سورة الإسراء

مكية

بسم اللّه الرحمن الرحيم

١

سبحان الذي أسرى . . . . .

جاسَ يَجُوسُ جوساً وَجَوَساناً تردد في الغارة قاله الليث . وقال أبو عبيدة : جاسوا فتشوا هل بقي ممن لم يقتل . وقال الفراء : قيلوا . قال حسان :

ومنا الذي لاقى لسيف محمد فجاس به الأعداء عرض العساكر .

وقال قطرب : نزلوا قال الشاعر : فجسنا ديارهم عنوة

وأبناء ساداتهم موثقينا

وقيل : داسوا ، ومنه :

إليك جسنا الليل بالمطي

وقال أبو زيد : الجوس والحوس والعوس والهوس الطواف بالليل . فالجوس والحوس طلب الشي باستقصاء . حظرت الشيء منعته .

{سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الاْقْصَى الَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ ءايَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ}

سبب نزول { سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ } ذكر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لقريش الإسراء به وتكذبيهم له ، فأنز اللّه ذلك تصديقاً له ، وهذه السورة مكية قال صاحب الغنيان بإجماع

وقيل : إلا آيتين { وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ }{ وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ }

وقيل : إلا أربع هاتان وقوله :{ وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ } وقوله { وَقُل رَّبّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ } ، وزاد مقاتل قوله تعالى :{ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ } الآية وقال قتادة إلا ثماني آيات أنزلت بالمدينة وهي من قوله :{ وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ } إلى آخرهن . ومناسبة أول هذه السورة لآخر ما قبلها أنه تعالى لما أمره بالصبر ونهاه عن الحزن عليهم وأن يضيق صدره من مكرهم ، وكان من مكرهم نسبته إلى الكذب والسحر والسعر وغير ذلك مما رموه به ، أعقب تعالى ذلك بذكر شرفه وفضله واحتفائه به وعلو منزلته عنده ، وتقدّم الكلام على سبحان في البقرة . وزعم الزمخشري أنه علم للتسبيح كعثمان للرجل . و

قال ابن عطية : ولم ينصرف لأن في آخره زائدتين وهو معرفة بالعلمية وإضافته لا تزيده تعريفاً انتهى . ويعنيان واللّه أعلم أنه إذا لم يضف كقوله :

سبحان من علقمة الفاخر

وأما إذا أضيف فلو فرضنا أنه علم لنوي تنكيره ثم يضاف وصار إذ ذاك تعريفه بالإضافة لا بالعلمية .

{وأسرى } بمعنى سرى وليست الهمزة فيه للتعدية وعدّيا بالباء ولا يلزم من تعديته بالباء المشاركة في الفعل ، بل المعنى جعله يسرى لأن السرى يدل على الانتقال كمشى وجرى وهو مستحيل على اللّه تعالى ، فهو كقوله :{ اللّه لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ } أي لأذهب سمعهم ، فأسرى وسرى على هذا كسقى وأسقى إذا كانا بمعنى واحد ، ولذلك

قال المفسرون معناه سرى بعبده . و

قال ابن عطية : ويظهران { أَسْرَى } معداة بالهمزة إلى مفعول محذوف تقديره أسرى الملائكة بعبده لأنه يقلق أن يسند أسرى وهو بمعنى سرى إلى اللّه تعالى إذ هو فعل يعطي النقلة كمشى وجرى وأحضر وانتقل ، فلا يحسن إسناد شيء من هذا ونحن نجد مندوحة فإذا صرحت الشريعة بشيء من هذا النحو كقوله في الحديث : { أتيته سعياً وأتيته هرولة } حمل ذلك بالتأويل على الوجه المخلص من نفي الحوادث ، و { أَسْرَى } في هذه الآية تخرج فصيحة كما ذكرنا ولا يحتاج إلى تجوز قلق في مثل هذه اللفظة فإنه ألزم للنقلة من أتيته وأتى اللّه بنيانهم انتهى . وإنما احتاج ابن عطية إلى هذه الدعوى اعتقاد أنه إذا كان أسرى بمعنى سرى لزم من كون الباء للتعدية مشاركة الفاعل للمفعول وهذا شيء ذهب إليه المبرد ، فإذا

قلت : قمت بزيد لزم منه قيامك وقيام زيد عنده وهذا ليس كذلك ، التبست عنده باء التعدية بباء الحال ، فباء الحال يلزم فيه المشاركة إذ المعنى قمت ملتبساً بزيد وباء التعدية مرادفة للّهمزة ، فقمت بزيد والباء للتعدية كقولك أقمت زيداً ولا يلزم من إقامتكه أن تقوم أنت .

قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون أسرى بمعنى سرى على حذف مضاف كنحو قوله تعالى :{ ذَهَبَ اللّه بِنُورِهِمْ } يعني أن يكون التقدير أسرت ملائكته بعبده ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، وهذا مبني على اعتقاد أنه يلزم المشاركة والباء للتعدية وأيضاً فموارد القرآن في فأسر بقطع الهمزة ووصلها يقتضي أنهما بمعنى واحد ، ألا ترى أن قوله :{ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ }{ وَأَنْ أَسْرِ بِعِبَادِى } قرىء بالقطع والوصل ، ويبعد مع القطع تقدير مفعول محذوف إذ لم يصرح به في موضع ، فيستدل بالمصرح على المحذوف . والظاهر أن هذا الإسراء كان بشخصه ولذلك كذبت قريش به وشنعت عليه ، وحين قص ذلك على أم هانىء قالت : لا تحدث الناس بها فيكذبوك ولو كان مناماً استنكر ذلك وهو قول جمهور أهل العلم ، وهو الذي ينبغي أن يعتقد . وحديث الإسراء مروي في المسانيد عن الصحابة في كل أقطار الإسلام ، وذكر أنه رواه عشرون من الصحابة . قيل وما روي عن عائشة ومعاوية أنه كان مناماً فلعله لا يصح عنهما ، ولو صح لم يكن في ذلك حجة لأنهما لم

يشاهدا ذلك لصغر عائشة وكفر معاوية إذ ذاك ، ولأنهما لم يسندا ذلك إلى الرسول صلى اللّه عليه وسلم ولا حدّثا به عنه . وعن الحسن كان في المنام رؤيا رآها وقوله : { بِعَبْدِهِ } هو محمد صلى اللّه عليه وسلم. وقال أبو القاسم سليمان الأنصاري : لما وصل محمد صلى اللّه عليه وسلم إلى الدرجات العالية والمراتب الرفيعة في المعارج أوحى اللّه إليه : يا محمد أشرفك ؟ قال : يا رب بنسبتي إليك بالعبودية ، فأنزل فيه { سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ } الآية انتهى . وعنه قالوا : عبد اللّه ورسوله ، وعنه إنما أنا عبد وهذه إضافة تشريف واختصاص . وقال الشاعر : لا تدعني إلا بيا عبدها

لأنه أشرف أسمائي

وقال العلماء : لو كان لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اسم أشرف منه لسماه به في تلك الحالة .

وانتصب { لَيْلاً } على الظرف ، ومعلوم أن السُّرَى لا يكون في اللغة إلا بالليل ، ولكنه ذكر على سبيل التوكيد .

وقيل : يعني في جوف الليل فلم يكن إدلاجاً ولا إدّلاجاً .

وقال الزمخشري : أراد بقوله :{ لَيْلاً } بلفظ التنكير تقليل مدة الإسراء ، وأنه أسرى به في بعض الليل من مكة إلى الشام مسيرة أربعين ليلة ، وذلك أن التنكير فيه قد دلّ على معنى البعضية ، ويشهد لذلك قراءة عبد اللّه وحذيفة من الليل أي بعض الليل كقوله :{ وَمِنَ الَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ } على الأمر بالقيام في بعض الليل انتهى . والظاهر أن قوله :{ مّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } هو المسجد المحيط بالكعبة بعينه ، وهو قول أنس .

وقيل من الحجر .

وقيل من بين زمزم والمقام .

وقيل من شعب أبي طالب .

وقيل من بيت أم هانىء .

وقيل من سقف بيته عليه السلام ، وعلى هذه الأقوال الثلاثة يكون أطلق المسجد الحرام على مكة . وقال قتادة ومقاتل : قبل الهجرة بعام . وقالت عائشة بعام ونصف في رجب .

وقيل في سبع عشرة من ربيع الأول والرسول عليه السلام ابن إحدى وخمسين سنة وتسعة أشهر وثمانية وعشرين يوماً . وعن ابن شهاب بعد المبعث بسبعة أعوام . وعن الحربي ليلة سبع وعشرين من ربيع الآخر قبل الهجرة بسنة ، والمتحقق أن ذلك كان بعد شق الصحيفة وقبل بيعة العقبة ، ووقع لشريك بن أبي نمر في الصحيح أن ذلك كان قبل أن يوحى إليه ، ولا خلاف بين المحدثين أن ذلك وهم من شريك .

وحكى الزمخشري عن أنس والحسن أنه كان قبل المبعث .

وقال أبو بكر محمد بن عليّ بن القاسم الرعيني في تاريخه : أسري به من مكة إلى بيت المقدس وعرج به إلى السماء قبل مبعثه بثمانية عشر شهراً ، ويروى أنه كان نائماً في بيت أم هانىء بعد صلاة العشاء ، فأسري به ورجع من ليلته وقص القصة على أم هانىء وقال : { مثل لي النبيون فصليت بهم} . وقام ليخرج إلى المسجد فتشبثت أم هانىء بثوبه فقال : { مالك } ؟ قالت : أخشى أن يكذبك قومك إن أخبرتهم ، قال :  { وإن كذبوني } فخرج فجلس إليه أبو جهل فأخبره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بحديث الإسراء . فقال أبو جهل : يا معشر بني كعب بن لؤي هلم فحدثهم فمن بين مصفق وواضع يده على رأسه تعجباً وإنكاراً ، وارتد ناس ممن كان آمن به وسعى رجال إلى أبي بكر فقال : إن كان قال ذلك لقد صدق ، قالوا : أتصدقه على ذلك ؟ قال : إني لأصدقه على أبعد من ذلك ، فسمي الصديق رضي اللّه تعالى عنه . ومنهم من سافر إلى المسجد الأقصى فاستنعتوه ، فجلى له بيت المقدس فطفق ينظر إليه وينعته لهم ، فقالوا : أما النعت فقد أصاب فقالوا : أخبرنا عن عيرنا ، فأخبرهم بعدد جمالها وأحوالها وقال :  { تقدم يوم كذا مع طلوع الشمس يقدمها جمل أورق } فخرجوا يشتدّون ذلك اليوم نحو الثنية . فقال قائل منهم : واللّه هذه الشمس قد شرقت . وقال آخر : وهذه واللّه العير قد أقبلت بقدمها جمل أورق كما قال محمد ثم لم يؤمنوا وقالوا : ما هذا إلاّ سحر بين ، وقد عرج به إلى السماء في تلك

الليلة وكان العروج به من بيت المقدس ، وأخبر قريشاً أيضاً بما رأى في السماء من العجائب ، وأنه لقي الأنبياء وبلغ البيت المعمور وسدرة المنتهى . وهذا على قول من قال أن هذه الليلة هي ليلة المعراج وهو قول ابن مسعود وجماعة . وذهب بعضهم إلى أن ليلة المعراج هي غير ليلة الإسراء .

{وَالْمَسْجِدِ الاْقْصَى } مسجد بيت المقدس وسمي الأقصى لأنه كان في ذلك الوقت أقصى بيوت اللّه الفاضلة من الكعبة .

قال ابن عطية : ويحتمل أن يريد بالأقصى البعيد دون مفاضلة بينه وبين سواه ، ويكون المقصد إظهار العجب في الإسراء إلى هذا البعد في ليلة انتهى . ولفظه { إِلَى } تقتضي أنه انتهى الإسراء به إلى حدّ ذلك المسجد ولا يدل من حيث الوضع على دخوله .

{وَالَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ } صفة مدح لإزالة اشتراط عارض وبركته بما خص به من الخيرات الدينية كالنبوّة والشرائع والرسل الذين كانوا في ذلك القطر ونواحيه ونواديه ، والدنياوية من كثرة الأشجار والأنهار وطيب الأرض . وفي الحديث } أنه تعالى بارك فيما بين العريش إلى الفرات وخص فلسطين بالتقديس} .

وقرأ الجمهور { لِنُرِيَهُ } بالنون وهو التفات من ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم ، وقراءة الحسن ليريه بالياء فيكون الالتفات في آياتنا وهذه رؤيا عين والآيات التي أريها هي العجائب التي أخبر بها الناس وإسراؤه من مكة وعروجه إلى السماء ووصفه الأنبياء واحداً واحداً حسبما ثبت في الصحيح . و

قال ابن عطية : ويحتمل أن يريد ليرى محمداً للناس آية ، أي يكون النبي صلى اللّه عليه وسلم آية في أن يصنع اللّه ببشر هذا الصنع فتكون الرؤية على هذا رؤية القلب .

قال الزمخشري :{ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ } لأقوال محمد { البَصِيرُ } بأفعاله العالم بتهذيبها وخلوصها فيكرمه ويقربه على حسب ذلك . و

قال ابن عطية : وعيد من اللّه للكفار على تكذيبهم محمداً صلى اللّه عليه وسلم في أمر الإسراء ، فهي إشارة لطيفة بليغة إلى ذلك أي هو السميع لما تقولون البصير بأفعالكم انتهى .

٢

وآتينا موسى الكتاب . . . . .

ولما ذكر تشريف الرسول صلى اللّه عليه وسلم بالإسراء وإراءته الآيات ذكر تشريف موسى بايتائه التوراة { وَءاتَيْنَا } معطوف على الجملة السابقة من تنزيه اللّه تعالى وبراءته من السوء ، ولا يلزم من عطف الجمل المشاركة في الخبر أو غيره . و

قال ابن عطية : عطف قوله وآتينا على ما في قوله أسرى بعبده من تقدير الخبر كأنه قال : أسرينا بعبدنا وأريناه آياتنا وآتينا . وقال العكبري وآتينا معطوف على أسرى انتهى . وفيه بعد و { الْكِتَابِ } هنا التوراة ، والظاهر عود الضمير من وجعلناه على الكتاب ، ويحتمل أن يعود على موسى ، ويجوز أن تكون أن تفسيرية ولا نهي وأن تكون مصدرية تعليلاً أي لأن لا يتخذوا ولا نفي ، ولا يجوز أن تكون أن زائدة ويكون لا تتخذوا معمولاً لقول محذوف خلافاً لمجوز ذلك إذ ليس من مواضع زيادة أن .

وقرأ ابن عباس ومجاهد وقتادة وعيسى وأبو رجاء وأبو عمرو من السبعة : يتخذوا بالياء على الغيبة وباقي السبعة بتاء الخطاب ، والوكيل فعيل من التوكل أي متوكلاً عليه .

وقال الزمخشري رباً تكلون إليه أموركم . وقال ابن جرير : حفيظاً لكم سواي . وقال أبو الفرج بن الجوزي : قيل للرب وكيل لكفايته وقيامه بشؤون عباده ، لا على معنى ارتفاع منزلة الموكل وانحطاط أمر الوكيل انتهى .

٣

ذرية من حملنا . . . . .

وانتصب { ذُرّيَّةِ } على النداء أي يا ذرّية أو على البدل من وكيلاً ، أو على المفعول الثاني ليتخذوا ووكيلاً وفي معنى الجمع أي لا يتخذوا وكلاء ذرية ، أو على إضمار أعني . وقرأت فرقة ذرية بالرفع وخرج على أن يكون بدلاً من الضمير في يتخذوا على قراءة من قرأ بياء الغيبة . و

قال ابن عطية : ولا يجوز في القراءة بالتاء لأنك لا تبدل من ضمير مخاطب لو قلت ضربتك زيداً على البدل لم يجز انتهى . وما ذكره من إطلاق إنك لا تبدل من ضمير مخاطب يحتاج إلى تفصيل ، وذلك أنه إن كان في بدل بعض من كل وبدل اشتمال جاز بلا خلاف ، وإن كان في بدل شيء من شيء وهما لعين واحدة وإن كان يفيد التوكيد جاز بلا خلاف ، نحو : مررت بكم صغيركم وكبيركم وإن لم يفد التوكيد ، فمذهب جمهور البصريين المنع ومذهب الأخفش والكوفيين الجواز وهو الصحيح لوجود ذلك في كلام العرب ، وقد استدللنا على صحة ذلك في شرح كتاب التسهيل ، وذكر من حملنا مع نوح تنبيهاً على النعمة التي نجاهم بها من الغرق .

وقرأ زيد بن ثابت وأبان بن عثمان وزيد بن عليّ ومجاهد في رواية بكسر

ذال ذرية .

وقرأ مجاهد أيضاً بفتحها . وعن زيد بن ثابت ذرية بفتح الذال وتخفيف الراء وتشديد الياء على وزن فعليه كمطيه . والظاهر أن الضمير في أنه عائد على نوح . قال سلمان الفارسي : كان يحمد اللّه على طعامه . وقال إبراهيم شكره إذا أكلَّ قال : بسم اللّه ، فإذا فرغ قال : الحمد للّه . وقال قتادة : كان إذا لبس ثوباً قال : بسم اللّه ، وإذا نزعه قال : الحمد للّه .

وقيل : الضمير في أنه عائد إلى موسى انتهى . ونبه على الشكر لأنه يستلزم التوحيد إذ النعم التي يجب الشكر عليها هي من عنده تعالى ، فكأنه قيل كونوا موحدين شاكرين لنعم اللّه مقتدين بنوح الذي أنتم ذرية من حمل معه .

٤

وقضينا إلى بني . . . . .

{قَضَى } يتعدّى بنفسه إلى مفعول كقوله :{ فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الاْجَلَ } ولما ضمن هنا معنى الإيحاء أو الإنفاذ تعدّى بإلى أي وأوحينا أو أنفذنا إلى بني إسرائيل في القضاء المحتوم المبتوت .

وعن ابن عباس معناه أعلمناهم ، وعنه أيضاً قضينا عليهم ، وعنه أيضاً كتبنا . واللام في { لَتُفْسِدُنَّ } جواب قسم ، فإما أن يقدر محذوفاً ويكون متعلق القضاء محذوفاً تقديره وقضينا إلى بني إسرائيل بفسادهم في الأرض وعلوهم ، ثم أقسم على وقوع ذلك وأنه كائن لا محالة ، فحذف متعلق قضينا وأبقى منصوب القسم المحذوف . ويجوز أن يكون قضينا أجري مجرى القسم ولتفسدنّ جوابه ، كقولهم قضاء اللّه لأقومنّ .

وقرأ أبو العالية وابن جبير في الكتب على الجمع والجمهور على الإفراد فاحتمل أن يريد به الجنس ، والظاهر أن يراد التوراة .

وقرأ ابن عباس ونصر بن عليّ وجابر بن زيد لتفسدنّ بضم التاء وفتح السين مبنياً للمفعول أي يفسدكم غيركم . فقيل من الإضلال .

وقيل من الغلبة .

وقرأ عيسى لتفسدنّ أي فسدتم بأنفسكم بإرتكاب المعاصي مرتين أولاهما قتل زكرياء عليه السلام قاله السدّي عن أشياخه ، وقاله ابن مسعود وابن عباس ، وذلك أنه لما مات صديقة ملكهم تنافسوا على الملك وقتل بعضهم بعضاً ولا يسمعون من زكريا . فقال اللّه له : قم في قومك أوح على لسانك ، فلما فرغ مما أوحى اللّه إليه عدواً عليه ليقتلوه فهرب فانفلقت له شجرة فدخل فيها ، وأدركه الشيطان فأخذ هدبة من ثوبه فأراهم إياها فوضعوا المنشار في وسطها حتى قطعوه في وسطها .

وقيل : سبب قتل زكريا أنهم اتهموه بمريم قيل قالوا حين حملت مريم : ضيع بنت سيدنا حتى زنت ، فقطعوه بالمنشار في الشجرة .

وقيل شعياء قاله ابن إسحاق وإن كان زكرياء مات موتاً ولم يقتل وإن الذي دخل الشجرة وقطع نصفين بالمنشار في وسطها هو شعياء ، وكان قبل زكرياء وحبس أرمياء حين أنذرهم سخط اللّه والآخرة قبل يحيى بن زكرياء وقصد قتل عيسى ابن مريم أعلم اللّه بني إسرائيل في التوراة أنه سيقع منهم عصيان وكفر لنعم اللّه تعالى في الرسل وفي الكتب وغير ذلك ، وأنه سيرسل عليهم أمّة تغلبهم وتقتلهم وتذلهم ثم يرحمهم بعد ذلك ويجعل لهم الكرة ويردهم إلى حالهم الأولى من الظهور فتقع منهم المعاصي وكفر النعم والظلم والقتل والكفر باللّه من بعضهم ، فيبعث اللّه عليهم أمة أخرى تخرب ديارهم وتقتلهم وتجليهم جلاء مبرحاً ودل الوجود بعد ذلك على هذا الأمر كله ، قيل وكان بين آخر الأولى والثانية مائة سنة وعشر سنين ملكاً مؤيداً ثابتاً .

وقيل سبعون سنة . وقال الكلبي لتعصنّ في الأرض المقدسة ولتعلنّ أي تطغون وتعظمون .

وقرأ زيد بن علي علياً كبيراً في الموضعين بكسر اللام والياء المشدّدة . وقراءة الجمهور { عَلَوْاْ } والصحيح في فعول المصدر أكثر كقوله :{ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً } بخلاف الجمع ، فإن الإعلال فيه هو المقيس وشذ التصحيح نحو نهو ونهوّ خلافاً فاللفراء إذ جعل

ذلك قياساً

٥

فإذا جاء وعد . . . . .

{فَإِذَا جَآء وَعْدُ أُولَاهُمَا } أي موعد أولاهما لأن الوعد قد سبق ذلك والموعود هو العقاب .

وقال الزمخشري : معناه وعد عقاب أولاهما .

وقيل : الوعد بمعنى الوعيد .

وقيل : بمعنى الموعد الذي يراد به الوقت ، والضمير في أولاهما عائد على المرتين .

وقرأ الجمهور { عِبَادًا }

وقرأ الحسن وزيد بن علي عبيداً . قال ابن غزاهم وقتادة جالوت من أهل الجزيرة . وقال ابن جبير وابن إسحاق غزاهم سنجاريب وجنوده ملك بابل .

وقيل بختنصر ، وروي أنه دخل قبل في جيش من الفرس وهو حامل يسير في مطبخ الملك ، فاطلع من جور بني إسرائيل على ما لم يعلمه الفرس لأنه كان يداخلهم ، فلما انصرف الجيش ذكر ذلك للملك الأعظم ، فلما كان بعد مدة جعله الملك رئيس جيش وبعثه وخرب بيت المقدس وقتلهم أجلاهم ثم انصرف فوجد الملك قد مات فملك موضعه ، واستمرت حاله حتى ملك الأرض بعد ذلك .

وقيل هم العمالقة وكان كفاراً .

وقيل كان المبعوثون قوماً مؤمنين بعثهم اللّه وأمرهم بغزو بني إسرائيل والبعث هنا الإرسال والتسليط .

وقال الزمخشري : معناه خلينا بينهم وبين ما فعلوه ولم نمنعهم على أن اللّه عز وعلا أسند بعث الكفرة إلى نفسه فهو كقوله :{ وَكَذالِكَ نُوَلّى بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } وكقول الداعي : وخالف بين كلمتهم وأسند الجوس وهو التردّد خلال الديار بالفساد إليهم ، فتخريب المسجدة وإحراق التوراة من جملة الجوس المسند إليهم انتهى . وفي قوله خلينا بينهم وبين ما فعلوا دسيسة الاعتزال .

و

قال ابن عطية :{ بَعَثْنَا } يحتمل أن يكون اللّه أرسل إلى ملك تلك الأمة رسولاً بأمره بغزو بني إسرائيل فتكون البعثة بأمر ، ويحتمل أن يكون عبر بالبعث عما ألقى في نفس الملك أي غزاهم انتهى .{ أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ } أي قتال وحرب شديد لقوتهم ونجدتهم وكثرة عددهم وعُددهم .

وقرأ الجمهور { فَجَاسُواْ } بالجيم .

وقرأ أبو السمال وطلحة فحاسوا بالحاء المهملة . وقرىء فتجوسوا على وزن تكسروا بالجيم .

وقرأ الحسن { خِلَالَ الدّيَارِ } واحداً ويجمع على خلل كجبل وجبال ، ويجوز أن يكون خلال مفرداً كالخلل وهو وسط الديار وما بينها ، والجمهور على أنه في هذه البعثة الأولى خرّب بيت المقدس ووقع القتل فيهم والجلاء والأسر .

وعن ابن عباس ومجاهد : أنه حين غزوا جاس الغازون خلال الديار ولم يكن قتل ولا قتال في بني إسرائيل ، وانصرفت عنهم الجيوش . والضمير في { وَكَانَ } عائداً على وعد أولاهما .

قال الزمخشري : وكان وعد العقاب وعداً لا بد أن يفعل انتهى .

٦

ثم رددنا لكم . . . . .

وقيل يعود على الجيوش { ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ } هذا إخبار من اللّه لبني إسرائيل في التوراة ، وجعل { رَدَدْنَا } موضع نرد إذ وقت إخبارهم لم يقع الأمر بعد لكنه لما كان وعد اللّه في غاية الثقة أنه يقع عبر عن مستقبله بالماضي ، والكرة الدولة والغلبة على الذين بعثوا عليهم حتى تابوا ورجعوا عن الفساد ملكوا بيت المقدس قبل الكرة قبل بختنصر واستبقاء بني إسرائيل أسراهم وأموالهم ورجوع الملك إليهم ، وذكر في سبب ذلك أن ملكاً غزا أهل بابل وكان بختنصر قد قتل من بني إسرائيل أربعين ألفاً ممن يقرأ التوراة وأبقى بقيته عندهم ببابل في الدل ، فلما غزاهم ذلك الملك وغلب على بابل تزوج امرأة من بني إسرائيل فطلبت منه أن يرد بني إسرائيل إلى بيت المقدس ففعل ، وبعد مدة قامت فيهم الأنبياء فرجعوا إلى أحسن ما كانوا .

وقيل : الكرة تقوية طالوت حتى حارب جالوت ونصر داود على قتل جالوت . وقال قتادة : كانوا أكثر شراً في زمان داود عليه السلام . وانتصب { نَفِيرًا } على التمييز . فقيل : النفير والنافر واحد وأصله من ينفر مع الرجل من عشيرته وأهل بيته قاله أبو مسلم . وقال الزجاج : يجوز أن يكون جمع نفر ككلب وكليب وعبد وعبيد ، وهم المجتمعون للمصير إلى الأعداء .

وقيل : النفير مصدر أي أكثر خروجاً إلى الغزو كما في قول الشاعر : فأكرم بقحطان من والد

وحمير أكرم بقوم نفيراً

ويروى بالحميريين أكرم نفيراً ، والمفضل عليه محذوف قدره الزمخشري وأكثر نفيراً مما كنتم وقدره غيره ، وأكثر نفيراً من الأعداء .

٧

إن أحسنتم أحسنتم . . . . .

{إِنْ أَحْسَنتُمْ } أي أطعتم اللّه كان ثواب الطاعة لأنفسكم ، { وَإِنْ أَسَأْتُمْ } بمعصيته كان عقاب الإساءة لأنفسكم لا يتعدّى الإحسان والإساءة إلى غيركم ، وجواب وإن أسأتم قوله :{ فَلَهَا } على حذف مبتدأ محذوف ولها خبره تقديره فالإساءة لها . قال الكرماني : جاء فلها باللام ازدواجاً انتهى . يعني أنه قابل قوله لأنفسكم بقوله فلها . وقال الطبري : اللام بمعنى إلى أي فإليها ترجع الإساءة .

وقيل اللام بمعنى على أي فعليها كما في قوله :

فخر صريعاً لليدين وللقم

{فَإِذَا جَاء وَعْدُ الاْخِرَةِ } أي المرة الآخرة في إفسادكم وعلوكم ، وجواب إذا محذوف يدل عليه جواب إذا الأولى تقديره بعثناهم عليكم وإفسادهم في ذلك بقتل يحيى بن زيد زكريا عليهما السلام . وسبب قتله فيما روي عن ابن عباس وغيره : أن ملكاً أراد أن يتزوج من لا يجوز له نكاحها ، فنهاه يحيى بن زكريا وكان لتلك المرأة حاجة كل يوم عند الملك تقضيها ، فألقت أمها إليها أن تسأله عن ذبح يحيى بن زكريا بسبب ما كان منعه من تزويج ابنتها فسألته ذلك ، فدافعها فألحت عليه فدعا بطست فذبحه فندرت قطرة على الأرض فلم تزل تغلي حتى بعث اللّه عليهم بختنصر وألقي في نفسه أن يقتل على ذلك الدم منهم حتى يسكن ، فقتل عليه منهم سبعين ألفاً . وقال السهيلي : لا يصح أن يكون المبعوث في المرة الآخرة بختنصر لأن قتل بحيى بعد رفع عيسى ، وبختنصر كان قبل عيسى بزمن طويل .

وقيل : المبعوث عليهم الإسكندر وبين الإسكندر وعيسى نحو ثلاثمائة سنة ، ولكنه إن أريد بالمرة الأخرى حين قتلوا شعياء فكان بختنصر إذ ذاك حياً فهو الذي قتلهم وخرب بيت المقدس وأتبعهم إلى مصر وأخرجهم منها . وروي عن عبد اللّه بن الزبير أن الذي غزاهم آخراً ملك اسمه خردوس وتولى قتلهم على دم يحيى بن زكرياء قائد له فسكن الدم .

وقيل قتله ملك من ملوك بني إسرائيل يقال له لا حب . وقال الربيع بن أنس : كان يحيى قد أعطي حسناً وجمالاً فراودته امرأة الملك عن نفسه فأبى ، فقالت لابنتها : سلي أباك رأس يحيى فأعطاها ما سألت .

وقرأ الجمهور { ليسوؤا } بلام كي وياء الغيبة وضمير الجمع الغائب العائد على المبعوثين .

وقرأ ابن عامر وحمزة وأبو بكر ليسوء بالياء وهمزة مفتوحة على الإفراد والفاعل المضمر عائد على اللّه تعالى أو على الوعد أو على البعث الدال عليه جملة الجزاء المحذوفة .

وقرأ عليّ بن أبي طالب وزيد بن عليّ والكسائي لنسوء بالنون التي للعظمة وفيها ضمير يعود على اللّه .

وقرأ أبيّ لنسوءن بلام الأمر والنون التي للعظمة ونون التوكيد الخفيفة آخراً . وعن عليّ أيضاً لنسوءن وليسوءن بالنون والياء ونون التوكيد الشديدة وهي لام القسم ، ودخلت لام الأمر في قراءة أبيّ على المتكلم كقوله :{ سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ } وجواب إذا هو الجملة الأمرية على تقدير الفاء . وفي مصحف أبيّ ليسيء بياء مضمومة بغير واو . وفي مصحف أنس ليسوء وجهكم على الإفراد ، والظاهر أنه أريد بالوجوه الحقيقة لأن آثار الأعراض النفسانية في القلب تظهر على الوجه ، ففي الفرح يظهر الإسفار والإشراق ، وفي الحزن يظهر الكلوح والغبرة ، ويحتمل أن يعبر عن الجملة بالوجه فإنهم ساؤهم بالقتل والنهب والسبي فحصلت الإساءة للذوات كلها أو عن ساداتهم وكبرائهم بالوجوه ، ومنه قولهم في الخطاب يا وجه العرب .

واللام في { وَلِيَدْخُلُواْ } لام كي معطوفاً على ما قبلها من لام كي ، ومن قرأ بلام الأمر أو بلام القسم جاز أن يكون وليدخلوا وما بعدها أمراً ، وجاز أن تكون لام كي أي وبعثناهم ليدخلوا .{ وَالْمَسْجِدِ } مسجد بيت المقدس ومعنى كما دخلوه أول مرة أي بالسيف والقهر والغلبة والإذلال ،

وهذا يبعد قول من ذهب إلى أن أولى المرتين لم يكن فيها قتل ولا قتال ولا نهب ، وتقدّم الكلام في أول مرة في سورة التوبة . { وَلِيُتَبّرُواْ } بهلكوا . وقال قطرب : يهدموا . قال الشاعر : فما الناس إلاّ عاملان فعامل

يتبر ما يبني وآخر رافع

والظاهر أن { مَا } مفعولة بيتبروا أي يهلكوا ما غلبوا عليه من الأقطار ، ويحتمل أن تكون ما ظرفية أي مدة استيلائهم

٨

عسى ربكم أن . . . . .

عسى ربكم أن يرحمكم بعد المرة الثانية إن تبتم وانزجرتم عن المعاصي ، وهذه الترجئة ليست لرجوع دولة وإنما هي من باب ترحم المطيع منهم ، وكان من الطاعة أن يتبعوا عيسى ومحمداً عليهما السلام فلم يفعلوا . { وَإِنْ عُدتُّمْ } إلى المعصية مرة ثالثة عدنا إلى العقوبة وقد عادوا فأعاد اللّه عليهم النقمة بتسليط الأكاسرة وضرب الأتاوة عليهم . وعن الحسن عادوا فبعث اللّه محمداً صلى اللّه عليه وسلم فهم يطعون الجزية عن يد وهم صاغرون . وعن قتادة : ثم كان آخر ذلك أن بعث اللّه عليهم هذا الحي من العرب فهم منه في عذاب إلى يوم القيامة انتهى . ومعنى { عُدْنَا } أي في الدنيا إلى العقوبة .

وقال تعالى :{ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوء الْعَذَابِ } ثم ذكر ما أعدّ لهم في الآخرة وهو جعل جهنم لهم { حَصِيرًا } والحصير السجن . قال لبيد : ومقامه غلب الرجال كأنهم

جن لدى باب الحصير قيام

وقال الحسن : يعني فراشاً ، وعنه أيضاً هو مأخوذ من الحصر والذي يظهر أنها حاصرة لهم محيطة بهم من جميع جهاتهم ، فحصير معناه ذات حصر إذ لو كان للمبالغة لزمته التاء لجريانه على مؤنث كما تقول : رحيمة وعليمة ، ولكنه على معنى النسب كقوله السماء منفطر به أي ذات انفطار .

٩

إن هذا القرآن . . . . .

لما ذكر تعالى من اختصه بالإسراء وهو محمد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ومن آتاه التوراة وهو موسى عليه السلام وأنها هدى لبني إسرائيل ، وذكر ما قضى عليهم فيها من التسليط عليهم بذنوبهم ، كان ذلك رادعاً من عقل عن معاصي اللّه فذكر ما شرف اللّه به رسوله من القرآن الناسخ لحكم التوراة وكل كتاب إلهي ، وأنه يهدي للطريقة أو الحالة التي هي أقوم . وقال الضحاك والكلبي والفراء { الَّتِى هِىَ أَقْوَمُ } هي شهادة التوحيد . وقال مقاتل : للأوامر والنواهي و { أَقْوَمُ } هنا أفعل التفضيل على قول الزجاج إذ قدر أقوم الحالات وقدره غيره أقوم مما عداها أو من كل حال ، والذي يظهر من حيث المعنى أن { أَقْوَمُ } هنا لا يراد بها التفضيل إذ لا مشاركة بين الطريقة التي يرشد إليها القرآن وطريقة غيرها ، وفضلت هذه

عليها وإنما المعنى التي هي قيمة أي مستقيمة كما قال : { وَذَلِكَ دِينُ القَيّمَةِ }{ وَفِيهَا كُتُبٌ قَيّمَةٌ } أي مستقيمة الطريقة ، قائمة بما يحتاج إليه من أمر الدين .

وقال الزمخشري :{ الَّتِى هِىَ أَقْوَمُ } للحالة التي هي أقوم الحالات وأشدّها أو للملة أو للطريقة ، وأينما قدرت لم تجد مع الإثبات ذوق البلاغة الذي تجده مع الحذف لما في إبهام الموصوف لحذفه من فخامة تفقد مع إيضاحه انتهى .

{وَيُبَشّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ } قيد في الإيمان الكامل إذ العمل هو كمال الإيمان ، نبه على الحالة الكاملة ليتحلى بها المؤمن ، والمؤمن المفرط في علمه له بإيمانه حظ في عمل الصالحات والأجر الكبير الجنة .

وقال الزمخشري : فإن قلت كيف ذكر المؤمنين الأبرار والكفار ولم يذكر الفسقة ؟

قلت : كان الناس حينئذ إما مؤمن تقي ،

وإما مشرك ، وإنما حدث أصحاب المنزلة بين المنزلتين بعد ذلك انتهى . وهذا مكابرة بل وقع في زمان الرسول صلى اللّه عليه وسلم من بعض المؤمنين هنات وسقطات بعضها مذكور في القرآن ، وبعضها مذكور في الحديث الصحيح الثابت .

{وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاْخِرَةِ } عطف على قوله :{ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا } بشروا بفوزهم بالجنة وبكينونة العذاب الأليم لأعدائهم الكفار ، إذ في علم المؤمنين بذلك وتبشيرهم به مسرة لهم ، فهما بشارتان وفيه وعيد للكفارة .

وقال الزمخشري : ويجوز أن يراد ويخبر بأن الذين لا يؤمنون انتهى .

١٠

وأن الذين لا . . . . .

فلا بكون إذ ذاك داخلاً تحت البشارة .

وفي قوله : { وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاْخِرَةِ } دليل على أن من آمن بالآخرة لا يعدّ له عذاب أليم ، وأنه ليس عمل الصالحات شرطاً في نجاته من العذاب .

وقرأ الجمهور { وَيُبَشّرُ } مشدّداً مضارع بشر المشدّد .

وقرأ عبد اللّه وطلحة وابن وثاب والأخوان { وَيُبَشّرُ } مضارع بشر المخفف ومعنى { أَعْتَدْنَا } أعددنا وهيأنا ، وهذه الآية جاءت عقب ذكر أحوال اليهود ، واندرجوا فيمن لا يؤمن بالآخرة لأن أكثرهم لا يقول بالثواب والعقاب الجسماني وبعضهم قال :{ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً } فلم يؤمنوا بالآخرة حقيقة الإيمان بها .

١١

ويدع الإنسان بالشر . . . . .

{وَيَدْعُ الإِنْسَانُ } قال ابن عباس ومجاهد وقتادة : نزلت ذامّة لما يفعله الناس من الدعاء على أموالهم وأبنائهم في أوقات الغضب والضجر ، ومناسبتها لما قبلها أن بعض من لا يؤمن بالآخرة كان يدعو على نفسه بتعجيل ما وعد به من الشر في الآخرة ، كقول النضر :{ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً } الآية . وكتب { وَيَدْعُ } بغير واو على حسب السمع والإنسان هنا ليس واحداً معيناً ، والمعنى أن في طباع الإنسان أنه إذا ضجر وغضب دعا على نفسه وأهله وماله بالشر أن يصيبه كما يدعو بالخير أن يصيبه ، ثم ذكر تعالى أن ذلك من عدم تثبته وقلة صبره . وعن سلمان الفارسي وابن عباس : أشار به إلى آدم لما نفخ الروح في رأسه عطس وأبصر ، فلما مشى الروح في بدنه قبل ساقه أعجبته نفسه فذهب يمشي مستعجلاً فلم يقدر ، أو المعنى ذو عجلة موروثة من أبيكم انتهى . وهذا القول تنبو عنه ألفاظ الآية . وقالت فرقة : هذه الآية ذم لقريش الذين قالوا :{ اللّهمَّ إِن كَانَ هَاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ } الآية . وكان الأولى أن يقولوا : فاهدنا إليه وارحمنا . وقالت فرقة : هي معاتبة للناس على أنهم إذا نالهم شر وضر دعوا وألحوا في الدعاء واستعجلوا الفرج ، مثل الدعاء الذي كان يجب أن يدعوه في حالة الخير انتهى . والباء في { بِالشَّرّ } و { بِالْخَيْرِ } على هذا بمعنى في ، والمدعوّ به ليس الشر ولا الخير ، ويراد على هذا أن تكون حالتاه في الشر والخير متساويتين في الدعاء والتضرّع للّه والرغبة والذكر ، ويبنو عن هذا المعنى قوله :{ دُعَاءهُ } إذ هو مصدر تشبيهي يقتضي وجوده ، وفي هذا القول شبه { دُعَاءهُ } في حالة الشر بدعاء مقصود كان ينبغي أن يوجد في حالة الخير .

وقيل : المعنى { وَيَدْعُ الإِنْسَانُ } في طلب المحرم كما يدعو في طلب المباح

١٢

وجعلنا الليل والنهار . . . . .

{وَجَعَلْنَا الَّيْلَ وَالنَّهَارَ ءايَتَيْنِ } لما ذكر تعالى القرآن وأنه هاد إلى الطريقة المستقيمة ذكر ما أنعم به مما لم يكمل الانتفاع إلاّ به ، وما دل على توحيده من عجائب العالم العلوي ، وأيضاً لما ذكر عجلة الإنسان وانتقاله من حال إلى حال ذكر أن كل هذا العالم كذلك

في الانتقال لا يثبت على حال ، فنور عقب ظلمة وبالعكس ، وازدياد نور وانتقاض . والظاهر أن { وَسَخَّر لَكُمُ } مفعول أول لجعل بمعنى صير ، و { ءايَتَيْنِ } ثاني المفعولين ويكونان في أنفسهما آيتين لأنهما علامتان للنظر والعبرة ، وتكون الإضافة في { وَجَعَلْنَا الَّيْلَ وَءايَةٌ النَّهَارَ } للتبيين كإضافة العدد إلى المعدود ، أي { فَمَحَوْنَا } الآية التي هي الليل ، وجعلنا الآية التي هي النار مبصرة .

وقيل : هو على حذف مضاف فقدره بعضهم وجعلنا نيري الليل والنهار آيتين ، وقدّره بعضهم و : جعلنا ذوي الليل والنهار أي صاحبي الليل والنهار ، وعلى كلا التقديرين يراد به الشمس والقمر ، ويظهر أن { ءايَتَيْنِ } هو المفعول الأول ، و { وَسَخَّر لَكُمُ } ظرفان في موضع المفعول الثاني ، أي وجعلنا في الليل والنهار آيتين . وقال الكرماني : ليس جعل هنا بمعنى صير لأن ذلك يقتضي حالة تقدّمت نقل الشيء عنها إلى حالة أخرى ، ولا بمعنى سمى وحكم ، والآية فيها إقبال كل واحد منهما وإدباره من حيث لا يعلم ، ونقصان أحدهما بزيادة الآخر ، وضوء النهار وظلمة الليل { فَمَحَوْنَا ءايَةَ الَّيْلِ } إذا قلنا أن الليل والنهار هما المجعولان آيتين فمحو آية الليل عبارة عن السواد الذي فيه ، بل خلق أسود أول حاله ولا تقضي الفاء تعقيباً وهذا كما يقول بنيت داري فبدأت بالأس . وإذا قلنا أن الآيتين هما الشمس والقمر ، فقيل : محو القمر كونه لم يجعل له نوراً .

وقيل : محوه طلوعه صغيراً ثم ينمو ثم ينقص حتى يستر .

وقيل : محوه نقصه عما كان خلق عليه من الإضاءة ، وأنه جعل نور الشمس سبعين جزأً ونور القمر كذلك ، فمحا من نور القمر حتى صار على جزء واحد ، وجعل ما محى منه زائداً في نور الشمس ، وهذا مروي عن عليّ وابن عباس .

وقال ابن عيسى : جعلناها لا تبصر المرئيات فيها كما لا يبصر ما محي من الكتاب . قال : وهذا من البلاغة الحسنة جداً .

وقال الزمخشري :{ فَمَحَوْنَا ءايَةَ الَّيْلِ } أي جعلنا الليل ممحواً لضوء مطموسه ، مظلماً لا يستبان منه شيء كما لا يستبان ما في اللوح الممحو ، وجعلنا النهار مبصراً أي يبصر فيه الأشياء وتستبان ، أو { فَمَحَوْنَا ءايَةَ الَّيْلِ } التي هي القمر حيث لم يخلق له شعاع كشعاع الشمس فترى به الأشياء رؤية بينة ، وجعلنا الشمس ذات شعاع يبصر في ضوئها كل شيء انتهى . ونسب الإبصار إلى { النَّهَارِ مُبْصِرَةً } على سبيل المجاز كما تقول : ليل قائم ونائم ، أي يقام فيه وينام فيه . فالمعنى يبصر فيها .

وقيل : معنى { مُبْصِرَةً } مضيئة .

وقيل : هو من باب أفعل ، والمراد به غير من أسند أفعل إليه كقوله : أجبن الرجل إذا كان أهله جبناء ، وأضعف إذا كان دوابه ضعافاً فأبصرت الآية إذا كان أصحابها بصراء .

وقرأ قتادة وعليّ ابن الحسين { مُبْصِرَةً } بفتح الميم ، والصاد وهو مصدر أقيم مقام الأسم ، وكثر مثل ذلك في صفات الأمكنة كقولهم : أرض مسبعة ومكان مضبة ، وعلل المحو والإبصار بابتغاء الفضل وعلم عدد السنين والحساب ، وولى التعليل بالأبتغاء ما وليه من آية النهار وتأخر التعليل بالعلم عن آية الليل . وجاء في قوله :{ وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } البداءة بتعليل المتقدم ثم تعليل المتأخر بالعلة المتأخرة ، وهما طريقان تقدم الكلام عليهما .

ومعنى { لّتَبْتَغُواْ } لتتوصلوا إلى استبانة أعمالكم وتصرفكم في معايشكم { وَالْحِسَابَ } للشهور والأيام والساعات ، ومعرفة ذلك في الشرع إنما هو من جهة آية الليل لا من جهة آية النهار { وَكُلَّ شىْء } مما تفتقرون إليه في دينكم ودنياكم { فَصَّلْنَاهُ } بيناه تبيينا غير ملتبس ، والظاهر أن نصب { وَكُلَّ شىْء } على الاشتغال ، وكان ذلك أرجح من الرفع لسبق الجملة الفعلية في قوله :{ وَجَعَلْنَا الَّيْلَ وَالنَّهَارَ } وأبعد من ذهب إلى أن { وَكُلَّ شىْء } معطوف على قوله :{ وَالْحِسَابَ } والطائر .

قال ابن عباس : ما قدّر له وعليه ،

١٣

وكل إنسان ألزمناه . . . . .

وخاطب اللّه العرب في هذه الآية بما تعرف إذ كان من عادتها التيمن والتشاؤم بالطير في كونها سانحة وبارحة وكثر ذلك حتى فعلته بالظباء وحيوان الفلاة ، وسمي ذلك كله تطيراً . وكانت تعتقد أن تلك الطيرة قاضية بما يلقي الإنسان من خير وشر ، فأخبرهم اللّه تعالى في أوجز لفظ وأبلغ إشارة أن جميع ما يلقى الإنسان من خير وشر فقد سبق به القضاء وألزم حظه وعمله ومكسبه في عنقه ، فعبر عن الحظ والعمل إذ هما متلازمان بالطائر قاله مجاهد وقتادة بحسب معتقد العرب في التطير ، وقولهم في الأمور على الطائر الميمون وبأسعد طائر ، ومنه ما طار في المحاصة والسهم ، ومنه

فطار لنا من القادمين عثمان بن مظعون أي كان ذلك حظنا .

وعن ابن عباس : { طائرة } عمله ، وعن السدّي كتبه الذي يطير إليه . وعن أبي عبيدة : الطائر عند العرب الحظ وهو الذي تسميه البخت . وعن الحسن : يا ابن آدم بسطت لك صحيفة إذا بعثت قلدتها في عنقك ، وخص العنق لأنه محل الزينة والشين فإن كان خيراً زانه كما يزين الطوق والحلي ، وإن كان شراً شأنه كالغل في الرقبة .

وقرأ مجاهد والحسن وأبو جاء طيره . وقرىء :{ طَئِرَهُ فِى عُنُقِهِ } بسكون النون .

وقرأ الجمهور ومنهم أبن جعفر :{ وَنُخْرِجُ } بنون مضارع أخرج .{ كِتَاباً } بالنصب . وعن أبي جعفر أيضاً ويخرج بالياء مبنياً للمفعول { كِتَاباً } أي ويخرج الطائر كتاباً . وعنه أيضاً كتاب بالرفع على أنه مفعول ما لم يسم فاعله .

وقرأ الحسن وابن محيصن ومجاهد : ويخرج بفتح الياء وضم الراء أي طائره كتاباً إلا الحسن فقرأ : كتاب على أنه فاعل يخرج . وقرأت فرقة : ويخرج بضم الياء وكسر الراء أي ويخرج اللّه .

وقرأ الجمهور { يَلْقَاهُ } بفتح الياء وسكون اللام .

وقرأ ابن عامر وأبو جعفر والحجدري والحسن بخلاف عنه { يَلْقَاهُ } بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف .{ مَنْشُوراً } غير مطوي ليمكنه قراءته ، و { يَلْقَاهُ } و { مَنْشُوراً } صفتان لكتاب ، ويجوز أن يكون { مَنْشُوراً } حالاً من مفعول يلقاه

١٤

اقرأ كتابك كفى . . . . .

{اقْرَأْ كَتَابَكَ } معمول لقول محذوف أي يقال له :{ اقْرَأْ كَتَابَكَ} وقال قتادة : يقرأ ذلك اليوم من لم يكن في الدنيا قارئاً .

وقال الزمخشري وغيره . و { بنفسيك } فاعل { قُلْ كَفَى } انتهى . وهذا مذهب الجمهور والباء زائدة على سبيل الجواز لا اللزوم ، ويدل عليه أنه إذا حذفت ارتفع ذلك الاسم بكفى . قال الشاعر .

كفى الشيب والإسلام للمرء ناهياً

وقال الآخر : ويخبرني عن غائب المرء هديه

كفى الهدي عما غيب المرء مخبرا

وقيل : فاعل { كَفَى } ضمير يعود على الاكتفاء ، أي كفى هو أي الاكتفاء بنفسك .

وقيل :{ كَفَى } اسم فعل بمعنى اكتف ، والفاعل مضمر يعود على المخاطب ، وعلى هذين القولين لا تكون الباء زائدة . وإذا فرعنا على قول الجمهور أن { بِنَفْسِكَ } هو فاعل { كَفَى } فكان القياس أن تدخل تاء التأنيث لتأنيث الفاعل ، فكان يكون التركيب كفت بنفسك كما تلحق مع زيادة من في الفاعل إذا كان مؤنثاً ، كقوله تعالى :{ مَا ءامَنَتْ قَبْلَهُمْ مِن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا } وقوله :{ وَمَا تَأْتِيهِم مّنْ ءايَةٍ } ولا نحفظه جاء التأنيث في كفى إذا كان الفاعل مؤنثاً مجروراً بالباء ، والظاهر أن المراد { بِنَفْسِكَ } ذاتك أي { كَفَى } بك . وقال مقاتل : يريد بنفسه جوارحه تشهد عليه إذا أنكر . وقال أبو عبيدة أي ما أشد كفاية ما علمت بما علمت .{ وَالْيَوْمِ } منصوب بكفى و { عَلَيْكَ } متعلق بحسيباً . ومعنى { حَسِيباً } حاكماً عليك بعملك قاله الحسن . قال : يا ابن آدم لقد أنصفك اللّه وجعلك حسيب نفسك . وقال الكلبي : محاسباً يعني فعيلاً بمعنى مفاعل كجليس وخليط .

وقيل : حاسباً كضريب القداح أي ضاربها ، وصريم بمعنى صارم يعني أنه بناء مبالغة كرحيم وحفيظ ، وذكر { حَسِيباً } لأنه بمنزلة الشهيد والقاضي والأمير ، لأن الغالب أن هذه الأمور يتولاها الرجل ، وكأنه قيل : كفى بنفسك رجلاً حسيباً . وقال الأنباري : وإنما قال { حَسِيباً } والنفس مؤنثة لأنه يعني بالنفس الشخص ، أو لأنه لا علامة للتأنيث في لفظ النفس ، فشبهت بالسماء والأرض قال

تعالى : { السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ} وقال الشاعر :

ولا أرض أبقل ابقالها

١٥

من اهتدى فإنما . . . . .

{مَّنِ اهْتَدَى } الآية قالت فرقة : نزلت الإشارة في الهدى إلى أبي سلمة بن عبد الأسود ، وفي الضلال إلى الوليد بن المغيرة .

وقيل : نزلت في الوليد هذا قال : يا أهل مكة اكفروا بمحمد وإثمكم عليّ ، وتقدم تفسير { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } في آخر الأنعام { وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً غَيّاً } انتفاء التعذيب ببعثة الرسول عليه السلام ، والمعنى حتى يبعث رسولاً فيكذب ولا يؤمن بما جاء به من عند اللّه ، وانتفاء التعذيب أعم من أن يكون في الدنيا بالهلاك وغيره من العذاب أو في الآخرة بالنار فهو يشملهما ، ويدل على الشمول قوله في الهلاك في الدنيا بعد هذه الآية { وَإِذَا أَرَدْنَا } وفي الآخرة { فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا } وآي كثيرة نص فيها على الهلاك في الدنيا بأنواع من العذاب حين كذبت الرسل . وقوله في عذاب الآخرة كلما ألقى فيها فوج سألهم خزنتها : ألم يأتكم نذير ؟ وقالوا : بلى قد جاءنا نذير ، وكلما تدل على عموم أزمان الإلقاء فتعم الملقين . وقوله :{ وَإِن مّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ مّن نَّذِيرٍ } وذهب الجمهور إلى أن هذا في حكم الدنيا ، أي أن اللّه لا يهلك أمّة بعذاب إلا من بعد الرسالة إليهم والإنذار .

قال الزمخشري : فإن قلت الحجة لازمة لهم قبل بعثة الرسول لأن معهم أدلة العقل التي بها يعرف اللّه وقد أغفلوا النظر وهم متمكنون منه ، واستيجابهم العذاب لإغفالهم النظر فيما معهم ركونهم لذلك الإغفال الشرائع التي لا سبيل إليها إلا بالتوقيف والعمل بها لا يصح إلا بعد الإيمان .

قلت : بعثة الرسول صلى اللّه عليه وسلم من جملة التنبيه على النظر والإيقاظ من رقدة الغفلة لئلا يقولوا كنا غافلين ، فلو لا بعثت إلينا رسولاً ينبهنا علي النظر في أدلة العقل انتهى . وقال مقاتل : المعنى وما كنا مستأصلين في الدنيا لما اقتضته الحكمة الإلهية حتى يبعث رسولاً إقامة للحجة عليهم وقطعاً للعذر عنهم ، كما فعلنا بعاد وثمود والمؤتفكات وغيرها .

١٦

وإذا أردنا أن . . . . .

لما ذكر تعالى أنه لا يعذب أحداً حتى يبعث إليه رسولاً بين بعد ذلك علة إهلاكهم وهي مخالفة أمر الرسول صلى اللّه عليه وسلم والتمادي على الفساد .

وقال الزمخشري :{ وَإِذَا أَرَدْنَا } وقت إهلاك قوم ولم يبق من زمان إهلاكهم إلاّ قليل انتهى . فتؤول { أَرَدْنَا } على معنى دنا وقت إهلاكهم وذلك على مذهب الاعتزال .

وقرأ الجمهور أمرنا ، وفي هذه القراءة قولان :

أحدهما : وهو الظاهر أنه من الأمر الذي هو ضد النهي ، واختلف في متعلقة فذهب الأكثرون منهم ابن عباس وابن جبير إلى أن التقدير أمرناهم بالطاعة فعصوا وفسقوا . وذهب الزمخشري إلى أن التقدير أمرناهم بالفسق ففسقوا ورد على من قال أمرناهم بالطاعة فقال : أي أمرناهم بالفسق ففعلوا ، والأمر مجاز لأن حقيقة أمرهم بالفسق أن يقول لهم افسقوا وهذا لا يكون ، فبقي أن يكون مجازاً ، ووجه المجاز أنه صب عليهم النعمة صباً فجعلوها ذريعة إلى المعاصي

واتباع الشهوات ، فكأنهم مأمورون بذلك لتسبب إيلاء النعمة فيه ، وإنما خولهم إياها ليشكروا ويعملوا فيها الخير ويتمكنوا من الإحسان والبر كما خلقهم أصحاء أقوياء وأقدرهم على الخير والشر ، وطلب منهم إيثار الطاعة على المعصية ، وآثروا الفسوق فلما فسقوا حق عليهم القول ، وهي كلمة العذاب فدمرهم .

فإن قلت : هلا زعمت أن معناه أمرناهم بالطاعة ففسقوا ؟

قلت : لأن حذف ما لا دليل عليه غير جائز فكيف يحذف ما الدليل قائم على نفيضه . وذلك أن المأمور به إنما حذف لأن فسقوا يدل عليه وهو كلام مستفيض . يقال : أمرته فقام وأمرته فقرأ ، لا يفهم منه إلا أن المأمور به قيام أو قراءة ، ولو ذهبت تقدر غيره فقد رمت من مخاطبك علم الغيب ولا يلزم هذا قولهم أمرته فعصاني أو فلم يمتثل أمري لأن ذلك مناف للأمر مناقض له ، ولا يكون ما يناقض الأمر مأموراً به ، فكان محالاً أن يقصد أصلاً حتى يجعل دالاً على المأمور به ، فكان المأمور به في هذا الكلام غير مدلول عليه ولا منوي ، لأن من يتكلم بهذا الكلام فإنه لا ينوي لأمره مأموراً به وكأنه يقول : كان مني أمر فلم يكن منه طاعة كما أن من يقول : فلان يعطي ويمنع ويأمر وينهي غير قاصد إلى مفعول

فإن قلت : هلا كان ثبوت العلم بأن اللّه لا يأمر بالفحشاء وإنما يأمر بالقسط والخير دليلاً على أن المراد أمرناهم بالخير { فَفَسَقُواْ } ؟

قلت : لا يصح ذلك لأن قوله { فَفَسَقُواْ } يدافعه فكأنك أظهرت شيئاً وأنت تدّعي إضمار خلافه ، فكان صرف الأمر إلى المجاز هو الوجه . ونظير أمر شاء في أن مفعوله استفاض فيه الحذف لدلالة ما بعده عليه تقول : لو شاء لأحسن إليك ، ولو شاء لأساء إليك ، تريد لو شاء الإحسان ولو شاء الإساءة فلو ذهبت تضمر خلاف ما أظهرت وقلت : قد دلت حال من أسندت إليه المشيئة أنه من أهل الإحسان أو من أهل الإساءة فاترك الظاهر المنطوق به وأضمر ما دلت عليه حال صاحب المشيئة لم يكن على سداد انتهى .

أما ما ارتكبه من المجاز وهو أن { أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا } صببنا عليهم النعمة صباً فيبعد جداً .

وأما قوله وأقدرهم على الخير والشر إلى آخره فمذهب الاعتزال ، وقوله لأن حذف ما لا دليل عليه غير جائز تعليل لا يصح فيما نحن بسبيله ، بل ثم ما يدلر على حذفه . وقوله فكيف يحذف ما الدليل قائم على نقيضه إلى قوله علم الغيب ، فنقول : حذف الشيء تارة يكون لدلالة موافقه عليه ، ومنه ما مثل به في قوله أمرته فقام وأمرته فقرأ ، وتارة يكون لدلالة خلافه أو ضده أو نقيضه فمن ذلك قوله تعالى :{ وَلَهُ مَا سَكَنَ فِى الَّيْلِ وَالنَّهَارِ } قالوا : تقديره ما سكن وما تحرك . وقوله تعالى { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ } قالوا : الحر والبرد . وقول الشاعر : وما أدري إذا يممت أرضا

أريد الخير أيهما يليني

أالخير الذي أنا أبتغيه

أم الشر الذي هو يبتغيني

تقديره : أريد الخير وأجتنب الشر ، وتقول : أمرته فلم يحسن فليس المعنى أمرته بعدم الإحسان فلم يحسن ، بل المعنى أمرته بالإحسان فلم يحسن ، وهذه الآية من هذا القبيل يستدل على حذف النقيض بإثبات نقيضه ، ودلالة النقيض على النقيض كدلالة النظير على النظير ، وكذلك أمرته فأساء إليّ ليس المعنى أمرته بالإساءة فأساء إليّ ، إنما يفهم منه أمرته بالإحسان فأساء إليّ . وقوله ولا يلزم هذا قولهم أمرته فعصاني . نقول : بل يلزم ، وقوله لأن ذلك مناف أي لأن

العصيان مناف وهو كلام صحيح . وقوله : فكان المأمور به غير مدلول عليه ولا منوي هذا لا يسلم بل هو مدلول عليه ومنوي لا دلالة الموافق بل دلالة المناقض كما بينا .

وأما قوله : لأن من يتكلم بهذا الكلام فإنه لا ينوي لأمره مأموراً به هذا أيضاً لا يسلم . وقوله في جواب السؤال لأن قوله { فَفَسَقُواْ } يدافعه ، فكأنك أظهرت شيئاً وأنت تدّعي إضمار خلافه . قلنا : نعم يدعي إضمار خلافه ودل على ذلك نقيضه . وقوله : ونظير أمر شاء في أن مفعوله استفاض فيه الحذف .

قلت : ليس نظيره لأن مفعول أمر لم يستفض فيه الحذف لدلالة ما بعده عليه ، بل لا يكاد يستعمل مثل شاء محذوفاً مفعوله لدلالة ما بعده عليه ، وأكثر استعماله مثبت المفعول لانتفاء الدلالة على حذفه .

قال تعالى :{ قُلْ إِنَّ اللّه لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء }{ أَمْرٍ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ }{ أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَاذَا }{ قُلْ أَمَرَ رَبّي بِالْقِسْطِ }{ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا } أي به ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة . وقال الشاعر :

أمرتك الخير فافعل ما أمرت به

وقال أبو عبد اللّه الرازي : ولقائل أن يقول كما أن قوله أمرته فعصاني يدل على أن المأمور به شيء غير الفسق لأن الفسق عبارة عن الإتيان بضد المأمور به ، فكونه فسقاً ينافي كونه مأموراً به ، أن كونه معصية ينافي كونها مأموهاً بها ، فوجب أن يدل هذا اللفظ على أن المأمور به ليس بفسق . هذا الكلام في غاية الظهور فلا أدري لم أصرّ صاحب الكشاف على قوله مع ظهور فساده فثبت أن الحق ما ذكروه ، وهو أن المعنى أمرناهم بالأعمال الصالحة وهي الإيمان والطاعة والقوم خالفوا ذلك عناداً وأقدموا على الفسق انتهى .

القول

الثاني : أن معنى { أَمْرُنَا } كثرنا أي كثرنا { مُتْرَفِيهَا } يقال : أمر اللّه القوم أي كثرهم حكاه أبو حاتم عن أبي زيد . وقال الواحدي : العرب تقول : أمر القوم إذا كثروا وأمرهم اللّه إذا كثرهم انتهى . وقال أبو علي الفارسي : الجيد في أمرنا أن يكون بمعنى كثرنا ، واستدل أبو عبيدة على صحة هذه اللغة بما جاء في الحديث : { خير المال سكة مأبورة ومهرة مأمورة } أي كثيرة النسل ، يقال : أمر اللّه المهرة أي كثر ولدها ، ومن أنكر أمر اللّه القوم بمعنى كثرهم لم يلتفت إليه لثبوت ذلك لغة ويكون من باب ما لزم وعدّي بالحركة المختلفة ، إذ يقال : أمر القوم كثروا وأمرهم اللّه كثرهم ، وهو من باب المطاوعة أمرهم اللّه فأمروا كقولك شتر اللّه عينه فشترت ، وجدع أنفه وثلم سنه فثلمت .

وقرأ الحسن ويحيى بن يعمر وعكرمة . { أَمْرُنَا } بكسر الميم ، وحكاها النحاس وصاحب اللوامح عن ابن عباس ، وردّ الفراء هذه القراءة لا يلتفت إليه إذ نقل أنها لغة كفتح الميم ومعناها كثرنا . حكى أبو حاتم عن أبي زيد يقال : أمر اللّه ماله وأمره أي كثره بكسر الميم وفتحها .

وقرأ عليّ ابن أبي طالب ، وابن أبي إسحاق ، وأبو رجاء ، وعيسى بن عمر ، وسلام ، وعبد اللّه بن أبي يزيد ، والكلبي : آمرنا بالمد وجاء كذلك عن ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، وأبي العالية ، وابن هرمر ، وعاصم ، وابن كثير ، وأبي عمرو ، ونافع ، وهو اختيار يعقوب ومعناه كثرنا . يقال أمر اللّه القوم وآمرهم فتعدى بالهمزة .

وقرأ ابن عباس وأبو عثمان النهدي والسدّي وزيد بن عليّ وأبو العالية :{ أَمْرُنَا } بتشديد الميم وروي ذلك عن عليّ والحسن والباقر وعاصم وأبي عمر وعدي أمر بالتضعيف ، والمعنى أيضاً كثرنا وقد يكون { أَمْرُنَا } بالتشديد بمعنى وليناهم وصيرناهم أمراء ، واللازم من ذلك أمر فلان إذا صار أميراً أي ولي الأمر . وقال أبو عليّ الفارسي : لا وجه لكون { أَمْرُنَا } من الإمارة لأن رياستهم لا تكون إلاّ لواحد بعد واحد والإهلاك إنما يكون في مدة واحد منهم ، وما قاله أبو عليّ لا يلزم لأنا لا نسلم أن الأمير هو الملك بل كونه ممن يأمر ويؤتمر به ، والعرب تسمي أميراً من يؤتمر به وإن لم يكن ملكاً . ولئن سلمنا أنه أريد به

الملك فلا يلزم ما قاله لأن القرية إذا ملك عليها مترف ثم فسق ثم آخر ففسق ثم كذلك كثر الفساد وتوالي الكفر ونزل بهم على الآخر من ملوكهم ، ورأيت في النوم أني قرأت وقرىء بحضرتي { وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا } الآية بتشديد الميم . فأقول في النوم : ما أفصح هذه القراءة ، والقول الذي حق عليهم هو وعيد اللّه الذي قاله رسولهم .

وقيل :{ الْقَوْلِ } لأملان وهؤلاء في النار ولا أبالي .

والتدمير الإهلاك مع طمس الأثر وهدم البناء .

١٧

وكم أهلكنا من . . . . .

{وَكَمْ } في موضع نصب على المفعول بأهلكنا أي كثيراً من القرون { أَهْلَكْنَا وَمِنْ الْقُرُونِ } بيان لكم وتمييز له كما يميز العدد بالجنس ، والقرون عاد وثمود وغيرهم ويعني بالإهلاك هنا الإهلاك بالعذاب ، وفي ذلك تهديد ووعيد لمشركي مكة وقال :{ مِن بَعْدِ نُوحٍ } ولم يقل من بعد آدم لأن نوحاً أول نبي بالغ قومه في تكذيبه ، وقومه أول من حلت بهم العقوبة بالعظمى وهي الاستئصال بالطوفان . وتقدّم القول في عمر القرن و { مِنْ } الأولى للتبيين والثانية لابتداء الغاية وتعلقا بأهلكنا لاختلاف معنييهما . وقال الحوفي :{ مِن بَعْدِ نُوحٍ } من الثانية بدل من الأولى انتهى . وهذا ليس بجيد . و

قال ابن عطية : هذه الباء يعني في { وَكَفَى بِرَبّكَ } إنما تجيء في الأغلب في مدح أو ذم انتهى . و { بِذُنُوبِ عِبَادِهِ } تنبيه على أن الذنوب هي أسباب الهلكة ، و { خَبِيرَا بَصِيرًا } لتنبيه على أنه عالم بها فيعاقب عليها ويتعلق بذنوب بخبيراً أو ببصيراً . وقال الحوفي : تتعلق بكفى انتهى . وهذا وهم و

١٨

من كان يريد . . . . .

{الْعَاجِلَةَ } هي الدنيا ومعنى إرادتها إيثارها على الآخرة ، ولا بد من تقدير حذف دل عليه المقابل في قوله :{ مَنْ أَرَادَ الاْخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ } فالتقدير : من كان يريد العاجلة وسعى لها سعيها وهو كافر .

وقيل : المراد { مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ } بعمل الآخرة كالمنافق والمرائي والمهاجر للدنيا والمجاهد للغنيمة والذكر كما قال عليه السلام : { ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه} . وقال عليه الصلاة والسلام : { من طلب الدنيا بعمل الآخرة فماله في الآخرة من نصيب} .

وقيل : نزلت في المنافقين وكانوا يغزون مع المسلمين للغنيمة لا للثواب ، و { مِنْ } شرط وجوابه { عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا تَشَاء } فقيد المعجل بمشيئته أي ما يشاء تعجيله . و { لِمَن نُّرِيدُ } بدل من قوله :{ لَهُ } بدل بعض من كل لأن الضمير في { لَهُ } عائد على من الشرطية ، وهي في معنى الجمع ، ولكن جاءت الضمائر هنا على اللفظ لا على المعنى ، فقيد المعجل بإرادته فليس من يريد العاجلة يحصل له ما يريده ، ألا ترى أن كثيراً من الناس يختارون الدنيا ولا يحصل لهم منها إلاّ ما قسمه اللّه لهم ، وكثيراً منهم يتمنون النزر اليسير فلا يحصل لهم ، ويجمع لهم شقاوة الدنيا وشقاوة الآخرة .

وقرأ الجمهور { مَا نَشَاء } بالنون وروي عن نافع ما يشاء بالياء . فقيل الضمير في يشاء يعود على اللّه ، وهو من باب الالتفات فقراءة النون والياء سواء .

وقيل يجوز أن يعود على من العائد عليها الضمير في { لَهُ } وليس ذلك عاماً بل لا يكون له ما يشاء إلاّ آحاد أراد اللّه لهم ذلك ، والظاهر أن الضمير في { لِمَن نُّرِيدُ } يقدر مع تقديره مضاف محذوف يدل عليه ما قبله ، أي لمن نريد تعجيله له أي تعجيل ما نشاء . وقال أبو إسحاق الفزاري المعنى لمن نريد هلكته وما قاله لا يدل عليه لفظ في الآية .

و { جلعنا } بمعنى صيرنا ، والمفعول الأول { لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ } والثاني له لأنه ينعقد منهما مبتدأ وخبر ، فنقول : جهنم للكافرين كما قال هؤلاء للنار وهؤلاء للجنة و { يَصْلَاهَا } حال من جهنم . وقال أبو البقاء : أو من الضمير الذي في { لَهُ} وقال صاحب الغنيان : مفعول { جَعَلْنَا } الثاني محذوف تقديره مصيراً أو جزاءً انتهى .{ مَذْمُومًا } إشارة إلى الإهانة .{ مَّدْحُورًا } إشارة إلى البعد والطرد من رحمة اللّه

١٩

ومن أراد الآخرة . . . . .

{وَمَنْ أَرَادَ الاْخِرَةَ } أي ثواب الآخرة بأن يؤثرها على الدنيا ، ويعقد إرادته بها { وَسَعَى } فيما كلف من الأعمال والأقوال { سَعْيَهَا } أي السعي المعد للنجاة فيها .{ وَهُوَ مُؤْمِنٌ } هو الشرط الأعظم في النجاة فلا تنفع إرادة ولا سعي إلا بحصوله . وفي الحقيقة هو الناشىء عنه إرادة الآخرة والسعي للنجاة فيها وحصول الثواب ، وعن

بعض المتقدّمين من لم يكن معه ثلاث لم ينفعه عمله : إيمان ثابت ، ونية صادقة ، وعمل مصيب ، وتلا هذه الآية { فَأُوْلَئِكَ } إشارة إلى من اتصف بهذه الأوصاف وراعى معنى من فلذلك كان بلفظ الجمع ، واللّه تعالى يشكرهم على طاعتهم وهو تعالى المشكور على ما أعطى من العقل وإنزال الكتب وإيضاح الدلائل ، وهو المستحق للشكر حقيقة ومعنى شكرة تعالى المطيع الإثناء عليه وثوابه على طاعته .

٢٠

كلا نمد هؤلاء . . . . .

وانتصب { كَلاَّ } بنمد والإمداد المواصلة بالشي ، والمعنى كل واحد من الفريقين { نُّمِدُّ } كذا قدره الزمخشري : وأعربوا { هَؤُلاء } بدلاً من { كَلاَّ } ولا يصح أن يكون بدلاً من كل على تقدير كل واحد لأنه يكون إذ ذاك بدل كل من بعض ، فينبغي أن يكون التقدير كل الفريقين فيكون بدل كل من كل على جهة التفصيل . والظاهر أن هذا الإمداد هو في الرزق في الدنيا وهو تأويل الحسن وقتادة ، أي أن اللّه يرزق في الدنيا مريدي العاجلة الكافرين ، ومريدي الآخرة المؤمنين ويمد الجميع بالرزق ، وإنما يقع التفاوت في الآخرة ويدل على هذا التأويل { وَمَا كَانَ عَطَاء رَبّكَ مَحْظُورًا } أي إن رزقه لا يضيق عن مؤمن ولا كافر .

وعن ابن عباس أن معنى { مِنْ عَطَاء رَبّكَ } من الطاعات لمريد الآخرة والمعاصي لمريد العاجلة ، فيكون العطاء عبارة عما قسم اللّه للعبد من خير أو شر ، وينبوا لفظ العطاء على الإمداد بالمعاصي .

٢١

انظر كيف فضلنا . . . . .

والظاهر أن { أَنظُرْ } بصريه لأن التفاوت في الدنيا مشاهد { وَكَيْفَ } في موضع نصب بعد حذف حرف الجر ، لأن نظر يتعدى به ، فانظر هنا معلقة . ولما كان النظر مفضياً وسبباً إلى العلم جاز أن يعلق ، ويجوز أن يكون { أَنظُرْ } من نظر الفكر فلا كلام في تعليقه إذ هو فعل قلبي . والتفضيل هنا عبارة عن الطاعات المؤدّية إلى الجنة ، والمفضل عليهم الكفار كأنه قيل : انظر في تفضيل فريق على فريق ، وعلى التأويل الأول كأنه قيل في تفضيل شخص على شخص من المؤمنين والكافرين ، والمفضول في قوله :{ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً } محذوف تقديره من درجات الدنيا ومن تفضيل الدنيا .

وروي أن قوماً من الأشراف ومن دونهم اجتمعوا بباب عمر رضي اللّه عنه ، فخرج الإذن لبلال وصهيب فشق على أبي سفيان فقال سهيل بن عمر : وإنما أتينا من قبلنا أنهم دعوا ودعينا ، يعني إلى الإسلام فأسرعوا وأبطأنا ، وهذا باب عمر فكيف التفاوت في الآخرة ، ولئن حسدتموهم على باب عمر لما أعد اللّه لهم في الجنة أكثر . وقرىء أكثر بالثاء المثلثة . و

قال ابن عطية : وقوله :{ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ } ليس في اللفظ من أي شيء لكنه في المعنى ، ولا بد { أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ } من كل ما يضاف بالوجود أو بالفرض ، ورأى بعض العلماء أن هذه الدرجات والتفضيل إنما هو فيما بين المؤمنين . وأسند الطبري في ذلك حديثاً } أن أنزل أهل الجنة وأسفلهم درجة كالنجم يرى في مشارق الأرض ومغاربها وقد أرضى اللّه الجميع فما يغبط أحد أحداً} .

٢٢

لا تجعل مع . . . . .

والخطاب في { لاَّ تَجْعَل } للسامع غير الرسول . وقال الطبري وغيره : الخطاب لمحمد صلى اللّه عليه وسلم ، والمراد لجميع الخلق .{ فَتَقْعُدَ }

قال الزمخشري : من قولهم شحذ الشفرة حتى قعدت كأنها حربة ، بمعنى صارت . يعني فتصير جامعاً على نفسك الذم وما يتبعه من الهلاك من الذل والخذلان والعجز عن النصرة ممن جعلته شريكاً له انتهى . وما ذهب إليه من استعمال { فَتَقْعُدَ } بمعنى فتصير لا يجوز عند أصحابنا ، وقعد عندهم بمعنى صار مقصورة على المثل ، وذهب الفراء إلى أنه يطرد جعل قعد بمعنى صار ، وجعل من ذلك قول الراجز : لا يقنع الجارية الخضاب

ولا الوشاحان ولا الجلباب

من دون أن تلتقي الأركاب

ويقعد الأير له لعاب

وحكى الكسائي : قعد لا يسأل حاجة إلاّ قضاها بمعنى صار ، فالزمخشري أخذ في الآية بقول الفراء ، والقعود هنا عبارة عن المكث أي فيمكث في الناس { مَذْمُومًا مَّخْذُولاً } كما تقول لمن سأل عن حال شخص هو قاعد في أسوأ حال ، ومعناه ماكث ومقيم ، وسواء كان قائماً أم جالساً ، وقد يراد القعود حقيقة لأن من شأن المذموم المخذول أن يقعد حائراً متفكراً ، وعبر بغالب حاله وهي القعود .

وقيل : معنى { فَتَقْعُدَ } فتعجز ، والعرب تقول : ما أقعدك عن المكارم والذمّ هنا لا حق من اللّه تعالى ، ومن ذوي العقول في أن يكون الإنسان يجعل عوداً أو حجراً أفضل من نفسه ويخصه بالكرامة وينسب إليه الألوهية ويشركه مع اللّه الذي خلقه ورزقه وأنعم عليه ، والخذلان في هذا يكون بإسلام اللّه ولا يكفل له بنصر ، والمخذول الذي لا ينصره من يجب أن ينصره . وانتصب { مَذْمُومًا مَّخْذُولاً } على الحال ، وعند الفراء والزمخشري على أنه خبر لتقعد كلا لمذكرين مثنى معنى اتفاقاً مفرداً لفظاً عند البصريين على وزن فعل كمعي فلامه ألف منقلبة عن واو عند الأكثر ، مثنى لفظاً عند الكوفيين ، وتبعهم السهيلي فألفه للتثنية لا أصل ولامه لام محذوفة عند السهيلي ولا نص عن الكوفيين فيها ، ويحتمل أن تكون موضوعة على حرفين على أصل مذهبهم ، ولا تنفك عن الإضافة وإن أضيف إلى مظهر فألفه ثابتة مطلقاً في مشهور اللغات ، وكنانة تجعله كمشهور المثنى أو إلى مضمر ، فالمشهور قلب ألفه ياء نصباً وجراً ، والذي يضاف إليه مثنى أو ما في معناه . وجاء التفريق في الشعر مضافاً فالظاهر وحفظ الكوفيون كلاي وكلاك قاماً ويستعمل تابعاً توكيداً ومبتدأ ومنصوباً ومجروراً ، ويخبر عنه إخبار المفرد فصيحاً ، وربما وجب ، وإخبار المثنى قليلاً وربما وجب .

٢٣

وقضى ربك ألا . . . . .

{أُفّ } اسم فعل بمعنى أتضجر ولم يأت اسم فعل بمعنى المضارع إلاّ قليلاً نحو : أف وأوه بمعنى أتوجع ، وكان قياسه أن لا يبنى لأنه لم يقع موقع المبني . وذكر الزناتي في كتاب الحلل له : إن في أف لغات تقارب الأربعين ونحن

نسردها مضبوطة كما رأيناها وهي : أف أفِ أفُ أفَّ أفِّ أفُّ أفا أفّ أفا أفٍ أفٌ أف أفء أفيّ بغير إمالة أفيّ بالإمالة المحضة أفي بالإمالة بين بين أفيْ أفوْ أفّه أفّهْ أفّه فهذا اثنان وعشرون مع الهمزة المضمومة إفْ أفّ إف إفٍ إفَ إفا إفٌّ إفُّ إفا إفيِّ بالإمالة إفيْ فهذه إحدى عشرة مع الهمزة المكسورة أفْ أفّ آفّ آفَ أفيّ . وذكر ابن عطية أفاه بهاء السكت وهي تمام الأربعين . النهر الزجر بصياح وإغلاظ . قال العسكريّ : وأصله الظهور ، ومنه النهر والانتهار ، وأنهر الدم أظهره وأسأله ، وانتهر الرجل أظهر له الإهانة بقبح الزجر والطرد . و

قال ابن عطية : الانتهار إظهار الغضب في الصوت واللفظ .

وقال الزمخشري : النهي والنهر والنهم أخوات . التبذير الإسراف قاله أبو عبيدة يعني في النفقة ، وأصله التفريق ومنه سمي البذر بذراً لأنه يفرق في المزرعة . وقال الشاعر : ترائب يستضيء الحلي فيها

كجمر النار بذر بالظلام

ويروى بدد أي فرق . المحسور قال الفراء : تقول العرب بعير محسور إذا انقطع سيره ، وحسرت الدابة حتى انقطع سيرها ، ويقال حسير فعيل بمعنى مفعول ويجمع على حسرى . قال الشاعر : بها جيف الحسرى فأما عظامها فبيض

وأما جلدها فصليب

القسطاس بضم القاف وكسرها وبالسين الأولى والصاد . قال مؤرج السدوسي : هي الميزان بلغة الروم وتأتي أقوال المفسرين فيه . المرح شدّة الفرح ، يقال : مرح يمرح مرحاً . الطول ضد القصر ، ومنه الطول خلاف العرض . الحجاب ما ستر الشيء عن الوصول إليه . الرفات قال الفراء : التراب .

وقيل : الذي بولغ في دقه حتى تفتت ،

ويقال : رفت الشيء كسره يرفته بالكسر والرفات الأجزاء المتفتتة من كل شيء مكسر ، وفعال بناء لهذا المعنى كالحطام والفتات والرضاض والدقاق .

{وَقَضَى رَبُّكَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً}

قرأ الجمهور { وَقُضِىَ } فعلاً ماضياً من القضاء .

وقرأ بعض ولد معاذ بن جبل : وقضاء ربك مصدر { قَضَى } مرفوعاً على

الابتداء و { أَن لاَّ تَعْبُدُواْ } الخبر . وفي مصحف ابن مسعود وأصحابه وابن عباس وابن جبير والنخعي وميمون بن مهران من التوصية .

وقرأ بعضهم : وأوصى من الإيصاء ، وينبغي أن يحمل ذلك التفسير لأنها قراءة مخالفة لسواد المصحف والمتواتر هو { وَقُضِىَ } وهو المستفيض عن ابن مسعود وابن عباس وغيرهم في أسانيد القراء السبعة .{ وَقُضِىَ } هنا قال ابن عباس والحسن وقتادة بمعنى أمر . وقال ابن مسعود وأصحابه : بمعنى وصى .

وقيل : أوجب وألزم وحكم .

وقيل : بمعنى أحكم . و

قال ابن عطية : وأقول أن المعنى { وَقَضَى رَبُّكَ } أمره { أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ } وليس في هذه الألفاظ إلاّ أمر بالاقتصار على عبادة اللّه ، فذلك هو المقضي لا نفس العبادة ، والمقضي هنا هو الأمر انتهى . كأنه رام أن يترك قضى على مشهور موضوعها بمعنى قدر ، فجعل متعلقه الأمر بالعبادة لا العبادة لأنه لا يستقيم أن يقضي شيئاً بمعنى أن يقدر إلاّ ويقع ، والذي فهم المفسرون غيره أن متعلق قضى هو { أَن لاَّ تَعْبُدُواْ } وسواء كانت { ءانٍ } تفسيرية أم مصدرية . وقال أبو البقاء : ويجوز أن تكون في موضع نصب أي ألزم ربك عبادته و { لا } زائدة انتهى . وهذا وهم لدخول { إِلا } على مفعول { تَعْبُدُواْ } فلزم أن يكون منفياً أو منهياً والخطاب بقوله { لاَّ تَعْبُدُواْ } عامّ للخلق . و

قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون { قَضَى } على مشهورها في الكلام ويكون الضمير في { تَعْبُدُواْ } للمؤمنين من الناس إلى يوم القيامة انتهى .

قال الحوفي : الباء متعلقة بقضى ، ويجوز أن تكون متعلقة بفعل محذوف تقديره وأوصى { وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً } و { إِحْسَاناً } مصدر أي تحسنوا إحساناً . و

قال ابن عطية : قوله { وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً } عطف على أن الأولىأي أمر اللّه { أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ } وأن تحسنوا { وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً } وعلى هذا الاحتمال الذي ذكرناه يكون قوله :{ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً } مقطوعاً من الأول كأنه أخبرهم بقضاء اللّه ، ثم أمرهم بالإحسان إلى الوالدين .

وقال الزمخشري : لا يجوز أن تتعلق الباء في { بالوالدين } بالإحسان لأن المصدر لا تتقدم عليه صلته . وقال الواحدي في البسيط : الباء في قوله { بالوالدين } من صلة الإحسان ، وقدمت عليه كما تقول : بزيد فامرر ، انتهى . وأحسن وأساء يتعدى بإلى وبالباء

قال تعالى :{ حَقّا وَقَدْ أَحْسَنَ بَى } وقال الشاعر :

أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة

وكأنه تضمن أحسن معنى لطف ، فعدّي بالباء و { إِحْسَاناً } إن كان مصدراً ينحل لأن والفعل فلا يجوز تقديم متعلقه به ، وإن كان بمعنى أحسنوا فيكون بدلاً من اللفظ بالفعل نحو ضربا زيداً ، فيجوز تقديم معموله عليه ، والذي نختاره أن تكون { ءانٍ } حرف تفسير و { لاَّ تَعْبُدُواْ } نهي و { إِحْسَاناً } مصدر بمعنى الأمر عطف ما معناه أمر على نهي كما عطف في :

يقولون لا تهلك أسى وتجمل

وقد اعتنى بالأمر بالإحسان إلى الوالدين حيث قرن بقوله :{ لاَّ تَعْبُدُواْ } وتقديمهما اعتناء بهما على قوله :{ إِحْسَاناً } ومناسبة اقتران برّ الوالدين بإفراد اللّه بالعبادة من حيث أنه تعالى و الموجد حقيقة ، والوالدان وساطة في إنشائه ، وهو تعالى المنعم بإيجاده ورزقه ، وهما ساعيان في مصالحه .

وقال الزمخشري :{ أَمَّا } هي الشرطية زيدت عليها ما توكيداً لها ، ولذلك دخلت النون المؤكدة في الفعل ، ولو أفردت لم يصح دخولها لا تقول أن تكرمنّ زيداً يكرمك ، ولكن إما تكرمنه انتهى .

وهذا الذي ذكره مخالف لمذهب سيبويه لأن مذهبه أنه يجوز أن يجمع بين إما ونون التوكيد ، وأن يأتي بأن وحدها ونون التوكيد ، وأن يأتي بإما وحدها دون نون التوكيد . وقال سيبويه في هذه المسألة : وإن شئت لم تقحم النون كما أنك إن شئت لم تجيء بما يعني مع النون وعدمها ، وعندك ظرف معمول ليبلغن ، ومعنى العندية هنا أنهما يكونان عنده في بيته وفي كنفه لا كافل لهما غيره لكبرهما وعجزهما ، ولكونهما كلاً عليه وأحدهما فاعل { يَبْلُغَنَّ } و {أَوْ كِلاَهُمَا } معطوف على { أَحَدُهُمَا}

وقرأ الجمهور { يَبْلُغَنَّ } بنون التوكيد الشديدة والفعل مسند إلى { أَحَدُهُمَا} وروي عن ابن ذكوان بالنون الخفيفة .

وقرأ الأخوان : إما يبلغان بألف التثنية ونون التوكيد المشدّدة وهي قراءة السلمي وابن وثاب وطلحة والأعمش والجحدري . فقيل الألف علامة تثنية لا ضمير على لغة أكلوني البراغيث ، وأحدهما فاعل و {أَوْ كِلاَهُمَا } عطف عليه ، وهذا لا يجوز لأن شرط الفاعل في الفعل الذي لحقته علامة التثنية أن يكون مسند المثنى أو معرف بالعطف بالواو ، ونحو قاما أخواك أو قاما زيد وعمرو على خلاف في هذا الأخير هل يجوز أو لا يجوز ، والصحيح جوازه و { أَحَدُهُمَا } ليس مثنى ولا هو معرف بالعطف بالواو مع مفرد .

وقيل : الألف ضمير الوالدين و { أَحَدُهُمَا } بدل من الضمير و { كِلاَهُمَا } عطف على { أَحَدُهُمَا } والمعطوف على البدل بدل .

وقال الزمخشري .

فإن قلت : لو قيل إما يبلغان { كِلاَهُمَا } كان { كِلاَهُمَا } توكيداً لا بدلاً ، فمالك زعمت أنه بدل ؟

قلت : لأنه معطوف على ما لا يصح أن يكون توكيداً فانتظم في حكمه فوجب أن يكون مثله .

فإن قلت : ما ضرك لو جعلته توكيداً مع كون المعطوف عليه بدلاً وعطفت التوكيد على البدل ؟

قلت : لو أريد توكيد التثنية لقيل { كِلاَهُمَا } فحسب فلما قيل { أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا } علم أن التوكيد غير مراد فكان بدلاً مثل الأول . و

قال ابن عطية : وعلى هذه القراءة الثالثة يعني يبلغانّ يكون قوله { أَحَدُهُمَا } بدلاً من الضمير في يبلغان وهو بدل مقسم كقول الشاعر : وكنت كذي رجلين رجل صحيحة

وأخرى رمى فيها الزمان فشلت

انتهى . ويلزم من قوله أن يكون { كِلاَهُمَا } معطوفاً على { أَحَدُهُمَا } وهو بدل ، والمعطوف على البدل بدل ، والبدل مشكل لأنه يلزم منه أن يكون المعطوف عليه بدلاً ، وإذا جعلت { أَحَدُهُمَا } بدلاً من الضمير فلا يكون إلاّ بدل بعض من كل ، وإذا عطفت عليه { كِلاَهُمَا } فلا جائز أن يكون بدل بعض من كل ، لأن { كِلاَهُمَا } مرادف للضمير من حيث التثنية ، فلا يكون بدل بعض من كل ، ولا جائز أن يكون بدل كل من كل لأن المستفاد من الضمير التثنية وهو المستفاد من { كِلاَهُمَا } فلم يفد البدل زيادة على المبدل منه .

وأما قول ابن عطية وهو بدل مقسم كقول الشاعر :

وكنت كذي رجلين البيت

فليس من بدل التقسيم لأن شرط ذلك العطف بالواو ، وأيضاً فالبدل المقسم لا يصدق المبدل فيه على

أحد قسميه ، و { كِلاَهُمَا } يصدق عليه الضمير وهو المبدل منه ، فليس من المقسم . ونقل عن أبي علي أن { كِلاَهُمَا } توكيد وهذا لا يتم إلاّ بأن يعرب { أَحَدُهُمَا } بدل بعض من كل ، ويضمر بعده فعل رافع الضمير ، ويكون { كِلاَهُمَا } توكيداً لذلك الضمير ، والتقدير أو يبلغا { كِلاَهُمَا } وفيه حذف المؤكد . وقد أجازه سيبويه والخليل قال : مررت بزيد وإياي أخوه أنفسهما بالرفع والنصب ، الرفع على تقديرهما صاحباي أنفسهما ، والنصف على تقدير أعينهما أنفسهما ، إلاّ أن المنقول عن أبي علي وابن جنيّ والأخفش قبلهما أنه لا يجوز حذف المؤكد وإقامة المؤكد مقامه ، والذي نختاره أن يكون { أَحَدُهُمَا } بدلاً من الضمير و { كِلاَهُمَا } مرفوع بفعل محذوف تقديره أو يبلغ { كِلاَهُمَا } فيكون من عطف الجمل لا من عطف المفردات ، وصار المعنى أن يبلغ أحد الوالدين أو يبلغ { كِلاَهُمَا }{ عِندَكَ الْكِبَرَ} وجواب الشرط { فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ } وتقدم مدلول لفظ أف في المفردات واللغات التي فيها ، وإذا كان قد نهى أن يستقبلهما بهذه اللفظة الدالة على الضجر والتبرم بهما فالنهي عما هو أشدّ كالشتم والضرب هو بجهة الأولى ، وليست دلالة أف على أنواع الإيذاء دلالة لفظية خلافاً لمن ذهب إلى ذلك .

وقال ابن عباس :{ أُفّ } كلمة كراهة بالغ تعالى في الوصية بالوالدين ، واستعمال وطأة الخلق ولين الجانب والاحتمال حتى لا نقول لهما عند الضجر هذه الكلمة فضلاً عما يزيد عليها . قال القرطبي : قال علماؤنا : وإنما صار قول { أُفّ } للوالدين أردأ شيء لأن رفضهما رفض كفر النعمة ، وجحد التربية ، وردّ وصية اللّه . و { أُفّ } كلمة منقولة لكل شيء مرفوض ولذلك قال إبراهيم عليه السلام :{ أُفّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّه } أي رفض لكم ولهذه الأصنام معكم انتهى .

وقرأ الحسن والأعرج وأبو جعفر وشيبة وعيسى ونافع وحفص { أُفّ } بالكسر والتشديد مع التنوين .

وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر كذلك بغير تنوين .

وقرأ ابن كثير وابن عامر بفتحها مشدّدة من غير تنوين .

وحكى هارون قراءة بالرفع والتنوين .

وقرأ أبو السمال { أُفّ } بضم الفاء من غير تنوين .

وقرأ زيد بن عليّ أفاً بالنصب والتشديد والتنوين .

وقرأ ابن عباس { أُفّ } خفيفة فهذه سبع قراءات من اللغات التي حكيت في { أُفّ}

وقال مجاهد : إن معناه إذا رأيت منهما في حال الشيخوخة الغائط والبول اللذين رأيا منك في حال الصغر فلا تقذرهما وتقول { أُفّ } انتهى . والآية أعم من ذلك . ولما نهاه تعالى أن يقول لهما ما مدلوله أتضجر منكما ارتقى إلى النهي عما هو من حيث الوضع أشد من { أُفّ } وهو نهرهما ، وإن كان النهي عن نهرهما يدل عليه النهي عن قول { أُفّ } لأنه إذا نهي عن الأدنى كان ذلك نهياً عن الأعلى بجهة الأولى ، والمعنى ولا تزجرهما عما يتعاطيانه مما لا يعجبك { وَقُل لَّهُمَا } بدل قول أف ونهرهما { قَوْلاً كَرِيمًا } أي جامعاً للمحاسن من البر وجودة اللفظ . قال ابن المسيب : قول العبد المذنب للسيد اللفظ .

وقيل :{ قَوْلاً كَرِيمًا } أي جميلاً كما يقتضيه حسن الأدب . وقال عمر : أن تقول يا أبتاه يا أمّاه انتهى . كما خاطب إبراهيم لأبيه يا أبت مع كفره ، ولا تدعوهما بأسمائهما لأنه من الجفاء وسوء الأدب ولا بأس به في غير وجهه كما قالت عائشة نحلني أبو بكر كذا . ولما نهاه تعالى عن القول المؤذي وكان لا يستلزم ذلك الأمر بالقول الطيب أمره تعالى بأن يقول لهما القول الطيب السار الحسن ، وأن يكون قوله دالاً على التعظيم لهما والتبجيل .

وقال عطاء : تتكلم معهما بشرط أن لا ترفع إليهما بصرك ولا تشد إليهما نظرك لأن ذلك بنا في القول الكريم . وقال الزجاج قولاً سهلاً سلساً لا شراسة فيه ، ثم أمره تعالى بالمبالغة في التواضع معهما بقوله :{ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلّ مِنَ الرَّحْمَةِ}

٢٤

واخفض لهما جناح . . . . .

وقال القفال في تقريره وجهان .

أحدهما : أن الطائر إذا ضم فرخه إليه للتربية خفض له جناحه ، فخفض الجناح كناية عن حسن التدبير وكأنه قيل للولد اكفل والديك بأن تضمهما إلى نفسك كما فعلا ذلك بك حال صغرك .

الثاني : أن الطائر إذا أراد الطيران والارتفاع نشر جناحه ، وإذا أراد ترك الطيران وترك الارتفاع خفض جناحه

فصار خفض الجناح كناية عن فعل التواضع من هذا الوجه . و

قال ابن عطية : استعارة أي اقطعهما جانب الذل منك ودمث لهما نفسك وخلقك ، وبولغ بذكر الذل هنا ولم يذكر في قوله : { وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } وذلك بسبب عظم الحق انتهى . وبسبب شرف المأمور فإنه لا يناسب نسبة الذل إليه .

وقال الزمخشري :

فإن قلت : ما معنى { جَنَاحَ الذُّلّ } ؟

قلت : فيه وجهان .

أحدهما : أن يكون المعنى واخفض لهما جناحك كما قال :{ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ } فأضافه إلى الذل أو الذل كما أضيف حاتم إلى الجود على معنى واخفض لهما جناحك الذليل أو الذلول .

والثاني : أن يجعل لذله أو لذله جناحاً خفيضاً كما جعل لبيد للشمال يداً ، وللقرة زماناً مبالغة في التذلل والتواضع لهما انتهى . والمعنى أنه جعل اللين ذلاً واستعار له جناحاً ثم رشح هذا المجاز بأن أمر بخفضه . وحكي أن أبا تمام لما نظم قوله : لا تسقني ماء الملام فإنني

صب قد استعذبت ماء بكائياً

جاءه رجل بقصعة وقال له اعطني شيئاً من ماء الملام ، فقال له : حتى تأتيني بريشة من جناح الذل . وجناحاً الإنسان جانباه ، فالمعنى واخفض لهما جانبك ولا ترفعه فعل المتكبر عليهما . وقال بعض المتأخرين فأحسن : أراشوا جناحي ثم بلوه بالندى

فلم أستطع من أرضهم طيرانا

وقرأ الجمهور { مَّنَ الذُّلّ } بضم الذال .

وقرأ ابن عباس وعروة بن جبير والجحدري وابن وثاب بكسر الذال وذلك على الاستعارة في الناس لأن ذلك يستعمل في الدواب في ضد الصعوبة ، كما أن الذل بالضم في ضد الغير من الناس ، ومن الظاهر أنها للسبب أي الحامل لك على خفض الجناح هو رحمتك لهما إذ صارا مفتقرين لك حالة الكبر كما كنت مفتقراً إليهما حالة الصغر . قال أبو البقاء :{ مِنَ الرَّحْمَةِ } أي من أجل الرحمة ، أي من أجل رفقك بهما فمن متعلقة ب { اخفض} ، ويجوز أن يكون حالاً من جناح . و

قال ابن عطية : من الرحمة هنا لبيان الجنس أي أن هذا الخفض يكون من الرحمة المستكمنة في النفس لا بأن يكون ذلك استعمالاً ، ويصح أن يكون ذلك لابتداء الغاية انتهى . ثم أمره تعالى بأن يدعو اللّه بأن يرحمهما رحمته الباقية إذ رحمته عليهما لا بقاء لها . ثم نبَّه على العلة الموجبة للإحسان إليهما والبر بهما واسترحام اللّه لهما وهي تربيتهما له صغيراً ، وتلك الحالة مما تزيده اشفاقاً ورحمة لهما إذ هي تذكير لحالة إحسانهما إليه وقت أن لا يقدر على الإحسان لنفسه . وقال قتادة : نسخ اللّه من هذه الآية هذا اللفظ يعني { وَقُل رَّبّ ارْحَمْهُمَا } بقوله تعالى :{ مَا كَانَ لِلنَّبِىّ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ }

وقيل : هي مخصوصة في حق المشركين .

وقيل لا نسخ ولا تخصيص لأن له أن يدعو اللّه لوالديه الكافرين بالهداية والإرشاد وأن يطلب الرحمة لهما بعد حصول الإيمان ، والظاهر أن الكاف في { كَمَا } للتعليل أي { رَّبّ ارْحَمْهُمَا } لتربيتهما لي وجزاء على إحسانهما إليّ حالة الصغر والافتقار . وقال الحوفي : الكاف في موضع نصب نعت لمصدر محذوف تقديره رحمة مثل

تربيتي صغيراً .

وقال أبو البقاء : { كَمَا } نعت لمصدر محذوف أي رحمة مثل رحمتهما . وسرد الزمخشري وغيره أحاديث وآثاراً كثيرة في بر الوالدين يوقف عليها في كتبهم . ولما نهى تعالى عن عبادة غيره وأمر بالإحسان إلى الوالدين ولا سيما عند الكبر وكان الإنسان ربما تظاهر بعبادة وإحسان إلى والديه دون عقد ضمير على ذلك رياء وسمعة ،

٢٥

ربكم أعلم بما . . . . .

أخبر تعالى أنه أعلم بما انطوت عليه الضمائر من دون قصد عبادة اللّه والبر بالوالدين . ثم قال : { إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ } أي ذوي صلاح ثم فرط منكم تقصير في عبادة أو بر وأبتم إلى الخير فإنه غفور لما فرط من هناتكم . والظاهر أن هذا عام لكل من فرطت منه جناية ثم تاب منها ، ويندرج فيه من جنى على أبويه ثم تاب من جنايته . وقال ابن جبير : هي في المبارزة تكون من الرجل إلى أبيه لا يريد بذلك إلاّ الخير .

٢٦

وآت ذا القربى . . . . .

لما أمر تعالى ببر الوالدين أمر بصلة القرابة . قال الحسن : نزلت في قرابة الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، والظاهر أنه خطاب لمن خوطب بقوله { إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ } وألحق هنا ما يتعين له من صلة الرحم ، وسد الخلة ، والمواساة عند الحاجة بالمال والمعونة بكل وجه . قال نحوه ابن عباس وعكرمة والحسن وغيرهما . وقال عليّ بن الحسين فيها : هم قرابة الرسول عليه السلام ، أمر بإعطائهم حقوقهم من بيت المال ، والظاهر أن الحق هنا مجمل وأن { ذَا الْقُرْبَى } عام في ذي القرابة فيرجع في تعيين الحق وفي تخصيص ذي القرابة إلى السنة . وعن أبي حنيفة : إن القرابة إذا كانوا محارم فقراء عاجزين عن التكسب وهو موسر حقهم أن ينفق عليهم . وعند الشافعي : ينفق على الولد والوالدين فحسب على ما تقرر في كتب الفقه . ونهى تعالى عن التبذير وكانت الجاهلية تنحر إبلها وتتياسر عليها وتبذر أموالها في الفخر والسمعة وتذكر ذلك في أشعارها ، فنهي اللّه تعالى عن النفقة في غير وجوه البر وما يقرب منه تعالى . وعن ابن مسعود وابن عباس : التبذير إنفاق المال في غير حق . وقال مجاهد : لو أنفق ماله كله في حق ما كان مبذراً . وذكر الماوردي أنه الإسراف المتلف للمال ، وقد احتج بهذه الآية على الحجر على المبذر ، فيجب على الإمام منعه منه بالحجر والحيلولة بينه وبين ماله إلاّ بمقدار نفقة مثله ، وأبو حنيفة لا يرى الحجر للتبذير وإن كان منهياً عنه .

وقال القرطبي : يحجر عليه إن بذله في الشهوات وخيف عليه النفاد ، فإن أنفق وحفظ الأصل فليس بمبذر

٢٧

إن المبذرين كانوا . . . . .

واخوة الشياطين كونهم قرناءهم في الدنيا وفي النار في الآخرة ، وتدل هذه الأخوة على أن التبذير هو في معصية اللّهأو كونهم يطيعونهم فيما يأمرونهم به من الإسراف في الدنيا .

وقرأ الحسن والضحاك إخوان الشيطان على الإفراد وكذا ثبت في مصحف أنس ، وذكر كفر الشيطان لربه ليحذر ولا يطاع لأنه لا يدعو إلى خيركما قال إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير .

٢٨

وإما تعرضن عنهم . . . . .

{وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ} قيل : نزلت في ناس من مزينة استحملوا الرسول فقال : { لا أجد ما أحملكم عليه} . فبكوا .

وقيل في بلال وصهيب وسالم وخباب : سألوه ما لا يجد فأعرض عنهم . وروي أنه عليه السلام كان بعد نزول هذه الآية إذا لم يكن عنده ما يعطي وسئل قال : { يرزقنا اللّه وإياكم من فضله } فالرحمة على هذا الرزق المنتظر وهو قول ابن عباس ومجاهد وعكرمة . وقال ابن زيد : الرحمة الأجر والثواب وإنما نزلت الآية في قوم كانوا يسألون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيأبى أن يعطيهم لأنه كان يعلم منهم نفقة المال في فساد ، فكان يعرض عنهم وعنه في الأجر في منعهم لئلا يعينهم على فسادهم ، فأمره اللّه تعالى أن يقول لهم : { قَوْلاً مَّيْسُورًا } يتضمن الدعاء في الفتح لهم والإصلاح انتهى من كلام ابن عطية .

وقال الزمخشري : وإن أعرضت عن ذي القربى والمسكين وابن السبيل حياء من الرد { فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا } ولا تتركهم غير مجابين إذا

سألوك ، وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا سئل شيئاً وليس عنده أعرض عن السائل وسكت حياء ، ويجوز أن يكون معنى {وَأَمَّا أَغْنَتْ عَنْهُمْ } وإن لم تنفعهم وترفع خصاصتهم لعدم الاستطاعة ، ولا يريد الإعراض بالوجه كناية بالإعراض عن ذلك لأن من أبى أن يعطي أعرض بوجهه انتهى . والذي يظهر أنه تعالى لما أمر بإيتاء ذي القربى حقه ومن ذكر معه ونهاه عن التبذير ، قال : وإن لم يكن منك إعراض عنهم فالضمير عائد عليهم ، وعلل الإعراض بطلب الرحمة وهي كناية عن الرزق والتوسعة وطلب ذلك ناشىء عن فقدان ما يجود به ويؤتيه من سأله ، وكأن المعنى وإن تعرض عنهم لإعسارك فوضع المسبب وهو ابتغاء الرحمة موضع السبب وهو الإعسار . وأجاز الزمخشري أن يكون { ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مّن رَّبّكَ } علة لجواب الشرط فهو يتعلق به ، وقدم عليه أي فقل لهم قولاً سهلاً ليناً وعدهم وعداً جميلاً رحمة لهم وتطييباً لقلوبهم ابتغاء رحمة من ربك ، أي ابتغ رحمة اللّه التي ترجوها برحمتك عليهم انتهى . وما أجازه لا يجوز لأن ما بعد فاء الجواب لا يعمل فيما قبله لا يجوز في قولك أن يقم فاضرب خالداً أن تقول : إن يقم خالداً فاضرب ، وهذا منصوص عليه فإن حذفت الفاء في مثل إن يقم يضرب خالداً فمذهب سيبويه والكسائي الجواز ، فتقول : إن يقم خالداً نضرب ، ومذهب الفراء المنع فإن كان معمول الفعل مرفوعاً نحو إن تفعل يفعل زيد فلا يجوز تقديم زيد على أن يكون مرفوعاً بيفعل ، هذا وأجاز سيبويه أن يكون مرفوعاً بفعل يفسره يفعل كأنك

قلت : إن تفعل يفعل زيد يفعل ، ومنع ذلك الكسائي والفراء . وقال ابن جبير : الضمير في { عَنْهُمْ } عائد على المشركين ، والمعنى {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ } لتكذيبهم إياك ابتغاء رحمة أي نصر لك عليهم أو هداية من اللّه لهم ، وعلى هذا القول الميسور المداراة لهم باللسان قاله أبو سليمان الدمشقي ويسر يكون لازماً ومتعدّياً فميسور من المتعدّي تقول : يسرت لك كذا إذا أعددته .

قال الزمخشري : يقال يسر الأمر وعسر مثل سعد ونحس فهو مفعول انتهى . ولمعنى هذه الآية أشار الشاعر في القصيدة التي تسمى باليتيمة في قوله : ليكن لديك لسائل فرج

إن لم يكن فليحسن الردّ

وقال آخر إن لم يكن ورق يوماً أجود به

للسائلين فإني لين العود لا يعدم السائلون الخير من خلقي إما نوالي

وإما حسن مردودي

٢٩

ولا تجعل يدك . . . . .

{وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ } الآية . قيل : نزلت في إعطائه صلى اللّه عليه وسلم قميصه ولم يكن له غيره وبقي عرياناً .

وقيل : أعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل ، وعيينة مثل ذلك ، والعباس بن مرداس خمسين ثم كملها مائة فنزلت ، وهذه استعارة استعير فيها المحسوس للمعقول ، وذلك أن البخل معنى قائم بالإنسان يمنعه من التصرف في ماله فاستعير له الغل الذي هو ضم اليد إلى العنق فامتنع من تصرف يده وإجالتها حيث تريد ، وذكر اليد لأن بها الأخذ والإعطاء ، واستعير بسط اليد لإذهاب المال وذلك أن قبض اليد يحبس ما فيها ، وبسطها يذهب ما فيها ، وطابق في الاستعارة بين بسط اليد وقبضها من حيث المعنى لأن جعل اليد مغلولة هو قبضها ، وغلها أبلغ في القبض وقد طابق بينهما أبو تمام . فقال في المعتصم : تعوّد بسط الكف حتى لوانّه

ثناها لقبض لم تجبه أنامله

وقال الزمخشري : هذا تمثيل لمنع الشحيح وإعطاء المسرف ، أمر بالاقتصاد الذي هو بين الإسراف والاقتار انتهى . والظاهر أنه مراد بالخطاب أمة الرسول صلى اللّه عليه وسلم وإلاّ فهو صلى اللّه عليه وسلم كان لا يدّخر شيئاً لغد ، وكذلك من كان واثقاً باللّه حق الوثوق كأبي بكر حين تصدّق بجميع ماله . وقال ابن جريج وغيره : المعنى لا تمسك عن النفقة فيما أمرتك به من الحق { وَلاَ تَبْسُطْهَا } فيما نهيتك عنه وروي عن قالون : كل البصط بالصاد فتقعد جواب للّهيئتين باعتبار الحالين ، فالملوم راجع لقوله :{ وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ} كما قال الشاعر : إن البخيل ملوم حيث كان

ولكن الجواد على علاتّه هرم

والمحسور راجع لنوله { وَلاَ تَبْسُطْهَا } وكأنه قيل فتلام وتحسر ،

٣٠

إن ربك يبسط . . . . .

ثم سلاه تعالى عما كان يلحقه من الإضافة بأن ذلك ليس بهوان منك عليه ولا لبخل به عليك ، ولكن لأن بسط الرزق وتضييقه إنما ذلك بمشيئته وإرادته لما يعلم في ذلك من المصلحة لعباده ، أو يكون المعنى القبض والبسط من مشيئة اللّه ،

وأما أنتم فعليكم الاقتصاد وختم ذلك بقوله { خَبِيراً } وهو العلم بخفيات الأمور و { بَصِيراً } أي بمصالح عباده حيث يبسط لقوم ويضيق على قوم .

٣١

ولا تقتلوا أولادكم . . . . .

{وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا}

لما بيَّن تعالى أنه هو المتكفل بأرزاق العباد حيث قال { إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ } أتبعه بالنهي عن قتل الأولاد ، وتقدم تفسير نظير هذه الآية ، والفرق بين { خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ } ومن إملاق وبين قوله :{ نَرْزُقُهُمْ } ونرزقكم .

وقرأ الأعمش وابن وثاب :{ وَلاَ تَقْتُلُواْ } بالتضعيف . وقرىء { خَشْيَةَ } بكسر الخاء ،

وقرأ الجمهور { خطأً } بكسر الخاء وسكون الطاء .

وقرأ ابن كثير بكسرها وفتح الطاء والمدّ ، وهي قراءة طلحة وشبل والأعمش ويحيى وخالد بن إلياس وقتادة والحسن والأعرج بخلاف عنهما . وقال النحاس : لا أعرف لهذه القراءة وجهاً ولذلك جعلها أبو حاتم غلطاً . وقال الفارسي : هي مصدر من خاطأ يخاطىء وإن كنا لم نجد خاطأ ولكن وجدنا تخاطأ وهو مطاوع خاطأ ، فدلنا عليه فمنه قول الشاعر : تخاطأت النبل أخشاه

وأخر يومي فلم يعجل

وقول الآخر في كمأة

تخاطأه القناص حتى وجدته

وخرطومه في منقع الماء راسب

فكان هؤلاء الذين يقتلون أولادهم يخاطئون الحق والعدل .

وقرأ ابن ذكوان { خطأ } على وزن نبأ .

وقرأ الحسن خطاء بفتحهما والمد جعله اسم مصدر من أخطأ كالعطاء من أعطى قاله ابن جنيّ . وقال أبو حاتم : هي غلط غير جائز ولا ؛ يعرف هذا في اللغة ، وعنه أيضاً خطى كهوى خفف الهمزة فانقلبت ألفاً وذهبت لالتقائهما .

وقرأ أبو رجاء والزهري كذلك إلاّ أنهما كسرا الخاء فصار مثل ربا وكلاهما من خطىء في الدين وأخطأ في الرأي ، لكنه قد يقام كل واحد منهما مقام الآخر وجاء عن ابن عامر { خطأ } بالفتح والقصر مع إسكان الطاء وهو مصدر ثالث من خطىء بالكسر .

٣٢

ولا تقربوا الزنى . . . . .

{وَلاَ تَقْرَبُواْ الزّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللّه إِلاَّ بِالحَقّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فّى الْقَتْلِ } سقط : إنه كان منصورا ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنزا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا : لما نهى تعالى عن قتل الأولاد نهى عن التسبب في إيجاده من الطريق غير المشروعة ، فنهى عن قربان الزنا واستلزم ذلك النهي عن الزنا ، والزنا الأكثر فيه القصر ويمد لغة لا ضرورة ، هكذا نقل اللغويون . ومن المدّ قول الشاعر وهو الفرزدق : أبا حاضر من يزن يعرف زناؤه

ومن يشرب الخرطوم يصبح مسكرا ويروي أبا خالد . وقال آخر :

كانت فريضة ما تقول كما

كان الزناء فريضة الرجم

وكان المعنى لم يزل أي لم يزل { فَاحِشَةً } أي معصية فاحشة أي قبيحة زائدة في القبح { وَسَاء سَبِيلاً } أي وبئس طريقاً طريقه لأنها سبيل تؤدّي إلى النار . و

قال ابن عطية : و { سَبِيلاً } نصب على التمييز التقدير ، وساء سبيله انتهى . وإذا كان { سَبِيلاً } نصباً على التمييز فإنما هو تمييز للمضمر المستكن في { سَاء } ، وهو من المضمر الذي يفسره ما بعده ، والمخصوص بالذم محذوف ، وإذا كان كذلك فلا يكون تقديره وساء سبيله سبيلاً لأنه إذ ذاك لا يكون فاعله ضميراً يراد به الجنس مفسراً بالتمييز ، ويبقى التقدير أيضاً عارياً عن المخصوص بالذم ، وتقدّم تفسير قوله تعالى :

٣٣

ولا تقتلوا النفس . . . . .

{وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللّه إِلاَّ بِالْحَقّ } في أواخر الأنعام قال الضحاك : هذه أول ما نزل من القرآن في شأن القتل انتهى .

ولما نهى عن قتل الأولاد وعن إيجادهم من الطريق غير المشروعة نهى عن قتل النفس فانتقل من الخاص إلى العام ، والظاهر أن هذه كلها منهيات مستقلة ليست مندرجة تحت قوله :{ وَقَضَى رَبُّكَ } كاندراج { أَن لاَّ تَعْبُدُواْ } وانتصب { مَظْلُومًا } على الحال من الضمير المستكن في { قَتْلَ } والمعنى أنه قتل بغير حق ، { فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ } وهو الطالب بدمه شرعاً ، وعند أبي حنيفة وأصحابه اندراج من يرث من الرجال والنساء والصبيان في الولي على قدر مواريثهم ، لأن الولي عندهم هو الوارث هنا . وقال مالك : ليس للنساء شيء من القصاص ، وإنما القصاص للرجال . وعن ابن المسيب والحسن وقتادة والحكم : ليس إلى النساء شيء من العفو والدم وللسلطان التسلط على القاتل في الاقتصاص منه أو حجة يثبت بها عليه قاله الزمخشري . و

قال ابن عطية : والسلطان الحجة والملك الذي جعل إليه من التخيير في قبول الدم أو العفو قاله ابن عباس والضحاك . وقال قتادة : السلطان القود وفي كتاب التحرير السلطان القوة والولاية .

وقال ابن عباس : البينة في طلب القود . وقال الحسن القود . وقال مجاهد الحجة . وقال ابن زيد : الوالي أي والياً ينصفه في حقه ، والظاهر عود الضمير في { فَلاَ يُسْرِف } على الولي ، والإسراف المنهي عنه أن يقتل غير القاتل قاله ابن عباس والحسن ، أو يقتل اثنين بواحد قاله ابن جبير ، أو أشرف من الذي قتل قاله ابن زيد ، أو يمثل قاله قتادة ، أو يتولى القاتل دون السلطان ذكره الزجاج .

وقال أبو عبد اللّه الرازي : السلطنة مجملة يفسرها { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ } الآية ويدل عليه أنه مخير بين القصاص والدية وقوله عليه السلام يوم الفتح : { من قتل قتيلاً فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا الدية} . فمعنى { فَلاَ يُسْرِف فّى الْقَتْلِ } لا يقدم على استيفاء القتل ، ويكتفي بأخذ الدية أو يميل إلى العفو ولفظة في محمولة على الباء أي فلا يصير مسرفا

ً بسبب إقدامه على القتل ، ويكون معناه الترغيب في العفو كما قال { وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } انتهى ملخصاً . ولو سلم أن { فِى } بمعنى الباء لم يكن صحيح المعنى ، لأن من القتل بحق قاتل موليه لا يصير مسرقاً بقتله ، وإنما الظاهر واللّه أعلم النهي عما كانت الجاهلية تفعله من قتل الجماعة بالواحد ، وقتل غير القاتل والمثلة ومكافأة الذي يقتل من قتله . وقال مهلهل حين قتل بجير بن الحارث بن عباد : بؤبشسع نعل كليب .

وأبعد من ذهب إلى أن الضمير في { فَلاَ يُسْرِف } ليس عائداً على الولي ، وإنما يعود على العامل الدال عليه ، ومن قتل أي { لا يُسْرِف } في القتل تعدياً وظلماً فيقتل من ليس له قتله .

وقرأ الجمهور { فَلاَ يُسْرِف } بياء الغيبة .

وقرأ الأخوان وزيد بن عليّ وحذيفة وابن وثاب والأعمش ومجاهد بخلاف وجماعة ، وفي نسخة من تفسير ابن عطية وابن عامر وهو وهم بتاء الخطاب والظاهر أنه على خطاب الولي فالضمير له . وقال الطبري : الخطاب للرسول صلى اللّه عليه وسلم والأئمة من بعده أي فلا تقتلوا غير القاتل انتهى .

قال ابن عطية :

وقرأ أبو مسلم السرّاج صاحب الدعوة العباسية .

وقال الزمخشري قرأ أبو مسلم صاحب الدولة . وقال صاحب كتاب اللوامح أو مسلم العجلي مولى صاحب الدولة :{ فَلاَ يُسْرِف } بضم الفاء على الخبر ، ومعناه النهي وقد يأتي الأمر والنهي بلفظ الخبر . وقال ابن عطية في الاحتجاج بأبي مسلم في القراءة نظر ، وفي قراءة أبيّ فلا تسرفوا في القتل إن ولي المقتول كان منصوراً انتهى . رده على ولا تقتلوا والأولى حمل قوله إن ولي المقتول على التفسير لا على القراءة لمخالفته السواد ، ولأن المستفيض عنه { إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا } كقراءة الجماعة والضمير في { أَنَّهُ } عائد على الولي لتناسق الضمائر ونصره إياه بأن أوجب له القصاص ، فلا يستزاد على ذلك أو نصره بمعونة السلطان وبإظهار المؤمنين على استيفاء الحق .

وقيل : يعود الضمير على المقتول نصره اللّه حيث أوجب القصاص بقتله في الدنيا ، ونصره بالثواب في الآخرة .

قال ابن عطية : وهو أرجح لأنه المظلوم ، ولفظة النصر تقارن الظلم كقوله عليه السلام : { ونصر المظلوم وإبرار القسم } وكقوله : { انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً } إلى كثير من الأمثلة .

وقيل : على القتل . وقال أبو عبيد : على القاتل لأنه إذا قتل في الدنيا وخلص بذلك من عذاب الآخرة فقد نصر ، وهذا ضعيف بعيد القصد .

وقال الزمخشري : وإنما يعني أن يكون الضمير في أنه الذي بقتله الولي بغير حق ويسرف في قتله فإنه منصور بإيجاب القصاص على المسرف انتهى . وهذا بعيد جداً .

٣٤

ولا تقربوا مال . . . . .

{وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } لما نهى عن إتلاف النفوس نهى عن أخذ الأموال كما قال : { فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم} . لما كان اليتيم ضعيفاً عن أن يدفع عن ماله لصغره نص على النهي عن قربان ماله ، وتقدم تفسير هذه الآية في أواخر الأنعام .{ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ } عام فيما عقده الإنسان بينه وبين ربه ، أو بينه وبين ربه ، أو بينه وبين آدمي في طاعة { إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ } ظاهره أن العهد هو المسؤول من المعاهد أن يفى به ولا ينكث ولا يضيعه أو يكون من باب التخييل ، كأنه يقال : للعهد لم نكثت ، فمثل كأنه ذات من الذوات تسأل لم نكثت دلالة على المطاوعة بنكثه وإلزام ما يترتب على نكثه ، كما جاء { وَإِذَا الْمَوْءودَةُ سُئِلَتْ بِأَىّ ذَنبٍ قُتِلَتْ } فيمن قرأ بسكون اللام وكسر التاء التي للخطاب .

وقيل : هو على حذف مضاف أي إن ذا العهد كان مسؤولاً عنه إن لم يف به .

٣٥

وأوفوا الكيل إذا . . . . .

ثم أمر تعالى بإيفاء الكيل وبالوزن المستقيم ، وذلك مما يرجع إلى المعاملة بالأموال . وفي قوله { وَأَوْفُوا الْكَيْلَ } دلالة على أن الكيل هو على البائع لأنه لا يقال ذلك للمشتري . وقال الحسن :{ القسطاس } القبان وهو الفلسطون ويقال القرسطون . وقال مجاهد :{ القسطاس } العدل لا أنه آلة .

وقرأ الأخوان وحفص بكسر القاف ، وباقي السبعة بضمها وهما لغتان . وقرأت فرقة بالإبدال من السين الأولى صاداً .

قال ابن عطية : واللفظية للمبالغة من القسط انتهى . ولا يجوز أن يكون من القسط لاختلاف المادتين لأن القسط مادته ق س ط ، وذلك مادته ق س ط س إلاّ أن

اعتقد زيادة السين آخراً كسين قدموس وضغبوس وعرفاس ، فيمكن لكنه ليس من مواضع زيادة السين المقيسة والتقييد بقوله : { الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ } أي وقت كيلكم على سبيل التأكيد ، وأن لا يتأخر إلايفاء بأن يكيل به بنقصان مّا ثم يوفيه بعد فلا يتأخر الإيفاء عن وقت الكيل .

{ذالِكَ خَيْرٌ } أي الإيفاء والوزن لأن فيه تطييب النفوس بالاتسام بالعدل والإيصال للحق { وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } أي عاقبة ، إذ لا يبقى على الموفى والوازن تبعة لا في الدنيا ولا في الآخرة ، وهو من المآل وهو المرجع كما قال : خير مرداً ، خير عقباً ، خير أملاً وإنما كانت عاقبته أحسن لأنه اشتهر بالأحتراز عن التطفيف ، فعوِّل عليه في المعاملات ومالت القلوب إليه .

٣٦

ولا تقف ما . . . . .

لما أمر تعالى بثلاثة أشياء ، الإيفاء بالعهد ، والإيفاء بالكيل ، والوزن بالقسطاس المستقيم أتبع ذلك بثلاثة أمّناه :{ وَلاَ تَقْفُ }{ وَلاَ تَمْشِ }{ ولاتجعل} ومعنى { تَأْوِيلاً وَلاَ تَقْفُ } لا تتبع ما لا علم لك به من قول أو فعل ، نهى أن نقول ما لا نعلم وأن نعمل بما لا نعلم ، ويدخل فيه النهي عن اتباع التقليد لأنه اتباع بما لا يعلم صحته .

وقال ابن عباس : معناه لا ترم أحداً بما لا تعلم . وقال قتادة لا تقل رأيت ولم تره وسمعت ولم تسمعه وعلمت ولم تعلمه . وقال محمد بن الحنيفة : لا تشهد بالزور . و

قال ابن عطية : ولا تقل لكنها كلمة تستعمل في القذف والعضه انتهى . وفي الحديث : { من قفا مؤمناً بما ليس فيه حبسه اللّه في ردغة الخبال حتي يأتى بالمخرج} . وقال في الحديث أيضاً : { نحن بنو النضر بن كنانة لا تقفو منا ولا ننتفي من أبينا} . ومنه قول النابغة الجعدي : ومثل الدمى شم العرانين ساكن

بهنّ الحيا لا يتبعن التقافيا

وقال الكميت فلا أرمي البريء بغير ذنب

ولا أقفو الحواضن إن قفينا

وحاصل هذا أنه نهى عن اتباع ما لا يكون معلوماً ، وهذه قضية كلية تندرج تحتها أنواع .

قال الزمخشري : وقد استدل به مبطل الاجتهاد ولم يصح لأن ذلك نوع من العلم ، وقد أقام الشرع غالب الظنّ مقام العلم وأمر بالعمل به انتهى .

وقرأ الجمهور :{ وَلاَ تَقْفُ } بحذف الواو للجزم مضارع قفا .

وقرأ زيد بن عليّ ولا تقفو بإثبات الواو . كما قال الشاعر : هجوت زبان ثم جئت معتذرا

من هجو زبان لم تهجو ولم تدع

وإثبات الواو والياء والألف مع الجازم لغة لبعض العرب وضرورة لغيرهم .

وقرأ معاذ القارىء : { وَلاَ تَقْفُ } مثل تقل ، من قاف يقوف تقول العرب : قفت أثره وقفوت أثره وهما لغتان لوجود التصاريف فيهما كجبذ وجذب ، وقاع الجمل الناقة وقعاها إذا ركبها ، وليس قاف مقلوباً من قفا كما جوّزه صاحب اللوامح .

وقرأ الجرّاح العقيلي :{ وَالْفُؤَادَ } بفتح الفاء والواو قلبت الهمزة واواً بعد الضمة في الفؤاد ثم استصحب القلب مع الفتح وهي لغة في { الْفُؤَادُ } وأنكرها أبو حاتم وغيره وبه لا تتعلق بعلم لأنه يتقدّم معموله عليه . قال الحوفي : يتعلق بما تعلق به { لَكَ } وهو الاستقرار وهو لا يظهر

وفي قوله :{ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ } دليل على أن العلوم مستفادة من الحواس ومن العقول ، وجاء هذا على الترتيب القرآني في البداءة بالسمع ، ثم يليه البصر ، ثم يليه الفؤاد . و { أُوْلَائِكَ } إشارة إلى { السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ } وهو اسم إشارة للجمع المذكر والمؤنث العاقل وغيره . وتخيل ابن عطية أنه يختص بالعاقل . فقال : وعبر عن { السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ } بأولئك لأنها حواس لها إدراك ، وجعلها في هذه الآية مسؤولة فهي حالة من يعقل ، ولذلك عبر عنها بأولئك . وقد قال سيبويه رحمه اللّه في قوله تعالى :{ رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ } إنما قال : رأيتهم في نجوم لأنه إنما وصفها بالسجود وهو من فعل من يعقل عبر عنها بكناية من يعقل .

وحكى الزجاج أن العرب تعبر عمن يعقل وعما لا يعقل بأولئك ، وأنشد هو والطبري :

ذمّ المنازل بعد منزلة اللوى

والعيش بعد أولئك الأيام

وأما حكاية أبي إسحاق عن اللغة فأمر يوقف عنده ،

وأما البيت فالرواية فيه الأقوام انتهى . وليس ما تخيله صحيحاً ، والنحاة ينشدونه بعد أولئك الأيام ولم يكونوا لينشدوا إلاّ ما روي ، وإطلاق أولاء وأولاك وأولئك وأولالك على ما لا يعقل لا نعلم خلافاً فيه ، و { كُلٌّ } مبتدأ والجملة خبره ، واسم { كَانَ } عائد على { كُلٌّ } وكذا الضمير في { مَسْؤُولاً} والضمير في { عَنْهُ } عائد على ما من قوله { مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } فيكون المعنى أن كل واحد من { السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ } يسأل عما لا علم له به أي عن انتفاء ما لا علم له به . وهذا الظاهر . وقال الزجاج : يستشهد بها كما قال { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ} وقال القرطبي في أحكامه : يسأل الفؤاد عما اعتقده ، والسمع عما سمع ، والبصر عما رأى . و

قال ابن عطية : إن اللّه تعالى يسأل سمع الإنسان وبصره وفؤاده عما قال مما لا علم له به ، فيقع تكذيبه من جوارحه وتلك غاية الخزي .

وقيل : الضمير في { كَانَ } و { مَسْؤُولاً } عائدان على القائف ما ليس له به علم ، والضمير في { عَنْهُ } عائد على { كُلٌّ } فيكون ذلك من الالتفات إذ لو كان على الخطاب لكان التركيب كل أولئك كنت عنه مسؤولاً .

وقال الزمخشري : و { عَنْهُ } في موضع الرفع بالفاعلية ، أي كل واحد منها كان مسؤولاً عنه ، فمسؤول مسند إلى الجار والمجرور كالمغضوب في قوله { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } يقال للإنسان : لم سمعت ما لا يحل لك سماعه ؟ ولم نظرت ما لم يحل لك النظر إليه ؟ ولم عزمت على ما لم

يحل لك العزم عليه ؟ انتهى . وهذا الذي ذهب إليه من أن { عَنْهُ } في موضع الرفع بالفاعلية ، ويعني به أنه مفعول لم يسم فاعله لا يجوز لأن الجار والمجرور وما يقام مقام الفاعل من مفعول به ومصدر وظرف بشروطهما جار مجرى الفاعل ، فكما أن الفاعل لا يجوز تقديمه فكذلك ما جرى مجراه وأقيم مقامه ، فإذا قلت غضب على زيد فلا يجوز على زيد غضب بخلاف غضبت على زيد فيجوز على زيد غضبت . وقد حكي الاتفاق من النحويين على أنه لا يجوز تقديم الجار والمجرور الذي يقام مقام الفاعل على الفعل أبو جعفر النحاس ذكر ذلك في المقنع من تأليفه ، فليس { عَنْهُ مَسْؤُولاً } كالمغضوب عليهم لتقدّم الجار والمجرور في { عَنْهُ مَسْؤُولاً } وتأخيره في { الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } وقول الزمخشري : ولم نظرت ما لم يحل لك أسقط إلى ، وهو لا يجوز إلاّ إن جاء في ضرورة شعر لأن نظر يتعدّى بإلى فكان التركيب ، ولم نظرت إلى ما لم يحل لك كما قال النظر إليه فعداه بإلى .

٣٧

ولا تمش في . . . . .

وانتصب { مَرَحاً } على الحال أي { مَرَحاً } كما تقول : جاء زيد ركضاً أي راكضاً أو على حذف مضاف أي ذا مرح ، وأجاز بعضهم أن يكون مفعولاً من أجله أي { وَلاَ تَمْشِ فِى الاْرْضِ } للمرح ولا يظهر ذلك ، وتقدم أن المرح هو السرور والاغتباط بالراحة والفرح وكأنه ضمن معنى الاختيال لأن غلبة السرور والفرح يصحبها التكبر والاختيال ، ولذلك بقوله علل { إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الاْرْضَ} وقرأت فرقة فيما حكي يعقوب :{ مَرَحاً } بكسر الراء وهو حال أي لا تمش متكبراً مختالاً . قال مجاهد : لن تخرق بمشيك على عقبيك كبراً وتنعماً ، { وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ } بالمشي على صدور قدميك تفاخراً و { طُولاً } والتأويل أن قدرتك لا تبلغ هذا المبلغ فيكون ذلك وصلة إلى الاختيال . وقال الزجاج :{ لا تَمْشِ فِى الاْرْضِ } مختالاً فخوراً ، ونظيره :{ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الاْرْضِ هَوْناً } و { تُصَعّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِى الاْرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللّه لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}

وقال الزمخشري :{ لَن تَخْرِقَ الاْرْضَ } لن تجعل فيها خرقاً بدوسك لها وشدّة وطئك ، { وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً } بتطاولك وهوتهكم بالمختال .

وقرأ الجراح الأعرابي :{ لَن تَخْرِقَ } بضم الراء . قال أبو حاتم : لا تعرف هذه اللغة .

وقيل : أشير بذلك إلى أن الإنسان محصور بين جمادين ضعيف عن التأثير فيهما بالخرق وبلوغ الطول ومن كان بهذه المثابة لا يليق به التكبر . وقال الشاعر : ولا تمش فوق الأرض إلا تواضعا

فكم تحتها قوم هم منك أرفع والأجود انتصاب قوله { طُولاً } على التمييز ، أي لن يبلغ طولك الجبال . وقال الحوفي :{ طُولاً } نصب على الحال ، والعامل في الحال { تَبْلُغَ } ويجوز أن يكون العامل تخرق ، و { طُولاً } بمعنى متطاول انتهى . وقال أبو البقاء :{ طُولاً } مصدر في موضع الحال من الفاعل أو المفعول ، ويجوز أن يكون تمييزاً ومفعولاً له ومصدراً من معنى تبلغ انتهى .

٣٨

كل ذلك كان . . . . .

٣٩

وقرأ الحرميان وأبو عمرو وأبو جعفر والأعرج سيئة بالنصب والتأنيث .

وقرأ باقي السبعة والحسن ومسروق { سَيّئَةٌ } بضم الهمزة مضافاً . لهاء المذكر الغائب .

وقرأ عبد اللّه سيئانه بالجمع مضافاً للّهاء ، وعنه أيضاً سيئات بغيرها ، وعنه أيضاً كان خبيثه . فأما القراءة الأولى فالظاهر أن ذلك إشارة إلى مصدري النهيين السابقين ، وهما قفو ما ليس له به علم ، والمشي في الأرض مرحاً .

وقيل : إشارة إلى جميع المناهي المذكورة فيما تقدم في هذه السورة ، وسيئة خبر كان وأنت ثم قال مكروهاً فذكر .

قال الزمخشري : السيئة في حكم الأسماء بمنزلة الذنب ، والاسم زال عنه حكم الصفات فلا إعتبار بتأنيثه ، ولا فرق بين من قرأ سيئة ومن قرأ سيئاً ، ألا تراك تقول : الزنا سيئة كما تقول السرقة سيئة ، فلا تفرق بين إسنادها إلى مذكر ومؤنث انتهى . وهو تخريج حسن .

وقيل : ذكر { مَكْرُوهًا } على لفظ { كُلٌّ } وجوزوا في { مَكْرُوهًا } أن يكون خبراً ثانياً لكان على مذهب من يجيز تعداد الأخبار لكان ، وأن يكون بدلاً من سى ئة والبد بالمشتق ضعيف ، وأن يكون حالاً من الضمير المستكن في الظرف قبله والظرف في موضع الصفة . قيل : ويجوز أن يكون نعتاً لسيئة لما كان تأنيثها مجازياً جاز أن توصف بمذكر ، وضعف هذا بأن جواز ذلك إنما هو في الإسناد إلى المؤنث المجازي إذا تقدم ، أما إذا تأخر وأسند إلى ضميرها فهو قبيح ، تقول : أبقل الأرض إبقالها فصيحاً والأرض أبقل قبيح ،

وأما من قرأ { سَيّئَةٌ } بالتذكير والإضافة فسيئه اسم { كَانَ } و { مَكْرُوهًا } الخبر ، ولما تقدم من الخصال ما هو سيء وما هو حسن أشير بذلك إلى المجموع وأفرد سيئة وهو المنهي عنه ، فالحكم عليه بالكراهة من قوله لا تجعل إلى آخر المنهيات .

وأما قراءة عبد اللّه فتخرج على أن يكون مما أخبر فيه عن الجمع إخبار الواحد المذكر وهو قليل نحو قوله :

فإن الحوادث أو دى بها

لصلاحية الحدثان مكان الحوادث وكذلك هذا أيضاً كان ما يسوء مكان سيئاته ذلك إشارة إلى جميع أنواع التكاليف من قوله { لاَّ تَجْعَل مَعَ اللّه إِلَاهًا ءاخَرَ إِلَى قَوْلُهُ وَلاَ تَمْشِ فِى الاْرْضِ مَرَحًا } وهي أربعة وعشرون نوعاً من التكاليف بعضها أمر وبعضها نهي بدأها بقوله { لاَّ تَجْعَل} واختتم الآيات بقوله { وَلاَ تَجْعَلْ}

٣٩

ذلك مما أوحى . . . . .

وقال : مما أوحى لأن ذلك بعض مما أوحي إليه إذا أوحى إليه بتكاليف أخر ، و { مِمَّا أَوْحَى } خبر عن ذلك ، و { مِنَ الْحِكْمَةِ } يجوز أن يكون متعلقاً بأوحى وأن يكون بدلاً من ما ، وأن يكون حالاً من الضمير المنصوب المحذوف العائد على ما وكانت هذه التكاليف

حكمة لأن حاصلها يرجع إلى الأمر بالتوحيد وأنواع الطاعات والإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة ، والعقول تدل على صحتها وهي شرائع في جميع الأديان لا تقبل النسخ .

وعن ابن عباس : إن هذه الآيات كانت في ألواح موسى عليه السلام ، أولها { لاَّ تَجْعَل مَعَ اللّه إِلَاهًا ءاخَرَ }

قال تعالى :{ وَكَتَبْنَا لَهُ فِى الاْلْوَاحِ مِن كُلّ شَىْء مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لّكُلّ شَىْء } وكرر تعالى النهي عن الشرك ، ففي النهي الأول .{ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً } وفي الثاني { فَتُلْقَى فِى جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا } والفرق بين مذموم وملوم أن كونه مذموماً أن يذكر أن الفعل الذي أقدم عليه قبيح منكر ، وكونه ملوماً أن يقال له بعد الفعل وذمّه لم فعلت كذا وما حملك عليه وما استفذت منه إلاّ إلحاق الضرر بنفسك ، فأول الأمر الذم وآخره اللوم ، والفرق بين مخذول ومدحور أن المخذول هو المتروك إعانته ونصره والمفوض إلى نفسه ، والمدحور المطرود المبعد على سبيل الإهانة له والاستخفاف به ، فأول الأمر الخذلان وآخره الطرد مهاناً . وكان وصف الذم والخذلان يكون في الدنيا ووصف اللوم والدحور يكون في الآخرة ، ولذلك جاء { فَتُلْقَى فِى جَهَنَّمَ } والخطاب بالنهي في هذه الآيات للسامع غير الرسول .

وقال الزمخشري : ولقد جعل اللّه عز وعلا فاتحتها وخاتمتها النهي عن الشرك لأن التوحيد هو رأس كل حكمة وملاكها ، ومن عدمه لم تنفعه حكمه وعلومه وإن بذَّ فيها الحكماء وحك بيافوخه السماء ، وما أغنت عن الفلاسفة أسفار الحكم وهم عن دين اللّه أضل من النعم

٤٠

أفأصفاكم ربكم بالبنين . . . . .

لما نبه تعالى على فساد من أثبت للّه شريكاً ونظيراً أتبعه بفساد طريقة من أثبت للّه ولداً ، والاستفهام معناه الإنكار والتوبيخ والخطاب لمن اعتقد أن الملائكة بنات اللّه ومعنى { أَفَأَصْفَاكُمْ } آثركم وخصكم وهذا كما قال :{ إِلَهٍ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الاْنثَى } وهذا خلاف الحكمة وما عليه معقولكم وعادتكم ، فإن العبيد لا يؤثرون بأجود الأشياء وأصفاها من الشوب ويكون أردؤها وأدونها للسادات . ومعنى { عَظِيماً } مبالغاً في المنكر والقبح حيث أضفتم إليه الأولاد ثم حيث فضلتم عليه تعالى أنفسكم فجعلتم له ما تكرهون ، ثم نسبة الملائكة الذين هم من شريف ما خلق إلى الأنوثة .

٤١

ولقد صرفنا في . . . . .

ومعنى { صَرَفْنَا } نوعنا من جهة إلى جهة ومن مثال إلى مثال ، والتصريف لغة صرف الشيء من جهة إلى جهة ثم صار كناية عن التبيين .

وقرأ الجمهور { وَصَرَّفْنَا } بتشديد الراء . فقال : لم نجعله نوعاً واحداً بل وعداً ووعيداً ، ومحكماً ومتشابهاً ، وأمراً ونهياً ، وناسخاً ومنسوخاً ، وأخباراً وأمثالاً مثل تصريف الرياح من صباودبور وجنوب وشمال ، ومفعول { صَرَفْنَا}

على هذا المعنى محذوف وهي هذه الأشياء أي : صرّفنا الأمثال والعبر والحكم والأحكام والأعلام .

وقيل : المعنى لم ننزله مرة واحدة بل نجوماً ومعناه أكثرنا صرف جبريل إليك والمفعول محذوف أي { صَرَفْنَا } جبريل .

وقيل :{ فِى } زائدة أي { صَرَفْنَا }{ هَاذَا الْقُرْءانُ } كما قال { وَأَصْلِحْ لِى فِى ذُرّيَّتِى } وهذا ضعيف لأن في لا تزاد .

وقال الزمخشري : يجوز أن يريد بهذا القرآن إبطال إضافتهم إلى اللّه البنات لأنه مما صرفه وكرر ذكره ، والمعنى ولقد { صَرَفْنَا } القول في هذا المعنى ، وأوقعنا التصريف فيه وجعلناه مكاناً للتكرير ، ويجوز أن يشير بهذا { الْقُرْءانَ } إلى التنزيل ، ويريد ولقد صرفناه يعني هذا المعنى في مواضع من التنزيل ، فترك الضمير لأنه معلوم انتهى . فجعل التصريف خاصاً بما دلت عليه الآية قبله وجعل مفعول { صَرَفْنَا } أما القول في هذا المعنى أو المعنى وهو الضمير الذي قدره في صرفناه وغيره جعل التصريف عامّاً في أشياء فقدر ما يشمل ما سيق له ما قبله وغيره .

وقرأ الحسن بتخفيف الراء . فقال صاحب اللوامح : هو بمعنى العامة يعني بالعامة قراءة الجمهور ، قال ؛ لأن فعل وفعل ربما تعاقبا على معنى واحد . و

قال ابن عطية : على معنى صرفنا فيه الناس إلى الهدى بالدعاء إلى اللّه .

وقرأ الجمهور { لّيَذْكُرُواْ } أي ليتذكروا من التذكير ، أدغمت التاء في الذال .

وقرأ الأخوان وطلحة وابن وثاب والأعمش ليذكروا بسكون الذال وضم الكاف من الذكر أو الذكر ، أي ليتعظوا ويعتبروا وينظروا فيما يحتج به عليهم ويطمئنوا إليه { وَمَا يَزِيدُهُمْ } أي التصريف { إِلاَّ نُفُورًا } أي بعداً وفراراً عن الحق كما قال :{ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ } وقال :{ فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ } والنفور من أوصاف الدواب الشديدة الشماس ،

٤٢

قل لو كان . . . . .

ولما ذكر تعالى نسبة الولد إليهم ورد عليهم في ذلك ذكر قولهم إنه تعالى معه آلهة وردَّ عليهم .

وقرأ ابن كثير وحفص { كَمَا يَقُولُونَ } بالياء من تحت ، والجمهور بالتاء . ومعنى { لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِى الْعَرْشِ سَبِيلاً } إلى مغالبته وإفساد ملكه لأنهم شركاؤه كما يفعل الملوك بعضهم مع بعض . وقال هذا المعنى أو مثله ابن جبير وأبو عليّ الفارسي والنقاش والمتكلمون أبو منصور وغيره ، وعلى هذا تكون الآية بياناً للتمانع كما في قوله { لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَةٌ إِلاَّ اللّه لَفَسَدَتَا } ويأتي تفسيرها إن شاء اللّه تعالى . وقال قتادة ما معناه : لابتغوا إلى التقرب إلى ذي العرش والزلفى لديه ، وكانوا يقولون : إن الأصنام تقربهم إلى اللّه فإذا علموا أنها تحتاج إلى اللّه فقد بطل كونها آلهة ، ويكون كقوله { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبّهِمُ الْوَسِيلَةَ } أيهم أقرب ، والكاف من { كَمَا } في موضع نصب . وقال الحوفي : متعلقة بما تعلقت به مع وهو الاستقرار و { مَعَهُ } خبر كان . وقال أبو البقاء : كوناً لقولكم .

وقال الزمخشري : و { إِذَا } دالة على أن ما بعدها وهو { لاَّبْتَغَوْاْ } جواب عن مقالة المشركين وجزاء للو انتهى .

٤٣

سبحانه وتعالى عما . . . . .

وعطف { وَتَعَالَى } على قوله { سُبْحَانَهُ } لأنه اسم قام مقام المصدر الذي هو في معنى الفعل ، أي براءة اللّه وقدر تنزه

وتعالى يتعلق به على سبيل الأعمال إذ يصح لسبحان أن يتعلق به عن كما في قوله { سُبْحَانَ رَبّكَ رَبّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ } والتعالي في حقه تعالى هو بالمكانة لا بالمكان .

وقرأ الأخوان : عما تقولون بالتاء من فوق وباقي السبعة بالياء . وانتصب { عَلَوْاْ } على أنه مصدر على غير الصدر أي تعالياً ووصف تكبيراً مبالغة في معنى البراءة والبعد عما وصفوه به لأن المنافاة بين الواجب لذاته والممكن لذاته ، وبين القديم والمحدث ، وبين الغني والمحتاج منافاة لا تقبل الزيادة ،

٤٤

تسبح له السماوات . . . . .

ونسبة التسبيح للسموات والأرض ومن فيهن من ملك وإنس وجن حمله بعضهم على النطق بالتسبيح حقيقة ، وأن ما لا حياة فيه ولا نمو يحدث اللّه له نطقاً وهذا هو ظاهر اللفظ ، ولذلك جاء { وَلَاكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}

وقال بعضهم : ما كان من نام حيوان وغيره يسبح حقيقة ، وبه قال عكرمة قال : الشجرة تسبح والأسطوانة لا تسبح .

وسئل الحسن عن الخوان أيسبح ؟ فقال : قد كان يسبح مرة يشير إلى أنه حين كان شجرة كان يسبح ، وحين صار خواناً مدهوناً صار جماداً لا يسبح .

وقيل : التسبيح المنسوب لما لا يعقل مجاز ومعناه أنها تسبح بلسان الحال حيث يدل على الصانع وعلى قدرته وحكمته وكماله ، فكأنها تنطق بذلك وكأنها تنزه اللّه عما لا يجوز عليه من الشركاء وغيرها . ويكون قوله :{ وَلَاكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } خطاباً للمشركين ، وهم وإن كانوا معترفين بالخالق أنه اللّه لكنهم لما جعلوا معه آلهة لم ينظروا ولم يقروا لأن نتيجة النظر الصحيح والإقرار الثابت خلاف ما كانوا عليه ، فإذا لم يفقهوا التسبيح ولم يستوضحوا الدلالة على الخالق فيكون التسبيح المسند إلى السموات والأرض ومن فيهن على سبيل المجاز قدراً مشتركاً بين الجميع ، وإن كان يصدر التسبيح حقيقة ممن فيهن من ملك وإنس وجان ولا يحمل نسبته إلى السموات والأرض على المجاز ، ونسبته إلى الملائكة والثقلين على الحقيقة لئلا يكون جمعاً بين المجاز والحقيقة بلفظ واحد .

وقال ابن عطية ثم أعاد على السموات والأرض ضمير من يعقل لما أسند إليها فعل العاقل وهو التسبيح انتهى . ويعنى بالضمير في قوله { وَمَن فِيهِنَّ } وكأنه تخيل أن هن لا يكون إلاّ لمن يعقل من المؤنثات وليس كما تخيل بل هن يكون ضمير الجمع المؤنث مطلقاً .

وقرأ النحويان وحمزة وحفص : تسبح بالتاء من فوق وباقي السبعة بالياء ، وفي بعض المصاحف سبحت له السموات بلفظ الماضي وتاء التأنيث وهي قراءة عبد اللّه والأعمش وطلحة بن مصرف .{ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا } حيث لا يعاجلكم بالعقوبة على سوء نظركم { غَفُوراً } إن رجعتم ووحدتم اللّه تعالى .

٤٥

وإذا قرأت القرآن . . . . .

نزلت { وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرءانَ } في أبي سفيان والنضر وأبي جهل وأم جميل امرأة أبي لهب ، كانوا يؤذون الرسول إذا قرأ القرآن ، فحجب اللّه أبصارهم إذا قرأ فكانوا يمرون به ولا يرونه قاله الكلبي :

وعن ابن عباس نزلت في امرأة أبي لهب ، دخلت منزل أبي بكر وبيدها فهر والرسول صلى اللّه عليه وسلم عنده ، فقالت : هجاني صاحبك ، قال : ما هو بشاعر ، قالت : قال { فِى جِيدِهَا حَبْلٌ مّن مَّسَدٍ } وما يدريه ما في جيدي ؟ فقال لأبي بكر : { سلها هل ترى غيرك فإن ملكاً لم يزل يسترني عنها } فسألها فقالت : أتهزأ بي ما أرى غيرك فانصرفت ولم تر الرسول صلى اللّه عليه وسلم.

وقيل : نزلت في قوم

من بني عبد الدار كانوا يؤذونه في الليل إذا صلى وجهر بالقراءة ، فحال اللّه بينهم وبين أذاه .

ولما تقدّم الكلام في تقرير الإلهية جاء بعده تقرير النبوة وذكر شيء من أحوال الكفرة في إنكارها وإنكار المعاد ، والمعنى وإذا شرعت في القراءة وليس المعنى على الفراغ من القراءة بل المعنى على أنك إذا التبست بقراءة القرآن ولا يراد بالقرآن جميعه بل ما ينطلق عليه الاسم ، فإنك تقول لمن يقرأ شيئاً من القرآن هذا يقرأ القرآن ، والظاهر أن القرآن هنا هو ما قرىء من القرآن أي شيء كان منه .

وقيل : ثلاث آيات منه معينة وهي في النحل { أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ إِلَى الْغَافِلُونَ } وفي الكهف { وَمَنْ أَظْلَمُ إِلَى إِذًا أَبَدًا } وفي الجاثية { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَاهَهُ هَوَاهُ إِلَى أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ } وعن كعب أن الرسول كان يستتر بهذه الآيات ، وعن ابن سيرين أنه عينها له هاتف من جانب البيت ، وعن بعضهم أنه أسر زماناً ثم اهتدى قراءتها فخرج لا يبصره الكفار وهم يتطلبونه تمس ثيابهم ثيابه . قال القرطبي : ويزاد إلى هذه الآي أول يس إلى { فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } ففي السيرة أن الرسول صلى اللّه عليه وسلم حين نام على فراشه خرج ينثر التراب على رؤوس الكفار فلا يرونه وهو يتلو هذه الآيات من يس ، ولم يبق أحد منهم إلاّ وضع على رأسه تراباً . والظاهر أن المعنى جعلنا بين رؤيتك وبين أبصار الذين لا يؤمنون بالآخرة كما ورد في سبب النزول .

وقال قتادة والزجاج وجماعة ما معناه :{ جَعَلْنَا بَيْنَكَ } فهم ما تقرأ وبينهم { حِجَاباً } فلا يقرون بنبوتك ولا بالبعث ، فالمعنى قريب من الآية بعدها ، والظاهر إقرار { مَّسْتُورًا } على موضوعه من كونه اسم مفعول أي { مَّسْتُورًا } عن أعين الكفار فلا يرونه ، أو { مَّسْتُورًا } به الرسول عن رؤيتهم . ونسب الستر إليه لما كان مستوراً به قاله المبرد ، ويؤول معناه إلى أنه ذو ستر كما جاء في صيغة لابن وتامر أي ذو لبن وذو تمر . وقالوا : رجل مرطوب أي ذو رطبة ولا يقال رطبته ، ومكان مهول أي ذو هول ، وجارية مغنوجة ولا يقال هلت المكان ولا غنجت الجارية . وقال الأخفش وجماعة { مَّسْتُورًا } ساتراً واسم الفاعل قد يجيء بلفظ المفعول كما قالوا مشؤوم وميمون يريدون شائم ويامن .

وقيل : مستور وصف على جهة المبالغة كما قالوا شعر شاعر ، وردّ بأن المبالغة إنما تكون باسم الفاعل

٤٦

وجعلنا على قلوبهم . . . . .

ومن لفظ الأول { وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِىءاذَانِهِمْ وَقْراً } تقدم تفسيره في أوائل الأنعام { وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ} قيل : دخل ملأ قريش على أبي طالب يزورونه ، فدخل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقرأ ومر بالتوحيد ، ثم قال : { يا معشر قريش قولوا لا إله إلاّ اللّه تملكون بها العرب وتدين لكم العجم } فولوا ونفروا فنزلت هذه الآية . والظاهر أن الآية في حال الفارّين عند وقت قراءته ومروره بتوحيد اللّه ، والمعنى إذا جاءت مواضع التوحيد فرّ الكفار إنكاراً له واستبشاعاً لرفض آلهتهم واطّراحها .

وقال الزمخشري : وحد يحد وحدا وحدة نحو وعد يعد وعداً وعدة و { وَحْدَهُ } من باب رجع عوده على بدئه وافعله جهدك وطاقتك في أنه مصدر ساد مسدّ الحال ، أصله يحد وحده بمعنى واحداً انتهى . وما ذهب إليه من أن { وَحْدَهُ } مصدر ساد مسد الحال خلاف مذهب سيبويه و { وَحْدَهُ } عند سيبويه ليس مصدراً بل هو اسم وضع موضع المصدر الموضوع موضع الحال ، فوحده عنده موضوع موضع إيحاد ، وإيحاد موضوع موضع موحد . وذهب يونس إلى أن { وَحْدَهُ } منصوب على الظرف ، وذهب قوم إلى أنه مصدر لا فعل له ، وقوم إلى أنه مصدر لأوحد على حذف الزيادة ، وقوم إلى أنه مصدر لوحد كما ذهب إليه الزمخشري وحجج هذه الأقوال مذكورة في كتب النحو .

وإذا ذكرت { وَحْدَهُ } بعد فاعل ومفعول نحو ضربت زيداً فمذهب سيبويه أنه حال من الفاعل ، أي موحداً له بالضرب ، ومذهب المبرد أنه يجوز أن يكون حالاً من المفعول فعلى مذهب سيبويه يكون التقدير { وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ } موحداً له بالذكر وعلى مذهب أبي العباس يجوز أن يكون التقدير موحداً بالذكر .

و { نُفُورًا } حال جمع نافر كقاعد وقعود ، أو مصدر على غير المصدر لأن معنى { وَلَّوْاْ } نفروا ، والظاهر عود الضمير في { وَلَّوْاْ } على الكفار المتقدم ذكرهم . وقالت فرقة : هو ضمير الشياطين لأنهم يفرون من القرآن دل على ذلك المعنى وإن لم يجر لهم ذكر . وقال أبو الحوراء أوس بن عبد اللّه : ليس شيء أطرد للشيطان من القلب من لا إله إلاّ اللّه ثم تلا { وَإِذَا ذَكَرْتَ } الآية . وقال علي بن الحسين : هو البسملة

٤٧

نحن أعلم بما . . . . .

{نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ } أي بالاستخفاف الذي يستمعون به والهزء بك واللغو ، كان إذا قرأ صلى اللّه عليه وسلم قام رجلان من بني عبد اللّه عن يمينه ورجلان منهم عن يساره ، فيصفقون ويصفرون ويخلطون عليه بالأشعار . وبما متعلق بأعلم ، وما كان في معنى العلم والجهل وإن كان متعدياً لمفعول بنفسه فإنه إذا كان في باب أفعل في التعجب ، وفي أفعل التفضيل تعدى بالباء تقول : ما أعلم زيداً بكذا وما أجهله بكذا ، وهو أعلم بكذا وأجهل بكذا بخلاف سائر الأفعال المتعدية لمفعول بنفسه ، فإنه يتعدى في أفعل في التعجب وأفعل التفضيل باللام ، تقول : ما أضرب زيداً لعمرو وزيد أضرب لعمرو من بكر . وبه

قال الزمخشري في موضع الحال كما تقول : يستمعون بالهزء أي هازئين { وَإِذَا يَسْتَمِعُونَ } نصب بأعلم أي أعلم وقت استماعهم بما به يستمعون وبما به يتناجون ، إذ هم ذوو نجوى { إِذْ يَقُولُ } بدل من { إِذْ هُمْ } انتهى .

وقال الحوفي : لم يقل يستمعونه ولا يستمعونك لما كان الغرض ليس الإخبار عن الاستماع فقط ، وكان مضمناً أن الاستماع كان على طريق الهزء بأن يقولوا : مجنون أو مسحور ، جاء الاستماع بالباء وإلى ليعلم أن الاستماع ليس المراد به تفهم المسموع دون هذا المقصد { إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى } فإذا الأولى تتعلق بيستمعون به وكذا { وَإِذْ هُمْ نَجْوَى } لأن المعنى نحن أعلم بالذي يستمعون به إليك وإلى قراءتك وكلامك إنما يستمعون لسقطك وتتبع عيبك والتماس ما يطعنون به عليك ، يعني في زعمهم ولهذا ذكر تعديته بالباء وإلى انتهى . وقال أبو البقاء : يستمعون به . قيل : الباء بمعنى اللام ، لا وإذ ظرف ليستمعون الأولى ، والنجوى مصدر ، ويجوز أن يكون جمع نجى كقتيل وقتلى ، وإذ بدل من { إِذْ } الأولى .

وقيل : التقدير إذ كر إذ تقول . و

قال ابن عطية : الضمير في به عائد على ما هو بمعنى الذي ، والمراد الاستخفاف والإ عراض فكأنه قال : نحن أعلم بالاستخفاف والاستهزاء الذي يستمعون به أي هو ملازمهم ، ففضح اللّه بهذه الآية سرهم والعامل في { إِذْ } الأولى وفي المعطوف { يَسْتَمِعُونَ } الأولى انتهى . تناجوا فقال النضر : ما أفهم ما تقول ، وقال أبو سفيان : أرى بعضه حقاً ، وقال أبو جهل : مجنون ، وقال أبو لهب : كاهن ، وقال حويطب : شاعر ،

وقال بعضهم : أساطير الأولين ، وبعضهم إنما يعلمه بشر ، وروي أن تناجيهم كان عند عتبة دعا أشراف قريش إلى طعام فدخل عليهم النبيّ صلى اللّه عليه وسلم

وقرأ عليهم القرآن ودعاهم إلى اللّه . فتناجوا يقولون ساحر مجنون ، والظاهر أن { مَّسْحُورًا } من السحر أي خبل عقله السحر . وقال مجاهد :

مخدوعاً نحو { فَأَنَّى تُسْحَرُونَ } أي تخدعون . وقال أبو عبيدة :{ مَّسْحُورًا } معناه أن له سحراً أي رئة فهو لا يستغنى عن الطعام والشراب فهو مثلكم وليس بملك ، وتقول العرب للجبان : قد انتفخ سحره ولكل من أكل أو شرب من آدمي وغيره مسحور . قال : أرانا موضعين لأمر غيب

ونسحر بالطعام والشراب

أي نغذى ونعلل ونسحر . قال لبيد : فإن تسألينا فيم نحن فإننا

عصافير من هذا الأنام المسحر

قال ابن قتيبة : لا أدري ما الذي حمل أبا عبيدة على هذا التفسير المستكره مع أن السلف فسروه بالوجوه الواضحة . و

قال ابن عطية : الآية التي بعد هذا تقوي أن اللفظة من السحر بكسر السين لأن في قولهم ضرب مثل ،

وأما على أنها من السحر الذي هو الرئة ومن التغذي وأن تكون الإشارة إلى أنه بشر فلم يضرب له في ذلك مثل بل هي صفة حقيقة له ،

٤٨

انظر كيف ضربوا . . . . .

و { الاْمْثَالَ } تقدم ما قالوه في تناجيهم وكان ذلك منهم على جهة التسلية والتلبيس ، ثم رأى الوليد بن المغيرة أن أقر بها لتخييل الطارئين عليهم هو أنه ساحر فضلوا في جميع ذلك ضلال من يطلب فيه طريقاً يسلكه فلا يقدر عليه ، فهو متحير في أمره عليهم فلا يستطيعون سبيلاً إلى الهدى والنظر المؤدي إلى الإيمان ، أو سبيلاً إلى إفساد أمرك وإطفاء نور اللّه بضربهم الأمثال واتّباعهم كل حيلة في جهتك .

٤٩

وقالوا أئذا كنا . . . . .

وحكى الطبري أنها نزلت في الوليد بن المغيرة وأصحابه { وَقَالُواْ أَن كُنَّا } هذا استفهام تعجب وإنكار واستبعاد لما ضربوا له الأمثال وقالوا عنه إنه مسحور ذكروا ما استدلوا به على زعمهم على اتصافه بما نسبوا إليه ، واستبعدوا أنه بعدما يصير الإنسان رفاتاً يحييه اللّه ويعيده ، وقد رد عليهم ذلك بأنه تعالى هو الذي فطرهم بعد العدم الصرف على ما يأتي شرحه في الآية بعد هذا ، ومن قرأ من القراء إذاً وإنّا معاً أو إحداهما على صورة الخبر فلا يريد الخبر حقيقة لأن ذلك كان يكون تصديقاً بالبعث والنشأة الآخرة ، ولكنه حذف همزة الاستفهام لدلالة المعنى . وفي الكلام حذف تقديره إذا كنا تراباً وعظاماً نبعث أو نعاد ، وحذف لدلالة ما بعده عليه وهذا المحذوف هو جواب الشرط عند سيبويه ، والذي تعلق به الاستفهام وانصب عليه عند يونس وخلقاً حال وهو في الأصل مصدر أطلق على المفعول أي مخلوقاً . { سقط : قل كونوا حجارة أو حديدا ، أو خلقا ما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة فسينغضون إليك ويقولون متى قل هو عسى أن يكون قريبا}

٥٠

قل كونوا حجارة . . . . .

الحديد معروف . نغضت سنه : تحركت قال .

ونغضت من هرم أسنانها . تنغض وتنغض نغضاً ونغوضاً ، وأنغض رأسه حركه برفع وخفض . قال .

لما رأتني انغضت لي الرأسا

وقال الآخر : أنغض نحوي رأسه وأقنعا

كأنه يطلب شيئاً أطعما

وقال الفراء : أنغض رأسه حركه إلى فوق وإلى أسفل . وقال أبو الهيثم : إذا أخبر بشيء فحرك رأسه إنكاراً له فقد أنغض رأسه . وقال ذو الرمّة : ظعائن لم يسكنّ أكناف قرية

بسيف ولم ينغض بهن القناطر

حنك الدابة واحتنكها : جعل في حنكها الأسفل حبلاً يقودها به ، واحتنك الجراد الأرض أكلت نباتها . قال : نشكوا إليك سنة قد أجحفت

جهداً إلى جهد بنا فأضعفت

واحتنكت أموالنا وحنفت ، ومنه ما ذكر سيبويه من قولهم : أحنك الشاتين أي آكلهما . استفز الرجل : استخفه ، والفز الخفيف وأصله القطع ومنه تفزز الثوب انقطع ، واستفزني فلان خدعني حتى وقعت في أمر أراده .

وقيل لولد البقرة فز لخفته . قال الشاعر : كما استغاث بشيء فز غيطلة

خاف العيون فلم ينظرنه الحشك

الجلبة الصياح قاله أبو عبيدة والفراء . وقال أبو عبيدة : جلب وأجلب . وقال الزجاج : أجلب على العدوّ وجمع عليه الخيل . وقال ابن السكيت : جلب عليه أعان عليه . وقال ابن الأعرابي : أجلب على الرجل إذا توعده الشر ، وجمع عليه الجمع . الصوت معروف . الحاصب الريح ترمي بالحصباء قاله الفراء ، والحصب الرمي بالحصباء وهي الحجارة الصغار .

وقال الفرزدق : مستقبلين شمال الشام نضربهم

بحاصب كنديف القطن منثور

والحاصب العارض الرامي بالبرد والحجارة . تارة مرة وتجمع على تير وتارات . قال الشاعر : وإنسان عيني يحسر الماء تارة

فيبدوا وتارات يجم فيغرق

القاصف الذي يكسر كل ما يلقى ، ويقال قصف الشجر يقصفه قصفاً كسره . وقال أبو تمام : إن الرياح إذا ما أعصفت قصفت

عيدان نجد ولا يعبأن بالرتم

وقيل : القاصف الريح التي لها قصيف وهو الصوت الشديد كأنها تتقصف أي تتكسر .

{قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقًا مّمَّا يَكْبُرُ فِى صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِى فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً}

قال الزمخشري : لما قالوا { أَءذَا كُنَّا عِظَاماً } قيل لهم { كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً } فردّ قوله { كُونُواْ } على قولهم { كُنَّا } كأنه قيل { كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً } ولا تكونوا عظاماً فإنه يقدر على إحيائكم . والمعنى أنكم تستبعدون أن يجدد اللّه خلقكم ويرده إلى حال الحياة وإلى رطوبة الحي وغضاضته بعدما كنتم عظاماً يابسة ، مع أن العظام بعض أجزاء الحي بل هي عمود خلقه الذي يبنى عليه سائره ، فليس ببدع أن يردها اللّه بقدرته إلى حالتها الأولى ، ولكن لو كنتم أبعد شيء من الحياة ورطوبة الحي ومن جنس ما ركب به البشر ، وهو أن تكونوا { حِجَارَةً } يابسة {أَوْ حَدِيداً } مع أن طباعها القساوة والصلابة لكان قادراً على أن يردكم إلى حال الحياة {أَوْ خَلْقًا مّمَّا يَكْبُرُ } عندكم عن قبول الحياة ، ويعظم في زعمكم على الخالق احياؤه فإنه يحييه .

و

قال ابن عطية : كونوا إن استطعتم هذه الأشياء الصعبة الممتنعة التأتي لا بد من بعثكم . وقوله { كُونُواْ } هو الذي يسميه المتكلمون التعجيز من أنواع أفعل ، وبهذه الآية مثل بعضهم وفي هذا عندي نظر وإنما التعجيز حيث يقتضي بالأمر فعل ما لا يقدر عليه المخاطب كقوله تعالى :{ فَادْرَءوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ } ونحوه .

وأما هذه الآية فمعناها كونوا بالتوهم والتقدير كذا وكذا { الَّذِى فَطَرَكُمْ } كذلك هو يعيدكم انتهى . وقال مجاهد : المعنى { كُونُواْ } ما شئتم فستعادون . وقال النحاس : هذا قول حسن لأنهم لا يستطيعون أن يكونوا حجارة وإنما المعنى أنهم قد أقروا بخالقهم وأنكروا البعث فقيل لهم استشعروا أن تكونوا ما شئتم ، فلو كنتم { حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً } لبعثتم كما خلقتم أول مرة انتهى .

٥١

أو خلقا مما . . . . .

{أَوْ خَلْقًا مّمَّا يَكْبُرُ فِى صُدُورِكُمْ } صلابته وزيادته على قوة الحديد وصلابته ، ولم يعينه ترك ذلك إلى أفكارهم

وجولانها فيما هو أصلب من الحديد ، فبدأ أولاً بالصلب ثم ذكر على سبيل الترقي الأصلب منه ثم الأصلب من الحديد ، أي افرضوا ذواتكم شيئاً من هذه فإنه لا بد لكم من البعث على أي حال كنتم . وقال ابن عمر وابن عباس وعبد اللّه بن عمر والحسن وابن جبير والضحاك الذي يكبر الموت ، أي لو كنتم الموت لأماتكم ثم أحياكم . وهذا التفسير لا يتم إلاّ إذا أريد المبالغة لا نفس الأمر ، لأن البدن جسم والموت عرض ولا ينقلب الجسم عرضاً ولو فرض انقلابه عرضاً لم يكن ليقبل الحياة لأجل الضدية . وقال مجاهد : الذي يكبر السموات والأرض والجبال ولما ذكر أنهم لو كانوا أصلب شيء وأبعده من حلول الحياة به كان خلق الحياة فيه ممكناً . قالوا : من الذي هو قادر على صيرورة الحياة فينا وإعادتنا فنبههم على ما يقتضي الإعادة ، وهو أن الذي أنشأكم واخترعكم أول مرة هو الذي يعيدكم و { الَّذِى } مبتدأ وخبره محذوف التقدير { الَّذِى فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } يعيدكم فيطابق الجواب السؤال ، ويجوز أن يكون فاعلاً أي يعيدكم الذي فطركم ، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ ، أي معيدكم الذي فطركم و { أَوَّلَ مَرَّةٍ } ظرف العامل فيه { فَطَرَكُمْ } قاله الحوفي .

{فَسَيُنْغِضُونَ } أي يحركونها على سبيل التكذيب والاستبعاد ، ويقولون : متى هو ؟ أي متى العود ؟ ولم يقولوا ذلك على سبيل التسليم للعود . ولكن حيدة وانتقالاً لما لا يسأل عنه لأن ما يثبت إمكانه بالدليل العقلي لا يسأل عن تعيين وقوعه ، ولكن أجابهم عن سؤالهم بقرب وقوعه لا بتعيين زمانه لأن ذلك مما استأثر اللّه تعالى بعلمه ، واحتمل أن يكون في { عَسَى } إضمار أي { عَسَى } هو أي العود ، واحتمل أن يكون مرفوعها { أَن يَكُونَ } فتكون تامة . و { قَرِيبًا } يحتمل أن يكون خبر كان على أنه يكون العود متصفاً بالقرب ، ويحتمل أن يكون ظرفاً أي زماناً قريباً وعلى هذا التقدير يوم ندعوكم بدلاً من قريباً .

وقال أبو البقاء :{ يَوْمَ يَدْعُوكُمْ } ظرف ليكون ، ولا يجوز أن يكون ظرفاً لاسم كان وإن كان ضمير المصدر لأن الضمير لا يعمل انتهى . أما كونه ظرفاً ليكون فهذا مبنيّ على جواز عمل كان الناقصة في الظرف وفيه خلاف .

وأما قوله لأن الضمير لا يعمل فهو مذهب البصريين ،

وأما الكوفيون فيجيزون أن يعمل نحو مروري بزيد حسن وهو بعمرو وقبيح ، يعلقون بعمرو بلفظ هو أي ومروري بعمرو قبيح .

٥٢

يوم يدعوكم فتستجيبون . . . . .

والظاهر أن الدعاء حقيقة أي { يَدْعُوكُمْ } بالنداء الذي يسمعكم وهو النفخة الأخيرة كما قال { يَوْمٍ يُنَادِى وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ } الآية

ويقال : إن إسرافيل عليه السلام ينادي أيتها الأجسام البالية والعظام النخرة والأجزاء المتفرقة عودي كما كنت . وروي في الحديث أنه قال صلى اللّه عليه وسلم : { إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم ، فأحسنوا أسماءكم} . ومعنى { فَتَسْتَجِيبُونَ } توافقون الداعي فيما دعاكم إليه .

وقال الزمخشري : الدعاء والاستجابة كلاهما مجاز ، والمعنى يوم يبعثكم فتنبعثون مطاوعين منقادين لا تمتنعون انتهى . والظاهر أن الخطاب للكفار إذ الكلام قبل ذلك معهم فالضمير لهم و { بِحَمْدِهِ } حال منهم .

قال الزمخشري : وهي مبالغة في انقيادهم للبعث كقولك لمن تأمره بركوب ما يشق عليه فيتأبى ويمتنع ستركبه وأنت حامد شاكر ، يعني أنك تحمل عليه وتقسر قسراً حتى أنك تلين لين المسمح الراغب فيه الحامد عليه . وعن سعيد بن جبير ينفضون التراب عن رؤوسهم ويقولون : سبحانك اللّهم وبحمدك انتهى . وذلك لما ظهر لهم من قدرته

وقيل : معنى { بِحَمْدِهِ } أن الرسول قائل ذلك لا أنهم يكون بحمده حالاً منهم فكأنه قال : عسى أن تكون الساعة قريبة يوم يدعوكم فتقومون بخلاف ما تعتقدون الآن ، وذلك بحمد اللّه على صدق خبري كما تقول لرجل خصمته أو حاورته في علم : قد أخطأت بحمد اللّه فبحمد اللّه ليس حالاً من فاعل أخطأت ، بل المعنى أخطأت والحمد للّه . وهذا معنى متكلف نحا إليه الطبري وكان { بِحَمْدِهِ } يكون اعتراضاً إذ معناه والحمد للّه . ونظيره قول الشاعر : فإني بحمد اللّه لا ثوب فاجر

لبست ولا من غدرة أتقنع أي فأني والحمد للّه فهذا اعتراض بين اسم إن وخبرها ، كما أن { بِحَمْدِهِ } اعتراض بين المتعاطفين ووقع في لفظ ابن عطية حين قرر هذا المعنى قوله : عسى أن الساعة قريبة وهو تركيب لا يجوز ، لا تقول عسى أن زيداً قائم بخلاف عسى أن يقوم زيد ، وعلى أن يكون { بِحَمْدِهِ } حالاً من ضمير { فَتَسْتَجِيبُونَ}

قال المفسرون : حمدوا حين لا ينفعهم الحمد . وقال قتادة : معناه بمعرفته وطاعته { وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً} قال ابن عباس : بين النفختين الأولى والثانية فإنه يزال عنهم العذاب في ذلك الوقت ، ويدل عليه من بعثنا من مرقدنا هذا فهذا عائد إلى { لبثهم } فيما بين النفختين . وقال الحسن : تقريب وقت البعث فكأنك بالدنيا ولم تكن وبالآخرة لم تزل فهذا يرجع إلى استقلال مدة اللبث في الدنيا .

وقال الزمخشري :{ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ } وترون الهول فعنده تستقصرون مدة لبثكم في الدنيا وتحسبونها يوماً أو بعض يوم ، وعن قتادة تحاقرت الدنيا في أنفسهم حين عاينوا الآخرة انتهى .

وقيل : استقلوا لبثهم في عرصة القيامة لأنه لما كانت عاقبة أمرهم الدخول إلى النار استقصروا مدة لبثهم في برزخ القيامة .

وقيل : تم الكلام عند قوله { قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا}

و { يَوْمَ يَدْعُوكُمْ } خطاب مع المؤمنين لا مع الكافرين لأنهم يستجيبون للّه { بِحَمْدِهِ } يحمدونه على إحسانه إليهم فلا يليق هذا إلاّ بهم .

وقيل : يحمده المؤمن اختياراً والكافر اضطراراً ، وهذا يدل على أن الخطاب للكافر والمؤمن وهو الذي يدل عليه ما روي عن ابن جبير ، وإذا كان الخطاب للكفار وهو الظاهر فيحمل أن يكون الظن على بابه فيكون لما رجعوا إلى حالة الحياة وقع لهم الظن أنهم لم ينفصلوا عن الدنيا إلاّ في زمانا قليل إذ كانوا في ظنهم نائمين ، ويحتمل أن يكون بمعنى اليقين من حيث علموا أن ذلك منقض متصرم . والظاهر أن { وَتَظُنُّونَ } معطوف على تستجيبون وقاله الحوفي . وقال أبو البقاء : أي وأنتم { تظنون } والجملة حال انتهى . وأن هنا نافية ، { بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ } معلق عن العمل فالجملة بعده في موضع نصب ، وقلما ذكر النحويون في أدوات التعليق أن النافية ، ويظهر أن انتصاب قليلاً على أنه نعت لزمان محذوف أي إلاّ زمن قليلاً . كقوله { قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } ويجوز أن يكون نعتاً لمصدر محذوف أي لبثاً قليلاً ودلالة الفعل على مصدره دلالة قوية .

٥٣

وقل لعبادي يقولوا . . . . .

قيل : سبب نزولها أن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه شتمه بعض الكفرة ، فسبه عمر وهم بقتله فكاد يثير فتنة فنزلت الآية وهي منسوخة بآية السيف ، وارتباطها بما قبلها أنه لما تقدم ما نسب الكفار للّه تعالى من الولد ، ونفورهم عن كتاب اللّه إذا سمعوه ، وإيذاء الرسول صلى اللّه عليه وسلم ونسبته إلى أنه مسحور ، وإنكار البعث كان ذلك مدعاة لإيذاء المؤمنين ومجلبة لبغض المؤمنين إياهم ومعاملتهم بما عاملوهم ، فأمر اللّه تعالى نبيه أن يوصي المؤمنين بالرفق بالكفار واللطف بهم في القول ، وأن لا يعاملوهم ، فأمر اللّه تعالى نبيه أن يوصي المؤمنين بالرفق بالكفار واللطف بهم في القول ، وأن لا يعاملوهم بمثل أفعالهم وأقوالهم ، فعلى هذا يكون المعنى { قُل لّعِبَادِىَ } المؤمنين { يَقُولُواْ } للمشركين الكلم { الَّتِى هِىَ أَحْسَنُ}

وقيل : المعنى { يَقُولُواْ } أي يقول بعض المؤمنين لبعض الكلم التي هي أحسن أي يجل بعضهم بعضاً ويعظمه ، ولا يصدر منه إلاَّ الكلام الطيب والقول الجميل ، فلا يكونوا مثل المشركين في معاملة بعضهم بعضاً بالتهاجي والسباب والحروب والنهب للأموال والسبي للنساء والذراري .

وقيل : عبادي هنا المشركون إذ المقصود هنا الدعاء إلى الإسلام ، فخوطبوا بالخطاب الحسن ليكون ذلك سبباً إلى قبول الدين فكأنه قيل : قل للذين أقروا أنهم عباد لي يقولوا { الَّتِى هِىَ أَحْسَنُ } وهو توحيد اللّه تعالى وتنزيهه عن الولد واتخاذ الملائكة بنات فإن ذلك من نزغ الشيطان وسوسته وتحسينه .

وقيل : عبادي شامل للفريقين المؤمنين والكافرين على ما يأتي تفسير { الَّتِى هِىَ أَحْسَنُ } والذي يظهر أن لفظة عبادي مضافة إليه تعالى كثر استعمالها في المؤمنين في القرآن كقوله { فَبَشّرْ عِبَادِى الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ }{ فَادْخُلِى فِى عِبَادِى عَيْناً }{ يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللّه}

و { قُلْ } خطاب للرسول صلى اللّه عليه وسلم ، وهو أمر ، ومعمول القول محذوف تقديره قولوا { الَّتِى هِىَ أَحْسَنُ } وانجزم { يَقُولُواْ } على أنه جواب للأمر الذي هو قل قاله الأخفش ، وهو صحيح المعنى على تقدير أن يكون عبادي يراد به المؤمنون لأنهم لمسارعتهم لامتثال أمر اللّه تعالى بنفس ما يقول لهم ذلك قالوا { الَّتِى هِىَ أَحْسَنُ} وعن سيبويه إنه انجزم على جواب لشرط محذوف ، أي إن يقل لهم { يَقُولُواْ } فيكون في قوله حذف معمول القول وحذف الشرط الذي { يَقُولُواْ } جوابه . وقال المبرد : انجزم جواباً للأمر الذي هو معمول { قُلْ } أي قولوا { الَّتِى هِىَ أَحْسَنُ }{ يَقُولُواْ}

وقيل معمول { قُلْ } مذكور لا محذوف وهو { يَقُولُواْ } على تقدير لام الأمر وهو مجزوم بها قاله الزجاج .

وقيل :{ يَقُولُواْ } مبني وهو مضارع حل محل المبني الذي هو فعل الأمر فبني ، والمعنى { قُل لّعِبَادِىَ } قولوا قاله المازني ، وهذه الأقوال جرت في قوله { قُل لّعِبَادِىَ الَّذِينَ ءامَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ } وترجيح ما ينبغي أن يرجح مذكور

في علم النحو .

و { الَّتِى هِىَ أَحْسَنُ } قالت فرقة منهم ابن عباس هي قول لا إله إلاّ اللّه .

قال ابن عطية : ويلزم على هذا أن يكون قوله { لّعِبَادِىَ } يريد به جميع الخلق لأن جميعهم مدعو إلى لا إله إلاّ اللّه . ويجيء قوله بعد ذلك { إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزِعُ بَيْنَهُمْ } غير مناسب للمعنى إلاّ على تكبره بأن يجعل بينهم بمعنى خلالهم وأثناءهم ويجعل النزغ بمعنى الوسوسة والإملال . وقال الحسن يرحمك اللّه يغفر اللّه لك ، وعنه أيضاً الأمر بامتثال الأوامر واجتناب المناهي .

وقيل القول للمؤمن يرحمك اللّه وللكافر هداك اللّه . وقال الجمهور : وهي المحاورة الحسنى بحسب معنى معنى .

وقال الزمخشري : فسر { الَّتِى هِىَ أَحْسَنُ } بقوله :{ رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذّبْكُمْ } يعني يقول لهم هذه الكلمة ونحوها ولا تقولوا لهم أنكم من أهل النار وأنكم معذبون وما أشبه ذلك مما يغيظهم ويهيجهم على الشر . وقوله :{ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ } اعتراض بمعنى يلقي بينهم الفساد ويغري بعضهم على بعض ليقع بينهم المشارة والمشاقة .

وقال أبو عبد اللّه الرازي ما ملخصه : إذا أردتم الحجة على المخالف فاذكروها بالطريق الأحسن وهو أن لا يخلط بالسب كقوله { ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ }{ وَلاَ تُجَادِلُواْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ } وخلط الحجة بالسب سبب للمقابلة بمثله ، وتنفير عن حصول المقصود من إظهار الحجة وتأثيرها ، ثم نبه على هذا الطريق بقوله :{ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ } جامعاً للفريقين أي متى امتزجت الحجة بالإيذاء كانت الفتنة انتهى .

وقرأ طلحة { يَنزَغُ } بكسر الزاي . قال أبو حاتم : لعلها لغة والقراءة بالفتح . وقال صاحب اللوامح : هي لغة .

وقال الزمخشري : هما لغتان نحو يعرشون ويعرشون انتهى . ولو مثل بينطح وينطح كان أنسب وبين تعالى سبب النزغ وهي العداوة القائمة لأبيهم آدم قبلهم وقوله { ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ } الآية وغيرها من الآيات الدالة على تسلطه على الإنسان وابتغاء الغوائل المهلكة له .

٥٤

ربكم أعلم بكم . . . . .

والخطاب بقوله { رَبُّكُمْ } إن كان للمؤمنين فالرحمة الإنجاء من كفار مكة وأذاهم والتعذيب تسليطهم عليهم .

{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ } أي على الكفار حافظاً وكفيلاً فاشتغل أنت بالدعوة وإنما هدايتهم إلى اللّه .

وقيل :{ يَرْحَمْكُمْ } بالهداية إلى التوفيق والأعمال الصالحة ، وإن شاء عذبكم بالخذلان وإن كان الخطاب للكفار فقال يقابل يرحمكم اللّه بالهداية إلى الإيمان ويعذبكم يميتكم على الكفر . وذكر أبو سليمان الدمشقي لما نزل القحط بالمشركين قالوا { رَّبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مْؤْمِنُونَ } فقال اللّه { رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ } بالذي يؤمن من الذي لا يؤمن { إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ } فيكشف القحط عنكم {أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذّبْكُمْ } فيتركه عليكم . و

قال ابن عطية : هذه الآية تقوي أن الآية التي قبلها هي ما بين العباد المؤمنين وكفار مكة ، وذلك أن قوله { رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ } مخاطبة لكفار مكة بدليل قوله { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً } فكأنه أمر المؤمنين أن لا يخاشنوا الكفار في الدين ثم قال إنه أعلم بهم ورجاهم وخوّفهم ، ومعنى { يَرْحَمْكُمْ } بالتوبة عليكم قاله ابن جريج وغيره انتهى . وتقدم من قول الزمخشري أن قوله { رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ } هي من قول المؤمنين للكفار وأنه تفسير لقوله { الَّتِى هِىَ أَحْسَنُ}

وقال ابن الأنباري :{أَوْ } دخلت هنا لسعة الأمرين عند اللّه ولا يراد عنهما ، فكانت ملحقة بأو المبيحة

في قولهم جالس الحسن أو ابن سيرين يعنون قد وسعنا لك الأمر . وقال الكرماني : {أَوْ } للإضراب ولهذا كرر { ءانٍ}

٥٥

وربك أعلم بمن . . . . .

ولما ذكر تعالى أنه أعلم بمن خاطبهم بقوله : { رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ } انتقل من الخصوص إلى العموم فقال مخاطباً لرسوله صلى اللّه عليه وسلم :{ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ } ليبين أن علمه غير مقصور عليكم بل علمه متعلق بجميع من في السموات والأرض ، بأحوالهم ومقاديرهم وما يستأهل كل واحد منهم ، و { بِمَنِ } متعلق بأعلم كما تعلق بكم قبله بأعلم ولا يدل تعلقه به على اختصاص أعلمته تعالى بما تعلق به كقولك : زيد أعلم بالنحو لا يدل هذا على أنه ليس أعلم بغير النحو من العلوم . وقال أبو عليّ : الباء تتعلق بفعل تقديره علم { بِمَنِ } قال لأنه لو علقها بأعلم لاقتضى أنه ليس بأعلم بغير ذلك وهذا لا يلزم ، وأيضاً فإن علم لا يتعدى بالباء إنما يتعدّى لواحد بنفسه لا بواسطة حرف الجر أو لا يبين على ما تقرر في علم النحو . ولما كان الكفار قد استبعدوا تنبئة البشر إذ فيه تفضيل الأنبياء على غيرهم أخبر تعالى بتفضيل الأنبياء على بعض إشارة إلى أنه لا يستبعد تفضيل الأنبياء على غيرهم إذ وقع التفضيل في هذا الجنس المفضل على الناس واللّه تعالى أعلم بما خص كل واحد من المزايا فهو يفضل من شاء منهم على من شاء إذ هو الحكيم فلا يصدر شيء إلاّ عن حكمته . وفيه إشارة إلى أنه لا يستنكر تفضيل محمد صلى اللّه عليه وسلم على سائر الأنبياء وخص { دَاوُودُ } بالذكر هنا لأنه تعالى ذكر في الزبور أن محمداً خاتم الأنبياء وأن أمته خير الأمم . وقال تعالى { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذّكْرِ أَنَّ الاْرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِىَ الصَّالِحُونَ } وهم محمد وأمته ، وكانت قريش ترجع إلى اليهود كثيراً فيما يخبرون به مما في كتبهم ، فنبه على أن زبور داود تضمن البشارة بمحمد صلى اللّه عليه وسلم. وفي ذلك إشارة رد على مكابري اليهود حيث قالوا : لا نبيّ بعد موسى ولا كتاب بعد التوراة ، ونص تعالى هنا على إيتاء داود الزبور وإن كان قد آتاه مع ذلك الملك إشارة إلى أن التفضيل المحض هو بالعلم الذي آتاه ، والكتاب الذي أنزل عليه كما فضل محمد صلى اللّه عليه وسلم بما آتاه من العلم والقرآن الذي خصه به . وتقدم تفسير { وَءاتَيْنَا دَاوُودُ زَبُوراً } في أواخر النساء وذكر الخلاف في ضم الزاي وفتحها .

وقال الزمخشري هنا :

فإن قلت : هلا عرّف الزبور كما عرف في { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى الزَّبُورِ }

قلت : يجوز أن يكون الزبور وزبور كالعباس وعباس والفضل وفضل ، وأن يريد { وَءاتَيْنَا دَاوُودُ } بعض الزبور وهي الكتب وأن يريد ما ذكر فيه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من الزبور ، فسُميِّ ذلك { زَبُوراً } لأنه بعض الزبور كما سُمي بعض القرآن قرآناً .

٥٦

قل ادعوا الذين . . . . .

قال ابن مسعود : نزلت في عبدة الشياطين وهم خزاعة أسلمت الشياطين وبقوا يعبدونهم .

وقال ابن عباس في عزير والمسيح وأمه ، وعنه أيضاً وعن ابن مسعود وابن زيد والحسن في عبدة الملائكة

وعن ابن عباس في عبدة الشمس والقمر والكواكب وعزير والمسيح وأمه انتهى . ويكون { الَّذِينَ زَعَمْتُم مّن دُونِهِ } عاماً غلب فيه من يعقل على ما لا يعقل ، والمعنى أدعوهم فلا يستطيعون أن يكشفوا عنكم . الضر من مرض أو فقر أو عذاب ولا أن يحوّلوه من واحد إلى آخر أو يبدلوه

وقرأ الجمهور : { يَدَّعُونَ } بياء الغيبة وابن مسعود وقتادة بتاء الخطاب ، وزيد بن عليّ بياء الغيبة مبنياً للمفعول ، والمعنى يدعونهم آلهة أو يدعونهم لكشف ما حل بكم من الضر كما حذف من قوله { قُلِ ادْعُواْ } أي ادعوهم لكشف الضر .

وفي قوله :{ زَعَمْتُمْ } ضمير محذوف عائد على { الَّذِينَ } وهو المفعول الأول والثاني محذوف تقديره زعمتموهم آلهة من دون اللّه ، و

٥٧

أولئك الذين يدعون . . . . .

{أُوْلَائِكَ } مبتدأ و { الَّذِينَ } صفته ، والخبر { يَبْتَغُونَ} و { الْوَسِيلَةَ } القرب إلى اللّه تعالى ، والظاهر أن { أُوْلَائِكَ } إشارة إلى المعبودين والواو في { يَدَّعُونَ } للعابدين ، والعائد على { الَّذِينَ } منصوب محذوف أي يدعونهم .

وقال ابن فورك : الإشارة بقوله بأولئك إلى النبيين الذين تقدّم ذكرهم ، والضمير المرفوع في { يَدَّعُونَ } و { يَبْتَغُونَ } عائد عليهم ، والمعنى يدعون الناس إلى دين اللّه ، والمعنى على هذا أن الذين عظمت منزلتهم وهم الأنبياء لا يعبدون إلاّ اللّه ولا يبتغون الوسيلة إلاّ إليه ، فهم أحق بالاقتداء بهم فلا يعبدوا غير اللّه .

وقرأ الجمهور :{ إِلَى رَبّهِمُ } بضمير الجمع الغائب .

وقرأ ابن مسعود إلى ربك بالكاف خطاباً للرسول ، واختلفوا في إعراب { أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } وتقديره . فقال الحوفي :{ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } ابتداء وخبر ، والمعنى ينظرون { أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } فيتوسلون به ويجوز أن يكون { أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } بدلاً من الواو في { يَبْتَغُونَ } انتهى . ففي الوجه الأول أضمر فعل التعليق ، و { أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } في موضع نصب على إسقاط حرف الجر لأن نظر إن كان بمعنى الفكر تعدّى بفي ، وإن كانت بصرية تعدّت بإلى ، فالجملة المعلق عنها الفعل على كلا التقديرين تكون في موضع نصب على إسقاط حرف الجر كقوله { فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا } وفي إضمار الفعل المعلق نظر ، والوجه الثاني قاله الزمخشري قال : وتكون أي موصولة ، أي يبتغى من هو أقرب منهم وأزلف الوسيلة إلى اللّه فكيف بغير الأقرب انتهى . فعلى الوجه يكون { أَقْرَبُ } خبر مبتدأ محذوف ، واحتمل { أَيُّهُم } أن يكون معرباً وهو الوجه ، وأن يكون مبنياً لوجود مسوغ البناء .

قال الزمخشري : أو ضمن { يَبْتَغُونَ }{ الْوَسِيلَةَ } معنى يحرصون فكأنه قيل يحرصون أيهم يكون أقرب إلى اللّه ، وذلك بالطاعة وازدياد الخير والصلاح ، فيكون قد ضمن { يَبْتَغُونَ } معنى فعل قلبي وهو يحرصون حتى يصح التعليق ، وتكون الجملة الابتدائية في موضع نصب على إسقاط حرف الجر لأن حرص يتعدى بعلى ، كقوله { إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ}

و

قال ابن عطية : و { أَيُّهُم } ابتدأ و { أَقْرَبُ } خبره ، والتقدير نظرهم وودكهم { أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } وهذا كما قال عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه : فبات الناس يدوكون أيهم يعطاها ، أي يتبارون في طلب القرب . فجعل المحذوف نظرهم وودكهم وهذا مبتدأ فإن جعلت { أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } في موضع نصب بنظرهم المحذوف بقي المبتدأ الذي هو نظرهم بغير خبر محتاج إلى إضمار الخبر ، وإن جعلت { أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } هو الخبر فلا يصح لأن نظرهم ليس هو { أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } وإن جعلت التقدير نظرهم في { أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } أي كائن أو حاصل فلا يصح ذلك لأن كائناً وحاصلاً ليس مما تعلق .

وقال أبو البقاء :{ أَيُّهُم } مبتدأ و { أَقْرَبُ } خبره ، وهو استفهام في موضع نصب بيدعون ، ويجوز أن يكون { أَيُّهُم } بمعنى الذي وهو بدل من الضمير في { يَدَّعُونَ } والتقدير الذي هو أقرب انتهى . ففي الوجه الأولى علق { يَدَّعُونَ } وهو ليس فعلاً قلبياً ، وفي الثاني فصل بين الصلة ومعمولها بالجملة الحالية ، ولا يضر ذلك لأنها معمولة للصلة { وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ } كغيرهم من عباد اللّه ، فكيف يزعمون أنهم آلهة { إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ كَانَ مَحْذُورًا } يحذره كل أحد .

و

٥٨

وإن من قرية . . . . .

{إِنَّ مِنْ قَرْيَةٌ }{ ءانٍ } نافية و { مِنْ } زائدة في المبتدأ تدل على استغراق الجنس ، والجملة بعد { إِلا } خبر المبتدأ .

وقيل : المراد الخصوص والتقدير وإن من قرية ظالمة . و

قال ابن عطية : ومن لبيان الجنس على قول من يثبت لها هذا المعنى هو أن يتقدم قبل ذلك ما يفهم منه إبهام ما فتأتي { مِنْ } لبيان ما

أريد بذلك الذي فيه إبهام ما . كقوله { مَّا يَفْتَحِ اللّه لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ } وهنا لم يتقدم شيء مبهم تكون من فيه بياناً له ، ولعل قوله لبيان الجنس من الناسخ ويكون هو قد قال لاستغراق الجنس ألا ترى أنه قال بعد ذلك .

وقيل : المراد الخصوص انتهى .

والظاهر أن جميع القرى تهلك قبل يوم القيامة وإهلاكها تخريبها وفناؤها ، ويتضمن تخريبها هلاك أهلها بالاستئصال أو شيئاً فشيئاً أو تعذب والمعنى هلاك أهلها بالقتل وأنواع العذاب .

وقيل : الهلاك للصالحة والعذاب للطالحة . وقال مقاتل : وجدت في كتب الضحاك بن مزاحم في تفسيرها : أما مكة فتخربها الحبشة ، وتهلك المدينة بالجوع ، والبصرة بالغرق ، والكوفة بالترك ، والجبال بالصواعق . والرواجف ،

وأما خراسان فعذابها ضروب ثم ذكرها بلداً بلداً ونحو ذلك عن وهب بن منبه فذكر فيه أن هلاك الأندلس وخرابها يكون بسنابك الخيل واختلاف الجيوش .{ كَانَ ذالِك فِى الْكِتَابِ مَسْطُورًا } أي في سابق القضاء أو في اللوح المحفوظ أي مكتوباً أسطاراً

٥٩

وما منعنا أن . . . . .

{وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ } بالآيات عن ابن عباس : أن أهل مكة سألوا أن يجعل لهم الصفا ذهباً وأن ينحي عنهم الجبال فيزرعون ، اقترحوا ذلك على الرسول صلى اللّه عليه وسلم فأوحى اللّه إليه إن شئت أن أفعل ذلك لهم فإن تأخروا عاجلتهم بالعقوبة ، وإن شئت استأنيت بهم عسى أن أجتبي منهم مؤمنين فقال : { بل تستأني بهم يا رب} . فنزلت ، واستعير المنع للترك أي ما تركنا إرسال الآيات المقترحة إلاّ لتكذيب الأولين بها ، وتكذيب الأولين ليس علة في إرسال الآيات لقريش ، فالمعنى إلاّ اتباعهم طريقة تكذيب الأولين بها ، فتكذيب الأولين فاعل على حذف المضاف فإذا كذبوا بها كما كذب الأولون عاجلتهم بعذاب الاستئصال وقد اقتضت الحكمة أن لا أستأصلهم .

وقال الزمخشري : فالمعنى وما صرفنا عن إرسال ما تقترحونه من الآيات إلاّ أن كذب بها الذين هم أمثالهم من المطبوع على قلوبهم كعاد وثمود ، وإنها لو أرسلت لكذبوا بها تكذيب أولئك وقالوا هذا سحر مبين كما يقولون في غيرها ، واستوجبوا العذاب المستأصل وقد عزمنا أن نؤخر أمر من بعثت إليهم إلى يوم القيامة ، ثم ذكر من تلك الآيات التي اقترحها الأولون ثم كذبوا بها لما أرسلت إليهم فأهلكوا واحدة وهي ناقة صالح لأن آثار هلاكهم في بلاد العرب قريبة من حدودهم يبصرها صادرهم وواردهم انتهى .

وقرأ الجمهور { ثَمُودُ } ممنوع الصرف . وقال هارون : أهل الكوفة ينونون { ثَمُودُ } في كل وجه . وقال أبو حاتم : لا تنون العامة والعلماء بالقرآن { ثَمُودُ } في وجه من الوجوه ، وفي أربعة مواطن ألف مكتوبة ونحن نقرأها بغير ألف انتهى . وانتصب { مُبْصِرَةً } على الحال وهي قراءة الجمهور .

وقرأ زيد بن عليّ{ مُبْصِرَةً } بالرفع على إضمار مبتدأ أي هي مبصرة ، وأضاف الإبصار إليها على سبيل المجاز لما كانت يبصرها الناس ، والتقدير آية مبصرة .

وقرأ قوم : بفتح الصاد اسم مفعول أي يبصرها الناس ويشاهدونها .

وقرأ قتادة بفتح الميم والصاد مفعلة من البصر أي محل إبصار كقوله .

والكفر مخبثة لنفس النعم

أجراها مجرى صفات الأمكنة نحو أرض مسبعة ومكان مضبة ، وقالوا : الولد مبخلة مجبنة { فَظَلَمُواْ بِهَا } أي بعقرها

بعد قوله { فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِى أَرْضِ اللّه } الآية .

وقيل : المعنى أنهم حجدوا كونها من عند اللّه .

وقيل : جعلوا التكذيب بها موضع التصديق وهو معنى القول قبله ، والظاهر أن الآيات الأخيرة غير الآيات الأولى ، لوحظ في ذلك وصف الاقتراح وفي هذه وصف غير المقترحة وهي آيات معها إمهال لا معاجلة كالكسوف والرعد والزلزلة . وقال الحسن : والموت الذريع ، وفي حديث الكسوف : { فافزعوا إلى الصلاة} .

قال ابن عطية : وآيات اللّه المعتبر بها ثلاثة أقسام قسم عام في كل شيء إذ حيثما وضعت نظرك وجدت آية . وهنا فكرة العلماء ، وقسم معتاد كالرعد والكسوف ونحوه وهنا فكرة الجهلة فقط ، وقسم خارق للعادة وقد انقضى بانقضاء النبوة وإنما يعتبر توهماً لما سلف منه انتهى . وهذا القسم الأخير قال فيه وقد انقضى بانقضاء النبوة وكثير من الناس يثبت هذا القسم لغير الأنبياء ويسميه كرامة .

وقال الزمخشري : إن أراد بالآيات المقترحة فالمعنى لا نرسلها { إِلا } من نزول العذاب العاجل كالطليعة والمقدمة له ، فإن لم يخافوا وقع عليهم ، وإن أراد غيرها فالمعنى { الظَّالِمُونَ وَمَا نُرْسِلُ } ما نرسل من الآيات كآيات القرآن وغيرها { إِلاَّ تَخْوِيفًا } وإنذاراً بعذاب الآخرة .

وقيل : الآيات التي جعلها اللّه تخويفاً لعباده سماوية كسوف الشمس ، وخسوف القمر ، والرعد ، والبرق ، والصواعق ، والرجوم وما يجري مجرى ذلك . وأرضية زلازل ، وخسف ، ومحول ونيران تظهر في بعض البلاد ، وغور ماء العيون وزيادتها على الحد حتى تغرق بعض الأرضين ، ولا سماوية ولا أرضية الرياح العواصف وما يحدث عنها من قلع الأشجار وتدمير الديار وما تسوقه من السواقي والرياح السموم .

٦٠

وإذ قلنا لك . . . . .

{وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّءيَا الَّتِى أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِى القُرْءانِ}

لما طلبوا الرسول بالآيات المقترحة وأخبر اللّه بالمصلحة في عدم المجيء بها طعن الكفار فيه ، وقالوا : لو كان رسولاً حقاً لأتى بالآيات المقترحة فبين اللّه أنه ينصره ويؤيده وأنه { أَحَاطَ بِالنَّاسِ} فقيل بعلمه فلا يخرج شيء عن علمه .

وقيل : بقدرته فقدرته غالبة كل شيء .

وقيل : الإحاطة هنا الإهلاك كقوله { وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ } والظاهر أن الناس عام .

وقيل : أهل مكة بشره اللّه تعالى أنه يغلبهم ويظهر عليهم ، و { أَحَاطَ } بمعنى يحيط عبر عن المستقبل بالماضي لأنه واقع لا محالة ، والوقت الذي وقعت فيه الإحاطة بهم . قيل يوم بدر . وقال العسكري : هذا خبر غيب قدمه قبل وقته ، ويجوز أن يكون ذلك في أمر الخندق ومجيء الأحزاب يطلبون ثارهم ببدر فصرفهم اللّه بغيظهم لم ينالوا خيراً .

وقيل : يوم بدر ويوم الفتح .

وقيل : الأشبه أنه يوم الفتح فإنه اليوم الذي أحاط أمر اللّه بإهلاك أهل مكة فيه وأمكن منهم . وقال الطبري :{ أَحَاطَ بِالنَّاسِ } في منعك يا محمد وحياطتك وحفظك ، فالآية إخبار له أنه محفوظ من الكفرة أمن أن يقتل وينال بمكروه عظيم ، أي فلتبلغ رسالة ربك ولا تتهيب أحداً من المخلوقين .

قال ابن عطية : وهذا تأويل بين جار مع اللفظ . وقد روي نحوه عن الحسن والسدّي إلاّ أنه لا يناسب ما بعده مناسبة شديدة ، ويحتمل أن يجعل الكلام مناسباً لما بعده توطئة له .

فأقول : اختلف الناس في { الرُّءيَا} فقال الجمهور هي رؤيا عين ويقظة وهي ما رأى في ليلة الإسراء من العجائب قال الكفار : إن هذا لعجب نخبّ إلى بيت المقدس شهرين إقبالاً وإدباراً ويقول محمد جاءه من ليلته وانصرف منه ، فافتتن بهذا التلبيس قوم من ضعفاء المسلمين فارتدوا وشق ذلك على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فنزلت هذه الآية ، فعلى هذا يحسن أن يكون معنى قوله { وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ } أي في إضلالهم وهدايتهم ، وأن كل واحد ميسر لما خلق له أي فلا تهتم أنت بكفر من كفر ولا تحزن عليهم فقد قيل لك إن اللّه محيط بهم مالك لأمرهم وهو جعل رؤياك هذه فتنة ليكفر من سبق عليه الكفر ، وسميت الرؤية في هذا التأويل رؤياً إذ هما مصدران من رأى . وقال النقاش : جاء ذلك من اعتقاد من اعتقد أنها منامية وإن كانت الحقيقة غير ذلك انتهى .

وعن ابن عباس والحسن ومجاهد وغيرهم : هو قصة الإسراء والمعراج عياناً آمن به الموفقون وكفر به المخذولون ، وسماه رؤيا لوقوعه في الليل وسرعة تقضيه كأنه منام .

وعن ابن عباس أيضاً هو رؤياه أنه يدخل مكة فعجل في

سنته الحديبية ورد فافتتن الناس ، وهذا مناسب لصدر الآية فإن الإحاطة بمكة أكثر ما كانت . وعن سهل بن سعد : هي رؤياه بني أمية ينزون على منبره نزو القردة فاهتم لذلك وما استجمع ضاحكاً من يومئذ حتى مات ، فنزلت الآية مخبرة أن ذلك ملكهم وصعودهم المنابر إنما يجعلها اللّه فتنة للناس . ويجيء قوله { أَحَاطَ بِالنَّاسِ } أي بأقداره وإن كان ما قدّره اللّه فلا تهتم بما يكون بعدك من ذلك .

وقال الحسن بن عليّ في خطبته في شأن بيعته لمعاوية : وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين . وقالت عائشة :{ الرُّءيَا } رؤيا منام .

قال ابن عطية : وهذه الآية تقضي بفساده ، وذلك أن رؤيا المنام لا فتنة فيها وما كان أحد لينكرها انتهى . ولبس كما

قال ابن عطية : فإن رؤيا الأنبياء حق ويخبر النبيّ بوقوع ذلك لا محالة فيصير إخباره بذلك فتنة لمن يريد اللّه به ذلك . وقال صاحب التحرير : سألت أبا العباس القرطبي عن هذه الآية فقال : ذهب المفسرون فيها إلى أمر غير ملائم في سياق أول الآية ، والصحيح أنها رؤية عين يقظة لما آتاه بدراً أراه جبريل عليه السلام مصارع القوم فأراها الناس ، وكانت فتنة لقريش فإنهم لما سمعوا أخذوا في الهزء والسخرية بالرسول صلى اللّه عليه وسلم.{ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ } هنا هي أبو جهل انتهى .

وقال الزمخشري : ولعل اللّه تعالى أراه مصارعهم في منامه فقد كان يقول حين ورد ماء بدر : { واللّه لكأني أنظر إلى مصارع القوم } وهو يرمىء إلى الأرض ويقول :  { هذا مصرع فلان هذا مصرع فلان} . فتسامعت قريش بما أُوحي إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من أمر بدر وما أُرِي في منامه من مصارعهم ، فكانوا يضحكون ويستسخرون به استهزاء .

وقيل : رأى في المنام أن ولد الحكم يتداولون منبره كما يتداول الصبيان الكرة انتهى . والظاهر أنه أريد بالشجرة حقيقتها . فقال ابن عباس : هي الكشوث المذكورة في قوله { كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الاْرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ } وعنه أيضاً : هي { الشَّجَرَةِ } التي تلتوي على الشجرة فتفسدها . قال : والفتنة قولهم ما بال الحشائش تذكر في القرآن . وقال الجمهور : هي شجرة الزقوم لما نزل أمرها في الصافات وغيرها . قال أبو جهل وغيره : هذا محمد يتوعدكم بنار تحرق الحجارة ثم يزعم أنها تنبت الشجر والنار تأكل الشجر وما نعرف الزقوم إلاّ التمر بالزيد ، ثم أمر أبو جهل جارية له فأحضرت تمراً وزبداً وقال لأصحابه : { تزقموا } فافتتن أيضاً بهذه المقالة بعض الضعفاء .

قال الزمخشري : وما أنكروا أن يجعل اللّه { الشَّجَرَةِ } من جنس لا تأكله النار ، فهذا وبر السمندل وهو دويبة ببلاد الترك يتخذ منها مناديل إذا اتسخت طرحت في النار فيذهب الوسخ وبقي المنديل سالماً لا تعمل فيه النار ، وترى النعامة تبتلع الجمر وقطع الحديد الحمر كالجمر بإحماء النار فلا يضرها ثم أقرب من ذلك أنه خلق في كل شجرة ناراً فلا تحرقها فما أنكروا أن يخلق في النار شجرة لا تحرقها . والمعنى أن الآيات إنما نرسل بها تخويفاً للعباد ، وهؤلاء قد خوفوا بعذاب الدنيا وهو القتل يوم بدر فما كان ما أريناك منه في منامك بعد الوحي إليك إلاّ فتنة لهم حيث اتخذوه سخرياً وخوفوا بعذاب الآخرة وبشجرة الزقوم فما أثر فيهم ثم قال { وَنُخَوّفُهُمْ } أي بمخاوف الدنيا والآخرة { فَمَا يَزِيدُهُمْ } التخويف { إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا } فكيف يخاف قوم هذه حالهم بإرسال ما يقترحون من الآيات انتهى . وقوله بعد الوحي إليك هو قوله { سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ } وقوله { قُلْ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ } والظاهر إسناد اللعنة إلى { الشَّجَرَةِ } واللعن الإبعاد من الرحمة وهي في أصل الجحيم في أبعد مكان من الرحمة .

وقيل تقول العرب لكل طعام مكروه ضار ملعون .

قال الزمخشري : وسألت بعضهم فقال : نعم الطعام الملعون القشب الممحون .

وقال ابن عباس :{ الْمَلْعُونَةَ } يريد آكلها ، ونمقه الزمخشري فقال : لعنت حيث لعن طاعموها من الكفرة والظلمة لأن الشجرة لا ذنب لها حتى تلعن على الحقيقة وإنما وصفت بلعن أصحابها على المجاز انتهى .

وقيل لما شبه طلعها برؤوس الشياطين ، والشيطان ملعون نسبت اللعنة إليها . وقال قوم { الشَّجَرَةِ } هنا مجاز عن واحد وهو أبو جهل .

وقيل هو الشيطان .

وقيل مجاز عن جماعة وهو اليهود الذين تظاهروا على

رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولعنهم اللّه تعالى وفتنتهم أنهم كانوا ينتظرون بعثه الرسول عليه السلام ، فلما بعثه اللّه كفروا به وقالوا : ليس هو الذي كنا ننتظره فثبطوا كثيراً من الناس بمقالتهم عن الإسلام .

وقيل بنو أمية حتى إن من المفسرين من لا يعبر عنهم إلاّ بالشجرة الملعونة لما صدر منهم من استباحة الدماء المعصومة وأخذ الأموال من غير حلها وتغيير قواعد الدين وتبديل الأحكام ، ولعنها في القرآن { أَلاَ لَعْنَةُ اللّه عَلَى الظَّالِمِينَ } إن الذين يؤذون اللّه ورسوله لعنهم اللّه في الدنيا والآخرة .

وقرأ الجمهور :{ الشَّجَرَةِ الْمَلْعُونَةَ } عطفاً على { الرُّءيَا } فهي مندرجة في الحصر ، أي { وَمَا جَعَلْنَا الرُّءيَا الَّتِى أَرَيْنَاكَ }{ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ } في القرآن { إِلاَّ فِتْنَةً لّلنَّاسِ}

وقرأ زيد بن عليّ برفع { وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ } على الابتداء ، والخبر محذوف تقديره كذلك أي فتنة ، والضمير في { وَنُخَوّفُهُمْ } لكفار مكة .

وقيل لملوك بني أمية بعد الخلافة التي قال النبيّ صلى اللّه عليه وسلم : { الخلافة بعدي ثلاثون ثم تكون ملكاً عضوضاً } والأول أصوب .

وقرأ الأعمش : ويخوفهم بياء الغيبة والجمهور بنون العظمة .

٦١

وإذ قلنا للملائكة . . . . .

مناسبة هذه الآية لما قبلها من وجهين . أحدهما أنه لما نازعوا الرسول علي السلام في النبوّة واقترحوا عليه الآيات كان ذلك لكبرهم وحسدهم للرسول صلى اللّه عليه وسلم على ما آتاه اللّه من النبوّة والدرجة الرفيعة ، فناسب ذكر قصة آدم عليه السلام وإبليس حيث حمله الكبر والحسد على الامتناع من السجود . والثاني أنه لما قال { فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا } بين ما سبب هذا الطغيان وهو قول إبليس { لاحْتَنِكَنَّ ذُرّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً } وانتصب { طِينًا } على الحال قاله الزجاج وتبعه الحوفي ، فقال : من الهاء في خلقته المحذوفة ، والعامل { خُلِقَتْ } والزمخشري فقال { طِينًا } أما من الموصول والعامل فيه { أَءسْجُدُ } على آسجد له وهو طين أي أصله طين ، أو من الراجع إليه من الصلة على آسجد لمن كان في وقت خلقه { طِينًا } انتهى . وهذا تفسير معنى . وقال أبو البقاء : والعامل فيه { خُلِقَتْ } يعني إذا كان حالاً من العائد المحذوف وأجاز الحوفي أن يكون نصباً على حذف من التقدير من طين كما صرح به في قوله { وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } وأجاز الزجّاج أيضاً وتبعه ابن عطية أن يكون تمييزاً ولا يظهر كونه تمييزاً وقوله { أَءسْجُدُ } استفهام إنكار وتعجب . وبين قوله { أَءسْجُدُ } وما قبله كلام محذوف ، وكأن تقديره قال : لم لم تسجد لأدم قال :{ أَءسْجُدُ}

٦٢

قال أرأيتك هذا . . . . .

وبين قوله { أَرَءيْتَكَ } للخطاب وتقدّم الكلام عليها في سورة الأنعام ولا يلحق كاف الخطاب هذه إلاّ إذا كانت بمعنى أخبرني ، وبهذا المعنى قدرها الحوفي وتبعة الزمخشري وهو قول سيبويه فيها والزجّاج .

قال الحوفي : و { أَرَءيْتَكَ } بمعنى عرفني وأخبرني ، وهذا منصوب بأرأيتك ، والمعنى أخبرني عن هذا الذي كرمته عليّ لم كرّمته عليّ وقد خلقتني من نار وخلقته من طين ، وحذف هذا لما في الكلام من الدليل عليه .

وقال الزمخشري : الكاف للخطاب و { هَاذَا } مفعول به ، والمعنى أخبرني عن هذا الذي كرمته عليّ أي فضلته لم كرمته عليّ وأنا خير منه ، فاختصر الكلام بحذف ذلك ثم ابتدأ فقال :{ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ} و

قال ابن عطية : والكاف في { أَرَءيْتَكَ } حرف خطاب ومبالغة في التنبيه لا موضع لها من الإعراب فهي زائدة ، ومعنى أرأيت أتأملت ونحوه كان المخاطب بها ينبه المخاطب ليستجمع لما ينصه عليه بعد . وقال سيبويه : هي بمعنى أخبرني ومثل بقوله { أَرَءيْتَكَ } زيداً أيؤمن هو . وقاله الزجاج ولم يمثل ، وقول سيبويه صحيح حيث يكون بعدها استفهام كمثاله ،

وأما في هذه الآية فهي كما قلت وليست التي ذكر سيبويه رحمه اللّه انتهى . وما ذهب إليه

الحوفي والزمخشري في { أَرَءيْتَكَ } هنا هو الصحيح ، ولذلك قدر الاستفهام وهو لم كرمته عليّ فقد انعقد من قوله { هَاذَا الَّذِى اللّه عَلَىَّ } لم كرمته عليّ جملة من مبتدأ وخبر ، وصار مثل : زيد أيؤمن هو دخلت عليه { أَرَءيْتَكَ } فعملت في الأول ، والجملة الاستفهامية في موضع الثاني والمستقر في أرأيت بمعنى أخبرني أن تدخل على جملة ابتدائية يكون الخبر استفهاماً ، فإن صرح به فذلك واضح وإلاّ قدر . وقد أشبعنا الكلام في الأنعام وفي شرح التسهيل .

وقال الفراء : هنا للكاف محمل من الإعراب وهو النصب أي أرأيت نفسك قال : وهذا كما تقول أتدبرت آخر أمرك . فإني صانع فيه كذا ، ثم ابتدأ { هَاذَا الَّذِى كَرَّمْتَ عَلَىَّ } انتهى . والرد عليه مذكور في علم النحو ، ولو ذهب ذاهب إلى أن هذا مفعول أول لقوله :{ أَرَءيْتَكَ } بمعنى أخبرني والثاني الجملة القسمية بعده لا نعقادهما مبتدأ وخبراً قبل دخول { أَرَءيْتَكَ } لذلك مذهباً حسناً ، إذ لا يكون في الكلام إضمار ، وتلخص من هذا كله الكاف إما في موضع نصب وهذا مبتدأ ،

وإما حرف خطاب وهذا مفعول بأرأيت بمعنى محذوف ، وهو الجملة الاستفهامية أو مذكور وهو الجملة القسمية ، ومعنى { لَئِنْ أَخَّرْتَنِ } أي أخرت مماتي وأبقيتني حياً .

وقال ابن عباس :{ لاحْتَنِكَنَّ } لأستولين عليهم وقاله الفراء . وقال ابن زيد لأضلنهم . وقال الطبري : لأستأصلن وكفر إبليس بجهله صفة العدل من اللّه حين لحقته الأنفة والكبر ، وظهر ذلك في قوله { قَالَ أَرَءيْتَكَ هَاذَا الَّذِى كَرَّمْتَ } إذ نص على أنه لا ينبغي أن يكرم بالسجود مني من أنا خير منه ، وأقسم إبليس على أنه يحتنك ذرية آدم وعلم ذلك إما بسماعه من الملائكة ، وقد أخبرهم اللّه به أو استدل على ذلك بقولهم :{ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء } أو نظر إليه فتوسم في مخايله أنه ذو شهوة وعوارض كالغضب ونحوه ، وأرى خلقته مجوفة مختلفة الأجزاء ، وقال الحسن : ظن ذلك لأنه وسوس إلى آدم فلم يجد له عز ما فظن ذلك بذريته وهذا ليس بظاهر لأن قول ذلك كان قبل وسوسته لآدم في أكل الشجرة ، واستثنى القليل لأنه علم أنه يكون في ذرية آدم من لا يتسلط عليه كما قال { لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}

٦٣

قال اذهب فمن . . . . .

والأمر بالذهاب ليس على حقيقته من نقيض المجيء ولكن المعنى اذهب لشأنك الذي اخترته ، وعقبه بذكر ما جرّه سوء فعله من جزائه وجزاء اتباعه جهنم ، ولما تقدم اسم غائب وضمير خطاب غلب الخطاب فقال : { جَزَاؤُكُمْ } ويجوز أن يكون ضمير من على سبيل الالتفات والموفور المكمل ووفر متعد كقوله : ومن يجعل المعروف من دون عرضه

يفره ومن لا يتق الشتم يشتم

ولازم تقول وفر المال يفر وفوراً ، وانتصب { جَزَاء } على المصدر والعامل فيه { جَزَاؤُكُمْ } أو يجاوز مضمره أو على الحال الموطئة .

وقيل : تمييز ولا يتعقل

٦٤

واستفزز من استطعت . . . . .

{وَاسْتَفْزِزْ } معطوف على فاذهب وعطف عليه ما بعده من الأمر وكلها بمعنى التهديد كقوله { اعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ } ومن في { مَنِ اسْتَطَعْتَ } موصولة مفعولة باستفزز . وقال أبو البقاء :{ مِمَّنْ اسْتَطَعْتَ } من استفهام في موضع نصب باستطعت ، وهذا ليس بظاهر لأن { استفزز } ومفعول { فَإِن اسْتَطَعْتَ } محذوف تقديره { مَنِ اسْتَطَعْتَ } أن تستفزه والصوت هنا الدعاء إلى معصية اللّه . وقال مجاهد : الغناء والمزامير واللّهو . وقال الضحاك : صوت المزمار وذكر الغزنوي أن آدم أسكن ولد هابيل أعلى الجبل وولد قابيل أسفله . وفيهم بنات حسان ، فزمر الشيطان فلم يتمالكوا أن انحدروا واقترنوا .

وقيل : الصوت هنا الوسوسة .

وقرأ الحسن { وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم } بوصل الألف وضم اللام من جلب ثلاثياً ، والظاهر أن إبليس له خيل ورجالة من الجن جنسه قاله قتادة ، والخيل تطلق على الأفراس حقيقة وعلى أصحابها مجازاً وهم الفرسان ، ومنه : يا خيل اللّه اركبي ، والباء في { بِخَيْلِكَ } قيل زائدة .

وقيل : من الآدميين

أضيفوا إليه لانخراطهم في طاعته وكونهم أعوانهم على غيرهم قاله مجاهد .

و

قال ابن عطية : وقوله { بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ}

وقيل : هذا مجاز واستعارة بمعنى اسع سعيك وابلغ جهدك انتهى . وقال أبو علي ليس للشيطان خيل ولا رجل ولا هو مأمور إنما هذا زجر واستخفاف به كما تقول لمن تهدده اذهب فاصنع ما شئت واستعن بما شئت .

وقال الزمخشري :

فإن قلت : ما معنى استفزاز إبليس بصوته وإجلابه بخيله ورجله ؟

قلت : هو كلام وارد مورد التمثيل مثلت حاله في تسلطه على من يغويه بمغوار أوقع على قم فصوت بهم صوتاً يستفزهم من أماكنهم ويقلقهم عن مراكزهم ، واجلب عليهم بجنده من خيالة ورجالة حتى استأصلهم انتهى .

وقرأ الجمهور :{ وَرَجِلِكَ } بفتح الراء وسكون الجيم وهو اسم جمع واحد راجل كركب وراكب ،

وقرأ الحسن وأبو عمرو في رواية وحفص بكسر الجيم . قال صاحب اللوامح بمعنى الرجال . وقال ابن عطية هي صفة يقال فلان يمشي رَجِلاً أي غير راكب ومنه قول الشاعر : رجلاً إلاّ بأصحاب

وقال الزمخشري : وقرىء { وَرَجِلِكَ } على أن فعلاً بمعنى فاعل نحو تعب وتاعب ، ومعناه وجمعك الرجل وتضم جيمه أيضاً فيكون مثل حدث وحدثُ وندس وندس وأخوات لهما انتهى .

وقرأ قتادة وعكرمة ورجالك . وقرىء : ورجل لك بضم الراء وتشديد الجيم والمشاركة في الأموال . قال الضحاك : ما يذبحون لآلهتهم وقتادة البحيرة والسائبة .

وقيل : ما أصيب من مال وحرام .

وقيل : ما جعلوه من أموالهم لغير اللّه .

وقيل : ما صرف في الزنا والأولى ما أخذ من غير حقه وما وضع في غير حقه والمشاركة في الأولاد . قال ابن عباس : تسميتهم عبد العزّى وعبد اللات وعبد الشمس وعبد الحارث ، وعنه أيضاً ترغيبهم في الأديان الباطلة كاليهودية والنصرانية . وعنه أيضاً إقدامهم على قتل الأولاد قال الحسن وقتادة . وما مجسّوه وهوّدوه ونصروه وصبغوهم غير صبغة الإسلام . وقال مجاهد : عدم التسمية عند الجماع فالجان ينطوي إذ ذاك على إحليله فيجامع معه .

وقيل ترغيبهم في القتال والقتل وحفظ الشعر المشتمل على الفحش ، والأولى أنه كل تصرّف في الولد يؤدي إلى ارتكاب منكر وقبيح ،

وأما وعده فهو الوعد الكاذب كوعدهم أن لا بعث وهذه مشاركة في النفوس .

وقال الزمخشري :{ وَعَدَّهُمْ } المواعيد الكاذبة من شفاعة الآلهة والكرامة على اللّه بالأنساب الشريفة ، وتسويف التوبة ومغفرة الذنوب بدونها ، والاتكال على الرحمة وشفاعة الرسول صلى اللّه عليه وسلم في الكبائر والخروج من النار بعد أن يصيروا حميماً ، وإيثار العاجل على الآجل انتهى . وهو جاء على مذهب المعتزلة في أنه لا تغفر الذنوب بدون التوبة ، وبأنه لا شفاعة في الكبائر ، وبأنه لا يخرج من النار أبداً من دخلها من فاسق مؤمن . وانتصب { غُرُوراً } وهو مصدر على أنه وصف لمصدر محذوف أي وعداً غروراً على الوجوه التي في رجل صوم ، ويحتمل أن يكون مفعولاً من أجله أي { وَمَا يَعِدُكُمُ } ويمنيكم ما لا يتم ولا يقع إلاّ لأن يغركم ،

٦٥

إن عبادي ليس . . . . .

والإضافة إليه تعالى في { إِنَّ عِبَادِى } إضافة تشريف ، والمعنى المختصين بكونهم { عِبَادِى } لا يضافون إلى غيري كما قال في مقابلهم أولياؤهم الطاغوت وأولياء الشيطان .

وقيل : ثم صفة محذوفة أي { إِنَّ عِبَادِى } الصالحين ، ونفى السلطان وهو الحجة والاقتدار على إغوائهم عن الإيمان ويدل على لحظ الصفة قوله { إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ} وقال الجبائي :{ عِبَادِى } عام في المكلفين ، ولذلك استثنى منه في أي من اتبعه في قوله { إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ } واستدل بهذا على أنه لا سبيل له ولا قدرة على تخليط العقل وإنما قدرته على الوسوسة ، ولو كان له قدرة على ذلك لخبط العلماء ليكون ضرره أتم ، ومعنى { وَكِيلاً } حافظاً لعباده الذين ليس له عليهم سلطان من إغواء الشيطان أو { وَكِيلاً } يكلون أمورهم إليه فهو حافظهم بتوكلهم عليه .

٦٦

ربكم الذي يزجي . . . . .

لما ذكر تعالى وصف المشركين في اعتقادهم آلهتهم وأنها تضر وتنفع ، وأتبع ذلك بقصة إبليس مع آدم ، وتمكينه من وسوسة ذريته وستويله ذكر ما يدل من أفعاله على وحدانيته ، وأنه هو النافع الضار المتصرف في خلقه بما يشاء ، فذكر إحسانه إليهم بحراً وبراً ، وأنه تعالى متمكن بقدرته مما يريده . وإزجاء الفلك سوقها من مكان إلى مكان بالريح اللينة والمجاديف ، وذلك من رحمته بعباده وابتغاء الفضل طلب التجارة أو الحج فيه أو الغزو .

٦٧

وإذا مسكم الضر . . . . .

والضر في البحر الخوف من الغرق باضطرابه وعصف الريح ، ومعنى { ضَلَّ } ذهب عن أوهامكم من تدعونه إلهاً فيشفع أو ينفع ، أو { ضَلَّ } من تعبدونه إلاّ اللّه وحده فتفردونه إذ ذاك بالالتجاء إليه والاعتقاد أنه لا يكشف الضر إلاّ هو ولا يرجون لكشف الضر غيره . ثم ذكر حالهم إذ كشف عنهم من إعراضهم عنه وكفرانهم نعمة إنجائهم من الغرق ، وجاءت صفة { كَفُورًا } دلالة على المبالغة ، ثم لم يخاطبهم بذلك بل أسند ذلك إلى الإنسان لطفاً بهم وإحالة على الجنس إذ كل أحد لا يكاد يؤدّي شكر نعم اللّه .

وقال الزجاج : المراد بالإنسان الكفار ، والظاهر أن { إِلاَّ إِيَّاهُ } استثناء منقطع لأنه لم يندرج من قوله { مَن تَدْعُونَ } إذ المعنى ضلت آلهتهم أي معبوداتهم وهم لا يعبدون اللّه .

وقيل : هو استثناء متصل وهذا على معنى ضل من يلجؤون إليه وهم كانوا يلجؤون في بعض أمورهم إلى معبوداتهم ، وفي هذه الحالة لا يلجؤون إلاّ إلى اللّه

٦٨

أفأمنتم أن يخسف . . . . .

والهمزة في { أَفَأَمِنتُمْ } للإنكار .

قال الزمخشري : والفاء للعطف على محذوف تقديره أنجوتم فأمنتم انتهى . وتقدم لنا الكلام معه في دعواه أن الفاء والواو في مثل هذا التركيب للعطف على محذوف بين الهمزة وحرف العطف ، وأن مذهب الجماعة أن لا محذوف هناك ، وأن الفاء والواو للعطف على ما قبلها وأنه اعتنى بهمزة الاستفهام لكونها لها صدر الكلام فقدمت والنية التأخير ، وأن التقدير فأمنتم . وقد رجع الزمخشري إلى مذهب الجماعة والخطاب للسابق ذكرهم أي { أَفَأَمِنتُمْ } أيها الناجون المعرضون عن صنع اللّه الذي نجاكم ، وانتصب { جَانِبٍ } على المفعول به بنخسف كقوله { فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الاْرْضَ } والمعنى أن تغيره بكم فتهلكون بذلك .

وقال الزمخشري : أن نقلبه وأنتم عليه .

وقال الحوفي :{ جَانِبَ الْبَرّ } منصوب على الظرف ، ولما كان الخسف تغييباً في التراب قال :{ جَانِبَ الْبَرّ } و { بِكُمْ } حال أي نخسف { جَانِبَ الْبَرّ } مصحوباً بكم .

وقيل : الباء للسبب أي بسببكم ، ويكون المعنى { جَانِبَ الْبَرّ } الذي أنتم فيه ، فيحصل بخسفه إهلاكهم وإلاّ فلا يلزم من خسف { جَانِبَ الْبَرّ } بسببهم إهلاكهم .

قال قتادة : الحاصب الحجارة . وقال السدّي : رام يرميكم بحجارة من سجيل ، والمعنى أن قدرته تعالى بالغة فإن كان نجاكم من الغرق وكفرتم نعمته فلا تأمنوا إهلاكه إياكم وأنتم في البر ، إما بأمر يكون من تحتكم وهو تغوير الأرض بكم ، أو من فوقكم بإرسال حاصب عليكم ، وهذه الغاية في تمكن القدرة ثم { لاَ تَجِدُواْ } عند حلول أحد هذين بكم من تكلون أموركم إليه فيتوكل في صرف ذلك عنكم .

٦٩

أم أمنتم أن . . . . .

و { أَمْ } في { أَمْ أَمِنتُمْ } منقطعة تقدر بيل ، والهمزة أي بل { أَمِنتُمْ } والضمير في { فِيهِ } عائد على البحر ، وانتصب تارة على الظرف أي وقتاً غير الوقت الأول ، والباء في { بِمَا كَفَرْتُمْ } سببية وما مصدرية ، أي بسبب كفركم السابق منكم ، والوقت الأول الذي نجاكم فيه أو بسبب كفركم الذي هو دأبكم دائماً . والضمير في { بِهِ } عائد على المصدر الدال عليه فنغرقكم ، إذ هو أقرب مذكور وهو نتيجة الإرسال .

وقيل عائد على الإرسال .

وقيل : عليهما فيكون كاسم الإشارة والمعنى بما وقع من الإرسال والإغراق . والتبيع قال ابن عباس : النصير ، وقال الفراء : طالب الثأر . وقال أبو عبيدة : المطالب . وقال الزجّاج : من يتبع بالإنكار ما نزل بكم ، ونظيره قوله تعالى { فَسَوَّاهَا وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا } وفي الحديث : { إذا اتّبع أحدكم على ملىء فليتبع} . وقال الشماخ : كما لاذ الغريم من التبيع

ويقال : فلان على فلان تبيع ، أي مسيطر بحقه مطالب به . وأنشد ابن عطية :

غدوا وغدت غزلانهم فأنها

ضوامن غرم لدهن تبيع

أي مطالب بحقه .

وقرأ ابن كثير وأبو عمر : ونخسف وأو نرسل وأن نعيدكم وفنرسل وفنغرقكم خمستها بالنون ، وباقي القراء بياء الغيبة ومجاهد وأبو جعفر فتغرقكم بناء الخطاب مسنداً إلى الريح والحسن وأبو رجاء { فَيُغْرِقَكُم } بياء الغيبة وفتح الغين وشد الراء ، عدّاه بالتضعيف ، والمقري لأبي جعفر كذلك إلاّ أنه بتاء الخطاب ، وحميد بالنون وإسكان الغين وإدغام القاف في الكاف ، ورويت عن أبي عمرو وابن محيصن .

وقرأ الجمهور :{ مّنَ الرّيحِ } بالإفراد وأبو جعفر من الرياح جمعاً .

٧٠

ولقد كرمنا بني . . . . .

لما ذكر تعالى ما امتّن به عليهم من إزجاء الفلك في البحر ومن تنجيتهم من الغرق ، تمم ذكر المنة بذكر تكرمتهم ورزقهم وتفضيلهم ، أو لما هددهم بما هدد من الخسف والغرق وأنهم كافرو نعمته ذكر ما أنعم به عليهم ليتذكروا فيشكروا نعمه ويقلعوا عن ما كانوا فيه من الكفر ويطيعوه تعالى ، وفي ذكر النعم وتعدادها هز لشكرها وكرم معدى بالتضعيف من كرم أي جعلناهم ذوي كرم بمعنى الشرف والمحاسن الجمة ، كما تقول : ثوب كريم وفر كريم أي جامع للمحاسن . وليس من كرم المال . وما جاء عن أهل التفسير من تكريمهم وتفضيلهم بأشياء ذكرها هو على سبيل التمثيل لا على الحصر في ذلك كما روي عن ابن عباس أن التفضيل بالعقل وعن الضحاك بالنطق . وعن عطاء بتعديل القامة وامتدادها ، وعن زيد بن أسلم بالمطاعم واللذات ، وعن يمان بحسن الصورة ، وعن محمد بن كعب بجعل محمد عليه الصلاة والسلام منهم . وعن ابن جرير بالتسليط على غيره من الخلق وتسخيره له .

وقيل : بالخط .

وقيل : باللحية للرجل والذؤابة للمرأة .

وعن ابن عباس : بأكله بيده وغيره بفمه .

وقيل : بتدبير المعاش والمعاد .

وقيل : بخلق اللّه آدم بيده .

قال ابن عطية : وقد ذكر أن من الحيوان ما يفضل بنوع ما ابن آدم كجري الفرس وسمعه وإبصاره ، وقوة الفيل ، وشجاعة الأسد ، وكرم الديك . قال : وإنما التكريم والتفضيل بالعقل الذي يملك به الحيوان كله وبه

يعرف اللّه ويفهم كلامه ويوصل إلى نعيمه انتهى .

{وَحَمَلْنَاهُمْ فِى الْبَرّ وَالْبَحْرِ } وهذا أيضاً من تكريمهم . قال ابن عباس : في البر على الخيل والبغال والحمير والإبل ، وفي البحر على السفن . وقال غيره : على أكباد رطبة وأعواد يابسة .{ وَالطَّيّبَاتُ } كما تقدم الحلال أو المستلذ ولا يتسع غيره من الحيوان في الرزق اتساعه لأنه يكتسب المال ويلبس الثياب ويأكل المركب من الأطعمة بخلاف الحيوان ، فإنه لا يكتسب ولا يلبس ولا يأكل غالباً إلا لحماً نيئاً وطعاماً غير مركب ، والظاهر أن كثيراً باق على حقيقته ، فقالت طائفة : فضلوا على الخلائق كلهم غير جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل وأشباههم وهذا عن ابن عباس . وعنه إن الإنسان ليس أفضل من الملك وهو اختيار الزجّاج . و

قال ابن عطية : والحيوان والجن هو الكثير المفضول والملائكة هم الخارجون عن الكثير المفضول . وقالت فرقة : الآية تقضي بفضل الملائكة على الإنس من حيث هم المستثنون ، وقد قال تعالى { وَلاَ الْمَلَئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ } وهذا غير لازم من الآية ، بل التفضيل بين الإنس والجن لم تعن له الآية بل يحتمل أن الملائكة أفضل ويحتمل التساوي ، وإنما يصح تفضيل الملائكة من مواضع أخر من الشرع انتهى .

وقال الزمخشري :{ عَلَى كَثِيرٍ مّمَّنْ خَلَقْنَا } هو ما سوى الملائكة عليهم الصلاة والسلام ، وحسب بني آدم { تَفْضِيلاً } أن ترفع عليهم الملائكة وهم هم ومنزلتهم عند اللّه منزلتهم ، والعجب من المجبرة كيف عكسوا في كل شيء وكابروا حتى جسرتهم المكابرة على العظيمة التي هي تفضيل الإنسان على الملك ، ثم ذكر تشنيعاً أقذع فيه يوقف عليه من كتابه .

وقيل :{ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ } بالغلبة والاستيلاء .

وقيل : بالثواب والجزاء يوم القيامة ، وعلى هذين القولين لم تتعرض الآية للتفضيل المختلف فيه بين الإنس والملائكة .

وقيل : المراد بكثير مجازه وهو إطلاقه على الجميع ، والعرب تفعل ذلك وهو القول لا ينبغي أن يقال هنا لأنك لو جعلت جميعاً كان بكثير ، فقلت على جميع ممن خلقنا لكان نائياً عن الفصاحة ، ولا يليق أن يحمل كلام اللّه تعالى الذي هو أفصح الكلام عليه ، ولأبي عبد اللّه الرازي كلام في تكريم ابن آدم وتفضيله مستمد من كلام الذين يسمونهم حكماء يوقف عليه في تفسيره إذ هو جار على غير طريقة العرب في كلامها .

٧١

يوم ندعوا كل . . . . .

ولما ذكر تعالى أنواعاً من كرامات الإنسان في الدنيا ذكر شيئاً من أحوال الآخرة فقال : { يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ } واختلفوا في العامل في { يَوْمٍ} فقيل : العامل فيه ما دل عليه قوله متى هو .

وقيل : فتستجيبون .

وقيل : هو بدل من يوم يدعوكم وهذه أقوال في غاية الضعف ، ولولا أنهم ذكروها لضربت عن ذكرها صفحاً وهو في هذه الأقوال ظرف . وقال الحوفي وابن عطية انتصب على الظرف والعامل فيه اذكر وعلى تقدير اذكر لا يكون ظرفاً بل هو مفعول . وقال ابن عطية أيضاً بعد قوله هو ظرف : والعامل فيه أذكر أو فعل يدل عليه قوله { وَلاَ يُظْلَمُونَ } ، وحكاه أبو البقاء وقدره { وَلاَ يُظْلَمُونَ } يوم ندعو . وقال ابن عطية أيضاً : ويصح أن يعمل فيه { وَفَضَّلْنَاهُمْ } وذلك أن فضل البشر يوم القيامة على سائر الحيوان بيِّن لأنهم المنعمون المكلفون المحاسبون الذين لهم القدر إلاّ أن هذا يرده أن الكفار يومئذ أخسر من كل حيوان ، إذ يقول الكافر : يا ليتني كنت تراباً . وقال ابن عطية أيضاً : ويصح أن يكون { يَوْمٍ } منصوباً على البناء لما أضيف إلى غير متمكن ، ويكون موضعه رفعاً بالابتداء ، والخبر في التقسيم الذي أتى بعد في قوله { فَمَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ } إلى قوله { وَمَن كَانَ } انتهى . وقوله منصوباً على البناء كل ينبغي أن يقول مبنياً على الفتح ، وقوله : لما أضيف إلى غير متمكن ليس بجيد لأن الذي ينقسم إلى متمكن وغير متمكن هو الاسم لا الفعل ، وهذا أضيف إلى فعل مضارع ومذهب البصريين أنه إذا أضيف إلى فعل مضارع معرب لا يجوز بناؤه ، وهذا الوجه الذي ذكره هو على رأي الكوفيين .

وأما قوله : والخبر في التقسيم عار من رابط لهذه الجملة التقسيمية بالمبتدأ لا أن قدر محذوفاً ، فقد يمكن أي ممن { أُوتِىَ كِتَابَهُ } فيه { بِيَمِينِهِ } وهو بعد ذلك التخريج تخريج متكلف .

وقال بعض النحاة : العامل فيه { وَفَضَّلْنَاهُمْ } على تقدير { وَفَضَّلْنَاهُمْ } بالثواب ، وهذا القول قريب من قول ابن عطية الذي ذكرناه عنه قبل . وقال الزجاج : هو ظرف لقوله ثم لا تجد . وقال الفراء : هو معمول لقوله نعيدكم

مضمرة أي نعيدكم { يَوْمَ نَدْعُواْ } والأقرب من هذه الأقوال أن يكون منصوباً على المفعول به بأذكر مضمرة .

وقرأ الجمهور :{ ندعو } بنون العظمة ، ومجاهد يدعو بياء الغيبة أي يدعو اللّه ، والحسن فيما ذكر أبو عمرو الداني يُدعى مبنياً للمفعول { وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ } مرفوع به ، وفيما ذكر غيره يدعو بالواو وخرج على إبدال الألف واواً على لغة من يقول : أفعو في الوقف على أفعى ، وإجراء الوصل مجرى الوقف وكل مرفوع به ، وعلى أن تكون الواو ضميراً مفعولاً لم يسم فاعله ، وأصله يدعون فحذفت النون كما حذفت في قوله : أبيت أسرى وتبيتى تدلكي

وجهك بالعنبر والمسك الزكي

أي تبيتين تدلكين وكل بدل من واو الضمير .{ وأناس } اسم جمع لا واحد له من لفظه ، والباء في { أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ } الظاهر أنها تتعلق بندعو ، أي باسم إمامهم .

وقيل : هي باء الحال أي مصحوبين { بِإِمَامِهِمْ} والإمام هنا قال ابن عباس والحسن وأبو العالية والربيع كتابهم الذي فيه أعمالهم . وقال الضحاك وابن زيد : كتابهم الذي نزل عليهم . وقال مجاهد وقتادة : نبيهم .

قال ابن عطية : والإمام يعم هذا كله لأنه مما يؤتم به .

وقال الزمخشري : إمامهم من ائتموا به نبيّ أو مقدم في الدين أو كتاب أو دين ، فيقال : يا أهل دين كذا وكتاب كذا .

وقيل : بكتاب أعمالهم يا أصحاب كتاب الخير ويا أصحاب كتاب الشر . وفي قراءة الحسن بكتابهم ومن بدع التفسير أن الإمام جمع أُم وأن الناس يدعون يوم القيامة بأمهاتهم ، وأن الحكمة في الدعاء بالأمهات دون الآباء رعاية حق عيسى وشرف الحسن والحسين . وأن لا يفتضح أولاد الزنا وليت شعري أيهما أبدع أصحة لفظه أم بهاء حكمته انتهى . وإيتاء الكتاب دليل على ما تقرر في الشريعة من الصحف التي يؤتاها المؤمن والكافر ، وإيتاؤه باليمين دليل على نجاة الطائع وخلاص الفاسق من النار إن دخلها وبشارته أنه لا يخلد فيها { فَأُوْلَئِكَ } جاء جمعاً على معنى من إذ قد حمل على اللفظ أولاً فأفرد في قوله { أُوتِىَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ } وقراءتهم كتبهم هو على سبيل التلذذ بالإطّلاع على ما تضمنتها من البشارة ، وإلاَّ فقد علموا من حيث إيتاؤهم إياها باليمين أنهم من أهل السعادة ومن فرحهم بذلك يقول الباري لأهل المحشر :{ هَاؤُمُ اقْرَؤُاْ كِتَابيَهْ } ولم يأت هنا قسيم من { أُوتِىَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ } وهو من يؤتي كتابه بشماله ، وإن كان قد أتى في غير هذه الآية بل جاء قسيمه قوله .

{وَمَن كَانَ فِى هَاذِهِ أَعْمَى } وذلك من حيث المعنى مقابله لأن من { أُوتِىَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ } هم أهل السعادة { وَمَن كَانَ فِى هَاذِهِ أَعْمَى } هم أهل الشقاوة { وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } أي لا ينقصون أدنى شيء

٧٢

ومن كان في . . . . .

وتقدم شرح الفتيل في سورة النساء . والظاهر أن الاشارة بقوله : { فِى هَاذِهِ } إلى الدنيا وقاله ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد أي : من كان في هذه الدار أعمى عن النظر في آيات اللّه وعبره والإيمان بأنبيائه ، فهو في الآخرة أعمى إما أن يكون على حذف مضاف أي في شأن الآخرة ،

وإما أن يكون فهو يوم القيامة أعمى معنى أنه خبر إن لا يتوجه له صواب ولا يلوح له نجح . وقال مجاهد : هو أعمى في الآخرة عن حججه .

وقال ابن عباس أيضاً :{ وَمَن كَانَ فِى هَاذِهِ } النعم يشير إلى نعم التكريم والتفضيل فهو في الآخرة التي لم تر ولم تعاين { أَعْمَى}

وقيل : ومن كان في الدنيا ضالاً كافراً فهو في الآخرة أعمى { وَأَضَلُّ سَبِيلاً } لأنه في الدنيا تقبل توبته ، وفي الآخرة لا تقبل وفي الدنيا يهتدي إلى التخلص من الآفات ، وفي الآخرة لا يهتدي إلى ذلك البتة .

وقيل : فهو في الآخرة أعمى عن طريق الجنة .

وقيل : أعمى البصر كما قال { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا } وقوله

{وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبّ لِمَ حَشَرْتَنِى أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً}

وقيل : من كان في الدنيا أعمى عن إبصار الحق والاعتبار فهو في الآخرة أعمى عن الاعتذار .

و

قال ابن عطية : والظاهر عندي أن الإشارة بهذه إلى الدنيا { أَىَّ مُنقَلَبٍ كَانَ } في دنياه { هَاذِهِ } وقت إدراكه وفهمه { أَعْمَى } عن النظر في آيات اللّه فهو في يوم القيامة أشدّ حيرة وعمى لأنه قد باشر الخيبة ورأى مخائل العذاب ، وبهذا التأويل تكون معادلة التي قبلها من ذكر من يؤتى كتابه بيمينه . وإذا جعلنا قوله { فِى الاْخِرَةِ } بمعنى في شأن الآخرة لم تطرد المعادلة الآيتين .

وقال الزمخشري : والأعمى مستعار ممن لا يدرك المبصرات لفساد حاسته لمن لا يهتدي إلى طريق النجاة ، أما في الدنيا فلفقد النظر ،

وأما في الآخرة فلأنه لا ينفعه الاهتداء إليه وقد جوّزوا أن يكون الثاني بمعنى التفضيل . ومن ثم قرأ أبو عمر والأول مما لا والثاني مفخماً لأن أفعل التفضيل تمامه بمن فكانت ألفه في حكم الواقعة في وسط الكلام كقوله { أَعْمَالَكُمْ }

وأما الأول فلم يتعلق به شيء فكانت ألفه واقعة في الطرف معرضة للإمالة انتهى . وتعليله ترك إمالة أعمى الثاني أخذه الزمخشري من أبي عليّ قال أبو عليّ : لأن الإمالة إنما تحسن في الأواخر ، و { أَعْمَى } ليس كذلك لأن تقديره { أَعْمَى } من كذا فليس يتم إلا في قولنا من كذا فهو إذن ليس بآخر ، ويقوي هذا التأويل عطف { وَأَضَلُّ سَبِيلاً } لأن الإنسان في الدنيا يمكن أن يؤمن فينجو وهو في الآخرة لا يمكنه ذلك فهو { أَضَلُّ سَبِيلاً } وأشدّ حيرة وأقرب إلى العذاب ، و { أَعْمَى } هنا من عمى القلب لا من عمى البصر لأن ذلك يقع فيه التفاضل لا هذا .

٧٣

وإن كادوا ليفتنونك . . . . .

الضمير في { وَإِن كَادُواْ } قيل لقريش .

وقيل لثقيف ، وذكروا أسباب نزول مختلفة وفي بعضها ما لا يصح نسبته إلى الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، ويوقف على ذلك في تفسير ابن عطية والزمخشري والتحرير وغير ذلك ، ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما عدد نعمه على بني آدم ثم ذكر حالهم في الآخرة من إيتاء الكتاب باليمين لأهل السعادة ، ومن عمى أهل الشقاوة أتبع ذلك بما يهم به الأشقياء في الدنيا من المكر والخداع والتلبيس على سيد أهل السعادة المقطوع له بالعصمة ، ومعنى { لَيَفْتِنُونَكَ } ليخدعونك وذلك في ظنهم لا أنهم قاربوا ذلك إذ هو معصوم عليه السلام أن يقاربوا فتنته عما أوحى اللّه إليه ، وتلك المقاربة في زعمهم سببها رجاؤهم أن يفتري على اللّه غير ما أوحى اللّه إليه من تبديل الوعد وعيداً أو الوعيد وعداً ، وما اقترحته ثقيف من أن يضيف إلى اللّه ما لم ينزل عليه و { ءانٍ } هذه هي المخففة من الثقيلة ، وليتها الجملة الفعلية وهي { كَادُواْ } لأنها من أفعال المقاربة وإنما تدخل على مذهب البصريين من الأفعال على النواسخ التي للإثبات على ما تقرر في علم النحو ، واللام في { لَيَفْتِنُونَكَ } هي الفارقة بين أن هذه وأن النافية { وَإِذَا } حرف جواب وجزاء ، ويقدر قسم هنا تكون

{لآَّتَّخَذُوكَ } جواباً له ، والتقدير واللّه { إِذَا } أي إن افتتنت وافتريت { لآَّتَّخَذُوكَ } ولا اتخذوك فى معنى ليتخذونك كقوله { وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً لَّظَلُّواْ } أي ليظلنّ لأن { إِذَا } تقتضي الاستقبال لأنها من حيث المعنى جزاء فيقدر موضعها بأداة الشرط .

٧٤

ولولا أن ثبتناك . . . . .

وقال الزمخشري : { وَإِذاً لآَّتَّخَذُوكَ } أي ولو اتبعت مرادهم { لآَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً } ولكنت لهم ولياً ، ولخرجت من ولايتي انتهى . وهو تفسير معنى لا إن { لآَّتَّخَذُوكَ } جواب لو محذوفة .

قال الزمخشري :{ وَلَوْ لاَ انفِصَامَ ثَبَّتْنَاكَ } ولولا تثبيتناً لك وعصمتنا لقد كدت تركن إليهم لقاربت أن تميل إلى خدعهم ومكرهم ، وهذا تهييج من اللّه له وفضل تثبيت ،

٧٥

إذا لأذقناك ضعف . . . . .

وفي ذلك لطف للمؤمنين إذن لو قاربت تركن إليهم أدنى ركنة { إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَواةِ وَضِعْفَ } أي { لأَذَقْنَاكَ } عذاب الآخرة وعذاب القبر مضاعفين .

فإن قلت : كيف حقيقة هذا الكلام ؟

قلت : أصله { لأَذَقْنَاكَ } عذاب الحياة وعذاب الممات لأن العذاب عذابان ، عذاب في الممات وهو عذاب القبر ، وعذاب في حياة الآخرة وهو عذاب النار ، والضعف يوصف به نحو قوله تعالى :{ قَالَ ادْخُلُواْ فِى أُمَمٍ قَدْ } يعني مضاعفاً ، فكان أصل الكلام { لأَذَقْنَاكَ } عذاباً ضعفاً في الحياة ، وعذاباً ضعفاً في الممات ، ثم حذف الموصوف واقيمت الصفة مقامه وهو الضعف ، ثم أضيفت الصفة إضافة الموصوف ، فقيل { ضِعْفَ الْحَيَواةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ } كما قيل { لأَذَقْنَاكَ } أليم الحياة وأليم الممات ، ويجوز أن يراد بضعف الحياة عذاب الحياة الدنيا ، وبضعف الممات ما يعقب الموت من عذاب القبر وعذاب النار والمعنى لضاعفنا لك العذاب المعجل للعصاة في الحياة الدنيا . وما نؤخره لما بعد الموت انتهى .

وجواب { لَوْ لا } يقتضي إذا كان مثبتاً امتناعه لوجود ما قبله ، فمقاربة الركون لم تقع منه فضلاً عن الركون والمانع من ذلك هو وجود تثبيت اللّه .

وقرأ قتادة وابن أبي إسحاق وابن مصرف :{ تَرْكَنُ } بضم الكاف مضارع ركن بفتحها وانتصب { شَيْئاً } على المصدر .

وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك : يريد ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات على معنى أن ما يستحقه من أذنب من عقوبتنا في الدنيا والآخرة كنا نضعفه . وذهب ابن الأنباري إلى أن المعنى لقد كاد أن يخبروا عنك أنك ركنت إلى قولهم بسبب فعلهم إليه مجازاً واتساعاً كما تقول للرّجل : كدت تقتل نفسك أي كاد الناس يقتلونك بسبب ما فعلت .

وقال ابن عباس : كان الرسول صلى اللّه عليه وسلم معصوماً ، ولكن هذا تعريف للأمة لئلا يركن أحد منهم إلى المشركين في شيء من أحكام اللّه تعالى وشرائعه انتهى . واللام في { لأَذَقْنَاكَ } جواب قسم محذوف قبل { إِذَا } أي واللّه إن حصل ركون ليكونن كذا ، والقول في { لأَذَقْنَاكَ } كالقول في { لآَّتَّخَذُوكَ } من وقوع الماضي موضع المضارع الداخل عليه اللام والنون ، وممن نص على أن اللام في { لآَّتَّخَذُوكَ } و { لأَذَقْنَاكَ } هي لام القسم الحوفي .

وقال الزمخشري : وفي ذكر الكيدودة وتعليلها مع اتباعها الوعيد الشديد بالعذاب المضاعف في الدارين دليل بيِّن على أن القبيح يعظم قبحه بمقدار عظم شأن فاعله وارتفاع منزلته انتهى . ومن ذلك { عَظِيماً يانِسَاء النَّبِىّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ } الآية .

قال الزمخشري : وفيه أدنى مداهنة للغواة مضادة للّه وخروج عن ولايته ، وسبب موجب لغضبه ونكاله انتهى .

٧٦

وإن كادوا ليستفزونك . . . . .

وروي أنه لما نزلت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { اللّهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين} . قال حضرمي : الضمير في { وَإِن كَادُواْ } ليهود المدينة وناحيتها كحيي بن أخطب وغيره ، وذلك أنهم ذهبوا إلى المكر برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقالوا : إن هذه الأرض ليست بأرض الأنبياء ، وإنما أرض الأنبياء الشام ، ولكنك تخاف الروم فإن كنت نبياً فاخرج إليها فإن اللّه سيحميك كما حمى غيرك من الأنبياء فنزلت ، وأخبر تعالى أنه لو خرج لم يلبثهم بعد { إِلاَّ قَلِيلاً}

وحكى النقاش أنه خرج بسبب قولهم وعسكر بذي الحليفة وأقام ينتظر أصحابه فنزلت ورجع .

قال ابن عطية : وهذا ضعيف لم يقع في سيرة ولا في كتاب يعتمد عليه ، وذو الحليفة ليس في طريق الشام من المدينة انتهى .

وقالت فرقة : الضمير لقريش قاله ابن عباس وقتادة ، واستفزازهم هو ما ذهبوا إليه من إخراجه من مكة كما ذهبوا إلى حصره في الشعب ، ووقع استفزازهم

هذا بعد نزول الآية وضيقوا عليه حتى خرج واتبعوه إلى الغار ونفذ عليهم الوعيد في أن لم يلبثوا { إِلاَّ قَلِيلاً } يوم بدر . وقال الزجاج حاكياً أن استفزازهم ما أجمعوا عليه في دار الندوة من قتله والأرض على هذا الدنيا . وقال مجاهد : ذهبت قريش إلى هذا ولكنه لم يقع منها لأنه لما أراد تعالى استبقاء قريش وأن لا يستأصلها أذن لرسوله في الهجرة فخرج بإذنه لا بقهر قريش ، واستبقيت قريش ليسلم منها ومن أعقابها من أسلم قال : ولو أخرجته قريش لعذبوا . ذهب مجاهد إلى أن الضمير في { يَلْبَثُونَ } لجميعهم . وقال الحسن :{ لَيَسْتَفِزُّونَكَ } ليفتنونك عن رأيك . وقال ابن عيسى : ليزعجونك ويستخفونك . وأنشد : يطيع سفيه القوم إذ يستفزه

ويعصى حليماً شيبته الهزاهز

والظاهر أن الآية تدل على مقاربة استفزازه لأن يخرجوه ، فما وقع الاستفزاز ولا إخراجهم إياه المعلل به الاستفزاز ، ثم جاء في القرآن { وَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ هِىَ أَشَدُّ قُوَّةً مّن قَرْيَتِكَ الَّتِى أَخْرَجَتْكَ } أي أخرجك أهلها . وفي الحديث : { يا ليتني كنت فيها جذعاً إذ يخرجك قومك قال : أو مخرجي هم } الحديث فدل ذلك على أنهم أخرجوه . لكن الإخراج الذي هو علة للأستفزاز لم يقع فلا تعارض بين الآيتين والحديث . وقال أبو عبد اللّه الرازي : ما خرج بسبب إخراجهم وإنما خرج بأمر اللّه فزال التناقض انتهى .

{وَلاَ يَلْبَثُونَ } جواب قسم محذوف أي واللّه إن استفزوك فخرجت { لاَّ يَلْبَثُونَ } ولذلك لم تعمل { إِذَا } لأنها توسطت بين قسم مقدر ، والفعل فلا يلبثون ليست منصبة عليه من جهة الإعراب ، ويحتمل أن تكون { لاَّ يَلْبَثُونَ } خبراً لمبتدأ محذوف يدل عليه المعنى تقديره ، وهم { إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ يَلْبَثُونَ } فوقعت إذاً بين المبتدأ وخبره فألغيت .

وقرأ أبي وإذا لا يلبثوا بحذف النون أعمل إذاً فنصب بها على قول الجمهور ، وبأن مضمرة بعدها على قول بعضهم وكذا هي في مصحف عبد اللّه محذوفة النون .

قال الزمخشري :

فإن قلت : ما وجه القراءتين ؟

قلت : أما الشائعة فقد عطف فيها الفعل على الفعل وهو مرفوع لوقوعه خبر كاد ، والفعل في خبر كاد واقع موقع الاسم .

وأما قراءة أبيّ ففيها الجملة برأسها التي هي وإذاً لا يلبثوا عطف على جملة قوله { وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ } انتهى .

وقرأ عطاء { لاَّ يَلْبَثُونَ } بضم الياء وفتح اللام والباء مشددة .

وقرأ يعقوب كذلك إلاّ أنه كسر الباء .

وقرأ الأخوان وابن عامر وحفص { خِلَافَكَ } وباقي السبعة خلفك والمعنى واحد . قال الشاعر : عفت الديار خلافهم فكأنما

بسط الشواطب بينهن حصيرا

وهذا كقوله { فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ } خلاف رسول اللّه أي خلف رسول اللّه في أحد التأويلات .

وقرأ عطاء بن أبي رباح : بعدك مكان خلفك ، والأحسن أن يجعل تفسيراً لخلفك لا قراءة لأنها لا تخالف سواد المصحف ، فأراد أن يبين أن خلفك هنا ليست ظرف مكان وإنما تجوز فيها فاستعملت ظرف زمان بمعنى بعدك . وهذه الظروف التي هي قبل وبعد ونحوهما اطّرد إضافتها إلى أسماء الأعيان على حذف مضاف يدل عليه ما قبله ، في نحو خلفك أي خلف إخراجك ، أو جاء زيد قبل عمرو أي قبل مجيء عمرو ، وضحك بكر بعد خالد أي بعد ضحك خالد .

٧٧

سنة من قد . . . . .

وانتصب { سَنَةٍ } على

المصدر المؤكد أي سنّ اللّه سنة ، والمعنى أن كل قوم أخرجوا رسولهم من بين أظهرهم فسنة اللّه أن يهلكهم بعد إخراجه ويستأصلهم ولا يقيمون بعده إلاّ قليلاً . وقال الفراء : انتصب { سَنَةٍ } على إسقاط الخافض لأن المعنى كسنة فنصب بعد حذف الكاف ، وعلى هذا لا يقف على قوله { إِلاَّ قَلِيلاً}

وقال أبو البقاء :{ سَنَةٍ } منصوب على المصدر أي سننا بك سنة من تقدم من الأنبياء ، ويجوز أن يكون مفعولاً به أي اتبع { سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا } كما

قال تعالى :{ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ } انتهى . وهذا معنى غير الأول والمفسرون على الأول وهو المناسب لمعنى الآية قبلها { وَلَن تَجِدَ } لما أجرينا به العادة { تَحْوِيلاً } منه إلى غيره إذ كل حادث له وقت معين وصفة معينة ونفي الوجدان هنا وفيما أشبهه معناه نفي الوجود .

٧٨

أقم الصلاة لدلوك . . . . .

الدلوك الغروب قاله الفراء وابن قتيبة ، واستدل الفراء بقول الشاعر : هذا مقام قدمي رباح

غدوة حتى دلكت براح

أي حتى غابت الشمس ، وبراح اسم الشمس وأنشد ابن قتيبة لذي الرمة :

مصابيح ليست باللواتي يقودها

نجوم ولا بالآفلات الدوالك

وقيل : الدلوك زوال الشمس نصف النهار . قيل واشتقاقه من الدلك لأن الإنسان تدلك عينه عند النظر إليها .

وقيل الدلوك من وقت الزوال إلى الغروب . الغسق سواد الليل وظلمته . قال الكسائي غسق الليل غسوقاً والغسق الاسم بفتح السين . وقال النضر بن شميل : غسق الليل دخول أوله . قال الشاعر : إن هذا الليل قد غسقا

واشتكيت الهم والأرقا

وأصله من السيلان غسقت العين تغسق هملت بالماء والغاسق السائل ، وذلك أن الظلمة تنصب على العالم . قال الشاعر : ظلت تجوديداها وهي لاهية

حتى إذا جنح الاظلام والغسق

وسأل نافع بن الأزرق ابن عباس ما الغسق ؟ قال : الليل بظلمته ، ويقال غسقت العين امتلأت دماً .

وحكى الفراء غسق الليل واغتسق وظلم وأظلم ودجى وأدجى وغبش وأغبش ، أبو عبيدة الهاجد النائم والمصلي . وقال ابن الإعرابي : هجد الرجل صلى من الليل ، وهجد نام بالليل . وقال الليث تهجد استيقظ للصلاة . وقال ابن برزح هجدته أيقظته ، فعلى ما ذكروا يكون من الأضداد ، والمعروف في كلام العرب أن الهاجد النائم وقد هجد هجوداً نام . قال الشاعر : ألازارت وأهل مني هجود

وليت خيالنا منا يعود

وقال آخر :

ألا طرقتنا والرفاق هجود

وقال الآخر :

وبرك هجود قد أثارت مخافتي

زهقت نفسه تزهق زهوقاً ذهبت ، وزهق الباطل زال واضمحل ، ولم يثبت . قال الشاعر : ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها

إقدامه مزالة لم تزهق

ناء ينوء : نهض . الشاكلة الطريقة والمذهب الذي جبل عليه قاله الفراء ، وهو مأخوذ من الشكل يقال لست على شكلي ولا شاكلتي ، والشكل المثل والنضير ، والشِكل بكسر الشين الهيئة يقال جارية حسنة الشكل . الينبوع مفعول من النبع وهو عين تفور بالماء . الكسف القطع واحدها كسفة ، تقول العرب : كسفت الثوب ونحوه قطعته ، وما زعم الزجاج من أن كسف بمعنى غطى ليس بمعروف في دواوين اللغة . الرُقِّي والرقى الصعود يقال : رقيت في السلم أرقى قال الشاعر : أنت الذي كلفتني رقي الدرج

على الكلال والمشيب والعرج

خبت النار تخبو : سكن لهبها وخمدت سكن جمرها وضعف وهمدت طفئت جملة . قال الشاعر : أمن زينب ذي النار قبيل الصبح

ما تخبو إذا ما أخمدت ألقى عليها المندل الرطب وقال الآخر

وسطه كاليراع أو سرج المجدل

طوراً يخبو وطوراً ينير

الثبور : الهلاك يقال : ثبر اللّه العدوّ ثبوراً أهلكه . وقال ابن الزبعري :

إذا جارى الشيطان في سنن الغي

ومن مال مثله مثبور اللفيف الجماعات من قبائل شتى مختلطة قد لف بعضها ببعض . وقال بعض اللغويين : هو من أسماء الجموع لا واحد له من لفظه . وقال الطبري : هو بمعنى المصدر كقول القائل لففته لفاً ولفيفاً . المكث : التطاول في المدّة ، يقال : مكث ومكث أطال الإقامة . الذقن مجتمع اللحيين . قال الشاعر :

فخروّا لأذقان الوجوه تنوشهم

سباع من الطير العوادي وتنتف

خافت بالكلام أسره بحيث لا يكاد يسمعه المتكلم وضربه حتى خفت أي لا يسمع له حس .

{أَقِمِ الصَّلَواةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ الَّيْلِ وَقُرْءانَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْءانَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا وَمِنَ الَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا وَقُل رَّبّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لّى مِن لَّدُنْكَ سُلْطَاناً نَّصِيرًا وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا وَنُنَزّلُ مِنَ الْقُرْءانِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا}

ومناسبة { أَقِمِ الصَّلَواةَ } لما قبلها أنه تعالى لما ذكر كيدهم للرسول وما كانوا يرومون به ، أمره تعالى أن يقبل على شأنه من عبادة ربه وأن لا يشغل قلبه بهم ، وكان قد تقدّم القول في الإلهيات والمعاد والنبوات ، فأردف ذلك بالأمر بأشرف العبادات والطاعات بعد الإيمان وهي الصلاة وتقدّم الكلام في إقامة الصلاة والمواجه بالأمر الرسول عليه الصلاة والسلام . واللام في { لِدُلُوكِ } قالوا : بمعنى بعد أي بعد دلوك { الشَّمْسَ } كما قالوا ذلك في قوم متمم بن نويرة يرثي أخاه مالكاً : فلما تفرّقنا كأني ومالكا

لطول اجتماع لم نبت ليلة معاً

أي بعد طول اجتماع ومنه كتبته لثلاث خلون من شهر كذا . وقال الواحدي : اللام للسبب لأنها إنما تجب بزوال الشمس ، فيجب على المصلي إقامتها لأجل دلوك الشمس .

قال ابن عطية :{ أَقِمِ الصَّلَواةَ } الآية هذه بإجماع من المفسرين إشارة إلى الصلوات المفروضة . فقال ابن عمر وابن عباس وأبو بردة والحسن والجمهور : دلوك الشمس زوالها ، والإشارة إلى الظهر والعصر وغسق الليل إشارة إلى المغرب والعشاء { أَقِمِ الصَّلَواةَ } أريد به صلاة الصبح ، فالآية على هذا تعم جميع الصلوات . وروي ابن مسعود أن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم قال : { أتاني جبريل عليه السلام لدلوك الشمس حين زالت فصلى بي الظهر} . وروي جابر أن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم خرج من عنده وقد طعم وزالت الشمس ، فقال : { أخرج يا أبا بكر فهذا حين دلكت الشمس} . وقال ابن مسعود وابن عباس وزيد بن أسلم : دلوك الشمس غروبها والإشارة بذلك إلى المغرب { قُمِ الَّيْلَ } ظلمته فالإشارة إلى العتمة { أَقِمِ الصَّلَواةَ } صلاة الصبح ، ولم تقع إشارة على هذا التأويل إلى الظهر والعصر انتهى . وعن عليّ أنه الغروب ، وتتعلق اللام وإلى بأقم ، فتكون إلى غاية للإقامة . وأجاز أبو البقاء أن تكون حالاً من الصلاة قال : أي ممدودة ويعني بقرآن الفجر صلاة الصبح ، وخصت بالقرآن وهو القراءة لأنه عظمها إذ قراءتها طويلة مجهور بها ، وانتصب { أَقِمِ الصَّلَواةَ } عطفاً على { الصَّلَواةِ}

وقال الأخفش : انتصب بإضمار فعل تقديره وآثر { أَقِمِ الصَّلَواةَ } أو عليك { أَقِمِ الصَّلَواةَ } انتهى . وسميت صلاة الصبح ببعض ما يقع فيها .

وقال الزمخشري : سميت صلاة الفجر قرآناً وهي القراءة لأنها ركن كما سميت ركوعاً وسجوداً وقنوتاً وهي حجة عليّ ابن أبي علية . والأضم في زعمهما أن القراءة ليست بركن انتهى .

وقيل : إذا فسرنا الدلوك بزوال الشمس كان الوقت مشتركاً بين الظهر والعصر إذا غييت الإقامة بغسق الليل ، ويكون الغسق وقتاً مشتركاً بين الغرب والعشاء ، ويكون المذكور ثلاثة أوقات : أول وقت الزوال ، وأول وقت المغرب ، وأول وقت الفجر انتهى ، والذي يدل عليه ظاهر اللفظ أنه أمر بإقامة الصلاة إما من أول الزوال إلى الغسق ، وبقرآن الفجر ،

وإما من الغروب إلى

الغسق وبقرآن الفجر ، فيكون المأمور به الصلاة في وقتين ولا تؤخذ أوقات الصلوات الخمس من هذا اللفظ بوجه .

وقال أبو عبد اللّه الرازي في قوله { أَقِمِ الصَّلَواةَ } دلالة على أن الصلاة لا تتم إلاّ بالقراءة لأن الأمر على الوجوب ، ولا قراءة في ذلك الوقت واجبة إلا في الصلاة ومن قال معنى { أَقِمِ الصَّلَواةَ } صلاة الفجر غلط لأنه صرف الكلام عن حقيقته إلى المجاز بغير دليل ، ولأن في نسق التلاوة { وَمِنَ الَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ } ويستحيل التهجد بصلاة الفجر ليلاً . والهاء في { بِهِ } كناية عن { أَقِمِ الصَّلَواةَ } المذكور قبله ، فثبت أن المراد حقيقة القرآن لا مكان التهجد بالقرآن المقروء في صلاة الفجر واستحالة التهجد في الليل بصلاة الفجر ، وعلى أنه لو صح أن يكون المراد ما ذكروا لكانت دلالته قائمة على وجوب القراءة في الصلاة لأنه لم تجعل القراءة عبارة عن الصلاة إلا وهي من أركانها انتهى . وفيه بعض تلخيص والظاهر ندبية إيقاع صلاة الصبح في أول الوقت لأنه مأمور بإيقاع قرآن الفجر ، فكان يقتضي الوجوب أول طلوع الفجر ، لكن الإجماع منع من ذلك فبقي الندب لوجود المطلوبية ، فإذا انتفى وجوبها بقي ندبها وأعاد { أَقِمِ الصَّلَواةَ } في قوله { أَقِمِ الصَّلَواةَ لِدُلُوكِ } ولم يأت مضمراً فيكون أنه على سبيل التعظيم والتنويه بقرآن الفجر ومعنى { مَشْهُودًا } تشهده الملائكة حفظة الليل وحفظة النهار كما جاء في الحديث : { إنهم يتعاقبون ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر} . وهذا قول الجمهور .

وقيل يشهده الكثير من المصلين في العادة .

وقيل : من حقه أن تشهده الجماعة الكثيرة .

قال الزمخشري : ويجوز أن يكون { أَقِمِ الصَّلَواةَ } حثاً على طول القراءة في صلاة الفجر لكونها مكثوراً عليها ليسمع الناس القرآن فيكثر الثواب ، ولذلك كانت الفجر أطول الصلوات قراءة انتهى . ويعني بقوله حثاً أن يكون التقدير وعليك { أَقِمِ الصَّلَواةَ } أو والزم .

وقال محمد بن سهل بن عسكر :{ مَشْهُودًا } يشهده اللّه وملائكته ، وذكر حديث أبي الدرداء أنه تعالى ينزل في آخر الليل ولأبي عبد اللّه الرازي كلام في قوله { مَشْهُودًا } على عادته في تفسير كتاب اللّه على ما لا تفهمه العرب ، والذي ينبغي بل لا يعدل عنه ما فسره به الرسول صلى اللّه عليه وسلم من قوله فيه : { يشهده ملائكة الليل وملائكة النهار} . وقال فيه الترمذي حديث حسن صحيح .

ولما أمره تعالى بإقامة الصلاة للوقت المذكور ولم يدل أمره تعالى إياه على اختصاصه بذلك دون أمته ذكر ما اختصه به تعالى وأوجبه عليه من قيام الليل وهو في أمته تطوع . فقال :

٧٩

ومن الليل فتهجد . . . . .

{وَمِنَ الَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ } أي بالقرآن في الصلاة { نَافِلَةً } زيادة مخصوصاً بها أنت وتهجد هنا تفعل بمعنى الإزالة والترك ، كقولهم : تأثم وتحنث ترك التأثم والتحنث ، ومنه تحنثت بغار حراء أي بترك التحنث ، وشرح بلازمه وهو التعبد { وَمِنْ } للتبعيض . وقال الحوفي :{ مِنْ } متعلقة بفعل دل عليه معنى الكلام تقديره واسهر من الليل بالقرآن ، قال : ويجوز أن يكون التقدير وقم بعد نومة من الليل . وقال ابن عطية { وَمِنْ } للتبعيض التقدير وقتاً من الليل أي وقم وقتاً من الليل .

وقال الزمخشري :{ وَمِنَ الَّيْلِ } وعليك بعض الليل { فَتَهَجَّدْ بِهِ } والتهجد ترك الهجود للصلاة انتهى . فإن كان تفسيره وعليك بعض الليل تفسير معنى فيقرب ، وإن كان أراد صناعة النحو والإعراب فلا يصح لأن المغري به لا يكون حرفاً ، وتقدير من ببعض فيه مسامحة لأنه ليس بمرادفه البتة ، إذ لو كان مرادفه للزم أن يكون اسماً ولا قائل بذلك ، ألا ترى إجماع النحويين على أن واو مع حرف وإن قدّرت بمع ، والظاهر أن الضمير في { بِهِ } يعود على القرآن لتقدّمه في الذكر ، ولا تلحظ الإضافة فيه والتقدير { فَتَهَجَّدْ } بالقرآن في الصلاة . و

قال ابن عطية : والضمير في { بِهِ } عائد على وقت المقدر في وقم وقتاً من الليل انتهى . فتكون الباء ظرفية أي { فَتَهَجَّدْ } فيه

وانتصب { نَافِلَةً} قال الحوفي : على المصدر أي نفلناك نافلة قال : ويجوز أن ينتصب { نَافِلَةً } بتهجد إذا ذهبت بذلك إلى معنى صل به نافلة أي صل نافلة لك .

وقال أبو البقاء : فيه وجهان

أحدهما : هو مصدر بمعنى تهجد أي تنفل نفلاً و { نَافِلَةً } هنا مصدر كالعاقبة والثاني هو حال أي صلاة نافلة انتهى . وهو حال من الضمير في { بِهِ } ويكون عائداً على القرآن لا على وقت الذي قدره ابن عطية . وقال الأسود وعلقمة وعبد الرحمن بن الأسود والحجاج بن عمرو : التهجد بعد نومة . وقال الحسن : ما كان بعد العشاء الآخرة .

وقال ابن عباس :{ نَافِلَةً } زيادة لك في الفرض وكان قيام الليل فرضاً عليه . و

قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون على جهة الندب في التنفل والخطاب له والمراد هو وأمته كخطابه في { أَقِمِ الصَّلَواةَ} وقال مجاهد السدّي : إنما هي نافلة له قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر عام الحديبية ، فإنما كانت نوافله واستغفاره فضائل من العمل وقرباً أشرف من نوافل أمته لأن هذه أعني نوافل أمته إما أن يجبر بها فرائضهم ،

وإما أن يحط بها خطيئاتهم . وضعف الطبري قول مجاهد واستحسنه أبو عبد اللّه الرازي . وقال مقاتل فله كرامة وعطاء لك .

وقيل : كانت فرضاً ثم رخص في تركها . ومن حديث زيد بن خالد الجهني : رمق صلاته على ه الصلاة والسلام ليلة فصلى بالوتر ثلاث عشرة ركعة . وعن عائشة : أنه ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة .

و { عَسَى } مدلولها في المحبوبات الترجي . فقيل : هي على بابها في الترجي تقديره لتكن على رجاء من { أَن يَبْعَثَكَ}

وقيل هي بمعنى كي ، وينبغي أن يكون هذا تفسير معنى ، والأجود أن أن هذه الترجية والإطماع بمعنى الوجوب من اللّه تعالى وهو متعلق من حيث المعنى بقوله :{ فَتَهَجَّدْ }{ وَعَسَى } هنا تامة وفاعلها { أَن يَبْعَثَكَ } ، و { رَبَّكَ } فاعل بيبعثك و { مَقَاماً } الظاهر أنه معموله ليبعثك هو مصدر من غير لفظ الفعل لأن يبعثك بمعنى يقيمك تقول أقيم من قبره وبعث من قبره . و

قال ابن عطية : منصوب على الظرف أي في مقام محمود .

وقيل : منصوب على الحال أي ذا مقام .

وقيل : هو مصدر لفعل محذوف التقدير فتقوم { مَقَاماً } ولا يجوز أن تكون { عَسَى } هنا ناقصة ، وتقدّم الخبر على الاسم فيكون { رَبَّكَ } مرفوعاً اسم { عَسَى } و { أَن يَبْعَثَكَ } الخبر في موضع نصب بها إلا في هذا الإعراب الأخير .

وأما في قبله فلا يجوز لأن { مَقَاماً } منصوب بيبعثك و { رَبَّكَ } مرفوع بعسى فيلزم الفصل بأجنبي بين ما هو موصول وبين معمول . وهو لا يجوز .

وفي تفسير المقام المحمود أقوال .

أحدهما : أنه في أمر الشفاعة التي يتدافعها الأنبياء حتى تنتهي إليه صلى اللّه عليه وسلم ، والحديث في الصحيح وهي عدة من اللّه تعالى له عليه الصلاة والسلام ، وفي هذه الشفاعة يحمده أهل الجمع كلهم وفي دعائه المشهور : { وابعثه المقام المحمود الذي وعدته } واتفقوا على أن المراد منه الشفاعة .

الثاني : أنه في أمر شفاعته لأمته في إخراجه لمذنبهم من النار ، وهذه الشفاعة لا تكون إلاّ بعد الحساب ودخول الجنة ودخول النار ، وهذه لا يتدافعها الأنبياء بل يشفعون ويشفع العلماء . وقد روي حديث هذه الشفاعة وفي آخره :  { حتى لا يبقى في النار إلاّ من حبسه القرآن } أي وجب عليه الخلود . قال : ثم تلا هذه الآية { عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا} وعن أبي هريرة أنه عليه السلام قال : { المقام المحمود هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي فظاهر هذا الكلام تخصيص شفاعته لأمته ، وقد تأوله من حمل ذلك على الشفاعة العظمى التي يحمده بسببها الخلق كلهم على أن المراد لأمته وغيرهم أو يقال إن كل مقام منهما محمود .

الثالث : عن حذيفة : يجمع اللّه الناس في صعيد فلا تتكلم نفس فأوّل مدعوّ محمد صلى اللّه عليه وسلم ، فيقول : لبيك وسعديك والشر

ليس إليك { والمهدي من هديت وعبدك بين يديك وبك وإليك لا منجأ ولا منجى إلا إليك ، تباركت وتعاليت سبحانك رب البيت . قال : فهذا قوله { عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا}

الرابع قال الزمخشري : معنى المقام المحمود المقام الذي يحمده القائم فيه ، وكل من رآه وعرفه وهو مطلق في كل ما يجلب الحمد من أنواع الكرامات انتهى . وهذا قول حسن ولذلك نكر { مَقَاماً مَّحْمُودًا } فلم يتناول مقاماً مخصوصاً بل كل مقام محمود صدق عليه إطلاق اللفظ .

الخامس : ما قالت فرقة منها مجاهد وقد روي أيضاً عن ابن عباس أن المقام المحمود هو أن يجلسه اللّه معه على العرش . وذكر الطبري في ذلك حديثاً وذكر النقاش عن أبي داود السجستاني أنه قال : من أنكر هذا الحديث فهو عندنا متّهم ما زال أهل العلم يحدّثون بهذا .

قال ابن عطية : يعني من أنكر جوازه على تأويله . وقال أبو عمرو ومجاهد : إن كان أحد الأئمة يتأول القرآن فإن له قولين مهجورين عند أهل العلم أحدهما هذا والثاني في تأويل { إِلَى بِهَا نَاظِرَةٌ } قال : تنتظر الثواب ليس من النظر ، وقد يؤوّل قوله معه على رفع محله وتشريفه على خلقه كقوله { إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبّكَ } وقوله { ابْنِ لِى عِندَكَ بَيْتاً } و { إِنَّ اللّه لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ } كل ذلك كناية عن المكانة لا عن المكان .

وقال الواحدي : هذا القول مروي عن ابن عباس وهو قول رذل موحش فظيع لا يصح مثله عن ابن عباس ، ونص الكتاب ينادي بفساده من وجوه .

الأول : أن البعث ضد الإجلاس بعثت التارك وبعث اللّه الميت أقامه من قبره ، فتفسير البعث بالإجلاس تفسير الضد بالضد .

الثاني : لو كان جالساً تعالى على العرش لكان محدوداً متناهياً فكان يكون محدثاً .

الثالث : أنه قال { مَقَاماً } ولم يقل مقعداً{ مَّحْمُودًا } ، والمقام موضع القيام لا موضع القعود .

الرابع : أن الحمقى والجهال يقولون إن أهل الجنة يجلسون كلهم معه تعالى ويسألهم عن أحوالهم الدنيوية فلا مزية له بإجلاسه معه .

الخامس : أنه إذا قيل بعث السلطان فلاناً لا يفهم منه أجلسه مع نفسه انتهى . وفيه بعض تلخيص .

ولما أمره تعالى بإقامة الصلاة والتهجد ووعده بعثه { مَقَاماً مَّحْمُودًا } وذلك في الآخرة أمره بأن يدعوه بما يشمل أموره الدنيوية والأخروية ،

٨٠

وقل رب أدخلني . . . . .

فقال { وَقُل رَّبّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍ } والظاهر أنه عام في جميع موارده ومصادره دنيوية وأخروية ، والصدق هنا لفظ يقتضي رفع المذام واستيعاب المدح كما تقول : رجل صدق إذ هو مقابل رجل سوء .

وقال ابن عباس والحسن وقتادة : هو إدخال خاص وهو في المدينة ، وإخراج خاص وهو من مكة . فيكون المقدم في الذكر هو المؤخر في الوقوع ، ومكان الواو هو الأهم فبدىء به . وقال مجاهد وأبو صالح : ما معناه إدخاله فيما حمله من أعباء النبوة وأداء الشرع وإخراجه منه مؤدّياً لما كلفه من غير تفريط .

وقال الزمخشري : أدخلني القبر { مُدْخَلَ صِدْقٍ } إدخالاً مرضياً على طهارة وطيب من السيئات ، وأخرجني منه عند البعث إخراجاً مرضياً ملقى بالكرامة آمناً من السخط ، يدل عليه ذكره على ذكر البعث .

وقيل : إدخاله مكة ظاهراً عليها بالفتح ، وإخراجه منها آمناً من المشركين . وقال محمد بن المنكدر : إدخاله الغار وإخراجه منه سالماً .

وقيل : الإخراج من المدينة والإدخال مكة بالفتح .

وقيل : الإدخال في الصلاة والإخراج في الجنة والإخراج من مكة .

وقيل : الإدخال فيما أمر به والإخراج مما نهاه عنه .

وقيل :{ أَدْخِلْنِى } في بحار دلائل التوحيد والتنزيه ، { وَأَخْرِجْنِى } من الاشتغال بالدليل إلى معرفة المدلول والتأمل في آثار محدثاته إلى الاستغراق في معرفة الأحد الفرد . وقال أبو سهل : حين رجع من تبوك وقد قال المنافقون :{ لَيُخْرِجَنَّ الاْعَزُّ مِنْهَا الاْذَلَّ } يعني إدخال عز وإخراج نصر إلى مكة ، والأحسن في هذه الأقوال أن تكون على سبيل التمثيل لا التعيين ، ويكون اللفظ كما ذكرناه يتناول جميع الموارد والمصادر .

وقرأ الجمهور :{ مُدْخَلَ } و { مُخْرَجَ } بضم ميمهما وهو جار قياساً على أفعل مصدر ، نحو أكرمته

مكرماً أي إكراماً .

وقرأ قتادة وأبو حيوة وحميد وإبراهيم بن أبي عبلة بفتحهما . وقال صاحب اللوامح : وهما مصدران من دخل وخرج لكنه جاء من معنى { أَدْخِلْنِى }{ وَأَخْرِجْنِى } المتقدمين دون لفظهما ومثلهما { أَنبَتَكُمْ مّنَ الاْرْضِ نَبَاتاً } ويجوز أن يكونا اسم المكان وانتصابهما على الظرف ، وقال غيره : منصوبان مصدرين على تقدير فعل أي { أَدْخِلْنِى } فأدخل { مُدْخَلَ صِدْقٍ }{ وَأَخْرِجْنِى } فأخرج { مُخْرَجَ صِدْقٍ}

والسلطان هنا قال الحسن : التسليط على الكافرين بالسيف ، وعلى المنافقين بإقامة الحدود . وقال قتادة : ملكاً عزيزاً تنصرني به على كل من ناواني . وقال مجاهد : حجة بينة .

وقيل : كتاباً يحوي الحدود والأحكام .

وقيل : فتح مكة .

وقيل : في كل عصر { سُلْطَاناً } ينصرك دينك و { نَصِيراً } مبالغة في ناصر .

وقيل : فعيل بمعنى مفعول ، أي منصوراً ، وهذه الأقوال كلها محتملة لقوله { سُلْطَاناً نَّصِيرًا } وروي أنه تعالى وعده ذلك وأنجزه له في حياته وتممه بعد وفاته .

٨١

وقل جاء الحق . . . . .

قال قتادة : و { الْحَقّ } القرآن و { الْبَاطِلُ } الشيطان . وقال ابن جريج : الجهاد و { الْبَاطِلُ } الشرك .

وقيل : الإيمان والكفر . وقال مقاتل : جاءت عبادة اللّه وذهبت عبادة الشيطان ، وهذه الآية نزلت بمكة ثم إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يستشهد بها يوم فتح مكة وقت طعنه الأصنام وسقوطها لطعنه إياها بمخصرة حسبما ذكر في السير . و { زَهُوقًا } صفة مبالغة في اضمحلاله وعلم ثبوته في وقت مّا .

٨٢

وننزل من القرآن . . . . .

و { مِنْ } في { مِن ثُلُثَىِ } لابتداء الغاية .

وقيل للتبعيض قاله الحوفي : وأنكر ذلك لاستلزامه أن بعضه لا شفاء فيه ورد هذا الإنكار لأن إنزاله إنما هو مبعض .

وقيل : لبيان الجنس قاله الزمخشري وابن عطية وأبو البقاء ، وقد ذكرنا أن من التي لبيان الجنس لا تتقدم على المبهم الذي تبينه وإنما تكون متأخرة عنه .

وقرأ الجمهور : و { نُنَزّلُ } بالنون ومجاهد بالياء خفيفة ورواها المروزي عن حفص .

وقرأ زيد بن عليّ :{ شِفَاء وَرَحْمَةٌ } بنصبهما ويتخرج النصب على الحال وخبر هو قوله { لِلْمُؤْمِنِينَ } والعامل فيه ما في الجار والمجرور من الفعل ، ونظيره قراءة من قرأ { وَالسَّمَاواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } بنصب مطويات . وقول الشاعر : رهط ابن كوز محقي أدراعهم

فيهم ورهط ربيعة بن حذار

وتقديم الحال على العامل فيه من الظرف أو المجرور لا يجوز إلاّ عند الأخفش ، ومن منع جعله منصوباً على إضمار أعني وشفاؤه كونه مزيلاً للريب كاشفاً عن غطاء القلب بفهم المعجزات والأمور الدالة على اللّه المقررة لدينه ، فصار لعلات القلوب كالشفاء لعلات الأجسام .

وقيل : شفاء بالرقى والعوذ كما جاء في حديث الذي رقي بالفاتحة من لسعة العقرب . واختلفوا في النشرة وهو أن يكتب شيء من أسماء اللّه تعالى أو من القرآن ثم يغسل بالماء ثم يمسح به المريض أو يسقاه ، فأجاز ذلك ابن المسيب ولم يره مجاهد . وعن عائشة : كانت تقرأ بالمعوذتين في إناء ثم تأمر أن يصب على المريض . وقال أبو عبد اللّه المازني : النشرة أمر معروف عند أهل التعزيم ، سميت بذلك لأنها تنشر عن صاحبهما أي تحل ، ومنعها الحسن والنخعي . وروي أبو داود من حديث جابر أن الرسول صلى اللّه عليه وسلم قال وقد سئل عن النشرة : { هي من عمل الشيطان} . ويحمل ذلك على ما إذا كانت خارجة عما في كتاب اللّه وسنة الرسول ، والنشرة من جنس الطب في غسالة شيء له فضل .

وقال مالك : لا بأس بتعليق الكتب التي فيها أسماء اللّه تعالى على أعناق المرضى على وجه التبرك بها إذا لم يرد معلقها بذلك مدافعة العين ، وهذا معناه قبل أن ينزل به شيء من العين أما بعد نزول البلاء فيجوز رجاء الفرج والبرء والمرض كالرقى المباحة التي وردت السنة بها من العين وغيرها . وقال ابن المسيب : يجوز تعليق العوذة في قصبة أو رقعة من كتاب اللّه ويضعه عند الجماع وعند الغائط ، ورخص الباقر في العوذة تعلق على الصبيان وكان ابن سيرين لا يرى بأساً بالشيء من القرآن يعلقه الإنسان .

وخسار الظالمين وهم الذين يضعون الشيء في غير موضعه هو بإعراضهم عنه وعدم تدبره بخلاف المؤمن فإنه يزداد بالنظر فيه وتدبر معانيه إيماناً .

٨٣

وإذا أنعمنا على . . . . .

لما ذكر تعالى تنويع ما أنزل من القرآن شفاء ورحمة للمؤمن وبزيادة خسارة للظالم ، وعرّض بما أنعم به وما حواه من لطائف الشرائع على الإنسان ، ومع ذلك { أَعْرَضَ } عنه وبعد بجانبه اشمئزازاً له وتكبراً عن قرب سماعه وتبديلاً مكان شكر الإنعام كفره .

وقرأ الجمهور :{ وَنَأَى } من النأي وهو البعد ،

وقرأ ابن عامر وناء .

وقيل هو مقلوب نأى فمعناه بعد .

وقيل : معناه نهض بجانبه . وقال الشاعر : حتى إذا ما التأمت مفاصله

وناء في شق الشمال كاهله

أي نهض متوكئاً على شماله . ومعنى { يؤوساً } قنوطاً من أن ينعم اللّه عليه . والظاهر أن المراد بالإنسان هنا ليس واحداً بعينه بل المراد به الجنس كقوله { جَمْعاً إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبّهِ لَكَنُودٌ }{ إِنَّ الإنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً } الآية وهو راجع لمعنى الكافر ، والإعراض يكون بالوجه والنأي بالجانب يكون بتولية العطف أو يراد بنأي الجانب الاستكبار لأن ذلك من عادة المستكبرين .

٨٤

قل كل يعمل . . . . .

والشاكلة قال ابن عباس : ناحيته . وقال مجاهد : طبيعته . وقال الضحاك : حدّته . وقال قتادة والحسن : نيته . وقال ابن زيد : دينه . وقال مقاتل : خلقه وهذه أقوال متقاربة .

وقال الزمخشري : على مذهب الذي يشاكل حاله في الهدى والضلالة من قولهم طريق ذو شواكل وهي الطرق التي تشعبت منه ، والدليل عليه قوله { فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً } أي أشد مذهباً وطريقة .

وعن أبي بكر الصديق رضي اللّه تعالى عنه : لم أر في القرآن آية أرجى من التي فيها { غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ } قدم الغفران قبل قبول التوبة . وعن عثمان رضي اللّه عنه لم أر آية أرجى من { نَبّىء عِبَادِى أَنّى أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} وعن عليّ كرّم اللّه وجهه ورضي عنه لم أر آية أرجى من { قُلْ ياعِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللّه } الآية . قالوا ذلك حين تذاكروا القرآن . وعن القرطبي : لم أر آية أرجى من { الَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ } الآية .

وقال أبو عبد اللّه الرازي :

٨٥

ويسألونك عن الروح . . . . .

الأرواح والنفوس مختلفة بماهيتها فبعضها مشرقة صافية يظهر فيها من القرآن نور على نور ، وبعضها كدرة ظلمانية يظهر فيها من القرآن ضلال ونكال انتهى . وثبت في الصحيح من حديث ابن مسعود أنه قال : إني مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في حرث بالمدينة وهو متكىء على عسيب ، فمر بنا ناس من اليهود فقال : سلوه عن الروح فقال بعضهم : لا تسألوه فسيفتيكم بما تكرهون فأتاه نفر منهم فقالوا : يا أبا القاسم ما تقول في الروح ؟ فسكت ثم ماج فأمسكت بيدي

على جبهته ، فعرفت أنه ينزل عليه فأنزل عليه { وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ } الآية . وروي أن يهود قالوا لقريش : سلوه عن الروح وعن فتية فقدوا في أول الزمان ، وعن رجل بلغ شرق الأرض وغربها فإن أجاب في ذلك كله أو لم يجب في شيء فهو كذاب ، وإن أجاب في بعض ذلك وسكت عن بعض فهو نبي . وفي بعض طرق هذا : إن فسر الثلاثة فهو كذاب وإن سكت عن الروح فهو نبي فنزل في شأن الفتية { أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ } ونزل في شأن الذي بلغ الشرق والغرب { وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِى الْقَرْنَيْنِ } ونزل في الروح { وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ } والظاهر من حديث ابن مسعود أن الآية مدنية ومن سؤال قريش أنها مكية ، والروح على قول الجمهور هنا الروح التي في الحيوان وهو اسم جنس وهو الظاهر . وقال قتادة : هو جبريل عليه السلام قال وكان ابن عباس يكتمه .

وقيل : عيسى ابن مريم عليه السلام وعن عليّ أنه ملك ، وذكر من وصفه ما اللّه أعلم به ولا يصح عن عليّ .

وقيل : الروح القرآن ويدل عليه الآية قبله والآية بعده .

وقيل : خلق عظيم روحاني أعظم من الملك .

وقيل : الروح جند من جنود اللّه لهم أيد وأرجل يأكلون الطعام ذكره العزيزي . وقال أبو صالح خلق كخلق آدم وليسوا بني آدم لهم أيد وأرجل ، ولا ينزل ملك من السماء إلاّ ومعه واحد منهم ، والصحيح من هذه الأقوال القول الأول ، والظاهر أنهم سألوا عن ماهيتها وحقيقتها

وقيل عن كيفية مداخلتها الجسد الحيواني وانبعاثها فيه وصورة ملابستها له ، وكلاهما مشكل لا يعلمه قبل إلاّ اللّه . وقد رأيت كتاباً يترجم بكتاب النفخة والتسوية لبعض الفقهاء المتصوفة يذكر فيها أن الجواب في قوله { قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّى } إنما هو للعوام ،

وأما الخواص فهم عنده يعرفون الروح ، وأجمع علماء الإسلام على أن الروح مخلوقة ، وذهب كفرة الفلاسفة وكثير ممن ينتمي إلى الإسلام إلى أنها قديمة واختلاف الناس في الروح بلغ إلى سبعين قولاً ، وكذلك اختلفوا هل الروح النفس أم شيء غيرها ، ومعنى { مِنْ أَمْرِ رَبّى } أي فعل ربي كونها بأمره ، وفي ذلك دلالة على حدوثها والأمر بمعنى الفعل وارد قال تعالى { وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ } أي فعله ، ويحتمل أن يكون أمراً واحداً الأمور وهو اسم جنس لها أي من جملة أمور اللّه التي استأثر بعلمها .

وقيل : من وحي ربي ، وكلامه ليس من كلام البشر ويتخرج على قول من قال إن الروح هنا القرآن .

وقيل : من علم ربي والظاهر أن الخطاب في { وَمَا أُوتِيتُم } هم الذين سألوا عن الروح وهم طائفة من اليهود .

وقيل اليهود بجملتهم .

وقيل الناس كلهم .

قال ابن عطية : وهذا هو الصحيح لأن قوله { قُلِ الرُّوحُ } إنما هو أمر بالقول لجميع العالم إذ جميع علومهم محصورة وعلمه تعالى لا يتناهى .

وقرأ عبد اللّه بن مسعود والأعمش : وما أوتوا بضمير الغيبة عائداً على السائلين ،

٨٦

ولئن شئنا لنذهبن . . . . .

ولما ذكر تعالى ما أنعم به من تنزيل القرآن على رسوله صلى اللّه عليه وسلم شفاء ورحمة وقدرته على ذلك ، ذكر قدرته على أنه لو شاء لذهب بما أوحى ولكنه تعالى لم يشأ ذلك والمعنى أنّا كما نحن قادرون على إنزاله نحن قادرون على إذهابه . وقال أبو سهل : هذا تهديد لغير الرسول صلى اللّه عليه وسلم بإذهاب ما أوتوا ليصدهم عن سؤال ما لم يؤتوا كعلم الروح وعلم الساعة . وروي لا تقوم الساعة حتى يرتفع القرآن والحديث وفي حديث ابن مسعود يسري به في ليلة فيذهب بما في المصاحف وبما في القلوب ، ثم قرأ عبد اللّه { وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} وقال صاحب التحرير : ويحتمل عندي في تأويل الآية وجه غير ما ذكر وهو أنه صلى اللّه عليه وسلم لما أبطأ عليه الوحي لما سُئل عن الروح شق ذلك عليه وبلغ منه الغاية ، فأنزل اللّه تعالى تهذيباً له هذه الآية . ويكون التقدير أيعز عليك تأخر الوحي فإنّا لو شئنا ذهبنا بما { أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } جميعه فسكت النبي صلى اللّه عليه وسلم وطاب قلبه ولزم الأدب انتهى . والباء في { لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِى } للتعدية كالهمزة وتقدم الكلام على ذلك في قوله { لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ } في أوائل سورة البقرة . والكفيل هنا قيل من يحفظ ما أوحينا

إليك .

وقيل كفيلاً بإعادته إلى الصدور .

وقيل كفيلاً يضمن لك أن يؤتيك ما أخذ منك .

وقال الزمخشري : والمعنى إن شئنا ذهبنا بالقرآن ومحوناه عن الصدور والمصاحف ولم نترك له أثراً وبقيت كما كنت لا تدري ما الكتاب ثم لا تجد لك بهذا الذهاب من يتوكل علينا باسترداده وإعادته محفوظاً مسطوراً

٨٧

إلا رحمة من . . . . .

{إِلاَّ رَحْمَةً مّن رَّبّكَ } إلا أن يرحمك ربك فيرده عليك كان رحمته يتوكل عليه بالرد أو يكون على الاستثناء المنقطع بمعنى ولكن رحمة من ربك نتركه غير مذهوب به ، وهذا امتنان من اللّه تعالى ببقاء القرآن محفوظاً بعد المنة في تنزيله وتحفيظه انتهى . وعلى الاستثناء المنقطع خرجه ابن الأنباري وابن عطية .

قال ابن الأنباري : لكن رحمة من ربك تمنع من أن تسلب القرآن ، وقال في زاد المسير المعنى لكن اللّه يرحمك فأثبت ذلك في قلبك . و

قال ابن عطية : لكن { رَحْمَةً مّن رَّبّكَ } تمسك ذلك عليك وتخريج الزمخشري الأول جعله استثناء متصلاً جعل رحمته تعالى مندرجة تحت قوله تعالى { وَكِيلاً}

٨٨

قل لئن اجتمعت . . . . .

{قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَاذَا الْقُرْءانِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}

لما ذكر تعالى إنعامه على نبيه صلى اللّه عليه وسلم بالنبوّة بإنزال وحيه عليه وباهر قدرته بأنه تعالى لو شاء لذهب بالقرآن ، ذكر ما منحه تعالى من الدليل على نبوته الباقي بقاء الدهر ، وهو القرآن الذي عجز العالم عن الإتيان بمثله ، وأنه من أكبر النعم والفضل الذي أبقى له ذكراً إلى آخر الدهر ورفع له قدراً به في الدنيا والآخرة ، وإذا كان فصحاء اللسان الذي نزل به وبلغاؤهم عجزوا عن الإتيان بسورة واحدة مثله فلأن يكونوا أعجز عن { أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ } جميعه ، ولو تعاون الثقلان عليه { لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ } الجنّ تفعل أفعالاً مستغربة كما حكى اللّه عنهم في قصة سليمان عليه السلام أدرجوا مع الإنس في التعجيز ليكون ذلك أبلغ في العجز ، ويحتمل أن تكون الملائكة مندرجين تحت لفظ الجن لأنه قد يطلق عليهم هذا الاسم كقوله { وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً } وإن كان الأكثر استعماله في غير الملائكة من الأشكال الجنية المستترين عن أبصار الإنس ، ويحتمل أن يكون ذكر الجن هنا لأنه عليه السلام بعث إلى الإنس والجن فوقع التعجيز للثقلين معاً لذلك .

وروي أن جماعة من قريش قالوا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : جئنا بآية غريبة غير هذا القرآن فإنّا نحن نقدر على المجيء بمثل هذا ، فنزلت { وَلاَ يَأْتُونَ } جواب القسم المحذوف قبل اللام الموطئة في { لَئِنْ } وهي الداخلة على الشرط كقوله { لَئِنْ أُخْرِجُواْ لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ } فالجواب في نحو هذا للقسم المحذوف لا للشرط ، ولذلك جاء مرفوعاً . فأما قول الأعشى : لئن منيت بنا عن غب معركة

لأتلفنا عن دماء القوم ننتفل فاللام في { لَئِنْ } زائدة وليست موطئة لقسم قبلها . فلذلك جزم في قوله لأتلفنا وقد احتج بهذا ونحوه الفراء في زعمه أنه إذا اجتمع القسم والشرط وتقدم القسم ولم يسبقهما ذو خبر أنه يجوز أن يكون الجواب للقسم وهو الأكثر وللشرط ، ومذهب البصريين يحتم الجواب للقسم خاصة . وذكر ابن عطية هنا فصلاً حسناً في ذكر الإعجاز نقلناه بقصته . قال : وفهمت

العرب بخلوص فهمها في ميز الكلام ودريتها به ما لا نفهمه نحن ولا كل من خالطته حضارة ، ففهموا العجز عنه ضرورة وشاهده وعلمه الناس بعدهم استدلالاً ونظراً ولكل حصل علم قطعي لكن ليس في مرتبة واحدة ، وهذا كما علمت الصحابة شرع النبيّ صلى اللّه عليه وسلم وأعماله ومشاهده علم ضرورة ، وعلمنا نحن المتواتر من ذلك بنقل التواتر فحصل للجميع القطع لكن في مرتبتين ، وفهم إعجاز القرآن أرباب الفصاحة الذين لهم غرائب في ميز الكلام ، ألا ترى إلى فهم الفرزدق شعر جرير وذي الرمّة في قول الفرزدق :

علام تلفتين وأنت تحتي

وفي قول جرير :

تلفت إنها تحت ابن قين

وألا ترى قول الأعرابي : عز فحكم فقطع ، وألا ترى إلى الاستدلال الآخر على البعث بقوله { حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ } فقال : إن الزيارة تقتضي الإنصراف ، ومنه علم بشار بقول أبي عمرو بن العلاء في شعر الأعشى :

وأنكرتني وما كان الذي نكرت

ومنه قول الأعرابي للأصمعي .

من أحوج الكريم أن يقسم

فهم مع هذه الأفهام أقروا بالعجز ، ولجأ النجاد منهم إلى السيف ورضي بالقتل والسباء وكشف الحرم . وهو كان يجد المندوحة عن ذلك بالمعارضة انتهى . ما اقتصرنا عليه من كلامه وكان قد قدم قبل ذلك قوله والعجز في معارضة القرآن إنما وقع في النظم ، وعلة ذلك الإحاطة التي لا يتصف بها إلاّ اللّه عز وجل والبشر مقصر ضرورة بالجهل والنسيان والغفلة وأنواع النقص ، فإذا نظم كلمة خفي عنه العلل التي ذكرنا .

وقال الزمخشري :{ وَلاَ يَأْتُونَ } جواب قسم محذوف ، ولو لا اللام الموطئة لجاز أن تكون جواباً للشرط . كقوله .

يقول لا غائب مالي ولا حرم

لأن الشرط وقع ماضياً انتهى . يعني بالشرط قوله وهو صدر البيت

وإن أتاه خليل يوم مسألة

فأتاه فعل ماض دخلت عليه أداة الشرط فخلصته للاستقبال ، وأفهم كلام الزمخشري أن يقول : وإن كان مرفوعاً هو جواب الشرط الذي هو وإن أتاه ، وهذا الذي ذهب إليه هو مخالف لمذهب سيبويه ولمذهب الكوفيين والمبرد ، لأن مذهب سيبويه في مثل هذا التركيب وهو أن يكون فعل الشرط ماضياً وبعده مضارع مرفوع أن ذلك المضارع هو على نية التقديم وجواب الشرط محذوف ، ومذهب الكوفيين والمبرد أنه الجواب لكنه على حذف الفاء ، ومذهب ثالث وهو أنه هو جواب الشرط وهو الذي قال به الزمخشري والكلام على هذه المذاهب مذكور في علم النحو .

وقال الزمخشري : والعجب من المذاهب ومن زعمهم أن القرآن قديم مع اعترافهم بأنه معجز ، وإنما يكون المعجز حيث تكون القدرة فيقال : اللّه قادر على خلق الأجسام والعباد عاجزون عنه ، والمحال الذي لا مجال للقدرة فيه ولا مدخل لها فيه كثاني القديم فلا يقال للفاعل قد عجز عنه ولا هو معجز ، ولو قيل ذلك لجاز وصف اللّه بالعجز لأنه لا يوصف بالقدرة على المحال إلاّ أن يكابروا فيقولوا : هو قادر على المحال فإن رأس مالهم المكابرة وقلب الحقائق انتهى . وتكرر لفظ مثل في قوله : { لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ } على سبيل التأكيد والتوضيح ، وأن المراد منهم { أَن يَأْتُواْ } بمثله إذ قد يراد بمثل الشيء في موضع الشيء نفسه ، فبين بتكرار { بِمِثْلِهِ } ولم يكن التركيب { لاَ يَأْتُونَ } به رفعاً لهذا الاحتمال ، وأن المطلوب منهم أن يأتوا بالمثل لا أن يأتوا بالقرآن .

٨٩

ولقد صرفنا للناس . . . . .

ولما ذكر تعالى عجز الإنس والجن عن أن يأتوا بمثل هذا القرآن نبه على فضله تعالى بما ردّد فيه وضرب من الأمثال والعبر التي تدل على توحيده تعالى ، ومع كثرة ما ردد من الأمثلة وأسبغ من النعم لم يكونوا إلاّ كافرين به وبنعمه .

وقرأ الجمهور : { صَرَفْنَا } بتشديد الراء والحسن بتخفيفها ، والظاهر أن مفعول { صَرَفْنَا } محذوف تقديره البينات والعبر و { مِنْ } لابتداء الغاية . و

قال ابن عطية : ويجوز أن تكون مؤكدة زائدة التقدير ولقد { صَرَفْنَا }{ كُلّ مَثَلٍ } انتهى . يعني فيكون مفعول { صَرَفْنَا }{ كُلّ مَثَلٍ } وهذا التخريج هو على مذهب الكوفيين والأخفش لا على مذهب جمهور البصريين ، والظاهر أن المراد بالمثل هو القول الغريب السائر في الآفاق ، والقرآن ملآن من الأمثال التي ضربها اللّه تعالى .

وقال الزمخشري :{ مِن كُلّ مَثَلٍ } من كل معنى هو كالمثل في غرابته وحسنه . وقال أبو عبد اللّه الرازي :{ مِن كُلّ مَثَلٍ } إشارة إلى التحدّي به بالجهات المختلفة كالتحدي بكل القرآن كالذي هنا ، وبسورة مثله وبكلام من سورة كقوله { فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مّثْلِهِ } ومع ظهور عجزهم أبو { إِلاَّ كُفُورًا } انتهى ملخصاً .

وقيل :{ مِن كُلّ مَثَلٍ } من الترغيب والترهيب وأنباء الأولين والآخرين وذكر الجنة والنار وأكثر الناس . قيل : من كان في عهد الرسول من المشركين وأهل الكتاب .

وقيل : أهل مكة وهو الظاهر بدليل ما أتى بعده من قوله { وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ } وتقدم القول في دخول { إِلا } بعد { أَبَى } في سورة براءة . وروي في مقالتهم هذه أخبار مطولة هي في كتب الحديث والسير ملخصها أن صناديد قريش اجتمعوا وسيروا للنبيّ صلى اللّه عليه وسلم ، فلما جاء إليهم جرت بينهم محاورات في ترك دينهم وطلبه منهم أن يوحدوا ويعبدوا اللّه فأرغبوه بالمال والرئاسة والملك فأبى ، فقال : { لست أطلب ذلك} . فاقترحوا عليه الست الآيات التي ذكرها اللّه هنا ،

٩٠

وقالوا لن نؤمن . . . . .

ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما تحداهم بأن { قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ } فتبين عجزهم عن ذلك وإعجازه ، وانضمت إليه معجزات أخر وبينات واضحة فلزمتهم الحجة وغلبوا أخذوا يتعللون باقتراح آيات فعل الحائر المبهوت المحجوج ، فقالوا ما حكاه اللّه عنهم .

وقرأ الكوفيون :{ تفجره } من فجر مخففاً وباقي السبعة من فجر مشدداً ، والتضعيف للمبالغة لا للتعدية ، والأعمش وعبد اللّه بن مسلم بن يسار من أفجر رباعياً وهي لغة في فجر الأرض هنا أرض مكة وهي الأرض التي فيها تصرف العالمين ومعاشهم ، روي عنهم أنهم قالوا له : أزل جبال مكة وفجر لنا { الاْرْضِ يَنْبُوعًا}

حتى يسهل علينا الحرث والزرع وأحي لنا قصياً فإنه كان صدوقاً يخبرنا عن صدقك

٩١

أو تكون لك . . . . .

اقترحوا لهم أولاً هذه الآية ثم اقترحوا أخرى له عليه السلام أن { تَكُونُ } له { جَنَّةٌ مّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ } وهما كنا الغالب على بلادهم ، ومن أعظم ما يقتنون ، ومعنى { خِلاَلَهَا } أي وسط تلك الجنة وأثناءها . فتسقي ذلك النخل وتلك الكروم وانتصب { خِلاَلَهَا } على الظرف .

٩٢

أو تسقط السماء . . . . .

وقرأ الجمهور : { تُسْقِطَ } بتاء الخطاب مضارع أسقط السماء نصباً ، ومجاهد بياء الغيبة مضارع سقط السماء رفعاً ، وابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي { كِسَفًا } بسكون السين وباقي السبعة بفتحها . وقولهم { كَمَا زَعَمْتَ } إشارة إلى قوله تعالى { إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الاْرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مّنَ السَّمَاء}

وقيل :{ كَمَا زَعَمْتَ } إن ربك إن شاء فعل .

وقيل : هو ما في هذه السورة من قوله { أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرّ أَوْ نُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} قال بو عليّ{ قَبِيلاً } معاينة كقوله { لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَئِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا} وقال غيره :{ قَبِيلاً } كفيلاً بما تقول شاهداً لصحته ، والمعنى أو تأتي باللّه { قَبِيلاً } والملائكة { قَبِيلاً } كقوله : كنت منه ووالدي بريا

وإني وقيار بها لغريب

أي مقابلاً كالعشير بمعنى المعاشر ونحوه { لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَئِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا } أو جماعة حالاً من الملائكة .

وقرأ الأعرج قبلاً م المقابلة .

٩٣

أو يكون لك . . . . .

وقرأ الجمهور : { مّن زُخْرُفٍ } وعبد اللّه من ذهب ، ولا تحمل على أنها قراءة لمخالفة السواد وإنما هي تفسير . وقال مجاهد : كنا لا ندري ما الزخرف حتى رأيت في قراءة عبد اللّه من ذهب . وقال الزجّاج : الزخرف الزينة وتقدم شرح الزخرف .{ وَفِى السَّمَاء } على حذف مضاف ، أي في معارج السماء . والظاهر أن { السَّمَاء } هنا هي المظلة .

وقيل : المراد إلى مكان عال وكل ما علا وارتفع يسمى سماء . وقال الشاعر : وقد يسمى سماء كل مرتفع

وإنما الفضل حيث الشمس والقمر

قيل : وقائل هذه هو ابن أبي أمية قال : ابن نؤمن حتى تضع على السماء سلماً ثم ترقى فيه وأنا أنظر حتى تأتيها ثم تأتي معك بصك منشور معه أربعة من الملائكة يشهدون لك أن الأمر كما تقول ، ويحتمل أن يكون مجموع أولئك الصناديد قالوا ذلك وغيوا إيمانهم بحصول واحد من هذه المقترحات ، ويحتمل أن يكون كل واحد اقترح واحداً منها ونسب ذلك للجميع لرضاهم به أو تكون {أَوْ } فيها للتفضيل أي قال كل واحد منهم مقالة مخصوصة منها ، وما اكتفوا بالتغيية بالرقي { فِى السَّمَاء } حتى غيوا ذلك بأن ينزل عليهم { كِتَاباً } يقرؤونه ، ولما تضمن اقتراحهم ما هو مستحيل في حق اللّه تعالى وهو أن يأتي { بِاللّه وَالْمَلَئِكَةِ قَبِيلاً } أمره تعالى بالتسبيح والتنزيه عما لا يليق به ، ومن أن يقترح عليه ما ذكرتم فقال { سُبْحَانَ رَبّى هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً } أي ما كنت إلاّ بشراً رسولاً أي من اللّه إليكم لا مقترحاً عليه ما ذكرتم من الآيات .

وقال الزمخشري : وما كانوا يقصدون بهذه الاقتراحات إلاّ العناد واللجاج ، ولو جاءتهم كل أية لقالوا هذا سحر كما قال عز وعلا { وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِى قِرْطَاسٍ وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِنَ السَّمَاء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ } وحين أذكروا . الآية الباقية التي هي القرآن وسائر الآيات ، وليست بدون ما اقترحوه بل هي أعظم لم يكن انتهى وشق

القمر أعظم من شق الأرض ونبع الماء من بين أصابعه أعظم من نبع الماء من الحجر .

وقرأ ابن كثير وابن عامر قال { سُبْحَانَ رَبّى } على الخبر تعجب عليه الصلاة والسلام من اقتراحاتهم عليه ، ونزه ربه عما جوزوا عليه من الإتيان والانتقال وذلك في حق اللّه مستحيل { هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا } مثلهم { رَسُولاً } ، والرسل لا تأتي إلاّ بما يظهره اللّه عليهم من الآيات وليس أمرها إليهم إنما ذلك إلى اللّه .

 ٩٤

 انظر تسفير الآية:٩٥

٩٥

وما منع الناس . . . . .

الظاهر أن قوله :{ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ } إخبار من اللّه تعالى عن السبب الضعيف الذي منعهم من الإيمان ، إذ ظهر لهم المعجز وهو استبعاد أن يبعث اللّه رسولاً إلى الخلق واحداً منهم ولم يكن ملكاً ، وبعد أن ظهر المعجز فيجب الإقرار والاعتراف برسالته فقولهم : لا بد أن يكون من الملائكة تحكم فاسد ، ويظهر من كلام ابن عطية أن قوله { وَمَا مَنَعَ النَّاسَ } هو من قول الرسول صلى اللّه عليه وسلم قال هذه الآية على معنى التوبيخ والتلهف من النبيّ عليه الصلاة والسلام كأنه يقول متعجباً منهم ما شاء اللّه كان { مَا مَنَعَكَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى إِلاَّ } هذه العلة النزرة والاستبعاد الذي لا يسند إلى حجة ، وبعثة البشر رسلاً غير بدع ولا غريب فيها يقع الإفهام والتمكن من النظر كما لو كان في الأرض ملائكة يسكنونها مطمئنين لكان الرسول إليهم من الملائكة ليقع الإفهام ،

وأما البشر فلو بعث إليهم ملك لنفرت طبائعهم من رؤيته ولم تحتمله أبصارهم ولا تجلدت له قلوبهم ، وإنما اللّه أجرى أحوالهم على معتادها انتهى .

و { أَن يُؤْمِنُواْ } في موضع نصب و { أَن قَالُواْ } : في موضع رفع ، و { إِذْ } ظرف العامل فيه منع الناس كفار قريش القائلون تلك المقالات السابقة و { الْهُدَى } هو القرآن ومن جاء به ، وليس المراد مجرد القول بل قولهم الناشىء عن اعتقاد والهمزة في { أَبَعَثَ } للإنكار و { رَسُولاً } ظاهره أن نعت ، ويجوز أن يكون { رَسُولاً } مفعول بعث ، و { بَشَرًا } حال متقدمة عليه أي { أَبَعَثَ اللّه رَسُولاً } في حال كونه { بَشَرًا } ، وكذلك يجوز في قوله { مَلَكًا رَّسُولاً } أي { لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مّنَ السَّمَاء }{ رَسُولاً } في حال كونه { مَلَكًا} وقوله { يَمْشُونَ } يتصرفون فيها بالمشي وليس لهم صعود إلى السماء فيسمعوا من أهلها ويعلمون ما يجب علمه ، بل هم مقيمون في الأرض يلزمهم ما يلزم المكلفين من عبادات مخصوصة وأحكام لا يدرك تفصيلها بالعقل ، { لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم } من جنسهم من يعلمهم ذلك ويلقيه إليهم .

٩٦

قل كفى باللّه . . . . .

ولما دعاهم صلى اللّه عليه وسلم إلى الإيمان وتحدى على صدق نبوته بالمعجز الموافق لداعوه ، أمره تعالى أن يعلمهم بأنه تعالى هو الشهيد بينه وبينهم على تبليغه وما قام به من أعباء الرسالة وعدم قبولهم وكفرهم ، وما اقترحوا عليه من الآيات على سبيل العناد ، وأردف ذلك بما فيه تهديد وهو قوله { إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا } بخفيات أسرارهم { بَصِيراً } مطلقاً على ما يظهر من أفعالهم وأقوالهم .

٩٧

ومن يهد اللّه . . . . .

والظاهر أن قوله : { وَمَن يَهْدِ اللّه } إخبار من اللّه تعالى وليس مندرجاً تحت { قُلْ } لقوله { وَنَحْشُرُهُمْ } ويحتمل أن يكون مندرجاً لمجيء { وَمِنْ } بالواو ، ويكون { وَنَحْشُرُهُمْ } إخباراً من اللّه تعالى . وعلى القول الأول يكون التفاتاً إذ خرج من الغيبة للتكلم ، ولما تقدم دعوة الرسول إلى الإيمان وتحدى بالمعجز الذي آتاه اللّه ، ولجوّا في كفرهم وعنادهم ولم يجد فيهم ما جاء به من الهدى أخبر بأن ذلك كله راجع إلى مشيئته تعالى وأنه هو الهادي وهو المفضل ، فسلاه تعالى بذلك وأخبر تعالى على سبيل التهديد لهم والوعيد الصدق لحالهم وقت حشرهم يوم القيامة .

وقال الزمخشري :{ وَمَن يَهْدِ اللّه } ومن يوفقه ويلطف به { فَهُوَ الْمُهْتَدِى } لأنه لا يلطف إلاّ بمن عرف أن اللطف ينفع فيه

{وَمَن يُضْلِلِ } ومن يخذل { فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاء } أنصاراً انتهى . وهو على طريقة الأعتزال ومن مفعول بيهد وبيضلل ، وحمل على اللفظ في قوله { فَهُوَ الْمُهْتَدِى } فأفرد ملاحظة لسبيل الهدى وهو واحدة فناسرب التوحيد التوحيد ، وحمل على المعنى في قوله { فَلَنْ نَجِدْ لَهُمْ أَوْلِيَاء } لا على اللفظ ملاحظة لسبيل الضلال فإنها متشعبة متعددة فناسب التشعيب والتعديد الجمع ، وهذا من المواضع التي جاء فيها الحمل على المعنى ابتداءً من غير أن يتقدّم الحمل على اللفظ وهي قليلة في القرآن ، والظاهر أن قوله { عَلَى وُجُوهِهِمْ } حقيقة كما قال تعالى { يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ } الذي يحشرون على وجوههم إلى جهنم . وفي هذا حديث قيل : يا رسول اللّه كيف يمشي الكافر على وجهه ؟ قال : { أليس الذي أمشاه في الدنيا على رجلين قادراً أن يمشيه في الآخرة على وجهه} . قال قتادة : بلى وعزة ربنا .

وقيل :{ عَلَى وُجُوهِهِمْ } مجاز يقال للمنصرف عن أمر خائباً مهموماً انصرف على وجهه ، ويقال للبعير كأنما يمشي على وجهه .

وقيل : هو مجاز عن سحبهم على وجوههم على سرعة من قول العرب قدم القوم على وجوههم إذا أسرعوا .

والظاهر أن قوله { عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمّا } هو حقيقة وذلك عند قيامهم من قبورهم ، ثم يرد اللّه إليهم أبصارهم وسمعهم ونطقهم فيرون النار ويسمعون زفيرها وينطقون بما حكى اللّه عنهم .

وقيل : هي استعارات إما لأنهم من الحيرة والذهول يشبهون أصحاب هذه الصفات ،

وإما من حيث لا يرون ما يسرهم ولا يسمعونه ولا ينطقون بحجة .

وقال الزمخشري : كما كانوا في الدنيا لا يستبصرون ولا ينطقون بالحق ويتصامّون عن سماعه فهم في الآخرة كذلك لا يبصرون ما يقرّ أعينهم ولا يسمعون ما يلذ أسماعهم ولا ينطقون بما يقبل منهم ، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى انتهى . وهذا قول ابن عباس والحسن قالا المعنى { عُمْيًا } عما يسرهم ، { بكماً } عن التكلم بحجة { عَلَيْهَا صُمّاً } عما ينفعهم .

وقيل :{ عُمْيًا } عن النظر إلى ما جعل اللّه لأوليائه ، { بكماً } عن مخاطبة اللّه، { عَلَيْهَا صُمّاً } عما مدح اللّه به أولياءه ، وانتصب { عُمْيًا } وما بعد على الحال والعامل فيها { نَحْشُرُهُمْ}

وقيل : يحصل لهم ذلك حقيقة عند قوله { قَالَ اخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ } فعلى هذا تكون حالاً مقدرة لأن ذلك لم يكن مقارناً لهم وقت الحشر .

{كُلَّمَا خَبَتْ } قال ابن عباس : كلما فرغت من إحراقهم فيسكن اللّهيب القائم عليهم قدر ما يعادون ثم يثور فتلك زيادة السعير ، فالزيادة في حيزهم ،

وأما جهنم فعلى حالها من الشدّة لا يصيبها فتور ، فعلى هذا يكون { خَبَتْ } مجازاً عن سكون لهم مقدار ما تكون إعادتهم

٩٨

ذلك جزاؤهم بأنهم . . . . .

كأنهم لما كذبوا بالإعادة بعد الإفناء جعل اللّه جزاءهم أن سلط النار على أجزائهم تأكلها وتفنيها ثم يعيدها ، لا يزالون على الإفناء والإعادة ليزيد ذلك في تحسيرهم على تكذيبهم ولأنه أدخل في الانتقام من الجاحد ، وقد دل على ذلك بقوله { ذَلِكَ جَزَاؤُهُم } والإشارة بذلك إلى ما تقدم من حشرهم على تلك الحال وصيرورتهم إلى جهنم والعذاب فيها ، والآيات تعم القرآن والحجج التي جاء بها الرسول صلى اللّه عليه وسلم ونص على إنكار البعث إذ هو طعن في القدرة الإلهية وهذا مع اعترافهم بأنه تعالى منشىء العالم ومخترعه ، ثم إنهم ينكرون الإعادة فصار ذلك تعجيزاً لقدرته .

وتقدم الكلام على قوله { وَقَالُواْ أَءذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً } في هذه السورة فأغنى عن إعادته ،

٩٩

أولم يروا أن . . . . .

ولما أنكروا البعث نبههم تعالى على عظيم قدرته وباهر حكمته فقال : {أَوَ لَمْ يَرَوْاْ } وهو استفهام إنكار وتوبيخ لهم على ما كانوا يستبعدونه من الإعادة ، واحتجاج عليهم بأنهم قد رأوا قدرة اللّه على خلق هذه الأجرام العظيمة التي بعض ما تحويه البشر ، فكيف يقرون بخلق هذا المخلوق العظيم ثم ينكرون إعادة بعض مما خلق وذلك مما لا يحيله العقل بل هو مما يجوزه ، ثم أخبر الصادق بوقوعه فوجب قبوله والرؤية هنا رؤية القلب وهي العلم ، ومعنى { مّثْلُهُمْ } من الإنس لأنهم ليسوا أشد خلقاً منهن كما قال { أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا } وإذا كان قادراً على إنشاء أمثالهم من الإنس من العدم الصرف فهو قادر على أن يعيدهم كما قال { وَهُوَ الَّذِى يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ } وهو أهون عليه . وعطف قوله { وَجَعَلَ لَهُمْ } على قوله

{أَوَ لَمْ يَرَوْاْ } لأنه استفهام تضمن التقرير والمعنى قد علموا بدليل العقل كيت وكيت { وَجَعَلَ لَهُمْ } أي للعالمين ذلك { أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ } وهو الموت أو القيامة ، وليس هذا الجعل واحداً في الاستفهام المتضمن التقرير ، أو إن كان الأجل القيامة لأنهم منكروها وإذا كان الأجل الموت فهو اسم جنس واقع موقع آجال :{ فَأَبَى الظَّالِمُونَ } وهم الواضعون الشيء غير موضعه على سبيل الاعتداء { إِلاَّ كُفُورًا } حجوداً لما أتى به الصادق من توحيد اللّه وإفراده بالعبادة ، وبعثهم يوم القيامة للجزاء .

١٠٠

قل لو أنتم . . . . .

مناسبة قوله { قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ } الآية أن المشركين قالوا : لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً . فطلبوا إجراء الأنهار والعيون في بلدهم لتكثر أقواتهم وتتسع عليهم ، فبين تعالى أنهم لو ملكوا خزائن رحمة اللّه لبقوا على بخلهم وشحهم ، ولما قدموا على إيصال النفع لأحد ، وعلى هذا فلا فائدة في إسعافهم بما طلبوا هذا ما قيل في إرتباط هذه الآية . وقاله العسكري : والذي يظهر لي أن المناسب هو أنه عليه السلام قد منحه اللّه ما لم يمنحه لأحد من النبوة والرسالة إلى الإنس والجن ، فهو أحرص الناس على إيصال الخير وإنقاذهم من الضلال يثابر على ذلك ويخاطر بنفسه في دعائهم إلى اللّه ، ويعرض ذلك على القبائل وأحياء العرب سمحاً بذلك لا يطلب منهم أجراً ، وهؤلاء أقرباؤه لا يكاد يجيب منهم أحد إلاّ الواحد بعد الواحد قد لجوا في عناده وبغضائه ، فلا يصل منهم إليه إلاّ الأذى ، فنبه تعالى بهذه الآية على سماحته عليه السلام وبذله ما آتاه اللّه ، وعلى امتناع هؤلاء أن يصل منهم شيء من الخير إليه فقال : لو ملكوا التصرف في { خَزَائِنُ رَحْمَةِ } اللّه التي هي وسعت كل شيء كانوا أبخل من كل أحد بما أوتوه من ذلك بحيث لا يصل منهم لأحد شيء من النفع إذ طبيعتهم الإقتار وهو الإمساك عن التوسع في النفقة ، هذا مع ما أوتوه من الخزائن ، فهذه الآية جاءت مبينة تبين ما بينهم وبينه عليه الصلاة والسلام من حرصه على نفعهم وعدم إيصال شيء من الخير منهم إليه ، والمستقرأ في { لَوْ } التي هي حرف لما كان سيقع لوقوع غيره أن يليها الفعل إما ماضياً

وإما مضارعاً . كقوله { لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً } أو منفياً بلم أو ان وهنا في قوله { قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ } وليها الاسم فاختلفوا في تخريجه ، فذهب الحوفي والزمخشري وابن عطية وأبو البقاء وغيرهم إلى أنه مرفوع بفعل محذوف يفسره الفعل بعده ، ولما حذف ذلك الفعل وهو تملك انفصل الضمير وهو الفاعل بتملك كقوله : .

وإن هو لم يحمل على النفس ضميها . التقدير وإن لم يحمل فحذف لم يحمل وانفصل الضمير المستكن في يحمل فصار هو ، وهنا انفصل الضمير المتصل البارز وهو الواو فصار { أَنتُمْ } ، وهذا التخريج بناء على أن { لَوْ } يليها الفعل ظاهراً ومضمراً في فصيح الكلام ، وهذا ليس بمذهب البصريين .

قال الاستاذ أبو الحسن بن عصفور : لا تلي لو إلاّ الفعل ظاهرا و لا يليها مضمراً إلاّ في ضرورة أو نادر كلام مثل : ما جاء في المثل من قولهم :

لو ذات سوار لطمتني

وقال شيخنا الاستاذ أبو الحسن بن الصائغ :

البصريون يصرحون بامتناع لو زيد قام لأكرمته على الفصيح ، ويجيزونه شاذاً كقولهم .

لو ذات سوار لطمتني وهو عندهم على فعل مضمر كقوله تعالى { وَإِنْ أَحَدٌ مّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ } فهو من باب الاشتغال انتهى . وخرّج ذلك أبو الحسن عليّ بن فضال المجاشعي على إضمار كان ، والتقدير { قُل لَّوْ } كنتم { أَنتُمْ } تملكون فظاهر هذا التخريج أنه حذف كنتم برمته وبقي { أَنتُمْ } توكيداً لذلك الضمير المحذوف مع الفعل ، وذهب شيخنا الأستاذ أبو الحسن الصائغ إلى حذف كان فانفصل اسمها الذي كان متصلاً بها ، والتقدير { قُل لَّوْ } كنتم { تَمْلِكُونَ } فلما حذف الفعل انفصل المرفوع ، وهذا التخريج أحسن لأن حذف كان بعد { لَوْ } معهود في لسان العرب ، والرحمة هنا الرزق وسائر نعمه على خلقه .

والكلام على { إِذًا لأمْسَكْتُمْ } تقدم نظيره في قوله { إِذًا لأَذَقْنَاكَ } و { خَشْيَةَ } مفعول من أجله ، والظاهر أن { الإِنفَاقِ } على مشهور مدلوله فيكون على حذف مضاف ، أي { خَشْيَةَ } عاقبة { الإِنفَاقِ } وهو النفاد . وقال أبو عبيدة : أنفق وأملق وأعدم وأصرم بمعنى واحد ، فيكون المعنى خشية الافتقار . والقتور الممسك البخيل { والإنسان } هنا للجنس .

١٠١

ولقد آتينا موسى . . . . .

ولما حكى اللّه تعالى عن قريش ما حكى من تعنتهم في اقتراحهم وعنادهم للرسول صلى اللّه عليه وسلم سلاه تعالى بما جرى لموسى مع فرعون ومع قومه من قولهم { فَقَالُواْ أَرِنَا اللّه جَهْرَةً } إذ قالت قريش {أَوْ تَأْتِىَ بِاللّه } وقالت {أَوْ نَرَى رَبَّنَا } وسكن قلبه ونبه على أن عاقبتهم للدمار والهلاك كما جرى لفرعون إذ أهلكه اللّه ومن معه . و { تِسْعِ ءايَاتٍ } قال ابن عباس وجماعة من الصحابة : هي اليد البيضاء ، والعصا ، والطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم هذه سبع باتفاق ،

وأما الثنتان فعن ابن عباس لسانه كان به عقدة فحلها اللّه ، والبحر الذي فلق له . وعنه أيضاً البحر والجبل الذي نتق عليهم . وعنه أيضاً السنون ونقص من الثمرات وقاله مجاهد والشعبي وعكرمة وقتادة . وقال الحسن : السنون ونقص الثمرات آية واحدة ، وعن الحسن ووهب البحر والموت أرسل عليهم . وعن ابن جبير الحجر والبحر . وعن محمد بن كعب : البحر والسنون .

وقيل :{ تِسْعِ ءايَاتٍ } هي من الكتاب ، وذلك أن يهودياً قال لصاحبه : تعالى حتى نسأل هذا النبيّ فقال الآخر لا تقل إنه نبيّ فإنه لو سمع كلامك صارت له أربعة أعين ، فأتياه وسألاه عن { تِسْعَ ءايَاتٍ بَيّنَاتٍ } فقال : لا تشركوا باللّه شيئاً ، ولا تأكلوا الربا ، ولا تمشوا ببريء إلى سلطان ليقتله ، ولا تسخروا ، ولا تقذفوا المحصنات ، ولا تفروا من الزحف ، وعليكم خاصة يهود أن لا تعتدوا في السبت ، قال : فقبلا يده وقالا : نشهد أنك نبيّ فقال : ما منعكما أن تسلماً ؟ قالا : إن داود دعا اللّه أن لا يزال في ذريته نبيّ وإنّا نخاف إن أسلمنا تقتلنا اليهود . قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح .

١٠٢

قال لقد علمت . . . . .

وقرأ الجمهور : فسل { بَنِى إِسْراءيلَ } وبنو إسرائيل معاصروه ، وفسل معمول لقول محذوف أي فقلنا سل ، والظاهر أنه خطاب للرسول محمد صلى اللّه عليه وسلم أمره أن يسألهم عما أعلمه به من غيب القصة . ثم قال :{ إِذْ جَاءهُمُ } يريد آباءهم وأدخلهم في الضمير إذ هم منهم .

وقال الزمخشري : سلهم عن إيمانهم وعن حال دينهم ، أو سلهم أن يعاضدوك وتكون قلوبهم وأيديهم معك . ويدل عليه قراءة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. فسأل { بَنِى إِسْراءيلَ } على لفظ الماضي بغير همز وهي لغة قريش .

وقيل : فسل يا رسول اللّه المؤمنين من بني إسرائيل وهم عبد اللّه بن سلام وأصحابه عن الآيات لتزداد يقيناً وطمأنينة قلب ، لأن الدلالة إذا

تظافرت كان ذلك أقوى وأثبت كقول إبراهيم عليه السلام { وَلَاكِن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى } انتهى . وهذا القول هو الأول وهو ما أعلمه به من غيب القصة . ولما كان متعلق السؤال محذوفاً احتمل هذه التقديرات ، والظاهر أن الأمر بالسؤال لبني إسرائيل هو حقيقة . وقال ابن عطية ما معناه : يحتمل أن يكون السؤال عبارة عن تطلب أخبارهم والنظر في أحوالهم وما في كتبهم . نحو قوله { وَاسْئلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا } جعل النظر والتطلب معبراً عنه بالسؤال ، ولذلك قال الحسن : سؤالك إياهم نظرك في القرآن ، والظاهر أن { إِذْ } معمولة لآتينا أي { ءاتَيْنَا } حين جاء أتاهم .

وقال الزمخشري :

فإن قلت : بم نعلق { إِذْ جَاءهُمُ } ؟

قلت : أما على الوجه الأول فبالقول المحذوف أي فقلنا له سلهم حين جاءهم ،

وأما على الآخر فبآتينا أو بإضمار اذكر أويخبرونك انتهى . ولا يتأتى تعلقه باذكر ولا بيخبرونك لأنه ظرف ماض . وقراءة فسأل مروية عن ابن عباس . قال ابن عباس : كلام محذوف وتقديره فسأل موسى فرعون بني إسرائيل أي طلبهم لينجيهم من العذاب انتهى . وعلى قراءة فسل يكون التقدير فقلنا له سل { بَنِى إِسْراءيلَ } أي سل فرعون إطلاق بني إسرائيل . وقال أبو عبد اللّه الرازي : فسل { بَنِى إِسْراءيلَ } اعتراض في الكلام والتقدير ، { وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ ءايَاتٍ بَيّنَاتٍ } إذ جاء { بَنِى إِسْراءيلَ } فسلهم وليس المطلوب من سؤال بني إسرائيل أن يستفيد هذا العلم منهم ، بل المقصود أن يظهر لعامة اليهود صدق ما ذكره الرسول عليه السلام ، فيكون هذا السؤال سؤال استشهاد انتهى . وعلى قراءة فسأل ماضياً وقدره فسأل فرعون { بَنِى إِسْراءيلَ } يكون المفعول الأول السأل محذوفاً ، والثاني هو { بَنِى إِسْراءيلَ } وجاز أن يكون من الأعمال لأنه توارد على فرعون سأل وفقال فأعمل ، الثاني على ما هو أرجح .

والظاهر أن قوله { مَّسْحُورًا } اسم مفعول أي قد سحرت بكلامك هذا مختل وما يأتي به غير مستقيم وهذا خطاب بنقيض . وقال الفراء والطبري : مفعول بمعنى فاعل أي ساحراً ، فهذه العجائب التي يأتي بها من أمر السحر ، وقالوا : مفعول بمعنى فاعل مشؤوم وميمون وإنما هو شائم ويامن .

وقرأ الجمهور :{ لَقَدْ عَلِمْتَ } بفتح التاء على خطاب موسى لفرعون وتبكيته في قوله عنه أنه مسحور أي لقد علمت أن ما جئت به ليس من باب السحر ، ولا أني خدعت في عقلي ، بل علمت أنه ما أنزلها إلاّ اللّه ، وما أحسن ما جاء به من إسناد إنزالها إلى لفظ { رَبّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ } إذ هو لما سأله فرعون في أول محاورته فقال له : وما رب العالمين قال :{ رَبّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ } ينبهه على نقصه وأنه لا تصرّف له في الوجود فدعواه الربوبية دعوى استحالة ، فبكته وأعلمه أنه يعلم آيات اللّه ومن أنزلها ولكنه مكابه معاند كقوله { وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً } وخاطبه بذلك على سبيل التوبيخ أي أنت بحال من يعلم هذا وهي من الوضوح بحيث تعلمها وليس خطابه على جهة إخباره عن علمه .

وقرأ عليّ بن أبي طالب وزيد بن عليّ والكسائي { عَلِمَتِ } بضم التاء أخبر موسى عن نفسه أنه ليس بمسحور كما وصفه فرعون ، بل هو يعلم أن { مَا أَنزَلَ هَؤُلاء } الآيات إلاّ اللّه .

وروي عن عليّ أنه قال : ما علم عدوّ اللّه قط وإنما علم موسى ، وهذا القول عن عليّ لا يصح لأنه رواه كلثوم المرادي وهو مجهول ، وكيف يصح هذا القول وقراءة الجماعة بالفتح على خطاب فرعون .

و { أَنزَلَ اللّه } جملة في موضع نصب علق عنها { عَلِمَتِ} ومعنى { بَصَائِرَ } دلالات على وحدانية اللّه وصدق رسوله والإشارة بهؤلاء إلى الآيات التسع . وانتصب { بَصَائِرَ } على الحال في قول ابن عطية والحوفي وأبي البقاء ، وقالا : حال من { هَؤُلاء } وهذا لا يصح إلاّ على مذهب الكسائي والأخفش لأنهما يجيزان ما ضرب هنداً هذا إلاّ زيد ضاحكة . ومذهب الجمهور أنه لا يجوز فإن ورد ما ظاهره ذلك أول على إضمار فعل يدل عليه ما قبله التقدير ضربها ضاحكة ، وكذلك يقدرون هنا أنزلها { بَصَائِرَ } وعند هؤلاء لا يعمل ما قبل إلاّ فيما بعدها إلاّ أن يكون مستثنى منه أو تابعاً له .

وقابل موسى ظنه بظن فرعون فقال :{ وَإِنّى لاظُنُّكَ يافِرْعَونُ فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا}

وشتان ما بين الظنين ظن فرعون ظن باطل ، وظن موسى ظن صدق ، ولذلك آل أمر فوعون إلى الهلاك كان أولاً موسى عليه السلام يتوقع من فرعون أذى كما قال { إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى } فأمر أن يقول له قولاً ليناً فلما قال له اللّه : لا تخف وثق بحماية اللّه ، فصال على فرعون صولة المحمي . وقابله من الكلام بما لم يكن ليقابله به قبل ذلك . ومثبور مهلك في قول الحسن ومجاهد ، وملعون في قول ابن عباس ، وناقص العقل فيما روى ميمون بن مهران ، ومسحور في قول الضحاك قال : رد عليه مثل ما قال له فرعون ما ختلاف اللفظ ، وعن الفراء مثبور مصروف عن الخير مطبوع على قلبك من قولهم : ما ثبرك عن هذا ؟ أي ما منعك وصرفك .

وقرأ أبيّ وإن أخالك يا فرعون لمثبوراً وهي أن الخفيفة ، واللام الفارقة

١٠٣

فأراد أن يستفزهم . . . . .

واستفزازه إياهم هو استخفافه لموسى ولقومه بأن يقلعهم من أرض مصر بقتل أو جلاء ، فحاق به مكره وأغرقه اللّه وقبطه أراد أن تخلو أرض مصر منهم فأخلاها اللّه منه . ومن قومه

١٠٤

وقلنا من بعده . . . . .

والضمير في { مِن بَعْدِهِ } عائد على فرعون أي من بعد إغراقه ، و { الاْرْضِ } المأمور بسكناها أرض الشام ، والظاهر أن يكون الأمر بذلك حقيقة على لسان موسى عليه السلام ووعد الآخرة قيام الساعة .

١٠٥

وبالحق أنزلناه وبالحق . . . . .

وبالحق أنزلناه } هو مردود على قوله هو مردود على قوله { لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ } الآية وهكذا طريقة كلام العرب وأسلوبها تأخذ في شيء وتستطرد منه إلى شيء آخر ثم إلى آخر ثم تعود إلى ما ذكرته أولاً ، وأبعد من ذهب إلى أن الضمير في { أَنزَلْنَاهُ } عائد على موسى عليه السلام وجعل منزلاً كما قال { وَأَنزْلْنَا الْحَدِيدَ } أو عائد على الآيات التسع ، وذكر على المعنى أو عائد على الوعد المذكور قبله . وقال أبو سليمان الدمشقي { وَبِالْحَقّ } أي بالتوحيد ، { أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقّ نَزَلَ } أي بالوعد والوعيد والأمر والنهي . وقال الزهراوي : بالواجب الذي هو المصلحة والسداد للناس ، { وَبِالْحَقّ نَزَلَ } أي بالحق في أوامره ونواهيه وأخباره .

وقال الزمخشري : وما أنزلنا القرآن إلاّ بالحكمة المقتضية لإنزاله وما نزل إلاّ ملتبساً بالحق والحكمة لاشتماله على الهداية إلى كل خير ، وما أنزلناه من السماء إلاّ بالحق محفوظاً بالرصد من الملائكة ، وما نزل على الرسول إلاّ محفوظاً بهم من تخليط الشياطين انتهى . وقد يكون { وَبِالْحَقّ نَزَلَ } توكيداً من حيث المعنى لما كان يقال أنزلته فنزل ، وأنزلته فلم ينزل إذا عرض له مانع من نزوله وجاء ، { وَبِالْحَقّ نَزَلَ } مزيلاً لهذا الاحتمال ومؤكداً حقيقة ، { وَبِالْحَقّ أَنْزَلْنَاهُ } وإلى معنى التأكيد نحا الطبري . وانتصب { مُبَشّرًا وَنَذِيرًا } على الحال أي { مُبَشّرًا } لهم بالجنة ومنذراً من النار ليس لك شيء من إكراههم على الدين .

١٠٦

وقرآنا فرقناه لتقرأه . . . . .

وقرأ الجمهور : { فَرَقْنَاهُ } بتخفيف الراء أي بيَّنا حلاله وحرامه قاله ابن عباس ، وعن الحسن فرقنا فيه بين الحق والباطل . وقال الفراء : أحكمناه وفصلناه كقوله { فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}

وقرأ أبيّ وعبد اللّه وعليّ وابن عباس وأبو رجاء وقتادة والشعبي وحميد وعمرو بن قائد وزيد بن عليّ وعمرو بن ذر وعكرمة والحسن بخلاف عنه بشد الراء أي { أَنزَلْنَاهُ } نجماً بعد نجم . وفصلناه في النجوم . وقال بعض من اختار ذلك : لم ينزل في يوم ولا يومين ولا شهر ولا شهرين ولا سنة ولا سنتين . قال ابن عباس : كان بين أوله وآخره عشرون سنة ، هكذا

قال الزمخشري عن ابن عباس . وحكي عن ابن عباس في ثلاث وعشرين سنة .

وقيل : في خمس وعشرين ، وهذا الاختلاف مبني على الاختلاف في سنه عليه السلام ، وعن الحسن نزل في ثمانية عشر سنة .

قال ابن عطية : وهذا قول مختل لا يصح عن الحسن .

وقيل معنى :{ فَرَقْنَاهُ } بالتشديد فرقنا آياته بين أمر ونهي ، وحكم وأحكام ، ومواعظ وأمثال ، وقصص وأخبار مغيبات أتت وتأتي . وانتصب { قُرْءاناً } على إضمار فعل يفسره { فَرَقْنَاهُ } أي وفرقنا { قُرْءاناً فَرَقْنَاهُ } فهو من باب الاشتغال وحسن النصب ، ورجحه على الرفع كونه عطفاً على جملة فعلية وهي قوله { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ} ولا بد من تقدير صفة لقوله { وَقُرْءانًا } حتى يصح كونه كان يجوز فيه الابتداء لأنه نكرة لا مسوغ لها في الظاهر للابتداء بها ، والتقدير { وَقُرْءانًا } أي قرآن أي عظيماً جليلاً ، وعلى أنه منصوب بإضمار فعل بفسره الظاهر بعده خرّجه الحوفي

والزمخشري . وقال ابن عطية وهو مذهب سيبويه . وقال الفراء : هو منصوب بإرسلناك أي { مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشّرًا وَنَذِيرًا وَقُرْءانًا } كما تقول رحمة لأن القرآن رحمة وهذا إعراب متكلف وأكثر تكلفاً منه قول ابن عطية ، ويصح أن يكون معطوفاً على الكاف في { أَرْسَلْنَاكَ } من حيث كان إيال هذا وإنزال هذا المعنى واحد .

وقرأ أبيّ وعبد اللّه { فَرَقْنَاهُ } عليك بزيادة عليك و { لِتَقْرَأَهُ } متعلق بفرقناه ، والظاهر تعلق على مكث بقوله { لِتَقْرَأَهُ } ولا يبالي بكون الفعل يتعلق به صرفاً جر من جنس واحد لأنه اختلف معنى الحرفين الأول في موضع المفعول به ، والثاني في موضع الحال أي متمهلاً مترسلاً .

قال ابن عباس ومجاهد وابن جريج :{ عَلَى مُكْثٍ } على ترسل في التلاوة .

وقيل :{ عَلَى مُكْثٍ } أي تطاول في المدة شيئاً بعد شيء . وقال الحوفي :{ عَلَى مُكْثٍ } بدل من { عَلَى النَّاسِ } وهذا لا يصح لأن قوله { عَلَى مُكْثٍ } هو من صفة الرسول صلى اللّه عليه وسلم وهو القارىء ، أو صفات المقروء في المعنى وليس من صفات الناس فيكون بدلاً منهم .

وقيل يتعلق { عَلَى مُكْثٍ } بقوله { فَرَقْنَاهُ } ويقال مكث بضم الميم وفتحها وكسرها . و

قال ابن عطية : وأجمع القراء على ضم الميم من { مُكْثٍ} وقال الحوفي : والمكث بالضم والفتح لغتان ، وقد قرىء بهما وفيه لغة أخرى كسر الميم .

{وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً } على حسب الحوادث من الأقوال والأفعال .

١٠٧

قل آمنوا به . . . . .

{قُلْ ءامِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ } يتضمن الإعراض عنهم والاحتقار لهم والإزدراء بهم وعدم الأكثرات بهم وبإيمانهم وبامتناعهم منه ، وأنهم لم يدخلوا في الإيمان ولم يصدقوا بالقرآن وهم أهل جاهلية وشرك ، فإن خيراً منهم وأفضل هم العلماء الذي قرؤوا الكتاب وعلموا ما الوحي وما الشرائع ، قد آمنوا به وصدقوه وثبت عندهم أنه النبيّ العربي الموعود في كتبهم ، فإذا تُلي عليهم خروا { سُجَّدًا } وسبحواً اللّه تعظيماً لوعده ولإنجازه ما وعد في الكتب المنزلة وبشر به من بعثة محمد صلى اللّه عليه وسلم وإنزال القرآن عليه ، وهو المراد بالوعد في قوله { إِن كَانَ وَعْدُ رَبّنَا لَمَفْعُولاً}

و { إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ } يجوز أن يكون تعليلاً لقوله { بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ } أي إن لم تؤمنوا به فقد آمن به من هو خير منكم ، وأن يكون تعليلاً لقل على سبيل التسلية كأنه قيل { قُلْ } عن إيمان الجاهلية بإيمان العلماء انتهى من كلام الزمخشري ، وفيه بعض تلخيص . وقال غيره :{ قُلْ ءامِنُواْ } الآية تحقير للكفار ، وفي ضمنه ضرب من التوعد والمعنى أنكم لستم بحجة فسواء علينا أآمنتم أم كفرتم وإنما ضرر ذلك على أنفسكم ، وإنما الحجة أهل العلم انتهى . والظاهر أن الضمير في { قُلْ ءامِنُواْ بِهِ } عائد على القرآن ، و { الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ } هم مؤمنو أهل الكتاب .

وقيل : ورقة بن نوفل ، وزيد بن عمرو بن نفيل ومن جري مجراهما ، فإنهما كانا ممن أوتي العلم واطّلعاً على التوراة والإنجيل ووجدا فيهما صفته عليه الصلاة والسلام .

وقيل : هم جماعة من أهل الكتاب جلسوا وهم على دينهم ، فتذكروا أمر النبيّ صلى اللّه عليه وسلم وما أنزل عليه . وقرىء عليهم منه شيء فخشعوا وسجدوا للّه وقالوا : هذا وقت نبوّة المذكور في التوراة وهذه صفته ، ووعد اللّه به واقع لا محالة ، وجنحوا إلى الإسلام هذا الجنوح فنزلت هذه الآية فيهم .

وقيل : المراد بالذين { أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ } هو محمد صلى اللّه عليه وسلم ، والظاهر أن الضمير في { بِهِ } وفي { مِن قَبْلِهِ } عائد على الرسول عليه الصلاة والسلام .

واستأنف ذكر القرآن في قوله { إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ } والظاهر في قوله { إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ } أن الضمير في { يُتْلَى } عائد على القرآن .

وقيل : هو عائد على التوراة وما فيها من تصديق القرآن ومعرفة النبيّ عليه الصلاة والسلام ، والخرور هو السقوط بسرعة ، ومنه { فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ } وانتصب { سُجَّدًا } على الحال ، والسجود وهو وضع الجبهة على الأرض هو غاية الخرور ونهاية الخضوع ، وأول ما يلقى الأرض حالة السجود الذقن ، أو عبر عن الوجوه بالأذقان كما يعبر عن كل شيء ببعض ما يلاقيه . وقال الشاعر :

فخروا الأذقان الوجوه تنوشهم

سباع من الطير العوادي وتنتف

وقيل : أريد حقيقة الأذقان لأن ذلك غاية التواضع وكان سجودهم كذلك .

وقال ابن عباس : المعنى للوجوه .

وقال الزمخشري :

فإن قلت : حرف الاستعلاء ظاهر المعنى إذا قلت خر على وجهه وعلى ذقنه فما معنى اللام في خر لذقنه ؟ قال :

فخر صريعاً لليدين وللفم

قلت : معناه جعل ذقنه ووجهه للخرور ، واختصه به لأن اللام للاختصاص انتهى .

وقيل : اللام بمعنى على

١٠٨

ويقولون سبحان ربنا . . . . .

و { سُبْحَانَ رَبّنَا } نزهوا اللّه عما نسبته إليه كفار قريش وغيرهم من أنه لا يرسل البشر رسلاً وأنه لا يعيدهم للجزاء ، وأن هنا المخففة من الثقيلة المعنى أن ما وعد به من إرسال محمد عليه الصلاة والسلام وإنزال القرآن عليه قد فعله وأنجزه ،

١٠٩

ويخرون للأذقان يبكون . . . . .

ونكر الخرور لاختلاف حالي السجود والبكاء ، وجاء التعبير عن الحالة الأولى بالاسم وعن الحالة الثانية بالفعل لأن الفعل مشعر بالتجدد ، وذلك أن البكاء ناشىء عن التفكر فهم دائماً في فكرة وتذكر ، فناسب ذكر الفعل إذ هو مشعر بالتجدد ، ولما كانت حالة السجود ليست تتجدد في كل وقت عبر فيها بالاسم .

{وَيَزِيدُهُمْ } أي ما تُلي عليهم { خُشُوعًا } أي تواضعاً . وقال عبد الأعلى التيمي : من أوتي من العلم ما لا يبكيه خليق أن لا يكون أوتي علماً ينفعه لأن تعالى نعت العلماء فقال :{ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ } الآية . و

قال ابن عطية : ويتوجه في هذه الآية معنى آخر ، وهو أن يكون قوله { قُلْ ءامِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ } مخلصاً للوعيد دون التحقير ، المعنى فسترون ما تجازون به ، ثم ضرب لهم المثل على جهة التقريع بمن تقدم من أهل الكتاب أي إن الناس لم يكونوا كما أنتم في الكفر بل كان الذين أوتوا التوراة والإنجيل والزبور والكتب المنزلة في الجملة إذا يتُلى عليهم ما نزل عليهم خشعوا وآمنوا انتهى . وقد تقدمت الإشارة إلى طرف من هذا .

١١٠

قل ادعوا اللّه . . . . .

قال ابن عباس : تهجد الرسول صلى اللّه عليه وسلم ذات ليلة بمكة فجعل يقول في سجوده : { يا رحمان يا رحيم} . فقال المشركون : كان محمد يدعو إلهاً واحداً فهو الآن يدعو إلهين اثنين اللّه والرحمن ، ما الرحمن إلاّ رحمن اليمامة يعنون مسيلمة فنزلت قاله في التحرير . ونقل ابن عطية نحواً منه عن مكحول . وقال عن ابن عباس : سمعه المشركون يدعو يا أللّه يا رحمن ، فقالوا : كان يدعو إلهاً واحداً وهو يدعو إلهين فنزلت . وقال ميمون بن مهران : كان عليه السلام يكتب : باسمك اللّهم حتى نزلت إنه من سليمان وإنه بسم اللّه الرحمن الرحيم فكتبها فقال مشركوا العرب : هذا الرحيم نعرفه ، فما الرحمن ؟ فنزلت . وقال الضحاك : قال أهل الكتاب للرسول صلى اللّه عليه وسلم : إنك لتقل ذكر الرحمن وقد أكثر اللّه في التوراة هذا الاسم ، فنزلت لما لجوّا في إنكار القرآن أن يكون اللّه نزله على رسوله عليه السلام وعجزوا عن معارضته ، وكان عليه الصلاة والسلام قد جاءهم بتوحيد اللّه والرفض لآلهتهم عدلوا إلى رميه عليه الصلاة والسلام بأن ما نهاهم عنه رجع هو إليه ، فردّ اللّه تعالى عليهم بقوله { قل ادعوا اللّه } الآية . والظاهر من أسباب النزول أن الدعاء هنا قوله يا رحمن يا رحيم أو يا اللّه يا رحمن فهو من الدعاء بمعنى النداء ، والمعنى إن دعوتم اللّه فهو اسمه وإن دعوتم الرحمن فهو صفته .

قال الزمخشري : والدعاء بمعنى التسمية لا بمعنى النداء وهو يتعدّى إلى مفعولين ، تقول : دعوته زيداً ثم تترك أحدهما استغناءً عنه ، فتقول : دعوت زيداً انتهى . ودعوت هذه من الأفعال التي

تتعدّي إلى اثنين ثانيهما بحرف جر ، تقول : دعوت والدي بزيد ثم تتسع فتحذف الباء . وقال الشاعر في دعا هذه : دعتني أخاها أم عمرو ولم أكن

أخاها ولم أرضع لها بلبان وهي أفعال تتعدى إلى واحد بنفسها وإلى الآخر بحرف الجر ، يحفظ ويقتصر فيها على السماع وعلى ما

قال الزمخشري يكون الثاني لقوله { ادْعُواْ } لفظ الجلالة ، ولفظ { الرَّحْمَنُ } وهو الذي دخل عليه الباء ثم حذف وكأن التقدير { ادْعُواْ } معبودكم باللّهأو ادعوه بالرحمن ولهذا

قال الزمخشري : المراد بهما اسم المسمى وأو للتخيير ، فمعنى { ادْعُواْ اللّهأَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ } سموا بهذا الاسم أو بهذا ، واذكروا إما هذا

وإما هذا انتهى . وكذا قال ابن عطية هما اسمان لمسمى واحد ، فإن دعوتموه باللّه فهو ذاك ، وإن دعوتموه بالرحمن فهو ذاك وأي هنا شرطية . والتنوين قيل عوض من المضاف و { مَا } زائدة مؤكدة .

وقيل :{ مَا } شرط ودخل شرط على شرط .

وقرأ طلحة بن مصروف .{ أَيّا } من { تَدْعُواْ } فاحتمل أن تكون من زائدة على مذهب الكسائي إذ قد ادّعي زيادتها في قوله :

واحتمل أن يكون جمع بين أداتي شرط على وجه الشذوذ كما جمع بين حرفي جر نحو قول الشاعر :

فأصبحن لا يسألنني عن بما به

وذلك لاختلاف اللفظ . والضمير في { فَلَهُ } عائد على مسمى الأسمين وهو واحد ، أي فلمسماهما { الاْسْمَاء الْحُسْنَى } ، وتقدم الكلام على قوله { الاْسْمَاء الْحُسْنَى } في الأعراف .

وقوله :{ فَلَهُ } هو جواب الشرط . قيل : ومن وقف على { أَيّا } جعل معناه أي اللفظين دعوتموه به جاز ، ثم استأنف فقال ما تدعوه { فَلَهُ الاْسْمَاء الْحُسْنَى } وهذا لا يصح لأن ما لا تطلق على آحاد أولي العلم ، ولأن الشرط يقتضي عموماً ولا يصح هنا ، والصلاة هنا الدعاء قاله ابن عباس وعائشة وجماعة .

وعن ابن عباس أيضاً : هي قراءة القرآن في الصلاة فهو على حذف مضاف أي بقراءة الصلاة ، ولا يلبس تقدير هذا المضاف لأنه معلوم أن الجهر والمخافتة معتقبان على الصوت لا غير ، والصلاة أفعال وأذكار وكان عليه الصلاة والسلام يرفع صوته بقراءته فيسب المشركون ويلغون فأمر بأن يخفض من صوته حتى لا يسمع المشركين ، وأن لا يخافت حتى يسمعه من وراءه من المؤمنين .

{وَابْتَغِ بَيْنَ ذالِكَ } أي بين الجهر والمخافتة { سَبِيلاً } وسطاً وتقدم الكلام على { بَيْنَ ذالِكَ } في قوله { عَوَانٌ بَيْنَ ذالِكَ}

وقال ابن عباس أيضاً والحسن : لا تحسن علانيتها وتسيء سرّبتها . وعن عائشة : الصلاة يراد بها هنا التشهد . وقال ابن سيرين : كان الأعراب يجهرون بتشهدهم فنزلت الآية في ذلك ، وكان أبو بكر يسرّ قراءته وعمر يجهر بها . فقيل لهما في ذلك فقال أبو بكر : إنما أناجي ربي وهو يعلم حاجتي . وقال عمر : أنا أطرد الشيطان وأوقظ الوسنان ، فلما نزلت قيل لأبي بكر ارفع أنت قليلاً .

وقيل لعمر : اخفض أنت قليلاً .

وعن ابن عباس أيضاً : المعنى { وَلاَ تَجْهَرْ } بصلاة النهار { وَلاَ تُخَافِتْ } بصلاة الليل . وقال ابن زيد : معنى الآية على ما يفعله أهل الإنجيل والتوراة من رفع الصوت أحياناً فيرفع الناس معه ، ويخفض أحياناً فيسكت الناس خلفه انتهى . كما يفعل أهل زمانناً من رفع الصوت بالتلحين وطرائق النعم المتخذة للغناء .

١١١

وقل الحمد للّه . . . . .

ولما ذكر تعالى أنه واحد وإن تعددت أسماؤه أمر تعالى أن يحمده على ما أنعم به عليه مما آتاه من شرف الرسالة والاصطفاء ، ووصف نفسه بأنه { لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا } فيعتقد فيه تكثر بالنوع ،

وكان ذلك ردّاً على اليهود والنصاري والعرب الذين عبدوا الأصنام وجعلوها شركاء للّه ، والعرب الذين عبدوا الملائكة واعتقدوا أنهم بنات اللّه . ونفي أولاً الولد خصوصاً ثم نفي الشريك في ملكه وهو أعم من أن ينسب إليه ولد فيشركه أو غيره ، ولما نفي الولد ونفي الشريك نفي الولي وهو الناصر ، وهو أعم من أن يكون ولداً أو شريكاً أو غير شريك . ولما كان اتخاذ الولي قد يكون للانتصار والاعتزاز به والاحتماء من الذلَّ وقد يكون للتفضل والرحمة لمن وإلى من صالحي عباده كان النفي لمن ينتصر به من أجل المذلة ، إذ كان مورد الولاية يحتمل هذين الوجهين فنفي الجهة التي لأجل النقص بخلاف الولد والشريك فإنهما نفياً على الإطلاق . وجاء الوصف الأول بقوله { الَّذِى لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا } والمعنى أنه تعالى لم يسم ولم يعد أحداً ولداً ولم ينفه بجهة التوالد لاستحالة ذلك في بدائه العقول ، فلا يتعرض لنفيه بالمنقول ولذلك جاء ما اتخذ اللّه من ولد ما يتخذ صاحبة ولا ولداً .

وقال مجاهد : في قوله { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِىٌّ مَّنَ الذُّلّ } المعنى لم يخالف أحداً ولا ابتغى تصر أحد .

وقال الزمخشري :{ وَلِىٌّ مَّنَ الذُّلّ } ناصر من الذلّ ومانع له منه لاعتزازه به ، أو لم يوال أحداً من أجل المذلة به ليدفعها بموالاته انتهى .

وقيل : ولم يكن له { وَلِيُّ } من اليهود والنصاري لأنهم أذل الناس فيكون { مَّنَ الذُّلّ } صفة لولي انتهى . أي { وَلِىٌّ مَّنَ } أهل { الذُّلّ } ، فعلى هذا وما تقدّم يكون { مِنْ } في معنى المفعول به أو للسبب أو للتبعيض .

وقال الزمخشري :

فإن قلت : كيف لاق وصفه بنفي الولد والشريك والذل بكلمة التحميد ؟

قلت : لأن من هذا وصفه هو الذي يقدر على إيلاء كل نعمة فهو الذي يستحق جنس الحمد ، والذي تقرر أن النفي تسلط من حيث المعنى على القيد أي لا ذل يوجد في حقه فيكون له ولي ينتصر به منه ، فالذل والولي الذي يكون اتخاذه بسببه منتفيان .

{وَكَبّرْهُ تَكْبِيرًا } التكبير أبلغ لفظة للعرب في معنى التعظيم والإجلال ، وأكد بالمصدر تحقيقاً له وإبلاغاً في معناه ، وابتدئت هذه السورة بتنزيه اللّه تعالى واختتمت به ، وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا أفصح الغلام من بني عبد المطلب علمه هذه الآية { وَقُلِ الْحَمْدُ اللّه } إلى آخرها واللّه أعلم .

﴿ ٠