سورة الرعد

ثلاث وأربعون آية مكية ومدنية

بسم اللّه الرحمن الرحيم

١

انظر تسفير الآية:٢

٢

المر تلك آيات . . . . .

العمد : اسم جمع ، ومن أطلق عليه جمعاً فلكونه يفهم منه ما يفهم من الجمع ، وهي الأساطين . قال الشاعر : وجيش الجن إني قد أذنت لهم

يبغون تدمر بالصفاح والعمد

والمفرد عماد وعمد ، كإهاب وأهب .

وقيل : عمود وعمد كأديم وأدم ، وقضيم وقضم . والعماد والعمود ما يعمد به يقال : عمدت الحائط أعمده عمداً إذا أدعمته ، فاعتمد الحائط على العماد أي : امتسك بها .

ويقال : فلان عمدة قومه إذا كانوا يعتمدونه فيما يخزيهم . ويجمع عماد على عمد بضمتين كشهاب وشهب ، وعمود على عمد أيضاً كرسول ورسل ، وزبور وزبر هذا في الكثرة ، ويجمعان في القلة على أعمدة .

الصنو : الفرع يجمعه ، وآخر أصل واحد ، وأصله المثل ومنه قيل : للعم صنو ، وجمعه في لغة الحجاز صنوان بكسر الصاد كقنو وقنوان ، ويضمها في لغة تميم وقيس ، كذئب وذؤبان .

ويقال : صنوان بفتح الصاد وهو اسم جمع لا جمع تكسير ، لأنه ليس من أبنيته .

الجديد ضد الخلق والبالي ،

ويقال : ثوب جديد أي كما فرغ من عمله ، وهو فعيل بمعنى مفعول كأنه كما قطع من النسج .

المثلة : العقوبة ، ويجمع بالألف والتاء كسموة وسماوات . ولغة الحجاز مثلة بفتح الميم وسكون الثاء ، ولغة تميم بضم الميم وسكون الثاء ، وسميت العقوبة بذلك لما بين العقاب والمعاقب من المماثلة كقوله تعالى : { وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا } أو لأنها من المثال بمعنى القصاص . يقال : أمثلت الرجل من صاحبه ، وأقصصته ، أو لأنها لعظم نكالها يضرب بها المثل .

السارب اسم فاعل من سرب أي تصرف كيف شاء . قال الشاعر :

إني سربت وكنت غير سروب

وتقرب الأحلام غير قريب

وقال الآخر : وكل أناس قاربوا قيد فحلهم

ونحن حللنا قيده فهو سارب

أي فهو منصرف كيف شاء ، لا يدفع عن جهة ، يفتخر بعزة قومه . المحال : القوة والإهلاك قال الأعشى : فرع نبع يهش في غصن المج

د غزير الندى شديد المحال

وقال عبد المطلب : لا يغلبن صليبهم

ومحالهم أبداً محالك

ويقال : محل الرجل بالرجل مكر به وأخذه بسعاية شديدة ، والمماحلة المكايدة والمماكرة ومنه : تمحل لكذا أي : تكلف استعمال الحيلة واجتهد فيه . وقال أبو زيد : المحال النقمة ، وقال ابن عرفة : المحال الجادل ما حل عن أمره أي جادل . وقال القتبي : أي شديد الكيد ، وأصله من الحيلة ، جعل ميمه كميم مكان وأصله من الكون ، ثم يقال : تمكنت . وغلطه الأزهري في زيادة الميم قال : ولو كان مفعلاً لظهر من الواو مثل مرود ومحول ومحور ، وإنما هو مثال كمهاد ومراس .

الكف : عضو معروف ، وجمعه في القلة أكف كصك وأصك ، وفي الكثرة كفوف كصكوك ، وأصله مصدر كف .

ظل الشيء ما يظهر من خياله في النور ، وبمثله في الضوء .

الزبد : قال أبو الحجاج الأعلم هو ما يطرحه الوادي إذا جاش ماؤه واضطربت أموالجه . و

قال ابن عطية : هو ما يحمله السيل من غثاء ونحوه ، وما يرمي به على ضفتيه من الحباب الملتبك . وقال ابن عيسى : الزبد وضر الغليان وخبثه . قال الشاعر : فما الفرات إذا هب الرياح له

ترمي غواريه العبرين بالزبد الجفاء : اسم لما يجفاه السيل أي يرمي ، يقال : جفأت القدر بزبدها ، وجف السيل بزبده ، وأجفأ وأجفل . وقال ابن الأنباري : جفاء أي متفرقاً من جفأت الريح الغيم إذا قطعته ، وجفأت الرجل صرعته .

ويقال : جف الوادي إذا نشف .

{المر تِلْكَ ايَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ الْحَقُّ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ اللّه الَّذِى رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِى لاجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبّرُ الاْمْرَ يُفَصّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ } سقط : بلقاء ربكم توقنون : هذه السورة مكية في قول : الحسن ، وعكرمة ، وعطاء ، وابن جبير . وعن عطاء إلا قوله :{ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً } وعن غيره إلا قوله :{ هُوَ الَّذِى يُرِيكُمُ الْبَرْقَ } إلى قوله :{ لَهُ دَعْوَةُ الْحَقّ } ومدنية في قوله : الكلبي ، ومقاتل ، وابن عباس ، وقتادة ، واستثنيا آيتين قالا : نزلتا بمكة وهما { وَلَوْ أَنَّ قُرْانًا سُيّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ } إلى آخرهما

وعن ابن عباس إلا قوله :{ وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ } إلى آخر الآية وعن قتادة مكية إلا قوله :{ وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ } الآية حكاه المهدوي .

وقيل : السورة مدنية حكاه القاضي منذر بن سعد البلوطي ومكي بن أبي طالب .

قال الزمخشري : تلك إشارة إلى آيات السورة ، والمراد بالكتاب السورة أي : تلك آيات السورة الكاملة العجيبة في بابها . و

قال ابن عطية : من قال حروف أوائل السور مثال الحروف المعجم قال : الإشارة هنا بتلك هي إلى حروف المعجم ، ويصح على هذا أنْ يكون الكتاب يراد به القرآن ، ويصح أن يراد به التوراة والإنجيل . والمر على هذا ابتداء ، وتلك ابتداء ثان ، وآيات خبر الثاني ، والجملة خبر الأول انتهى . ويكون الرابط اسم الإشارة وهو تلك .

وقيل : الإشارة بتلك إلى ما قص عليه من أنباء الرسل المشار إليه بقوله : تلك من أنباء الغيب ، والذي قال : ويصح أن يراد به التوراة والإنجيل ، هو قريب من قول مجاهد وقتادة ، والإشارة بتلك إلى جميع كتب اللّه تعالى المنزلة . ويكون المعنى : تلك الآيات التي قصصت عليك خبرها هي آيات الكتاب الذي أنزلته قبل هذا الكتاب الذي أنزلته إليك . والظاهر أن قوله : والذي مبتدأ ، والحق خبره ، ومن ربك متعلق بانزل . وأجاز الحوفي أن يكون من ربك الخبر ، والحق مبتدأ محذوف ، أو هو خبر بعد خبر ، أو كلاهما خبر واحد انتهى . وهو إعراب متكلف . وأجاز الحوفي أيضاً أن يكون والذي في موضع رفع عطفاً على آيات ، وأجاز هو وابن عطية أن يكون والذي في موضع خفض . وعلى هذين الإعرابين يكون الحق خبر مبتدأ محذوف أي : هو الحق ، ويكون والذي أنزل مما عطف فيه الوصف على الوصف وهما لشيء واحد كما تقول : جاءني الظريف العاقل وأنت تريد شخصاً واحداً . ومن ذلك قول الشاعر : إلى الملك القرم وابن الهام

وليث الكتيبة في المزدحم

وأجاز الحوفي أن يكون الحق صفة الذي يعني : إذا جعلت والذي معطوفاً على آيات .

وأكثر الناس قيل : كفار مكة لا يصدقون أن القرآن منزل من عند اللّه تعالى .

وقيل : المراد به اليهود والنصارى ، والأولى أنه عام . ولما ذكر انتفاء الإيمان عن أكثر الناس ، ذكر عقيبه ما يدل على صحة التوحيد والمعاد وما يجذبهم إلى الإيمان فيما يفكر فيه العاقل ويشاهده من عظيم القدرة وبديع الصنع . والجلالة مبتدأ ، والذي هو الخبر بدليل قوله تعالى :{ وَهُوَ الَّذِى مَدَّ الاْرْضَ } ويجوز أن يكون صفة . وقوله : يدبر الأمر يفصل الآيات خبراً بعد خبر ، وينصره ما تقدمه من ذكر الآيات قاله الزمخشري .

وقرأ الجمهور : عمد بفتحتين .

وقرأ أبو حيوة ، ويحيى بن وثاب : بضمتين ، وبغير عمد في موضع الحال أي : خالية عن عمد . والضمير في ترونها عائد على السموات أي : تشاهدون السموات خالية عن عمد . واحتمل هذا الوجه أن يكون ترونها كلاماً مستأنفاً ، واحتمل أن يكون جملة حالية أي : رفعها مرئية لكم بغير عمد . وهي حال مقدرة ، لأنه حين رفعها لم نكن مخلوقين .

وقيل : ضمير النصب في ترونها عائد على عمد أي : بغير عمد مرئية ، فترونها صفة للعمد . ويدل على كنه صفة لعمد قراءة أبي : ترونه ، فعاد الضمير مذكراً على لفظ عمد ، إذ هو اسم جمع . قال أي ابن عطية : اسم جمع عمود والباب في جمعه عمد بضم الحروف الثلاثة كرسول ورسل انتهى . وهو وهم ، وصوابه : بضم الحرفين ، لأن الثالث هو حرف الإعراب فلا يعتبر ضمه في كيفية الجمع .

هذا التحريج يحتمل وجهين : أحدهما أنها لها عمد ، ولا ترى تلك العمد ، وهذا ذهب إليه مجاهد وقتادة .

وقال ابن عباس : وما يدريك أنها بعمد لا ترى ؟

وحكى بعضهم أن العمد جبل قاف المحيط بالأرض ، والسماء عليه كالقبة . والوجه

الثاني : أن يكون نفي العمد ، والمقصود نفي الرؤية عن العمد ، فلا عمد ولا رؤية أي : لا عمد لها فترى . والجمهور على أن السموات لا عمد لها البتة ، ولو كان لها عمد لاحتاجت تلك العمد إلى عمد ، ويتسلسل الأمر ، فالظاهر أنها ممسكة بالقدرة الإلهية . ألا ترى إلى قوله تعالى : { وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الاْرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } ونحو هذا من الآيات . وقال أبو عبد اللّه الرازي : العماد ما يعتمد عليه ، وهذه الأجسام واقفة في الحيز العالي بقدرة اللّه تعالى ، فعمدها قدرة اللّه تعالى ، فلها عماد في الحقيقة . إلا أن تلك العمد إمساك اللّه تعالى وحفظه وتدبيره وإبقاؤه إياها في الحيز العالي ، وأنتم لا ترون ذلك التدبير ، ولا تعرفون كيفية ذلك الإمساك انتهى .

وعن ابن عباس : ليست من دونها دعامة تدعمها ، ولا فوقها علاقة تمسكها . وأبعد من ذهب إلى أنّ ترونها خبر في اللفظ ومعناه الأمر أي : رها وانظروا هل لها من عمد ؟ وتقدم تفسير { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ }

قال ابن عطية : ثم هنا العطف الجمل لا للترتيب ، لأنّ الاستواء على العرش قبل رفع السموات . وفي الصحيح عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : { كان اللّه ولم يكن شيء قبله ، وكان عرشه على الماء ثم خلق السموات والأرض } انتهى . وسخر الشمس والقمر أي : ذللّهما لما يريد منهما .

وقيل : لمنافع العباد . وعبر بالجريان عن السير الذي فيه سرعة ، وكل مضافة في التقدير ، والظاهر أنّ المحذوف هو ضمير الشمس والقمر أي : كليهما يجري إلى أجل مسمى . و

قال ابن عطية : والشمس والقمر في ضمن ذكرهما ذكر الكواكب ، ولذلك قال : كل يجري لأجل مسمى ، أي : كل ما هو في معنى الشمس والقمر من المسخر ، وكل لفظة تقتضي الإضافة ظاهرة أو مقدرة انتهى . وشرح كل بقوله أي : كل ما هو في معنى الشمس والقمر ما أخرج الشمس والقمر من ذكر جريانهما إلى أجل مسمى ، وتحريره أن يقول على زعمه : إن الكواكب في ضمن ذكرهما أي ، ومما هو في معناهما إلى أجل مسمى .

وقال ابن عباس : منازل الشمس والقمر وهذ الحدود التي لا تتعداها ، قدر لكل منهما سيراً خاصاً إلى جهة خاصة بمقدار خاص من السرعة والبطء .

وقيل : الأجل المسمى هو يوم القيامة ، فعند مجيئه ينقطع ذلك الجريان والتسيير كما

قال تعالى : { إِذَا الشَّمْسُ كُوّرَتْ } وقال : وجمع الشمس والقمر ، ومعنى تدبير الأمر إنفاذه وإبرامه ، وعبر بالتدبير تقريباً للإفهام ، إذ التدبير إنما هو النظر في إدبار الأمور وعواقبها وذلك من صفات البشر ، والأمر أمر ملكوته وربوبيته ، وهو عام في جميع الأمور من إيجاد وإعدام وإحياء وإماتة وإنزال وحي وبعث رسل وتكليف وغير ذلك . وقال مجاهد : يدبر الأمر يقضيه وحده ، ويفصل الآيات يجعلها فصولاً مبينة مميزاً بعضها من بعض . والآيات هنا دلائله وعلاماته في سمواته على وحدانيته ، أو آيات الكتب المنزلة ، أو آيات القرآن أقوال .

وقرأ النخعي ، وأبو رزين ، وابان بن ثعلب ، عن قتادة : تدبر الأمر نفصل بالنون فيهما ، وكذا قال أبو عمرو الداني عن الحسن فيهما ، وافق في نفصل بالنون الخفاف ، وعبد الواحد عن أبي عمرو ، وهبيرة عن حفص . وقال صاحب اللوامح : جاء عن الحسن والأعمش نفصل بالنون فقط . وقال المهدوي : لم يختلف في يدبر ، أو ليس كما قال ؟ إذ قد تقدمت قراءة ابان . ونقل الداني عن الحسن : والذي تقتضيه الفصاحة أن هاتين الجملتين استفهام إخبار عن اللّه تعالى .

وقيل : يدبر حال من الضمير في وسخر ، ونفصل حال من الضمير في يدبر ، والخطاب في لعلكم للكفرة ، وتوقنون بالجزاء أو بأنّ هذا المدبر والمفصل لا بد لكم من الرجوع إليه .

٣

{وَهُوَ الَّذِى مَدَّ الاْرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ وَأَنْهَاراً وَمِن كُلّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِى الَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ } : لما قرر الدلائل السماوية أردفها بتقرير الدلائل الأرضية . ومد الأرض : بسطها طولاً وعرضاً ليمكن التصرف فيها ، والاستقرار عليها . قيل : مدها ودحاها من مكة من تحت البيت ، فذهبت كذا وكذا .

وقيل : كانت مجتمعة عند بيت المقدس فقال لها : اذهبي

كذا وكذا .

قال ابن عطية : وقوله مد الأرض ، يقتضي أنها بسيطة لا كرة ، وهذا هو ظاهر الشريعة . قال أبو عبد اللّه الداراني : ثبت بالدليل أنّ الأرض كرة ، ولا ينافي ذلك قوله : مد الأرض ، وذلك أنّ الأرض جسم عظيم . والكرة إذا كانت في غاية الكبر كان قطعة منها تشاهد كالسطح ، والتفاوت بينه وبين السطح لا يحصل إلا في علم اللّه تعالى . ألا ترى أنه قال : { وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً } مع أن العالم والناس يسيرون عليها فكذلك هنا . وأيضاً إنما ذكر مد الأرض ليستدل به على وجود الصانع ، وكونها مجتمعة تحت البيت أمر غير مشاهد ولا محسوس ، فلا يمكن الاستدلال به على وجود الصانع . فتأويل مد الأرض أنه جعلها بمقدار معين ، وكونها تقبل الزيادة والنقص أمر جائز ممكن في نفسه ، فالاختصاص بذلك المقدار المعين لا بد أن يكون بتخصيص مخصص ، وتقدير مقدر ، وبهذا يحصل الاستدلال على وجود الصانع انتهى . ملخصاً . وقال أبو بكر الأصم : المد البسط إلى ما لا يرى منتهاه ،

فالمعنى : جعل الأرض حجماً يسيراً لا يقع البصر على منتهاه ، فإن الأرض لو كانت أصغر حجماً مما هي الآن عليه لما كمل الانتفاع به انتهى . وهذا الذي ذكره من أنها لو كانت أصغر إلى آخره غير مسلم ، لأن المنتفع به من الأرض المعمور ، والمعمور أقل من غير المعمور بكثير . فلو أراد تعالى أن يجعلها مقدار المعمور المنتفع به لم يكن ذلك ممتنعاً ، فتحصل في قوله : مد الأرض ثلاث تأويلات بسطها بعد أن كانت مجتمعة ، واختصاصها بمقدار معين وجعل حجمها كبيراً لا يرى منتهاه . والرواسي الثوابت ، ومنه قول الشاعر : به خالدات ما يرمن وهامد

وأشعت أرسته الوليدة بالقهر

والمعنى : جبالاً رواسي ، وفواعل الوصف لا يطرد إلا في الإناث ، إلا أنّ جمع التكسير من المذكر الذي لا يعقل يجري مجرى جمع الإناث . وأيضاً فقد غلب على الجبال وصفها بالرواسي ، وصارت الصفة تعني عن الموصوف ، فجمع جمع الإسم كحائط وحوائط وكاهل وكواهل .

وقيل : رواسي جمع راسية ، والهاء للمبالغة ، وهو وصف الجبل . كانت الأرض مضطربة فثقلها اللّه بالجبال في أحيازها فزال اضطرابها ، والاستدلال بوجود الجبال على وجود الصانع القادر الحكيم . قيل : من جهة أنّ طبيعة الأرض واحدة ، فحصول الجبل في بعض جوانبها دون بعض لا بد أن يكون بتخليق قادر حكيم ، ومن جهة ما يحصل منها من المعادن الجوهرية والرخامية وغيرها كالنفط والكبريت يكون الجبل واحداً في الطبع ، وتأثير الشمس واحد دليل على أنّ ذلك بتقدير قاد قاهر متعالى عن مشابهة الممكنات ، ومن جهة تولد الأنهار منها .

وقيل : وذلك لأنّ الجبل جسم صلب ، ويتصاعد بخاره من قعر الأرض إليه ويحتب هناك ، فلا يزال يتكامل فيه فيحصل بسببه مياه كثيرة ، فلقوتها تشق وتخرج وتسيل على وجه الأرض ، ولهذا في أكثر الأمر إذا ذكر اللّه تعالى الجبال ذكر الأنهار كهذه الآية . وكقوله :{ وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِىَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُم مَّاء فُرَاتاً }{ وَأَلْقَى فِى الاْرْضِ رَوَاسِىَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً } ف

قال المفسرون : الأنهار المياه الجارية في الأرض . وقال الكرماني : مسيل الماء ، وتقدم الكلام في الأنهار في أوائل سورة البقرة . والظاهر أنّ قوله : من كل الثمرات متعلق بجعل . ولما ذكر الأنهار ذكر ما ينشأ عنها وهو الثمرات ، والزوج هنا الصنف الواحد الذي هو نقيض الاثنين ، يعني أنه حين مد الأرض جعل ذلك ، ثم تكثرت وتنوعت .

وقيل : أراد بالزوجين الأسود والأبيض ، والحلو والحامض ، والصغير والكبير ، وما أشبه ذلك من الأصناف المختلفة . و

قال ابن عطية : وهذه الآية تقتضي أن كل ثمرة موجود فيها نوعان ، فإن اتفق أن يوجد من ثمرة أكثر من نوعين فغير ضار في معنى الآية . وقال الكرماني : الزوج واحد ، والزوج اثنان ، ولهذا قيد ليعلم أنّ المراد بالزوج هنا الفرد لا التثنية ، فيكون أربعاً . وخص اثنين بالذكر ، وإن كان من أجناس الثمار ما يزيد على ذلك لأنه الأقل ، إذ لا

نوع تنقص أصنافه عن اثنين انتهى .

ويقال : إن في كل ثمرة ذكر وأنثى ، وأشار إلى ذلك الفراء . وقال أبو عبد اللّه الرازي : لما خلق اللّه تعالى العالم وخلق فيه الأشجار ، خلق من كل نوع من الأنواع اثنين فقط . فلو قال : خلق زوجين ، لم يعلم أنّ المراد النوع أو الشخص ، فلما قال : اثنين علمنا أنه أول ما خلق من كل زوجين اثنين لا أقل ولا أزيد . فالشجر والزرع كبني آدم ، حصل منهم كثرة ، وابتداؤهم من زوجين اثنين بالشخص وهما آدم وحواء . والاستدلال بخلق الثمرات على ما ذكر تعالى من جهة ربو الجنة في الأرض ، وشق أعلاها وأسفلها ، فمن الشق الأعلى الشجرة الصاعدة ، ومن الأسفل العروق الغائصة ، وطبيعة تلك الجنة واحدة ، وتأثيرات الطبائع والأفلاك والكواكب فيها واحد . ثم يخرج من الأعلى على ما يذهب صعداً في الهواء ، ومن الأسفل ما يغوص في الثرى ، ومن المحال أن يتولد من الطبيعة الواحدة طبيعتان متضادتان ، فعلمنا أن ذلك بتقدير قادر حكيم . ثم تلك الشجرة يكون بعضها خشباً ، وبعضها لوزاً ، وبعضها ثمراً ، ثم تلك الثمرة يحصل فيها أجسام مختلفة الطبائع وذلك بتقدير القادر الحكيم انتهى . وفيه تلخيص .

وقيل : تم الكلام عند قوله : ومن كل الثمرات ، فيكون معطوفاً على ما قبله من عطف المفردات ، ويتعلق بقوله : وجعل فيها رواسي .

فالمعنى : أنه جعل في الأرض من كل ذكر وأنثى اثنين ،

وقيل : الزوجان الشمس والقمر ،

وقيل : الليل والنهار ، يغشى الليل النهار تقدم تفسير هذه الجملة وقراآتها في الأعراف . وخص المتفكرين لأنّ ما احتوت عليه هذه الآيات من الصنيع العجيب لا يدرك إلا بالتفكر .

٤

{وَفِى الاْرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقَى بِمَاء واحِدٍ وَنُفَضّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ } : قطع جمع قطعة وهي الجزء . ومتجاورات متلاصقة متداينة ، قريب بعضها من بعض . قال ابن عباس ، ومجاهد ، وأبو العالية ، والضحاك : أرض طيبة وأرض سبخة ، نبتت هذه ، وهذه إلى جنبها لا تنبت . وقال ابن قتيبة وقتادة : يعني القرى المتجاورة .

وقيل : متجاورة في المكان ، مختلفة في الصفة ، صلبة إلى رخوة . وسحراً إلى مرد أو مخصبة إلى مجدبة ، وصالحة للزرع لا للشجر ، وعكسها مع انتظام جميعها في الأرضية .

وقيل : في الكلام حذف معطوف أي : وغير متجاورات . والمتجاورات المدن وما كان عامراً ، وغير المتجاورات الصحاري وما كان غير عامر .

قال ابن عطية : والذي يظهر من وصفه لها بالتجاور إنما هو من تربة واحدة ، ونوع واحد . وموضع العبرة في هذا أبين ، لأنها مع اتفاقها في الترب والماء تفضل القدرة والإرادة بعض أكلها على بعض ، كما قال النبي صلى اللّه عليه وسلم حين سئل عن هذه الآية فقال : { الدقل ، والقارس ، والحلو ، والحامض } و

قال ابن عطية : وقيد منها في هذه المثال ما جاور وقرب بعضه من بعض ، لأن اختلاف ذلك في الأكل أغرب . وفي بعض المصاحف : قطعاً متجاورات بالنصب على جعل .

وقرأ الجمهور : وجنات بالرفع ،

وقرأ الحسن : بالنصب ، بإضمار فعل .

وقيل : عطفاً على رواسي .

وقال الزمخشري : بالعطف على زوجين اثنين ، أو بالجر على كل الثمرات انتهى . والأولى إضمار فعل لبعد ما بين المتعاطفين في هذه التخاريج ، والفصل بينهما بجمل كثيرة .

وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحفص : وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان بالرفع في الجميع على مراعاة قطع . و

قال ابن عطية : عطفاً على أعناب ، وليست عبارة محررة أيضاً ، لأن فيها ما ليس بعطف وهو قوله : صنوان .

وقرأ باقي السباعة : بخفض الأربعة على مراعاة من أعناب قال : وجعل الجنة من الأعناب من رفع الزرع ، والجنة حقيقة إنما هي الأرض التي فيها الأعناب ، وفي ذلك تجوز ومنه قول الشاعر : كأن عيني في غربي مقبلة

من النواضح تسقي جنة سحقا

أي نخيل جنة إذ لا يوصف بالسحق إلا النخل . ومن خفض الزرع فالجنات من مجموع ذلك لا من الزرع وحده ، لأنه لا يقال للمزرعة جنة إلا إذا خالطها ثمرات .

وقرأ الجمهور : صنوان بكسر الصاد فيهما ، وابن مصرف والسلمي وزيد بن علي : بضمها ، والحسن وقتادة بفتحها ، وبالفتح هو اسم للجمع ، كالسعدان .

وقرأ عاصم ، وابن عامر ، وزيد بن علي : يسقى بالياء ، أي : يسقى ما ذكر . وباقي السبعة بالتاء ، وهي قراءة الحسن وأبي جعفر وأهل مكة . أنثوا لعود الضمير على لفظ ما تقدم ، ولقوله : ونفضل بالنون . وحمزة والكسائي بالياء ، وابن محيصن بالياء في تسقي ، وفي نفضل .

وقرأ يحيى بن يعمر ، وأبو حيوة ، والحلبي عن عبد الوارث : ويفضل بالياء ، وفتح الضاد بعضها بالرفع . قال أبو حاتم : وجدته كذلك في مصحف يحيى بن يعمر ، وهو أول من نقط المصاحف . وتقدم في البقرة خلاف القراء في ضم الكاف من الأكل وسكونها . والأكل بضم الهمزة المأكول كالنقض بمعنى المنقوض ، وبفتحها المصدر . والظاهر من تفسير أكثر المفسرين للصنوان أن يكون قوله : صنوان ، صفة لقوله : ونخيل . ومن فسره منهم بالمثل جعله وصفاً لجميع ما تقدم أي : أشكال ، وغيره إشكال . قيل : ونظير هذه الكلمة قنو وقنوان ، ولا يوجد لهما ثالث ونص على العنوان لأنها بمثال التجاور في القطع ، فظهر فيها عرابة اختلاف الأكل . ومعنى بماء واحد : ماء مطر ، أو ماء بحر ، أو ماء نهر ، أو ماء عين ، أو ماء نبع لا يسيل على وجه الأرض . وخص التفضيل في الأكل وإن كانت متفاضلة في غيره ، لأنه غالب وجوه الانتفاع من الثمرات . ألا ترى إلى تقاربها في الأشكال ، والألوان ، والروائح ، والمنافع ، وما يجري مرجى ذلك ؟ قيل : نبه اللّه تعالى في هذه الآية على قدرته وحكمته ، وأنه المدبر للأشياء كلها ، وذلك أن الشجرة تخرج أغصانها وثمراتها في وقت معلوم لا تتأخر عنه ولا تتقدم ، ثم يتصعد الماء في ذلك الوقت علواً علواً وليس من طبعه إلا التسفل ، يتفرق ذلك الماء في الورق والأغصان والثمر كل بقسطه وبقدر ما فيه صلاحه ، ثم تختلف طعوم الثمار والماء واحد ، والشجر جنس واحد . وكل ذلك دليل على مدبر دبره وأحكمه ، لا يشبه المخلوقات . قال الراجز : والأرض فيها عبرة للمعتبر

تخبر عن صنع مليك مقتدر

تسقى بماء واحد أشجارها

وبقعة واحدة قرارها

والشمس والهواء ليس يختلف

وأكلها مختلف لا يأتلف

لو أن ذا من عمل الطبائع

أو أنه صنعة غير صانع

لم يختلف وكان شيئاً واحدا

هل يشبه الأولاد إلا الوالدا

الشمس والهواء يا معاند

والماء والتراب شيء واحد

فما الذي أوجب ذا التفاضلا

إلا حكيم لم يرده باطلا

. وقال الحسن : هذا مثل ضربه اللّه تعالى لقلوب بني آدم ، كانت الأرض طينة واحدة فسطحها ، فصارت قطعاً متجاورات ، فنزل عليها ماء واحد من السماء فتخرج هذه زهرة وثمرة ، وتخرج هذه سبخة وملحاً وخبثاً وكذلك الناس خلقوا من آدم . فنزلت عليهم من السماء مذكرة ، قربت قلوب وخشعت قلوب ، وقست قلوب ولهت قلوب . وقال الحسن : ما جالس أحد القرآن إلا قام عنه بزيادة أو نقصان .

قال تعالى : { وَنُنَزّلُ مِنَ الْقُرْءانِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا } ، وهو شبيه بكلام الصوفية . إن في ذلك قال ابن عباس : في اختلاف الألوان والروائح والطعوم ، لآيات : لحججاً ودلالات لقوم يعقلون : يعلمون الأدلة فيستدلون بها على وحدانية الصانع القادر . ولما كان الاستدلال في هذه الآية بأشياء في غاية الوضوح من مشاهدة تجاور القطع ، والجنات وسقيها وتفضيلها ، جاء ختمها بقوله : لقوم يعقلون ، بخلاف الآية التي قبلها ، فإن الاستدلال بها يحتاج إلى

تأمل ومزيد نظر جاء ختمها بقوله لقوم يتفكرون .

٥

انظر تسفير الآية:٦

٦

{وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَءذَا كُنَّا تُرَابًا أَءنَّا لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الاْغْلَالُ فِى أَعْنَاقِهِمْ ...} : ولما أقام الدلائل على عظيم قدرته بما أودعه من الغرائب في ملكوته التي لا يقدر عليها سواه ، عجب الرسول عليه الصلاة والسلام من إنكار المشركين وجدانيته ، وتوهينهم قدرته لضعف عقولهم فنزل . وإن تعجب قال ابن عباس : وإن تعجبْ من تكذيبهم إياك بعدما كانوا حكموا عليك أنك من الصادقين ، فهذا أعجب .

وقيل : وإن تعجب يا محمد من عبادتهم ما لا يملك لهم ضراً ولا نفعاً بعدما عرفوا الدلائل الدالة على التوحيد ، فهذا أعجب .

قال الزمخشري : وإن تعجب من قولهم يا محمد في إنكار البعث ، فقولهم عجيب حقيق بأنْ يتعجب منه ، لأن من قدر على إنشاء ما عدد عليك من الفطر العظيمة ، ولم يعي بخلقهن ، كانت الإعادة أهون شيء عليه وأيسره ، فكان إنكارهم أعجوبة من الأعاجيب انتهى . وليس مدلول اللفظ ما ذكر ، لأنه جعل متعلق عجبه صلى اللّه عليه وسلم هو قولهم في إنكار البعث ، فاتحذ الجزاء والشرط ، إذ صار التقدير : وإن تعجب من قولهم في إنكار البعث فاعجب من قولهم في إنكار البعث ، وإنما مدلول اللفظ أن يقع منك عجب ، فليكن من قولهم : أئذا كنا الآية . وكان المعنى الذي ينبغي أن يتعجب منه : هو إنكار البعث ، لأنه تعالى هو المخترع للأشياء . ومن كان قادراً على إبرازها من العدم الصرف كان قادراً على الإعادة ، كما

قال تعالى :{ وَهُوَ الَّذِى اللّه الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ } وهو أهون عليه أي : هين عليه .

و

قال ابن عطية : هذه الآية توبيخ للكفرة ، أي : إن تعجب يا محمد من جهالتهم وإعراضهم عن الحق ، فهم أهل لذلك ، وعجيب وغريب أن تنكر قلوبهم العود بعد كوننا خلقاً جديداً . ويحتمل اللفظ منزعاً آخر : إن كنت تريد عجباً فهلم ، فإنّ من أعجب العجب قولهم انتهى . واختلف القراء في الاستفهامين إذا اجتمعا في أحد عشر موضعاً ، هنا موضع ، وكذا في المؤمنين ، وفي العنكبوت ، وفي النمل ، وفي السجدة ، وفي الواقعة ، وفي والنازعات ، وفي بني إسرائيل موضعان ، وكذا في والصافات .

وقرأ نافع والكسائي بجعل الأول استفهاماً ، والثاني خبراً ، إلا في العنكبوت والنمل بعكس نافع . وجمع الكسائي بين الاستفهامين في العنكبوت ،

وأما في النمل فعلى أصله إلا أنه زاد نوناً فقرأ :{ إِنَّنَا لَمُخْرَجُونَ }

وقرأ ابن عامر بجعل الأول خبراً ، والثاني استفهاماً ، إلا في النمل والنازعات فعكس ، وزاد في النمل نوناً كالكسائي . وإلا في الواقعة فقرأهما باستفهامين ، وهي قراءة باقي السبعة في هذا الباب ، إلا ابن كثير وحفصاً قرأ في العنكبوت بالخبر في الأول وبالاستفهام في الثاني ، وهم على أصولهم في اجتماع الهمزتين من تخفيف وتحقيق وفصل بين الهمزتين وتركه . وقولهم : فعجب ، هو خبر مقدم ولا بد فيه من تقدير صفة ، لأنه لا يتمكن المعنى بمطلق فلا بد من قيده وتقديره واللّه أعلم : فعجب أي عجب ، أو فعجب غريب . وإذا قدرناه موصوفاً جاز أن يعرب مبتدأ لأنه نكرة فيها مسوغ الابتداء وهو الوصف ، وقد وقعت موقع الابتداء ، ولا يضر كون الخبر معرفة ذلك . كما أجاز سيبويه ذلك في كم مالك ؟ لمسوغ الابتداء فيه وهو الاستفهام ، وفي نحو : اقصد رجلاً خير منه أبوه ، لمسوغ الابتداء أيضاً ، وهو كونه عاملاً فيما بعده . وقال أبو البقاء :

وقيل عجب بمعنى معجب ، قال : فعلى هذا يجوز أن يرتفع قولهم به انتهى . وهذا الذي أجازه لا يجوز ، لأنه لا يلزم من كون الشيء بمعنى الشيء أن يكون حكمه في العمل كحكمه ، فمعجب يعمل ، وعجب لا يعمل ، ألا ترى أن فعلاً كذبح ، وفعلاً كقبض ، وفعلة كغرفة ، هي بمعنى مفعول ، ولا يعمل عمله ، فلا تقول : مررت برجل ذبح كبشه ، ولا برجل قبض ماله ، ولا برجل غرف ماءه ، بمعنى مذبوح كبشه ومقبوض ماله ومعروف ماؤه . وقد نصوا على أن هذه تنوب في الدلالة لا في العمل عن المفعول . وقد حصر النحويون ما يرفع الفاعل ، والظاهر أن أئذا معمول لقولهم محكى به .

وقال الزمخشري : أئذا كنا إلى آخر قولهم يجوز أن يكون في محل الرفع بدلاً من قولهم انتهى . هذا إعراب متكلف ، وعدول

عن الظاهر . وإذا متمحضة للظرف وليس فيها معنى الشرط ، فالعامل فيها محذوف يفسره ما يدل عليه الجملة الثانية وتقريره : أنبعث ، أو أنحشر . أولئك إشارة إلى قائل تلك المقالة ، وهو تقرير مصمم على إنكار البعث ، فلذلك حكم عليهم بالكفر إذ عجزوا قدرته من إعادة ما أنشأ واخترع ابتداء . ولما حكم عليهم بالكفر في الدنيا ذكر ما يؤولون إليه في الآخرة على سبيل الوعيد ، وأبرز ذلك في جملة مستقلة مشار إليهم . والظاهر أنّ الأغلال تكون حقيقة في أعناقهم كالأغلال ، ثم ذكر ما يستقرون عليه في الآخرة ، كما قال : إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل .

وقيل : يحتمل أن يكون مجازاً أي : هم مغلولون عن الإيمان ، فتجري إذاً مجرى الطبع والختم على القلوب كما

قال تعالى : { إِنَّا جَعَلْنَا فِى أَعْناقِهِمْ أَغْلَالاً } وكما قال الشاعر :

لهم عن الرشد أغلال وأقياد

وقيل : الأغلال هنا عبارة عن أعمالهم الفاسدة في أعناقهم كالأغلال ، ثم ذكر ما يستقرون عليه في الآخرة ، وأبرز ذلك في جملة مستقلة مشار إليهم رادة عليهم ما أنكروه من البعث ، إذ لا يكون أصحاب النار إلا بعد الحشر . ولما كانوا متوعدين بالعذاب إن أصروا على الكفر ، وكانوا مكذبين بما أنذروا به من العذاب ، سألوا واستعجلوا في الطلب أن يأتيهم العذاب وذلك على سبيل الاستهزاء كما قالوا :{ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً } وقالوا :{أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا}

قال ابن عباس : السيئة العذاب ، والحسنة العافية . وقال قتادة : بالشر قبل الخير .

وقيل : بالبلاء والعقوبة قبل الرخاء والعافية ، وهذه الأقوال متقاربة . وقد خلت من قبلهم المثلات أي : يستعجلونك بالسيئة مع علمهم بما حل بغيرهم من مكذبي الرسل في الأمم السالفة ، وهذا يدل على سخف عقولهم ، هذ يستعجلون بالعذاب . والحالة هذه فلو أنه لم يسبق تعذيب أمثالهم لكانوا ربما يكون لهم عذر ، ولكنهم لا يعتبرون فيستهزؤون . قال ابن عباس : المثلات العقوبات المستأصلات ، كمثلات قطع الأنف والأذن ونحوهما . وقال السدي : النقمات . وقال قتادة : وقائع اللّه الفاضحة ، كمسخ القردة والخنازير . وقال مجاهد : الأمثال المضروبة .

وقرأ الجمهور : بفتح الميم ، وضم التاء ، ومجاهد والأعمش بفتحهما .

وقرأ عيسى بن عمير

وفي رواية الأعمش وأبو بكر : بضمهما ، وابن وثاب : بضم الميم وسكون الثاء ، وابن مصرف بفتح الميم وسكون الثاء . ولذو مغفرة للناس على ظلمهم ترجية للغفران ، وعلى ظلمهم في موضع الحال والمعنى : أنه يغفر لهم مع ظلمهم أنفسهم . باكتساب الذنوب أي : ظالمين أنفسهم . قال ابن عباس : ليس في القرآن آية أرجى من هذه . وقال الطبري : ليغفر لهم في الآخرة . وقال القاسم بن يحيى وقوم : ليغفر لهم الظلم السالف بتوبتهم في الآنف .

وقيل : ليغفر السيئات الصغيرة لمجتنب الكبائر .

وقيل : ليغفر لهم بسترة وإمهاله ، فلا يعجل لهم العذاب مع تعجيلهم بالمعصية .

قال ابن عطية : والظاهر من معنى المغفرة هنا هو ستره في الدنيا ، وإمهاله للكفرة . ألا ترى التيسير في لفظ مغفرة ، وأنها منكرة مقلدة وليس فيها مبالغة كما في قوله تعالى :{ وَإِنّى لَغَفَّارٌ لّمَن تَابَ } ومحط الآية يعطي هذا حكمه عليهم بالنار . ثم قال : ويستعجلونك ، فلما ظهر سوء فعلهم وجب في نفس السامع تعذيبهم ، فأخبر بسيرته في الأمم ، وأنه يمهل مع ظلم الكفرة انتهى . ولشديد العقاب : تخويف وارتقاب بعد ترجية . وقال سعيد بن المسيب : لما نزلت هذه الآية قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : { لولا عفو اللّه ومغفرته لما هنأ لأحد عيش ، ولولا عقابه لا تكل كل أحد }

وفي حديث آخر :  { إن العبد لو علم قدر عفو اللّه لما أمسك عن ذنب ، ولو علم قدر عقوبته لقمع نفسه في عبادة اللّه عز وجل} .

٧

{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ ايَةٌ مّن رَّبّهِ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلّ قَوْمٍ هَادٍ } : عن ابن عباس : لما نزلت وضع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يده على صدره فقال : { أنا منذر } وأومأ بيده إلى منكب عليّ وقال :  { أنت الهادي يا عليّ ، بك يهتدى من بعدي } ، وقال القشيري : نزلت في النبي صلى اللّه عليه وسلم وعليّ بن أبي طالب ، والذين كفروا مشركو العرب ، أو من أنكر نبوته من مشركيهم والكفار ، ولم يعتدوا بالآيات الخارقة المنزلة كانشقاق القمر ، وانقياد الشجر ، وانقلاب العصا سيفاً ، ونبع الماء من بين الأصابع ، وأمثال هذه . فاقترحوا عناداً آيات كالمذكورة في سبحان ، وفي الفرقان كالتفجير للينبوع ، والرقي في السماء ، والملك ، والكنز ، فقال تعالى لنبيه صلى اللّه عليه وسلم : إنما أنت منذر تخوفهم من سوء العاقبة ، وناصح كغيرك من الرسل ، ليس لك الإتيان بما اقترحوا . إذ قد أتى بآيات عدد الحصا ، والآيات كلها متماثلة في صحة الدعوى ، لا تفاوت فيها . فالاقتراح إنما هو عناد ، ولم يجر اللّه العادة بإظهار الآيات المقترحة إلا للآية التي حتم بعذابها واستئصالها .

وهاد : يحتمل أن يكون قد عطف على منذر ، وفصل بينهما بقوله لكل قوم ، وبه قال : عكرمة ، وأبو الضحى . فإن أخذت : ولكل قوم هاد ، على العموم فمعناه : وداع إلى الهدى ، كما قال : { بعثت إلى الأسود والأحمر } فإن أخذت هاد على حقيقته فلكل قوم مخصوص أي : ولكل قوم قائلين هاد .

وقيل : ولكل أمة سلفت هاد أي : نبي يدعوهم ، والقصد : فليس أمرك ببدع ولا منكر ، وبه قال : مجاهد ، وابن زيد ، والزجاج قال : نبي يدعوهم بما يعطي من الآيات ، لا بما يتحكمون فيه من الاقتراحات . وتبعهم الزمخشري . فقال : هاد من الأنبياء يهديهم إلى الدين ، ويدعوهم إلى اللّه بوجه من الهداية ، وبآية خص بها ، ولم يجعل الأشياء شرعاً واحداً في آيات مخصوصة . وقالت فرقة : الهادي في هذه الآية هو اللّه تعالى ، روي أن ذلك عن ابن عباس ، ومجاهد ، وابن جبير ، وهاد : على هذا مخترع للإرشاد .

قال ابن عطية : وألفاظ تتعلق بهذا المعنى ، وتعرف أن اللّه تعالى هو الهادي من غير هذا الموضع .

وقال الزمخشري : في هذا القول وجه آخر : وهو أن يكون المعنى : أنهم يجحدون كون ما أنزل عليك آيات ويعاندون ، فلا يهمنك ذلك ، إنما أنت منذر ، فما عليك إلا أن تنذر ، لا أنْ تثبت الإيمان بالإلجاء ، والذي يثبته بالإلجاء هو اللّه تعالى انتهى . ودلّ كلامه على الاعتزال . وقال في معنى القول الذي تبع فيه مجاهد ، وابن زيد ما نصه : ولقد دل بما أردفه من ذكر آيات علمه وتقديره الأشياء على قضايا حكمته ، أن أعطاء كل منذر آيات أمر مدبر بالعلم النافذ ، مقدر بالحكمة الربانية . ولو علم في إجابتهم إلى مقترحهم خيراً أو مصلحة لأجابهم إليه .

وقال الزمخشري أيضاً في معنى أن الهادي هو اللّه تعالى أي : بالإلجاء على زعمه ما نصه :

وأما هذا الوجه الثاني فقد دل به على أنّ من هذه القدرة قدرته وهذا علمه ، هو القادر وحده على هدايتهم العالم بأي طريق يهديهم ، ولا سبيل إلى ذلك لغيره انتهى . وقالت فرقة : الهادي علي بن أبي طالب ، وإن صح ما روي عن ابن عباس مما ذكرناه في صدر هذه الآية ، فإنما جعل الرسول صلى اللّه عليه وسلم علي بن أبي طالب مثالاً من علماء الأمّة وهداتها إلى الدين ، فكأنه قال : أنت يا علي هذا وصفك ، ليدخل في ذلك أبو بكر وعمر وعثمان وسائر علماء الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم ، ثم كذلك علماء كل عصر ، فيكون المعنى على هذا : إنما أنت يا محمد منذر ، ولكل قوم في القديم والحديث دعاة هداة إلى الخير . وقال أبو العالية : الهادي العل . وقال علي بن عيسى : ولكل قوم سبقهم إلى الهدى إلى نبي أولئك القوم .

وقيل : هود قائد إلى الخير أو إلى الشر قال تعالى في الخير :{ وَهُدُواْ إِلَى الطَّيّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُواْ إِلَى صِراطِ الْحَمِيدِ } وقال في الشر :{ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِراطِ الْجَحِيمِ } قاله أبو صالح . ووقف ابن كثير على هاد وواق حيث واقعا ، وعلى وال هنا وباق في النخل بإثبات الياء ، وباقي السبعة بحذفها . وفي الإقناع لأبي جعفر بن الباذش عن ابن مجاهد : الوقف على ميع الباب لابن كثير بالياء ، وهذا لا يعرفه المكيون . وفيه عن أبي يعقوب الأزرق عن ورش أنه خيره في الوقف في جميع الباب ، بين أن يقف بالياء ، وبين أن يقف بحذفها . والباب هو كل منقوص منون غير منصرف .

٨

انظر تسفير الآية:١١

٩

انظر تسفير الآية:١١

١٠

انظر تسفير الآية:١١

١١

{اللّه يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الاْرْحَامُ ...} : مناسبة هذه الآية لما قبلها هو ما نبه عليه الزمخشري من أنه تعالى لما طلب الكفار أن ينزل على الرسول صلى اللّه عليه وسلم آية وكم آية نزلت ، أردف ذلك بذكر آيات علمه الباهر ، وقدرته النافذة ، وحكمته البليغة ، وأن ما نزل عليه من الآيات كافية لمن تبصر ، فلا يقترحون غيرها ، وأنّ نزول الآيات إنما هو على ما يقدره اللّه تعالى .

وقيل : مناسبة ذلك أنه لما تقدم إنكارهم البعث لتفرق الأجزاء واختلاط بعضها ببعض ، بحيث لا يتهيأ الامتياز بينها ، نبه على إحاط علمه ، وأن من كان عالماً بجميع المعلومات هو قادر على إعادة ما أنشأ .

وقيل : مناسبة ذلك أنهم لما استعجلوا بالسيئة نبه على علمه بجميع المعلومات ، وأنه إنما نزل العذاب بحسب ما يعلم كونه مصلحة .

قال ابن عطية : قص في هذا المثل المنبه عل قدرة اللّه القاضية بتجويز البعث ، فمن ذلك الواحدة من الجنس التي هي مفاتيح الغيب يعني : التي لا يعلمها إلا هو ، وما تحمله الإناث من النطفة من كل نوع من الحيوان . وهذا البدء يبين أنه لا يتعذر على القادر عليها الإعادة . واللّه يعلم : كلام مستأنف مبتدأ وخبر ، ومن فسر الهادي باللّه جاز أن يكون اللّه خبر مبتدأ محذوف أي : هو اللّه تعالى ، ثم ابتدأ إخباراً عنه فقال : يعلم . ويعلم هنا متعدية إلى واحد ، لأنه لا يراد هنا النسبة ، إنما المراد تعلق بالمفردات . وما جوزوا أن تكون بمعنى الذي ، والعائد عليها في صلاتها محذوف ، ويكون تغيض متعدياً . وأن تكون مصدرية ، فيكون تغيض وتزداد لا زمان . وسماع تعديتهما ولزومهما ثابت من كلام العرب . وأن تكون استفهاماً مبتدأ ، وتحمل خبره ويعلم متعلقه ، والجملة في موضع المفعول . وتحمل هنا من حمل البطن ، لا من الحمل على الظهر . وفي مصحف أبي : ما تحمل كل أنثى ، وما تضع وتحمل على التفسير ، لأنها زيادة لم تثبت في سواد المصحف .

قال ابن عباس : تغيض تنقص من الخلقة ، وتزداد تتم . وقال مجاهد : غيض الرحم أن ينهرق دماً على الحمل ، فيضعف الولد في البطن ويسحب ، فإذا بقي الولد في بطنها بعد تسعة أشهر مدة كمل فيها من خمسة وصحبه ما نقص من هراقة الدم ، انتهى كلام ابن عباس . وقال عكرمة : تغيض بطهور الحيض في الحبل ، وتزداد بدم النفاس بعد الوضع . وقال قتادة : الغيض السقط ، والزيادة البقاء فوق تسعة أشهر . وقال الضحاك : غيض الرحم أن تسقط المرأة الولد ، والزيادة إن تضعه لمدة كاملة تامة . وعن الضحاك أيضاً : الغيض النقص من تسعة أشهر ، والزيادة إلى سنتين .

وقيل : من عدد الأولاد ، فقد تحمل واحداً ، وقد تحمل أكثر . وقال الجمهور : غيض الرحم الدم على الحمل .

قال الزمخشري : إن كانت ما موصولة

فالمعنى : أن يعلم ما تحمل من الولد على أي حال هو من ذكورة وأنوثة ، وتمام وخدج ، وحسن وقبح ، وطول وقصر ، وغير ذلك من الأحوال الحاضرة المترقية . ويعلم ما تغيضه الأرحام تنقصه ، وما تزداد أي تأخذه زائداً تقول : أخذت منه حقي وازددت منه كذا ، ومنه :{ وَازْدَادُواْ تِسْعًا }

ويقال : زدته فزاد بنفسه وازداد . وما تنقصه الرحم وتزداد عدد الولد ، فإنها تشتمل على واحد ، وقد تشتمل على اثنين وثلاثة وأربعة . ويروى أن شريكاً كان رابع أربعة في بطن أمه . ومنه جسد الولد ، فإنه يكون تاماً ومخدجاً ، ومنه مدة ولادته فإنها تكون أقل من تسعة أشهر ، فما زاد عليها إلى سنة عند أبي حنيفة ، وإلى أربع عند

الشافعي ، وإلى خمس عند مالك .

وقيل : إن الضحاك ولد لسنتين ، وهرم بن حبان بقي في بطن أمه أربع سنين ولذلك سمي هرماً ومنه الدم فإنه يقل ويكثر . وإن كانت مصدرية

فالمعنى : أنه يعلم حمل كل أنثى ، ويعلم غيض الأرحام وازديادها ، فلا يخفى عليه شيء من ذلك من أوقاته وأحواله . ويجوز أن يراد غيوض ما في الأرحام وزيادته ، فأسند الفعل إلى الأرحام وهو لما فيها ، على أنّ الفعل غير متعد ويعضده قول الحسن : الغيضوضة أن يقع لثمانية أشهر أو أقل من ذلك ، والازدياد أن يزيد على تسعة أشهر . وعنه : الغيض الذي يكون سقطاً لغير تمام ، والازدياد ولد التمام انتهى . وهو جمع ما قاله المفسرون مفرقاً . وبمقدار يقدر ، ويطلق المقدار على القدر ، وعلى ما يقدر به الشيء . والظاهر عموم قوله : وكل شيء عنده بمقدار ، أي : بحد لا يتجاوزه ولا يقتصر عنه .

وقال ابن عباس : وكل شيء من الثواب والعقاب عنده بمقدار أي : بقدر الطاعة والمعصية . وقال الضحاك : من الغيض والازدياد . وقال قتادة : من الرزق والأجل .

وقيل : صحة الجنين ومرضه ، وموته ، وحياته ، ورزقه ، وأجله . والأحسن حمل هذه الأقوال على التمثيل لا على التخصيص ، لأنه لا دليل عليه .

والمراد من العندية العلم أي : هو تعالى عالم بكمية كل شيء ، وكيفيته على الوجه المفصل المبين ، فامتنع وقوع اللبس في تلك المعلومات .

وقيل المراد بالعندية أنه تعالى خصص كل حادث بوقته بعينه ، وحالة معينة بمشيئته الأزلية وإرادته السرمدية . ولما ذكر أنه عالم بأشياء خفية لا يعلمها إلا هو ، وكانت أشياء جزئية من خفايا علمه ، ذكر أن علمه محيط بجميع الأشياء ، فعلمه تعالى متعلق بما يشاهده العالم تعلقه بما يغيب عنهم .

وقيل : الغائب المعدوم ، والشاهد الموجود .

وقيل : الغائب ما غاب عن الحس ، والشاهد ما حضر للحس .

وقرأ زيد بن علي : عالم الغيب بالنصب ، الكبير العظيم الشأن الذي كل شيء دونه ، المتعال المستعلي على كل شيء بقدرته ، أو الذي كبر عن صفات المحدثين وتعالى عنها . وأثبت ابن كثير وأبو عمر

وفي رواية : ياء المتعال وقفاً ووصلاً ، وهو الكثير في لسان العرب ، وحذفها الباقون وصلاً ووقفاً ، لأنها كذلك رسمت في الخط . واستشهد سيبويه بحذفها في الفواصل ومن القوافي ، وأجاز غيره حذفها مطلقاً . ووجه حذفها مع أنها تحذف مع التنوين ، وإن تعاقب التنوين ، فحذفت مع المعاقب إجراء له مجرى المعاقب . ولما ذكر أنه تعالى عالم الغيب والشهادة على العموم ، ذكر تعالى تعلق علمه بشيء خاص من أحوال المكلفين ، فقال : سواء منكم الآية . والمعنى : سواء في علمه المسر القول ، والجاهر به لا يخفى عليه شيء من أقواله . وسواء تقدم الكلام فيه ، وفي معانيه ، وهو هنا بمعنى مستو ، وهو لا يثني في أشهر اللغات .

وحكى أبو زيد تثنيته فتقول : هما سواآن .

وقيل : هو على حذف أي : سواء منكم سرّ من أسرّ القول ، وجهر من جهر به ، وأعربوا سواء خبر مبتدأ أو من أسر ، والمعطوف عليه مبتدأ . ويجوز أن يكون سواء مبتدأ لأنه موصوف بقوله : منكم ، ومن المعطوف الخبر . وكذا أعرب سيبويه قول العرب : سواء عليه الخير والشر . وقول ابن عطية : إن سيبويه ضعف ذلك بأنه ابتداء بنكرة ، وهو لا يصح .

وقال ابن عباس : مستخف مستتر وسارب ظاهر . وقال مجاهد : مستخف بالمعاصي . وتفسير الأخفش وقطرب : المستخفي هنا بالظاهر . وإن كان موجوداً في اللغة ينبو عنه اقترانه بالليل ، واقتران السارب بالنهار . وتقابل الوصفان في قوله : ومن هو مستخف ، إذ قابل من أسر القول .

وفي قوله : سارب بالنهار إذ قابل ومن جهر به . والمعنى واللّه أعلم إنه تعالى محيط علمه بأقوال المكلفين وأفعالهم ، لا يعزب عنه شيء من ذلك . وظاهر التقسيم يقتضي تكرار من ، لكنه حذف للعلم به ، إذ تقدم قوله : من أسرّ القول ومن جهر به ، لكن ذلك لا يجوز على مذهب البصريين ، وأجازه الكوفيون . ويجوز أن يكون : وسارب ، معطوفاً على من ، لا على مستخف ، فيصح التقسيم . كأنه قيل : سواء شخص هو مستخف بالليل ، وشخص هو سارب بالنهار . ويجوز أن يكون معطوفاً على مستخف . وأريد

بمن اثنان ، وحمل على المعنى في تقسيم خبر المبتدأ الذي هو هو ، وعلى لفظ من في إفراد هو . والمعنى : سواء اللذان هما مستخف بالليل والسارب بالنهار ، هو رجل واحد يستخفي بالليل ويسرب بالنهار ، وليرى نصرفه في الناس .

قال ابن عطية : فهذا قسم واحد ، جعل اللّه نهار راحته . والمعنى : هذا والذي أمره كله واحد بريء من الريب ، سواء في اطلاع اللّه تعالى على الكل . ويؤيد هذا التأويل عطف السارب دون تكرار من ، ولا يأتي حذفها إلا في الشعر . وتحتمل الآية أن تتضمن ثلاثة أصناف . فالذي يسر طرف ، والذي يجهر طرف مضاد للأول ، والثالث متوسط متلون يعصي بالليل مستخفياً ويظهر البراءة بالنهار انتهى .

وقيل : ومن هو مستخف بالليل بظلمته ، يريد إخفاء عمله فيه كما قال : أزورهم وسواد الليل يشفع لي . وقال :

وكم لظلام الليل عندي من يد

والظاهر عود الضمير في له على من ، كأنه قيل لمن أسرّ ، ومن جهر ، ومن استخفى ، ومن سرب : معقبات .

وقال ابن عباس : هو عائد على من قوله : ومن هو مستخف ، وكذلك في باقي الضمائر التي في الآية .

قال ابن عطية : والمعقبات على هذا حرس الرجل وجلاوزته الذين يحفظونه ، قال : والآية على هذا في الرؤساء الكافرين . واختار هذا القول الطبري ، وهو قول عكرمة وجماعة . وقال الضحاك : هو السلطان المحرس من أمر اللّه انتهى . وحذف لا ، لا في الجواب قسم بعيد . قال المهدوي : ومن جعل المعقبات الحرس

فالمعنى : يحفظونه من اللّه على ظنه وزعمه .

وقيل : الضمير في له عائد على اللّه تعالى أي : للّه معقبات ملائكة من بين يدي العبد ومن خلفه ، والمعقبات على هذا الملائكة الحفظة على العباد وأعمالهم ، والحفظة لهم أيضاً . وروي فيه حديث عن عثمان عن النبي صلى اللّه عليه وسلم ، وهو قول مجاهد والنخعي .

وقيل : الضمير في له عائد على الرسول صلى اللّه عليه وسلم وإن لم يجر له ذكر قريب ، وقد جرى ذكره في قوله : { وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ مّن رَّبّهِ } والمعنى : أنّ اللّه تعالى جعل لنبيه صلى اللّه عليه وسلم حفظة من متمردي الجن والإنس . قال أبو زيد : الآية في النبي صلى اللّه عليه وسلم نزلت في حفظ اللّه له من أربد بن قيس ، وعامر بن الطفيل ، من القصة التي سنشير إليها بعد في ذكر الصواعق . والقول الأول في عود الضمير هو الأولى الذي ينبغي أن يحمل عليه وعليه يفسر . ويقول : لما تقدم أنّ من أسر القول ومن جهر به ، ومن استخفى بالليل وسرب بالنهار ، مستوفي علم اللّه تعالى لا يخفى عليه من أحوالهم شيء ، ذكر أيضاً أن لذلك المذكور معقبات : جماعات من الملائكة تعقب في حفظه وكلاءته . ومعقب : وزنه مفعل ، من عقب الرجل إذا جاء على عقب الآخر ، لأن بعضهم يعقب بعضاً ، أو لأنهم يعقبون ما يتكلمون به فيكتبونه .

وقال الزمخشري : والأصل معتقبات ، فأدغمت التاء في القاف كقوله :{ وَجَاء الْمُعَذّرُونَ } يعني المعتذرون . ويجوز معقبات بكسر العين ، ولم يقرأ به انتهى . وهذا وهم فاحش ، لا تدغم التاء في القاف ، ولا القاف في التاء ، لا من كلمة ولا من كلمتين . وقد نص التصريفيون على أنْ القاف والكاف يدغم كل منهما في الآخر ، ولا يدغمان في غيرهما ، ولا يدغم غيرهما فيهما .

وأما تشبيهه بقوله : وجاء

المعذرون ، فلا يتعين أن يكون أصله المعتذرون ، وقد تقدم في براءة توجيهه ، وأنه لا يتعين ذلك فيه .

وأما قوله : ويجوز معقبات بكسر العين ، فهذا لا يجوز لأنه بناه على أن أصله معتقبات ، فأدغمت التاء في القاف . وقد ذكرنا أن ذلك وهم فاحش ، والمعقبات جمع معقبة .

وقيل : الهاء في معقبة للمبالغة ، فيكون كرجل نسابة .

وقيل : جمع معقبة ، وهي الجماعة التي تأتي بعد الأخرى ، جمعت باعتبار كثرة الجماعات ، ومعقبة ليست جمع معقب كما ذكر الطبري . وشبه ذلك برجل ورجال ورجالات ، وليس الأمر كما ذكر ، لأنّ ذلك كجمل وجمال وجمالات ، ومعقبة ومعقبات إنما هي كضارب وضاربات قاله : ابن عطية . وينبغي أن يتأول كلام الطبري على أنه أراد بقوله : جمع معقب ، أنه أطلق من حيث الاستعمال على جمع معقب وإن كان أصله أن يطلق على مؤنث معقب ، وصار مثل الواردة للجماعة الذين يردون ، وإن كان أصله أن يطلق على مؤنث وارد ، من حيث أنْ يجمع جموع التكسير للعامل يجوز أن يعامل معاملة المفردة المؤنثة في الأخبار . وفي عود الضمير لقوله : العلماء قائلة كذا ، وقولهم الرجال وأعضادها ، وتشبيه الطبري ذلك برجل ورجالات من حيث المعنى ، لا من حيث صناعة النحويين ، فبين أنّ معقبة من حيث أريد به الجمع كرجال من حيث وضع للجمع ، وأن معقبات من حيث استعمل جمعاً لمعقبة المستعمل للجمع كرجالات الذي هو جمع رجال .

وقرأ عبيد بن زياد على المنبر له المعاقب ، وهي قراءة أبي وإبراهيم .

وقال الزمخشري : وقرىء له معاقيب . قال أبو الفتح : هو تكسير معقب بسكون العين وكسر القاف ، كمطعم ومطاعم ، ومقدم ومقاديم ، وكان معقباً جمع على معاقبة ، ثم جعلت الياء في معاقيب عوضاً من الهاء المحذوفة في ممعاقبة .

وقال الزمخشري : جمع معقب أو معقبة ، والياء عوض من حذف أحد القافين في التكسير . وقرىء له معتقبات من اعتقب .

وقرأ أبي من بين يديه ، ورقيب من خلفه .

وقرأ ابن عباس : ورقباء من خلفه ، وذكر عنه أبو حاتم أنه قرأ معقبات من خلفه ، ورقيب من بين يديه . وينبغي حمل هذه القراآت على التفسير ، لا أنها قرآن لمخالفتها سواد المصحف الذي أجمع عليه المسلمون . والظاهر أن قوله تعالى : من أمر اللّه متعلق بقوله : يحفظونه . قيل : مِن للسبب كقولك : كسرته من عرى ، ويكون معناها ومعنى الباء سواء ، كأنه قيل : يحفظونه بأمر اللّه وبإذنه ، فحفظهم إياه متسبب عن أمر اللّه لهم بذلك . قال ابن جريج : يحفظون عليه عمله ، فحذف المضاف . وقال قتادة : يكتبون أقواله وأفعاله . وقراءة علي ، وابن عباس ، وعكرمة ، وزيد بن علي ، وجعفر بن محمد : يحفظونه بأمر اللّه ، يؤيد تأويل السببية في من وفي هذا التأويل .

قال الزمخشري : يحفظونه من أجل أمر اللّه تعالى أي : من أجل أن اللّه تعالى أمرهم بحفظه . وقال ابن عطية ، وقتادة : معنى من أمر اللّه ، بأمر اللّه أي : يحفظونه بما أمر اللّه ، وهذا تحكم في التأويل انتهى . وليس بتحكم وورود من للسبب ثابت من لسان العرب .

وقيل : يحفظونه من بأس اللّه ونقمته كقولك : حرست زيداً من الأسد ، ومعنى ذلك : إذا أذن اللّه لهم في دعائهم أن يمهله رجاء أن يتوب عليه وينيب كقوله تعالى : { قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ } يصير معنى الكلام إلى التضمين أي : يدعون له بالحفظ من نقمات اللّه رجاء توبته . ومن جعل المعقبات الحرس ، وجعلها في رؤساء الكفار فيحفظونه معناه : في زعمه وتوهمه من هلاك اللّه ، ويدعون قضاءه في ظنه ، وذلك لجهالته باللّه تعالى ، أو يكون ذلك على معنى التهلك به ، وحقيقة التهكم هو أن يخبر بشيء ظاهره مثلاً الثبوت في ذلك الوصف ، وفي الحقيقة هو منتصف ، ولذلك حمل بعضهم يحفظونه على أنه مراد به : لا يحفظونه ، فحذف لا . وعلى هذا التأويل في من تكون متعلقة كما ذكرنا بيحفظونه ، وهي في موضع نصب . وقال الفراء وجماعة : في الكلام تقديم وتأخير أي : له معقبات من أمر اللّه يحفظونه من بين يديه ومن خلفه . وروي هذا عن مجاهد ، والنخعي ، وابن جريج ، فيكون من أمر اللّه في موضع رفع لأنه صفة لمرفوع ، ويتعلق إذ ذاك بمحذوف أي : كائنة من أمر اللّه تعالى ، ولا يحتاج في هذا المعنى إلى تقدير تقديم وتأخير ، بل وصفت المعقبات بثلاث صفات في الظاهر :

أحدها : من بين يديه ومن خلفه أي : كائنة من بين يديه . والثانية : يحفظونه أي :

حافظات له . والثالثة : كونها من أمر اللّه ، وإن جعلنا من بين يديه ومن خلفه يتعلق بقوله : يحفظونه ، فيكون إذ ذاك معقبات وصفت بصفتين : إحداهما : يحفظونه من بين يديه ومن خلفه . والثانية : قوله : من أمر اللّه أي : كائنة من أمر اللّه . غاية ما في ذلك أنه بدىء بالوصف بالجملة قبل الوصف بالجار والمجرور ، وذلك شائع فصيح ، وكان الوصف بالجملة الدالة على الديمومة ، في الحفظ آكد ، فلذلك قدم الوصف بها . وذكر أبو عبد اللّه الرازي في الملائكة الموكلين علينا ، وفي الكتبة منهم أقوالاً عن المنجمين وأصحاب الطلمسات ، وناس سماهم حكماء الإسلام يوقف على ذلك من تفسيره . ولما ذكر تعالى إحاطة علمه بخفايا الأشياء وجلاياها ، وأن الملائكة تعقب على المكلفين لضبط ما يصدر منهم ، وإن كان الصادر منهم خيراً وشراً ، ذكر تعالى أن ما خولهم فيه من النعم وأسبغ عليهم من الإحسان لا يزيله عنهم إلى الانتقام منهم إلا بكفر تلك النعم ، وإهمال أمره بالطاعة ، واستبدالها بالمعصية . فكان في ذكر ذلك تنبيه على لزوم الطاعة ، وتحذير لو بال المعصية . والظاهر أنْ لا يقع تغير النعم بقوم حتى يقع تغيير منهم بالمعاصي .

قال ابن عطية : وهذا الموضع مؤول ، لأنه صح الخبر بما قدرت الشريعة من أخذ العامة بذنوب الخاصة وبالعكس ، ومنه قوله تعالى : { وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ } الآية . وسؤالهم للرسول صلى اللّه عليه وسلم : أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : { نعم إذا كثر الخبث في أشياء كثيرة } فمعنى الآية : حتى يقع تغيير إما منهم ،

وإما من الناظر لهم ، أو ممن هو منهم تسبب ، كما غير اللّه تعالى المنهزمين يوم أحد بسبب تغيير الرماة ما بأنفسهم ، إلى غير هذا في أمثله الشريعة . فليس معنى الآية أنه ليس ينزل بأحد عقوبة إلا بأن يتقدم منه ذنب ، بل قد تنزل المصائب بذنوب الغير . وثم أيضاً مصائب يزيد اللّه بها أجر المصاب ، فتلك ليست تغييراً انتهى . وفي الحديث :  { إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه يوشك أن يعمهم اللّه بعقاب }

وقيل : هذا يرجع إلى قوله : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ } فبين تعالى أنه لا ينزل بهم عذاب الاستئصال إلا والمعلوم منهم الإصرار على الكفر والمعاصي ، إلا إن علم اللّه تعالى أنّ فيهم ، أو في عقبهم من يؤمن ، فإنه تعالى لا ينزل بهم عذاب الاستئصال . وما موصولة صلتها بقوم ، وكذا ما بأنفسهم . وفي ما إبهام لا يتغير المراد منها : إلا بسياق الكلام ، واعتقاد محذوف يتبين به المعنى ، والتقدير : لا يغير ما بقوم من نعمة وخير إلى ضد ذلك حتى يغيروا ما بأنفسهم من طاعته إلى توالي معصيته . والسوء يجمع على كل ما يسوء من مرض وخير وعذاب ، وغير ذلك من البلاء . ولما كان سياق الكلام في الانتقام من العصاة اقتصر على قوله : سوء ، وإلا فالسوء والخير إذا أراد اللّه تعالى شيئاً منها فلا مرد له ، فذكر السواء مبالغة في التخويف . وقال السدي : من وال من ملجأ .

وقال الزمخشري : ممن يلي أمرهم ، ويدفع عنهم .

وقيل : من ناصر يمنع من عذابه .

١٢

انظر تسفير الآية:١٤

١٣

انظر تسفير الآية:١٤

١٤

{هُوَ الَّذِى يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِىء السَّحَابَ الثّقَالَ وَيُسَبّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلْائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاء وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِى اللّه وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ } : لما خوف تعالى العباد بقوله :{ وَإِذَا أَرَادَ اللّه بِقَوْمٍ سُوءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ } أتبعه بما يشتمل على أمور دالة على قدرة اللّه تعالى ، وحكمته تشبه النعم من وجه ، والنقم من وجه . وتقدم الكلام في البرق والرعد والصواعق والسحاب في البقرة . قال ابن عباس والحسن : خوفاً من الصواعق ، وطمعاً في الغيث . وقال قتادة : خوفاً للمسافرين من أذى المطر ، وطمعاً للمقيم في نفعه . وقريب منه ما ذكره الزجاج وهو : خوفاً للبلد الذي يخاف ضرر المطر له ، وطمعاً لمن يرجو الانتفاع به ، وذكر الماوردي : خوفاً من العقاب ، وطمعاً في الثواب .

وعن ابن عباس وغيره : أنه كنى بالبرق عن الماء ، لما كان المطر يقاربه غالباً وذلك من باب إطلاق الشيء مجازاً على ما يقاربه غالباً . قال الحوفي : خوفاً وطمعاً مصدران في موضع الحال من ضمير الخطاب ، وجوزه الزمخشري أي : خائفين وطامعين ، قال : ومعنى الخوف والطمع ، أن وقوع الصواعق يخوف عند لمع البرق ، ويطمع في الغيث . قال أبو الطيب

فتى كالسحاب الجون يخشى ويرتجى

يرجى الحيا منه وتخشى الصواعق

.

وقيل : يخاف البرذ المطر من له منه ضرر كالمسافر ، ومن في جرينته التمر والزبيب ، ومن له بيت يكف ، ومن البلاد ما لا ينتفع أهله بالمطر كأهل مصر انتهى . وقوله الأول في تفسير الخوف والطمع ، هو قول ابن عباس والحسن الذي تقدم ، وقوله : كأهل مصر ، ليس كما ذكر ، بل ينتفعون بالمطر في كثير من أوقات نمو الزرع ، وأنه به ينمو ويجود ، بل تمر على الزرع أوقات يتضرر وينقص نموه بامتناع المطر . وأجاز الزمخشري أن يكونا منصوبين على الحال من البرق ، كأنه في نفسه خوف وطمع ، أو على ذا خوف وطمع . وقال أبو البقاء : خوفاً وطمعاً مفعول من أجله .

وقال الزمخشري : لا يصح أن يكون مفعولاً لهما ، لأنهما ليسا بفعل الفاعل الفعل المعلل إلا على تقدير حذف المضاف أي : إرادة خوف وطمع ، أو على معنى إخافة وإطماعاً انتهى . وإنما لم يكونا على ظاهرهما بفعل الفاعل الفعل المعلل لأن الإرادة فعل اللّه ، والخوف والطمع فعل للمخاطبين ، فلم يتحد الفاعل في الفعل في المصدر . وهذا الذي ذكره الزمخشري من شرط اتحاد الفاعل فيهما ليس مجمعاً عليه ، بل من النحويين من لا يشترط ذلك ، وهو مذهب ابن خروف . والسحاب اسم جنس يذكر ويؤنث ، ويفرد ويجمع ، قال :  { والنخل باسقات } ولذلك جمع في قوله : الثقال ، ويعني بالماء ، وهو جمع ثقيلة . قال مجاهد وقتادة : معناه تحمل الماء ، والعرب تصفها بذلك . قال قيس بن أخطم : فما روضة من رياض القطا

كأن المصابيح جودانها

بأحسن منها ولا مزنة

ولوح يكشف أوجانها

والدلوج المثقلة ، والظاهر إسناد التسبيح إلى الرعد . فإن كان يصح منه التسبيح فهو إسناد حقيقي ، وإن كان مما لا يصح منه فهو إسناد مجازي . وتنكيره في قوله : { فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ } ينفي أن يكون علماً لملك . وقال ابن الأنباري : الإخبار بالصوت عن التسبيح مجاز كما يقول القائل : قد غمني كلامك .

وقال الزمخشري : ويسبح سامعو الرعد من العباد الراجين للمطر حامدين له ، أي : يضجون بسبحان اللّه والحمد للّه . وفي الحديث : { سبحان من يسبح الرعد بحمده } وعن علي :  { سبحان من سبحت له إذا اشتد الرعد } قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { اللّهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك ، وعافنا قبل ذلك } ومن بدع المتصوفة : الرعد صعقات الملائكة ، والبرق زفرات أفئدتهم ، والمطر بكاؤهم انتهى . و

قال ابن عطية :

وقيل في الرعد أنه ريح يختنق بين السحاب ، روى ذلك عن ابن عباس . وهذا عندي لا يصح لأنّ هذا نزغات الطبيعيين وغيرهم من الملاحدة . وقال أبو عبد اللّه الرازي : إعلم أن المحققين من الحكماء يذكرون أن هذه الآثار العلوية إنما تتم بقوى روحانية فلكية ، وللسحاب روح معين من الأرواح الفلكية يدبره ، وكذا القول في الرياح ، وفي سائر الآثار العلوية . وهذا عين ما قلناه أن الرعد اسم لملك من الملائكة يسبح اللّه تعالى ، فهذا الذي قاله المفسرون بهذه العبارة هو عين ما ذكره المحققون من الحكماء ، فكيف بالعاقل الإنكار ؟ انتهى . وهذا الرجل غرضه جريان ما تنتحله الفلاسفة على مناهج الشريعة ، وذلك لا يكون أبداً ، وقد تقدم أقوال المفسرين في الرعد في البقرة ، فلم يجمعوا على أنّ اسم لملك . وعلى تقدير أن يكون اسماً لملك ، لا يلزم أن يكون ذلك الملك يدبر لا للسحاب ولا غيره ، إذ لا يستفاد مثل هذا إلا من النبي صلى اللّه عليه وسلم المشهود له بالعصمة ، لا من الفلاسفة الضلال . والظاهر عود الضمير في قوله : من خيفته ، على اللّه تعالى كما عاد في قوله : بحمده . ومعنى خيفته : من هيبته وإجلاله .

وقيل : يعود على الرعد . والملائكة أعوانه جعل اللّه له ذلك فهم خائفون خاضعون طائعون له . والرعد وإن كان مندرجاً تحت لفظ الملائكة ، فهو تعميم بعد تخصيص انتهى . وهو قول ضعيف . ومن مفعول فيصيب ، وهو من باب الإعمال ، أعمل فيه الثاني إذ يرسل يطلب من وفيصيب يطلبه ، ولو أعمل الأول لكان التركيب : ويرسل الصواعق فيصيب بها على من يشاء ، لكن جاء على الكثير في لسان العرب المختار عند البصريين وهو إعمال الثاني . ومفعول يشاء محذوف تقديره : من يشاء إصابته . وفي الخبر أنّ الرسول صلى اللّه عليه وسلم بعث إلى جبار من العرب ليسلم فقال : أخبرني عن إله محمد ؟ أمن لؤلؤ هو أم من ذهب ؟ فنزلت عليه صاعقة ونزلت الآية فيه . وقال مجاهد : ناظر يهودي الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، فبينا هو كذلك نزلت صاعقة فأخذت قحف رأسه ، فنزلت الآية فيه . وقال ابن جريج : سبب نزولها لها قصة أربد بن ربيعة وعامر بن الطفيل ، وذكر قصتهما المشهورة ، مضمونها أن عامراً توعد الرسول صلى اللّه عليه وسلم إذا لم يجبه إلى ما طلب ، وأنه وأربداً ما الفتك به ، فعصمه اللّه تعالى ، وأصاب عامراً بغدّة فمات غريباً ، وأريد بصاعقة فقتلته ، ولأخيه لبيد فيه عدة مرات . منها قوله : أخشى على أربد الحتوف ولا

أرهب نوء السماك والأسد

فجعني البريق والصواعق بالفا

رس يوم الكريهة النجد

وهذه الضلالات الأربع التي وصلت بها الذي تدل على القدرة الباهرة ، والتصرف التام في العالم العلوي والسفلي ، فالمتصف بها ينبغي أن لا يجادل فيه ، وأن يعتقد ما هو عليه من الصفات العلوية ، والضمير في وهم يجادلون ، عائد على الكفار المكذبين للرسول صلى اللّه عليه وسلم ، المنكرين الآيات ، يجادلون في قدرة اللّه على البعث وإعادة الخلق بقولهم : { مَن يُحىِ الْعِظَامَ وَهِىَ رَمِيمٌ } وفي وحدانيته باتخاذ الشركاء والانداد . ونسبة التوالد إليه بقولهم : الملائكة بنات اللّه تعالى والمعنى : أنه عز وجل متصف بهذه الأوصاف ، ومع ذلك رتبوا عليها غير مقتضاها من المجادلة فيه وفي أوصافه تعالى ، وكان مقتضاها التسليم لما جاءت به الأنبياء .

وقيل : وهم يجادلون حال من مفعول يشاء أي : فيصيب بها من يشاء في حال جدالهم كما جرى لليهودي . وكذلك الجبار ، ولا ربد . وهو شديد المحال ، جملة حالية من الجلالة .

وقرأ الجمهور : المحال بكسر الميم . فعن ابن عباس : المحال العداوة ، وعنه الحقد . وعن عليّ : الأخذ ، وعن مجاهد : القوة . وعن قطرب : الغضب . وعن الحسن : الهلاك بالمحل ، وهو القحط .

وقرأ الضحاك والأعرج : المحال بفتح الميم . فعن ابن عباس : الحول . وعن عبيدة : الحيلة . يقال : المحال والمحالة وهي الحيلة ، ومنه قول العرب في مثل : المرء يعجز لا المحالة .

قال الزمخشري : ويجوز أن يكون المعنى شديد العقاب ، ويكون مثلاً في القوة والقدرة ، كما جاء : فساعد اللّه أشد ، وموساه أحدّ ، لأنّ الحيوان إذا اشتد غاية كان منعوتاً بشدّة القوة والاضطلاع بما يعجز عنه غيره . ألا ترى إلى قولهم : فقرته الفواقر ، وذلك أنّ الفقار عمود الظهر وقوامسه . والضمير في له عائد على اللّه تعالى ، ودعوة الحق قال ابن عباس : دعوة الحق لا إله إلا اللّه ، وما كان من الشريعة في معناها . وقال علي بن أبي طالب ، دعوة الحق التوحيد . وقال الحسن : إن اللّه هو الحق ، فدعاؤه دعوة الحق .

وقيل : دعوة الحق دعاؤه عند الخوف ، فإنه لا يدعي فيه إلا هو ، كما قال :{ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ } قال الماوردي : وهو أشبه بسياق الآية .

وقيل : دعوة الطلب الحق أي : مرجو

الإجابة ، ودعاء غير اللّه لا يجاب ،

وقال الزمخشري : فيه وجهان .

أحدهما : أن تضاف الدعوة إلى الحق الذي هو نقيض الباطل ، كما تضاف الكلمة إليه في قوله : { كلمة الحق } للدلالة على أنّ الدعوة ملابسة للحق مختصة به ، وأنها بمعزل من الباطل ، والمعنى : أن اللّه سبحانه يدعى فيستجيب الدعوة ، ويعطى الداعي سؤله إن كانت مصلحة له ، فكانت دعوته ملابسة للحق لكونه حقيقاً بأن يوجه إليه الدعاء ، لما في دعوته من الجدوى والنفع ، بخلاف ما لا ينفع ولا يجدي دعاؤه .

والثاني : أن تضاف إلى الحق الذي هو اللّه عز وجل على معنى دعوة المدعو الحق الذي يسمع فيجيب . وعن الحسن رحمه اللّه : الحق هو اللّه تعالى ، وكل دعاء إليه دعوة الحق انتهى . وهذا الوجه الثاني الذي ذكره الزمخشري لا يظهر ، لأنّ مآله إلى تقدير : للّه دعوة للّه ، كما تقول : لزيد دعوة زيد ، وهذا التركيب لا يصح . والذي يظهر أن هذه الإضافة من باب إضافة الموصوف إلى الصفة كقوله : ولدار الآخرة على أحد الوجهين ، والتقدير : للّه الدعوة الحق بخلاف غيره فإنّ دعوتهم باطلة ، والمعنى : أن اللّه تعالى الدعوة له هي الدعوة الحق . ولما ذكر تعالى جدال الكفار في اللّه تعالى ، وكان جدالهم في إثبات آلهة معه ، ذكر تعالى أنه له الدعوة الحق أي : من يدعو له فدعوته هي الحق ، بخلاف أصنامهم التي جادلوا في اللّه لأجلها ، فإن دعاءها باطل لا يتحصل منه شيء . فقال : { وَالَّذِينَ يَدْعُونَ}

قال الزمخشري : والآلهة الذين يدعونهم الكفار من دون اللّه لا يستجيبون لهم بشيء من طلباتهم إلا استجابة كاستجابة باسط كفيه أي : كاستجابة الماء من بسط كفيه إليه ، يطلب منه أن يبلغ فاه ، والماء جماد لا يشعر ببسط كفيه ولا بعطشه وحاجته إليه ، ولا يقدر أن يجيب دعاءه ويبلغ فاه . وكذلك ما يدعونه جماد لا يحس بدعائهم ، ولا يستطيع إجابتهم ، ولا يقدر على نفعهم .

وقيل : شبهوا في قلة جدوى دعائهم لآلهتهم بمن أراد أن يغرف الماء بيديه ليشربه ، فبسطهما ناشراً أصابعه فلم تبق كفاه منه شيئاً ، ولم يبلغ طلبته من شربه انتهى . فالضمير في يدعون عائد على الكفار ، والعائد على الذين محذوف أي : يدعونهم . ويؤيده قراءة من قرأ بالتاء في تدعون ، وهي قراءة اليزيدي عن أبي عمر .

وقيل : الذين أي : الكفار الذين يدعون ، ومفعول يدعون محذوف أي : يدعون الأصنام . والعائد على الذين الواو في يدعون ، والواو في لا يستجيبون عائد في هذا القول على مفعول يدعون المحذوف ، وعلى القول الأول على الذين . قال ابن عباس : كالناظر إلى خياله في الماء يريد تناوله ، فكذا المحتاج يخيل إليه في الاحتياج إليه خيال الاحتياج إليه . وقال الضحاك : كمن بسط يديه إلى الماء ليص إليه بلا اغتراف . وقال أبو عبيدة : أي كالقابض على الماء ليس على شيء ، قال : والعرب تضرب المثل في الساعي فيما لا يدركه بالقابض على الماء ، وأنشد سيبويه : فأصبحت فيما كان بيني وبينها

من الود مثل القابض الماء في اليد

وقال آخر : وإني وإياكم وشوقاً إليكم

كقابض ماء لم تسعه أنامله

.

وقيل : شبه الكفار في دعائهم لأصنامهم عند ضرورتهم برجل عطشان لا يقدر على الماء ، جلس على شفير بئر يدعو الماء ليبل غلته ، فلا هو يبلغ قعر البئر إلى الماء ، ولا الماء يرتفع إليه لأنه جماد ولا يحس بعطشه ودعائه ، كذلك ما يدعو الكفار من الأوثان جماد لا يحس بدعائهم ، ولا يستطيع إجابتهم ، ولا يقدر على نفعهم انتهى .

والكاف في موضع نصب أي : مثل استجابة ، واستجابة مضافة في التقدير إلى باسط ، وهي إضافة المصدر إلى المفعول . وفاعل المصدر محذوف تقديره : كإجابة الماء من يبسط كفيه إليه ، فلما حذف أظهر في قوله : إلى الماء ، ولو كان ملفوظاً به لعاد الضمير إليه ، فكان يكون التركيب كفيه إليه . هذا الذي يقدر من كلام الزمخشري في هذا التشبيه ، وتبعه أبو البقاء . و

قال ابن عطية : ومعنى الكلام الذي يدعونهم الكفار إلى حوائجهم ومنافعهم لا يجيبون ، ثم مثل تعالى مثالاً لإجابتهم بالذي يبسط كفيه إلى الماء ويشير إليه بالإقبال ، فهو لا يبلغ فمه أبداً ، فكذلك إجابة هؤلاء والانتفاع بهم لا يقع انتهى . وفاعل ليبلغ ضمير الماء ، وليبلغ متعلق بباسط ، وما هو أي : وما الماء يبالغه ، أي : يبالغ الفم . ويجوز أن يكون هو ضمير الفم ، والهاء في ببالغه للماء أي : وما الفم ببالغ الماء ، لأنّ كلاًّ منهما لا يبلغ الآخر على هذه الحالة . وقرىء : كباسط كفيه بتنوين باسط . وما دعاء الكافرين إلا في ضلال أي : في حيرة ، أو في اضمحلال ، لأنه لا يجدي شيئاً ولا يفيد ، فقد ضل ذلك الدعاء عنهم كما ضل المدعون .

قال تعالى : { أَيْنَمَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّه } قالوا ضلوا .

قال الزمخشري : إلا في ضياع لا منفعة فيه ، لأنهم إن دعوا اللّه لم يجبهم ، وإن دعوا الآلهة لم نستطع إجابتهم .

وقال ابن عباس : أصوات الكافرين محجوبة عن اللّه فلا يسمع دعاؤهم .

١٥

انظر تسفير الآية:١٦

١٦

{وَللّه يَسْجُدُ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُم بِالْغُدُوّ وَالاْصَالِ قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ... } : إن كان السجود بمعنى الخضوع والانقياد ، فمن عمومها ينقاد كلهم إلى ما أراده تعالى بهم شاؤوا أو أبوا ، وتنقاد له تعالى ظلالهم حيث هي على مشيئته من الامتداد والتقلص ، والفيء والزوال ، وإن كان السجود عبارة عن الهيئة المخصوصة : وهو وضع الجبهة بالمكان الذي يكون فيه الواضع ، فيكون عاماً مخصوصاً إذ يخرج منه من لا يسجد ، ويكون قد عبر بالطوع عن سجود الملائكة والمؤمنين ، وبالكره عن سجود من ضمه السيف إلى الإسلام كما قاله قتادة : فيسجد كرهاً

وإما نفاقاً ، أو يكون الكره أول حاله ، فتستمر عليه الصفة وإن صح إيمانه بعد .

وقيل : طوعاً لا يثقل عليه السجود ، وكرهاً يثقل عليه ، لأنّ إلزام التكاليف مشقة .

وقيل : من طالت مدة إسلامه ، فألف السجود . وكرهاً من بدا بالإسلام إلى أن يألف السجود قاله ابن الأنباري .

وقيل : هو عام على تقدير كون السجود عبارة عن الهيئة المخصوصة ، وذلك بأن يكون يسجد صيغته صيغة الخبر ، ومدلولة أثراً . أو يكون معناه : يجب أن يسجد له كل من في السموات والأرض ، فعبر عن الوجوب بالوقوع . والذي يظهر أنّ مساق هذه الآية إنما هو أنّ العالم كله مقهور للّه تعالى ، خاضع لما أراد منه مقصور على مشيئته ، لا يكون منه إلا ما قدر تعالى . فالذين تعبدونهم كائناً ما كانوا داخلون تحت القهر ، ويدل على هذا المعنى تشريك الظلال في السجود . والظلال ليست أشخاصاً يتصور منها السجود بالهيئة المخصوصة ، ولكنها داخلة تحت مشيئته تعالى يصرفها على ما أراد ، إذ هي من العالم . فالعالم جواهره وأعراضه داخلة تحت إرادته كما

قال تعالى :{أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا خَلَقَ اللّه مِن شَىْء يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ سُجَّدًا للّه } وكون الظلال يراد بها الأشخاص كما قال بعضهم ضعيف ، وأضعف منه قول ابن الأنباري : إنه تعالى جعل للظلال عقولاً تسجد بها وتخشع بها ، كما جعل للجبال أفهاماً حتى خاطبت وخوطبت ، لأنّ الجبل يمكن أن يكون له عقل بشرط تقدير الحياة ،

وأما الظل فعرض لا يتصور قيام الحياة به ، وإنما معنى سجود الظلال ميلها من جانب إلى جانب كما أراد تعالى . وقال الفراء : الظل مصدر يعني في الأصل ، ثم أطلق على الخيال الذي يظهر للجرم ، وطوله بسبب انحطاط الشمس ، وقصره بسبب ارتفاعها ، فهو منقاد للّه تعالى في طوله وقصره وميله من جانب إلى جانب . وخص هذان الوقتان بالذكر لأنّ الظلال إنما تعظم وتكثر فيهما ، وتقدم شرح الغدوّ والآصال في آخر الأعراف . روي أن الكافر إذا سجد لصنمه كان ظله يسجد للّه حينئذ .

وقرأ أبو مجلز :

والإيصال . قال ابن جني : هو مصدر أصل أي : دخل في الأصيل كما تقول : أصبح أي دخل في الاصباح . ولما كان السؤال عن أمر واضح لا يمكن أن يدفع منه أحد ، كان جوابه من السائل . فكان السبق إليه أفصح في الاحتجاج إليهم وأسرع في قطعهم في انتظار الجواب منهم ، إذ لا جواب إلا هذا الذي وقعت المبادرة إليه ، كما

قال تعالى : { قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مّنَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ قُلِ اللّه } ويبعد ما قال مكي من أنهم جهلوا الجواب فطلبوه من جهة السائل فأعلمهم به السائل ، لأنه

قال تعالى :{ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ لَيَقُولُنَّ اللّه } فإذا كانوا مقرين بأنّ منشىء السموات والأرض ومخترعها هو اللّه ، فكيف يقال : بأنهم جهلوا الجواب فطلبوه من السائل ؟

وقال الزمخشري : قل اللّه حكاية لاعتراقهم تأكيد له عليهم ، لأنه إذا قال لهم : من رب السموات والأرض ؟ لم يكن لهم بد من أن يقولوا : اللّه ، كقوله { قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ اللّه } وهذا كما يقول المناظر لصاحبه : أهذا قولك ؟ فإذا قال : هذا قولي ، قال : هذا قولك ، فيحكي إقراره تقريراً عليه واستئنافاً منه ، ثم يقول له : فيلزمك على هذا القولكيت وكيت . ويجوز أن يكون تلقيناً أي : إن كفوا عن الجواب فلقنهم ، فإنهم يتلقنونه ولا يقدرونن أن ينكروه . وقال الكرماني : قل يا محمد للكفار من رب السموات والأرض ؟ استفهام تقرير واستنطاق بأنهم يقولون اللّه ، فإذا قالوها قل : اللّه ، أي هو كما قلتم .

وقيل : فإن جابوك وإلا قل : اللّه ، إذ لا جواب غير هذا انتهى . وهو تلخيص القولين اللذين قالهما الزمخشري . وقال البغوي : روي أنه لما قال هذا للمشركين عطفوا عليه فقالوا : أجب أنت ، فأمره اللّه فقال : قل اللّه انتهى . واستفهم بقوله : قل أفاتخذتم ؟ على سبيل التوبيخ والإنكار ، أي : بعد أن علمتم أنه تعالى هو رب السموات والأرض تتخذون من دونه أولياء وتتركونه ، فجعلتم ما كان يجب أن يكون سبباً للتوحيد من علمكم وإقراركم سبباً للإشراك ، ثم وصف تلك الأولياء بصفة العجز وهي كونها لا تملك لا نفسها نفعاً ولا ضراً ، ومن بهذه المثابة فكيف يملك لهم نفعاً أو ضراً ؟ ثم مثل ذلك حالة الكافر والمؤمن ، ثم حالة الكفر والإيمان ، وأبرز ذلك في صورة الاستفهام للذي يبادر المخاطب إلى الجواب فيه من غير فكر ولا روية بقوله : قل هل يستوي الأعمى والبصير ؟ ثم انتقل إلى الاستفهام عن الوصفين القائمين بالكافر وهو : الظلمات ، وبالمؤمن وهو النور . وتقدم الكلام في جمع الظلمات وإفراد النور في سورة البقرة .

وقرأ الأخوان وأبو بكر : أم هل يستوي بالياء ، والجمهور بالتاء ، أم في قوله : أم ، هل منقطعة تتقدر ببل ؟ والهمزة على المختار ، والتقدير : بل أهل تستوي ؟ وهل وإن نابت عن همزة الاستفهام في كثير من المواضع فقد جامعتها في قول الشاعر :

أهل رأونا بوادي القفر ذي الاكم

وإذا جامعتها مع التصريح بها فلأنّ تجامعها مع أم المتضمنة لها أولى ، وهل بعد أم المنقطعة يجوز أن يؤتى بها لشبهها بالأدوات الإسمية التي للاستفهام في عدم الأصالة فيه كقوله :{ أَم مَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ والاْبْصَارَ } ويجوز أن لا يؤتى بها بعد أم المنقطعة ، لأن أم تتضمنها ، فلم يكونوا ليجمعوا بين أم والهمزة لذلك . وقال الشاعر في عدم الإتيان بهل بعد أم والإتيان بها :

هل ما علمت وما استودعت مكتوم

أم حبلها إذ نأتك اليوم مصروم

أم هل كبير بكى لم يقض عبرته

إثر الأحبة يوم البين مشكوم

ثم انتقل من خطابهم إلى الإخبار عنهم غائباً إعراضاً عنهم ، وتنبيهاً على توبيخهم في جعل شركاء للّه ، وتعجيباً منهم ، وإنكاراً عليهم . وتضمن هذا الاستفهام التهكم بهم ، لأنه معلوم بالضرورة أن هذه الأصنام وما اتخذوها من دون اللّه أولياء ، وجعلوهم شركاء لا تقدر على خلق ذرة ، ولا إيجاد شيء البتة ، والمعنى : أن هؤلاء الشركاء هم خالقون شيئاً حت يستحقوا العبادة ، وجعلهم شركاء للّه أي : جعلوا للّه شركاء موصوفين بالخلق مثل خلق اللّه ، فتشابه ذلك عليهم ، فيعبدونهم . ومعلوم أنهم لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون فكيف يشركون في العبادة ؟ { أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } ثم أمره تعالى فقال : قل اللّه خالق كل شيء أي : موجد الأشياء كلها معبوداتهم وغيرها ، وهم أيضاً مقرون بذلك ، { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ لَيَقُولُنَّ اللّه } واحتمل أن يكون قوله : وهو الواحد القهار ، داخلاً تحت الأمر بقل ، فيكون قد أمر أن يخبر بأنه تعالى هو الواحد المفرد بالألوهية ، القهار الذي جميع الأشياء تحت قدرته وقهره . واحتمل أن يكون استئناف إخبار فيه يقال بهذين الوصفين : الوحدانية ، والقهر . فهو تعالى لا يغالب ، وما سواه مقهور مربوب له عز وجل .

١٧

انظر تسفير الآية:١٨

١٨

{أَنَزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِى النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ} :

قال الزمخشري : هذا مثل ضربه اللّه للحق وأهله ، والباطل وحزبه ، كما ضرب الأعمى والبصير ، والظلمات والنور ، مثلاً لهما . فمثل الحق وأهله بالماء الذي ينزل من السماء فتسيل به أودية للناس فيحيون به وينفعهم أنواع المنافع ، وبالفلز الذي ينتفعون به في صوغ الحلى منه واتخاذ الأواني والآلات المختلفة ، ولو لم يكن إلا الحديد الذي فيه البأس الشديد لكفى فيه ، وإن ذلك ماكث في الأرض باق بقاء ظاهراً يثبت الماء في منافعه ، وتبقى آثاره في العيون والبئار والجبوب والثمار التي تنبت به مما يدخر ويكثر ، وكذلك الجواهر تبقى أزمنة متطاولة . وشبه الباطل في سرعة اضمحلاله ووشك زواله وانسلاخه عن المنفعة بزبد السيل الذي يرمي به ، وبزبد الفلز الذي يطفو فوقه إذا أذيب . و

قال ابن عطية : صدر هذه الآية تنبيه على قدرة اللّه تعالى ، وإقامة الحجة على الكفرة به ، فلما فرغ ذكر ذلك جعله مثالاً للحق والباطل ، والإيمان والكفر ، والشك في الشرع واليقين به انتهى .

وقيل : هذا مثل ضربه اللّه تعالى للقرآن ، والقلوب ، والحق ، والباطل . فالماء مثل القرآن لما فيه من حياة القلوب ، وبقاء الشرع والدين والأودية مثل للقلوب ، ومعنى بقدرها على سعة القلوب وضيقها ، فمنها ما انتقع به فحفظه ووعاه وتدبر فيه ، فظهرت ثمرته وأدرك تأويله ومعناه ، ومنها دون ذلك بطبقة ، ومنها دونه بطبقات . والزبد مثل الشكوك والشبه وإنكار الكافرين إنه كلام اللّه ، ودفعهم إياه بالباطل . والماء الصافي المنتفع به مثل الحق انتهى . وفي الحديث الصحيح ما يؤيد هذا التأويل وهو قوله صلى اللّه عليه وسلم : { مثل ما بعثت به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً وكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء وأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت منها طائفة أجادب فأمسكت الماء فانتفع الناس به وسقوا ورعوا وكانت منها قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثلما جئت به من العلم والهدى ومثل من لم يقبل هدى اللّه الذي أرسلت به } و

قال ابن عطية : وروي عن ابن عباس أنه قال : قوله تعالى أنزل من السماء ماء ، يريد به الشرع

والدين ، فسالت أودية يريد القلوب ، أي : أخذ النبيل بحظه ، والبليد بحظه ، وهذا قول لا يصح واللّه أعلم عن ابن عباس ، لأنه ينحو إلى أقوال أصحاب الرموز ، وقد تمسك به الغزالي وأهل تلك الطريق ، ولا توجيه لإخراج اللفظ عن مفهوم كلام العرب بغير علة تدعو إلى ذلك ، واللّه الموفق للصواب . وإن صح هذا القول عن ابن عباس ، فإنما قصد أن قوله تعالى : { كَذالِكَ يَضْرِبُ اللّه الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ } ، معناه : الحق الذي يتقرر في القلوب ، والباطل الذي يعتريها أيضاً انتهى . والماء المطر . ونكر أودية لأنّ المطر إنما يدل على طريق المناوبة ، فتسيل بعض الأودية دون بعض . ومعنى بقدرها أي : على قدر صغرها وكبرها ، أو بما قدر لها من الماء بسبب نفع الممطور عليهم لا ضررهم . ألا ترى إلى قوله :

وأما ما ينفع الناس ، فالمطر مثل للحق ، فهو نافع خال من الضرر .

وقرأ الجمهور : بقدرها بفتح الدال .

وقرأ الأشهب العقيلي ، وزيد بن علي ، وأبو عمرو في رواية : بسكونها . وقال الحوفي : بقدرها متعلق بسالت . وقال أبو البقاء : بقدرها صلة لا ودية ، وعرف السيل لأنه عنى به ما فهم من الفعل ، والذي يتضمنه الفعل من المصدر هو نكرة ، فإذا عاد عليه الظاهر كان معرفة ، كما كان لو صرح به نكرة ، ولذلك تضمن إذا عاد ما دل عليه الفعل من المصدر نحو : من كذب كان شراً له أي : كان الكذب شراً له ، ولو جاء هنا مضمراً لكان جائزاً عائداً على المصدر المفهوم من فسالت . واحتمل بمعنى حمل ، جاء فيه افتعل بمعنى المجرد كاقتدر وقدر . ورابياً منتفخاً عالياً على وجه السبيل ، ومنه الربوة . ومما توقدون عليه أي : ومن الأشياء الت توقدون عليها وهي الذهب ، والفضة ، والحديد ، والنحاس ، والرصاص ، والقصدير ، ونحوها مما يوقد عليه وله زبد .

وقرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص ، وابن محيصن ، ومجاهد ، وطلحة ، ويحيى ، وأهل الكوفة : يوقدون بالياء على الغيبة ، أي يوقد الناس .

وقرأ باقي السبعة والحسن ، وأبو جعفر ، والأعرج ، وشيبة : بالتاء على الخطاب وعليه متعلق بتوقدون وفي النار . قال أبو علي ، والحوفي : متعلق بتقدون . وقال أبو علي : قد يوقد على كل شيء وليس في النار كقوله :{ فَأَوْقِدْ لِى ياهَامَانُ ياهَامَانُ عَلَى الطّينِ } فذلك البناء الذي أمر به يوقد عليه ، وليس في النار ، لكن يصيبه لهبها . وقال مكي وغيره : في النار متعلق بمحذوف تقديره : كائناً ، أو ثابتاً . ومنعوا تعليقه بقوله : توقدون ، لأنهم زعموا أنه لا يوقد على شيء إلا وهو في النار ، وتعليق حرف الجر بتوقدون يتضمن تخصيص حال من حال أخرى انتهى . ولو قلنا : إنه لا يوقد على شيء إلا وهو في النار ، لجاز أن يكون متعلقاً بتوقدون ، ويجوز ذلك على سبيل التوكيد كما قالوا في قوله : يطير بجناحيه ، وانتصب ابتغاء على أنه مفعول من أجله ، وشروط المفعول من أجله موجودة فيه . وقال الحوفي : هو مصدر في موضع الحال أي : مبتغين حلية ، وفي ذكر متعلق ابتغاء تنبيه على منفعة ما يوقدونعليه . والحلية ما يعمل للنساء مما يتزين به من الذهب والفضة ، والمتاع ما يتخذ من الحديد والنحاس وما أشبههما من الآلات التي هي قوام العيش كالأواني ، والمساحي ، وآلات الحرب ، وقطاعات الأشجار ، والسكك ، وغير ذلك . وزبد مرفوع بالابتداء ، وخبره في قوله : ومما توقدون . ومِن الظاهر أنها للتبعيض ، لأن ذلك الزبد هو بعض ما يوقد عليه من تلك المعادن . وأجاز الزمخشري أن تكون مِن لابتداء الغاية أي : ومنه ينشأ زبد مثل زبد الماء ، والمماثلة في كونهما يتولدان من الأوساخ والأكدار ، والحق والباطل على حذف مضاف أي : مثل الحق والباطل . شبه الحق بما يخلص من جرم هذه المعادن من الأقذار والخبث ودوام الانتفاع بها ، وشبه الباطل بالزبد والمجتمع من الخبث والأقذار ، ولا بقاء له ولا قيمة . وفصل ما سبق ذكره مما ينتفع به ومن الزبد ، فبدأ بالزبد إذ هو المتأخر في قوله : زبداً رابياً ،

وفي قوله : زبد مثله ، ولكون الباطل كناية عنه وصف متأخر ، وهي طريقة فصيحة يبدأ في التقسيم بما ذكر آخراً

كقوله : { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ } والبداءة بالسابق فصيحة مثل قوله :{ فَمِنْهُمْ شَقِىٌّ وَسَعِيدٌ }{ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِى النَّارِ } وكأنه واللّه أعلم يبدأ في التفصيل بما هو أهم في الذكر . وانتصب جفاء على الحال أي : مضمحلاً متلاشياً لا منفعة فيه ولا بقاء له . والزبد يراد به ما سبق من ما احتمله السيل وما خرج من حيث المعادن ، وأفرد الزبد بالذكر ولم يثن ، وإن تقدم زبدان لاشتراكهما في مطلق الزبدية ، فهما واحد باعتبار القدر المشترك .

وقرأ رؤبة : جفالاً باللام بدل الهمزة من قولهم : جفلت الريح السحاب إذا حملته وفرقته . وعن أبي حاتم : لا يقرأ بقراءة رؤبة ، لأنه كان يأكل الفار بمعنى : أنه كان أعرابياً جافياً . وعن أبي حاتم أيضاً : لا تعتبر قراءة الإعراب في القرآن .

وأما ما ينفع الناس أي : من الماء الخالص من الغناء ومن الجوهر المعدني الخالص من الخبث أي : مثل ذلك الضرب كمثل الحق والباطل . يضرب اللّه الأمثال ، والظاهر أنه لما ضرب هذا المثل للحق والباطل انتقل إلى ما لأهل الحق من الثواب ، وأهل الباطل من العقاب ، فقال : للذين استجابوا لربهم الحسنى ، أي : الذين دعاهم اللّه على لسان رسوله صلى اللّه عليه وسلم فأجابوا إلى ما دعاهم إليه من اتباع دينه الحالة الحسنى ، وذلك هو النصر في الدنيا وما اختصوا به من نعمة اللّه ، ودخول الجنة في الآخرة . فالحسنى مبتدأ ، وخبره في قوله : للذين . والذين لم يستجيبوا مبتدأ ، خبره ما بعده . وغاير بين جملتي الابتداء لما يدل عليه تقديم الجار والمجرور في الاعتناء والاهتمام ، وعلى رأي الزمخشري من الاختصاص أي : لهؤلاء الحسنى لا لغيرهم . ولأن قراءة شيوخنا يقفون على قوله الأمثال ، ويبتدئون للذين . وعلى هذا المفهوم أعرب الحوفي السني مبتدأ ، وللذين خبره ، وفسر ابن عطية وفهم السلف . قال ابن عباس : جزاء الحسنى وهي لا إله إلا اللّه . وقال مجاهد : الحياة الحسنى ما في الطيبة .

وقيل : الجنة لأنها في نهاية الحسنى .

وقيل : المكافأة أضعافاً . وعلق الزمخشري للذين بقوله يضرب فقال : للذين استجابوا متعلقة بيضرب أي : كذلك يضرب اللّه الأمثال للمؤمنين الذين استجابوا ، وللكافرين الذين لم يستجيبوا أي : هما مثلاً الفريقين . والحسنى صفة لمصدر استجابوا أي : استجابوا الاستجابة الحسنى . وقولهم : لو أن لهم كلام مبتدأ ، ذكر ما أعد لغير المستجيبين انتهى . والتفسير الأول أولى ، لأنه فيه ضرب الأمثال غير مقيد بمثل هذين ، واللّه تعالى قد ضرب أمثالاً كثيرة في هذين وفي غيرهما ، ولأنه فيه ذكر ثواب المستجيبين بخلاف قول الزمخشري ، فكما ذكر ما لغير المستجيبين من العقاب ، ذكر ما للمستجيبين من الثواب . ولأنّ تقديره الاستجابة الحسنى مشعر بتقييد الاستجابة ، ومقابلتها ليس نفي الاستجابة مطلقاً ، إنما مقابلها نفي الاستجابة الحسنى ، واللّه تعالى قد نفى الاستجابة مطلقاً . ولأنه على قوله يكون قوله : لو أن لهم ما في الأرض جميعاً ، كلاماً مفلتاً مما قبله ، أو كالمفلت ، إذ يصير المعنى : كذلك يضرب اللّه الأمثال للمؤمنين والكافرين . لو أن لهم ما في الأرض ، فلو كان التركيب بحرف رابط لو بما قبلها زال التفلت ، وأيضاً فيوهم الاشتراك في الضمير ، وإن كان تخصيص ذلك بالكافرين معلوماً لهم . وأيضاً فقد جاء هذا التركيب ، وتقدم تفسير مثل قوله : لو أن لهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه لافتدوا به ، وسوء الحساب قال ابن عباس : أن لا تقبل حسناتهم ولا تغفر سيئاتهم . وقال النخعي : وشهدو وفرقران يحاسب على ذنوبه كلها ، ويحاسب ويؤاخذ بها من غير أن يغفر له شيء . وقال أبو الجوزاء : المناقشة .

وقيل : للتوبيخ عند الحساب والتقريع ، وتقدم تفسير مثل { وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ}

١٩

انظر تسفير الآية:٢٤

٢٠

انظر تسفير الآية:٢٤

٢١

انظر تسفير الآية:٢٤

٢٢

انظر تسفير الآية:٢٤

٢٣

انظر تسفير الآية:٢٤

٢٤

أفمن يعلم أنما . . . . .

القارعة : الرزية التي تقرع قلب صاحبها أي : تضربه بشدة ، كالقتل ، والأسر ، والنهب ، وكشف الحريم . وقال الشاعر : فلما قرعنا النبع بالنبع بعضه

ببعض أبت عيدانه أن تكسرا

أي ضربنا بقوة . وقال الزجاج القارعة في اللغة النازلة الشديدة تنزل بأمر عظيم . المحو الإزالة محوت الخط أذهبت أثره ومحا المطر رسم الدار أذهبه وأزاله ويقال في مضارعه يمحو ويمحي لأن عينه حرف حلق والإثبات ضد المحو .

{أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الالْبَابِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّه ... } : قال ابن عباس : نزلت أفمن يعلم في حمزة وأبي جهل .

وقيل : في عمر بن الخطاب وأبي جهل .

وقيل : في عمار بن ياسر وأبي جهل . قرأ زيد بن علي : أو من بالواو بدل الفاء ، إنما أنزل مبنياً للفاعل . ولما ذكر تعالى مثل المؤمن والكافر ، وذكر ما للمؤمن من الثواب ، وما للكافرين من العقاب ، ذكر استبعاد من يجعلها سواء وأنكر ذلك فقال : أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى أي : ليسا مشتبهين ، لأنّ العالم بالشيء بصير به ، والجاهل به كالأعمى ، والمراد أعمى البصيرة ولذلك قابله بالعلم . والهمزة للاستفهام المراد به : إنكار أن تقع شبهة بعدما ضرب من المثل في أن حال من علم إنما أنزل إليك من ربك الحق فاستجاب ، بمعزل من حال الجاهل الذي لم يستبصر فيستجيب ، كبعد ما بين الزبد والماء ، والخبث والإبريز . ثم ذكر أنه لا يتذكر بالموعظة ، وضرب الأمثال إلا أصحاب العقول . والفاء للعطف ، وقدمت همزة الاستفهام لأنه صدر الكلام والتقدير : فأمن يعلم ، ويبعدها أن يكون فعل محذوف بين الهمزة والفاء عاطفة ما بعدها على ذلك الفعل ، كما قدره الزمخشري في قوله :{ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ } وقوله :{ أَفَلاَ يَعْقِلُونَ } وجوزوا في الذين أنْ يكون بدلاً من أو لو ، أو صفة له ، وصفة لمن من قوله : أفمن يعلم وإنما يتذكر اعتراض ، ومبتدأ خبره أولئك لهم عقبى الدار كقوله :{ وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّه } ثم قال :{ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ } والظاهر عموم العهد .

وقيل : هو خاص ، فقال السدي : ما عهد إليهم في القرآن . وقال قتادة : في الأول ، وهو قوله :{ أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بَلَى } وقال القفال : ما في حيلتهم وعقولهم من دلائل التوحيد والنبوات .

وقيل :

في الكتب المتقدمة والقرآن .

وقيل : المأخوذ على ألسنة الرسل .

وقيل : الإيمان باللّه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، والظاهر إضافة العهد إلى الفاعل أي : بما عهد اللّه . والظاهر أن قوله : ولا ينقضون الميثاق ، جملة توكيد به لقوله : يوفون بعهد اللّه ، لأن العهد هو الميثاق ، ويلزم من إيفاء العهد انتفاء نقيضه .

وقال الزمخشري : وعهد اللّه ما عقدوه على أنفسهم من الشهادة بربوبيته ، وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم ؟ قالوا : بلى . ولا ينقضون الميثاق ، ولا ينقضون كل ما وثقوه على أنفسهم وقبلوه من الإيمان باللّه تعالى ، وغيره من المواثيق بينهم وبين اللّه تعالى وبين العباد تعميم بعد تخصيص انتهى . فأضاف العهد إلى المفعول ، وغاير بين الجملتين بكونن الثانية تعميماً بعد تخصيص انتهى . إذ أخذ الميثاق عام بينهم وبين اللّه وبين العباد . و

قال ابن عطية : بعهد اللّه اسم الجنس أي : بجميع عهود اللّه ، وبين أوامره ونواهيه التي وصى بها عبيده . ويدخل في هذه الألفاظ التزام جميع الفروض ، وتجنب جميع المعاصي . وقوله : ولا ينقضون الميثاق . أي : إذا اعتقدوا في طاعة اللّه عهداً لم ينقضوه . قال قتادة : وتقدم وعيد اللّه إلى عبادة في نقض الميثاق ونهى عنه في بضع وعشرين آية ، ويحتمل أنه يشير إلى ميثاق معين وهو الذي أخذه تعالى على ظهر أبيهم آدم عليه السلام انتهى .

وقال ابن العربي : من أعظم المواثيق في الذكر أن لا يسأل سواه ، وذكر قصة أبي حمزة الخراساني وقوعه في البئر ، ومرور الناس عليه ، وتغطيتهم البئر وهو لا يسألهم أن يخرجوه ، إلى أن جاء من أخرجه بغير سؤال ، ولم ير من أخرجه ، وهتف به هاتف : كيف رأيت ثمرة التوكل ؟ قال ابن العربي : هذا رجل عاهد اللّه فوجد الوفاء على التمام ، فاقتدوا به . وقد أنكر أبو الفرج بن الجوزي فعل أبي حمزة هذا وبين خطأه ، وأن التوكل لا ينافي الاستغاثة في تلك الحال . وذكر أنّ سفيان الثوري وغيره قالوا : إن إنساناً لو جاع فلم يسأل حتى مات دخل النار . ولا ينكر أن يكون اللّه تعالى لطف بأبي حمزة الجاهل .

وما أمر اللّه به أن يوصل ظاهره العموم في كل ما أمر به في كتابه وعلى لسان نبيه صلى اللّه عليه وسلم. وقال الحسن : المراد به صلة الرسول صلى اللّه عليه وسلم بالإيمان به ، وقال نحوه ابن جبير . وقال قتادة : الرحم .

وقيل : صلة الإيمان بالعمل .

وقيل : صلة قرابة الإسلام بإفشاء السلام ، وعيادة المرضى ، وشهود الجنائز ، ومراعاة حق الجيران ، والرفقاء ، والأصحاب ، والخدم .

وقيل : نصرة المؤمنين . وأمر يتعدى إلى اثنين بحرف جر وهو به ، والأول محذوف تقديره : ما أمرهم اللّه به . وأن يوصل في موضع جر بدل من الضمير أي : بوصله . ويخشون ربهم أي : وعيده كله . ويخافون سوء الحساب أي : استقصاء فيحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا .

وقيل : يخشون ربهم يعظمونه .

وقيل : في قطع الرحم .

وقيل : في جميع المعاصي .

وقيل : فيما أمرهم بوصله . وصبروا مطلق فيما يصبر عليه من المصائب في النفوس والأموال ، وميثاق التكليف . وجاءت الصلة هنا بلفظ الماضي ، وفي الموصلين قبل بلفظ المضارع في قوله : الذين يوفون ، والذين يصلون ، وما عطف عليهما على سبيل التفنن في الفصاحة ، لأنّ المبتدأ هنا في معنى اسم الشرط بالماضي كالمضارع في اسم الشرط ، فكذلك فيما أشبهه ، ولذلك قال النحويون : إذا وقع الماضي صلة أو صفة لنكرة عامة احتمل أن يراد به المضي ، وأن يراد به الاستقبال . فمن المراد به المضي في الصلاة { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ } ومن المراد به الاستقبال { إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ} ويظهر أيضاً أن اختصاص هذه الصلة بالماضي وتينك بالمضارع ، أن تينك الصلتين قصد بهما الاستصحاب والالتباس دائماً ، وهذه الصلة قصد بها تقدمها على تينك الصلتين ، وما عطف عليهما ، لأنّ حصول تلك الصلاة إنما هي مترتبة على حصول الصبر وتقدمه عليها ، ولذلك لم تأت صلة في القرآن إلا بصيغة الماضي ، إذ هو شرط في حصول التكاليف وإيقاعها واللّه أعلم . وانتصب ابتغاء قيل : على أنه مصدر في موضع الحال ، والأولى أن يكون مفعولاً لأجله أي : إنّ صبرهم هو لابتغاء وجه اللّه خالصاً ، لا لرجاء أن يقال : ما أصبره ، ولا مخافة أن يعاب بالجزع ، أو تشمت به الأعداء ، كما قال :

وتجلدي للشامتين أريهم

أني لريب الدهر لا أتضعضع

ولأنّ الجزع لا طائل تحته ، أو يعلم أنه لا مرد لما فات ولا لما وقع . والظاهر في معنى الوجه هنا جهة اللّه أي : الجهة التي تقصد عنده تعالى بالحسنات لتقع عليها المثوبة ، كما تقول : خرج زيد لوجه كذا . ونبه على هاتين الخصلتين : العبادة البدنية ، والعبادة المالية ، إذ هما عمود الدين ، والصبر عليهما أعظم صبر لتكرر الصلوات ، ولتعلق النفوس بحب تحصيل المال . ونبه على حالتي الإنفاق ، فالسر أفضل حالات إنفاق التطوع كما جاء في السبعة الذين يظلهم اللّه في ظله يوم لا ظل إلا ظله ، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها والعلانية أفضل حالات إنفاق الفروض ، لأنّ الإظهار فيها أفضل .

وقال الزمخشري : مما رزقناهم من الحلال ، لأنّ الحرام لا يكون رزقاً ، ولا يسند إلى اللّه انتهى . وهذا على طريق المعتزلة .

وللسلف هنا في الصبر أقوال متقاربة . قال ابن عباس : صبروا على أمر اللّه . وقال أبو عمران الجوني : صبروا على دينهم . وقال عطاء : صبروا على الرزايا والمصائب . وقال ابن زيد : صبروا على الطاعة وعن المعصية ، ويدرؤون يدفعون . قال ابن زيد : الشر بالخير . وقال قتادة : ردوا عليهم معروفاً كقوله : { وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً } وقال الحسن : إذا حرموا أعطوا ، وإذا ظلموا عفوا ، وإذا قطعوا وصلوا . وقال القتبي : إذا سفه عليهم حلموا ، وقال ابن جبير : يدفعون المنكر بالمعروف . وقال ابن كيسان : إذا أذنبوا تابوا ، وإذا هربوا أنابوا ليدفعوا عن أنفسهم بالتوبة معرّة الذنب ، وهذا المعنى قول ابن عباس في رواية الضحاك عنه .

وقيل : يدفعون بلا إله إلا اللّه شركهم .

وقيل : بالسلام غوائل الناس .

وقيل : من رأوا منه مكروهاً بالتي هي أحسن .

وقيل : بالصالح من العمل السيىء ، ويؤيده ما روي في الحديث أن معاذاً قال : أوصني يا رسول اللّه فقال :{ إِذَا عَمِلَتْ سَيّئَةٌ فَاعْمَلْ إِلَى } السر بالسرّ والعلانية بالعلانية .

وقيل العذاب : بالصدقة .

وقيل : إذا هموا بالسيئة فكروا ورجعوا عنها واستغفروا . وهذه الأقوال كلها على سبيل المجاز . وبالجملة لا يكافئون الشر بالشر كما قال الشاعر : يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة

ومن إساءة أهل السوء إحساناً وهذا بخلاف خلق الجاهلية كما قال :

جريء متى يظلم يعاقب بظلمه سريعاً وإن لا يبد بالظلم يظلم . وروي أنّ هذه الآية نزلت في الأنصار ، ثم هي عامة بعد ذلك في كل من اتصف بهذه الصفات . وعقبي الدار : عاقبة الدنيا ، وهي الجنة ، لأنها التي أراد اللّه أن تكون عاقبة الدنيا وموضع أهلها . وجنات عدن بدل من عقبى الدار ، ويحتمل أن يراد عقبى دار الآخرة لدار الدنيا في العقبى الحسنة في الدار الآخرة هي لهم ، ويحتمل أن كون جنات خبر ابتداء محذوف .

وقرأ الجمهور : جنات ، والنخعي : جنة بالإفراد . وروي عن ابن كثير ، وأبي عمرو : يدخلونها مبنياً للمفعول .

وقرأ ابن أبي عبلة : ومن صلح بضم اللام ، والجمهور بفتحها ، وهو أفصح .

وقرأ عيسى الثقفي : وذريتهم بالتوحيد ، والجمهور بالجمع .

وقرأ ابن يعمر : فنعم بفتح النون وكسر العين وهي الأصل ، كما قال الراجز :

نعم الساعون في اليوم الشطر

وقرأ ابن وثاب : فنعم بفتح النون وسكون العين ، وتخفيف فعل لغة تميميمة ، والجمهور نعم بكسر النون وسكون العين ، وهي أكثر استعمالاً . قال مجاهد وغيره : ومن صلح أي عمل صالحاً وآمن انتهى . وهذا يدل على أن مجرد النسب من الصالح لا ينفع ، إنما تنفع الأعمال الصالحة .

وقيل : يحتمل قوله : ومن صلح أي : لذلك بقدر اللّه تعالى وسابق علمه . قال ابن عباس : هذا الصلاح هو الإيمان باللّه وبالرسول صلى اللّه عليه وسلم ، وهذه بشارة بنعمة اجتماعهم مع قراباتهم في الجنة . والظاهر أنّ ومن معطوف على الضمير في يدخلونها وقد فصل بينهما بالمفعول .

وقيل : يجوز أن يكون مفعولاً معه أي : يدخلونها مع من صلح . ويشتمل قوله : من آبائهم ، أبوي كل واحد والده ووالدته ، وغلب الذكور على الإناث ، فكأنه قيل : ومن صلح من آبائهم وأمهاتهم . والملائكة يدخلون عليهم من كل باب أي : بالتحف والهدايا من اللّه تعالى تكرمة لهم . قال أبو بكر الورّاق : هذه ثمانية أعمال تشير إلى ثمانية أبواب الجنة ، من عملها دخلها من أي باب شاء . قال الأصم : نحو هذا قال : من كل باب باب الصلاة ، وباب الزكاة ، وباب الصبر . ولأبي عبد اللّه الرازي كلام عجيب في الملائكة ذكر : أن الملائكة طوائف منهم روحانيون ، ومنهم كروبيون ، فالعبد إذا راض نفسه بأنواع الرياضات كالصبر والشكر والمراقبة والمحاسبة ، فلكل مرتبة من هذه المراتب جوهر قدسي وروح علوي يحفظ لتلك الصفة مزيد اختصاص ، فعند الموت إذا أشرقت تلك الجواهر القدسية تجلت فيها من كل روح من الأرواح السمائية ما يناسبها من الصفة المخصوصة ، فيفيض عليها من ملائكة الصبر كمالات مخصوصة نفسانية لا تظهر إلا في مقام الصبر ، ومن ملائكة الشكر كمالات روحانية لا تتجلى إلا في مقام الشكر ، وهكذا القول في جميع المراتب انتهى . وهذا كلام فلسفي لا تفهمه العرب ، ولا جاءت به الأنبياء ، فهو كلام مطرح لا يلتفت إليه المسلمون .

قال ابن عطية :

وحكى الطبري رحمه اللّه في صفة دخول الملائكة أحاديث لم نطول بها لضعف أسانيدها انتهى .

وارتفع سلام على الابتداء ، وعليكم الخبر ، والجملة محكية بقول محذوف أي : يقولون سلام عليكم . والظاهر أن قوله تعالى : سلام عليكم تحية الملائكة لهم ، ويكون قوله تعالى : بما صبرتم ، خبر مبتدأ محذوف أي : هذا الثواب بسبب صبركم في الدنيا على المشاق ، أو تكون الباء بمعنى بدل أي : بدل صبركم أي : بدل ما احتملتم من مشاق الصبر ، هذه الملاذ والنعم .

وقيل : سلام جمع سلامة أي : إنما سلمكم اللّه تعالى من أهوال يوم القيامة بصبركم في الدنيا .

وقال الزمخشري : ويجوز أن يتعلق بسلام أي : يسلم عليكم ويكرمكم بصبركم ، والمخصوص بالمدح محذوف أي : فنعم عقبى الدار الجنة من جهنم ، والدار : تحتمل الدنيا وتحتمل الآخرة . وقالت فرقة : المعنى أن عقبوا الجنة من جهنم .

قال ابن عطية : وهذا التأويل مبني على حديث ورد وهو : أن كل رجل في الجنة قد كان له مقعد معروف في النار ، فصرفه اللّه تعالى عنه إلى النعيم فيعرض عليه ويقال له :  { هذا مكان مقعدك ، فبدّلك اللّه منه الجنة بإيمانك وطاعتك وصبرك } انتهى . ولما كان الصبر هو الذي نشأ عنه تلك الطاعات السابقة ، ذكرت الملائكة أن النعيم السرمدي إنما هو حاصل بسبب الصبر ، ولم يأت التركيب بالإيفاء بالعهد ، ولا بغير ذلك .

٢٥

انظر تسفير الآية:٢٦

٢٦

{فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّه مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللّه بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِى الاْرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ } : قال مقاتل نزلت : والذين ينقضون في أهل الكتاب .

وقال ابن عباس : نزلت اللّه يبسط في مشركي مكة ، ولما ذكر تعالى حال السعداء وما ترتب لهم من الأمور السنية الشريفة ، ذكر حال الأشقياء وما ترتب لهم من الأمور المخزية . وتقدم تفسير الذين ينقضون عهد اللّه من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر اللّه به أن يوصل الآية في أوائل البقرة وترتب للسعداء هناك التصريح بعقبي الدار وهي الجنة ، وإكرام الملائكة لهم بالسلام ، وذلك غاية

القرب والتأنيس . وهنا ترتب للأشقياء الإبعاد من رحمة اللّه . وسوء الدار أي : الدار السوء وهي النار ، وسوء عاقبة الدار ، وتكون دار الدنيا . ولما كان كثير من الأشقياء فتحت عليهم نعم الدنيا ولذاتها أخبر تعالى أنه هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ، والكفر والإيمان لا تعلق لهما بالرزق . قد يقدر على المؤمن ليعظم أجره ، ويبسط للكافر إملاء لازدياد آثامه . ويقدر مقابل يبسط ، وهو التضييق من قوله : { وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ } وعليه يحمل { فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ } وقول ذلك الذي أحرق وذري في البحر :{ لَئِنْ قُدِرَ اللّه عَلَىَّ } أي لئن ضيق .

وقيل : يقدر يعطي بقدر الكفاية .

وقرأ زيد بن علي : ويقدر بضم الدال ، حيث وقع والضمير في فرحوا عائد على الذين ينقضون ، وهو استئناف إخبار عن جهلهم بما أوتوا من بسطة الدنيا عليهم ، وفرحهم فرح بطر وبسط لا فرح سرور بفضل اللّه وإنعامه عليهم ، ولم يقابلوه بالشكر حتى يستوجبوا نعيم الآخرة بفضل اللّه به ، واستجهلهم بهذا الفرح إذ هو فرح بما يزول عن قريب وينقضي . ويبعد قول من ذهب إلى أنه معطوف على صلات . والذين ينقضون أي : يفسدون في الأرض ، وفرحوا بالحياة الدنيا . وفي الكلام تقديم وتأخير . ومتاع : معناه ذاهب مضمحل يستمتع به قليلاً ثم يفنى . كما قال الشاعر : تمتع يا مشعث إن شيئا

سبقت به الممات هو المتاع

وقال آخر : أنت نعم المتاع لو كنت تبقى

غير أن لا بقاء للإنسان

وقال آخر : تمتع من الدنيا فإنك فان

من النشوات والنسأ الحسان

قال الزمخشري : خفي عليهم أن نعيم الدنيا في جنب نعيم الآخرة ليس إلا شيئاً نذراً ، يتمتع به كعجالة الراكب ، وهو ما يتعجله من تميرات أو شربة سويق أو غير ذلك انتهى . وهذا مني قول الحسن : أعلم اللّه نبيه صلى اللّه عليه وسلم أن الحياة الدنيا في جنب ما أعد اللّه لأوليائه في الآخرة نذر ليس يتمتع به كعجالة الراكب ، وهو ما يتعجله من تميرات أو شربة سويق أو غير ذلك .

وقال ابن عباس : زاد كزاد الرعي . وقال مجاهد : قليل ذاهب من متع النهار إذا ارتفع فلا بد له من زوال .

٢٧

{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ مّن رَّبّهِ قُلْ إِنَّ اللّه يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ } : نزلت : ويقول الذين كفروا ، في مشركي مكة ، طلبوا مثل آيات الأنبياء . والملتمس ذلك هو عبد اللّه بن أبي أمية وأصحابه ، رد تعالى على مقترحي الآيات من كفار قريش كسقوط السماء عليهم كسفاً . وقولهم : سير علينا الأخشبين ، واجعل لنا البطاح محارث ومغترساً كالأردن ، وأحي لنا مضينا وأسلافنا ، ولم تجر عادة اللّه في الإتيان بالآيات المقترحة إلا إذا أراد هلاك مقترحها ، فرد تعالى عليهم بأن نزول الآية لا يقتضي ضرورة إيمانكم وهداكم ، لأنّ الأمر بيد اللّه يضل من يشاء ويهدي من يشاء .

وقال الزممشري : { فإن قلت } : كيف يطابق قولهم : لولا أنزل عليه آية من ربه ، قل إن اللّه يضل من يشاء ؟ { قلت} : هو كلام يجري مجرى التعجب من قولهم ، وذلك أن الآيات الباهرة المتكاثرة التي أوتيها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لم يؤتها نبي قبله ، وكفى بالقرآن وحده آية وراء كل آية ، فإذا جحدوها ولم يعتدوا بها وجعلوه كأنه لم ينزل عليه قط كان موضع التعجب والاستنكار ، فكأنه قيل لهم : ما أعظم عنادكم وما أشد تصميمكم على كفركم إن اللّه يضل من يشاء ، فمن كان على صفتكم من التصميم وشدة التسليم في الكفر فلا سبيل إلى اهتدائكم وإن أنزلت كل آية ، ويهدي

إليه من كان على خلاف صفتكم . وقال أبو علي الجبائي : يضل من يشاء عن رحمته وثوابه عقوبة له على كفره ، ويهدي إليه من أناب أي : إلى جنته من أناب أي : من تاب . والهدى تعلقه بالمؤمن هو الثواب لأنه يستحقه على إيمانه ، وذلك يدل على أنه يضل عن الثواب بالعقاب ، لا عن الدين بالكفر ، على ما ذهب إليه من خالفنا انتهى . وهي على طريقة الاعتزال .

والضمير في إليه عائد على القرآن ، أو على الرسول صلى اللّه عليه وسلم. والظاهر أنه عائد على اللّه تعالى على حذف مضاف أي : إلى دينه وشرعه . وأناب أقبل إلى الحق ، وحقيقته دخل في توبة الخير . والذين آمنوا : بدل من أناب . واطمئنان القلوب سكونها بعد الاضطراب من خشيته . وذكر اللّه ذكر رحمته ومغفرته ، أو ذكر دلائله على وحدانيته المزيلة لعلق الشبه . أو تطمئن بالقرآن ، لأنه أعظم المعجزات تسكن به القلوب وتنتبه . ثم ذكر الحض على ذكر اللّه وأنه به تحصل الطمأنينة ترغيباً في الإيمان ، والمعنى : أنه بذكره تعالى تطمئن القلوب لا بالآيات المقترحة ، بل ربما كفر بعدها ، فنزل العذاب كما سلف في بعض الأمم . وجوزوا في الذين أن يكون بدلاً من الذين ، وبدلاً من القلوب على حذف مضاف أي : قلوب الذين ، وأن يكون خبر مبتدأ محذوف أي : هم الذين ، وأن يكون مبتدأ خبره ما بعده .

وطوبى : فعل من الطيب ، قلبت ياؤه واواً لضمة ما قبلها كما قلبت في موسر ، واختلفوا في مدلولها : فقال أبو الحسن الهنائي : هي جمع طيبة قالوا في جمع كيسة كوسى ، وصيفة صوفى . وفعلى ليست من ألفاظ الجموع ، فلعله يعني بها اسم جمع . وقال الجمهور : هي مفرد كبشرى وسقيا ورجعى وعقبى ، واختلف القائلون بهذا في معناها . فقال الضحاك : المعنى غبطة لهم . وعنه أيضاً : أصبت خيراً . وقال عكرمة : نعمى لهم .

وقال ابن عباس : فرح وقرة عين . وقال قتادة : حسنى لهم . وقال النخعي : خير لهم ، وعنه أيضاً كرامة لهم . وعن سميط بن عجلان : دوام الخير . وهذه أقوال متقاربة ، والمعنى العيش الطيب لهم .

وعن ابن عباس ، وابن جبير : طوبى اسم للجنة بالحبشية .

وقيل : بلغة الهند . وقال أبو هريرة ، وابن عباس أيضاً ، ومعتب بن سمي ، وعبيد بن عمير ، ووهب بن منبه : هي شجرة في الجنة . وروي مرفوعاً إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من حديث عتبة بن عبيد السلمي أنه قال . وقد سأله أعرابي : يا رسول اللّه أفي الجنة فاكهة ؟ قال :  { نعم فيها شجرة تدعى طوبى } وذكر الحديث . قال القرطبي : الصحيح أنها شجرة للحديث المرفوع حديث عتبة ، وهو صحيح على ما ذكره السهيلي ، وذكره أبو عمر في التمهيد والثعلبي . وطوبى : مبتدأ ، وخبره لهم . فإن كانت علماً لشجرة في الجنة فلا كلام في جواز الابتداء ، وإن كانت نكرة فمسوع الابتداء بها ما ذهب إليه سيبويه من أنه ذهب بها مذهب الدعاء كقولهم : سلام عليك ، إلا أنه التزم فيه الرفع على الابتداء ، فلا تدخل عليه نواسخه هكذا قال : ابن مالك . ويرده أنه قرىء : وحسن مآب بالنصب ، قرأه كذلك عيسى الثقفي ، وخرج ذلك ثعلب على أنه معطوف على طوبى ، وأنها في موضع نصب ، وحسن مآب معطوف عليها . قال ثعلب : وطوبى على هذا مصدر كما قالوا : سقيا . وخرجه صاحب اللوامح على النداء قال : بتقدير يا طوبى لهم ، ويا حسن مآب . فحسن معطوف على المنادى المضاف في هذه القراءة ، فهذا نداء للتحنين والتشويق كما قال : يا أسفي على الفوت والندبة انتهى . ويعني بقوله : معطوف على المنادى المضاف ، أنّ طوبى مضاف للضمير ، واللام مقحمة كما أقحمت في قوله : يا بؤس للجهل ضراراً الأقوام ، وقول الآخر : يا بؤس للحرب التي ، ولذلك سقط التنوين من بؤس وكأنه قيل : يا طوباهم وحسن مآب أي : ما أطيبهم وأحسن مآبهم ، كما تقول : يا طيبها ليلة أي : ما أطيبها ليلة .

وقرأ بكرة الأعرابي طيبي بكسر الطاء ، لتسلم الياء من القلب ، وإن كان

وزنها فعلي ، كما كسروا في بيض لتسلم الياء ، وإن كان وزنها فعلاً كحمر .

وقال الزمخشري : أصبت خيراً وطيباً ، ومحلها النصب أو الرفع كقولك : طيباً لك ، وطيب لك ، وسلاماً لك ، وسلام لك ، والقراءة في قوله : وحسن مآب بالرفع والنصب بذلك على محلها ، واللام في لهم للبيان مثلها في سقيا لك . وقرىء : وحسن مآب بفتح النون ، ورفع مآب . فحسن فعل ماض أصله وحسن نقلت ضمة سينه إلى الحاء ، وهذا جائز في فعل إذا كان للمدح أو الذم كما قالوا : حسن ذا أدباً .

٣٠

{كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِى أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَانِ قُلْ هُوَ رَبّى لا إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ } : قال قتادة ، وابن جريج ، ومقاتل : لما رأوا كتاب الصلح يوم الحديبية وقد كتب بسم اللّه الرحمن الرحيم قال سهيل بن عمرو : ما يعرف الرحمن إلا مسيلمة ، فنزلت .

وقيل : سمع أبو جهل الرسول صلى اللّه عليه وسلم يقول : يا رحمن ، فقال : إن محمداً ينهانا عن عبادة آلهة وهو يدعو إلهين فنزلت . ذكر هذا علي بن أحمد النيسابوري ،

وعن ابن عباس : لما قيل لكفار قريش اسجدوا للرحمن قالوا : وما الرحمن فنزلت .

قال الزمخشري مثل ذلك الإرسال أرسلناك يعني : أرسلناك آرسالاً له شأن وفضل على سائر الإرسالات انتهى . ولم يتقدم إرسال يشار إليه بذلك ، إلا إن كان يفهم من المعنى فيمكن ذلك . وقال الحسن : كإرسالنا الرسل أرسلناك ، فذلك إشارة إلى إرساله الرسل .

وقيل : الكاف متعلقة بالمعنى الذي في قوله :{ قُلْ إِنَّ اللّه يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ } كما أنفذ اللّه هذا كذلك أرسلناك . و

قال ابن عطية : والذي يظهر لي أنّ المعنى كما أجرينا العادة بأنّ اللّه يضل من يشاء ويهدي بالآيات المقترحة ، فكذلك فعلنا في هذه الأمة أرسلناك إليهم بوحي ، لا بالآيات المقترحة ، فيضل اللّه من يشاء ويهدي من يشاء انتهى . وقال الحوفي : الكاف للتشبيه في موضع نصب أي : كفعلنا الهداية والإضلال ، والإشارة بذلك إلى ما وصف به نفسه من أنه يضل من يشاء ويهدي من يشاء . وقال أبو البقاء : كذلك التقدير الأمر كذلك . قد خلت من قبلها أمم أي : تقدمتها أمم كثيرة ، والمعنى : أرسلت فيهم رسل فمثل ذلك الإرسال أرسلناك . ودل هذا المحذوف الذي يقتضيه المعنى على أنّ الإشارة بذلك إلى إرساله تعالى الرسل كما قال الحسن ، ولتتلو أي : لتقرأ عليهم الكتاب المنزل عليك . وعلة الإرسال هي الإبلاغ للدين الذي أتى به الرسول صلى اللّه عليه وسلم وهم يكفرون أي : وحال هؤلاء أنهم يكفرون بالرحمن جملة حالية أي : أرسلناك في أمة رحمة لها معنى وهم ، يكفرون بي أي : وحال هؤلاء أنهم يكفرون بالرحمن بالبليغ الرحمة . والظاهر أنّ الضمير في قوله : وهم ، عائد على أمة المرسل إليهم الرسول إعادة على المعنى ، إذ لو أعاد على اللفظ لكان التركيب وهي تكفر ، والمعنى : أرسلناك إليهم وهم يدينون دين الكفر ، فهدى اللّه بك من أراد هدايته .

وقيل : يعود على الذين قالوا :{ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ مّن رَّبّهِ }

وقيل : يعود على أمة وعلى أمم ، والمعنى : الإخبار بأنّ الأمم السالفة أرسلت إليهم الرسل ، وهو الرحمة الموجبة لشكر اللّه على إنعامه عليهم ببعثة الرسول والإيمان به . قل : هو أي الرحمن الذي كفروا به هو ربي الواحد المتعال عن الشركاء ، عليه توكلت في نصرتي عليكم ، وجميع أموري ، وإليه مرجعي ، فيثبتني على مجاهدتكم .

٣١

انظر تسفير الآية:٣٢

٣٢

{وَلَوْ أَنَّ قُرْانًا سُيّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطّعَتْ بِهِ الاْرْضُ أَوْ كُلّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَل للّه الاْمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ } : قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما : إن الكفار قالوا للنبي صلى اللّه عليه وسلم : سير جبلي مكة فقد ضيقا علينا ، واجعل لنا أرضاً قطعاً غراساً ، وأحي لنا آباءنا وأجدادنا ، وفلاناً وفلاناً ، فنزلت معلمة أنهم لا يؤمنون ولو كان ذلك كله . ولما ذكر تعالى علة إرساله ، وهي تلاوة ما أوحاه إليه ، ذكر تعظيم هذا الموحى وأنه لو كان قرآناً تسير به الجبال عن مقارها ، أو تقطع به

الأرض حتى تتزايل قطعاً قطعاً ، أو تكلم به الموتى فتسمع وتجيب ، لكان هذا القرآن لكونه غاية في التذكير ، ونهاية في الإنذار والتخويف . كما قال : { لَوْ أَنزَلْنَا هَاذَا الْقُرْءانَ عَلَى جَبَلٍ } الآية فجواب لو محذوف وهو ما قدرناه ، وحذف جواب لو لدلالة المعنى عليه جائز نحو قوله تعالى :{ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ }{ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ } وقال الشاعر : وجدك لو شيء أتانا رسوله

سواك ولكن لم نجد عنك مدفعا

وقيل : تقديره لما آمنوا به كقوله تعالى :{ وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَىْء قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ } قال الزجاج . وقال الفراء : هو متعلق بما قبله ، والمعنى : وهم يكفرون بالرحمن . ولو أن قرآناً سيرت به الجبال وما بينهما اعتراض ، وعلى قول الفراء : يترتب جواب لو أن يكون لما آمنوا ، لأنّ قولهم وهم يكفرون بالرحمن ليس جواباً ، وإنما هو دليل على الجواب .

وقيل : معنى قطعت به الأرض شققت فجعلت أنهاراً وعيوناً . ويترتب على أن يكون الجواب المحذوف لما آمنوا قوله : بل للّه الأمر جميعاً أي : الإيمان والكفر ، إنما يخلقهما اللّه تعالى ويريدهما .

وأما على تقدير لكان هذا القرآن ، فيحتاج إلى ضميمة وهو أن يقدر : لكان هذا القرآن الذي أوحينا إليك المطلوب فيه إيمانهم وما تضمنه من التكاليف ، ثم قال : بل للّه الأمر جميعاً أي : الإيمان والكفر بيد اللّه يخلقهما فيمن يشاء .

وقال الزمخشري : بل للّه الأمر جميعاً على معنيين :

أحدهما : بل للّه القدرة على كل شيء ، وهو قادر على الآيات التي اقترحوها ، إلا أن علمه بأن إظهارها مفسدة .

والثاني : بل للّه أن يلجئهم إلى الإيمان وهو قادر على الإلجاء . لولا أنه بنى أمر التكليف على الاختيار ، ويعضده قوله تعالى : أفلم ييئس الذين آمنوا أن لو يشاء اللّه ، مشيئة الإلجاء والقسر لهدى الناس جميع انتهى . وهو على طريقة الاعتزال . واليأس القنوط في الشيء ، وهو هنا في قول الأكثرين بمعنى العلم ، كأنه قيل : ألم يعلم الذين آمنوا . قال القاسم بن معن هي : لغة هوازن ، وقال ابن الكلبي : هي لغة من النخع وأنشدوا على ذلك لسحيم بن وثيل الرياحي وقال ابن الكلبي : أقول لهم بالشعب إذ ييسرونني

ألم تيأسوا إني ابن فارس زهدم

وقال رباح بن عدي : ألم ييأس الأقوام أني أنا ابنه

وإن كنت عن أرض العشيرة نائيا

وقال آخر : قثشي ش حتى اذا يئس الرماة وارسلوا

غضفا دواجن قافلا أعصامها

إذا علموا أنّ ليس وجد إلا لذي وارا . وأنكر الفراء أن يكون يئس بمعنى علم ، وزعم أنه لم يسمع أحد من العرب يقول : يئست بمعنى علمت انتهى . وقد حفظ ذلك غيره ، وهذا القاسم بن معن من ثقاة الكوفيين وأجلائهم

نقل أنها لغة هوزان ، وابن الكلبي نقل أنها لغة لحي من النخع ، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ .

وقيل : إنما استعمل اليأس بمعنى العلم لتضمنه معناه ، لأنّ اليائس من الشيء عالم بأنه لا يكون ، كما استعمل الرجاء في معنى الخوف ، والنسيان في معنى الترك . وحمل جماعة هنا اليأس على المعروف فيه في اللغة وهو : القنوط من الشيء ، وتأولوا ذلك . فقال الكسائي : المعنى أفلم ييئس الذين آمنوا من إيمان الكفار من قريش المعاندين للّه ورسوله ؟ وذلك أنه لما سألوا هذه الآيات اشتاق المؤمنون إليها وأحبوا نزولها ليؤمن هؤلاء الذين علم اللّه تعالى منهم أنهم لا يؤمنون ، فقال الذين آمنوا من إيمانهم . وقال الفراء : وقع للمؤمنين أن لو يشاء هدى الناس جميعاً فقال : أفلم ييأسوا ؟ علمنا بقول آبائهم ، فالعلم مضمر كما تقول في الكلام : يئست منك أن لا تفلح كأنه قال : علمته علماً قال : فيئست بمعنى علمت وإن لم يكن قد سمع ، فإنه يتوجه إلى ذلك بالتأويل . وقال أبو العباس : أفلم ييأسوا بعلمهم أن لا هداية إلا بالمشيئة ؟ وإيضاح هذا المعنى أن يكون : أن لو يشاء اللّه متعلقاً بآمنوا أي : أفلم يقنط عن إيمان هؤلاء الكفرة الذين آمنوا بأن لو يشاء اللّه لهدى الناس جميعاً ، ولهداهم إلى الإيمان أو الجنة . و

قال ابن عطية : ةّويحتمل أن يكونن اليأس في هذه الآية على بابه ، وذلك أنه لما أبعد إيمانهم في قوله : ولو أن قرآناً الآية على التأويل في المحذوف المقدر . قال في هذه : أفلم ييأس المؤمنون انتهى . وهذا قول الفراء الذي ذكرناه ،

وقال الزمخشري : ويجوز أن يتعلق أن لو يشاء اللّه بآمنوا على أو لم يقنط عن إيمان هؤلاء الكفرة الذين آمنوا بأن لو يشاء اللّه لهدى الناس جميعاً انتهى . وهذا قول أبي العباس ، ويحتمل عندي وجه آخر غير ما ذكروه ، وهو أن الكلام تام عند قوله : أفلم ييأس الذين آمنوا ، إذ هو تقرير أي : قد يئس المؤمنون من إيمان هؤلاء المعاندين . وأنْ لو يشاء جواب قسم محذوف أي : وأقسموا لو شاء اللّه لهدى الناس جميعاً ، ويدل على إضمار هذا القسم وجود أنْ مع لو كقول الشاعر : أما واللّه أن لو كنت حرا

وما بالحر أنت ولا القمين

وقول الآخر : فاقسم أن لو التقينا وأنتم

لكان لنا يوم من الشر مظلم

وقد ذكر سيبويه أنّ أن تأتي بعد القسم ، وجعلها ابن عصفور رابطة للقسم المقسم بالجملة عليها ،

وأما على تأويل الجمهور فإن عندهم هي المخففة من الثقيلة أي : أنه لو يشاء اللّه .

وقرأ علي وابن عباس

قال الزمخشري وجماعة من الصحابة والتابعين ، وقال غيره ، وعكرمة ، وابن أبي مليكة ، والجحدري ، وعلي بن الحسين ، وابنه زيد ، وأبو زيد المزني ، وعلي بن نديمة ، وعبد اللّه بن يزيد : أفلم يتبين من بينت كذا إذا عرفته . وتدل هذه القراءة على أنّ معنى أفلم ييأس هنا معنى العلم ، كما تظافرت النقول أنها لغة لبعض العرب . وهذه القراءة ليست قراءة تفسير لقوله : أفلم ييأس ، كما يدل عليه ظاهر كلام الزمخشري ، بل هي قراءة مسندة إلى الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، وليست مخالفة للسواد إذ كتبوا ييئس بغير صورة الهمزة ، وهذا كقراءة : { فَتَبَيَّنُواْ } و { فتثبتوا } وكلتاهما في السبعة .

وأما قول من قال : إنما كتبه الكاتب وهو ناعس ، فسوى أسنان السين فقول زنديق ملحد .

وقال الزمخشري : وهذا ونحوه مما لا يصدق في كتاب اللّه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وكيف يخفى مثل هذا حتى يبقى ثابتاً بين دفتي الإمام ، وكان

متقلباً في أيدي أولئك الأعلام المحتاطين في دين اللّه المهتمين عليه ، لا يغفلون عن جلائله ودقائقه ، خصوصاً عن القانون الذي إليه المرجع ، والقاعدة التي عليها البناء ، وهذه واللّه فرية ما فيها مرية انتهى . وقال الفراء : لا يتلى إلا كما أنزل : أفلم ييأس انتهى .

والكفار عام في جميع الكفار ، وهذا الأمر مستمر فيهم إلى يوم القيامة قاله : الحسن ، وابن السائب ، أو هو ظاهر اللفظ . و

قال ابن عطية : كفار قريش ، والعرب لا تزال تصيبهم قوارع من سرايا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وغزواته . وقال مقاتل والزمخشري : كفار مكة .

قال الزمخشري : تصيبهم بما صنعوا من كفرهم وسوء أعمالهم قارعة داهية تقرعهم بما يحل اللّه بهم في كل وقت من صنوف البلايا والمصائب في أنفسهم وأولادهم وأموالهم ، أو تحل القارعة قريباً منهم فيفزعون ويضطربون ويتطاير إليهم شررها ، وتتعدى إليهم شرورها حتى يأتي وعد اللّه وهو موتهم ، أو القيامة انتهى . وقال الحسن : حال الكفرة هكذا هو أبداً ، ووعد اللّه قيام الساعة . والظاهر أنّ الضمير في تحل عائد على قارعة قاله الحسن . وقالت فرقة : التاء للخطاب ، والضمير للرسول صلى اللّه عليه وسلم ،أو تحل أنت يا محمد قريباً من دارهم بجيشك كما حلّ بالحديبية ، وعزاه الطبري إلى : ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، وقاله عكرمة . ويكون وعد اللّه فتح مكة ، وكان اللّه قد وعده ذلك ، وقاله ابن عباس ومجاهد .

وقرأ مجاهد ، وابن جبير : أو يحل بالياء على الغيبة ، واحتمل أن يكون عائداً على معنى القارعة راعى فيه التذكير لأنها بمعنى البلاء ، أو تكون الهاء في قارعة للمبالغة ، فذكر واحتمل أن يكون عائداً على الرسول صلى اللّه عليه وسلم أي : ويحل الرسول قريباً .

وقرأ أيضاً من ديارهم على الجمع .

وقال ابن عباس : القارعة العذاب من السماء . وقال عكرمة : السرايا والطلائع .

وفي قوله : ولقد استهزىء الآية ، تسلية للرسول عليه الصلاة والسلام ، وأنّ حالك حال من تقدمك من الرسل ، وأنّ المستهزئين يملى لهم أي : يمهلون ثم يؤخذون . وتنبيه على أنّ حال من استهزأ بك ، وإن أمهل حال أولئك في أخذهم ووعيد لهم .

وفي قوله : فكيف كان عقاب استفهام معناه التعجب بما حل ، وفي ضمنه وعيد معاصري الرسول صلى اللّه عليه وسلم من الكفار .

٣٣

انظر تسفير الآية:٣٤

٣٤

{أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُواْ للّه شُرَكَاء قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِى الاْرْضِ أَم بِظَاهِرٍ مّنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ وَصُدُّواْ عَنِ السَّبِيلِ وَمَن يُضْلِلِ } : من موصولة صلتها ما بعدها ، وهي مبتدأ والخبر محذوف تقديره : كمن ييئس ، كذلك من شركائهم التي لا تضر ولا تنفع ، كما حذف من قوله :{ أَفَمَن شَرَحَ اللّه صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مّن رَّبّهِ } تقديره : كالقاسي قلبه الذي هو في ظلمة . ودل عليه قوله تعالى : وجعلوا للّه شركاء ، كما دل على القاسي { فَوَيْلٌ لّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ } ويحسن حذف هذا الخبر كون المبتدأ يكون مقابله الخبر المحذوف ، وقد جاء مثبتاً كثيراً كقوله تعالى :{ أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ }{ أَفَمَن يَعْلَمُ } ثم قال :{ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} والظاهر أنّ قوله تعالى : وجعلوا للّه شركاء ، استئناف إخبار عن سوء صنيعهم ، وكونهم أشركوا مع اللّه ما لا يصلح للألوهية . نعى عليهم هذا الفعل القبيح ، هذا والباري تعالى هو المحيط بأحوال النفوس جليها وخفيها . ونبه على بعض حالاتها وهو الكسب ، ليتفكر الإنسان فيما يكسب من خير وشر ، وما يترتب على الكسب في الجزاء ، وعبر بقائم عن الإحاطة والمراقبة التي لا يغفل عنها .

وقال الزمخشري : ويجوز أن يقدر ما يقع خبراً للمبتدأ ، ويعطف عليه وجعلوا للّه أي : وجعلوا ، وتمثيله : أفمن هو بهذه الصفة لم يوحدوه ، وجعلوا له شركاء ، وهو اللّه الذي يستحق العبادة وحده انتهى . وفي هذا التوجيه إقامة الظاهر مقام المضمر في قوله : وجعلوا للّه أي : وجعلوا له ، وفيه حذف الخبر عن المقابل ، وأكثر ما جاء هذا الخبر مقابلاً . وفي تفسير أبي عبد اللّه الرازي قال : الشديد صاحب العقد ، الواو في قوله تعالى : وجعلوا واو الحال ، والتقدير : أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت موجود ، والحال أنهم جعلوا له شركاء ، ثم أقيم الظاهر وهو للّه مقام المضمر تقديراً لألوهيته وتصريحاً بها ، كما تقول : معطي الناس ومغنيهم موجود ، ويحرم مثلي انتهى . وقال

ابن عطية : أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت أحق بالعبادة أم الجمادات التي لا تضر ولا تنفع ؟ هذا تأويل . ويظهر أنّ القول مرتبط بقوله : وجعلوا للّه شركاء ، كأنّ المعنى : أفمن له القدرة والوحدانية ويجعل له شريك ، هل ينتقم ويعاقب أم لا ؟ وأبعد من ذهب إلى أنّ قوله : أفمن هو قائم المراد به الملائكة الموكلون ببني آدم ، حكاه القرطبي عن الضحاك . والخبر أيضاً محذوف تقديره : كغيره من المخلوقين . وأبعد أيضاً من ذهب إلى أن قوله : وجعلوا معطوفاً على استهزىء ، أي : استهزؤوا وجعلوا ، ثم أمره تعالى أن يقول لهم : سمرهم أي : اذكروهم بأسمائهم ، والمعنى : أنهم ليسوا ممن يذكر ويسمى ، إنما يذكر ويسمى من هو ينفع ويضرّ ، وهذا مثل من يذكر لك أن شخصاً يوقر ويعظم وهو عندك لا يستحق ذلك فتقول لذاكره : سمه حتى أبين لك زيفه وأنه ليس كما تذكر . وقريب من هذا قول من قال في قوله : قل سموهم ، إنما يقال ذلك في الشيء السمتحقر الذي يبلغ في الحقارة إلى أنْ لا يذكر ولا يوضع له اسم ، فعند ذلك يقال له : سمه إن شئت أي : هو أخس من أن يذكر ويسمى . ولكن إن شئت أن تضع له اسماً فافعل ، فكأنه قال : سموهم بالآلهة على جهة التهديد . والمعنى : سواء سميتموهم بهذا الاسم أم لم تسموهم به فإنها في الحقارة بحيث لا يستحق أن يلفت العاقل إليها .

وقيل : سموهم إذا صنعوا وأماتوا وأحيوا لتصح الشركة .

وقيل : طالبوهم بالحجة على أنها آلهة .

وقيل : صفوهم وانظروا هل يستحقون الإلهية ؟

وقال الزمخشري : جعلتم له شركاء فسموهم له من هم ، وبينوهم بأسمائهم .

وقيل : هذا تهديد كما تقول لمن تهدده على شرب الخمر : سم الخمر بعد هذا . وأم في قوله : أم تنبؤونه منقطعة ، وهو استفهام توبيخ .

قال الزمخشري : بل أتنبؤونه بشركاء لا يعلمهم في الأرض وهو العالم بما في السموات والأرض ، فإذا لم يعلمهم على أنهم ليسوا بشيء يتعلق به العلم ، والمراد نفي أن يكون له شركاء ، ونحوه : { قُلْ كَانَ اللّه لِيُعْجِزَهُ مِن شَىْء فِى السَّمَاواتِ وَلاَ فِى الاْرْضِ } انتهى . فجعل الفاعل في قوله : بما لا يعلم ، عائداً على اللّه . والعائد على بما محذوف أي : بما لا يعلمه اللّه . وكنا قد خرجنا تلك الآية على الفاعل في قوله : بما لا يعلم ، عائد على ما ، وقررنا ذلك هناك ، وهو يتقرر هنا أيضاً . أي : أتنبؤون اللّه بشركة الأصنام التي لا تتصف بعلم البتة . وذكر نفي العلم في الأرض ، إذ الأرض هي مقر تلك الأصنام ، فإذا انتفى علمها في المقر التي هي فيه ، فانتفاؤه في السموات أحرى .

وقرأ الحسن : تنبؤونه من أنبأ .

وقيل : المراد تقدرون أنْ تعلموه بأمر تعلمونه أنتم وهو لا يعلمه ، وخص الأرض بنفي الشريك بأنه لم يكن له شريك البتة ، لأنهم ادَّعوا أنَّ للّه شريكاً في الأرض لا في غيرها . والظاهر في أم في قوله : أم ، بظاهر أنها منقطعة أيضاً أي : بل أتسمونهم شركاء بظاهر من القول من غير ن يكون لذلك حقيقة أي : أنكم تنطقون بتلك الأسماء وتسمونها آلهة ولا حقيقة لها ، إذ أنتم لا تعلمون أنها لا تتصف بشيء من أوصاف الألوهية كقوله :{ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا } وقال مجاهد : أم بظاهر من القول . وقال قتادة : بباطل من القول ، لا باطن له في الحقيقة . ومنه قول الشاعر : أعيرتنا ألبانها ولحومها

وذلك عار يابن ريطة ظاهر

أي باطل .

وقيل : أم متصلة ، والتقدير : أم تنبئونه بظاهر من القول لا حقيقة له كقوله :{ ذالِكَ قَوْلُهُم بِأَفْواهِهِمْ } ثم قال بعد هذا الحجاج على وجه التحقير لما هم عليه : بل زين للذين كفروا مكرهم . وقال الواحدي : لما ذكر الدلائل على فساد قولهم وقال : دع ذلك الدليل لأنهم لا ينتفعون به ، لأنه زيّن لهم مكرهم .

وقرأ مجاهد : بل زين على البناء للفاعل مكرهم بالنصب . والجمهور : زين على النباء للمفعول مكرهم بالرفع أي : كيدهم للإسلام بشركهم ، وما قصدوا بأقوالهم وأفعالهم من مناقضة الشرع .

وقرأ الكوفيون :

وصدّوا هنا ، وفي غافر بضم الصاد مبنياً للمفعول ، فالفعل متعد .

وقرأ باقي السبعة : بفتحها ، فاحتمل التعدّي واللزوم أي : صدوا أنفسهم أو غيرهم .

وقرأ ابن وثاب : وصدوا بكسر الصاد ، وهي كقراءة ردت إلينا بكسر الراء . وفي اللوامح الكسائي لابن يعمر وصدوا بالكسر لغة ، وفي الضم أجراه بحرف الجر نحو قبل ، فأما في المؤمن فبالكسر لابن وثاب انتهى .

وقرأ ابن أبي إسحاق : وصد بالتنوين عطفاً على مكرهم .

قال الزمخشري : ومن يضلل اللّه ، ومن يخذله يعلمه أنه لا يهتدي ، فما له من هاد فما له من واحد يقدر على هدايته انتهى . وهو على طريقة الاعتزال . والعذاب في الدنيا هو ما يصيبهم بسبب كفرهم من القتل والأسر والنهب والذلة والحروب والبلايا في أجسامهم ، وغير ذلك مما يمتحن به الكفار . وكان عذاب الآخرة أشق على النفوس ، لأنه إحراق بالنار دائماً { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا } ومن واق : من ساتر يحفظهم من العذاب ويحميهم ، ولما ذكر ما أعد للكفار في الآخرة ذكر ما أعد للمؤمنين فقال :

٣٥

{مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ } : مثل الجنة أي : صفتها التي هي في غرابة المثل ، وارتفع مثل على الابتداء في مذهب سيبويه ، والخبر محذوف أي : فيما قصصنا عليكم مثل الجنة ، وتجري من تحتها الأنهار تفسير لذلك المثل . تقول : مثلت الشيء إذا وصفته وقربته للفهم ، وليس هنا ضرب مثل لها فهو كقوله تعالى :{ وَلَهُ الْمَثَلُ الاعْلَى } أي الصفة العليا ، وأنكر أبو عليّ أن يكون مثل بمعنى صفة قال : إنما معناه التنبيه . وقال الفراء : أي صفتها أنها تجري من تحتها الأنهار ، ونحو هذا موجود في كلام العرب انتهى . ولا يمكن حذف أنَّها ، وإنما فسر المعنى ولم يذكر الإعراب . وتأول قوم على القرآن مثل مقحم ، وأنّ التقدير : الجنة التي وعد المتقون تجري ، وإقحام الأسماء لا يجوز . وحكوا عن الفراء أنّ العرب تقحم كثيراً المثل والمثل ، وخرج على ذلك :{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء } أي : كهو شيء . فقال غيرهما : الخبر تجري ، كما تقول : صفة زيد اسمر ، وهذا أيضاً لا يصح أن يكون تجري خبراً عن الصفة ، وإنما يتأول تجري على إسقاط أنْ ورفع الفعل ، والتقدير : أنْ تجري خبر ثان الأنهار . وقال الزجاج : معناه مثل الجنة جنة تجري على حذف الموصوف تمثيلاً لما غاب عنا بما نشاهد انتهى . وقال أبو علي : لا يصح ما قال الزجاج ، لا على معنى الصفة ، ولا على معنى الشبه ، لأن الجنة التي قدرها جنة ولا تكون الصّفة ، ولأن الشبه عبارة عن المماثلة التي بين المتماثلين وهو حدث ، والجنة جنة فلا تكون المماثلة .

وقرأ علي وابن مسعود : مثال الجنة على الجمع أي : صفاتها . وفي اللوامح على السلمى أمثال الجنة جمع ، ومعناه : صفات الجنة . وذلك لأنها صفات مختلفة ، فلذلك جمع نحو الحلقوم والإسعال . والأكل ما يؤكل فيها ، ومعنى دوامه : أنه لا ينقطع أبداً ، كما

قال تعالى :{ لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ } وقال إبراهيم التيمي : أي لذاته دائمة لا تزاد بجوع ولا تمل من شبع . وظلها أي : دائم البقاء والراحة ، لا تنسخه شمس ، ولا يميل لبرد كما في الدنيا . أي : تلك الجنة عاقبة الذين اتقوا أي : اجتنبوا الشرك .

٣٦

انظر تسفير الآية:٣٧

٣٧

{وَالَّذِينَ اتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الاْحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللّه وَلا } : نزلت في مؤمني أهل الكتابين ، ذكره الماوردي ، واختاره الزمخشري فقال : من أسلم من اليهود كعبد اللّه بن سلام وكعب وأصحابهما ، ومن أسلم من النصارى وهم ثمانون رجلاً : أربعون من نجران ، وثمانية من اليمنن ، وإثنان وثلاثون من الحبشة . ومن الأحزاب يعني : ومن أحزابهم وهم كفرتهم الذين تحزبوا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالعداوة نحو : كعب بن الأشرف وأصحابه ، والسيد والعاقب أسقفي نجران وأشياعهما ، من ينكر بعضه لأنهم كانوا لا ينكرون الأقاصيص وبعض الأحكام والمعاني مما هو ثابت في كتبهم غير محرف ، وكانوا ينكرون ما هو نعت الإسلام ، ونعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مما حرفوه وبدلوه انتهى .

وعن ابن عباس ، وابن زيد : في مؤمني اليهود كعبد اللّه بن سلام وأصحابه ،

وعن قتادة في أصحاب الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، مدحهم اللّه تعالى بأنهم يسرون بما أنزل إليك من أمر الدين . وعن مجاهد ، والحسن ، وقتادة : أن المراد بأهل الكتاب جميعهم يفرحون بما أنزل من القرآن ، إذ فيه تصديق كتبهم ، وثناء على أنبيائهم وأحبارهم ورهبانهم الذين هم على دين موسى وعيسى عليهما السلام . وضعف هذا القول بأنّ همهم به أكثر من فرحهم ، فلا يعتد بفرحهم . وأيضاً فإنّ اليهود والنصارى ينكرون بعضه ، وقد قذف تعالى بين الذين ينكرون بعضه وبين الذين آتيناهم الكتاب . والأحزاب قال مجاهد : هم اليهود ، والنصارى ، والمجوس . وقالت فرقة : هم أحزاب الجاهلية من العرب . وقال مقاتل : الأحزاب بنو أمية ، وبنو المغيرة ، وآل أبي طلحة . ولما كان ما أنزل إليه يتضمن عبادة اللّه ونفي الشريك ، أمر بجواب المنكرين ، فقيل له : قل إنما أمرت أن أعبد اللّه ولا أشرك به ، فإنكاركم لبعض القرآن الذي أنزل لعبادة اللّه وتوحيده ، وأنتم تدعون وجوب العبادة ونفي الشريك إليه ، أدعوا إلى شرعه ودينه ، وإليه مرجعي عند البعث يوم القيامة في جميع أحوالي في الدنيا والآخرة .

وقرأ أبو جليد عن نافع : ولا أشرك بالرفع على القطع أي : وأنا لا أشرك به . وجوز أن يكون حالاً أي : أنْ أعبد اللّه غير مشرك به . وكذلك أي : مثل إنزالنا الكتاب على الأنبياء قبلك ، لأن قوله : والذين آتيناهم الكتاب ، يتضمن إنزاله الكتاب ، وهذا الذي أنزلناه هو بلسان العرب ، كما أن الكتب السابقة بلسان من نزلت عليه : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيّنَ لَهُمْ } وأراد بالحكم أنه يفصل بين الحق والباطل ويحكم . و

قال ابن عطية : وقوله وكذلك المعنى : كما يسرنا لهؤلاء الفرح ولهؤلاء الإنكار لبعض كذلك أنزلناه حكماً عربياً انتهى . وانتصب حكماً على الحال من ضمير النصب في أنزلناه ، والضمير عائد على القرآن ، والحكم ما تضمنه القرآن من المعاني . ولما كانت العبارة عنه بلسان العرب نسبه إليها . ولئن اتبعت : الخطاب لغير الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، لأنه معصوم من اتباع أهوائهم .

وقال الزمخشري : هذا من باب الإلهاب والتهييج والبعث للسامعين على الثبات في الدين والتصلب فيه . أن لا يزال زال عند الشبه بعد استمساكه بالحجة ، وإلا فكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من شدة الشكيمة بمكان .

٣٨

انظر تسفير الآية:٤٠

٣٩

انظر تسفير الآية:٤٠

٤٠

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِىَ بِئَايَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّه لِكُلّ } : قال الكلبي : عيرت اليهود الرسول صلى اللّه عليه وسلم وقالوا : ما ترى لهذا الرجل همة إلا النساء والنكاح ، ولو كان نبياً كما زعم لشغله أمر النبوة عن النساء ، فنزلت هذه الآية . قيل : وكانوا يقترحون عليه الآيات وينكرون النسخ ، فرد اللّه تعالى عليهم بأنّ الرسل قبله كانوا مثله ذوي أزواج وذرية ، وما كان لهم أن يأتوا بآيات برأيهم ، ولا يأتون بما يقترح عليهم . ومن الشرائع مصالح تختلف باختلاف الأحوال والأوقات ، فلكل وقت حكم يكتب فيه على العباد أي : يفرض عليهم ما يريده تعالى . وقوله : لكل أجل كتاب ، لفظ عام في الأشياء التي لها آجال ، لأنه ليس منها شيء إلا وله أجل في بدئه وفي خاتمته ، وذلك الأجل مكتوب محصور . وقال الضحاك والفراء : المعنى لكل كتاب أجل ، ولا يجوز ادعاء القلب إلا في ضرورة الشعر

وأما هنا فالمعنى في غاية الصحة بلا عكس ولا قلب بل ادعاء القلب هنا لا يصح المعنى عليه ، إذ ثم أشياء كتبها اللّه تعالى أزلية كالجنة ونعيم أهلها ، لا أجل لها . والظاهر أنّ المحو عبارة عن النسخ من الشرائع والأحكام ، والإثبات عبارة عن دوامها وتقريرها وبقائها أي : يمحو ما يشاء محوه ، ويثبت ما يشاء إثباته .

وقيل : هذا عام في الرزق والأجل والسعادة والشقاوة ، ونسب هذا إلى : عمر ، وابن مسعود ، وأبي وائل ، والضحاك ، وابن جريج ، وكعب الأحبار ، والكلبي . وروي عن عمر ، وابن مسعود ، وأبي وائل في دعائهم ما معناه : أنْ يتأول على أن المعنى : إنْ كنت أشقيتنا بالمعصية فامحها عنا بالمغفرة . ومعلوم أنّ الشقاء والسعادة والرزق والخلق والأجل لا يتغير شيء منها .

وقال ابن عباس : يمحو اللّه ما يشاء من أمور عباده إلا السعادة والشقاوة والآجال ، فإنه لا محو فيها . وقال الحسن وفرقة : هي آجال بني آدم تكتب في ليلة القدر .

وقيل : في ليلة نصف شعبان آجال الموتى ، فتمحى ناس من ديوان الأحياء ويثبتون في ديوان الأموات . وقال قيس بن عباد : في العاشر من رجب يمحو اللّه ما يشاء ويثبت .

وقال ابن عباس : والضحاك : يمحو من ديوان الحفظة ما ليس بحسنة ولا سيئة ، لأنهم مأمورون بكتب كل قول وفعل ، ويثبت غيره .

وقيل : يمحو كفر التائبين ومعاصيهم بالتوبة ، ويثبت إيمانهم وطاعتهم .

وقيل : يمحو بعض الخلائق ويثبت بعضاً من الأناسي ، وسائر الحيوان والنبات والأشجار وصفاتها وأحوالها .

وقال الزمخشري : يمحو اللّه ما يشاء ، ينسخ ما يستصوب نسخه ، ويثبت به له ما يرى المصلحة في اتباعه ، أو يتركه غير منسوخ ، والكلام في نحو هذا واسع المجال انتهى . وهو وقول : قتادة ، وابن جبير ، وابن زيد قالوا : يمحو اللّه ما يشاء من الشرائع والفرائض فينسخه ويبدله ، ويثبت ما يشاء فلا ينسخه . وقال مجاهد : يحكم اللّه أمر السنة في رمضان فيمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء ، إلا الحياة والموت والشقاوة والسعادة . وقال الكلبي : يمحو من الرزق ويزيد فيه . وقال ابن جبير أيضاً : يغفر ما يشاء من ذنوب عباده ، ويترك ما يشاء فلا يغفر . وقال عكرمة : يمحو يعني بالتوبة جميع الذنوب ، ويثبت بدل الذنوب حسنات .

قال تعالى : { إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ اللّه سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ }

وقيل : ينسى الحفظة من الذنوب ولا ينسى . وقال الحسن : يمحو اللّه ما يشاء أجله ، ويثبت من يأتي أجله . وقال السدي : يمحو اللّه يعني القمر ، ويثبت يعني الشمس بيانه { فَمَحَوْنَا ءايَةَ الَّيْلِ وَجَعَلْنَا ءايَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً } الآية .

وقال ابن عباس : إنّ للّه لوحاً محفوظاً وذكر وصفه في كتاب التحبير ، ثم قال : للّه تعالى فيه في كل يوم ثلاثمائة وستون نظرة ، يثبت ما يشاء ويمحو ما يشاء . وقال الربيع : هذا في الأرواح حالة النوم يقبضها عند النوم إذا أراد موته فجأة أمسكه ، ومن أراد بقاءه أثبته وردّه إلى صاحبه ، بيانه قوله تعالى :{ اللّه يَتَوَفَّى الاْنفُسَ حِينَ مِوْتِهَا } الآية . وقال علي بن أبي طالب : يمحو اللّه ما يشاء من القرون لقوله :{ أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّنَ الْقُرُونِ } ويثبت ما يشاء منها لقوله تعالى :{ ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُوناً ءاخَرِينَ } فيمحو قرناً ويثبت قرناً .

وقال ابن عباس : يمحو يميت الرجل على ضلالة وقد عمل بالطاعة الزمن الطويل ، يختمه بالمعصية ويثبت عكسه .

وقيل : يمحو الدنيا ويثبت الآخرة . وفي الحديث عن أبي الدرداء : { أنه تعالى يفتح الذكر في ثلاث ساعات بقين من الليل فينظر ما في الكتاب الذي لا ينظر فيه أحد غيره فيمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء } وقال الغزنوي : ما في اللوح المحفوظ خرج عن الغيب لإحاطة بعض الملائكة ، فيحتمل التبديل وإحاطته الخلق بجميع علم اللّه تعالى ، وما في علمه تعالى من تقدير الأشياء لا يبدل انتهى .

وقيل : غير ذلك مما يطول نقله . وقد استدلت الرافضة بقوله : يمحو اللّه ما يشاء ويثبت ، على أنّ البدء جائز على اللّه تعالى ، وهو أنْ يعتقد شيئاً ثم يظهر له أنّ الأمر خلاف ما اعتقده ، وهذا باطل لأنّ علمه تعالى من لوازم ذاته المخصوصة ، وما كان كذلك كان دخول التغيير والتبديل فيه محالاً

وأما الآية فقد احتملت تلك التأويلات المتقدمة ، فليست نصاً فيما ادعوه ، ولو كانت نصاً وجب تأويله .

وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم : ويثبت مخففاً من أثبت ، وباقي السبعة مثقلاً من ثبت .

وأما قوله { أم الكتاب} فقال ابن عباس أم الكتاب الذكره وقال ايضا وهو كعب هو علم ما هو خالق وما خلقه عاملون . وقالت فرقة : الحلال والحرام ، وهو قول الحسن .

وقال الزمخشري : أصل كل كتاب وهو اللوح المحفوظ ، لأنّ كل كائن مكتوب فيه انتهى . وما جرى مجرى الأصل للشيء تسميه العرب ، أمّا كقولهم : أم الرأس للدماغ ، وأم القرى مكة . و

قال ابن عطية : وأصوب ما يفسر به أم الكتاب أنه ديوان الأمور المحدثة التي قد سبق في القضاء أن تبدل وتمحى ، أو تثبت . وقال نحوه قتادة : إنّ جواب الشرط الأول محذوف ، وكلام ابن عطية في ما ونون التوكيد .

وقال الزمخشري :

وإما نرينك ، وكيفما دات الرحال أريناك مصارعهم ، وما وعدناهم من إنزال العذاب عليهم ، أو نتوفينك قبل ذلك ، فما يجب عليك إلا تبليغ الرسالة ، وعلينا لا عليك حسابهم وجزاؤهم على أعمالهم ، فلا يهمنك إعراضهم ، ولا تستعجل بعذابهم انتهى . وقال الحوفي

وغيره : فإنما عليك البلاغ جواب الشرط ، والذي تقدم شرطان ، لأنّ المعطوف على الشرط شرط . فأما كونه جواباً للشرط الأول فليس بظاهر ، لأنه لا يترتب عليه ، إذ يصير المعنى :

وإما نرينك بعض ما نعدهم من العذاب فإنما عليك البلاغ .

وأما كونه جواباً للشرط الثاني هو أو نتوفينك فكذلك ، لأنه يصير التقدير : إنّ ما نتوفينك فإنما عليك البلاغ ، ولا يترتب وجوب التبليغ عليه على وفاته عليه السلام ، لأنّ التكليف ينقطع بعد الوفاة فيحتاج إلى تأويل وهو : أن يتقدر لكل شرط منهما ما يناسب أن يكون جزاء مترتباً عليه . وذلك أن يكون التقدير واللّه أعلم وأنّ ما نرينك بعض الذي نعدهم به من العذاب فذلك شافيك من أعدائك ، ودليل على صدقك ، إذا أخبرت بما يحل بهم . ولم يعين زمان حلوله بهم ، فاحتمل أن يقع ذلك في حياتك ، واحتمل أن يقع بهم بعد وفاتك أو نتوفينك أي : أو أن نتوفينك قبل حلوله بهم ، فلا لوم عليك ولا عتب ، إذ قد حل بهم بعض ما وعد اللّه به على لسانك من عذابهم ، فإنما عليك البلاغ لا حلول العذاب بهم . إذ ذاك راجع إليّ ، وعلينا جزاؤهم في تكذيبهم إياك ، وكفرهم بما جئت به .

٤١

انظر تسفير الآية:٤٣

٤٢

انظر تسفير الآية:٤٣

٤٣

{أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِى الاْرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللّه يَحْكُمُ لاَ مُعَقّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَللّه الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ وَيَقُولُ } : الضمير في أو لم يروا عائد على الذين وعدوا ، وفي ذلك اتعاظ لمن اتعظ ، نبهوا على أنْ ينظروا بعض الأرض من أطرافها . ونأتي يعني بالأمر والقدرة كقوله :{ فَأَتَى اللّه بُنْيَانَهُمْ } والأرض أرض الكفار المذكورين ، ويعني بنقصها من أطرافها للمسلمين : من جوانبها . كان المسلمون يغزون من حوالى أرض الكفار مما يلي المدينة ، ويغلبون على جوانب أرض مكة ، والأطراف : الجوانب .

وقيل : الطرف من كل شيء خياره ، ومنه قول علي بن أبي طالب : العلوم أودية ، في أي واد أخذت منها خسرت ، فخذوا من كل شيء طرفاً يعني : خياراً قاله ابن عطية ، والذي يظهر أن معنى طرفاً جانباً وبعضاً ، كأنه أشار إلى أنّ الإنسان يكون مشاركاً في أطراف من العلوم ، لأنه لا يمكنه استيعاب جميعها ، ولم يشر إلى أنه يستغرق زمانه في علم واحد .

وقال ابن عباس والضحاك : نأتي أرض هؤلاء بالفتح عليك ، فتنقصها بما يدخل في دينك من القبائل والبلاد المجاورة لهم ، فما يؤمنهم أن يمكنه منهم . وهذا التفسير لا يتأتى إلا أن قدر نزول هذه الآية بالمدينة .

وقيل : الأرض اسم جنس ، والانتقاص من الأطراف بتخريب العمران الذي يحله اللّه بالكفرة . وروي هذا عن ابن عباس أيضاً ، ومجاهد ، وعنهما أيضاً : الانتقاص هو بموت البشر ، وهلاك الثمرات ، ونقص البركة .

وعن ابن عباس أيضاً : موت أشرافها وكبرائها ، وذهاب الصلحاء والأخيار ، فعلى هذا الأطراف هنا الأشراف . وقال ابن الأعرابي : الطرف والطرف الرجل الكريم . وعن عطاء بنن أبي رباح : ذهاب فقهائها وخيار أهلها . وعن مجاهد : موت الفقهاء والعلماء . وقال عكرمة والشعبي : هو نقص الأنفس .

وقيل : هلاك من أهلك من الأمم قبل قريش ، وهلاك أرضهم بعدهم . والمناسب من هذه الأقوال هو الأول . ولم يذكر الزمخشري إلا ما هو قريب منه قال : نأتي الأرض أرض الكفر ننقصها من أطرافها بما يفتح على المسلمين من بلادهم ، فينقص دار الحرب ، ويزيد في دار الإسلام ، وذلك من آيات الغلبة والنصرة . ونحوه :{ أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِى الاْرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ }{ سَنُرِيهِمْ ءايَاتِنَا فِى الاْفَاقِ } والمعنى : عليك بالبلاغ الذي حملته ، ولا تهتم بما وراء ذلك فنحن نكفيكه ، ونتم ما وعدناك من الظفر ، ولا يضجرك تأخره ، فإنّ ذلك لما نعلم من المصالح التي لا تعلمها ، ثم طيب نفسه ونفس عنها بما ذكر من طلوع تباشير الظفر . ويتجه قول من قال : النقص بموت الأشراف والعلماء والخيار وتقريره : أو لم يروا أنا نحدث في الدنيا من الاختلافات خراباً بعد عماره ، وموتاً بعد حياة ، ذلا بعد عز ،

ونقصاً بعد كمال ، وهذه تغييرات مدركة بالحس . فما الذي يؤمنهم أن يقلب اللّه الأمر عليهم ويصيرون دليلين بعد أن كانوا قاهرين .

وقرأ الضحاك : ننقصها مثقلاً ، من نقص عداه بالتضعيف من نقص اللازم ، والمعقب الذي يكر على الشيء فيبطله ، وحقيقته الذي يعقبه أي : بالرد والإبطال ، ومنه قيل لصاحب الحق : والمعقب الذي يكر على الشيء فيبطله ، وحقيقته الذي يعقبه أي : بالرد والإبطال ، ومنه قيل لصاحب الحق : معقب ، لأنه يقفي غريمه بالاقتضاء والطلب . قال لبيد :

طلب المعقب حقه المظلوم

والمعنى : أنه حكم للإسلام بالغلبة والإقبال ، وعلى الكفر بالإدبار والانتكاس .

وقيل : تتعقب أحكامه أي : ينظر في أعقابها أمصيبة هي أم لا ، والجملة من قوله : لا معقب لحكمه في موضع الحال أي : نافذ حكمه ، وهو سريع الحساب تقدم الكلام على مثل هذه الجملة . ثم أخبر تعالى أن الأمم السابقة كان يصدر منهم المكر بأنبيائهم كما فعلت قريش ، وأنّ ذلك عادة المكذبين للرسل ، مكر بابراهيم نمروذ ، وبموسى فرعون ، وبعيسى اليهود ، وجعل تعالى مكرهم كلا مكر إذ أضاف المكر كله تعالى . ومعنى مكره تعالى عقوبته إياهم ، سماها مكراً إذ كانت ناشئة عن المكر وذلك على سبيل المقابلة كقوله : { اللّه يَسْتَهْزِىء بِهِمْ } ثم فسر قوله فللّه المكر ، بقوله : يعلم ما تكسب كل نفس ، والمعنى : يجازي كل نفس بما كسبت . ثم هدد الكافر بقوله : وسيعلم الكافر لمن عقبى الدار ، إذ يأتيه العذاب من حيث هو في غفلة عنه ، فحينئذ يعلم لمن هي العاقبة المحمودة .

وقرأ جناح بن حبيش : وسيعلم الكافر مبنياً للمعفول من أعلم أي : وسيخبر .

وقرأ الحرميان ، وأبو عمرو : الكافر على الإفراد والمراد به الجنس ، وباقي السبعة الكفار جمع تكسير ، وابن مسعود : الكافرون جمع سلامة وأبي الذين كفروا ، وفسر عطاء الكافر بالمستهزئين وهم خمسة ، والمقتسمين وهم ثمانية وعشرون .

وقال ابن عباس : يريد بالكافر أبا جهل . وينبغي أن يحمل تفسيره عطاء على التمثيل ، لأنّ الإخبار بعلم الكافر لمن عقبى الدار معنى يعم جميع الكفار ، ولما قال الكفار : لست مرسلاً أي : إنما أنت مدع ما ليس لك ، أمره تعالى أن يكتفي بشهادة اللّه تعالى بينهم ، إذ قد أظهر على يديه من الأدلة على رسالته ما في بعضها كفاية لمن وفق ، ثم أردف شهادة اللّه بشهادة من عنده علم الكتاب . والكتاب هنا القرآن ، والمعنى : إنّ من عرف ما ألف فيه من المعاني الصحيحة والنظم المعجز الفائت لقدر البشر يشهد بذلك .

وقيل : الكتاب التوراة والإنجيل ، والذي عنده علم الكتاب : من أسلم من علمائهم ، لأنهم يشهدون نعته عليه الصلاة والسلام في كتبهم . قال قتادة ، كعبد اللّه بن سلام ، وتميم الداري ، وسلمان الفارسي . وقال مجاهد : يريد عبد اللّه بن سلام خاصة . وهذان القولان لا يستقيمان إلا على أن تكون الآية مدنية ، والجمهور على أنها مكية . وقال محمد بن الحنفية ، والباقر : هو علي بن أبي طالب .

وقيل : جبريل ، والكتاب اللوح المحفوظ .

وقيل : هو اللّه تعالى قاله : الحسن ، وابن

جبير والزجاج ، وعن الحسن : لا واللّه ما يعني إلا اللّه ، والمعنى : كفى بالذي يستحق العبادة ، وبالذي لا يعلم ما في اللوح إلا هو شهيداً بيني وبينكم .

قال ابن عطية : ويعترض هذا القول بأن فيه عطف الصفة على الموصوف ، وذلك لا يجوز ، وإنما تعطف الصفات بعضها على بعض انتهى . وليس ذلك كما زعم من عطف الصفة على الموصوف ، لأنّ من لا يوصف بها ولا لشيء من الموصولات إلا بالذي والتي وفروعهما ، وذو وذوات الطائيتين . وقوله : وإنما تعطف الصفات بعضها على بعض ليس على إطلاقه ، بل له شرط وهو أن تختلف مدلولاتها . ويعني ابن عطية : لا تقول مررت بزيد . والعالم فتعطف ، والعالم على الاسم وهو علم لم يلحظ منه معنى صفة ، وكذلك اللّه علم . ولما شعر بهذا الاعتراض من جعله معطوفاً على اللّه قدر قوله : بالذي يستحق العبادة ، حتى يكون من عطف الصفات بعضها على بعض ، لا من عطف الصفة على الاسم . ومن في قراءة الجمهور في موضع خفض عطفاً على لفظ اللّه ، أو في موضع رفع عطفاً على موضع اللّه ، إذ هو في مذهب من جعل الباء زائدة فاعل بكفى . و

قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون في موضع رفع بالابتداء ، والخبر محذوف تقديره : أعدل وأمضى قولاً ونحو هذا مما يدل عليه لفظة شهيداً ، ويراد بذلك اللّه تعالى . وقرىء : وبمن بدخول الباء على من عطفاً على باللّه .

وقرأ علي وأبي وابن عباس وعكرمة وابن جبير وعبد الرحمن بن أبي بكرة والضحاك وسالم بن عبد اللّه بن عمرو بن أبي إسحاق ، ومجاهد ، والحكم ، والأعمش : ومن عنده علم الكتاب بجعل من حرف جر ، وجر ما بعده به ، وارتفاع علم بالابتداء ، والجار والمجرو في موضع الجر .

وقرأ علي أيضاً وابن السميقع ، والحسن بخلاف عنه . ومن عنده بجعل من حرف جر علم الكتاب ، بجعل علم فعلاً مبنياً للمفعول ، والكتاب رفع به . وقرىء ومن عنده بحرف جر علم الكتاب مشدداً مبنياً للمفعول ، والضمير في عنده في هذه القراآت الثلاث عائد على اللّه تعالى .

وقال الزمخشري في القراءة التي وقع فيها عنده صلة برتفع العلم بالمقدر في الظرف فيكون فاعلاً ، لأنّ الظرف إذا وقع صلة أو غل في شبه الفعل لاعتماده على الموصول ، فعمل على الفعل كقولك : مررت بالذي في الدار أخوه ، فأخوه فاعل ، كما تقول : بالذي استقر في الدار أخوه انتهى . وهذا الذي قاله الزمخشري ليس على وجه التحتم ، لأنّ الظرف والجار والمجرور إذا وقعا صلتين أو حالين أو خبرين ، إما في الأصل ،

وإما في الناسخ ، أو تقدمهما أداة نفي ، أو استفهام ، جاز فيما بعدهما من الاسم الظاهر أن يرتفع على الفاعل وهو الأجود ، وجاز أن يكون ذلك المرفوع مبتدأ ، والظرف أو الجار والمجرور في مضوع رفع خبره ، والجملة من المبتدأ والخبر صلة أو صفة أو حال أو خبر ، وهذا مبني على اسم الفاعل . فكما جاز ذلك في اسم الفاعل ، وإن كان الأحسن إعماله في الاسم الظاهر ، فكذلك يجوز في ما ناب عنه من ظرف أو مجرور . وقد نص سيبويه على إجازة ذلك في نحو : مررت برجل حسن وجهه ، فأجاز حسن وجهه على رفع حسن على أنه خبر مقدم ، وهكذا تلقفنا هذه المسألة عن الشيوخ . وقد يتوهم بعض النشأة في النحو أن اسم الفاعل إذا اعتمد على شيء مما ذكرناه يتحتم إعماله في الظاهر ، وليس كذلك . وقد أعرب الحوفي عنده علم الكتاب مبتدأ وخبراً في صلة من . وقال أبو البقاء : ويجوز أن يكون خبراً يعني عنده ، والمبتدأ علم الكتاب انتهى . ومن قرأ : ومن عنده ، على أنه حرف جر فالكتاب في قراءته هو القرآن ، والمعنى : أنه تعالى من جهة فضله وإحسانه علم الكتاب ، أو علم الكتاب على القراءتين ، أي : علمت معانيه وكونه أعظم المعجزات الباقي على مر الأعصار ، فتشريف العبد بعلوم القرآن إنما ذلك من إحسان اللّه تعالى إليه وتوفيقه على كونه معجزاً ، وتوفيقه لإدراك ذلك .

﴿ ٠