٣

{الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ ... } : هذه السورة مكية كلها في قول الجمهور ،

وعن ابن عباس وقتادة ، هي مكية إلا من قوله :{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَتَ اللّه كُفْرًا } إلى قوله { إِلَى النَّارِ } وارتباط أول هذه السورة بالسورة قبلها واضح جداً ، لأنه ذكر فيها :{ وَلَوْ أَنَّ قَرْناً } ثم { وَكَذالِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيّا } ثم { وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ } فناسب هذا قوله الر كتاب أنزلناه إليك . وأيضاً فإنهم لما قالوا على سبيل الاقتراح { لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ مّن رَّبّهِ }

وقيل له :{ قُلْ إِنَّ اللّه يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ } أنزل الر كتاب أنزلناه إليك كأنه قيل :أو لم يكفهم من الآيات كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات هي الضلال ، إلى النور وهو الهدى .

وجوزوا في إعراب الر أن يكون في موضع رفع بالابتداء ، وكتاب الخبر ، أو في موضع رفع على خبر مبتدأ محذوف تقديره : هذه الر ، وفي موضع نصب على تقدير : الزم أو اقرأ الر . وكتاب أنزلناه إليك جملة مفسرة في هذين الإعرابين ، وكتاب مبتدأ . وسوغ الابتداء به كونه موصوفاً في التقدير أي : كتاب أي : عظيم أنزلناه إليك . وجوزوا أن يكون كتاب خبر مبتدأ محذوف تقديره : هذا كتاب ، وأنزلناه جملة في موضع الصفة .

وفي قوله : أنزلناه . وإسناد الإنزال إلى نون العظمة ومخاطبته تعالى بقوله إليك ، وإسناد الإخراج إليه عليه الصلاة والسلام ، تنويه عظيم وتشريف له صلى اللّه عليه وسلم من حيث المشاركة في تحصيل الهداية بإنزاله تعالى ، وبإخراجه عليه الصلاة والسلام ، إذ هو الداعي والمنذر ، وإن كان في الحقيقة مخترع الهداية هو اللّه تعالى . والناس عام ، إذ هو مبعوث إلى الخلق كلهم ، والظلمات والنور مستعاران للكفر والإيمان . ولما ذكر علة إنزال الكتاب وهي قوله : لتخرج قال : بإذن ربهم ، أي : ذلك الإخراج بتسهيل مالكهم الناظر في مصالحهم ، إذ هم عبيده ، فناسب ذكر الرب هنا تنبيهاً على منة المالك ، وكونه ناظراً في حال عبيدة ، وبإذن ظاهره التعلق بقوله : لتخرج . وجوز أبو البقاء أن يكون بإذن ربهم في موضع الحال قال : أي مأذوناً لك .

وقال الزمخشري : بإذن ربهم بتسهيله وتيسيره ، مستعار من الإذن الذي هو تسهيل الحجاب ، وذلك ما يمنحهم من اللطف والتوفيق انتهى . وفيه دسيسة الاعتزال .

والظاهر أن قوله : إن صراط ، بدل من قوله إلى النور ، ولا يضر هذا الفصل بين المبدل منه والبدل ، لأنّ بإذن معمول للعامل في المبدل منه وهو لتخرج . وأجاز الزمخشري أن يكون إلى صراط على وجه الاستئناف ، كأنه قيل : إلى أي نور ، فقيل : إلى صراط العزيز الحميد . وقرىء : ليخرج مضارع خرج بالياء بنقطتين من تحتها ، والناس رفع به . ولما كان قوله : إلى النور ، فيه إبهام مّا أوضحه بقوله : إلى صراط . ولما تقدم شيئان أحدهما إسناد إنزال هذا الكتاب إليه . والثاني إخراج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم ، ناسب ذكر هاتين الصفتين صفة العزة المتضمنة للقدرة والغلبة وذلك من حيث إنزال الكتاب ، وصفة الحمد المتضمنة استحقاقه الحمد من حيث الإخراج من الظلمات إلى النور ، إذ الهداية إلى الإيمان هي النعمة التي يجب على العبد الحمد عليها والشكر . وتقدمت صفة العزيز ، لتقدم ما دل عليها ، وتليها صفة الحميد لتلو ما دل عليها .

وقرأ نافع وابن عامر اللّه بالرفع فقيل : مبتدأ محذوف أي : هو اللّه . وهذا الإعراب أمكن لظهور تعلقه بما قبله ، وتفلته على التقدير الأول .

وقرأ باقي السبعة والأصمعي عن نافع : اللّه بالجر على البدل في قول ابن عطية ، والحوفي ، وأبي البقاء . وعلى عطف البيان في قول الزمخشري قال : لأنه جرى مجرى الأسماء الأعلام لغلبته واختصاصه بالمعبود الذي يحق له العبادة ، كما غلب النجم على الثريا انتهى . وهذا التعليل لا يتم إلا على تقدير : أن يكون أصله الإله ، ثم نقلت الحركة إلى لام التعريف وحذفت الهمزة ، والتزم فيه النقل والحذف ، ومادته إذ ذاك الهمزة واللام والهاء ، وقد تقدمت الأقوال في هذا اللفظ في البسملة أول الحمد . وقال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور : لا تقدم صفة على موصوف إلى حيث سمع وذلك قليل ، وللعرب فيما وجد من ذلك وجهان :

أحدهما : أن تقدم الصفة وتبقيتها على ما كانت عليه ، وفي إعراب مثل هذا وجهان :

أحدهما : إعرابه نعتاً مقدماً ،

والثاني : أن يجعل ما بعد الصفة بدلاً . والوجه

الثاني : أن تضيف الصفة إلى الموصوف إذا قدمتها انتهى . فعلى هذا الذي ذكره ابن عصفور يجوز أن يكون العزيز الحميد يعربان صفتين متقدمتين ، ويعرب لفظ اللّه موصوفاً متأخراً . ومما جاء فيه تقديم ما لو تأخير لكان صفة ، وتأخير ما لو تقدم لكان موصوفاً قول الشاعر : والمؤمنم العائذات الطير يمسحها

ركبان مكة بين الغيل والسعد

فلو جاء على الكثير لكان التركيب : والمؤمن الطير العائذات ، وارتفع ويل على الابتداء ، وللكافرين خبره . لما تقدم ذكره الظلمات دعا بالهلكة على من لم يخرج منها ، ومن عذاب شديد في موضع الصفة لويل . ولا يضر الفصل والخبر بين الصفة والموصوف ، ولا يجوز أن يكون متعلقاً بويل لأنه مصدر ولا يجوز الفصل بين المصدر وما يتعلق به بالخبر . ويظهر من كلام الزمخشري أنه ليس في موضع الصفة . قال :

فإن قلت : ما وجه اتصال قوله من عذاب شديد بالويل ؟

قلت : لأن المعنى أنهم يولون من عذاب شديد ويضجون منه ، ويقولوزن يا ويلاه كقوله : { دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً } انتهى . وظاهره يدل على تقديره عامل يتعلق به من عذاب شديد ، ويحتمل هذا العذاب أن يكون واقعاً بهم في الدنيا ، أو واقعاً بهم في الآخرة . والاستحباب الإيثار والاختيار ، وهو استفعال من المحبة ، لأنّ المؤثر للشيء على غيره كأنه يطلب من نفسه يكون أحب إليها وأفضل عندها من الآخر . ويجوز أن يكون استفعل بمعنى أفعل كاستجاب وأجاب ، ولما ضمن معنى الإيثار عدي بعلى . وجوزوا في إعراب الذين أن يكون مبتدأ خبره أولئك في ضلال بعيد ، وأن يكون معطوفاً على الذم ، إما خبر مبتدأ محذوف أي هم الذين ،

وإما منصوباً بإضمار فعل تقديره أذم ، وأن يكون بدلا ، وأن يكون صفة للكافرين . ونص على هذا الوجه الأخير الحوفي والزمخشري وأبو البقاء ، وهو لا يجوز ، لأن فيه الفصل بين الصفة والموصوف بأجنبي منهما وهو قوله : من عذاب شديد ،

سواء كان من عذاب شديد في موضع الصفة لويل ، أم متعلقاً بفعل محذوف أي : يضجون ويولولون من عذاب شديد . ونظيره إذا كان صفة أن تقول : الدار لزيد الحسنة القرشي ، فهذا التركيب لا يجوز ، لأنك فصلت بين زيد وصفته بأجنبي منهما وهو صفة الدار ، والتركيب الفصيح أن تقول : الدار الحسنة لزيد القرشي ، أو الدار لزيد القرشي الحسنة

وقرأ الحسن : ويصدون مضارع أصد ، الداخل عليه همزة النقل من صد اللازم صدوداً . وتقدم الكلام عل قوله تعالى : { وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا } في آل عمران ، وعلى وصف الضلال بالبعد قوله عز وجل :

﴿ ٣