوا ثم استشهدوا بأهل القرية التي كانوا فيها وهي مصر قاله : ابن عباس أي : أرسل إلى القرية واسأل عن كنه القصة . والعير كانوا قوماً من كنعان من جران يعقوب .

وقيل : من أهل صنعاء . فالظاهر أن ذلك على إضمار أهل كأنه قيل : وسل أهل القرية وأهل العير ، إلا أن أريد بالعير القافلة ، فلا إضمار في قوله والعير . وأحالوا في توضيح القصة على ناس حاضرين الحال فيشهدون بما سمعوا ، وعلى ناس غيب يرسل إليهم فيسألون . وقالت فرقة : بل أحالوه على سؤال الجمادات والبهائم حقيقة ، ومن حيث هو نبي ، ولا يبعد أن يخبره بالحقيقة ، وحذف المضاف هو قول الجمهور .

قال ابن عطية : وهذا مجاز .

وحكى أبو المعالي عن بعض المتكلمين أنه قال : هذا من الحذف وليس من المجاز قال : وإنما المجاز لفظة استعيرت لغير ما هي له قال : وحذف المضاف هو عين المجاز ، وعظمة هذا مذهب سيبويه وغيره .

وحكى أنه قول الجمهور أو نحو هذا انتهى . وفي المحصول لأبي عبد اللّه محمد الرازي ، وفي مختصر أنه إن الإضمار والمجاز متباينان ليس أحدهما قسماً من الآخر . وبل للإضراب ، فيقتضي كلاماً محذوفاً قبلها حتى يصح الإضراب فيها وتقديره : ليس الأمر حقيقة كما أخبرتم ، بل سولت .

قال ابن عطية : والظاهر أنّ قوله بل سولت لكم أنفسكم أمراً ، إنما هو ظن سوء بهم كما كان في قصة يوسف

قبل ، فاتفق أنّ صدق ظنه هناك ، ولم يتحقق هنا .

وقال الزمخشري : بل سولت لكم أنفسكم أمراً أردتموه ، وإلا فما أدري ذلك الرجل أنّ السارق يؤخذ بسرقته لولا فتواكم وتعليمكم . وتقدم شرح سولت ، وإعراب فصبر جميل . ثم ترجى أن اللّه يجمعهم عليه وهم : يوسف ، وبنيامين ، وكبيرهم على الخلاف الذي فيه . وترجى يعقوب للرؤيا التي رآها يوسف ، فكان ينتظرها ويحسن ظنه باللّه في كل حال . ولما أخبر به عن ملك مصر أنه يدعو له برؤية ابنه ، ووصفه اللّه بهاتين الصفتين لأئق بما يؤخره تعالى من لقاء بنيه ، وتسليم لحكمة اللّه فيما جرى عليه .

٨٤

انظر تسفير الآية:٨٧

٨٥

انظر تسفير الآية:٨٧

٨٦

انظر تسفير الآية:٨٧

٨٧

{وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ ياأَسَفَا وَقَالَ ياأَسَفَا عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ ... } : وتولى عنهم أي أعرض عنهم كراهة لما جاؤوا به ، وأنه ساء ظنه بهم ، ولم يصدق قولهم ، وجعل يتفجع ويتأسف . قال الحسن : خصت هذه الأمة بالاسترجاع . ألا ترى إلى قول يعقوب : يا أسفي ، ونادى الأسف على سبيل المجاز على معنى : هذا زمانك فاحضر . والظاهر أنه يضاف إلى ياء المتكلم قلبت ألفاً ، كما قالوا : في يا غلامي يا غلاماً .

وقيل : هو على الندبة ، وحذف الهاء التي للسكت .

قال الزمخشري : والتجانس بين لفظتي الأسف ويوسف مما يقع مطبوعاً غير مستعمل فيملح ويبدع ، ونحوه : اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم ، وهم ينهون عنه وينأون عنه يحسبون أنهم يحسنون صنعاً من سبأ بنبأ انتهى . ويسمى هذا تجنيس التصريف ، وهو أن تنفرد كل كلمة من الكلمتين عن الأخرى بحرف . وذكر يعقوب ما دهاه من أمر بنيامين ، والقائل لن أبرح الأرض فقدانه يوسف ، فتأسف عليه وحده ، ولم يتأسف عليهما ، لأنه هو الذي لا يعلم أحيّ هو أم ميت ؟ بخلاف أخوته . ولأنه كان أصل الرزايا عنده ، إذ ترتبت عليه ، وكان أحب أولاده إليه ، وكان دائماً يذكره ولا ينساه . وابيضاض عينيه من توالي العبرة ، فينقلب سواد العين إلى بياض كدر . والظاهر أنه كان عمي لقوله : فارتد بصيراً . وقال :{ وَمَا يَسْتَوِى الاْعْمَى وَالْبَصِيرُ } فقابل البصير بالأعمى .

وقيل : كان يدرك ادراكاً ضعيفاً ، وعلل الابيضاض بالحزن ، وإنما هو من البكاء المتوالي ، وهو ثمرة الحزن ، فعلل بالأصل الذي نشأ منه البكاء وهو الحزن .

وقرأ ابن عباس ومجاهد : من الحزن بفتح الحاء والزاي ، وقتادة : بضمها ، والجمهور : بضم الحاء وإسكان الزاي . والكظيم إما للمبالغة وهو الظاهر اللائق بحال يعقوب أي : شديد الكظم كما قال :{ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ } ولم يشك يعقوب إلى أحد ، وإنما كان يكتمه في نفسه ، ويمسك همه في صدره ، فكان يكظمه أي : يرده إلى قلبه ولا يرسله بالشكوى والغضب والضجر .

وإما أن يكون فعيلاً بمعنى مفعول ، وهو لا ينقاس ، وقاله قوم كما قال في يونس :{ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ}

قال ابن عطية : وإنما يتجه على تقدير أنه مليء بحزنه ، فكأنه كظم حزنه في صدره . وفسر ناس الكظيم بالمكروب وبالمكمود . وروي : أنه ما جفت عيناه من فراق يوسف إلى

لقائه ثمانين عاماً ، وأنّ وجده عليه وجد سبعين ثكلى ، وأجره أجر مائة شهيد .

وقال الزمخشري : فهو كظيم ، فهو مملوء من الغيظ على أولاده ، ولا يظهر ما يسوؤهم انتهى . وقد ذكرنا أنّ فعيلاً بمعنى مفعول لا ينقاس ، وجواب القسم تفتؤ حذفت منه ، لا لأنّ حذفها جائز ، والمعنى : لا تزال . وقال مجاهد : لا تفتر من حبه ، كأنه جعل الفتوء والفتور أخوين ، والحرض الذي قدرنا موته . قال مجاهد : ما دون الموت . وقال قتادة : البالي الهرم ، وقال نحوه : الضحاك والحسن . وقال ابن إسحاق : الفاسد الذي لا عقل له . وكأنهم قالوا له ذلك على جهة تفنيد الرأي أي : لا تزال تذكر يوسف إلى حال القرب من الهلاك ، أو إلى أنْ تهلك فقال هو : إنما أشكو بثي وحزني إلى اللّه أي : لا أشكو إلى أحد منكم ، ولا غيركم . وقال أبو عبيدة وغيره : البث أشدّ الحزن ، سمي بذلك لأنه من صعوبته لا يطيق حمله ، فيبثه أي ينشره .

وقرأ الحسن وعيسى : وحزني بفتحتين .

وقرأ قتادة : بضمتين . وأعلم من اللّه ما لا تعلمون أي : أعلم من صنعه ورحمته وحسن ظني به أنه يأتي بالفرج من حيث لا أحتسب ، قاله الزمخشري . و

قال ابن عطية : ويحتمل أنه أشار إلى الرؤيا المنتظرة ، أو إلى ما وقع في نفسه منن قول ملك مصر إني أدعو له برؤيته ابنه قبل الموت .

وقيل : رأى ملك الموت في منامه فسأله : هل قبضت روح يوسف ؟ فقال : لا ، هو حي فاطلبه . اذهبوا : أمر بالذهاب إلى الأرض التي جاؤوا منها وتركوا بها أخويهم بنيامين والمقيم بها ، وأمرهم بالتحسس وهو الاستقصاء ، والطلب بالحواس ، ويستعمل في الخير والشر . وقرىء : بالجيم ، كالذي في الحجرات : { وَلاَ تَجَسَّسُواْ } والمعنى : فتحسسوا نبأ من أمر يوسف وأخيه ، وإنما خصهما لأن الذي أقام وقال : فلن أبرح الأرض ، إنما أقام مختاراً .

وقرأ الجمهور : تيأسوا ، وفرقة : تأيسوا .

وقرأ الأعرج : تئسوا بكسر التاء . وروح اللّه رحمته ، وفرجه ، وتنفيسه .

وقرأ عمر بن عبد العزيز ، والحسن ، وقتادة : من روح اللّه بضم الراء .

قال ابن عطية : وكان معنى هذه القراءة لا تيأسوا من حي معه روح اللّه الذي وهبه ، فإنّ من بقي روحه يرجى . ومن هذا قول الشاعر :

وفي غير من قدورات الأرض فاطمع

ومن هذا قول عبيد بن الأبرص : وكل ذي غيبة يؤوب

وغائب الموت لا يؤوب

وقال الزمخشري : من روح اللّه بالضم أي من رحمته التي تحيا بها العباد انتهى .

وقرأ أبيّ من رحمة اللّه من صفات الكافر ، إذ فيه التكذيب بالربوبية ، أو الجهل بصفات اللّه .

٨٨

انظر تسفير الآية:٨٩

٨٩

فلما دخلوا عليه . . . . .

المزجاة : المدفوعة يدفعها كل تاجر رغبة عنها واحتقاراً من أزجيته إذا دفعته وطردته ، والريح تزجي السحاب . وقال حاتم الطائي : لبيك على ملحان ضيف مدفع

وأرملة تزجي مع الليل أرملا

الإيثار : لفظ يعم جميع التفضل وأنواع العطايا . التثريب : التأنيب والعتب ، وعبر بعضهم عنه بالتعبير . ومنه { إِذَا وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مّنْهُمْ ياأَهْلَ . يَثْرِبَ } أي لا يعبر . وأصله من الثرب وهو الشحم الذي هو غائشة الكرش ، ومعناه : إزالة الثرب ، كما أن التجليد والتقريع إزالة الجلد والقرع ، لأنه إذا ذهب كان ذلك غاية الهزال ، فضرب مثلاً للتقريع الذي يمزق الأعراض ، ويذهب بهاء الوجه . الفند : الفساد ، قال : ألا سليمان إذ قال الإله له

قم في البرية فاحددها عن الفندوفندت الرجل أفسدت رأيه ورددته قال :

يا عاذليّ دعا لومي وتفيدي فليس ما قلت من أمر بمردود

وأفند الدهر فلاناً أفسده . قال ابن مقبل :

دع الدهر يفعل ما أراد فإنه

إذا كلف الإفناد بالناس أفندا القديم : الذي مرت عليه إعصار ، وهو أمر نسبي . البدو البادية وهي خلاف الحاضرة .

{فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ ياأَيُّهَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللّه يَجْزِى الْمُتَصَدّقِينَ قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ } : في الكلام حذف تقديره : فذهبوا من الشام إلى مصر ودخلوها ، فلما دخلوا عليه ، والضمير في عليه عائد على يوسف ، وكان آكد ما حدثوه فيه شكوى ما أصابهم من الجهد قبل ما وصاهم به من تحسس نبأ يوسف وأخيه . والضر : الهزال من الشدة والجوع ، والبضاعة كانت زيوفاً قاله ابن عباس . وقال الحسن : قليلة . وقال ابن جبير : ناقصة .

وقيل : كانت عروضاً . قيل : كانت ضوفاً وسمناً .

وقيل : صنوبراً وحبة الخضراء وهي الفستق قاله : أبو صالح ، وزيد بن أسلم ،

وقيل : سويق المقل والأقط ،

وقيل : قديد وحش .

وقيل : حبالاً وإعدالاً وهقتاباً ، ثم التمسوا منه إيفاء الكيل . وقد استدل بهذا على أن الكيل على البائع ولا دليل فيه . وتصدق علينا أي : بالمسامحة والإغماض عن رداءة البضاعة ، أو زدنا على حقنا ، فسموا ما هو فضل وزيادة لا تلزمه صدقة . قيل : لأن الصدقات محرمة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام .

وقيل : كانت تحل لغير نبينا صلى اللّه عليه وسلم. وسئل ابن عيينة عن ذلك فقال : ألم تسمع وتصدق علينا ، أراد أنها كانت حلالاً لهم .

وقال الزمخشري : والظاهر أنهم تمسكنوا له وطلبوا أن يتصدق عليهم ، ومن ثم رق لهم وملكته الرحمة عليهم ، فلم يتمالك أن عرفهم نفسه . وقوله إنّ اللّه يجزي المتصدقين شاهد ، لذلك لذكر اللّه وجزائه انتهى .

وقيل : كانت الصدقة محرمة ، ولكن قالوها تجوز استعطافاً منهم له في المبايعة كما تقول لمن ساومته في سلعة : هبني من ثمنها كذا ، فلم يقصد أن يهبك ، وإنما حسنت معه الأفعال حتى يرجع منك إلى سومك . وقال ابن جريج : إنما خصوا بقولهم : وتصدق علينا أمر أخيهم بنيامين أي : أوف لنا الكيل في المبايعة ، وتصدق علينا برد أخينا على أبيه . وقال النقاش في قوله : إن اللّه يجزي المتصدقين ، هي من المعاريض التي هي مندوحة عن الكذب ، وذلك أنهم كانوا يعتقدونه ملكاً كافراً على غير دينهم . ولو قالوا : إن اللّه يجزيك بصدقتك في الآخرة كذبوا ، فقالوا له لفظاً يوهم أنهم أرادوه ، وهم يصح لهم إخراجه منه بالتأويل . وروي أنهم لما قالوا له : مسناً وأهلنا الضر واستعطفوه ، رق لهم ورحمهم . قال ابن إسحاق : وارفض دمعه باكياً ، فشرع في كشف أمره إليهم . فيروي أنه حسر قناعة وقال لهم : هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه أي : من التفريق بينهما في الصغر ، وإذاية بنيامين بعد مغيب يوسف ؟ وكانوا يذلونه ويشتمونه .

قال ابن عطية : ونسبهم إما إلى جهل المعصية ،

وإما إلى جهل السيآت وقلة الحنكة .

وقال الزمخشري : أتاهم من جهة الدين وكان حليماً موفقاً ، فكلمهم مستفهماً عن معرفة وجه القبح الذي يجب أن يراعيه التائب فقال : هل علمتم قبح ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون لا تعلمون قبحه ، فلذلك أقدمتم عليه يعني : هل علمتم قبحه فتبتم إلى اللّه منه ؟ لأنّ علم القبح يدعو إلى الاستقباح ، والاستقباح يجر التوبة ، فكان كلامه شفقة عليهم وتنصحاً لهم في الدين ، وإيثاراً لحق اللّه على حق نفسه في ذلك المقام الذي يتنفس فيه المكروب وينفث المصدور ويشتفي المغيظ المحنق ويدرك ثأره الموتور ، فللّه أخلاق الأنبياء ما أوطاها وأسمحها ، وللّه حصى عقولهم ما أرزنها وأرجحها انتهى

وقيل : لم يرد نفي العلم عنهم لأنهم كانوا علماء ، ولكنهم لما فعلوا ما لا يقتضيه العلم ، وتقدم عليه إلا جاهل سماهم جاهلين . وفي التحرير ما لخص منه وهو أن قول الجمهور : هل علمتم استفهام معناه التقريع

والتوبيخ ، ومراده تعظيم الواقعة أي : ما أعظم ما ارتكبتم من يوسف . كما يقال : هل تدري من عصيت ؟

وقيل : هل بمعنى قد ، لأنهم كانوا عالمين ، وفعلتم بيوسف إفراده من أبيهم ، وقولهم : بأن الذئب أكله ، وإلقاؤه في الجب وبيعه بثمن بخس إن كانوا هم الذين باعوه ، وقولهم : إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل ، والذي فعلوا بأخيه أذاهم له وجفاؤهم له ، واتهامه بسرقة الصاع ، وتصريحهم بأنه سرق ، ولم يذكر لهم ما إذ واجه أباهم تعظيماً لقدره وتفخيماً لشأنه أن يذكره مع نفسه وأخيه . قال ابن عباس ، والحسن : جاهلون صبيان . وقال مقاتل : مذنبون .

وقيل : جاهلون بما يجب من بر الأب ، وصلة الرحم ، وترك الهوى .

وقيل : جاهلون بما يؤول إليه أمر يوسف .

وقيل : جاهلون بالفكر في العاقبة ، وعدم النظر إلى المصلحة .

وقال المفسرون : وغرض يوسف توبيخ أخوته وتأنيبهم على ما فعلوا في حق أبيهم وفي حق أخويهم ، قال : والصحيح أنه قال ذلك تأنيساً لقلوبهم ، وبسط عذر كأنه قال : إنما أقدمكم على ذلك الفعل القبيح جهالة الصبا أو الغرور ، وكأنه لقنهم الحجة كقوله : { مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الْكَرِيمِ } وما حكاه ابن الهيصم في قصة من أنه صلبهم ، والثعلبي في حكايته أنه غضب عليهم فأمر بقتلهم فبكوا وجزعوا ، فرق لهم وقال : هل علمتم الآية : لا يصح البتة ، وكان يوسف من أرق خلق اللّه وأشفقهم على الأجانب ، فكيف مع إخوته ولما اعترفوا بالخطأ قال : لا تثريب عليكم الآية .

٩٠

انظر تسفير الآية:٩٣

٩١

انظر تسفير الآية:٩٣

٩٢

انظر تسفير الآية:٩٣

٩٣

{قَالُواْ أَءنَّكَ لاَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَاذَا أَخِى قَدْ مَنَّ اللّه عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّه لاَ يُضِيعُ } : لما خاطبهم بقوله : هل علمتم ؟ أدركوا أنه لا يستفهم ملك لم ينشأ عندهم ، ولا تتبع أحوالهم ، وليس منهم فيما يظهر إلا وعنده علم بحالهم فيقال : إنه كان يكلمهم من وراء حجاب ، فرفعه ووضع التاج وتبسم ، وكان يضيء ما حوله من نور تبسمه أو رأوا لمعة بيضاء كالشامة في فرقه حين وضع التاج وكان مثلها لأبيه وجده وسارة ، فتوسموا أنه يوسف ، واستفهموه استفهام استخبار .

وقيل : استفهام تقرير ، لأنهم كانوا عرفوه بتلك العلامات التي سبق ذكرها .

وقال الزمخشري: { فإن قلت } : كيف عرفوه ؟ { قلت} : رأوا في روائه وشمائله حين كلمهم بذلك ما شعروا به أنه هو ، مع علمهم بأن ما خاطبهم به لا يصدر إلا عن حنيف مسلم من نسل إبراهيم عليه السلام ، لا عن بعض أعزاء مصر .

وقرأ الجمهور : أئنك على الاستفهام ، والخلاف في تحقيق الهمزتين ، أو تليين الثانية وإدخال ألف في التلين ، أو التحقيق مذكور في القراءات السبع .

وقرأ قتادة ، وابن محيصن ، وابن كثير : إنك بغير همزة استفهام ، والظاهر أنها مرادة . ويبعد حمله على الخبر المحض ، وقد قاله بعضهم لتعارض الاستفهام والخبر إن اتحد القائلون في القول وهو الظاهر ، فإن قدر أنّ بعضاً استفهم وبعضاً أخبر ، ونسب في كل من القراءتين إلى المجموع قول بعضهم : أمكن ، وهو مع ذلك بعيد .

وقرأ أبي : أئنك أو أنت يوسف . وخرجه ابن جني على حذف خبر إن وقدره : أئنك لأنت يوسف ، أو أنت يوسف . وقدره الزمخشري : أئنك يوسف ، أو أنت يوسف ، فحذف الأول لدلالة الثاني عليه قال : وهذا كلام مستعجب مستغرب لما يسمع ، فهو يكرر الاتسثبات انتهى .

وحكى أبو عمرو الداني في قراءة أبي بن كعب قالوا : أو أنت يوسف ؟ وفي قراءة الجمهور : أئنك لأنت ، يجوز أن تكون اللام دخلت على أنت ، وهو فصل : وخبر إنّ يوسف كما تقول : إنْ كان زيد لهو الفاضل . ويجوز أن تكون دخلت على أنت وهو مبتدأ ، ويوسف خبره ، والجملة في موضع خبر إن ، ولا يجوز أن يكون أنت توكيداً للضمير الذي هو اسم إن لحيلولة اللام بينهما . ولما استفهموه أجابهم فقال : أنا يوسف كاشفاً لهم أمره ، وزادهم في الجواب قوله : وهذا أخي ، لأنه سبق قوله : هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه ؟ وكان في ذكر أخيه بيان لما سألوا عنه ، وإن كان معلوماً عندهم وتوطئه لما ذكر بعد من هو بالتقوى والصبر ، والأحسن أن لا تخص التقوى بحالة ولا الصبر .

وقال مجاهد : من يتقي في تركه المعصية ويصبر في السجن . وقال النخعي : من يتقي الزنا ويصبر على العزوبة .

وقيل : ومن يتق اللّه ويصبر على المصائب .

وقال الزمخشري : من يتق ، من يخف اللّه . وعقابه ويصبر عن المعاصي ، وعلى الطاعات .

وقيل : من يتقي معاصي اللّه ، ويصبر على أذى الناس ، وهذه كلها تخصيصات بحسب حالة يوسف ونوازله .

وقرأ قنبل : من يتقي ، فقيل : هو مجزوم بحذف الياء التي هي لام الكلمة ، وهذه الياء إشباع .

وقيل : جزمه بحذف الحركة على لغة من يقول : لم يرمي زيد ، وقد حكوا ذلك لغة .

وقيل : هو مرفوع ، ومن موصول بمعنى الذي ، وعطف عليه مجزوم وهو : ويصبر ، وذلك على التوهم . كأنه توهم أن من شرطية ، ويتقي مجزوم .

وقيل : ويصبر مرفوع عطفاً على مرفوع ، وسكنت الراء لا للجزم ، بل لتوالي الحركات ، وإن كان ذلك من كلمتين ، كما سكنت في يأمركم ، ويشعركم ، وبعولتهن ، أو مسكناً للوقف ، وأجرى الوصل مجرى الوقف . والأحسن من هذه الأقوال أن يكون يتقي مجزوماً على لغة ، وإن كانت قليلة ، ولا يرجع إلى قول أبي علي قال : وهذا مما لا يحمل عليه ، لأنه إنما يجيء في الشعر لا في الكلام ، لأن غيره من رؤساء النحويين قد نقلوا أنه لغة .

والمحسنين : عام يندرج فيه من تقدم ، أو وضع موضع الضمير لاشتماله على المتقين والصابرين كأنه قيل : لا يضيع أجرهم . وآثرك : فضلك بالملك ، أو بالصبر ، والعلم قالهما ابن عباس ، أو بالحلم والصفح ذكره أبو سليمان الدمشقي ، أو بحسن الخلق والخلق ، والعلم ، والحلم ، والإحسان ، والملك ، والسلطان ، وبصبرك على أذاناً قاله : صاحب الغنيان . أو بالتقوى ، والصبر وسيرة المحسنين قاله : الزمخشري ، وهو مناسب لقوله : { إِنَّهُ مَن يَتَّقِ } الآية وخطابهم إياه بذلك استنزال لإحسانه ، واعتراف بما صدر منهم في حقه . وخاطئين : من خطىء إذا تعمد .

وأما أخطأ فقد الصواب ولم يوفق له . ولا تثريب : لا لوم ولا عقوبة . وتثريب اسم لا ، وعليكم الخبر ، واليوم منصوب بالعامل في الخبر أي : لا تثريب مستقر عليكم اليوم .

وقال الزمخشري: { فإن قلت } : بم تعلق اليوم ؟ { قلت} : بالتثريب ، أو بالمقدر في عليكم من معنى الاستقرار ، أو بيغفر . والمعنى : لا أثربكم اليوم ، وهذا اليوم الذي هو مظنة التثريب فما ظنكم بغيره من الأيام . ثم ابتدأ فقال : يغفر اللّه لكم ، قد عالهم بمغفرة ما فرط منهم . يقال : غفر اللّه لك ، ويغفر اللّه لك على لفظ الماضي والمضارع جميعاً ، ومنه قول المشمت : يهديكم اللّه ويصلح بالكم . أو اليوم يغفر اللّه لكم بشارة بعاجل الغفران ، لما تجدد يومئذ من توبتهم وندمهم على خطيئتهم انتهى . أما قوله : إن اليوم يتعلق بالتثريب ، فهذا لا يجوز ، لأنّ التثريب مصدر ، وقد فصل بينه وبين معموله بقوله : عليكم . إما أن يكون خبراً ، أو صفة لتثريب ، ولا يجوز الفصل بينهما ، لأنّ معمول المصدر من تمامه . وأيضاً لو كان اليوم متعلقاً بتثريب لم يجز بناؤه ، وكان يكون من قبيل المشبه بالمضاف ، وهو الذي يسمى المطول ، ويسمى الممطول ، فكان يكون معرباً منوناً .

وأما تقديره الثاني فتقدير حسن ، ولذلك وقف على قوله اليوم أكثر القراء . وابتدأوا بيغفر اللّه لكم على جهة الدعاء ، وهو تأويل ابن إسحاق والطبري .

وأما تقديره الثالث وهو أن يكون اليوم متعلقاً بيغفر فمقبول ، وقد وقف بعض القراء على عليكم ، وابتدأ اليوم يغفر اللّه لكم .

قال ابن عطية : والوقف على اليوم أرجح في المعنى ، لأنّ الآخر فيه حكم على مغفرة اللّه اللّهم ، إلا أن يكون ذلك بوحي .

وأما قوله : فبشارة إلى آخره ، فعلى طريقة المعتزلة ، فإنّ الغفران لا يكون إلا لمن تاب . قال ابن الأنباري : إنما أشار إلى ذلك اليوم لأنه أول أوقات العفو ، وسبيل العافي في مثله أن لا يراجع عقوبة ، . وأجاز الحوفي أن يكون عليكم في موضع الضفة لتثريب ، ويكون الخبر اليوم ، وهو وجه حسن .

وقيل : عليكم بيان كذلك في قولهم : سقياً لك ، فيتعلق بمحذوف . ونصوا على أنه لا يجوز أن يتعلق عليكم بتثريب ، لأنه كان يعرب ، فيكون منوناً لأنه يصير من باب المشبه بالمضاف . ولو قيل : إن الخبر محذوف ، وعليكم متعلق بمحذوف يدل عليه تثريب ،

وذلك المحذوف هو العامل في اليوم وتقديره : لا تثريب عليكم اليوم ، كما قدروا في { لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّه } أي : يعصم اليوم ، لكان وجهاً قوياً ، لأنّ خبر لا إذا علم كثر حذفه عند أهل الحجاز ، ولم يلفظ به بنو تميم . ولما دعا لهم بالمغفرة أخبر عن اللّه بالصفة التي هي سبب الغفران ، وهو أنه تعالى أرحم الرحماء ، فهو يرجو منه قبول دعائه لعم بالمغفرة .

والباء في بقميصي الظاهر أنها للحال أي : مصحوبين أو ملتبسين به .

وقيل : للتعدية أي : اذهبوا قميصي ، أي احملوا قميصي . قيل : هو القميص الذي توارثه يوسف وكان في عنقه ، وكان من الجنة ، أمره جبريل عليه السلام أنْ يرسله إليه فإن فيه ريح الجنة ، لا يقع على مبتلى ولا سقيم إلا عوفي .

وقيل : كان لابراهيم كساه اللّه إياه من الجنة حين خرج من النار ، ثم لإسحاق ، ثم ليعقوب ، ثم ليوسف .

وقيل : هو القميص الذي قدّ من دبر ، أرسله ليعلم يعقوب أنه عصم من الفاحشة . والظهر أنه قميص من ملبوس يوسف بمنزلة قميص كل واحد ، قال ذلك : ابن عطية . وهكذا تتبين الغرابة في أنْوجد يعقوب ريحه من بعد ، ولو كان من قمص الجنة ما كان في ذلك غرابة ولوجده كل أحد . وقوله : فألقوه على وجه أبيّ يأت بصيراً ، يدل على أنه علم أنه عمى من الحزن ، إما بإعلامهم ،

وإما بوحي . وقوله : يأت بصيراً ، يظهر أنه بوحي . وأهلوه الذين أمر بأن يؤتي بهم سبعون ، أو ثمانون ، أو ثلاثة وتسعون ، أو ستة وتسعون ، أقوال أولها للكلبي وثالثها المسروق . وفي واحد من هذا العدد حلواً بمصر ونمواً حتى خرج من ذريتهم مع موسى عليه السلام ستمائة ألف . ومعنى : يأت ، يأتيني ، وانتصب بصيراً على الحال .

٩٤

انظر تسفير الآية:٩٨

٩٥

انظر تسفير الآية:٩٨

٩٦

انظر تسفير الآية:٩٨

٩٧

انظر تسفير الآية:٩٨

٩٨

{وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنّى لاجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنّدُونِ ... } : فصل من البلد يفصل فضولاً انفصل منه وجاوز حيطانه ، وهو لازم . وفصل الشيء فصلاً فرق ، وهو متعد . ومعنى فصلت العير : انفصلت من عريش مصر قاصدة مكان يعقوب ، وكان قريباً من بيت المقدس .

وقيل : بالجزيرة ، وبيت المقدس هو الصحيح ، لأنّ آثارهم وقبورهم هناك إلى الآن .

وقرأ ابن عباس : ولما انفصل العير ، قال ابن عباس : وجد ريحه من مسيرة ثمانية أيام ، هاجت ريح فحملت عرفه . وقال الحسن وابن جريج : من ثمانين فرسخاً ، وكان مدة فراقه منه سبعاً وسبعين سنة . وعن الحسن أيضاً : وجده من مسيرة ثلاثين يوماً ، وعنه : مسيرة عشر ليال . وعن أبي أيوب المهروي : أن الريح استأذنت في إيصال عرف يوسف إلى يعقوب ، فأذن لها في ذلك . وقال مجاهد : صفقت الريح القميص فراحت روائح الجنة في الدنيا ، واتصلت بيعقوب فوجد ريح الجنة ، فعلم أنه ليس في الدنيا من ريح الجنة إلا ما كان من ذلك القميص . ومعنى لأجد : لأشم فهو وجود حاسة الشم . وقال الشاعر : وإني لأستشفي بكل غمامة

يهب بها من نحو أرضك ريح

ومعنى تفندون قال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة : تسفهون .

وعن ابن عباس أيضاً : تجهلون ، وعنه أيضاً : تضعفون . وقال عطاء وابن جبير : تكذبون . وقال الحسن : تهرمون . وقال ابن زيد ، والضحاك ومجاهد أيضاً : تقولون ذهب عقلك وخرفت . وقال أبو عمرو : تقبحون . وقال الكسائي : تعجزون . وقال أبو عبيدة : تضللون .

وقيل : تخطئون . وهذه كلها متقاربة في المعنى ، وهي راجعة لاعتقاد فساد رأي المفند إما لجهله ، أو لهوى غالب عليه ، أو لكذبه ، أو لضعفه وعجزه لذهاب عقله بهرمه . وقال منذر بن سعيد البلوطي : يقال شيج مفند أي : قد فسر

رأيه ، ولا يقال : عجوز مفندة ، لأن المرأة لم يكن لها رأي قط أصيل فيدخله التفنيد . وقال معناه الزمخشري قال : التفنيد النسبة إلى الفند وهو الخوف وإنكارالعقل ، من هرم يقال : شيخ مفند ، ولا يقال عجوز مفندة ، لأنها لم تكن في شبيبتها ذات رأي فنفند في كبرها ، ولولا هنا حرف امتناع لوجود ، وجوابها محذوف .

قال الزمخشري : المعنى لولا تفنيدكم إياي لصدقتموني انتهى . وقد يقال : تقديره لولا أن تفندوني لأخبرتكم بكونه حياً لم يمت ، لأن وجداني ريحه دال على حياته . والمخاطب بقوله : تفندون ، الظاهر من تناسق الضمائر أنه عائد على من كان بقي عنده من أولاده غير الذين راحوا يمتارون ، إذ كان أولاده جماعة .

وقيل : المخاطب ولد ولده ومن كان بحضرته من قرابته . والضلال هنا لا يراد به ضد الهدى والرّشاد ، قال ابن عباس : المعنى إنك لفي خطئك ، وكان حزن يعقوب قد تجدد بقصة بنيامين ، ولذلك يقال له : ذو الحزنين . وقال مقاتل : الشقاء والعناء . وقال ابن جبير : الجنون ، ويعني واللّه أعلم غلبة المحبة .

وقيل : الهلاك والذهاب من قولهم : ضل الماء في اللبن أي : ذهب فيه .

وقيل : الحب ، ويطلق الضلال على المحبة . و

قال ابن عطية : ذلك من الجفاء الذي لا يسوغ لهم مواجهته به ، وقد تأوله بعض الناس على ذلك ، ولهذا قال قتادة : قالوا لوالدهم كلمة غليظة لم يكن ينبغي لهم أن يقولوها لوالدهم ، ولا لنبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم.

وقال الزمخشري : لفي ذهابك عن الصواب قدماً في إفراط محبتك ليوسف ، ولهجك بذكره ، ورجاءك لقاءه ، وكان عندهم أنه قد مات . روي عن ابن عباس أنّ البشير كان يهوذا ، لأنه كان جاء بقميص الدم . وقال أبو الفضل الجوهري : قال يهوذا لإخوته : قد علمتم أني ذهبت إليه بقميص القرحة ، فدعوني أذهب إليه بقميص الفرحة فتركوه ، وقال هذا المعنى : السدي . وأن تطرد زيادتها بعد لما ، والضمير المستكن في ألقاه عائد على البشير ، وهو الظاهر ، هو لقوله : فألقوه .

وقيل : يعود على يعقوب ، والظاهر أنه أريد الوجه كله كما جرت العادة أنه متى وجد الإنسان شيئاً يعتقد فيه البركة مسح به وجهه .

وقيل : عبر بالوجه عن العينين لأنهما فيه .

وقيل : عبر بالكل عن البعض . وارتدَّ عدّه بعضهم في أخوات كان ، والصحيح أنها ليست من أخواتها ، فانتصب بصيراً على الحال والمعني : أنه رجع إلى حالته الأولى من سلامة البصر . ففي الكلام ما يشعر أنّ بصره عاد أقوى مما كان عليه وأحسن ، لأنّ فعيلاً من صيغ المبالغة ، وما عدل من مفعل إلى فعيل إلا لهذا المعنى انتهى . وليس كذلك لأنّ فعيلاً هنا ليس للمبالغة ، إذ فعيل الذي للمبالغة هو معدول عن فاعل لهذا المعنى .

وأما بصيراً هنا فهو اسم فاعل من بصر بالشيء ، فهو جار على قياس فعل نحو ظرف فهو ظريف ، ولو كان كما زعم بمعنى مبصر لم يكن للمبالغة أيضاً ، لأنّ فعيلاً بمعنى ليس للمبالغة نحو : أليم وسميع بمعنى مؤلم ومسمع . وروي أن يعقوب سأل البشيركيف يوسف ؟ قال : ملك مصر . قال : ما أصنع بالملك ؟ قال : على أي دين تركته ؟ قال : على الإسلام ، قال : الآن تمت النعمة . وقال الحسن : لم يجد البشير عند يعقوب شيئاً ببيته به وقال : ما خبرنا شيئاً منذ سبع ليال ، ولكن هون اللّه عليك سكرات الموت . وقال الضحاك : رجع إليه بصره بعد العمى ، والقوة بعد الضعف ، والشباب بعد الهرم ، والسرور بعد الكرب . والظاهر أن قوله : إني أعلم ، محكي بالقول ويريد به إنما أشكوا بثي وحزني إلى اللّه ، وأعلم من اللّه ما لا تعلمون . فقيل : ما لا تعلمون من حياة يوسف ، وأن اللّه يجمع بيننا وبينه .

وقيل : من صحة رؤيا يوسف عليه السلام ،

وقيل : من بلوى الأنبياء بالحزن ، ونزول الفرج ،

وقيل : من أخبار ملك الموت إياي ، وكان أخبره أنه لم يقبض روحه . و

قال ابن عطية : ما لا تعلمون هو انتظاره لتأويل الرؤيا ، ويحتمل أن يشير إلى حسن ظنه باللّه فقط .

وقال الزمخشري : ألم أقل لكم يعني قوله : إني لأجد ريح يوسف ، أو قوله : ولا تيأسوا من روح اللّه . وقوله إني أعلم ، كلام مبتدأ لم يقع عليه القول انتهى . وهو خلاف الظاهر الذي قدمناه . ولما رجع إليه بصره وقرت عينه بالمسير إلى ابنه يوسف ، وقررهم على قوله : ألم أقل لكم طلبوا منه أن يستغفر لهم اللّه لذنوبهم ، واعترفوا بالخطأ السابق منهم ، وسوف أستغفر لكم : عدة لهم بالاستغفار بسوف ، وهي أبلغ في التنفيس من السين . فعن ابن

مسعود : أنه أخر الاستغفار لهم إلى السحر .

وعن ابن عباس : إلى ليلة الجمعة ، وعنه : إلى سحرها . قال السدي ، ومقاتل ، والزجاج : أخر لإجابة الدعاء ، لا ضنة عليهم بالاستغفار . وقالت فرقة : سوف إلى قيام الليل . وقال ابن جبير وفرقة : إلى الليالي البيض ، فإن الدعاء فيها يستجاب . وقال الشعبي : أخره حتى يسأل يوسف ، فإن عفا عنهم استغفر لهم .

وقيل : أخرهم ليعلم حالهم في صدق التوبة وإخلاصها .

وقيل : أراد الدوام على الاستغفار لهم . ولما وعدهم بالاستغفار رجاهم بحصول الغفران بقوله : إنه هو الغفور الرحيم .

٩٩

انظر تسفير الآية:١٠١

١٠٠

انظر تسفير الآية:١٠١

١٠١

{فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ ءاوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّه ءامِنِينَ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَا ... }: في الكلام حذف تقديره : فرحل يعقوب بأهله أجمعين ، وساروا حتى تلقوا يوسف . قيل : وجهز يوسف إلى أبيه جهازاً ، ومائتي راحلة ليتجهز إليه بمن معه ، وخرج يوسف قيل : والملك في أربعة آلاف من الجند والعظماء وأهل مصر بأجمعهم ، فتلقوا يعقوب عليه السلام وهو يمشي يتوكأ على يهوذ ، فنظر إلى الخيل والناس فقال : يا يهوذا أهذا فرعون مصر ؟ فقال : لا ، هذا ولدك . فلما لقيه يعقوب عليه السلام قال : السلام عليك يا مذهب الأحزان .

وقيل : إن يوسف قال له لما التقيا : يا أبت ، بكيت عليّ حتى ذهب بصرك ، ألم تعلم أن القيامة تجمعنا ؟ قال : بلى ، ولكن خشيت أن تسلب دينك ، فيحال بيني وبينك . آوي إليه أبويه أي : ضمهما إليه وعانقهما ، والظاهر أنهما أبوه وأمه راحيل . فقال الحسن وابن إسحاق : كانت أمه بالحياة .

وقيل : كانت ماتت من نفاس بنيامين ، وأحياها له ليصدق رؤياه في قوله :{ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ } حكي هذا عن الحسن وابن إسحاق أيضاً .

وقيل : أبوه وخالته ، وكان يعقوب تزوجها بعد موت راحيل ، والخالة أم . روي عن ابن عباس ، وكانت ربت يوسف ، والرابة تدعى أمّاً .

وقال بعضهم : أبوه وجدته أم أمه ، حكاه الزهراوي . وفي مصحف عبد اللّه آوى إليه أبويه وإخوته وظاهر قوله : ادخلوا مصر ، إنه أمر بإنشاء دخول مصر . قال السدي : قال لهم ذلك وهم في الطريق حين تلقاهم انتهى . فيبقى قوله : فلما دخلوا على يوسف كأنه ضرب له مضرب ، أو بيت حالة التلقي في الطريق فدخلوا عليه فيه .

وقيل : دخلوا عليه في مصر . ومعنى ادخلوا مصر أي : تمكنوا منها واستقروا فيها . والظاهر تعلق الدخول على مشيئة اللّه لما أمرهم بالمدخول ، علق ذلك على مشيئة اللّه لأن جميع الكائنات إنما تكون بمشيئة اللّه ، وما لا يشاء لا يكون .

قال الزمخشري : التقدير ادخلوا مصر إن شاء اللّه آمنين ، إن شاء اللّه دخلتم آمنين ، ثم حذف الجزاء لدلالة الكلام ، ثم اعترض بالجملة الجزائية بين الحال وذي الحال . ومن بدع التفاسير أن قوله : إن شاء اللّه من باب التقديم والتأخير ، وأن موضعه بعد قوله : سوف أستغفر لكم ربي في كلام يعقوب انتهى . وهذا البدع من التفسير مروي عن ابن جريج ، وهو في غاية البعد ، بل في غاية الامتناع .

والعرش سرير الملك . ولما دخل يوسف مصر وجلس في مجلسه على سريره ، واجتمعوا إليه ، أكرم أبويه فرفعهما معه على السرير . ويحتمل أن يكون الرفع والخرور قبل دخول مصر بعد قوله : ادخلوا مصر ، فكان يكون في

قبة من قباب الملوك التي تحمل على البغال أو الإبل ، فحين دخلوا إليه آوى إليه أبويه وقال : ادخلوا مصر ، ورفع أبويه . وخروا له ، والضمير في وخروا عائد على أبويه وعلى إخوته .

وقيل : الضمير في وخروا عائد على إخوته وسائر من كان يدخل عليه لأجل هيبته ، ولم يدخل في الضمير أبواه ، بل رفعهما على سرير ملكة تعظيماً لهما . وظاهر قوله : وخروا له سجداً أنه السجود المعهود ، وأن الضمير في له عائد على يوسف لمطابقة الرؤيا في قوله : { إِنّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا } الآية وكان السجود إذ ذاك جائزاً من باب التكريم بالمصافحة ، وتقبيل اليد ، والقيام مما شهر بين الناس في باب التعظيم والتوقير . وقال قتادة : كانت تحية الملوك عندهم ، وأعطى اللّه هذه الأمة السلام تحية أهل الجنة .

وقيل : هذا السجود كان إيماء بالرأس فقط .

وقيل : كان كالركوع البالغ دون وضع الجبهة على الأرض . ولفظة وخروا تأبى هذين التفسرين . قال الحسن : الضمير في له عائد على اللّه أي : خروا اللّه سجداً شكراً على ما أوزعهم من هذه النعمة ، وقد تأول قوله : رأيتهم لي ساجدين ، على أن معناه رأيتهم لأجلي ساجدين . وإذا كان الضمير ليوسف ف

قال المفسرون : كان السجود تحية لا عبادة . وقال أبو عبد اللّه الداراني : لا يكون السجود إلا للّه لا ليوسف ، ويبعد من عقله ودينه أن يرضي بأن يسجد له أبوه مع سابقته من صون أولاده ، والشيخوخة ، والعلم ، والدين ، وكمال النبوة .

وقيل : الضمير وإن عاد على يوسف فالسجود كان للّه تعالى ، وجعلوا يوسف قبلة كما تقول : صليت للكعبة ، وصليت إلى الكعبة ، وقال حسان : ما كنت أعرف أن الدهر منصرف

عن هاشم ثم عنها عن أبي حسن أليس أول من صلى لقبلتكموأعرف الناس بالأشياء والسنن

وقيل : السجود هنا التواضع ، والخرور بمعنى المرور لا السقوط على الأرض لقوله :{ وَالَّذِينَ إِذَا ذُكّرُواْ بِئَايَاتِ رَبّهِمْ لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً } أي لم يمروا عليها . وقال ثابت : هذا تأويل رؤياي من قبل أي : سجودكم هذا تأويل ، أي : عاقبة رؤياي أنّ تلك الكواكب والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين : ومن قبل متعلق برؤياي ، والمحذوف في من قبل تقديره : من قبل هذه الكوائن والحوادث التي جرت بعد رؤياي . ومن تأول أنّ أبويه لم يسجدا له زعم أن تعبير الرؤيا لا يلزم أن يكون مطابقاً للرؤيا من كل الوجوه ، فسجود الكواكب والشمس والقمر يعبر بتعظيم الأكابر من الناس . ولا شك أن ذهاب يعقوب عليه السلام مع ولده من كنعان إلى مصر لأجل يوسف نهاية في التعظيم له ، فكفى هذا القدر في صحة الرؤيا

وعن ابن عباس : أنه لما رأى سجود أبويه وأخوته هاله ذلك واقشعر جلده منه . وقال ليعقوب : هذا تأويل رؤياي من قبل ، ثم ابتدأ يوسف عليه السلام بتعديد نعم اللّه عليه فقال : قد جعلها ربي حقاً أي : صادقة ، رأيت ما يقع في في المنام يقظة ، لا باطل فيها ولا لغو . وفي المدة التي كانت بين رؤياه وسجودهم خلاف متناقض . قيل : ثمانون سنة ،

وقيل : ثمانية عشر عاماً .

وقيل : غير ذلك من رتب العدد . وكذا المدة التي أقام يعقوب فيها بمصر عند ابنه يوسف خلاف متناقض ، وأحسن أصله أن يتعدى بإلى قال :{ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللّه إِلَيْكَ } وقد يتعدى بالباء

قال تعالى :{ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً } كما يقال أساء إليه ، وبه قال الشاعر : أسيء بنا أو أحسني لا ملومة

لدينا ولا مقلية إن تقلت

وقد يكون ضمن أحسن معنى لطف ، فعداه بالباء ، وذكر إخراجه من السجن وعدل عن إخراجه من الجب صفحاً

عن ذكر ما تعلق بقول إخوته ، وتناسياً لما جرى منهم إذ قال : { لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّه لَكُمْ } وتنبيهاً على طهارة نفسه ، وبراءتها مما نسب إليه من المراودة . وعلى ما تنقل إليه من الرياسة في الدنيا بعد خروجه من السجن بخلاف ما تنقل إليه بالخروج من الجب ، إلى أن بيع مع العبيد ، وجاء بكم من البدو من البادية . وكان ينزل يعقوب عليه السلام بأطراف الشام ببادية فلسطين ، كان رب إبل وغنم وبادية .

وقال الزمخشري : كانوا أهل عمد وأصحاب مواش يتنقلون في المياه والمناجع . قيل : كان تحول إلى بادية وسكنها ، فإنّ اللّه لم يبعث نبياً من أهل البادية .

وقيل : كان خرج إلى بدا وهو موضع وإياه عني جميل بقوله : وأنت التي جببت شعباً إلى بدا

إليّ وأوطاني بلاد سواهما

وليعقوب عليه السلام بهذا الموضع مسجد تحت جبل . يقال : بداً القوم بدوا ، إذا أتوا بدا كما يقال : غاروا غوراً . إذ أتوا الغور . والمعنى : وجاء بكم من مكان بدا ، ذكره القشيري ، وحكاه الماوردي عن الضحاك ،

وعن ابن عباس . وقابل يوسف عليه السلام نعمة إخراجه من السجن بمجيئهم من البدو ، والإشارة بذلك إلى الاجتماع بابيه وأخوته ، وزوال حزن أبيه . ففي الحديث :{ مَّن يُرَدُّ اللّه بِهِ خَيْرًا } من بعد أن نزغ أي أفسد ، وتقدم الكلام على نزع ، وأسند النزع إلى الشيطان لأنه الموسوس كما قال :{ هَاذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا } وذكر هذا القدر من أمر أخوته ، لأنّ النعمة إذا جاءت إثر شدة وبلاء كانت أحسن موقعاً . إن ربي لطيف ، أي : لطيف التدبير لما يشاء من الأمور ، رفيق . ومن في قوله من الملك ، وفي من تأويل للتبعيض ، لأنه لم يؤته إلا بعض ملك الدنيا ، ولا علمه إلا بعض التأويل . ويبعد قول من جعل من زائدة ، أو جعلها البيان الجنس ، والظاهر أن الملك هنا ملك مصر .

وقيل : ملك نفسه من إنفاذ شهوته . وقال عطاء : ملك حساده بالطاعة ، ونيل الأماني من الملك .

وقرأ عبد اللّه ، وعمرو بن ذر : آتيتن ، وعلمتن بحذف الياء منهما اكتفاء بالكسرة عنهما ، مع كونهما ثابتتين خطاً .

وحكى ابن عطية عن ابن ذرانة : قرأ رب آتيتني بغير قد ، وانتصب فاطر على الصفة ، أو على النداء . وأنت وليي تتولاني بالنعمة في الدارين ، وتوصل الملك الفاني بالملك الباقي . وذكر كثير من المفسرين أنه لما عد نعم اللّه عنده تشوق إلى لقاء ربه ولحاقه بصالحي سلفه ، ورأى أنّ الدنيا كلها فانية فتمنى الموت .

وقال ابن عباس : لم يتمن الموت حي غير يوسف ، والذي يظهر أنه ليس في الآية تمنى الموت ، وإنما عدد نعمه عليه ، ثم دعا أن يتم عليه النعم في باقي أمره أي : توفني إذا حان أجلي على الإسلام ، واجعل لحاقي بالصالحين . وإنما تمنى الوفاة على الإسلام لا الموت ، والصالحين أهل الجنة أو الأنبياء ، أو آباؤه إبراهيم وإسحاق ويعقوب . وعلماء التاريخ يزعمون أنّ يوسف عليه السلام عاش مائة عام وسبعة أعوام ، وله من الولد : افراثيم ، ومنشا ، ورحمة زوجة أيوب عليه السلام . قال الذهبي : وولد لافراثيم نون ، ولنون يوشع ، وهو فتى موسى عليه السلام . وولد لمنشأ موسى ، وهو قبل موسى بن عمران عليه السلام . ويزعم أهل التوراة أنه صاحب الخضر ، وكان ابن عباس ينكر ذلك . وثبت في الصحيح أن صاحب الخضر هو موسى بن عمران ، وتوارثت الفراعنة ملك مصر ، ولم تزل بنو إسرائيل تحت أيديهم على بقايا دين يوسف عليه السلام إلى أن بعث موسى عليه السلام .

١٠٢

انظر تسفير الآية:١٠٧

١٠٣

انظر تسفير الآية:١٠٧

١٠٤

انظر تسفير الآية:١٠٧

١٠٥

انظر تسفير الآية:١٠٧

١٠٦

انظر تسفير الآية:١٠٧

١٠٧

{ذالِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ...} قال ابن الأنباري : سألت قريش واليهود رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن قصة يوسف فنزلت مشروحة شرحاً وافياً ، وأمل أن يكون ذلك سبباً لإسلامهم ، فخالفوا تأميله ، فعزاه اللّه تعالى بقوله : وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين الآيات .

وقيل : في المنافقين ،

وقيل : التوبة ،

وقيل : في النصارى .

وقال ابن عباس : في تلبية المشركين .

وقيل : في أهل الكتاب آمنوا ببعض وكفروا ببعض ، فجمعوا بين الإيمان والشرك . والإشارة بذلك إلى ما قصه اللّه من قصة يوسف وإخوته . وما كنت لديهم أي : عند بني يعقوب حين أجمعوا أمرهم على أن يجعلوه في الجب ، ولا حين ألقوه فيه ، ولا حين التقطته السيارة ، ولا حين بيع . وهم يمكرون أي يبغون الغوائل ليوسف ، ويتشاورون فيما يفعلون به . أو يمكرون بيعقوب حين أتوا بالقميص ملطخاً بالدم ، وفي هذا تصريح لقريش بصدق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وهذا النوع من علم البيان يسمى بالاحتجاج النظري ، وبعضهم يسميه المذهب الكلامي ، وهو أن يلزم الخصم ما هو لازم لهذا الاحتجاج ، وتقدم نظير ذلك في آل عمران ، وفي هود . وهذا تهكم بقريش وبمن كذبه ، لأنه لا يخفى على أحد أنه لم يكن من حملة هذا الحديث وأشباهه ، ولا لقي فيها أحداً ولا سمع منه ، ولم يكن من علم قومه ، فإذا أخبر به وقصه هذا القصص الذي أعجز حملته ورواته لم تقع شبهة في أنه ليس منه ، وإنما هو من جهة القرون الخالية ونحوه { وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِىّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الاْمْرَ} فقوله : وما كنت ، هنا تهكم بهم ، لأنه قد علم كل أحد أن محمداً صلى اللّه عليه وسلم ما كان معهم . وأجمعوا أمرهم أي : عزموا على إلقاء يوسف في الجب ، وهم يمكرون جملة حالية . والمكر : أن يدبر على الإنسان تدبيراً يضره ويؤذيه والناس ، الظاهر العموم لقوله : ولكن أكثر الناس لا يؤمنون .

وعن ابن عباس : أنهم أهل مكة . ولو حرصت : ولو بالغت في طلب إيمانهم لا يؤمنون لفرط عنادهم وتصميمهم على الكفر . وجواب لو محذوف أي : ولو حرصت لم يؤمنوا ، إنما يؤمن من يشاء اللّه إيمانه . والضمير في عليه عائد على دين اللّه أي : ما تبتغي عليه أجراً على دين اللّه ،

وقيل : على القرآن ،

وقيل : على التبليغ ،

وقيل : على الأنباء بمعنى القول . وفيه توبيخ للكفرة ، وإقامة الحجة عليهم . أو وما تسألهم على ما تحدثهم به وتذكرهم أن ينيلوك منفعة وجدوى ، كما يعطي جملة الأحاديث والأخبار إن هو إلا موعظة وذكر من اللّه للعالمين عامة ، وحث على طلب النجاة على لسان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.

وقرأ بشر بن عبيد : وما نسألهم بالنون . ثم أخبر تعالى أنهم لفرط كفرهم يمرون على الآيات التي تكون سبباً للإيمان ولا تؤثر فيهم ، وأن تلك الآيات هي في العالم العلوي وفي العالم السفلي وتقدم قراءة ابن كثير وكأين . قال ابن عطية وهو اسم فاعل من كان فهو كائن ومعناها معنى كم في التكثير انتهى . وهذا شيء يروي عن يونس ، وهو قول مرجوح في النحو . والمشهور عندهم أنه مركب من كاف التشبيه ومن أي ، وتلاعبت العرب به فجاءت به لغات . وذكر صاحب اللوامح أن الحسن قرأ وكي بياء مكسورة من غير هم ولا ألف ولا تشديد ، وجاء كذلك عن ابن محيصن ، فهي لغة انتهى . من آية علامة على توحيد اللّه وصفاته ، وصدق ما جيء به عنه .

وقرأ عكرمة وعمرو بن قائد : والأرض بالرفع على الابتداء ، وما بعده خبر . ومعنى يمرون عليها فيشاهدون ما فيها من الآيات .

وقرأ السدي : والأرض بالنصب ، وهو من باب الاشتغال أي : ويطوون الأرض يمرون عليها على آياتها ، وما أودع فيها من الدلالات .

والضمير في عليها وعنها في هاتين القراءتين يعود على الأرض ، وفي قراءة الجمهور وهي بجر الأرض ، يعود الضمير على آية أي : يمرون على تلك الآيات ويشاهدون تلك الدلالات ، ومع ذلك لا يعتبرون .

وقرأ عبد اللّه : والأرض برفع الضاد ، ومكان يمرون يمشون ، والمراد : ما يرون من آثار الأمم الهالكة وغير ذلك من العبر . وهم مشركون جملة حالية أي : إيمانهم ملتبس بالشرك .

وقال ابن عباس : هم أهل الكتاب ، أشركوا باللّه من حيث كفروا بنبيه ، أو من حيث ما قالوا في عزير والمسيح . وقال عكرمة ، ومجاهد ، وقتادة ، وابن زيد : هم كفار العرب أقروا بالخالق الرازق المحيي المميت ، وكفروا بعبادة الأوثان والأصنام .

وقال ابن عباس : هم الذين يشبهون اللّه بحلقه .

وقيل : هم أهل مكة قالوا : للّه ربنا لا شريك له ، والملائكة بناته ، فأشركوا ولم يوحدوا .

وعن ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، والشعبي ، وقتادة أيضاً ذلك في تلبيتهم يقولون : لبيك لا شريك لك ، إلا شريك هو لك تملكه وما ملك . وفي الحديث كان صلى اللّه عليه وسلم إذا سمع أحدهم يقول : لبيك لا شريك لك بقول له :  { قط قط } أي قف هنا ولا تزد إلا شريك هولك

وقيل : هم الثنوية قالوا بالنور والظلمة . وقال عطاء : هذا في الدعاء ينسى الكفار ربهم في الرخاء ، فإذا أصابهم البلاء أخلصوا في الدعاء .

وقيل : هم المنافقون ، جهروا بالإيمان وأخفوا الكفر .

وقيل : على بعض اليهود عبدوا عزيراً ، والنصارى عبدوا الكواكب .

وقيل : قريش لما غشيهم الدخان في سني القحط قالوا : إنا مؤمنون ، ثم عادوا إلى الشرك بعد كشفه .

وقيل : جميع الخلق مؤمنهم بالرسول وكافرهم ، فالكفار تقدم شركهم ، والمؤمنون فيهم الشرك الخفي ، وأقربهم إلى الكفر المشبهة . ولذلك قال ابن عباس : آمنوا محملاً ، وكفروا مفصلاً . وثانيها من يطيع الخلق بمعصية الخالق ، وثالثها من يقول : نفعني فلان وضرّني فلان .

أفأمنوا : استفهام إنكار فيه توبيخ وتهديد ، غاشية نقمة تغشاهم أي ، تغظيهم كقوله : { يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ } وقال الضحاك : يعني الصواعق والقوارع انتهى . وإتيان الغاشية يعني في الدنيا ، وذلك لمقابلته بقوله أو تأتيهم الساعة أي يوم القيامة ، بغتة أي : فجأة في الزمان من حيث لا يتوقع ، وهم لا يشعرون تأكيد لقوله بغتة . قال الكرماني : لا يشعرون بإتيانها أي : وهم غيره مستعدين لها . قال ابن عباس : تأخذهم الصيحة على أسواقهم ومواضعهم .

وقرأ أبو حفص ، وبشر بن عبيد : أو يأتيهم الساعة .

١٠٨

انظر تسفير الآية:١١٠

١٠٩

انظر تسفير الآية:١١٠

١١٠

{قُلْ هَاذِهِ سَبِيلِى أَدْعُو إِلَى اللّه عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِى ...} : لما تقدم من قول يوسف عليه السلام :{ تَوَفَّنِى مُسْلِمًا } وكان قوله تعالى :{ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } دالاً على أنه حارص على إيمانهم ، مجتهد في ذلك ، داع إليه ، مثابر عليه . وذكر { وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ } أشار إلى فيهم من

ذلك وهو شريعة الإسلام والإيمان ، وتوحيد اللّه . فقال : قل يا محمد هذا الطريقة والدعوة طريقي التي سلكتها وأنا عليها ، ثم فسر تلك السبيل فقال : أدعو إلى اللّه يعني : لا إلى غيره من ملك أو إنسان أو كوكب أو صنم ، إنما دعاني إلى اللّه وحده . قال ابن عباس : سبيلي أي دعوتي . وقال عكرمة : صلاتي ، وقال ابن زيد : سنتي ، وقال مقاتل والجمهور : ديني .

وقرأ عبد اللّه : قل هذا سبيلي على التذكير . والسبيل يذكر ويؤنث ، ومفعول أدعو هو محذوف تقديره : أدعو الناس . والظاهر تعلق على بصيرة بأدعو ، وإنا توكيد للضمير المستكن في ادعو ، ومن معطوف على ذلك الضمير والمعنى : أدعو أنا إليها من اتبعني . ويجوز أن يكون على بصيرة خبراً مقدماً ، وإنا مبتدأ ، ومن معطوف عليه . ويجوز أن يكون على بصيرة حالاً من ضمير ادعو ، فيتعلق بمحذوف ، ويكون أنا فاعلاً بالجار والمجرور النائب عن ذلك المحذوف ، ومن اتبعني معطوف على أنا . وأجاز أبو البقاء أن يكون : ومن اتبعني مبتدأ خبره محذوف تقديره كذلك أي : داع إلى اللّه على بصيرة . ومعنى بصيرة حجة واضحة وبرهان متيقن من قوله : { قَدْ جَاءتْكُم بَصَائِرُ مِن رَّبّكُمْ } وسبحان اللّه داخل تحت قوله قل : أي قل ، وتبرئة اللّه من الشركاء أي : براءة اللّه من أن يكون له شريك . ولما أمر بأن يخبر عن نفسه أنه يدعو هو ومن اتبعه إلى اللّه ، وأمر أن يخبر أنه ينزه اللّه عن الشركاء ، أمر أن يخبر أنه في خاصة نفسه منتف عن الشرك ، وأنه ليس ممن أشرك . وهو نفي عام في الأزمان لم يكن منهم ، ولا في وقت من الأوقات . إلا رجالاً حصر في الرسل دعاة إلى اللّه ، فلا يكون ملكاً . وهذا رد على من قال :{ لَوْ شَاء رَبُّنَا لاَنزَلَ مَلَائِكَةً } وكذلك ، قال :{ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً }

وقال ابن عباس : يعني رجالاً لا نساء ، فالرسول لا يكون امرأة ، وهل كان في النساء نبية فيه خلاف ؟ والنبي أعم من الرسول ، لأنه منطلق على من يأتيه الوحي سواء أرسل أو لم يرسل ، قال الشاعر في سجاح المتنبئة : أمست نبيتنا أنثى نطيف بها

ولم تزل أنبياء اللّه ذكرانا

فلعنة اللّه والأقوام كلهم

على سجاح ومن بالإفك أغرانا

أعني مسيلمة الكذاب لا سقيت

أصداؤه ماء مزن أينما كانا

وقرأ أبو عبد الرحمن ، وطلحة ، وحفص : نوحي بالنون وكسر الحاء ، موافقاً لقوله : وما أرسلنا .

وقرأ الجمهور بالياء وفتح الحاء مبنياً للمفعول . والقرى المدن . قال ابن زيد : أهل القرى أعلم وأحلم من أهل البادية ، فإنهم قليل نبلهم ، ولم ينشىء اللّه قط منهم رسولاً . وقال الحسن : لم يبعث اللّه رسولاً من أهل البادية ، ولا من النساء ، ولا من الجن . والتبدي مكروه إلا في الفتن ، ففي الحديث : { من بدا جفا } ثم استفهم استفهام توبخ وتفريع . والضمير في يسيروا عائد على من أنكر إرسال الرسل من البشر ، ومن عاند الرسول وأنكر رسالته كفر أي : هلا يسيرون في الأرض فيعلمون بالتواتر أخبار الرسل السابقة ، ويرون مصارع الأمم المكذبة ، فيعتبرون بذلك ؟ ولدار الآخرة خير ، هذا حض على العمل لدار الآخرة والاستعداد لها ، واتقاء المهلكات ، ففي هذه الإضافة تخريجان :

أحدهما : أنها من إضافة الموصوف إلى صفته ، وأصله : ولدار الآخرة .

والثاني : أن يكون من حذف الموصوف وإقامة صفته مقامه ، وأصله : ولدار المدة الآخرة أو النشأة الآخرة . و

الأول : تخريج كوفي ،

والثاني : تخريج بصرى .

وقرأ الجمهور : أفلا يعقلون بالياء رعياً لقوله : أفلم يسيروا .

وقرأ الحسن ، وعلقمة ، والأعرج ، وعاصم ، وابن عامر ، ونافع : بالتاء على خطاب هذه الأمة تحذيراً لهم مما وقع فيه أولئك ، فيصيبهم ما أصابهم . قال الكرماني : أفلا يعقلون أنها خير . فيتوسلوا إليها بالإيمان انتهى .

والاستيئاس من النصر ، أو من إيمان قومهم قولان . وحتى غاية لما قبلها ، وليس في اللفظ ما يكون له غاية ، فاحتيج إلى تقدير فقدره الزمخشري : وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً ، فتراخى نصرهم حتى إذا استيأسوا عن النصر . و

قال ابن عطية : ويتضمن قوله : أفلم يسيروا إلى ما قبلهم ، أن الرسل الذين بعثهم اللّه من أهل القرى دعوهم فلم يؤمنوا بهم حتى نزلت بهم المثلات ، فصاروا في حيزة من يعتبر بعاقبته ، فلهذا المضمن حسن أن يدخل حتى في قوله : حتى إذا استيأس الرسل انتهى . ولم يتحصل لنا من كلامه شيء يكون ما بعد حتى غاية له ، لأنه علق الغاية بما ادعى أنه فهم ذلك من قوله : أفلم يسيروا الآية . وقال أبو الفرج بن الجوزي : المعنى متعلق بالآية الأولى فتقديره : وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً يدعوا قومهم فكذبوهم ، وصبروا وطال دعاؤهم ، وتكذيب قومهم حتى إذا استيأس الرسل . وقال القرطبي في تفسيره : المعنى وما أرسلنا من قبلك يا محمد إلا رجالاً ، ثم لم نعاقب أممهم بالعقاب حتى إذا استيأس الرسل .

وقرأ أبي ، وعلي ، وابن مسعود ، وابن عباس ، ومجاهد ، وطلحة ، والأعمش ، والكوفيون : كذبوا بتخفيف الذال ، وباقي السبعة ، والحسن وقتادة ، ومحمد بن كعب ، وأبو رجاء ، وابن مليكة ، والأعرج ، وعائشة بخلاف عنها بتشديدها . وهما مبنيان للمفعول ، فالضمائر على قراءة التشديد عائدة كلها على الرسل ، والمعنى : إن الرسل أيقنوا أنهم كذبهم قومهم المشركون .

قال ابن عطية : ويحتمل أن كون الظن على بابه يعني من ترجيح أحد الجائزين قال : والضمير للرسل ، والمكذبون مؤمنون أرسل إليه أي : لما طالت المواعيد حسبت الرسل أنّ المؤمنين أولاً قد كذبوهم وارتابوا بقولهم . وعلى قراءة التخفيف ، فالضمير في وظنوا عائد على الرسل إليهم لتقدمهم في الذكر في قوله : كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ، ولأنّ الرسل تستدعي مرسلاً إليهم ، وفي أنهم . وفي قد كذبوا عائد على الرسل ، والمعنى : وظن المرسل إليهم أنّ الرسل قد كذبهم من ادعوا أنه جاءهم بالوحي عن اللّه وبنصرهم ، إذ لم يؤمنوا به . ويجوز في هذه القراءة أن تكون الضمائر الثلاثة عائدة على المرسلم إليهم أي : وظن المرسل أنهم قد كذبهم الرسل فيما ادعوه من النبوّة ، وفيما يوعدون به من لم يؤمن بهم من العذاب . وهذا مشهور قول ابن عباس ، وتأويل عبد اللّه وابن جبير ومجاهد . ولا يجوز أن تكون الضمائر في هذه القراءة عائدة على الرسل ، لأنهم معصومون ، فلا يمكن أن يظن أحد منهم أنه قد كذبه من جاءه بالوحي عن اللّه .

وقال الزمخشري في هذه القراءة : حتى إذا استيأسوا من النصر وظنوا أنهم قد كذبوا أي : كذبتهم أنفسهم حين حدثتهم أنهم ينصرون أو رجاهم كقوله : رجاء صادق ورجاء كاذب . والمعنى : أنّ مدة التكذيب والعداوة من الكفار ، وانتظار النصر من اللّه وتأميله قد تطاولت عليهم وتمادت ، حتى استشعروا القنوط ، وتوهموا أن لا نصر لهم في الدنيا ، فجاءهم نصرنا فجأة من غير احتساب انتهى . فجعل الضمائر كلها للرسل ، وجعل الفاعل الذي صرف من قوله : قد كذبوا ، إما أنفسهم ،

وإما رجاؤهم .

وفي قوله : إخراج الظن عن معنى الترجيح ، وعن معنى اليقين إلى معنى التوهم ، حتى يجري الضمائر كلها في القراءتين على سنن واحدة . وروي عن ابن مسعود ، وابن عباس ، وابن جبير : أن الضمير في وظنوا ، وفي قد كذبوا ، عائد على الرسل والمعنى : كذبهم من تباعدهم عن اللّه والظن على بابه قالوا : والرسل بشر ، فضعفوا وساء ظنهم . وردت عائشة وجماعة من أهل العلم هذا التأويل ، وأعظموا أنْ يوصف الرسل بهذا .

قال الزمخشري : إن صح هذا عن ابن عباس فقد أراد بالظن ما يخطر بالبال ، ويهجس في القلب من شبه الوسوسة وحديث النفس على ما عليه البشرية .

وأما الظن الذي هو ترجيح أحد الجانبين على الآخر فغير جائز على رجل من المسلمين ، فما بال رسل اللّه الذين هم أعرف بربهم ، وأنه متعال عن خلف الميعاد ، منزه عن كل قبيح انتهى . وآخره مذهب الاعتزال . فقال أبو علي : إن ذهب ذاهب إلى أنّ المعنى ظن الرسل أن الذي وعد اللّه أممهم على لسانهم قد كذبوا فيه ، فقد أتى عظيماً لا يجوز أن ينسب مثله إلى الأنبياء ، ولا إلى صالحي عباد اللّه قال : وكذلك من زعم أن ابن عباس ذهب إلى أن الرسل قد ضعفوا وظنوا أنهم قد أخلفوا ، لأن اللّه لا يخلف الميعاد ، ولا مبدل لكلماته .

وقرأ ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك : قد كذبوا بتخفيف

الذال مبنياً للفاعل أي : وظن المرسل إليهم أن الرسل قد كذبوهم فيما قالوا عن اللّه من العذاب والظن على بابه . وجواب إذ جاءهم نصرنا ، والظاهر أن الضمير في جاءهم عائد على الرسل .

وقيل : عائد عليهم وعلى من آمن بهم .

وقرأ عاصم ، وابن عامر : فنجى بنون واحدة وشدّ الجيم وفتح الياء مبنياً للمفعول .

وقرأ مجاهد ، والحسن ، والجحدري ، وطلحة بن هرمز كذلك ، إلا أنهم سكنوا الياء ، وخرج على أنه مضارع أدغمت فيه النون في الجيم ، وهذا ليس بشيء ، لأنه لا تدغم النون في الجيم . وتخريجه على أنه ماض كالقراءة التي قبلها سكنت الياء فيه لغة من يستثقل الحركة صلة على الياء ، كقراءة من قرأ { مَا تُطْعِمُونَ } بسكون الياء . ورويت هذه القراءة عن الكسائي ونافع ، وقرأهما في المشهور ، وباقي السبعة فننجي بنونين مضارع أنجي . وقرأت فرقة : كذلك إلا أنهم فتحوا الياء .

قال ابن عطية : رواها هبيرة عن حفص عن عاصم ، وهي غلط من هبيرة انتهى . وليست غلطاً ، ولها وجه في العربية وهو أنّ الشرط والجزاء يجوز أن يأتي بعدهما المضارع منصوباً بإضمار أن بعد الفاء ، كقراءة من قرأ :{ الاْرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّه فَيَغْفِرُ } بنصب يغفر بإضمار أنْ بعد الفاء . ولا فرق في ذلك بين أن تكون أداة الشرط جازمة ، أو غير جازمة .

وقرأ نصر بن عاصم ، والحسن ، وأبو حيوة ، وابن السميقع ، ومجاهد ، وعيسى ، وابن محيصن : فنجى ، جعلوه فعلاً ماضياً مخفف الجيم . وقال أبو عمرو الداني : وقرأت لابن محيصن فنجى بشد الجيم فعلاً ماضياً على معنى فنجى النصر . وذكر الداني أنّ المصاحف متفقة على كتبها بنون واحدة . وفي التحبير أنّ الحسن قرأ فنجى بنونين ، الثانية مفتوحة ، والجيم مشددة ، والياء ساكنة .

وقرأ أبو حيوة : من يشاء بالياء أي : فنجى من يشاء اللّه نجاته . ومن يشا هم المؤمنون لقوله : ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين ، والبأس هنا الهلاك .

وقرأ الحسن : بأسه بضمير الغائب أي : بأس اللّه . وهذه الجملة فيها وعيد وتهديد لمعاصري الرسول صلى اللّه عليه وسلم.

١١١

{لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لاّوْلِى الالْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يَفْتَرِى وَلَاكِن تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلّ شَىْء وَهُدًى وَرَحْمَةً لْقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } : الضمير في قصصهم عائد على الرسل ، أو على يوسف وأبويه وأخوته ، أو عليهم وعلى الرسل ثلاثة أقوال .

الأول : اختاره الزمخشري قال : وينصره قراءة من قرأ قصصهم بكسر القاف انتهى . ولا ينصره إذ قصص يوسف وأبيه وأخوته مشتمل على قصص كثيرة وأنباء مختلفة . والذي قرأ بكسر القاف هو أحمد بن جبير الانطاكي عن الكسائي ، والقصبي عن عبد الوارث عن أبي عمر وجمع قصة . واختار ابن عطية الثالث ، بل لم يذكره غيره . والعبرة الدلالة التي يعبر بها عن العلم . وإذا عاد الضمير على يوسف عليه السلام وأبويه وأخوته ، فالاعتبار بقصصهم من وجوه إعزاز يوسف عليه السلام بعد إلقائه في الجب ، وإعلاؤه بعد حبسه في السجن ، وتملكه مصر بعد استعباده ، واجتماعه مع والديه وأخوته على ما أحب بعد الفرقة الطويلة . والإخبار بهذا القصص إخباراً عن الغيب ، والإعلام باللّه تعالى من العلم والقدرة والتصرف في الأشياء على ما لا يخطر على بال ولا يجول في فكر . وإنما خص أولو الألباب لأنهم هم الذين ينتفعون بالعبر ، ومن له لب وأجاد النظر ، ورأى ما فيها من امتحان ولطف وإحسان ، علم أنه أمر من اللّه تعالى ، ومن عنده تعالى . والظاهر أنّ اسم كان مضمر يعود على القصص أي : ما كان القصص حديثاً مختلفاً ، بل هو حديث صدق ناطق بالحق جاء به من لم يقرأ الكتب ، ولا تتلمذ لأحد ، ولا خالط العلماء ، فمحال أن يفتري هذه القصة بحيث تطابق ما ورد في التوراة من غير تفاوت .

وقيل : يعود على القرآن أي : ما كان القرآن الذي تضمن قصص يوسف عليه السلام وغيره حديثاً يختلق ، ولكن كان تصديق الكتب المتقدمة الإلهية ، وتفصيل كل شيء واقع ليوسف مع أبويه وأخوته إن

كان الضمير عائداً على قصص يوسف ، أو كل شيء مما حتاج إلى تفصيله في الشريعة إن عاد على القرآن .

وقرأ حمران بن أعين ، وعيسى الكوفي فيما ذكر صاحب اللوامح ، وعيسى الثقفي فيما ذكر ابن عطية : تصديق وتفصيل وهدى ورحمة برفع الأربعة أي : ولكن هو تصديق ، والجمهور بالنصب على إضمار كان أي : ولكن تصديق أي : كان هو ، أي الحديث ذا تصديق الذي بين يديه . وينشد قول ذي الرمة : وما كان مالي من تراب ورثته

ولا دية كانت ولا كسب ماثم ولكن عطاء اللّه من كل رحلة إلى كل محجوب السوارق خضرم بالرفع في عطاء ونصبه أي : ولكن هو عطاء اللّه ، أو ولكن كان عطاء اللّه . ومثله قول لوط بن عبيد العائي اللص :

وإني بحمد اللّه لا مال مسلمأخذت ولا معطي اليمين محالف ولكن عطاء اللّه من مال فاجرقصى المحل معور للمقارف وهدى أي سبب هداية في الدنيا ، ورحمة أي : سبب لحصول الرحمة في الآخرة . وخص المؤمنون بذلك لأنهم هم الذين ينتفعون بذلك كما

قال تعالى : { هُدًى لّلْمُتَّقِينَ } وتقدم أول الورة قوله تعالى :{ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْانًا عَرَبِيّا }

وقوله تعالى :{ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ } وفي آخرها : ما كان حديثاً يفتري إلى آخره ، فلذلك احتمل أن يعود الضمير على القرآن ، وأن يعود على القصص واللّه تعالى أعلم .

﴿ ٠