٣١

{فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئًا وَءاتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مّنْهُنَّ سِكّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ } : روي أن تلك المقالة الصادرة عن النسوة إنما قصدن بها المكر بامرأة العزيز ليغضبنها حتى تعرض عليهن يوسف ليبين عذرها ، أو يحق لومها ومكرهن هو اغتيابهن إياها ، وسوّء مقالتهن فيها أنها عشقت يوسف . وسمي الاغتياب مكراً ، لأنه في خفية وحال غيبة ، كما يخفي الماكر مكره .

وقيل : كانت استكتمتهن سرها فأفشينه عليها ، أرسلت إليهن ليحضرن . قيل : دعت أربعين امرأة منهن الخمس المذكورات . والظاهر عود الضمير على تلك النسوة القائلة ما قلن عنها .

وأعتدت لهن متكئاً أي : يسرت

وهيئأت لهن ما يتكئن عليه من النمارق والمخادّ والوسائد ، وغير ذلك مما يكون في مجلس أعد للكرامة . ومن المعلوم أن هذا النوع من الإكرام لا يخلو من طعام وشراب ، وهنا محذوف تقديره : فجئن واتكأن . ومتكئاً إما أن يراد به الجنس ،

وإما أن يكون المراد وأعتدت لكل واحدة منهن متكئاً ، كما جاءت وآتت كل واحدة منهن سكيناً . قال ابن عباس متكئاً مجلساً ، ذكره الزهراوي ، ويكون متكئاً ظرف مكان أي : مكاناً يتكئن فيه . وعلى ما تقدم تكون الآلات التي يتكأ عليها . وقال مجاهد : المتكأ الطعام يحز حزاً . قال القتبي : يقال اتكأ عند فلان أي أكلنا ، ويكون هذا من المجاز عبر بالهيئة التي يكون عليها الآكل المترف بالمتكأ وهي عادة المترفين ، ألا ترى إلى قوله صلى اللّه عليه وسلم : { أَمَّا أَنَاْ فَلا أَكَلَ مُتَّكَئًا } أو كما قال : وإذا كان المتكأ ليس معبراً به عما يؤكل ، فمعلوم أنّ مثل هذا المجلس لا بد فيه من طعام وشراب ، فيكون في جملة الطعام ما يقطع بالسكاكين . فقيل : كان لحماً وكانوا لا ينهشون اللحم ، إنما كانوا يأكلونه حزاً بالسكاكين .

وقيل : كان أترجاً ،

وقيل : كان بزماورد وهو شبيه بالأترج موجود في تلك البلاد .

وقيل : هو مصنوع من سكر ولوز وأخلاط ، ومضمونه : أنه يحتاج إلى أن يقطع بالسكين ، وعادة من يقطع شيئاً أن يعتمد عليه ، فيكون متكئاً عليه . قيل : وكان قصدها في بروزهن على هذه الهيئات متكئات في أيديهن سكاكين يحززن بها شيئين :

أحدهما : دهشن عند رؤيته وشغلهن بأنفسهن ، فتقع أيديهن على أيديهن فيقطعنها فتبكتهن ، ويكون ذلك مكراً بهن إذ ذهلن عما أصابهنّ من تقطيع أيديهن ، وما أحسسن به مع الألم الشديد لفرط ما غلب عليهن من استحسان يوسف وسلبه عقولهن .

والثاني : التهويل على يوسف بمكرها إذا خرج على نساء مجتمعات في أيديهن الخناجر ، توهمه أنهن يثبن عليه ، فيكون يحذر مكرها دائماً . ولعله يجيبها إلى مرادها على زعمها ذلك ، ويوسف قد عصمه اللّه من كل ما تريده به من السوء .

وقرأ الزهري ، وأبو جعفر ، وشيبة : متكي مشدد التاء من غير همز بوزن متقي ، فاحتمل ذلك وجهين :

أحدهما : أن يكون من الاتكاء ، وفيه تخفيف الهمز كما قالوا في توضأت توضئة .

والثاني : يكون مفتعلاً من أوكيت السقاء إذا شددته أي : ما يشتددن عليه ، إما بالاتكاء ،

وإما بالقطع بالسكين .

وقرأ الأعرج : متكئاً مفعلاً من تكأ يتكأ إذا اتكأ .

وقرأ الحسن : وابن هرمز : متكأ بالمد والهمز ، وهو مفتعل من الاتكاء ، إلا أنه أشبع الفتحة فتولدت منها الألف كما قالوا : ومن ذم الرجال بمنتزاح . وقالوا : أعوذ باللّه من العقراب

الشائلات عقد الاذناب

وقرأ ابن عباس ، وابن عمر ، ومجاهد ، وقتادة ، والضحاك ، والجحدري ، والكلبي ، وإبان بن تغلب : متكئاً بضم الميم وسكون التاء وتنوين الكاف ، وجاء كذلك عن ابن هرمز .

وقرأ عبد اللّه ومعاذ ، وكذلك إلا أنهما فتحا الميم ، وتقدم تفسير متك ، ومتك في المفردات . وقالت : اخرج عليهن ، هذا الخطاب ليوسف عليه السلام . وخروجه يدل على طواعيتها فيما لا يعصي اللّه فيه ، وفي الكلام حذف تقديره : فخرج عليهن . ومعنى أكبرنه : أعظمنه ودهشن برؤية ذلك الجمال الفائق الرائع . قيل : كان فضل يوسف على الناس في الحسن كفضل القمر ليلة البدر على نجوم السماء . وفي حديث الإسراء أن الرسول صلى اللّه عليه وسلم لما أخبر بلقيا يوسف قيل : يا رسول اللّه كيف رأيته ؟ قال : { كالقمر ليلة البدر }

وقيل : كان إذا سار في أزقة مصر يرى تلألؤ وجهه على الجدران ، كما يرى نور الشمس .

وقيل : كان يشبه آدم يوم خلقه ربه .

وقيل : ورث الجمال عن جدته سارة . وقال عبد الصمد بن علي الهاشمي ، عن أبيه ، عن جده : معناه حضن ، وأنشد بعض النساء حجة لهذا التأويل :

تأتي النساء على أطهارهن ولا

تأتي النساء إذا أكبرن إكبارا

قال ابن عطية : وهذا قول ضعيف ، والبيت مصنوع مختلق ، كذلك قال الطبري وغيره من المحققين ، وليس عبد الصمد من رواة العلم رحمة اللّه .

وقال الزمخشري :

وقيل أكبرن بمعنى حضن ، والهاء للسكت يقال : أكبرت المرأة إذا حاضت ، وحقيقته من الكبر لأنها بالحيض تخرج عن حد الصغر إلى حد الكبر ، وكأن أبا الطيب أخذ من هذا التفسير قوله : خف اللّه واستر ذا الجمال ببرقع

فإن لحت حاضت في الخدور العواتق انتهى . وإجماع القراء على ضم الهاء في الوصل دليل على أنها ليست هاء السكت ، إذ لو كانت هاء السكت ، وكان من أجرى الوصل مجرى الوقف ، لم يضم الهاء . والظاهر أن الضمير يعود في أكبرنه على يوسف إن ثبت أن أكبر بمعنى حاض ، فتكون الهاء عائدة على المصدر أي : أكبرن الإكبار . وقطعن أيديهن أي جرحنها ، كما تقول : كنت أقطع اللحم فقطعت يدي . والتضعيف للتكثير إما بالنسبة لكثرة القاطعات ،

وإما بالنسبة لتكثير الحز في يد كل واحدة منهن . فالجرح كأنه وقع مراراً في اليد الواحدة وصاحبتها لا تشعر لما ذهبت بما راعها من جمال يوسف ، فكأنها غابت عن حسها . والظاهر أن الأيدي هي الجوارح المسماة بهذا الاسم .

وقال عكرمة : الأيدي هنا الأكمام ، ولما فعلن هذا الفعل الصعب من جرح أيديهن ، وغلب عليهن ما رأين من يوسف وحسنه قلن : حاش للّه . قرأ الجمهور : حاش للّه بغير ألف بعد الشين ، وللّه بلام الجر .

وقرأ أبو عمرو : حاشا للّه بغير ألف ، ولام الجر . وقرأت فرقة منهم الأعمش : حشى على وزن رمى للّه بلام الجر .

وقرأ الحسن : حاش بسكون الشين وصلاً ، ووقفاً بلام الجر .

وقرأ أبيّ وعبد اللّه : حاشى اللّه بالإضافة ، وعنهما كقراءة أبي عمرو ، قاله صاحب اللوامح .

وقرأ الحسن : حاش الإله .

قال ابن عطية : محذوفاً من حاشى . وقال صاحب اللوامح : بحذف الألف ، وهذه تدل على كونه حرف جر يجر ما بعده . فأما الإله فإنه فكه عن الإدغام ، وهو مصدر أقيم مقام المفعول ، ومعناه المألوه بمعنى المعبود . قال : وحذفت الألف من حاش للتخفيف انتهى . وهذا الذي قاله ابن عطية وصاحب اللوامح : من أن الألف في حاشى في قراءة الحسن محذوفة لا تتعين ، إلا أن نقل عنه أنه يقف في هذه القراءة بسكون الشين ، فإن لم ينقل عنه في ذلك شيء فاحتمل أن تكون الألف حذفت لالتقاء الساكنين ، إذ الأصل حاشى الإله ، ثم نقل فحذف الهمزة وحرّك اللام بحركتها ، ولم يعتد بهذا التحريك لأنه عارض ، كما تنحذف في يخشى الإله . ولو اعتد بالحركة لم تحذف الألف .

وقرأ أبو السمأل : حاشا للّه بالتنوين كرعياً للّه ، فأما القرءات للّه بلام الجر في غير قراءة أبي السمأل فلا يجوز أن يكون ما قبلها من حاشى ، أو حاش ، أو حشى ، أو حاش حرف جر ، لأنّ حرف الجر لا يدخل على حرف الجر ، ولأنه تصرف فيهما بالحذف ، وأصل التصرف بالحذف أن لا يكون في الحروف . وزعم المبرد وغيره كابن عطية : أنه يتعين فعليتها ، ويكون الفاعل ضمير يوسف أي : حاشى يوسف أن يقارف ما رمته به . ومعنى للّه : لطاعة اللّه ، أو لمكانة من اللّه ، أو لترفيع اللّه أن يرمي بما رمته به ، أو يذعن إلى مثله ، لأنّ ذلك أفعال البشر ، وهو ليس منهم ، إنما هو ملك . وعلى هذا تكون اللام في للّه للتعليل أي : جانب يوسف المعصية لأجل طاعة اللّه ، أو لما ذهب قبل . وذهب غير المبرد إلى أنها اسم ، وانتصابها انتصاب المصدر الواقع بدلاً من اللفظ بالفعل كأنه قال : تنزيهاً للّه . ويدل على اسميتها قراءة أبي السمال حاشا

منوناً ، وعلى هذا القول يتعلق للّه بمحذوف على البيان كلك بعد سقيا ، ولم ينون في القراآت المشهورة مراعاة لأصله الذي نقل منه وهو الحرف . ألا تراهم قالوا : من عن يمينه ، فجعلوا عن اسماً ولم يعربوه وقالوا : من عليه فلم يثبتوا ألفه مع المضمر ، بل أبقوا عن على بنائه ، وقلبوا ألف على مع الضمير مراعاة لأصلها ،

وأما قراءة الحسن وقراءة أبي بالإضافة فهو مصدر مضاف إلى ألفه كما قالوا : سبحان اللّه ، وهذا اختيار الزمخشري . و

قال ابن عطية :

وأما قراءة أبي بن كعب وابن مسعود فقال أبو علي : إن حاشى حرف استثناء ، كما قال الشاعر :

حاشى أبي ثوبان

وأما قراءة الحسن حاش بالتسكين ففيها جمع بين ساكنين ، وقد ضعفوا ذلك .

قال الزمخشري : والمعنى تنزيه اللّه من صفات العجز ، والتعجب من قدرته على خلق جميل مثله .

وأما قوله : حاشى للّه ، ما علمنا عليه من سوء ، فالتعجب من قدرته على خلق عفيف مثله . ما هذا بشراً لما كان غريب الجمال فائق الحسن عما عليه حسن صور الإنسان ، نفين عنه البشرية ، وأثبتن له الملكية ، لما كان مركوزاً في الطباع حسن الملك ، وإن كان لا يرى . وقد نطق بذلك شعراء العرب والمحدثون قال بعض العرب : فلست لأنسى ولكن لملاك

تنزل من جو السماء يصوب

وقال بعض المحدثين : قوم إذا قوبلوا كانوا ملائكة

حسناً وإن قوتلوا كانوا عفاريتا

وانتصاب بشراً على لغة الحجاز ، ولذا جاء { مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ } وما منكم من أحد عنه حاجزين ، ولغة تميم الرفع .

قال ابن عطية : ولم يقرأ به .

وقال الزمخشري : ومن قرأ على سليقته من بني تميم قرأ بشر بالرفع ، وهي قراءة ابن مسعود انتهى .

وقرأ الحسن وأبو الحويرث الحنفي : ما هذا بشرى ، قال صاحب اللوامح : فيحتمل أن يكون معناه بمبيع أو بمشرى أي : ليس هذا مما يشترى ويباع . ويجوز أن يكون ليس بثمن كأنه قال : هو أرفع من أن يجري عليه شيء من هذه الأشياء ، فالشراء هو مصدر أقيم مقام المفعول به . وتابعهما عبد الوارث عن أبي عمرو على ذلك ، وزاد عليهما : إلا ملك بكسر اللام واحد الملوك ، فهم نفوا بذلك عنه ذل المماليك وجعلوه في حيز الملوك ، واللّه أعلم انتهى . ونسب ابن عطية كسر اللام للحسن وأبي الحويرث اللذين قرآ بشرى قال : لما استعظمن حسن صورته قلن هذا ما يصلح أن يكون عبداً بشرى ، إنْ هذا إلا يصلح أن يكون ملكاً كريماً .

وقال الزمخشري : وقرىء ما هذا بشرى أي : بعبد مملوك لئيم ، إنْ هذا إلا ملك كريم . تقول : هذا بشرى أي حاصل بشرى ، بمعنى هذا مشتري . وتقول : هذا لك بشرى ، أي بكراً . وقال : وإعمال ما عمل ليس هي اللغة القدمى الحجازية ، وبها ورد القرآن انتهى . وإنما قال القدمي ، لأنّ الكثير في لغة الحجاز إنما هو جر الخبر بالباء ، فتقول : ما زيد بقائم ، وعليه أكثر ما جاء في القرآن .

وأما نصب الخبر فمن لغة الحجاز القديمة ، حتى أنّ النحويين لم يجدوا شاهداً على نصب الخبر في أشعار الحجازيين غير قول الشاعر :

وأنا النذير بحرة مسودة

تصل الجيوش إليكم أقوادها

أبناؤها متكنفون أباهم

حنقو الصدور وما هم أولادها

وقال الفراء وهو سامع لغة حافظ ثقة : لا يكاد أهل الحجاز ، ينطقون إلا بالباء ، فلما غلب على أهل الحجاز النطق بالباء

قال الزمخشري : اللغة القدمى الحجازية ، فالقرآن جاء باللغتين القدمى وغيرها .

﴿ ٣١