سورة الكهف

مكية

بسم اللّه الرحمن الرحيم

{سقط : إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا ، أولئك لهم جنات عدن تجري من

تحتهم الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثيابا خضرا من سندس واستبرق متكئين فيها على الأرائك نعم الثواب وحسنت مرتفقا }

١

الحمد للّه الذي . . . . .

بخع يبخع بخعاً وبخوعاً أهلك من شدة الوجد وأصله الجهد قاله الأخفش والفراء . وفي حديث عائشة ذكرت عمر فقالت : بخع الأرض أي جهدها حتى أخذ ما فيها من أموال الملوك . وقال الكسائي : بخع الأرض بالزراعة جعلها ضعيفة بسبب متابعة الحراثة . وقال الليث : بخع الرجل نفسه قتلها من شدة وجده . وأنشد قول الفرزدق : ألا أيهذا الباخغ الوجد نفسه

لشيء نحته عن يديه المقادير

أي نحّته بشد الحاء فخفف . قال أبو عبيدة : كان ذو الرمّة ينشد الوجد بالرفع . وقال الأصمعي : إنما هو الوجد بالفتح انتهى . فيكون نصبه على أنه مفعول من أجله . جرزت الأرض بقحط أو جراد أو نحوه : ذهب نباتها وبقيت لا شيء فيها وأرضون أجراز ،

ويقال : سنة جرز وسنون أجراز لا مطر فيها ، وجرز الأرض الجراد أكل ما فيها ، وامرأة جروز أي أكول . قال الشاعر : إن العجوز خبة جروزا

تأكل كل ليلة قفيزاً

الكهف النقب المتسع في الجبل فإن لم يك واسعاً فهو غار . وقال ابن الأنباري . حكي اللغويون أنه بمنزلة الغار في الجبل . الرقيم : فعيل من رقم إما بمعنى مفعول

وإما بمعنى فاعل ، ويأتي إن شاء اللّه الاختلاف في المراد به عن المفسرين . فأما قول أمية بن أبي الصلت : وليس بها إلاّ الرقيم مجاورا

وصيدهم والقوم في الكهف همد

فعني به كلبهم . أحصي الشيء حفظه وضبطه . الشطط : الجور وتعدّي الحد والغلو . وقال الفراء : اشتط في الشؤم جاوز القدر ، وشط المنزل بعد شطوطاً ، وشط الرجل وأشط جار ، وشطت الجارية شطاطاً وشطاطة طالت . تزورّ : تروع وتميل . وقال الأخف ٥ : تزور تنقبض انتهى . والزور الميل والأزور المائل بعينه إلى ناحية ، ويكون في غير العين . قال ابن أبي ربيعة :

وجبني خيفة القوم أزوره

وقال عنترة :

فازور من وقع القنا بلبانه

وشكا إليّ بعبرة وتحمحم

وقال بشر بن أبي حازم تؤمّ بها الحداة مياه نخل

وفيها عن أبانين ازورار

ومنه زاره إذا مال إليه ، والزور الميل عن الصدق . قرض الشيء قطعه ، تقول العرب : قرضت موضع . كذا أي قطعته . وقال ذو الرمّة : إلى ظعن يقوضن أجواز مشرف

شمالاً وعن أيمانهنّ الفوارس

وقال الكوفيون : قرضت موضع كذا جاذبته ، وحكوا عن العرب قرضته قبلاً ودبراً . الفجوة : المتسع من الفجاء وهو تباعد ما بين الفخذين ، رجل أفجأ وامرأة فجواء وجمع الفجوة فجآء . اليقظ المتنبه وجمعه أيقاظ كعضد وأعضاد ، ويقاظ كرجل ورجال ورجل يقظان وامرأة يقظى . الرقاد معروف وسمي به علماً . الوصيد الفناء .

وقيل : العتبة .

وقيل : الباب . قال الشاعر : بأرض فضاء لا يسد وصيدها

عليّ ومعروفي بها غير منكر

الورق الفضة مضروبة وغير مضروبة . السرادق قال أبو منصور الجواليقي : هو فارسي معرب وأصله سرادار وهو الدهليز . قال الفرزدق : تمنيتهم حتى إذا ما لقيتهم

تركت لهم قبل الضراب السرادقاً

وبيت مسردق أي ذو وسرادق . المهل : ما أذيب من جواهر الأرض .

وقيل دردي الزيت . شوى اللحم : أنضجه من غير مرق . السوار : ما جعل في الذراع من ذهب أو فضة أو نحاس أو رصاص ويجمع على أسورة في القلة كخمار وأخمرة ، وعلى خمر وفي الكثرة كخمار وخمر إلاّ أنه تسكن عينه إلاّ في الشعر فتحرك ، وأساور جمع أسورة . وقال أبو عبيدة : جمع أسوار ويقال لكل ما في الذراع من الحليّ وعنه وعن قطرب : هو على حذف الزيادة وأصله أساوير . وأنشد ابن الأنباري : واللّه لولا صبية صغار

كأنما وجوههم أقمار

تضمهم من الفنيك دار

أخاف أن يصيبهم إقتار

أو لاطم ليس له أسوار

لما رآني ملك جبار

ببابه ما وضح النهار

السندس رقيق الديباج ، والإستبرق ما غلظ منه ، والإستبرق رومي عرب وأصله استبره أبدلوا الهاء قافاً قاله ابن قتيبة .

وقيل : مسمى بالفعل وهو إستبرق من البريق فقطعت بهمزة وصله .

وقيل : الإستبرق اسم الحرير . وقال المرقش : تراهنّ يلبسن المشاعر مرة

وإستبرق الديباج طور إلباسها

وقال ابن بحر : الإستبراق المنسوج بالذهب . الأريكة السرير في حجلة ، فإن كان وحده فلا يسمى أريكة . وقال الزجاج : الأرائك الفرش في الحجال .

{الْحَمْدُ للّه الَّذِى أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا قَيِّماً لِّيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مّن لَّدُنْهُ وَيُبَشّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُواْ اتَّخَذَ اللّه وَلَدًا مَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلاَ لائَبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىءاثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَاذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الاْرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً}

هي مكية كلها إلا في قوله .

وعن ابن عباس وقتادة إلاّ قوله { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ } الآية فمدنية . وقال مقاتل : إلاّ من أولها إلى { جُرُزاً } ومن قوله { إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } الآيتين فمدني . وسبب نزولها أن قريشاً بعثت النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار اليهود بالمدينة ، فقالوا لهما : سلاهم عن محمد وصِفالهم صفته فإنهم أهل الكتاب الأول ، وعندهم ما ليس عندنا من علم الأنبياء ، فخرجا حتى أتيا المدينة فسألاهم فقالت : سلوه فإن أخبركم بهنّ فهو نبيّ مرسل ، وإن لم يفعل فالرجل متقول ، فروا فيه رأيكم سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمرهم ، فإنه كان لهم حديث عجيب ، وسلوه عن رجل طوّاف بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان بناؤه ، وسلوه عن الروح فأقبل النضر وعقبة إلى مكة فسألوه فقال : { غداً أخبركم } ولم يقل إن شاء اللّه ، فاستمسك الوحي خمسة عشر يوماً فأرجف كفار قريش ، وقالوا : إن محمداً قد تركه رئيه الذي كان يأتيه من الجن .

وقال بعضهم : قد عجز عن أكاذيبه فشق ذلك عليه ، فلما انقضى الأمد جاءه الوحي بجواب الأسئلة وغيرها .

وروي في هذا السبب أن اليهود قالت : إن أجابكم عن الثلاثة فليس بنيّ ، وإن أجاب عن اثنتين وأمسك عن الأخرى فهو نبيّ . فأنزل اللّه سورة أهل الكهف وأنزل بعد ذلك { وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} ومناسبة أول هذه السورة لآخر ما قبلها أن لما قال { وَبِالْحَقّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقّ نَزَلَ } وذكر المؤمنين به أهل العلم وأنه يزيدهم خشوعاً ، وأنه تعالى أمر بالحمد له وأنه لم يتخذ ولداً ، أمره تعالى بحمده على إنزال هذا الكتاب السالم من العوج القيم على كل الكتب المنذر من اتخذ ولداً ، المبشر المؤمنين بالإجر الحسن . ثم استطرد إلى حديث كفار قريش والتفت من الخطاب في قوله { وَكَبّرْهُ تَكْبِيرًا } إلى الغيبة في قوله { عَلَى عَبْدِهِ } لما في { عَبْدِهِ } من الإضافة المقتضية تشريفه ، ولم يجيء التركيب أنزل عليك .

{وَالْكِتَابِ } القرآن ، والعوج في المعاني كالعوج في الأشخاص ونكر

{عِوَجَا } ليعم جميع أنواعه لأنها نكرة في سياق النفي ، والمعنى أنه في غاية الإستقامة لا تناقض ولا اختلاف في معانيه ، لا حوشية ولا عيّ في تراكيبه ومبانيه .

٢

قيما لينذر بأسا . . . . .

و { قَيِّماً } تأكيد لإثبات الإستقامة إن كان مدلوله مستقيماً وهو قول ابن عباس والضحاك .

وقيل :{ قَيِّماً } بمصالح العباد وشرائع دينهم وأمور معاشهم ومعادهم .

وقيل :{ قَيِّماً } على سائر الكتب بتصديقها . واختلفوا في هذه الجملة المنفية ، فزعم الزمخشري أنها معطوفة على { أَنَزلَ } فهي داخلة في الصلة ، ورتب على هذا أن الأحسن في انتصاب { قَيِّماً } أن ينتصب بفعل مضمر ولا يجعل حالاً من { الْكِتَابِ } لما يلزم من ذلك وهو الفصل بين الحال وذي الحال ببعض الصلة ، وقدره جعله { قَيِّماً} و

قال ابن عطية :{ قَيِّماً } نصب على الحال من { الْكِتَابِ } فهو بمعنى التقديم مؤخر في اللفظ ، أي أنزل الكتاب { قَيِّماً } واعترض بين الحال وذي الحال قوله { وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا } ذكره الطبري عن ابن عباس ، ويجوز أن يكون منصوباً بفعل مضمر تقديره أنزله أو جعله { قَيِّماً} أما إذا قلنا بأن الجملة المنفية اعتراض فهو جائز ، ويفصل بجمل للإعتراض بين الحال وصاحبها .

وقال العسكري : في الآية تقديم وتأخير كأنه قال : احمدوا اللّه على إنزال القرآن { قَيِّماً } لا عوج فيه ، ومن عادة البلغاء أن يقدّموا الأهم . وقال أبو عبد اللّه الرازي :{ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا } يدل على كونه مكملاً في ذاته . وقوله قيماً يدل على كونه مكملاً بغيره ، فثبت بالبرهان العقلي أن الترتيب الصحيح هو الذي ذكره اللّه ، وأن ما ذكروه من التقديم والتأخير فاسد يمتنع العقل من الذهاب إليه . وقال الكرماني : إذ جعلته حالاً وهو الأظهر فليس فيه تقديم ولا تأخير ، والصحيح أنهما حالان من { الْكِتَابِ } الأولى جملة والثانية مفرد انتهى . وهذا على مذهب من يجوز وقوع حالين من ذي حال واحد بغير عطف ، وكثير من أصحابنا على منع ذلك انتهى . واختاره الأصبهاني وقال : هما حالان متواليان والتقدير غير جاعل له { عِوَجَا قَيِّماً } وقال صاحب حل العقد : يمكن أن يكون قوله قيماً بدلاً من قوله { وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا } أي جعله مستقيماً{ قَيِّماً } انتهى . ويكون بدل مفرد من جملة كما قالوا في عرفت زيداً أبو من أنه بدل جملة من مفرد وفيه خلاف .

وقيل :{ قَيِّماً } حال من الهاء المجرورة في { وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ } مؤكدة .

وقيل : منتقلة ، والظاهر أن الضمير في { لَهُ } عائد على { الْكِتَابِ } وعليه التخاريج الإعرابية السابقة . وزعم قوم أن الضمير في { لَهُ } عائد على { عَبْدِهِ } والتقدير { عَلَى عَبْدِهِ } وجعله { قَيِّماً} وحفص يسكت على قوله { عِوَجَا } سكتة خفيفة ثم يقول { قَيِّماً} وفي بعض مصاحف الصحابة { وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا } لكن جعله قيماً ويحمل ذلك على تفسير المعنى لا أنها قراءة .

وأنذر يتعدى لمفعولين قال { إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً } وحذف هنا المفعول الأول وصرح بالمنذر به لأنه هو الغرض المسوق إليه فاقتصر عليه ، ثم صرح بالمنذر في قوله حين كرر الإنذار فقال :{ وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُواْ اتَّخَذَ اللّه وَلَدًا } فحذف المنذر أولاً لدلالة الثاني عليه ، وحذف المنذر به لدلالة الأول عليه ، وهذا من بديع الحذف وجليل الفصاحة ، ولما لم يكرر البشارة أتى بالمبشر والمبشر به ، والظاهر أن { لّيُنذِرَ } متعلقة بأنزل . وقال الحوفي : تتعلق بقيماً ، ومفعول لينذر المحذوف قدره ابن عطية { لّيُنذِرَ } العالم ، وأبو البقاء { لّيُنذِرَ}

العباد أو لينذركم . والزمخشري قدره خاصاً قال : وأصله { لّيُنذِرَ } الذين كفروا { بَأْسًا شَدِيدًا } ، والبأس من قوله { بِعَذَابٍ بَئِيسٍ } وقد بؤس العذاب وبؤس الرجل بأساً وبأسة انتهى . وكأنه راعي في تعيين المحذوف مقابلة وهو { وَيُبَشّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ } والبأس الشديد عذاب الآخرة ويحتمل أن يندرج فيه ما يلحقهم من عذاب الدنيا .

ومعنى من { لَّدُنْهُ } صادر من عنده .

وقرأ أبو بكر بسكون الدال وإشمامها الضم وكسر النون ، وتقدّم الكلام عليها في أول هود . وقرىء { وَيُبَشّرُ } بالرفع والجمهور بالنصب عطفاً على { لّيُنذِرَ } والأجر الحسن الجنة ،

٣

ماكثين فيه أبدا

ولما كنى عن الجنة بقوله { أَجْرًا حَسَنًا } قال :{ مَّاكِثِينَ فِيهِ } أي مقيمين فيه ، فجعله ظرفاً لإقامتهم ، ولما كان المكث لا يقتضي التأبيد قال { أَبَدًا } وهو ظرف دال على زمن غير متناه ، وانتصب { مَّاكِثِينَ } على الحال وذو الحال هو الضمير في { لَهُمْ}

٤

انظر تسفير الآية:٥

٥

وينذر الذين قالوا . . . . .

والذين نسبوا الولد إلى اللّه تعالى بعض اليهود في عزير ، وبعض النصارى في المسيح ، وبعض العرب في الملائكة ، والضمير في { بِهِ } الظاهر أنه عائد على الولد الذي ادّعوه . قال المهدوي : فتكون الجملة صفة للولد .

قال ابن عطية : وهذا معترض لأنه لا يصفه إلاّ القائل وهم ليس قصدهم أن يصفوه ، والصواب عندي أنه نفى مؤتنف أخبر اللّه تعالى به بجهلهم في ذلك ، ولا موضع للجملة من الإعراب ويحتمل أن يعود على اللّه تعالى ، وهذا التأويل أذم لهم وأقضى في الجهل التام عليهم وهو قول الطبري انتهى .

قيل : والمعنى { مَّا لَهُم } باللّه { مِنْ عِلْمٍ } فينزهوه عما لا يجوز عليه ، ويحتمل أن يعود على القول المفهوم من { قَالُواْ } أي { مَّا لَهُم}

بقولهم هذا { مِنْ عِلْمٍ } فالجملة في موضع الحال أي { قَالُواْ } جاهلين من غير فكر ولا روية ولا نظر في ما يجوز ويمتنع .

وقيل : يعود على الاتخاذ المفهوم من { اتخذه } أي { عَبَدْنَاهُمْ مَّا لَهُم } بحكمة الاتخاذ من علم إذ لا يتخذه إلاّ من هو عاجز مقهور يحتاج إلى معين يشد به عضده . وهذا مستحيل على اللّه .

قال الزمخشري : اتخاذ اللّه ولداً في نفسه محال ، فيكف { قِيلَ مَّا لَهُمْ مّنَ عِلْمٍ } ؟

قلت : معناه ما لهم به من علم لأنه ليس مما يعلم لاستحالته ، وانتفاء العلم بالشيء إما للجهل بالطريق الموصل إليه ،

وإما لأنه في نفسه محال لا يستقيم تعلق العلم به انتهى .

{وَلاَ لائَبَائِهِمْ } معطوف على { لَهُمْ } وهم من تقدم من أسلافهم الذين ذهبوا إلى هذه المقالة السخيفة ، بل من قال ذلك إنما قاله عن جهل وتقليد . وذكر الآباء لأن تلك المقالة قد أخذوها عنهم وتلقفوها منهم .

وقرأ الجمهور :{ كَلِمَةَ } بالنصب والظاهر انتصابها على التمييز ، وفاعل { كَبُرَتْ } مضمود يعود على المقالة المفهومة من قوله { قَالُواْ اتَّخَذَ اللّه وَلَدًا } ، وفي ذلك معنى التعجب أي ما أكبرها كلمة ، والجملة بعدها صفة لها تفيد استعظام اجترائهم على النطق بها وإخراجها من أفواههم ، فإن كثيراً مما يوسوس به الشيطان في القلوب ويحدث به النفس لا يمكن أن يتفوه به بل يصرف عنه الفكر ، فكيف بمثل هذا المنكر وسميت { كَلِمَةَ } كما يسمون القصيدة كلمة . و

قال ابن عطية : وهذه المقالة هي قائمة في النفس معنى واحداً فيحسن أن تسمى { كَلِمَةَ } وقال أيضاً :

وقرأ الجمهور بنصب الكلمة كما تقول نعم رجلاً زيد ، وفسر بالكلمة ووصفها بالخروج من أفواههم فقال بعضهم : نصبها على التفسير على حد نصب قوله تعالى { وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا} وقالت فرقة : نصبها على الحال أي { كَبُرَتْ } فريتهم ونحو هذا انتهى . فعلى قوله كما تقول نعم رجلاً زيد يكون المخصوص بالذم محذوفاً لأنه جعل { تُخْرِجُ } صفة لكلمة ، والتقدير { كَبُرَتْ كَلِمَةً } خارجة { مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } تلك المقالة التي فاهوا بها وهي مقالتهم { اتَّخَذَ اللّه وَلَدًا} والضمير في { كَبُرَتْ } ليس عائداً على ما قبله بل هو مضمر يفسره ما بعده ، وهو التمييز على مذهب البصريين ، ويجوز أن يكون المخصوص بالذم محذوفاً وتخرج صفة له أي { كَبُرَتْ كَلِمَةً } كلمة { تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} وقال أبو عبيدة : نصب على التعجب أي أكبر بها { كَلِمَةَ } أي من { كَلِمَةَ} وقرىء { كَبُرَتْ } بسكون الباء وهي في لغة تميم .

وقرأ الحسن وابن يعمر وابن محيصن

والقواس عن ابن كثير بالرفع على الفاعلية والنصب أبلغ في المعنى وأقوى ، و { ءانٍ } نافية أي ما { يَقُولُونَ } و { كَذِبًا } نعت لمصدر محذوف أي قولاً{ كَذِبًا}

٦

فلعلك باخع نفسك . . . . .

{فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ } لعل للترجي في المحبوب وللإشفاق في المحذور . وقال العسكري : فيها هنا هي موضوعة موضع النهي يعني أن المعنى لا تبخع نفسك .

وقيل : وضعت موضع الاستفهام تقديره هل أنت { بَاخِعٌ نَّفْسَكَ } ؟ و

قال ابن عطية : تقرير وتوقيف بمعنى الإنكار عليه أي لا تكن كذلك .

وقال الزمخشري : شبهه وإياهم حين تولوا عنه ولم يؤمنوا به وما تداخله من الوجد والأسف على توليهم برجل فارقته أحبته وأعزته ، فهو يتساقط حسرات على آثارهم ويبخع نفسه وجداً عليهم وتلهفاً على فراقهم انتهى . وتكون لعل للإستفهام قول كوفي ، والذي يظهر أنها للإشفاق أشفق أن يبخع الرسول صلى اللّه عليه وسلم نفسه لكونهم لم يؤمنوا .

وقوله { عَلَىءاثَارِهِمْ } استعارة فصيحة من حيث لهم إدبار وتباعد عن الإيمان وإعراض عن الشرع ، فكأنهم من فرط إدبارهم قد بعدوا فهو في إدبارهم يحزن عليهم ، ومعنى { عَلَىءاثَارِهِمْ } من بعدهم أي بعد يأسك من إيمانهم أو بعد موتهم على الكفر .

ويقال : مات فلان على أثر فلان أي بعده ، وقرىء { بَاخِعٌ نَّفْسَكَ } بالإضافة .

وقرأ الجمهور :{ بَاخِعٌ } بالتنوين { نَّفْسَكَ } بالنصب .

قال الزمخشري : على الأصل يعني إن اسم الفاعل إذا استوفي شروط العلم فالأصل أن يعمل ، وقد أشار إلى ذلك سيبويه في كتابه . وقال الكسائي : العمل والإضافة سواء ، وقد ذهبنا إلى أن الإضافة أحسن من العمل بما قررناه في ما وضعنا في علم النحو . وقرىء :{ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ } بكسر الميم وفتحها فمن كسر . ف

قال الزمخشري : هو يعني اسم الفاعل للإستقبال ، ومن فتح فللمضي يعني حالة الإضافة ، أي لأن { لَمْ يُؤْمِنُواْ } والإشارة بهذا الحديث إلى القرآن . قال تعالى { اللّه نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً}

و { أَسَفاً } قال مجاهد : جزعاً . وقال قتادة : غضباً وعنه أيضاً حزناً . وقال السدّي : ندماً وتحسراً . وقال الزجاج : الأسف المبالغة في الحزن والغضب . وقال منذر بن سعيد : الأسف هنا الحزن لأنه على من لا يملك ولا هو تحت يد الآسف ، ولو كان الأسف من مقتدر على من هو في قبضته وملكه كان غضباً كقوله تعالى { فَلَمَّا ءاسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ } أي أغضبونا .

قال ابن عطية : وإذا تأملت هذا في كلام العرب اطرد انتهى . وانتصاب { أَسَفاً } على أنه مفعول من أجله أو على أنه مصدر في موضع الحال ،

٧

إنا جعلنا ما . . . . .

وارتباط قوله { إِنَّا جَعَلْنَا } الآية بما قبلها هو على سبيل التسلية للرسول صلى اللّه عليه وسلم لأنه تعالى أخبر أنه خلق ما على الأرض من الزينة للإبتلاء والاختبار أي الناس { أَحْسَنُ عَمَلاً } فليسوا على نمط واحد في الاستقامة واتباع الرسل ، بل لا بد أن يكون فيهم من هو أحسن عملاً ومن هو أسوأ عملاً ، فلا تغتم وتحزن على من فضلت عليه بأنه يكون أسوأ عملاً ومع كونهم يكفرون بي لا أقطع عنهم موادّ هذه النعم التي خلقتها .

و { جَعَلْنَا } هنا بمعنى خلقنا ، والظاهر أن ما يراد بها غير العامل وأنه يراد به العموم فيما لا يعقل . و { زِينَةُ } كل شيء بحسبه .

وقيل : لا يدخل في ذلك ما كان فيه إيذاء من حيوان وحجر ونبات لأنه لا زينة فيه ، ومن قال بالعموم قال فيه { زِينَةُ } من جهة خلقه وصنعته وإحكامه .

وقيل : المراد بما هنا خصوص ما لا بعقل . فقيل : الأشجار والأنهار .

وقيل : النبات لما فيه من الاختلاف والأزهار .

وقيل : الحيوان المختلف الأشكال والمنافع والأفعال .

وقيل : الذهب والفضة والنحاس والرصاص والياقوت والزبرجد والجوهر والمرجان وما يجري مجرى ذلك من نقائس الأحجار .

وقال الزمخشري :{ مَا عَلَى الاْرْضِ } يعني ما يصلح أن يكون { زِينَةً لَّهَا } ولأهلها من زخارف الدنيا وما يستحسن منها . وقالت : فرقة أراد النعيم والملابس والثمار والخضرة والمياه .

وقيل :{ مَا } هنا لمن يعقل ، فعن مجاهد هو الرجال وقاله ابن جبير عن ابن عباس وروى عكرمة أن الزينة الخلفاء والعلماء والأمراء . وانتصب { زِينَةُ } على الحال أو على المفعول من أجله إن كان { جَعَلْنَا } بمعنى خلقنا ، وأوجدنا ، وإن كانت بمعنى صيرنا فانتصب على أنه مفعول ثان .

واللام من { لِنَبْلُوَهُمْ } تتعلق بجعلنا ، والابتلاء الاختبار وهو متأوّل بالنسبة إلى اللّه

تعالى . والضمير في { لِنَبْلُوَهُمْ } إن كانت ما لمن يعقل فهو عائد عليها على المعنى ، وأن لا يعود على ما يفهم من سياق الكلام وهو سكان الأرض المكلفون { وأيهم } يحتمل أن يكون الضمير فيها إعراباً فيكون { لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم } مبتدأ و { أَحْسَنُ } خبره . والجملة في موضع المفعول { لِنَبْلُوَهُمْ } ويكون قد علق { لِنَبْلُوَهُمْ } إجراءً لها مجرى العلم لأن الابتلاء والاختبار سبب للعلم ، كما علقوا سل وانظر البصرية لأنهما سببان للعلم وإلى أن الجملة استفهامية مبتدأ وخبر ذهب الحوفي ، ويحتمل أن تكون الضمة فيها بناء على مذهب سيبويه لوجود شرط جواز البناء في أي . وهو كونها مضافة قد حذف صدر صلتها ، فأحسن خبر مبتدأ محذوف فتقديره هو { أَحْسَنُ } ويكون { أَيُّهُم } في موضع نصب بدلاً من الضمير في { لِنَبْلُوَهُمْ } ، والمفضل عليه محذوف تقديره ممن ليس { أَحْسَنُ عَمَلاً} وقال الثوري أحسنهم عملاً أزهدهم فيها . وقال إبو عاصم العسقلاني : أَترك لها .

وقال الزمخشري : حسن العمل الزهد فيها وترك الاغترار بها . وقال أبو بكر غالب بن عطية : أحسن العمل أخذ بحق مع الإيمان وأداء الفرائض واجتناب المحارم والإكثار من المندوب إليه . وقال الكلبي : أحسن طاعة . وقال القاسم بن محمد ما عليها من الأنبياء والعلماء ليبلوَ المرسل إليم والمقلدين للعلماء أيهم أحسن قبولاً وإجابة . وقال سهل : أحسن توكلاً علينا فيها .

وقيل : أصفى قلباً وأحسن سمتاً . وقال ابن إسحاق : أيهم أتبع لأمري وأعمل بطاعتي .

٨

وإنا لجاعلون ما . . . . .

و { أَنَاْ لَجَاعِلُونَ } أي مصيرون { مَا عَلَيْهَا } مما كان زينة لها أو { مَا عَلَيْهَا } مما هو أعم من الزينة وغيره { صَعِيداً } تراباً{ جُرُزاً } الأنبات فيه ، وهذا إشارة إلى التزهيد في الدنيا والرغبة عنها وتسلية للرسول صلى اللّه عليه وسلم عن ما تضمنته أيدي المترفين من زينتها ، إذ مآل ذلك كزله إلى الفناء والحاق .

وقال الزمخشري :{ مَا عَلَيْهَا } من هذه الزينة { صَعِيداً جُرُزاً } يعني مثل أرض بيضاء لا نبات فيها بعد أن كانت خضراء معشبة في إزالة بهجته وإماطة حسنة وإبطال ما به كان زينة من إماتة الحيوان وتجفيف النبات والأشجار ونحو ذلك انتهى . قيل : والصعيد ما تصاعد على وجه الأرض . وقال مجاهد : الأرض التي لا نبات بها . وقال السدّي الأملس المستوي .

وقيل : الطريق . وفي الحديث : { إياكم والقعود على الصعدات} .

٩

أم حسبت أن . . . . .

{أَمْ } هنا هي المنقطعة فتتقدر ببل والهمزة . قيل : للإضراب عن الكلام الأول بمعنى الانتقال من كلام إلى آخر لا بمعنى الإبطال ، والهمزة للإستفهام . وزعم بعض النحويين أن { أَمْ } هنا بمعنى الهمزة فقط ، والظاهر في { أَمْ حَسِبْتَ } أنه خطاب للرسول صلى اللّه عليه وسلم. فقال مجاهد : لم ينهه عن التعجب وإنما أراد كل آياتنا كذلك . وقال قتادة : لا يتعجب منها فالعجائب في خلق السموات والأرض أكثر .

وقال ابن عباس : سألوك عن ذلك ليجعلوا جوابك علامة لصدقك وكذبك ، وسائر آيات القرآن أبلغ وأعجب وأدل على صدقك . وقال الطبري : تقرير له عليه السلام على حسبانه { أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ } كانوا { عَجَبًا } بمعنى إنكار ذلك عليه أن لا يعظم ذلك بحسب ما عظمه عليك السائلون من الكفرة ، فإن سائر آيات اللّه أعظم من قصتهم . قال : وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن إسحاق . وقال الزهراوي : يحتمل معنى آخر وهو أن يكون استفهاماً له هل علم { أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ كَانُواْ عَجَبًا } بمعنى إثبات أنهم عجب ، ويكون فائدة تقريره جمع نفسه للأمر لأن جوابه أن يقول لم أحسب ولا علمته ، فيقال له وصفهم عند ذلك والتجوز في هذا التأويل هو في لفظة حسبت انتهى . وقال غيره : معناه أعلمت أي لم تعلمه حتى أعلمتك .

وقال الزمخشري : ذكر من الآيات الكلية تزيين الأرض بما خلق فوقها من الأجناس التي لا حصر لها ، وإزالة ذلك كله كأن

لم يكن ثم قال : { أَمْ حَسِبْتَ } يعني { ءانٍ } ذلك من قصة أهل الكهف وإبقاء حياتهم مدة طويلة انتهى .

وقيل :أي أم علمت أي فاعلم أنهم { كَانُواْ }{ عَجَبًا } كما تقول : أعلمت أن فلاناً فعل كذا أي قد فعل فاعلمه .

وقيل : الخطاب للسامع ، والمراد المشركون أي قل لهم { أَمْ حَسِبْتُمْ } الآية . والظن قد يقام مقام العلم ، فكذلك حسبت بمعنى علمت والكهف تقدم تفسيره في المفردات . وعن أنس : الكهف الجبل . قال القاضي : وهذا غير مشهور في اللغة . وقال مجاهد : تفريج بين الجبلين ، والظاهر { أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ } هم الفتية المذكورون هنا . وعن ابن المسيب أنهم قوم كان حالهم كأصحاب الكهف . فقال الضحاك { الرقيم } بلدة بالروم فيها غار فيه أحد وعشرون نفساً أموات كلهم نيام على هيئة { أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ}

وقيل : هم أصحاب الغار ففي الحديث عن النعمان بن بشير أنه سمع الرسول صلى اللّه عليه وسلم يذكر الرقيم قال : { إن ثلاثة نفر أصابتهم السماء فأووا إلى الكهف فانحطت صخرة من الجبل فانطبقت على باب الكهف} . وذكر الحديث وهو حديث المستأجر والعفيف وبارّ والديه ، وفيما أورده فيه زيادة ألفاظ على ما في الصحيح . ومن قال إنهم طائفتان قال : أخبر اللّه عن { أَصْحَابَ الْكَهْفِ } ولم يخبر عن أصحاب { الرقيم } بشيء ، ومن قال : بأنهم طائفة واحدة اختلفوا في شرح { الرقيم } فعن ابن عباس : إن لا يدري ما { الرقيم } أكتاب أم بنيان ، وعنه أنه كتاب كان عندهم فيه الشرع الذي تمسكوا به من دين المسيح عليه السلام .

وقيل : من دين قبل عيسى ،

وعن ابن عباس ووهب أنه اسم قريتهم .

وقيل : لوح من ذهب تحت الجدار أقامه الخضر عليه السلام .

وقيل : كتب فيه أسماؤهم وقصتهم وسبب خروجهم .

وقيل : لوح من رصاص كتب فيه شأن الفتية ووضع في تابوت من نحاس في فم الكهف .

وقيل : صخرة كتب فيها أسماؤهم وجعلت في سور المدينة .

وقيل : اسم كلبهم وتقدم بيت أمية قاله أنس والشعبي وابن جبير ، وعن الحسن : الجبل الذي به الكهف وعن عكرمة اسم الدواة بالرومية .

وقيل : اسم للوادي الذي فيه الكهف .

وقيل : رقم الناس حديثهم نقراً في الجبل .

و { ءايَاتِنَا عَجَبًا } نصب على أنه صفة لمحذوف دل عليه ما قبله ، وتقديره آية { عَجَبًا } ، وصفت بالمصدر أو على تقدير ذات عجب

وأما أسماء فتية أهل الكهف فأعجمية لا تنضبط بشكل ولا نقط ، والسند في معرفتها ضعيف والرواة مختلفون في قصصهم وكيف كان اجتماعهم وخروجهم ، ولم يأت في الحديث الصحيح كيفية ذلك ولا في القرآن إلاّ ما قص تعالى علينا من قصصهم ، ومن أراد تطلب ذلك في كتب التفسير . ورُوي أن اسم الملك الكافر الذي خرجوا في أيامه عن ملته اسمه دقياً نوس . وروي أنهم كانوا في الروم .

وقيل : في الشام وأن بالشام كهفاً فيه موتي ، ويزعم مجاوروه أنهم { أَصْحَابَ الْكَهْفِ } وعليهم مسجد وبناء يسمي { الرقيم } ومعهم كلب رمة . وبالأندلس في جهة غرناطة بقرب قرية تسمى لوشة كهف فيه موتي ومعهم كلب رمّة وأكثرهم قد انجرد لحمه وبعضهم متماسك ، وقد مضت القرون السالفة ولم نجد من علم شأنهم ويزعم ناس أنهم { أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ}

قال ابن عطية : دخلت إليهم فرأيتهم منذ أربع وخمسمائة وهم بهذه الحالة وعليهم مسجد وقريب منهم بناء رومي يسمي { الرقيم } كأنه قصر مخلق قد بقي بعض جدرانه ، وهو في فلاة من الأرض خربة وبأعلى حضرة غرناطة مما يلي القبلة آثار مدينة قديمة يقال لها مدينة دقيوس . وجدنا في آثارها غرائب من قبور ونحوها وإنما استسهلت ذكر هذا مع بعده لأنه عجب يتخلد ذكره ما شاء اللّه عز وجل انتهى . وحين كنا بالأندلس كان الناس يزورون هذا الكهف ويذكرون أنهم يغلطون في عدتهم إذا عدوهم ، وأن معهم كلباً ويرحل الناس إلى لوشة لزيارتهم ،

وأما ما ذكرت من مدينة دقيوس التي بقبلي غرناطة فقد مررت عليها مراراً لا تحصى ، وشاهدت فيها حجارة كباراً ، ويترجح كون أهل الكهف بالأندلس لكثرة دين النصاري بها حتى أنها هي بلاد مملكتهم العظمى ، ولأن الأخبار بما هو في أقصى مكان من أرض الحجاز أغرب وأبعد أن يعرفه أحد إلاّ بوحي من اللّه تعالى .

١٠

إذ أوى الفتية . . . . .

والعامل في { الْمُرْسَلِينَ إِذْ} قيل : أذكر مضمرة .

وقيل { عَجَبًا } ، ومعنى { أَوَى } جعلوه مأوى لهم ومكان اعتصام ، ثم دعوا اللّه تعالى أن يؤتيهم رحمة من عنده وفسرها المفسرون بالرزق .

وقال الزمخشري : هي المغفرة والرزق والأمن من الأعداء . و { الْفِتْيَةُ } جمع فتي جمع تكسير جمع قلة ، وكذلك كانوا قليلين . وعند ابن السراج أنه اسم جمع لا جمع تكسير . ولفظ { الْفِتْيَةُ } يشعر بأنهم كانوا شباباً وكذا روي أنهم كانوا شباباً من أبناء الأشراف والعظماء مطوقين مسورين بالذهب ذوي ذوائب وهم من الروم ، اتبعوا دين عيسى عليه السلام .

وقيل : كانوا قبل عيسى وأصحابنا الأندلسيون تكثر في ألفاظهم تسمية نصاري الأندلس بالروم في نثرهم ونظمهم ومخاطبة عامتهم ، فيقولون : غزونا الروم ، جاءنا الروم . وقل من ينطق بلفظ النصاري ، ولما دعوا بإيتاء الرحمة وهي تتضمن الرزق وغيره ، دعوا اللّه بأن يهيء لهم من أمرهم الذي صاروا إليه من مفارقة دين أهليهم وتوحيد اللّه رشداً وهي الاهتداء والديمومة عليه .

وقال الزمخشري : واجعل { أَمْرِنَا رَشَدًا } كله كقولك رأيت منك أسداً .

وقرأ أبو جعفر وشيبة والزهري : وهي ويهيي بياءين من غير همز ، يعني أنه أبدل الهمزة الساكنة ياء . وفي كتاب ابن خالويه الأعشى عن أبي بكر عن عاصم : وهيء لنا ويهي لكم لا يهمز انتهى . فاحتمل أن يكون أبدل الهمزة ياءً ، واحتمل أن يكون حذفها فالأول إبدال قياسي ، والثاني مختلف فيه ينقاس حذف الحرف المبدل من الهمزة في الأمر أو المضارع إذا كان مجزوماً .

وقرأ أبو رجاء : رشد بضم الراء وإسكان الشين .

وقرأ الجمهور { رَشَدًا } بفتحهما .

قال ابن عطية : وهي أرجح لشبهها بفواصل الآيات قبل وبعد ، وهذا الدعاء منهم كان في أمر دنياهم وألفاظه تقتضي ذلك ، وقد كانوا على ثقة من رشد الآخرة ورحمتهما ، وينبغي لكل مؤمن أن يجعل دعاءه في أمر دنياه هذه الآية فإنها كافية ، ويحتمل ذكر الرحمة أن يراد بها أمر الآخرة انتهى .

١١

فضربنا على آذانهم . . . . .

{فَضَرَبْنَا عَلَىءاذَانِهِمْ } استعارة بديعة للإنامة المستثقلة التي لا يكاد يسمع معها ، وعبر بالضرب ليدل على قوة المباشرة واللصوق واللزوم ومنه { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلَّةُ } وضرب الجزية وضرب البعث . وقال الفرزدق : ضربت عليك العنكبوت بنسجها

وقضي عليك به الكتاب المنزل

وقال الأسود بن يعفر ومن الحوادث لا أبا لك أنني

ضربت على الأرض بالأسداد وقال آخر :

إن المروءة والسماحة والندي في قبة ضربت على ابن الحشرج استعير للزوم هذه الأوصاف لهذا الممدوح ، وذكر الجارحة التي هي الآذان إذ هي يكون منها السمع لأنه لا يستحكم نوم إلاّ مع تعطل السمع . وفي الحديث : { ذلك رجل بال الشيطان في أذنه } أي استثقل نومه جداً حتى لا

يقوم بالليل . ومفعول ضربنا محذوف أي حجاباً من أن يسمع كما يقال بني على امرأته يريدون بني عليها القبة . وانتصب { سِنِينَ } على الظرف والعامل فيه { فَضَرَبْنَا } ، و { عَدَدًا } مصدر وصف به أو منتصب بفعل مضمر أي بعد { عَدَدًا } وبمعنى اسم المفعول كالقبض والنفض ، ووصف به { سِنِينَ } أي { سِنِينَ } معدودة . والظاهر في قوله { عَدَدًا } الدلالة على الكثرة لأنه لا يحتاج أن يعد إلاّ ما كثر لا ما قل .

وقال الزمخشري : ويحتمل أن يريد القلة لأن الكثير قليل عنده كقوله { لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مّن نَّهَارٍ } انتهى وهذا تحريف في التشبيه لأن لفظ الآية كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلاّ ساعة من نهار ، فهذا تشبيه لسرعة انقضاء ما عاشوا في الدنيا إذا رأوا العذاب كما قال الشاعر :

كأن الفتي لم يعر يوماً إذا اكتسي

ولم يك صعلوكاً إذا ما تمولاً

١٢

ثم بعثناهم لنعلم . . . . .

{ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ } أي أيقظناهم من نومهم ، والبعث التحريك عن سكون إما في الشخص

وإما عن الأمر المبعوث فيه ، وإن كان المبعوث فيه متحركاً و { لَنَعْلَمُ } أي لنظهر لهم ما علمناه من أمرهم ، وتقدم الكلام في نظير هذا في قوله { لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ} وفي التحرير

وقرأ الجمهور :{ لَنَعْلَمُ } بالنون ،

وقرأ الزهري بالياء وفي كتاب ابن خالوية ليعلم { أَيُّ الحِزْبَيْنِ } حكاه الأخفش . وفي الكشاف وقرىء ليعلم وهو معلق عنه لأن ارتفاعه بالإبتداء لا بإسناد يعلم إليه ، وفاعل يعلم مضمون الجملة كما أن مفعول يعلم انتهى . فأما قراءة لنعلم فيظهر أن ذلك التفات خرج من ضمير المتكلم إلى ضمير الغيبة ، فيكون معناها ومعنى { لَنَعْلَمُ } بالنون سواء ،

وأما ليعلم فيظهر أن المفعول الأول محذوف لدلالة المعنى عليه ، والتقدير ليعلم اللّه الناس { أَيُّ الحِزْبَيْنِ} والجملة من الابتداء والخبر في موضع مفعولي يعلم الثاني والثالث ، وليعلم معلق .

وأما ما في الكشاف فلا يجوز ما ذكر على مذهب البصريين لأن الجملة إذ ذاك تكون في موضع المفعول الذي لا يسمى فاعله وهو قائم مقام الفاعل ، فكما أن تلك الجملة وغيرها من الجمل لا تقوم مقام الفاعل فكذلك لا يقوم مقام ما ناب عنه . وللكوفيين مذهبان :

أحدهما : أنه يجوز الإسناد إلى الجملة اللفظية مطلقاً .

والثاني : أنه لا يجوز إلاّ إن كان مما يصح تعليقه .

والظاهر أن الحزبين هما منهم لقوله تعالى { وَكَذالِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ } الآية . وكأن الذين قالوا ربكم أعلم بما لبثتم علموا أن لبثهم تطاول ، ويدل على ذلك أنه تعالى بدأ بقصتهم ولا مختصرة من قوله { أَمْ حَسِبْتَ } إلى قوله { أَمَدًا } ثم قصها تعالى مطولة مسهبة من قوله { نَحْنُ نَقُصُّ إِلَى قَوْلُهُ قُلِ اللّه أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ}

و

قال ابن عطية : والظاهر من الآية أن الحزب الواحد هم { الْفِتْيَةُ } أي ظنوا لبثهم قليلاً ، والحزب الثاني هم أهل المدينة الذين بعث الفتية على عهدهم حين كان عندهم التاريخ بأمر الفتية ، وهذا قول الجمهور من المفسرين انتهى . وقالت فرقة : هما حزبان كافران اختلفا في مدة أهل الكهف . قال السدّي من اليهود والنصارى الذين علموا قريشاً السؤال عن أهل الكهف ، وعن الخضر وعن الروح وكانوا قد اختلفوا في مدة إقامة أهل الكهف في الكهف . وقال مجاهد : قوم أهل الكهف كان منهم مؤمنون وكافرون واختلفوا في مدة إقامتهم .

وقيل : حزبان من المؤمنين في زمن { أَصْحَابَ الْكَهْفِ } اختلفوا في مدة لبثهم قاله الفراء .

وقال ابن عباس الملوك الذين تداولوا ملك المدينة حزب وأهل الكهف حزب . وقال ابن بحر : الحزبان اللّه والخلق كقوله { أَعْلَمُ أَمِ اللّه وَمَنْ } وهذه كلها أقوال مضطربة . وقال ابن قتادة : لم يكن للفريقين علم بلبثهم لا لمؤمن ولا لكافر بدليل قوله { اللّه أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ} وقال مقاتل : كما بعثوا زال الشك وعرفت حقيقة اللبث .

و { أَحْصَى } جوز الحوفي وأبو البقاء أن يكون فعلاً ماضياً ، وما مصدرية و { أَمَدًا } مفعول به ، وأن يكون أفعل تفضيل و { أَمَدًا } تمييز .

واختار الزجاج والتبريزي أن يكون أفعل للتفضيل واختار الفارسي والزمخشري وابن عطية أن تكون فعلاً ماضياً ، ورجحوا هذا بأن { أَحْصَى } إذا كان للمبالغة كان بناء من غير الثلاثي ، وعندهم أن ما أعطاه وما أولاه للمعروف وأعدى من الجرب شاذ لا يقاس . ويقول أبو إسحاق : إنه قد كثر من الرباعي فيجوز ، وخلط ابن عطية فأورد فيما بني من الرباعي ما أعطاه للمال وآتاه للخير وهي أسود من القار وماؤه أبيض من اللبن . وفهو لما سواها أضيع . قال : وهذه كلها أفعل من الرباعي انتهى . وأسود وأبيض ليس بناؤهما من الرباعي . وفي بناء أفعل للتعجب وللتفضيل ثلاثة مذاهب يبني منه مطلقاً وهو ظاهر كلام سيبويه ، وقد جاءت منه ألفاظ ولا يبني منه مطلقاً وما ورد حمل على الشذود والتفصيل بين أن تكون الهمزة للنقل . فلا يجوز ، أو لغير النقل كأشكل الأمر وأظلم الليل فيجوز أن تقول ما أشكل هذه المسألة ، وما أظلم هذا الليل . وهذا اختيار ابن عصفور من أصحابنا . ودلائل هذه المذاهب مذكورة في كتب النحو ، وإذا قلنا بأن { أَحْصَى } اسم للتفضيل جاز أن يكون { أَيُّ الحِزْبَيْنِ } موصولاً مبنياً على مذهب سيبويه لوجود شرط جواز البناء فيه ، وهو كون { أَيُّ } مضافة حذف صدر صلتها ، والتقدير ليعلم الفريق الذي هو { أَحْصَى }{ لِمَا لَبِثُواْ أَمَدًا } من الذين لم يحصوا ، وإذا كان فعلاً ماضياً امتنع ذلك لأنه إذ ذاك لم يحذف صدر صلتها لوقوع الفعل صلة بنفسه على تقدير جعل { أَيُّ } موصولة فلا يجوز بناؤها لأنه فات تمام شرطها ، وهو أن يكون حذف صدر صلتها .

وقال :

فإن قلت : فما تقول فيمن جعله من أفعل التفضيل ؟

قلت : ليس بالوجه السديد ، وذلك أن بناءه من غير الثلاثي المجرد ليس بقياس ، ونحو أعدي من الجرب ، وأفلس من ابن المذلق شاذ ، والقياس على الشاذ في غير القرآن ممتنع فكيف به ، ولأن { أَمَدًا } لا يخلو إما أن ينصب بأفعل فأفعل لا يعمل ،

وإما أن ينصب بلبثوا فلا يسد عليه المعنى ، فإن زعمت أني أنصبه بإضمار فعل يدل عليه { أَحْصَى } كما أضمر في قوله :

واضرب منا بالسيوف القوانسا

على يضرب القوانس فقد أبعدت المتناول وهو قريب حيث أبيت أن يكون { أَحْصَى } فعلاً ثم رجعت مضطراً إلى تقديره وإضماره انتهى . أما دعواه الشذوذ فهو مذهب أبي عليّ ، وقد ذكرنا أن ظاهر مذهب سيبويه جواز بنائه من أفعل مطلقاً وأنه مذهب أبي إسحاق وأن التفصيل اختيار ابن عصفور وقول غيره . والهمزة في { أَحْصَى } ليست للنقل .

وأما قوله فافعل لا يعمل ليس بصحيح فإنه يعمل في التمييز ، و { أَمَدًا } تمييز وهكذا أعربه من زعم أن { أَحْصَى } أفعل للتفضيل ، كما تقول : زيداً أقطع الناس سيفاً ، وزيد أقطع للّهام سيفاً ، ولم يعربه مفعولاً به .

وأما قوله :

وإما أن ينصب بلبثوا فلا يسد عليه المعنى أي لا يكون سديداً فقد ذهب الطبري إلى نصب { أَمَدًا } بلبثوا .

قال ابن عطية : وهذا غير متجه انتهى . وقد يتجه ذلك أن الأمد هو الغاية ويكون عبارة عن المدة من حيث أن للمدة غاية في أمد المدة على الحقيقة ، وما بمعنى الذي و { أَمَدًا } منتصب على إسقاط الحرف ، وتقديره لما { لَبِثُواْ } من أمد أي مدة ، ويصير من أمد تفسيراً لما أنهم في لفظ { مَا لَبِثُواْ } كقوله { مَا نَنسَخْ مِنْ ءايَةٍ مَّا يَفْتَحِ اللّه لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ } ولما سقط الحرف وصل إليه الفعل .

وأما قوله : فإن زعمت إلى آخره فيقول : لا يحتاج إلى هذا الزعم لأنه

لقائل ذلك أن يسلك مذهب الكوفيين في أن أفعل التفضيل ينتصب المفعول به ، فالقوانس عندهم منصوب بأضرب نصب المفعول به ، وإنما تأويله بضرب القوانس قول البصريين ، ولذلك ذهب بعض النحويين إلى أن قوله { أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ } من منصوبة بأعلم نصب المفعول به ، ولو كثر وجود مثل .

واضرب منا بالسيوف القوانسا

لكنا نقيسه ويكون معناه صحيحاً لأن أفعل التفضيل مضمن معنى المصدر فيعمل بذلك التضمين ، ألا ترى أن المعنى يزيد ضربنا بالسيوف القوانسا على ضرب غيرنا ، ولما ذكر قوله ليعلم مشعراً باختلاف في أمرهم عقب بأنه تعالى هو الذي يقص شيئاً فشيئاً على رسوله صلى اللّه عليه وسلم خبرهم { بِالْحَقّ } أي على وجه الصدق ،

١٣

نحن نقص عليك . . . . .

وجاء لفظ { نَحْنُ نَقُصُّ } موازياً لقوله لنعلم .

ثم قال { بِرَبّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ } ففيه إضافة الرب وهو السيد والناظر في مصلحة عبيده ، ولم يأت التركيب { ءامَنُواْ } بناء للأشعار بتلك الرتبة وهي أنهم مربوبون له مملوكون . ثم قال :{ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى } ولم يأت التركيب وزادهم لما في لفظة نا من العظمة والجلال ، وزيادته تعالى لهم { هُدًى } هو تيسيرهم للعمل الصالح والإنقطاع إليه ومباعدة الناس والزهد في الدنيا ، وهذه زيادة في الإيمان الذي حصل لهم . وفي التحرير { زِدْنَاهُمْ } ثمرات { هُدًى } أو يقيناً قولان ، وما حصلت به الزيادة امتثال المأمور وترك المنهي ، أو إنطاق الكلب لهم بأنه هو على ما هم عليه من الإيمان ، أو إنزال ملك عليهم بالتبشير والتثبيت وإخبارهم بظهور نبي من العرب يكون الدين به كله للّه فآمنوا به قبل بعثه أقوال ملخصة من التحرير .

١٤

وربطنا على قلوبهم . . . . .

{وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ } ثبتناها وقوّيناها على الصبر على هجرة الوطن والنعيم والفرار بالدين إلى غار في مكان قفر لا أنيس به ولا ماء ولا طعام ، ولما كان الفزع وخوف النفس يشبه بالتناسب الإنحلال حسن في شدة النفس وقوّة التصميم أن تشبه الربط ، ومنه فلان رابط الجأش إذا كانت نفسه لا تتفرق عند الفزع والحرب .

وقال تعالى :{ إِن كَادَتْ لَتُبْدِى بِهِ لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا } والعامل في { أَن رَّبَطْنَا } أي ربطنا حين { قَامُواْ } ، ويحتمل القيام أن يكون مقامهم بين يديّ الملك الكافر دقيانوس ، فإنه مقام محتاج إلى الربط على القلب حيث صلبوا عليه وخلعوا دينه ورفضوا في ذات اللّه هيبته ، ويحتمل أن يكون عبارة عن انبعاثهم بالعزم إلى الهروب إلى اللّه ومنابذة الناس كما يقال : قام فلان إلى كذا إذا اعتزم عليه بغاية الجد .

وقال الكرماني :{ قَامُواْ } على أرجلهم .

وقيل :{ قَامُواْ } يدعون الناس سرّاً . وقال عطاء { قَامُواْ } عند قيامهم من النوم قالوا

وقيل :{ قَامُواْ } على إيمانهم . وقال صاحب الغنيان :{ إِذْ قَامُواْ } بين يديّ الملك فتحركت هرة .

وقيل : فأرة ففزع دقيانوس فنظر بعضهم إلى بعض فلم يتمالكوا أن قالوا { رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ } وكان قومهم عباد أصنام ، وما أحسن ما وحدوا اللّه بأن ربهم هو موجد السموات والأرض المتصرّف فيها على ما يشاء ، ثم أكدوا هذا التوجيد بالبراءة من إله غيره بلفظ النفي المستغرق تأبيد الزمان على قول . واللام في { لَقَدِ } لام توكيد و { إِذَا } حرف جواب وجزاء ، أي { لَّقَدْ قُلْنَا } لن ندعو من دونه إلهاً قولاً{ شَطَطًا } أي ذا شطط وهو التعدي والجور ، فشططاً نعت لمصدر محذوف إما على الحذف كما قدرناه ،

وإما على الوصف به على جهة المبالغة .

وقيل : مفعول به بقلنا . وقال قتادة :{ شَطَطًا } كذباً . وقال أبو زيد : خطأً .

١٥

هؤلاء قومنا اتخذوا . . . . .

{هَؤُلاء قَوْمُنَا اتَّخَذْواْ مِن دُونِهِ ءالِهَةً لَّوْلاَ يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّه كَذِبًا وَإِذِ}

ولما وحدوا اللّه تعالى ورفضوا ما دونه من الآلهة أخذوا في ذم قومهم وسوء فعلهم وأنهم لا حجة لهم في عبادة غير اللّه ، ثم عظموا جرم من افترى على اللّه كذباً وهذه المقالة يحتمل أن قالوها في مقامهم بين يديّ الملك تقبيحاً لما هو وقومهم عليه وذلك أبلغ في التبرّي من عبادة الأصنام ، وأفتّ في عضد الملك إذا اجترؤوا عليه بذم ما هو عليه ، ويحتمل أن قالوا ذلك عند قيامهم للأمر الذي عزموا عليه و { هَؤُلاء } مبتدأ .

و { قَوْمُنَا } قال الحوفي : خبر و { اتَّخَذُواْ } في موضع الحال .

وقال الزمخشري : وتبعه أبو البقاء :{ قَوْمُنَا } عطف بيان و { اتَّخَذُواْ } في موضع الخبر . والضمير في { مِن دُونِهِ } عائد على اللّه

ولولا تحضيض صحبه الإنكار إذ يستحيل وقوع سلطان بيَّن على ذلك فلا يمكن فيه التحضيض الصرف ، فحضوهم على ذلك على سبيل التعجيز لهم ، ومعنى { عَلَيْهِمْ } على اتخاذهم آلهة و { اتَّخَذُواْ } هنا يحتمل أن يكون بمعنى عملوا لأنها أصنام هم نحتوها ، وأن تكون بمعنى صيروا ، وفي ما ذكروه دليل على أن الديّن لا يؤخذ إلاّ بالحجة والدعوى إذا لم يكن عليها دليل فاسدة وهي ظلم وافتراء على اللّه وكذب بنسبة شركاء اللّه .

١٦

وإذ اعتزلتموهم وما . . . . .

و { إِذْ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ } خطاب من بعضهم لبعض والأعتزال يشمل مفارقة أوطان قومهم ومعتقداتهم فهو اعتزال جسماني وقلبي ، وما معطوف على المفعول في { اعْتَزَلْتُمُوهُمْ } أي واعتزلتم معبودهم و { إِلاَّ اللّه } استثناء متصل إن كان قومهم يعبدون اللّه مع آلهتهم لاندراج لفظ الجلالة في قوله { وَمَا يَعْبُدُونَ إَلاَّ اللّه}

وذكر أبو نعيم الحافظ عن عطاء الخراساني أنهم كانوا يعبدون اللّه ويعبدون معه آلهة فاعتزلت الفتية عبادة تلك الآلهة ولم يعتزلوا عبادة اللّه . وقال هذا أيضاً الفرّاء ، ومنقطع إن كانوا لا يعرفون اللّه ولا يعبدونه لعدم اندراجه في معبوداتهم . وفي مصحف عبد اللّه { وَمَا يَعْبُدُونَ } من دوننا انتهى وما في مصحف عبد اللّه فيما ذكر هارون إنما أريد به تفسير المعنى . وإن هؤلاء الفتية اعتزلوا قومهم { وَمَا يَعْبُدُونَ } من دون اللّه وليس ذلك قرآناً لمخالفتها لسواد المصحف ، ولأن المستفيض عن عبد اللّه بل هو متواتر ما ثبت في السواد وهو { مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّه}

وقيل :{ وَمَا يَعْبُدُونَ إَلاَّ اللّه } كلام معترض إخبار من اللّه تعالى عن الفتية أنهم لم يعبدوا غير اللّه تعالى ، فعلى هذا { مَا } فيه و { إِلا } استثناء مفرغ له العامل .

{فَأْوُواْ إِلَى الْكَهْفِ } أي اجعلوه مأوى لكم تقيمون فيه وتأوون إليه . وقوله { يَنْشُرْ } فيه ما كانوا عليه من التوكل حيث أووا إلى كهف ، ورتبوا على مأواهم إليه نشر رحمة اللّه عليهم وتهيئة رفقه تعالى بهم لأن من أخرجه من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان لا يضيعه ، والمعنى أنه تعالى سيبسط علينا رحمته ويهيء لنا ما نرتفق به في أمر عيشنا .

قال ابن عباس :{ اللّه لَكُمْ } يسهل عليكم ما تخافون من الملك وظلمه ، ويأتيكم باليسر والرفق واللطف . وقال ابن الأنباري : المعنى { اللّه لَكُمْ } بدلاً من أمركم الصعب { مّرْفَقًا} قال الشاعر : فليت لنا من ماء زمزم شربة

مبردة باتت على طهيان أي بدلاً من ماء زمزم .

وقال الزمخشري : إما أن يقولوا ذلك ثقة بفضل اللّه وقوة في رجائهم لتوكلهم عليه ونصوع يقينهم ،

وإما أن يخبرهم به نبيّ في عصرهم ،

وإما أن يكون بعضهم نبياً .

وقرأ أبو جعفر والأعرج وشيبة وحميد وابن سعدان ونافع وابن عامر وأبو بكر في رواية الأعشى والبرجي والجعفي عنه ، وأبو عمرو في رواية هارون بفتح الميم وكسر الفاء .

وقرأ ابن أبي إسحاق وطلحة والأعمش وباقي السبعة بكسر الميم وفتح الفاء رفقاً لأن جميعاً في الأمر الذي يرتفق به وفي الجارحة حكاه الزجاج وثعلب . ونقل مكي عن الفراء أنه قال : لا أعرف في الأمر وفي اليد وفي كل شيء إلاّ كسر الميم ، وأنكر الكسائي أن يكون المرفق من الجارحة إلاّ بفتح الميم وكسر الفاء ، وخالفه أبو حاتم وقال : المرفق بفتح الميم الموضع كالمسجد . وقال أبو زيد : هو مصدر كالرفق جاء على مفعل .

وقيل : هما لغتان فيما يرتفق به

وإما من اليد فبكسر الميم وفتح الفاء لا غير ، وعن الفراء أهل الحجاز يقولون { مّرْفَقًا } بفتح الميم وكسر الفاء فيما ارتفقت به ويكسرون مرفق الإنسان ، والعرب قد يكسرون الميم منهما جميعاً انتهى وأجاز معاذ فتح الميم والفاء .

١٧

وترى الشمس إذا . . . . .

{وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشّمَالِ وَهُمْ فِى فَجْوَةٍ مّنْهُ ذالِكَ} سقط : {من آيات اللّه من يهد اللّه فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا ، وتحسبهم أيقاظا وهم رقود ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا}

هنا جمل محذوفة دل عليها ما تقدم ، والتقدير { فَأْوُواْ إِلَى الْكَهْفِ } فألقى اللّه عليهم النوم واستجاب دعاءهم وأرفقهم في الكهف بأشياء .

وقرأ الحرميان ، وأبو عمر و { تَّزَاوَرُ } بإدغام تتزاور في الزاي .

وقرأ الكوفيون ، والأعمش ، وطلحة ، وابن أبي ليلى ، وابن مناذر ، وخلف ، وأبو عبيد ، وابن سعدان ، ومحمد بن عيسى الأصبهاني ، وأحمد بن جبير الأنطاكي بتخفيف الزاي إذا حذفوا التاء .

وقرأ ابن أبي إسحاق ، وابن عامر ، وقتادة ، وحميد ، ويعقوب عن العمري : تزورّ على وزن تحمر .

وقرأ الجحدري ، وأبو رجاء ، وأيوب السختياني ، وابن أبي عبلة ، وجابر ، وورد عن أيوب { تزوار } على وزن تحمارّ .

وقرأ ابن مسعود ، وأبو المتوكل : تزوئرُّ بهمزة قبل الراء على قولهم ادهأمّ واشعألّ فراراً من التقاء الساكنين ، والمعنى تزوغ وتميل .

و { كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ } جهة يمين الكهف ، وحقيقته الجهة المسماة باليمين يعني يمين الداخل إلى الكهف أو يمين الفتية . و { تَّقْرِضُهُمْ } لا تقر بهم من معنى القطيعة { وَهُمْ فِى فَجْوَةٍ } أي متسع من الكهف .

وقرأ الجمهور :{ تَّقْرِضُهُمْ } بالتاء . وقرأت فرقة بالياء أي يقرضهم الكهف . قال ابن عباس : المعنى أنهم كانوا لا تصيبهم الشمس ألبتة . وقالت فرقة : إنها كانت الشمس بالعشي تنالهم بما في مسها صلاح لأجسامهم ، وهذه الصفة مع الشمس تقتضي أنه كان لهم حاجب من جهة الجنوب ، وحاجب من جهة الدبور ، وهم في زاوية . وقال عبد اللّه بن مسلم : كان باب الكهف ينظر إلى بنات نعش وعلى هذا كان أعلى الكهف مستوراً من المطر .

قال ابن عطية : كان كهفهم مستقبل بنات نعش لا تدخله الشمس عند الطلوع ولا عند الغروب ، اختار اللّه لهم مضجعاً متسعاً في مقناة لا تدخل عليهم الشمس فتؤذيهم وتدفع عنهم كربة الغار وغمومه .

وقال الزمخشري : المعنى أنهم في ظل نهارهم كله لا تصيبهم الشمس في طلوعها ولا غروبها مع أنهم في مكان واسع منفتح معرّض لإصابة الشمس لولا أن اللّه يحجبها عنهم انتهى . وهو بسط قول الزجاج .

قال الزجاج : فعل الشمس آية { مِنْ آيَاتِ اللّه } دون أن يكون باب الكهف إلى جهة توجب ذلك . وقال أبو عليّ : معنى { تَّقْرِضُهُمْ } تعطيهم من ضوئها شيئاً ثم تزول سريعاً كالقرض يسترد ، والمعنى عنده أن الشمس تميل بالغدوة وتصيبه بالعشي إصابة خفيفة انتهى . ولو كان من القرض الذي يعطي ثم يسترد لكان الفعل رباعياً فكان يكون تقرضهم بالتاء مضمومة . لكنه من القطع ، وإنما التقدير تقرض لهم أي تقطع لهم من ضوئها شيئاً . قيل : ولو كانت الشمس لا تصيب مكانهم أصلاً لكان يفسد هواؤه ويتعفن ما فيه فهلكوا ، والمعنى أن تعالى دبر أمرهم فأسكنههم مسكناً لا يكثر سقوط الشمس فيه فيحمي ، ولا تغيب عنه غيبوبة دائمة فيعفن . والإشارة بذلك إلى ما صنعه تعالى بهم من ازورار الشمس وقرضها طالعة وغاربة آية من آياته يعني أن ما كان في ذلك السمت تصيبه الشمس ولا تصيبهم اختصاصاً لهم بالكرامة ، ومن قال أنه كان مستقبل بنات نعش بحيث كان له حاجب من الشمس كان الإشارة إلى أن حديثهم { مِنْ آيَاتِ اللّه } وهو هدايتهم إلى توحيده وإخراجهم من بين عبدة الأوثان وإيواؤهم إلى ذلك الكهف ، وحمايتهم من عدوّهم وإلقاء الهيبة عليهم ، وصرف الشمس عنهم يميناً وشمالاً لئلا تفسد أجسامهم وإنامتهم هذه المدة الطويلة ، وصونهم من البلي وثيابهم من التمزّق .

ويدل على أنه إشارة إلى الهداية قوله { مَن يَهْدِ اللّه فَهُوَ الْمُهْتَدِ } وهو لفظ عام يدخل فيه ما سبق نسبتهم وهم أهل الكهف ، { وَمَن يُضْلِلِ } عام أيضاً مثل دقيانوس الكافر وأصحابه ،

١٨

وتحسبهم أيقاظا وهم . . . . .

والخطاب في { وَتَحْسَبُهُمْ } وفي { وَتَرَى الشَّمْسَ } لمن قدر له أنه يطلع عليهم . قيل : كانوا مفتحة أعينهم وهم نيام فيحسبهم الناظر منتبهين . قال أبو محمد بن عطية : ويحتمل أن يحسب

الرائي ذلك لشدّة الحفظ الذي كان عليهم وقلة التغيير ، وذلك أن الغالب على النوام أن يكون لهم استرخاء وهيئات تقتضي النوم ، فيحسبه الرائي يقظان وإن كان مسدود العينين ، ولو صح فتح أعينهم بسند يقطع العذر كان أبين في أن يحسب عليهم التيقظ ، والظاهر أن قوله { وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا } إخبار مستأنف وليس على تقدير .

وقيل : في الكلام حذف تقديره لو رأيتهم لحسبتهم { أَيْقَاظًا}

والظاهر أن قوله { وَنُقَلّبُهُمْ } خبر مستأنف .

وقيل : إنما وقع الحسبان من جهة تقلبهم ، ولا سيما إذا كان من اليمين إلى الشمال ومن الشمال إلى اليمين وفي قراءة الجمهور { وَنُقَلّبُهُمْ } بالنون مزيد اعتناء اللّه بهم حيث أسند التقليب إليه تعالى ، وأنه هو الفاعل ذلك . وحكي الزمخشري أنه قرىء ويقلبهم بالياء مشدّداً أي يقلبهم اللّه .

وقرأ الحسن فيما حكي الأهوازي في الإقناع : ويقلبهم بياء مفتوحة ساكنة القاف مخففة اللام .

وقرأ الحسن فيما حكي ابن جنيّ : وتقلبهم مصدر تقلب منصوباً ، وقال : هذا نصب بفعل مقدر كأنه قال : وترى أو تشاهد تقلبهم ، وعنه أيضاً أنه قرأ كذلك إلاّ أنه ضم الياء فهو مصدر مرتفع بالابتداء قاله أبو حاتم ، وذكر هذه القراءة ابن خالويه عن اليماني . وذكر أن عكرمة قرأ وتقلبهم بالتاء باثنتين من فوق مضارع قلب مخففاً . قيل : والفائدة في تقليبهم في الجهتين لئلا تبلي الأرض ثيابهم وتأكل لحومهم ، فيعتقدوا أنهم ماتوا وهذا فيه بعد ، فإن اللّه الذي قدر على أن يبقيهم أحياء تلك المدة الطويلة هو قادر على حفظ أجسامهم وثيابهم .

وعن ابن عباس : لو مستهم الشمس لأحرقتهم ، ولو لا التقليب لأكلتهم الأرض انتهى . و { ذَاتُ } بمعنى صاحبة أي جهة { ذَاتَ الْيَمِينِ} ونقل المفسرون الخلاف في أوقات تقليبهم وفي عدد التقليبات ، عن ابن عباس ، وأبي هريرة ، وقتادة ، ومجاهد ، وابن عياض بأقوال متعارضة متناقضة ضربنا عن نقلها صفحاً وكذلك لم نتعرض لأسم كلبهم ولا لكونه كلب زرع أو غيره ، لأن مثل العدد والوصف والتسمية لا يدرك بالعقل وإنما يدرك بالسمع ، والسمع لا يكون في مثل هذا إلاّ عن الأنبياء أو الكتب الإلهية ، ويستحيل ورود هذا الاختلاف عنها . والظاهر أن قوله { وَكَلْبُهُمْ } أريد به الحيوان المعروف ، وأبعد من ذهب إلى أنه أسد ، وأبعد من ذلك قول من ذهب إلى أنه رجل طباخ لهم تبعهم ، أو أحدهم قعد عند الباب طليعة لهم . وحكي أبو عمر والزاهد غلام ثعلب أنه قرىء وكالئهم اسم فاعل من كلأ إذا حفظ ، فينبغي أن يحمل على أنه الكلب لحفظه للإنسان . قيل : ويحتمل أن يراد بالكاليء الرجل على ما روي إذ بسط الذراعين واللصوق بالأرض مع رفع الوجه للتطلع هي هيئة الربيئة المستخفي بنفسه .

وقرأ أبو جعفر الصادق : وكالبهم بالباء بواحدة أي صاحب كلبهم ، كما تقول لابن وتامر أي صاحب لبن وتمر .

وقال الزمخشري :{ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ } حكاية حال ماضية ، لأن اسم الفاعل لا يعمل إذا كان في معنى المضي ، وإضافته إذا أضيف حقيقة معرفة كغلام

زيد إلاّ إذا نويت حكاية الحال الماضية انتهى . وقوله لأن اسم الفاعل لا يعمل إذا كان في معنى المضي ليس إجماعاً ، بل ذهب الكسائي وهشام ، ومن أصحابنا أبو جعفر بن مضاء إلى أنه يجوز أن يعمل ، وحجج الفريقين مذكورة في علم النحو .

والوصيد قال ابن عباس : الباب . وعنه أيضاً وعن مجاهد وابن جبير : الفناء . وعن قتادة : الصعيد والتراب .

وقيل : العتبة . وعن ابن جبير أيضاً التراب . والخطاب في { لَوِ اطَّلَعْتَ } لمن هو في قوله { وَتَرَى الشَّمْسَ }{ وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا}

وقرأ ابن وثاب والأعمش :{ لَوِ اطَّلَعْتَ } بضم الواو وصلاً .

وقرأ الجمهور : بكسرها ، وقد ذكر ضمها عن شيبة وأبي جعفر ونافع وغلبة الرعب لما ألقى اللّه عليهم من الهيبة والجلال ، فمن رام الإطلاع عليهم أدركته تلك الهيبة .

ومعنى { لَوْلَّيْتَ مِنْهُمْ } أعرضت بوجهك عنهم . وأوليتهم كشحك ، وانتصب { فِرَاراً } على المصدر إما لفررت محذوفة ،

وإما { لَوْلَّيْتَ } لأنه بمعنى لفررت ،

وإما مفعولاً من أجله . وانتصب { رُعْبًا } على أنه مفعول ثان ، وأبعد من ذهب إلى أنه تمييز منقول من المفعول كقوله { وَفَجَّرْنَا الاْرْضَ عُيُوناً } على مذهب من أجاز نقل التمييز من المفعول ، لأنك لو سلطت عليه الفعل ما تعدى إليه تعدى المفعول به بخلاف ، { وَفَجَّرْنَا الاْرْضَ عُيُوناً }

وقيل : سبب الرعب طول شعورهم وأظفارهم وصفرة وجوههم وتغيير أطمارهم .

وقيل : لإظلام المكان وإيحاشه ، وليس هذان القولان بشيء لأنهم لو كانوا بتلك الصفة أنكروا أحوالهم ولم يقولوا { لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } ولأن الذي بعث إلى المدينة لم ينكر إلاّ العالم والبناء لا حاله في نفسه ، ولأنهم بحالة حسنة بحيث لا يفرق الرائي بينهم وبين الأيقاظ { وَهُمْ فِى فَجْوَةٍ } تتخرقه الرياح والمكان الذي بهذه الصورة لا يكون موحشاً .

وقرأ ابن عباس ، والحرميان ، وأبو حيوة ، وابن أبي عبلة بتشديد اللام والهمزة .

وقرأ باقي السبعة بتخفيف اللام والهمزة .

وقرأ أبو جعفر وشيبة بتشديد اللام وإبدال الياء من الهمزة .

وقرأ الزهري بتخفيف اللام والإبدال ، وتقدم الخلاف في { رُعْبًا } في آل عمران .

وقرأ هنا بضم العين أبو جعفر وعيسى .

١٩

وكذلك بعثناهم ليتساءلوا . . . . .

الكاف للتشبيه والإشارة بذلك . قيل إلى المصدر المفهوم من { فَضَرَبْنَا عَلَىءاذَانِهِمْ } أي مثل جعلنا إنامتهم هذه المدة الطويلة آية ، جعلنا بعثهم آية . قاله الزجاج وحسنه الزمخشري . فقال : وكما أنمناهم تلك النومة { كَذالِكَ بَعَثْنَاهُمْ } إذكاراً بقدرته على الإماتة والبعث جميعاً ، ليسأل بعضهم بعضاً ويتعرّفوا حالهم وما صنع اللّه بهم ، فيعتبروا ويستدلوا على عظم قدرة اللّه ، ويزداد يقيناً ويشكر

وأما أنعم اللّه به عليهم وكرموا به انتهى . وناسب هذا التشبيه قوله تعالى حين أورد قصتهم أولاً مختصرة { فَضَرَبْنَا عَلَىءاذَانِهِمْ فِى الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ}

و

قال ابن عطية : الإشارة بذلك إلى الأمر الذي ذكره اللّه في جهتهم والعبرة التي فعلها فيهم ، واللام في { لِيَتَسَاءلُوا } لام الصيرورة لأن بعثهم لم يكن لنفس تساؤلهم انتهى . والقائل . قيل : كبيرهم مكلمينا .

وقيل : صاحب نفقتهم تمليخاً وكم سؤال عن العدد والمعنى كم يوماً أقمتم نائمين ، والظاهر صدور الشك من المسؤولين .

وقيل :{أَوْ } للتفضيل . قال بعضهم { لَبِثْنَا يَوْمًا}

وقال بعضهم { بَعْضَ يَوْمٍ } والسائل أحس في خاطره طول نومهم ولذلك سأل . قيل : ناموا أول النهار واستيقظوا آخر النهار ، وجوابهم هذا مبني على غلبة الظن والقول بالظن الغالب لا يعد كذباً ، ولما عرض لهم الشك في الإخبار ردوا علم لبثهم إلى اللّه تعالى .

وقال الزمخشري :{ قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ } إنكار عليهم من

بعضهم وأن اللّه تعالى أعلم بمدة لبثهم كان هؤلاء قد علموا بالأدلة أو بإلهام من اللّه أن المدة متطاولة وأن مقدارها مبهم لا يعلمه إلاّ اللّه انتهى . ولما انتبهوا من نومهم أخذهم ما يأخذ من نام طويلاً من الحاجة إلى الطعام ، واتصل { فَابْعَثُواْ } بحديث التساؤل كأنهم قالوا خذوا فيما يهمكم ودعوا علم ذلك إلى اللّه . والمبعوث قيل هو تمليخاً ، وكانوا قد استصحبوا حين خرجوا فارين دراهم لنفقتهم وكانت حاضرة عندهم ، فلهذا أشاروا إليها بقولهم { هَاذِهِ}

وقرأ أبو عمرو وحمزة وأبو بكر والحسن والأعمش واليزيدي ويعقوب في رواية ، وخلف وأبو عبيد وابن سعدان { بِوَرِقِكُمْ } بإسكان الراء .

وقرأ باقي السبعة وزيد بن عليّ بكسرها .

وقرأ أبو رجاء بكسر الواو وإسكان الراء وإدغام القاف في الكاف وكذا إسماعيل عن ابن محيض ، وعن ابن محيض أيضاً كذلك إلاّ أنه كسر الراء ليصح الإدغام ،

وقال الزمخشري :

وقرأ ابن كثير { بِوَرِقِكُمْ } بكسر الراء وإدغام القاف في الكاف انتهى . وهو مخالف لما نقل الناس عنه .

وحكى الزجاج قراءة بكسر الواو وسكون الراء دون إدغام .

وقرأ عليّ بن أبي طالب بوارقكم على وزن فاعل جعله اسم جمع كباقر وجائل .

و { الْمَدِينَةِ } هي مدينتهم التي خرجوا منها ،

وقيل وتسمى الآن طرسوس وكان اسمها عند خروجهم أفسوس .{ فَلْيَنظُرِ } يجوز أن يكون من نظر العين ، ويجوز أن يكون من نظر القلب ، والجملة في موضع نصب بفلينظر معلق عنها الفعل . و { أَيُّهَا } استفهام مبتدأ و { أَزْكَى } خبره ، ويجوز أن يكون { أَيُّهَا } موصولاً مبنياً مفعولاً لينظر على مذهب سيبويه ، و { أَزْكَى } خبر مبتدأ محذوف . و { أَزْكَى } قال ابن عباس وعطاء أحل ذبيحة وأطهر لأن عامة بلدتهم كانوا كفاراً يذبحون للطواغيت . وقال ابن جبير : أحل طعاماً . قال الضحاك : وكان أكثر أموالهم غصوباً . وقال مجاهد : قالوا له لا تبتع طعاماً فيه ظلم . وقال عكرمة : أكثر . وقال قتادة : أجود . وقال ابن السائب ومقاتل : أطيب . وقال يمان بن ريان : أرخص .

وقيل : أكثر بركة وريعاً .

وقيل : هو الأرز .

وقيل : التمر .

وقيل : الزبيب .

وقيل : في الكلام حذف أيأيّ أهلها { أَزْكَى طَعَامًا } فيكون ضمير المؤنث عائداً على { الْمَدِينَةِ } وإذا لم يكن حذف فيكون عائده على ما يفهم من سياق الكلام كأنه قيل أي المآكل .

وفي قوله :{ فَابْعَثُواْ أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ } دليل على أن حمل النفقة وما يصلح للمسافر هو رأي المتوكلين على اللّه دون المتوكلين على الإنفاقات وعلى ما في أوعية الناس . وقال بعض العلماء : ما لهذا السفر يعني سفر الحج إلا شيئان شد الهميان والتوكل على الرحمن .{ وَلْيَتَلَطَّفْ } في اختفائه وتحيله مدخلاً ومخرجاً .

وقال الزمخشري : وليتكلف اللطف والنيقة فيما يباشره من أمر المبايعة حتى لا يغبن ، أو في أمر التخفي حتى لا يعرف انتهى . والوجه الثاني هو الظاهر .

وقرأ الحسن :{ وَلْيَتَلَطَّفْ } بكسر لام الأمر ، وعن قتيبة الميال { وَلْيَتَلَطَّفْ } بضم الياء مبنياً للمفعول .{ وَلاَ يُشْعِرَنَّ } أي لا يفعل ما يؤدي من غير قصد منه إلى الشعور بنا ، سمي ذلك إشعاراً منه بهم لأنه سبب فيه .

وقرأ أبو صالح ويزيد بن القعقاع وقتيبة { وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ } أحد ببناء الفعل للفاعل ، ورفع أحد .

والضمير في { أَنَّهُمْ } عائد على ما دل عليه المعنى من كفار تلك المدينة .

وقيل : ويجوز أن يعود على { أَحَدًا } لأن لفظه للعموم فيجوز أن يجمع الضمير كقوله { فَمَا مِنكُم مّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } ففي حاجزين

ضمير جمع عائد على أحد .

٢٠

إنهم إن يظهروا . . . . .

وقال الزمخشري : الضمير في { أَنَّهُمْ } راجع إلى الأهل المقدر في { أَيُّهَا } والظهور هنا الإطلاع عليهم والعلم بمكانهم .

وقيل : العلو والغلبة .

وقرأ زيد بن عليّ{ يَظْهَرُواْ } بضم الياء مبنياً للمفعول ، والظاهر الرجم بالحجارة وكان الملك عازماً على قتلهم لو ظفر بهم ، والرجم كان عادة فيما سلف لمن خالف من الناس إذ هي أشفى ولهم فيها مشاركة . وقال حجاج : معناه بالقول يريد السب وقاله ابن جبير {أَوْ يُعِيدُوكُمْ } يدخلوكم فيها مكرهين ، ولا يلزم من العود إلى الشيء التلبس به قبل إذ يطلق ويراد به الصيرورة { وَلَن تُفْلِحُواْ } إن دخلتم في دينهم و { إِذَا } حرف جزاء وجواب ، وقد تقدم الكلام عليها وكثيراً ما يتضح تقدير شرط وجزاء .

٢١

وكذلك أعثرنا عليهم . . . . .

{وَكَذالِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُواْ أَنَّ وَعْدَ اللّه حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لاَ رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُواْ ابْنُواْ}

قبل هذا الكلام جمل محذوفة التقدير فبعثوا أحدهم ونظر أيها أزكى طعاماً وتلطف ، ولم يشعر بهم أحداً فأطلع اللّه أهل المدينة على حالهم وقصة ذهابه إلى المدينة وما جرى له مع أهلها ، وحمله إلى الملك وادعائهم عليه أنه أصاب كثيراً من كنوز الأقدمين ، وحمل الملك ومن ذهب معه إليهم مذكور في التفاسير ذلك بأطول مما جرى واللّه أعلم بتفاصيل ذلك ، ويقال عثرت على الأمر إذا أطّلعت عليه وأعثرني غيري إذا أطلعني عليه ، وتقدم الكلام على هذه المادة في قوله { فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً } ومفعول { أَعْثَرْنَا } محذوف تقديره { أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ } أهل مدينتهم ، والكاف في { وَكَذالِكَ } للتشبيه والتقدير وكما أنمناهم بعثناهم لما في ذلك من الحكمة أطلعنا عليهم ، والضمير في { لِيَعْلَمُواْ } عائد على مفعول { أَعْثَرْنَا } وإليه ذهب الطبري .

و { وَعَدَ اللّه } هو البعث لأن حالتهم في نومهم وانتباهتهم بعد المدة المتطاولة كحال من يموت ثم يبعث و { لاَ رَيْبَ } فيها أي لا شك ولا ارتياب في قيامها والمجازاة فيها ، وكان الذين أعثروا على أهل الكهف قد دخلتهم فتنة في أمر الحشر وبعث الأجساد من القبور ، فشك في ذلك بعض الناس واستبعدوه . وقالوا : تحشر الأرواح فشق على ملكهم وبقي حيران لا يدري كيف يبين أمره لهم حتى لبس المسوح وقعد على الرماد ، وتضرع إلى اللّه في حجة وبيان ، فأعثر اللّه على أهل الكهف ، فلما بعثهم اللّه تعالى وتبين الناس أمرهم سرّ الملك ورجع من كان شك في أمر بعث الأجساد إلى اليقين ، وإلى هذا وقعت الإشارة بقوله { إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ } و { إِذْ } معمولة لأعثرنا أو { لِيَعْلَمُواْ}

وقيل : يحتمل أن يعود الضمير في و { لِيَعْلَمُواْ } على أصحاب الكهف ، أي جعل اللّه أمرهم آية لهم دالة على بعث الأجساد من القبور . وقوله { إِذْ يَتَنَازَعُونَ } على هذا القول ابتداء خبر عن القوم الذين بعثوا على عهدهم ، والتنازع إذ ذاك في أمر البناء والمسجد لا في أمر القيامة .

وقيل : التنازع إنما هو في أن أطلعوا عليهم . فقال بعض : هم أموات . وقال بعض : هم أحياء . وروي أن الملك وأهل المدينة انطلقوا مع تمليخاً إلى الكهف وأبصروهم ثم قالت الفتية للملك : نستودعك اللّه ونعيذك به من شر الجن والإنس ثم رجعوا إلى مضاجعهم ، وتوفى اللّه أنفسهم وألقى الملك عليهم ثيابه ، وأمر فجعل لكل واحد تابوت من ذهب ، فرآهم في المنام كارهين للذهب فجعلها من الساج ، وبني على باب الكهف . والظاهر أن قوله { رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ } من كلام المتنازعين داخل تحت القول أي أمروا بالبناء وأخبروا بمضمون هذه الجملة كأنهم تذاكروا أمرهم وتناقلوا الكلام في أنسابهم وأحوالهم ، ومدة لبثهم فلما لم يهتدوا إلى حقيقة ذلك قالوا

{رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ}

وقيل : يحتمل أن يكون من كلام اللّه تعالى رد القول الخائضين في حديثهم من أولئك المتنازعين أو من الذين تنازعوا فيه على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من أهل الكتاب ، والذين غلبوا . قال قتادة : هم الولاة . روي أن طائفة ذهبت إلى أن يطمس الكهف عليهم ويتركوا فيه مغيبين ، وقالت الطائفة الغالبة :{ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِدًا } فاتخذوه .

وروي أن التي دعت إلى البنيان كانت كافرة أرادت بناء بيعة أو مصنع لكفرهم فمانعهم المؤمنون وبنوا عليهم مسجداً .

وقرأ الحسن وعيسى الثقفي :{ غَلَبُواْ } بضم الغين وكسر اللام ، والمعنى أن الطائفة التي أرادت المسجد كانت تريد أن لا يبني عليهم شيء ولا يعرض لموضعهم . وروي أن طائفة أخرى مؤمنة أرادت أن لا يطمس الكهف ، فلما غلبت الأولى على أن يكون بنيان ولا بد قالت يكون { مَّسْجِدًا } فكان . وعن ابن عمر أن اللّه عمى على الناس أمرهم وحجبهم عنه فذلك دعاء إلى بناء البنيان ليكون معلماً لهم .

٢٢

سيقولون ثلاثة رابعهم . . . . .

والظاهر أن الضمير في { سَيَقُولُونَ } عائد على من تقدم ذكرهم وهم المتنازعون في حديثهم قبل ظهورهم عليهم ، فأخبر تعالى نبيه بما كان من اختلاف قومهم في عددهم وكون الضمير عائداً على ما قلنا ذكره الماوردي .

وقيل : يعود على نصارى نجران تناظروا مع الرسول صلى اللّه عليه وسلم في عددهم . فقالت الملكانية : الجملة الأولى ، واليعقوبية الجملة الثانية ، والنسطورية الجملة الثالثة ، وهذا يروي عن ابن عباس . وفي الكشاف أن السيد قال الجملة الأولى وكان يعقوبياً ، والعاقب قال الثانية وكان نسطورياً ، والمسلمون قالوا الثالثة وأصابوا وعرفوا ذلك بإخبار الرسول عن جبريل عليهما الصلاة والسلام ، فتكون الضمائر في { سَيَقُولُونَ }{ وَيَقُولُونَ } عائداً بعضها على نصارى نجران ، وبعضها على المؤمنين . وعن عليّ هم سبعة نفر أسماؤهم تمليخاً ، ومكشلبيناً ومشلبيناً هؤلاء أصحاب يمين الملك ، وكان عن يساره مرنوش ، ودبرنوش ، وشاذنوش وكان يستثير هؤلاء الستة في أمره ، والسابع الراعي الذي وافقهم ، هربوا من ملكهم دقيانوس واسم مدينتهم أفسوس واسم كلبهم قطمير انتهى .

وقال ابن عطية الضمير في قوله { سَيَقُولُونَ } يراد به أهل التوراة من معاصري محمد صلى اللّه عليه وسلم ، وذلك أنهم اختلفوا في عدد أهل الكهف هذا الاختلاف المنصوص انتهى . قيل : وجاء بسين الاستقبال لأنه كانه في الكلام طي وإدماج ، والتقدير فإذا أجبتهم عن سؤالهم وقصصت عليهم قصة أهل الكهف فسلهم عن عددهم فإنهم إذا سألتهم { سَيَقُولُونَ}

وقرأ ابن محيصن ثلاث بإدغام الثاء في التاء ، وحسن ذلك لقرب مخرجهما وكونهما مهموسين ، لأن الساكن الذي قبل الثاء من حروف اللين فحسن ذلك ، ويقولون لم يأت بالسين فيه ولا فيما بعده لأنه معطوف على المستقبل فدخل في الاستقبال ، أو لأنه أريد به معنى الاستقبال الذي هو صالح له .

وقرأ شبل بن عباد عن ابن كثير بفتح ميم { خَمْسَةٍ } وهي لغة كعشرة .

وقرأ ابن محيصن بكسر الخاء والميم وبإدغام التاء في السين ، وعنه أيضاً إدغام التنوين في السين بغير غنة .

{رَجْماً بِالْغَيْبِ } رمياً بالشيء المغيب عنهم أو ظناً ، استعير من الرجم كأن الإنسان يرمي الموضع المجهول عنده بظنه المرة بعد المرة يرجم به عسى أن يصيب ، ومنه الترجمان وترجمة الكتاب . وقول زهير : وما الحرب إلاّ ما علمتم وذقتم

وما هو عنها بالحديث المرجم أي المظنون ، وأتت هذه عقب ما تقدم ليدل على أن قائل تلك المقالتين لم يقولوا ذلك عن علم وإنما قالوا ذلك على سبيل التخمين والحدس ، وجاءت المقالة الثالثة خالية عن هذا القيد مشعرة أنها هي المقالة الصادقة كما تقدم ذكر ذلك عن عليّ . وعن رسول اللّه عن جبريل عليهما الصلاة والسلام . وانتصب { رَجْماً } على أنه مصدر لفعل مضمر أي يرجمون بذلك ، أو لتضمين { سَيَقُولُونَ } و { يَقُولُونَ } معنى يرجمون ، أو لكونه مفعولاً من أجله أي قالوا ذلك لرميهم بالخبر

الخفي أو لظنهم ذلك ، أي الحامل لهم على هذا القول هو الرجم بالغيب .

و { ثَلَاثَةً } خبر مبتدأ محذوف ، والجملة بعده صفة أي هم ثلاثة أشخاص ، وإنما قدرنا أشخاصاً لأن { رَّابِعُهُمْ } اسم فاعل أضيف إلى الضمير ، والمعنى أنه ربعهم أي جعلهم أربعة وصيرهم إلى هذا العدد ، فلو قدر { ثَلَاثَةً } رجال استحال أن يصير ثلاثة رجال أربعة لاختلاف الجنسين ، والواو في { وَثَامِنُهُمْ } للعطف على الجملة السابقة أي { يَقُولُونَ } هم { سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ } فأخبروا أولاً بسبعة رجال جزماً ، ثم أخبروا اخباراً ثانياً أن { رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ } بخلاف القولين السابقين ، فإن كلاً منهما جملة واحدة وصف المحدث عنه بصفة ، ولم يعطف الجملة عليه . وذكر عن أبي بكر بن عياش وابن خالويه أنها واو الثمانية ، وأن قريشاً إذا تحدثت تقول ستة سبعة وثمانية تسعة فتدخل الواو في الثمانية ، وكونهما جملتين معطوف إحداهما على الأخرى مؤذن بالتثبيت في الإخبار بخلاف ما تقدم فإنهم أخبروا بشيء موصوف بشيء لم يتأخر عن الإخبار ، ولذلك جاء فيه { رَجْماً بِالْغَيْبِ } ولم يجيء في هاتين الجملتين بشيء يقدح فيهما . وقرىء وثامنهم كالبهم أي صاحب كلبهم ، وزعم بعضهم أنهم ثمانية رجال ، واستدل بهذه القراءة وأول قوله وكلبهم على حذف مضاف ، أي وصاحب كلبهم . وذهب بعض المفسرين إلى أن قوله { وَثَامِنُهُمْ } ليس داخلاً تحت قولهم بل لقولهم هو قوله :{ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ } ثم أخبر تعالى بهذا على سبيل الاستئناف ، وإذا كان استئنافاً من اللّه دل ذلك على أنهم ثمانية بالكلب ،

وأما { رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ } و { سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ } فهو من جملة المحكي من قولهم ، لأن كلاً من الجملتين صفة ، وإلى أن العدة ثمانية بالكلب ذهب الأكثرون من الصحابة والتابعين وأئمة التفسير .

وقال الزمخشري :

فإن قلت : فما هذه الواو الداخلة على الجملة الثالثة ولم دخلت عليها دون الأولتين ؟

قلت : هي الواو التي تدخل على الجملة الواقعة صفة للنكرة كما تدخل على الواقعة حالاً عن المعرفة في نحو قولك : جاءني رجل ومعه آخر ، ومررت بزيد وفي يده سيف . ومنه قوله عز وعلا { وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ } وفائدتها توكيد لصوق الصفة بالموصوف ، والدلالة على اتصافه أمر ثابت مستقر ، وهي الواو التي آذنت بأن الدين قالوا { سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ } قالوه عن ثبات علم وطمأنينة نفس ولم يرجموا بالظن كما غيرهم انتهى .

وكون الواو تدخل على الجملة الواقعة صفة دالة على لصوق الصفة بالموصوف وعلى ثبوت اتصاله بها شيء لا يعرفه النحويون ، بل قرروا أنه لا تعطف الصفة التي ليست بجملة على صفة أخرى إلاّ إذا اختلفت المعاني حتى يكون العطف دالاً على المغايرة ،

وأما إذا لم يختلف فلا يجوز العطف هذا في الأسماء المفردة ،

وأما الجمل التي تقع صفة فهي أبعد من أن يجوز ذلك فيها ، وقد ردوا على من ذهب إلى أن قول سيبويه ،

وأما ما جاء لمعنى وليس باسم ولا فعل هو على أن وليس باسم ولا فعل صفة لقوله لمعنى ، وأن الواو دخلت في الجملة بأن ذلك ليس من كلام العرب مررت برجل ويأكل على تقدير الصفة .

وأماقوله تعالى { إِلاَّ وَلَهَا } فالجملة حالية ويكفي رداً لقول الزمخشري : إنّا لا نعلم أحداً من علماء النحو ذهب إلى ذلك ، ولما أخبر تعالى عن مقالتهم واضطرابهم في عددهم أمره تعالى أن يقول { قُل رَّبّى أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم } أي لا يخبر بعددهم إلا من يعلمهم حقيقة وهو اللّه تعالى { مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ } والمثبت في حق اللّه تعالى هو الأعلمية وفي حق القليل العالمية فلا تعارض . قيل : من الملائكة .

وقيل : من العلماء وعلم القليل لا يكون إلاّ بإعلام اللّه .

وقال ابن عباس : أنا من القليل ، ثم نهاه تعالى عن الجدال فيهم أي في عدتهم ، والمراء وسمي مراجعته لهم { مِرَآء } على سبيل المقابلة لمماراة أهل الكتاب له في ذلك ، وقيده بقوله ظاهراً أي غير متعمق فيه وهو إن نقص عليهم ما أوحي إليك فحسب من غير تجهيل

ولا تعنيف كما قال { وَجَادِلْهُم بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ} وقال ابن زيد :{ مِرَآء ظَاهِرًا } هو قولك لهم ليس كما تعلمون . وحكي الماوردي إلاّ بحجة ظاهرة . وقال ابن الأنباري : إلاّ جدال متيقن عالم بحقيقة الخبر ، واللّه تعالى ألقي إليك ما لا يشوبه باطل . وقال ابن بحر :{ ظَاهِراً } يشهده الناس . وقال التبريزي :{ ظَاهِراً } ذاهباً بحجة الخصم . وأنشد :

وتلك شكاة ظاهر عنك عارها

أي ذاهب ، ثم نهاه أن يسأل أحداً من أهل الكتاب عن قصتهم لا سؤال متعنت لأنه خلاف ما أمرت به من الجدال بالتي هي أحسن ، ولا سؤال مسترشد لأنه تعالى قد أرشدك بأن أوحي إليك قصتهم ،

٢٣

ولا تقولن لشيء . . . . .

ثم نهاه أن يخبر بأنه يفعل في الزمن المستقبل شيئاً إلاّ ويقرن ذلك بمشيئة اللّه تعالى ، وتقدم في سبب النزول أنه عليه السلام حين سأله قريش عن أهل الكهف والخضر والروح قال :  { غداً أخبركم} . ولم يقل إن شاء اللّه ، فتأخر عنه الوحي مدة . قيل : خمسة عشر يوماً .

وقيل : أربعين و

٢٤

إلا أن يشاء . . . . .

{إِلاَّ أَن يَشَاء اللّه} استثناء لا يمكن حمله على ظاهره لأنه يكون داخلاً تحت القول ، فيكون من ينهي عنه ، فاحتيج في تأويل هذا الظاهر إلى تقدير .

ف

قال ابن عطية : في الكلام حذف يقتضيه الظاهر ويحسنه الإيجاز تقديره إلاّ أن تقول { إِلاَّ أَن يَشَاء اللّه } أو إلاّ أن تقول إن شاء اللّه ، فالمعنى إلاّ أن تذكر مشيئة اللّه فليس { إِلاَّ أَن يَشَاء اللّه } من القول الذي نهى عنه .

وقال الزمخشري :{ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّه } متعلق بالنهي لا بقوله { إِنّى فَاعِلٌ } لأنه لو قال { إِنّى فَاعِلٌ } كذا { إِلاَّ أَن يَشَاء اللّه } كان معناه إلاّ أن تعترض مشيئة اللّه دون فعله ، وذلك ما لا مدخل فيه للنهي وتعلقه بالنهي على وجهين .

أحدهما : ولا تقولنّ ذلك القول إلاّ أن يشاء اللّه أن تقوله بأن ذلك فيه .

والثاني : ولا تقولنه إلاّ بأن يشاء اللّه أي إلاّ بمشيئته وهو في موضع الحال ، أي إلاّ ملتبساً بمشيئة اللّه قائلاً إن شاء اللّه . وفيه وجه ثالث وهو أن يكون إلاّ أن يشاء اللّه في معنى كلمة ثانية كأنه قيل : ولا تقولنه أبداً ونحوه { وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلا أَن يَشَاء اللّه رَبُّنَا } لأن عودهم في ملتهم مما لن يشاء اللّه ، وهذا نهي تأديب من اللّه لنبيه حين قال : { ائتوني غداً أخبركم} . ولم يستثن انتهى .

قال ابن عطية : وقالت فرقة هو استثناء من قوله { وَلاَ تَقْولَنَّ } وحكاه الطبري ، ورد عليه وهو من الفساد من حيث كان الواجب أن لا يحكي انتهى . وتقدم تخريج الزمخشري : ذلك على أن يكون متعلقاً بالنهي ، وتكلم المفسرون في هذه الآية في الاستثناء في اليمين ، وليست الآية في الإيمان والظاهر أمره تعالى بذكر اللّه إذا عرض له نسيان ، ومتعلق النيسان غير متعلق الذكر . فقيل : التقدير { وَاذْكُر رَّبَّكَ } إذا تركت بعض ما أمرك به .

وقيل واذكره إذا اعتراك النسيان ليذكرك المنسيّ ، وقد حمل قتادة ذلك على أداء الصلاة المنسية عند ذكرها .

وقيل :{ وَاذْكُر رَّبَّكَ } بالتسبيح والاستغفار { إِذَا نَسِيتَ } كلمة الاستثناء تشديداً في البعث على الاهتمام بها .

وقيل :{ وَاذْكُرْ } مشيئة { رَبَّكَ } إذا فرط منك نسيان لذلك أي { إِذَا نَسِيتَ } كلمة الاستثناء ثم تنبهت لها ، فتداركتها بالذكر قاله ابن جبير . قال : ولو بعد يوم أو شهر أو سنة . وقال ابن الأنباري : بعد تقضي النسيان كما تقول : اذكر لعبد اللّه إذا صلى صاحبك أي إذا قضى الصلاة .

والإشارة بقوله لأقرب من هذا إلى الشيء المنسي أي { اذْكُرْ رَبَّكَ } عند نسيانه بأن تقول { عَسَى أَن يَهْدِيَنِى رَبّى } لشيء آخر بدل هذا المنسي أقرب منه

{رَشَدًا } وأدنى خيراً أو منفعة ، ولعل النسيان كان خيرة كقوله {أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مّنْهَا}

وقال الزمخشري : وهذا إشارة إلى بناء أهل الكهف ، ومعناه لعل اللّه يؤتيني من البينات والحجج على أني نبيّ صادق ما هو أعظم في الدلالة وأقرب رشداً من بناء أصحاب الكهف ، وقد فعل ذلك حيث آتاد من قصص الأنبياء والأخبار بالغيوب ما هو أعظم من ذلك وأدل انتهى . وهذا تقدمه إليه الزجاج قال المعنى :{ عَسَى } أن ييسر اللّه من الأدلة على نبوّتي أقرب من دليل أصحاب الكهف . . وقال ابن الأنباري :{ عَسَى } أن يعرفني جواب مسائلكم قبل الوقت الذي حددته لكم ويعجل لي من جهته الرشاد . وقال محمد الكوفي المفسر : هي بألفاظها مما أمر أن يقولها كل من لم يستثن وإنها كفارة لنسيان الاستثناء .

{وَلَبِثُواْ فِى كَهْفِهِمْ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُواْ تِسْعًا قُلِ اللّه أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ لَهُ غَيْبُ السَّمَاواتِ وَالاْرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مّن دُونِهِ مِن وَلِىّ وَلاَ يُشْرِكُ فِى حُكْمِهِ أَحَدًا وَاتْلُ مَا أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبّكَ لاَ مُبَدّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا}

٢٥

ولبثوا في كهفهم . . . . .

الظاهر أن قوله { وَلَبِثُواْ } الآية إخبار من اللّه تعالى بمدة لبثهم نياماً في الكهف إلى أن أطلع اللّه عليهم . قال مجاهد : وهو بيان لمجمل قوله تعالى { فَضَرَبْنَا عَلَىءاذَانِهِمْ فِى الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا } ولما تحرر هذا العدد بإخبار من اللّه تعالى أمر نبيه أن يقول { قُلِ اللّه أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ } فخبره هذا هو الحق والصدق الذي لا يدخله ريب ، لأنه عالم { غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضِ } والظاهر أن قوله { بِمَا لَبِثُواْ } إشارة إلى المدة السابق ذكرها .

وقال بعضهم :{ بِمَا لَبِثُواْ } إشارة إلى المدة التي بعد الإطلاع عليهم إلى مدة الرسول صلى اللّه عليه وسلم.

وقيل : لما قال { وَازْدَادُواْ تِسْعًا } كانت التسعة منبهمة هي الساعات والأيام والشهور والأعوام ، واختلفت بنو إسرائيل بحسب ذلك فأمره تعالى برد العلم إليه يعني في التسع وهذا بعيد لأنه إذا سبق عدد مفسر وعطف عليه ما لم يفسر حمل تفسيره على السابق .

وحكى النقاش أنها ثلاثمائة شمسية ، ولما كان الخطاب للعرب زيدت التسع إذ حساب العرب هو بالقمر لاتفاق الحسابين . وقال قتادة ومطر الورّاق :{ لَبِثُواْ } إخبار من بني إسرائيل ، واحتجوا بما في مصحف عبد اللّه وقالوا { لَبِثُواْ } وعلى غير قراءة عبد اللّه يكون معطوفاً على المحكي بقوله { سَيَقُولُونَ}

ثم أمر اللّه نبيه أن يرد العلم إليه { بِمَا لَبِثُواْ } ردّاً عليهم وتفنيداً لمقالتهم . قيل : هو من قول المتنازعين في أمرهم وهو الصحيح على مقتضى سياق الآية ، ويؤيده { قُلِ اللّه أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ } جعل ذلك من الغيوب التي هو تعالى مختص بها .

وقرأ الجمهور : مائة بالتنوين .

قال ابن عطية : على البدل أو عطف البيان .

وقيل : على التفسير والتمييز .

وقال الزمخشري : عطف بيان لثلاثمائة . وحكي أبو البقاء أن قوماً أجازوا أن يكون بدلاً من مائة لأن مائة في معنى مئات ، فأما عطف البيان فلا يجوز على مذهب البصريين ،

وأما نصبه على التمييز فالمحفوظ من لسان العرب المشهور أن مائة لا يفسر إلاّ بمفرد مجرور ، وإن قوله إذا عاش الفتى مائتين عاماً من الضرورات ولا سيما وقد انضاف إلى ذلك كون { سِنِينَ } جمعاً .

وقرأ حمزة والكسائي وطلحة ويحيى والأعمش والحسن وابن أبي ليلى وخلف وابن سعدان وابن عيسى الأصبهاني وابن جبير الأنطاكي مائة بغير تنوين مضافاً إلى { سِنِينَ } أوقع الجمع موقع المفرد ، وأنحى أبو حاتم على هذه القراءة ولا يجوز له ذلك . وقال أبو عليّ : هذه تضاف في المشهور إلى المفرد ، وقد تضاف إلى الجمع .

وقرأ أبي سنة وكذا في مصحف عبد اللّه .

وقرأ الضحاك : سنون بالواو على إضمار هي سنون .

وقرأ الحسن وأبو عمرو في رواية اللؤلؤي عنه { تِسْعًا } بفتح التاء كما قالوا عشر .

٢٦

قل اللّه أعلم . . . . .

ثم ذكر اختصاصه بما غاب في السموات والأرض وخفي فيها من أحوال أهلها ، وجاء بما دل على التعجب من إدراكه للمسموعات والمبصرات للدّلالة على أن أمره في الإدراك خارج عن حد ما عليه إدراك السامعين والمبصرين ، لأنه يدرك ألطف الأشياء وأصغرها كما يدرك أكبرها حجماً وأكثفها جرماً ، ويدرك البواطن كما يدرك الظواهر والضمير في { بِهِ } عائد على

اللّه تعالى ، وهل هو في موضع رفع أو نصب وهل { أَسْمِعْ } و { أَبْصَارُ } أمران حقيقة أم أمران لفظاً معناهما إنشاء التعجب في ذلك خلاف مقرر في النحو . و

قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون المعنى { أَبْصَارُ } بدين اللّه { وَاسْمَعْ } أي بصر بهدي اللّه وسمع فترجع الهاء إما على الهدى إما على اللّه ذكره ابن الأنباري .

وقرأ عيسى : أسمع به وأبصر على الخبر فعلاً ماضياً لا على التعجب ، أي { أَبْصَارُ } عباده بمعرفته وأسمعهم ، والهاء كناية عن اللّه تعالى .

والضمير في قوله { مَّا لَهُم }

قال الزمخشري : لأهل السموات والأرض من { وَلِيُّ } متول لأمورهم { وَلاَ يُشْرِكْ } قضائه { أَحَدًا } منهم .

وقيل : يحتمل أن يعود على أصحاب الكهف أي هذه قدرته وحده . ولم يوالهم غيره يتلطف بهم ولا أشرك معه أحداً في هذا الحكم . ويحتمل أن يعود على معاصري الرسول صلى اللّه عليه وسلم من الكفارة ومشاقيه ، وتكون الآية اعتراضاً بتهديد قاله ابن عطية .

وقيل : يحتمل أن يعود على مؤمني أهل السموات والأرض أي لن يتخذ من دونه ولياً .

وقيل : يعود على المختلفين في مدة لبثهم أي ليس لهم من دون اللّه من يتولى تدبيرهم ، فكيف يكونون أعلم منه ؟ أو كيف يعلمون من غير إعلامه إياهم ؟

وقرأ الجمهور :{ وَلاَ يُشْرِكْ } بالياء على النفي .

وقرأ مجاهد بالياء والجزم . قال يعقوب : لا أعرف وجهه .

وقرأ ابن عامر والحسن وأبو رجاء وقتادة والجحدري وأبو حيوة وزيد وحميد ابن الوزير عن يعقوب والجعفي واللؤلؤي عن أبي بكر : ولا تشرك بالتاء والجزم على النهي .

٢٧

واتل ما أوحي . . . . .

ولما أنزل عليه ما أنزل من قصة أهل الكهف أمره بأن يقص ويتلو على معاصريه ما أوحي إليه تعالى من كتابه في قصة أهل الكهف وفي غيرهم ، وأن ما أوحاه إليه { لاَ مُبَدّلَ } له و { لاَ مُبَدّلَ } عام و { لِكَلِمَاتِهِ } عام أيضاً فالتخصيص إما في { لاَ مُبَدّلَ } أي لا مبدل له سواه ، ألا ترى إلى قوله { وَإِذَا بَدَّلْنَآ ءايَةً مَّكَانَ ءايَةٍ }

وإما في كلماته أي { لِكَلِمَاتِهِ } المتضمنة الخبر لأن ما تضمن غير الخبر وقع النسخ في بعضه ، وفي أمره تعالى أن يتلو ما أوحي إليه وإخباره أنه لا مبدّل { لِكَلِمَاتِهِ } إشارة إلى تبديل المتنازعين في أهل الكهف ، وتحريف أخبارهم والملتحد الملتجأ الذي تميل إليه وتعدل .

٢٨

واصبر نفسك مع . . . . .

{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَلاَ}

قال كفار قريش لو أبعدت هؤلاء عن نفسك لجالسناك وصحبناك ، يعنون عماراً وصهيباً وسلمان وابن مسعود وبلالاً ونحوهم من الفقراء ، وقالوا : إن ريح جبابهم تؤذينا ، فنزلت { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ } الآية ، وعن سلمان أن قائل ذلك عيينة بن حصن والأقرع وذووهم من المؤلفة فنزلت ، فالآية على هذا مدنية والأول أصح لأن السورة مكية ، وفعل المؤلفة فعل قريش فردّ بالآية عليهم { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ } أي أحبسها وثبتها . قال أبو ذؤيب : فصبرت عارفة لذلك حرة

ترسو إذا نفس الجبان تطلع

وفي الحديث النهي عن صبر الحيوان أي حبسه للرمي ، و { مَّعَ } تقتضي الصحبة والموافقة والأمر بالصبر هنا يظهر منه كبير اعتناء بهؤلاء الذين أمر أن يصبر نفسه معهم . وهي أبلغ من التي في الأنعام { وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ } الآية . وقال ابن عمر ومجاهد وإبراهيم :{ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىّ } إشارة إلى الصلوات الخمس . وقال قتادة : إلى صلاة الفجر وصلاة العصر ، وقد يقال : إن ذلك يراد به العموم أي { يَدْعُونَ رَبَّهُمْ } دائماً ، ويكون مثل : ضرب زيد الظهر

والبطن يريد جميع بدنه لا خصوص المدلول بالوضع . وتقدّم الكلام على قوله { بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىّ } قراءة وإعراباً في الأنعام .

{وَلاَ تَعْدُ } أي لا تصرف { عَيْنَاكَ } النظر عنهم إلى أبناء الدنيا ، وعدا متعد تقول : عدا فلان طوره وجاء القوم عداً زيداً ، فلذلك قدرنا المفعول محذوفاً ليبقى الفعل على أصله من التعدية .

وقال الزمخشري : وإنما عدَّي بعن لتضمين عدا معنى نبا وعلا في قولك : نبت عنه عينه ، وعلت عنه عينه إذا اقتحمته ولم تعلق به .

فإن قلت : أي غرض في هذا التضمين ؟ وهلا قيل ولا تعدهم عيناك أو { وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ}

قلت : الغرض فيه إعطاء مجموع معنين . وذلك أقوى من إعطاء معنى فذ ، ألا ترى كيف رجع المعنى إلى قولك ولا تقتحمهم عيناك مجاوزين إلى غيرهم ونحو قوله { وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَهُمْ إِلَى أَمْوالِكُمْ } أي ولا تضموها إليها آكلين لها انتهى . وما ذكره من التضمين لا ينقاس عند البصريين وإنما يذهب إليه عند الضرورة ، أما إذا أمكن إجراء اللفظ على مدلوله الوضعي فإنه يكون أولى .

وقرأ الحسن :{ وَلاَ تَعْدُ } من أعدى ، وعنه أيضاً وعن عيسى والأعمش { وَلاَ تَعْدُ}

قال الزمخشري : نقلاباً بالهمزة وبنقل الحشو ومنه قوله .

فعد عما ترى إذ لا ارتجاع له

لأن معناه فعد همك عما ترى انتهى . وكذا قال صاحب اللوامح . قال : وهذا مما عديته بالتضعيف كما كان في الأولى بالهمز ، وما ذهبا إليه ليس بجيد بل الهمزة والتكثير في هذه الكلمة ليسا للتعدية وإنما ذلك لموافقة أفعل وفعل للفعل المجرد ، وإنما قلنا ذلك لأنه إذا كان مجرداً متعد وقد أقر بذلك الزمخشري فإنه قال : يقال عداه إذا جاوزه ، ثم قال : وإنما عدّي بعن للتضمين والمستعمل في التضمين هو مجاز ولا يتسعون فيه إذا ضمنوه فيعدونه بالهمزة أو التضعيف ، ولو عدِّي بهما وهو متعد لتعدي إلى اثنين وهو في هذه القراءة ناصب مفعولاً واحداً ، فدل على أنه ليس معدى بهما .

وقال الزمخشري :{ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا } في موضع الحال انتهى . وقال صاحب الحال : إن قدر { عَيْنَاكَ } فكان يكون التركيب تريدان ، وإن قدر الكاف فمجيء الحال من المجرور بالإضافة مثل هذا فيها إشكال لاختلاف العامل في الحال وذي الحال ، وقد أجاز ذلك بعضهم إذا كان المضاف جزأً أو كالجزء ، وحسن ذلك هنا أن المقصود نهيه عليه الصلاة والسلام عن الإعراض عنهم والميل إلى غيرهم ، وإنما جيء بقوله { عَيْنَاكَ } والمقصود هو لأنهما بهما تكون المراعاة للشخص والتلفت له ، والمعنى { وَلاَ تَعْدُ } أنت { عَنْهُمْ } النظر إلى غيرهم .

وقال الزمخشري :{ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ } من جعلنا قلبه غافلاً عن الذكر بالخذلان أو وجدناه غافلاً عنه كقولك : أجبنته وأفحمته وأبحلته إذا وجدته كذلك ، أو من أغفل إبله إذا تركها بغير سمة أي لم نسمه بالذكر ، ولم نجعلهم من الذين كتبنا في قلوبهم الإيمان ، وقد أبطل اللّه توهم المجبرة بقوله { وَاتَّبَعَ هَوَاهُ } انتهى . وهذا على مذهب المعتزلة ، والتأويل الآخر تأويل الرماني وكان معتزلياً قال : لم نسمه بما نسم به قلوب المؤمنين بما يبين به ، فلاحهم كما قال : كتب في قلوبهم الإيمان من قولهم بعير غفل لم يكن عليه سمة ، وكتاب غفل لم يكن عليه إعجام ،

وأما أهل السنة فيقولون : إن اللّه تعالى أغفله حقيقة وهو خالق الضلال فيه والغفلة . وقال المفضل : أخليناه عن الذكر وهو القرآن . وقال ابن جريج : شغلنا قلبه بالكفر وغلبة الشقاء ، والظاهر أن المراد بمن { أَغْفَلْنَا } كفار قريش .

وقيل : عيينة والأقرع والأول أولى لأن الآية مكية .

وقرأ عمر بن فائد وموسى الأسواري وعمرو بن عبيد { أَغْفَلْنَا } بفتح اللام { قَلْبَهُ } بضم الباء أسند الأفعال إلى القلب . قال ابن جنيِّ من ظننا غافلين عنه .

وقال الزمخشري : حسبنا قلبه غافلين من أغفلته إذا وجدته غافلاً انتهى . { وَاتَّبَعَ هَوَاهُ } في طلب الشهوات { وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} قال قتادة ومجاهد : ضياعاً . وقال مقاتل بن حيان : سرفاً . وقال الفرّاء : متروكاً . وقال الأخفش : مجاوزاً للحد . قيل : وهو قول عتبة إن أسلمنا أسلم الناس . وقال ابن بحر : الفرط العاجل السريع ، كما قال { وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولاً}

وقيل : ندماً .

وقيل : باطلاً . وقال ابن زيد : مخالفاً للحق . و

قال ابن عطية : الفرط يحتمل أن يكون بمعنى التفريط والتضييع ، أي أمره الذي يجب أن يلزم ، ويحتمل أن يكون بمعنى الإفراط والإسراف أي { أَمَرَهُ } و { هَوَاهُ } الذي هو بسبيله انتهى .

٢٩

وقل الحق من . . . . .

و { الْحَقّ } يجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، فقدره ابن عطية هذا { الْحَقّ } أي هذا القرآن أو هذا الإعراض عنكم وترك الطاعة لكم وصبر النفس مع المؤمنين .

وقال الزمخشري :{ الْحَقّ } خبر مبتدأ محذوف والمعنى جاء الحق وزاحت العلل فلم يبق إلاّ اختياركم لأنفسكم ما شئتم من الأخذ في طريق النجاة أو في طريق الهلاك ، وجيء بلفظ الأمر والتخيير لأنه لما مكن من اختيار أيهما شاء فكأنه مخير مأمور بأن يتخير ما شاء من النجدين انتهى . وهو على طريق المعتزلة ويجوز أن يكون مبتدأ وخبره { مّن رَّبّكُمْ} قال الضحاك : هو التوحيد . وقال مقاتل : هو القرآن . وقال مكي : أي الهدى والتوفيق والخذلان من عند اللّه يهدي من يشاء فيوفقه فيؤمن ، ويضل من يشاء فيخذله فيكفر ليس إليّ من ذلك شيء . وقال الكرماني : أي الإسلام والقرآن ، وهذا الذي لفظه لفظ الأمر معناه التهديد والوعيد ولذلك عقبه بقوله :{ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ } قال معناه ابن عباس . وقال السدّي : هو منسوخ بقوله { وَمَا تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّه } وهذا قول ضعيف ، والظاهر أن الفاعل بشاء عائد على { مِنْ}

وعن ابن عباس من شاء اللّه له بالإيمان آمن ، ومن لا فلا انتهى . وحكي ابن عطية عن فرقة أن الضمير في { شَاء } عائد على اللّه تعالى ، وكأنه لما كان الإيمان والكفر تابعين لمشيئة اللّه جاء بصيغة الأمر حتى كأنه تحتم وقوعه مأمور به مطلوب منه .

وقرأ أبو السمال قعنب وقلَ الحق بفتح اللام حيث وقع . قال أبو حاتم : وذلك رديء في العربية انتهى . وعنه أيضاً ضم اللام حيث وقع كأنه اتباع لحركة القاف .

وقرأ أيضاً{ الْحَقّ } بالنصب . قال صاحب اللوامح : هو على صفة المصدر المقدر لأن الفعل يدل على مصدره وإن لم يذكر فينصبه معرفة كنصبه إياه نكرة ، وتقديره { وَقُلْ } القول { الْحَقّ } وتعلق { مِنْ } بمضمر على ذلك مثل هو إرجاء واللّه أعلم .

وقرأ الحسن وعيسى الثقفي بكسر لامي الأمر .

ولما تقدم الإيمان والكفر أعقب بما أعد لهما فذكر ما أعد للكافرين يلي قوله { فَلْيَكْفُرْ } وأتى بعد ذلك بما أعد للمؤمنين ، ولما كان الكلام مع الكفار وفي سياق ما طلبوا من الرسول صلى اللّه عليه وسلم كانت البداءة بما أعد لهم أهم وآكد ، وهما طريقان للعرب هذه الطريق والأخرى أنه يجعل الأول في التقسيم للأول في الذكر ، والثاني للثاني . والسرادق قال ابن عباس : حائط من نار محيط بهم . وحكي أقضى القضاة الماوردي أنه البحر المحيط بالدنيا . وحكي الكلبي : أنه عنق يخرج من النار فيحيط بالكفار .

وقيل : دخان { وَإِن يَسْتَغِيثُواْ } يطلبوا الغوث مما حل بهم من النار وشدة إحراقها واشتداد عطشهم { يُغَاثُواْ } على سبيل المقابلة وإلاّ فليست إغاثة . وروي في الحديث أنه عكر الزيت إذا قرب منه سقطت فروة وجهه فيه .

وقال ابن عباس : ماء غليظ مثل دردي الزيت . وعن مجاهد أنه القيح والدم الأسود . وعن ابن جبير : كل شيء ذائب قد انتهى حرّه . وذكر ابن الأنباري أنه الصديد . وعن الحسن أنه الرماد الذي ينفط إذا خرج من التنور .

وقيل : ضرب من القطران .

و { يَشْوِى } في موضع الصفة لماء أو في موضع الحال منه لأنه قد وصف فحسن مجيء الحال منه ، وإنما اختص { الْوجُوهَ } لكونها عند شربهم يقرب حرّها من وجوههم .

وقيل : عبر

بالوجوه عن جميع أبدانهم ، والمعنى أنه ينضج به جميع جلودهم كقوله { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ } والمخصوص بالذم محذوف تقديره { بِئْسَ الشَّرَابُ } هو أي الماء الذي يغاثون به . والضمير في { سَاءتْ } عائد على النار . والمرتفق قال ابن عباس : المنزل . وقال عطاء : المقر . وقال القتبي : المجلس . وقال مجاهد : المجتمع ، وأنكر الطبري أن يعرف لقول مجاهد معنى ، وليس كذلك كان مجاهداً ذهب إلى معنى الرفاقة ومنه الرفقة . وقال أبو عبيدة : المتكأ . وقال الزجاج : المتكأ على المرفق ، وأخذه الزمخشري فقال : متكأ من المرفق وهذا لمشاكلة قوله { وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً } وإلا فلا ارتفاق لأهل النار ولا اتكاء . وقال ابن الأنباري : ساءت مطلباً للرفق ، لأن من طلب رفقاً من جهنم عدمه . و

قال ابن عطية : قريباً من قول ابن الأنباري . قال : والأظهر عندي أن يكون المرتفق بمعنى الشيء الذي يطلب رفقه باتكاء وغيره . وقال أبو عبد اللّه الرازي : والمعنى بئس الرفقاء هؤلاء ، وبئس موضع الترافق النار .

٣٠

إن الذين آمنوا . . . . .

{إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً أُوْلَائِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الاٌّ رَآئِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً }

{إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الانْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مّن سُنْدُسٍ}

لما ذكر تعالى حال أهل الكفر وما أعد لهم في النار ذكر حال أهل الإيمان وما أعد لهم في الجنة ، وخبر { ءانٍ } يحتمل أن تكون الجملة من قوله أولئك لهم . وقوله { إِنَّا لاَ نُضِيعُ } الجملة اعتراض .

قال ابن عطية : ونحو هذا من الاعتراض قول الشاعر : إن الخليفة إن اللّه ألبسه

سربال ملك به ترجى الخواتيم

انتهى ، ولا يتعين في قوله إن اللّه ألبسه أن يكون اعتراضاً هي اسم إن وخبرها الذي هو ترجى الخواتيم ، يجوز أن يكون إن اللّه ألبسه هو الخبر ، ويحتمل أن يكون الخبر قوله { إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ } والعائد محذوف تقديره { مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً } منهم . أو هو قوله { مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً } على مذهب الأخفش في ربطه الجملة بالاسم إذا كان هو المبتدأ في المعنى ، لأن { مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً } هم { الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } فكأنه قال : إنّا لا نضيع أجرهم ، ويحتمل أن تكون الجملتان خبرين لأن على مذهب من يقتضي المبتدأ خبرين فصاعداً من غير شرط أن يكونا ، أو يكن في معنى خبر . واحد .

وإذا كان خبر { ءانٍ } قوله { إِنَّا لاَ نُضِيعُ } كان قوله { أُوْلَائِكَ } استئناف أخبار موضح لما انبهم في قوله { إِنَّا لاَ نُضِيعُ } من مبهم الجزاء .

وقرأ عيسى الثقفي { لاَ نُضِيعُ } من ضيع عداه بالتضعيف ، والجمهور من أضاع عدوّه بالهمزة ،

٣١

أولئك لهم جنات . . . . .

ولما ذكر مكان أهل الكفر وهو النار . ذكر مكان أهل الإيمان وهي { جَنَّاتِ عَدْنٍ } ولما ذكر هناك ما يغاثون به وهو الماء كالمهل ذكر هنا ما خص به أهل الجنة من كون الأنهار تجري من تحتهم ، ثم ذكر ما أنعم عليهم من التحلية واللباس اللذين هما زينة ظاهرة . وقال سعيد بن جبير : يحلى كل واحد ثلاثة أساور سوار من ذهب ، وسوار من فضة ، وسوار من لؤلؤ ويواقيت .

وقال الزمخشري : و { مِنْ } الأول للابتداء والثانية للتبيين ، وتنكير { أَسَاوِرَ } لإبهام أمرها في الحسن انتهى . ويحتمل أن تكون { مِنْ } في قوله { مّن ذَهَبٍ } للتبعيض لا للتبيين .

وقرأ أبان عن عاصم من اسورة من غير ألف وبزيادة هاء وهو جمع سوار .

وقرأ أيضاً أبان عن عاصم وابن أبي حماد عن أبي بكر :{ وَيَلْبَسُونَ } بكسر الباء .

وقرأ ابن محيصن { وَإِسْتَبْرَقٍ } بوصل الألف وفتح القاف حيث وقع جعله فعلاً ماضياً على وزن استفعل من البريق ، ويكون استفعل فيه موافقاً للمجرد الذي هو برق كما تقول : قر واستقر بفتح القاف ذكره الأهوازي في الإقناع عن ابن محيصن . قال ابن محيصن . وحده :{ وَإِسْتَبْرَقٍ } بالوصل وفتح القاف حيث كان لا يصرفه

انتهى . فظاهره أنه ليس فعلاً ماضياً بل هو اسم ممنوع الصرف . وقال ابن خالويه : جعله استفعل من البريق ابن محيصن فظاهره أنه فعل ماض وخالفهما صاحب اللوامح . قال ابن محيصن : { وَإِسْتَبْرَقٍ } بوصل الهمزة في جميع القرآن فيجوز أنه حذف الهمزة تخفيفاً على غير قياس ، ويجوز أنه جعله عربيا من برق يبرق بريقاً . وذلك إذا تلالأ الثوب لجدته ونضارته ، فيكون وزنه استفعل من ذلك فلما تسمى به عامله معاملة الفعل في وصل الهمزة ، ومعاملة المتمكنة من الأسماء في الصرف والتنوين ، وأكثر التفاسير على أنه عربي وليس بمستعرب دخل في كلامهم فأعربوه انتهى .

ويمكن أن يكون القولان روايتين عنه فتح القاف وصرفه التنوين ، وذكر أبو الفتح بن جنيّ قراءة فتح القاف ، وقال : هذا سهو أو كالسهو انتهى . وإنما قال ذلك لأنه جعله اسماً ومنعه من الصرف لا يجوز لأنه غير علم ، وقد أمكن جعله فعلاً ماضياً فلا تكون هذه القراءة سهواً .

قال الزمخشري : وجمع السندس وهو مارقَّ من الديباج ، وبين الاستبرق وهو الغليظ منه جمعاً بين النوعين ، وقدمت التحلية على اللباس لأن الحلي في النفس أعظم وإلى القلب أحب ، وفي القيمة أغلى ، وفي العين أحلى ، وبناء فعله للمفعول الذي لم يسم فاعله إشعاراً بأنهم يكرمون بذلك ولا يتعاطون ذلك بأنفسهم كما قال الشاعر : غرائر في كن وصون ونعمة

تحلين ياقوتاً وشذراً مفقراً

وأسند اللباس إليهم لأن الإنسان يتعاطى ذلك بنفسه خصوصاً لو كان بادي العورة ، ووصف الثياب بالخضرة لأنها أحسن الألوان والنفس تنبسط لها أكثر من غيرها ، وقد روي في ذلك أثر إنها تزيد في ضوء البصر وقال بعض الأدباء : أربعة مذهبة لكل هم وحزن

الماء والخضرة والبستان والوجه الحسن

وخص الاتكاء لأنها هيئة المنعمين والملوك على أسرتهم .

وقرأ ابن محيصن :{ عَلَى الاْرَائِكِ } بنقل الهمزة إلى لام التعريف وإدغام لام على { فِيهَا } فتنحذف ألف { عَلَى } لتوهم سكون لام التعريف والنطق به علرائك ومثله قول الشاعر : فما أصبحت علرض نفس برية

ولا غيرها إلاّ سليمان بالها

يريد على الأرض ، والمخصوص بالمدح محذوف أي نعم الثواب ما وعدوا به ، والضمير في { حَسُنَتْ } عائد على الجنات .

٣٢

واضرب لهم مثلا . . . . .

حفه : طاف به من جوانبه . قال الشاعر : يحفه جانباً نيق ويتبعه

مثل الزجاجة لم يكحل من الرمد وحففته به : جعلته مطيفاً به ، وحف به القوم صاروا في حفته ، وهي جوانبه . كلتا : اسم مفرد اللفظ عند البصريين مثنى المعنى . ومثنى لفظاً ، ومعنى عند البغداديين وتاؤه عند البصريين غير الجرمي بدل من واو فاصله كلوى ، والألف فيه للتأنيث وزائدة عند الجرمي ، والألف منقلبة عن أصلها ووزنها عنده فعيل . المحاورة : مراجعة الكلام من حار إذا رجع . البيدودة الهلاك ، ويقال منه : باد يبيد بيوداً وبيدودة . قال الشاعر :

فلئن باد أهله

لبما كان يوهل

النطفة القليل من الماء ، يقال ما في القربة من الماء نطفة ، المعنى ليس فيها قليل ولا كثير ، وسمِّي المني نطفة لأنه ينطف أي يقطر قطرة بعد قطرة . وفي الحديث : جاء ورأسه ينطف ماء أي يقطر . الحسبان في اللغة الحساب ، ويأتي أقوال أهل التفسير فيه . الزلق : ما لا يثبت فيه القدم من الأرض .

{وَاضْرِبْ لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لاِحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا هُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ اتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمِ مّنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَراً وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لَصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَاْ أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَاذِهِ أَبَداً وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبّى لاجِدَنَّ خَيْراً مّنْهَا مُنْقَلَباً}

قيل نزلت في أخوين من بني مخزوم الأسود بن عبد الأسود بن عبد ياليل وكان كافراً ، وأبي سلمة عبد اللّه بن الأسود كان مؤمناً .

وقيل : أخوان من بني إسرائيل فرطوس وهو الكافر

وقيل : اسمه قطفير ، ويهوذاً وهو المؤمن في قول ابن عباس . وقال مقاتل : اسمه تمليخاً وهو المذكور في الصافات في قوله { قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ إِنّى كَانَ لِى قَرِينٌ }

وعن ابن عباس أنهما ابنا ملك من بني إسرائيل أنفق أحدهما ماله في سبيل اللّه وكفر الآخر واشتغل بزينة الدنيا وتنمية ماله . وعن مكي أنهما رجلان من بني إسرائيل اشتركاً في مال كافر ستة آلاف فاقتسماها . وروي أنهما كانا حدادين كسبا مالاً . وروي أنهما ورثا من أبيهما ثمانية آلاف دينار ، فاشترى الكافر أرضاً بألف وبني داراً بألف وتزوج امرأة بألف واشترى خدماً ومتاعاً بألف ، واشترى المؤمن أرضاً في الجنة بألف فتصدق به ، وجعل ألفاً صداقاً للحور فتصدق به ، واشترى الولدان المخلدين بألف فتصدق به ، ثم أصابته حاجة فجلس لأخيه على طريقة فمر في حشمه فتعرض له فطرده ووبخه على التصديق بماله .

والضمير في { لَهُمْ } عائد على المتجبرين الطالبين من الرسول صلى اللّه عليه وسلم طرد الضعفاء المؤمنين ، فالرجل الكافر بإزاء المتجبرين والرجل المؤمن بإزاء ضعفاء المؤمنين ، وظهر بضرب هذا المثل الربط بين هذه الآية والتي قبلها إذ كان من أشرك إنما افتخر بماله وأنصاره ، وهذا قد يزول فيصير الغني فقيراً ، وإنما المفاخرة بطاعة اللّه والتقدير { وَاضْرِبْ لَهُمْ مَّثَلاً } قصة { رَّجُلَيْنِ } وجعلنا تفسير للمثل فلا موضع له من الإعراب ، ويجوز أن يكون موضعه نصباً نعتاً لرجلين . وأبهم في قوله { جَعَلْنَا لاِحَدِهِمَا } وتبين أنه هو الكافر الشاك في البعث ، وأبهم تعالى مكان الجنتين إذ لا يتعلق بتعيينه كبير فائدة . وذكر إبراهيم بن القاسم الكاتب في كتابه في عجائب البلاد أن بحيرة تنيس كانت هاتين الجنتين وكانتا لأخوين ، فباع أحدهما نصيبه من الآخر وأنفقه في طاعة اللّه حتى عيره الآخر ، وجرت بينهما هذه المحاورة قال : فغرقها اللّه في ليلة وإياهما عنى بهذه الآية .

قال ابن عطية : وتأمل هذه الهيئة التي ذكر اللّه فإن المرء لا يكاد يتخيل أجل منهما في مكاسب الناس جنتا عنب أحاط بهما نخل بينهما

فسحة هي مزدرع لجميع الحبوب والماء المعين ، يسقي جيمع ذلك من النهر .

وقال الزمخشري : { جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ } بساتين من كروم ، { وَحَفَفْنَاهُمَا }{ بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا } النخل محيطاً بالجنتين ، وهذا مما يؤثره الدهاقين في كرومهم أن يجعلوها مؤزرة بالأشجار المثمرة انتهى .

٣٣

كلتا الجنتين آتت . . . . .

وقرأ الجمهور { كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ } وفي مصحف عبد اللّه كلا الجنتين ، أتى بصيغة التذكير لأن تأنيث الجنتين مجازي ، ثم قرأ { اتَتْ } فأنث لأنه ضمير مؤنث ، فصار نظير قولهم طلع الشمس وأشرقت . وقال الفراء في قراءة ابن مسعود : كل الجنتين آتى أكله انتهى فأعاد الضمير على كل .

وقال الزمخشري : جعلها أرضاً جامعة للأقوات والفواكه ، ووصف العمارة بأنها متواصلة متشابكة لم يتوسطها ما يقطعها ويفصل بينهما مع الشكل الحسن والترتيب الأنيق ، ونعتهما بوفاء الثمار وتمام الأكل من غير نقص ثم بما هو أصل الخير ومادته من أمر الشرب ، فجعله أفضل ما يسقي به وهو السيح بالنهر الجاري فيها والأكل الثمر .

وقرأ الجمهور { وَفَجَّرْنَا } بتشديد الجيم . وقال الفراء : إنما شدد { وَفَجَّرْنَا } وهو نهر واحد لأن النهر يمتد فكان التفجر فيه كله أعلم اللّه تعالى أن شربهما كان من نهر واحد وهو أغزر الشرب .

وقرأ الأعمش وسلام ويعقوب وعيسى بن عمر بتخفيف الجيم وكذا قرأ الأعمش في سورة القمر ، والتشديد في سورة القمر أظهر لقوله { عُيُوناً } وقوله هنا { نَهَراً } وانتصب { خِلَالَهُمَا } على الظرف أي وسطهما ، كان النهر يجري من داخل الجنتين .

وقرأ الجمهور { نَهَراً } بفتح الهاء .

وقرأ أبو السمال والفياض بن غزوان وطلحة بن سليمان بسكون الهاء .

٣٤

وكان له ثمر . . . . .

وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن عامر وحمزة والكسائي وابن كثير ونافع وجماعة قراء المدينة : { ثَمَرٌ } وبثمره بضم الثاء والميم جمع ثمار .

وقرأ الأعمش وأبو رجاء وأبو عمرو بإسكان الميم فيهما تخفيفاً أو جمع ثمرة كبدنة وبدن .

وقرأ أبو جعفر والحسن وجابر بن زيد والحجاج وعاصم وأبو حاتم ويعقوب عن رويس عنه بفتح الثاء والميم فيهما .

وقرأ رويس عن يعقوب { ثَمَرٌ } بضمهما وبثمره بفتحهما فيمن قرأ بالضم . قال ابن عباس وقتادة الثمر جميع المال من الذهب والحيوان وغير ذلك . وقال النابغة : مهلاً فداء لك الأقوام كلهم

وما أثمروا من مال ومن ولد وقال مجاهد : يراد بها الذهب والفضة خاصة . وقال ابن زيد : هي الأصول فيها الثمر . وقال أبو عمرو ابن العلاء : الثمر المال ، فعلى هذا المعنى أنه كانت له إلى الجنتين أموال كثيرة من الذهب والفضة وغيرهما ، فكان متمكناً من عمارة الجنتين .

وأما من قرأ بالفتح فلا إشكال أنه يعني به حمل الشجر .

وقرأ أبو رجاء في رواية { ثَمَرٌ } بفتح الثاء وسكون الميم ، وفي مصحف أبيّ وآتيناه ثمراً كثيراً ، وينبغي أن يجعل تفسيراً .

ويظهر من قوله { فَقَالَ لَصَاحِبِهِ } أنه ليس أخاه ، { وَهُوَ يُحَاوِرُهُ } جملة حالية ، والظاهر أن ذا الحال هو القائل أي يراجعه الكلام في إنكاره البعث ، وفي إشراكه باللّه .

وقيل : هي حال من صاحبه أي المسلم كان يحاوره بالوعظ والدعاء إلى اللّه وإلى الإيمان بالبعث ، والظاهر كون أفعل للتفضيل وأن صاحبه كان له مال ونفر ولم يكن سبروتاً كما ذكر أهل التاريخ ، وأنه جاء يستعطيه ويدل على ذلك كونه

قابله بقوله { إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَدًا } وهذا على عادة الكفار في الافتخار بكثرة المال وعزة العشيرة والتكبير والاغترار بما نالوه من حطام الدنيا ، ومقالته تلك لصاحبه بإزاء مقالة عيينة والأقرع للرسول صلى اللّه عليه وسلم : نحن سادات العرب وأهل الوبر والمدر ، فنح عنا سلمان وقرناءه .

وعنى بالنفر أنصاره وحشمه .

وقيل : أولاداً ذكوراً لأنهم ينفرون معه دون الإناث ، واستدل على أنه لم يكن أخاه بقوله :{ وَأَعَزُّ نَفَراً } إذ لو كان أخاه لكان نفره وعشيرته نفر أخيه وعشيرته ، وعلى التفسيرين السابقين لا يرد هذا . أما من فسر النفر بالعشيرة التي هي مشتركة بينهما فيرد ،

٣٥

ودخل جنته وهو . . . . .

وأفرد الجنة في قوله { وَدَخَلَ جَنَّتَهُ } من حيث الوجود كذلك لأنه لا يدخلهما معاً في وقت واحد .

وقال الزمخشري :

فإن قلت : لم أفرد الجنة بعد التثنية ؟

قلت : معناه ودخل ما هو جنته ماله جنة غيرها ، يعني أنه لا نصيب له في الجنة التي وعد المتقون فما ملكه في الدنيا هو جنته لا غير ، ولم يقصد الجنتين ولا واحدة منهما انتهى .

ولا يتصور ما قال لأن قوله ودخل جنته إخبار من اللّه تعالى بدخول ذلك الكافر جنته فلا بد أن قصد في الإخبار أنه دخل إحدى جنتيه إذ لا يمكن أن يدخلهما معاً في وقت واحد ، والمعنى { وَدَخَلَ جَنَّتَهُ } يري صاحبه ما هي عليه من البهجة والنضارة والحسن .{ وَهُوَ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ } جملة حالية أي وهو كافر بنعمة ربه مغتر بما ملكه شاك في نفاد ما خوله . وفي البعث الذي حاوره فيه صاحبه ، والظاهر أن الإشارة بقوله { هَاذِهِ } إلى الجنة التي دخلها ، وعنى بالأبد أبد حياته وذلك لطول أمله وتمادي غفلته ، ولحسن قيامه عليها بما أوتي من المال والخدم فهي باقية مدة حياته على حالها من الحسن والنضارة ، والحس يقتضي أن أحوال الدنيا بأسرها غير باقية أو يكون قائلاً بقدم العالم ، وأن ما حوته هذه الجنة فنيت أشخاص أثمارها فتخلفها أشخاص أخر ، وكذا دائماً . ويبعد قول من قال : يحتمل أن يشير بهذه إلى الهيئة من السموات والأرض وأنواع المخلوقات ،

٣٦

وما أظن الساعة . . . . .

ودل كلامه على أن المحاورة التي كانت بينهما هي في فناء هذا العالم الذي هذه الجنة جزء منه ، وفي البعث الآخروي أن صاحبه كان تقرر له هذان الأمران وهو يشك فيهما .

ثم أقسم على أنه إن رد إلى ربه على سبيل الفرض والتقدير وقياس الأخرى على الدنيا وكما يزعم صاحبه ليجدن في الآخرة خيراً من جنته في الدنيا تطمعاً ، وتمنياً على اللّه ، وادعاء لكرامته عليه ومكانته عنده ، وأنه ما أولاه الجنتين في الدنيا إلاّ لاستحقاقه ، وأن معه هذا الاستحقاق أين توجه كقوله { إِنَّ لِى عِندَهُ لَلْحُسْنَى}

وأما ما حكي اللّه تعالى عما قاله العاص بن وائل لأوتين مالاً وولداً فليس على حد مقالة هذا لصاحبه لأن العاصي قصد الاستخفاف وهو مصمم على التكذيب ، وهذا قال ما معناه إن كان ثم رجوع فسيكون حالي كذا وكذا .

وقرأ ابن الزبير وزيد بن عليّ وأبو بحرية وأبو جعفر وشيبة وابن محيصن وحميد وابن مناذر ونافع وابن كثير وابن عامر منهما على التثنية وعود الضمير على الجنتين ، وكذا في مصاحف مكة والمدينة والشام .

وقرأ الكوفيون وأبو عمرو { مِنْهَا } على التوحيد وعود الضمير على الجنة المدخولة وكذا في مصاحف الكوفة والبصرة ، ومعنى { مُنْقَلَباً } مرجعاً وعاقبة أي منقلب الآخرة لبقائها خير من منقلب الدنيا لزوالها ، وانتصب { مُنْقَلَباً } على التمييز المنقول من المبتدأ .

{قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِى خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً لَكُنَّا هُوَ اللّه رَبّى وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبّى أَحَدًا وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللّه لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللّه إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَدًا } سقط : فعسى ربي أن يؤتين خيرا من جنتك ويرسل عليها

حسبانا من السماء فتصبح صعيدا زلقا ، أو يصبح ماؤها غورا فلن تستطيع له طلبا ، وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحد ، ولم تكن له فئة ينصرونه من دون اللّه وما كان اللّه منتصرا ، هنالك الولاية للّه الحق هو خير ثوابا وخير عقبا {

٣٧

قال له صاحبه . . . . .

{وَهُوَ يُحَاوِرُهُ } حال من الفاعل وهو صاحبه المؤمن .

وقرأ أبيّ وهو يخاصمه وهي قراءة تفسير لا قراءة رواية لمخالفته سواد المصحف ، ولأن الذي روي بالتواتر { هُوَ يُحَاوِرُهُ } لا يخاصمه . و { أَكَفَرْتَ } استفهام إنكار وتوبيخ حيث أشرك مع اللّه غيره .

وقرأ ثابت البناني : ويلك { أَكَفَرْتَ } وهو تفسير معنى التوبيخ والإنكار لا قراءة ثابتة عن الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، ثم نبهه على أصل نشأته وإيجاده بعد العدم وأن ذلك دليل على جواز البعث من القبور ، ثم تحتم ذلك بإخبار الصادقين وهم الرسل عليهم السلام . وقوله { خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ } إما أن يراد خلق أصلك { مّن تُرَابٍ } وهو آدم عليه السلام وخلق أصله سبب في خلقه فكان خلقه خلقاً له ، أو أريد أن ماء الرجل يتولد من أغذية راجعة إلى التراب ، فنبهه أولاً على ما تولد منه ماء أبيه ثم ثانيه على النطفة التي هي ماء أبيه .

وأما ما نقل من أن ملكاً وكلّ بالنطفة يلقى فيها قليلاً من تراب قبل دخولها في الرحم فيحتاج إلى صحة نقل .

ثم نبهه على تسويته رجلاً وهو خلقه معتدلاً صحيح الأعضاء ، ويقال للغلام إذا تمّ شبابه قد استوى .

وقيل : ذكره بنعمة اللّه عليه في كونه رجلاً ولم يخلقه أنثى ، نبهه بهذه التنقلات على كمال قدرته وأنه لا يعجزه شيء .

قال الزمخشري :{ سَوَّاكَ } عدلك وكملك إنساناً ذكراً بالغاً مبلغ الرجال ، جعله كافر باللّه جاحداً لأنعمه لشكه في البعث كما يكون المكذب بالرسول كافراً انتهى . وانتصب { رَجُلاً } على الحال . وقال الحوفي { رَجُلاً } نصب بسوى أي جعلك { رَجُلاً } فظاهره أنه عدي سوي إلى اثنين ، ولما لم يكن الاستفهام استفهام استعلام وإنما هو استفهام إنكار وتوبيخ فهو في الحقيقة تقرير على كفره وإخبار عنه به لأن معناه قد كفرت بالذي استدرك هو مخبراً عن نفسه ، فقال { لَّكِنَّ هُوَ اللّه رَبّى } إقرار بتوحيد اللّه وأنه لا يشرك به غيره .

٣٨

لكن هو اللّه . . . . .

وقرأ الكوفيون وأبو عمرو وابن كثير ونافع في رواية ورش وقالون لكن بتشديد النون بغير ألف في الوصل وبألف في الوقف وأصله ، ولكن أنا نقل حركة الهمزة إلى نون { لَكِنِ } وحذف الهمزة فالتقى مثلان فأدغم أحدهما في الآخر .

وقيل : حذف الهمزة من أنا على غير قياس فالتقت نون { لَكِنِ } وهي ساكنة مع نون أنا فأدغمت فيها ،

وأما في الوقف فإنه أثبت ألف أنا وهو المشهور في الوقف على أنا ،

وأما في الوصل فالمشهور حذفها وقد أبدلها ألفاً في الوقف أبو عمر

وفي رواية فوقف لكنه ذكره ابن خالويه . و

قال ابن عطية : وروي هارون عن أبي عمرو لكنه { هُوَ اللّه رَبّى } بضمير لحق { لَكِنِ}

وقرأ ابن عامر ونافع في رواية المسيلي وزيد بن عليّ والحسن والزهري وأبو بحرية ويعقوب في رواية وأبو عمر

وفي رواية وكردم وورش في رواية وأبو جعفر بإثبات الألف وقفاً ووصلاً ، أما في الوقف فظاهر ،

وأما في الوصل فبنو تميم يثبتونها فيه في الكلام وغيرهم في الاضطرار فجاء على لغة بني تميم . وعن أبي جعفر حذف الألف وصلاً ووقفاً وذلك من رواية الهاشمي ، ودل إثباتها في الوصل أيضاً على أن أصل ذلك { لَكِنِ } أنا .

وقال الزمخشري : وحسن ذلك يعني إثبات الألف في الوصل وقوع الألف عوضاً من حذف الهمزة انتهى . ويدل على ذلك أيضاً قراءة فرقة لكننا بحذف الهمزة وتخفيف النونين . وقال أيضاً الزمخشري ونحوه يعني ونحو إدغام

نون { لَكِنِ } في نون أنا بعد حذف الهمزة قول القائل : وترمينني بالطرف أي أنت مذنب

وتقلينني لكن إياك لا أقلي

أي لكن أنا لا أقليك انتهى . ولا يتعين ما قاله في البيت لجواز أن يكون التقدير لكنني فحذف اسم لكن وذكروا أن حذفه فصيح إذا دل عليه الكلام ، وأنشدوا على ذلك قول الشاعر : فلو كنت ضبياً عرفت قرابتي

ولكن زنجي عظيم المشافر

أي ولكنك زنجي ، وأجاز أبو علي أن تكون لكن لحقتها نون الجماعة التي في خرجنا وضربنا ووقع الإدغام لاجتماع المثلين ثم وحد في { رَبّى } على المعنى ، ولو اتبع اللفظ لقال ربنا انتهى . وهو تأويل بعيد . و

قال ابن عطية : ويتوجه في لكنا أن تكون المشهورة من أخوات إن المعنى لكن قولي { هُوَ اللّه رَبّى } إلاّ أني لا أعرف من يقرأ بها وصلاً ووقفاً انتهى . وذكر أبو القاسم يوسف بن عليّ ابن جبارة الهذلي في كتاب الكامل في القراءات من تأليفه ما نصه : يحذفها في الحالين يعني الألف في الحالين يعني الوصل والوقف حمصي وابن عتبة وقتيبة غير الثقفي ، ويونس عن أبي عمر ويعني بحمصي ابن أبي عبلة وأبا حيوة وأبا بحرية . قرأ أبيّ والحسن { لَكِنِ } أنا { هُوَ اللّه } على الإنفصال ، وفكه من الإدغام وتحقيق الهمز ، وحكاها ابن عطية عن ابن مسعود .

وقرأ عيسى الثقفي { لَّكِنَّ هُوَ اللّه } بغير أنا ، وحكاها ابن خالويه عن ابن مسعود ، وحكاها الأهوازي عن الحسن . فأما من أثبت { هُوَ } فإنه ضمير الأمر والشأن ، وثم قول محذوف أي { لَكِنِ } أنا أقول { هُوَ اللّه رَبّى } ويجوز أن يعود على الذي { خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ } ،أي أما أقول :{ هُوَ } أي خالقك { اللّه رَبّى } و { رَبّى } نعت أو عطف بيان أو بدل ، ويجوز أن لا يقدر . أقول محذوفة فيكون أنا مبتدأ ، و { هُوَ } ضمير الشأن مبتدأ ثان و { اللّه } مبتدأ ثالث ، و { رَبّى } خبره والثالث خبر عن الثاني ، والثاني وخبره خبر عن أنا ، والعائد عليه هو الياء في { رَبّى } ، وصار التركيب نظير هند هو زيد ضاربها . وعلى رواية هارون يجوز أن يكون هو توكيد الضمير النصب في لكنه العائد على الذي خلقك ، ويجوز أن يكون فصلاً لوقوعه بين معرفين ، ولا يجوز أن يكون ضمير شأن لأنه لا عائد على اسم لكن من الجملة الواقعة خبراً .

وفي قوله و { لا أُشْرِكُ بِرَبّى أَحَدًا } تعريض بإشراك صاحبه وأنه مخالفه في ذلك ، وقد صرح بذلك صاحبه في قوله يا ليتني لم أشرك بربي أحداً .

وقيل : أراد بذلك أنه لا يرى الغنى والفقر إلاّ منه تعالى ، يفقر من يشاء ويغني من يشاء .

وقيل : لا أعجز قدرته على الإعادة ، فأسَّوي بينه وبين غيره فيكون إشراكاً كما فعلت أنت .

٣٩

ولولا إذ دخلت . . . . .

ولما وبخ المؤمن الكافر أورد له ما ينصحه فحضه على أن كان يقول إذا دخل جنته { مَا شَاء اللّه لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللّه } أي الأشياء مقذوفة بمشيئة اللّه إن شاء أفقر ، وإن شاء أغنى ، وإن شاء نصر ، وإن شاء خذل . ويحتمل أن تكون ما شرطية منصوبة بشاء ، والجواب محذوف أيأي شيء شاء اللّه كان ، ويحتمل أن تكون موصولة بمعنى الذي موفوعة على الابتداء ، أي الذي شاءه اللّه كائن ، أو على الخبر أي الأمر ما شاء اللّه { وَلَوْلاَ } تحضيضية ، وفصل بين الفعل وبينها بالظرف وهو معمول لقوله { قُلْتَ} ثم نصحه بالتبرىء من القوة فيما يحاوله ويعانيه وأن يجعل القوة للّه تعالى . وفي الحديث أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لأبي هريرة : { ألا أدلك على كلمة من كنز الجنة } ؟ قال : بلى يا رسول اللّه ، قال :  { لا قوة إلاّ باللّه إذا قالها العبد قال اللّه عز وجل أسلم عبدي واستسلم} . ونحوه من حديث أبي موسى وفيه إلاّ باللّه العلي العظيم .

ثم أردف تلك النصيحة بترجية من اللّه ، وتوقعه أن يقلب ما به وما بصاحبه من الفقر والغنى . فقال :{ إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَدًا } أي إني أتوقع من صنع اللّه تعالى وإحسانه أن يمنحني جنة خيراً من جنتك لإيماني به ، ويزيل عنك نعمته لكفرك به ويخرب بستانك .

وقرأ الجمهور :{ أَقُلْ } بالنصب مفعولاً ثانياً لترني وهي علمية لا بصرية لوقوع { أَنَاْ } فصلاً ، ويجوز أن يكون توكيداً للضمير المنصوب في ترني ، ويجوز أن تكون بصرية و { أَنَاْ } توكيد للضمير في ترني المنصوب فيكون { أَقُلْ } حالاً .

وقرأ عيسى بن عمر { أَقُلْ } بالرفع على أن تكون أنا مبتدأ ، و { أَقُلْ } خبره ، والجملة في موضع مفعول ترني الثاني إن كانت علمية ، وفي موضع الحال إن كانت بصرية . ويدل قوله { وَوَلَدًا } على أن قوله صاحبه { وَأَعَزُّ نَفَراً } عنى به الأولاد إن قابل كثرة المال بالقلة وعزة النفر بقلة الولد .

٤٠

فعسى ربي أن . . . . .

والحسبان ، قال ابن عباس وقتادة : العذاب . وقال الضحاك : البرد . وقال الكلبي : النار . وقال ابن زيد : القضاء . وقال الأخفش : سهام ترمي في مجرى فقلما تخطىء .

وقيل : النبل .

وقيل : الصواعق .

وقيل : آفة مجتاحة . وقال الزجاج : عذاب حسبان وذلك الحسبان حساب ما كسبت يداك ، وهذا الترجي إن كان ذلك أن يؤتيه في الدنيا فهي أنكى للكافر وآلم إذ يرى حاله من الغنى قد انتقلت إلى صاحبه ، وإن كان ذلك أن يؤتيه في الآخرة فهو أشرف وأذهب مع الخير والصلاح { فَتُصْبِحَ صَعِيدًا } أي أرضاً بيضاء لا نبات فيها لا من كرم ولا نخل ولا زرع ، قد اصطلم جميع ذلك فبقيت يباباً قفراً يزلق عليها لإملاسها ، والزلق الذي لا تثبت فيه قدم ذهب غراسة وبناؤه وسلب المنافع حتى منفعة المشي فيه فهو وحل لا ينبت ولا يثبت فيه قدم . وقال الحسن : الزلق الطريق الذي لا نبات فيه .

وقيل : الخراب . وقال مجاهد : رملاً هائلاً .

وقيل : الزلق الأرض السبخة

٤١

أو يصبح ماؤها . . . . .

وترجِّي المؤمن لجنة هذا الكافر آفة علوية من السماء أو آفة سفلية من الأرض ، وهو غور مائها فيتلف كل ما فيها من الشجر والزرع ، وغور مصدر خبر عن اسم أصبح على سبيل المبالغة و {أَوْ يُصْبِحَ } معطوف على قوله { يُرْسِلُ } لأن غؤور الماء لا يتسبب على الآفة السماوية إلاّ إن عنى بالحسبان القضاء الإلهي ، فحينئذ يتسبب عنه إصباح الجنة { صَعِيدًا زَلَقًا } أو إصباح مائها { غَوْرًا}

وقرأ الجمهور { غَوْرًا } بفتح الغين .

وقرأ البرجمي :{ غَوْرًا } بضم الغين . وقرأت فرقة بضم الغين وهمز الواو يعنون وبواو بعد الهمزة فيكون غؤوراً كما جاء في مصدر غارت عينه غؤوراً ، والضمير في { لَهُ } عائد على الماء أي لن يقدر على طلبه لكونه ليس مقدوراً على ردّ ماغوره اللّه تعالى .

وحكى الماوردي أن معناه : لن تستطيع طلب غيره بدلاً منه ، وبلغ اللّه المؤمن ما ترجاه من هلاك ما بيد صاحبه الكافر وإبادته على خلاف ما ظنّ في قوله ما أظن أن تبيد هذه أبداً

٤٢

وأحيط بثمره فأصبح . . . . .

فأخبر تعالى أنه { أُحِيطَ بِثَمَرِهِ } وهو عبارة عن الإهلاك وأصله من أحاط به العدّو وهو استدارته به من جوانبه ، ومتى أحاط به ملكه واستولى عليه ثم استعملت في كل إهلاك ومنه { إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ} و

قال ابن عطية : الإحاطة كناية عن عموم العذاب والفساد انتهى .

والظاهر أن الإحاطة كانت ليلاً لقوله { فَأَصْبَحَ } على أن أنه يحتمل أن يكون معنى { فَأَصْبَحَ } فصار فلا يدل على تقييد الخبر بالصباح ، وتقليب كفية ظاهره أنه { يُقَلّبُ كَفَّيْهِ } ظهراً لبطن وهو أنه يبدي باطن كفه ثم يعوج كفه حتى يبدو ظهرها ، وهي فعلة النادم المتحسر على شيء قد فاته ، المتأسف على فقدانه ، كما يكنى بقبض الكف والسقوط في اليد .

وقيل : يصفق بيده على الأخرى و { يُقَلّبُ كَفَّيْهِ } ظهر البطن .

وقيل : يضع باطن إحداهما على ظهر الأخرى ، ولما كان هذا الفعل كناية عن الندم عداه تعدية فعل الندم فقال { عَلَى مَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا } كأنه قال : فأصبح نادماً على ذهاب ما أنفق في عمارة تلك الجنة { وَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا } تقدم

الكلام على هذه الجملة في أواخر البقرة . وتمنيه انتفاء الشرك الظاهر أنه صدر منه ذلك في حالة الدنيا على جهة التوبة بعد حلول المصيبة ، وفي ذلك زجر للكفرة من قريش وغيرهم لئلا يجيء لهم حال يؤمنون فيها بعد نقم تحل بهم ، قيل : أرسل اللّه عليها ناراً فأكلتها فتذكر موعظة أخيه ، وعلم أنه أتى من جهة شركة وطغيانه فتمنى لو لم يكن مشركاً .

٤٣

ولم تكن له . . . . .

وقال بعض المفسرين : هي حكاية عن قول الكافر هذه القالة في الآخرة ، ولما افتخر بكثرة ماله وعزة نفره أخبر تعالى أنه لم تكن { لَّهُ فِئَةٌ } أي جماعة تنصره ولا كان هو منتصراً بنفسه ، وجمع الضمير في { يَنصُرُونَهُ } على المعنى كما أفرده على اللفظ في قوله { فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِى سَبِيلِ اللّه } واحتمل النفي أن يكون منسحباً على القيد فقط ، أي له فئة لكنه لا يقدر على نصره . وأن يكون منسحباً على القيد ، والمراد انتفاؤه لانتفاء ما هو وصف له أي لا فئة فلا نصر وما كان منتصراً بقوة عن انتقام اللّه .

وقرأ الأخوان ومجاهد وابن وثاب والأعمش وطلحة وأيوب وخلف وأبو عبيد وابن سعدان وابن عيسى الأصبهاني وابن جرير ولم يكن بالياء لأن تأنيث الفئة مجاز .

وقرأ باقي السبعة والحسن وأبو جعفر وشيبة بالتاء .

وقرأ ابن أبي عبلة { فِئَةٌ } تنصره على اللفظ

٤٤

هنالك الولاية للّه . . . . .

والحقيقة في هنالك أن يكون ظرف مكان للبعد ، فالظاهر أنه أشير به لدار الآخرة أي في تلك الدار الولاية للّه كقوله { لّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} قيل : لما نفى عنه الفئة الناصرة في الدنيا نفى عنه أن ينتصر في الآخرة ، فقال { وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً هُنَالِكَ } أي في الدار الآخرة ، فيكون { هُنَالِكَ } معمولاً لقوله { مُنْتَصِراً} وقال الزجّاج : أي { وَمَا كَانَتْ مُنْتَصِراً } في تلك الحال و { الْوَلَايَةُ للّه } على هذا مبتدأ وخبر .

وقيل :{ هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ للّه } مبتدأ وخبر ، والوقف على قوله { مُنْتَصِراً}

وقرأ الأخوان والأعمش وابن وثاب وشيبة وابن غزوان عن طلحة وخلف وابن سعدان وابن عيسى الأصبهاني وابن جرير { الْوَلَايَةُ } بكسر الواو وهي بمعنى الرئاسة والرعاية .

وقرأ باقي السبعة بفتحها بمعنى الموالاة والصلة . وحُكِي عن أبي عمرو والأصمعي أن كسر الواو هنا لحن لأن فعالة إنما تجيء فيما كان صنعة أو معنى متقلداً وليس هنالك تولي أمور .

وقال الزمخشري :{ الْوَلَايَةُ } بالفتح النصرة والتولي بالكسر السلطان والملك ، وقد قرىء بهما والمعنى هنالك أي في ذلك المقام ، وتلك الحال النصرة للّه وحده لا يملكها غيره ولا يستطيعها أحد سواه تقريراً لقوله { وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللّه } أو { هُنَالِكَ } السلطان والملك {للّه } لا يغلب ولا يمتنع منه ، أو في مثل تلك الحال الشديدة يتولى اللّه ويؤمن به كل مضطر يعني إن قوله { وَيَقُولُ يالَيْتَنِى لَمْ أُشْرِكْ بِرَبّى أَحَدًا } كلمة ألجىء إليها فقالها فزعاً من شؤم كفره ، ولولا ذلك لم يقلها . ويجوز أن يكون المعنى { هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ للّه } ينصر فيها أولياءه المؤمنين على الكفرة وينتقم لهم ويشفي صدورهم من أعدائهم ، يعني أنه نصر فيما فعل بالكافر أخاه المؤمن . وصدق قوله عسى { رَبّى إِنَّ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَاء } ويعضده قوله { هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا } أي لأوليائه انتهى .

وقرأ النحويان وحميد والأعمش وابن أبي ليلى وابن مناذر واليزيدي وابن عيسى الأصبهاني { الْحَقّ } برفع القاف صفة للولاية .

وقرأ باقي السبعة بخفضها وصفاً للّه تعالى .

وقرأ أُبيّ{ هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ } الحق للّه برفع الحق للولاية وتقديمها على قوله {للّه}

وقرأ أبو حيوة وزيد بن عليّ وعمرو بن عبيد وابن أبي عبلة وأبو السمال ويعقوب عن عصمة عن أبي عمرو {للّه الْحَقّ } بنصب القاف .

قال الزمخشري : على التأكيد كقولك هذا عبد اللّه الحق لا الباطل وهي قراءة حسنة فصيحة ، وكان عمرو بن عبيد رحمة اللّه عليه ورضوانه من أفصح الناس وأنصحهم انتهى . وكان قد

قال الزمخشري :

وقرأ عمرو بن عبيد رحمه اللّه انتهى . فترحم عليه وترضى عنه إذ هو من أوائل أكابر شيوخه المعتزلة ، وكان على غاية من الزهد والعبادة وله أخبار في ذلك

إلاّ أن أهل السنة يطعنون عليه وعلى أتباعه ، وفي ذلك يقول أبو عمرو الداني في أرجوزته التي سماها المنبهة : وابن عبيد شيخ الاعتزال

وشارع البدعة والضلال

وقرأ الحسن والأعمش وعاصم وحمزة { عُقْبًا } بسكون القاف والتنوين ، وعن عاصم عقبى بأبف التأنيث المقصورة على وزن رجعى ، والجمهور بضم القاف والتنوين والثلاث بمعنى العاقبة .

٤٥

واضرب لهم مثل . . . . .

الهشيم اليابس قاله الفرّاء واحده هشيمة . وقال الزجّاج وابن قتيبة : كل شيء كان رطباً ويبس ، ومنه كهشيم المحتظر وهشيم الثريد ، وأصل الهشيم المتفتت من يابس العشب . ذرى وأذرى لغتان فرّق قاله أبو عبيدة . وقال ابن كيسان : تذروه تجيء به وتذهب . وقال الأخفش : ترفعه . غادر ترك من الغدر ، ومنه ترك الوفاء ، ومنه الغدير ، وهو ما تركه السيل . الصف الشخص بإزاء الآخر إلى نهايتهم وقوفاً أو جلوساً أو على غير هاتين الحالتين طولاً أو تحليقاً يقال منه : صف يصف والجمع صفوف . العضد العضو من الإنسان وغيره معروف وفيه لغتان ، فتح العين وضم الضاد وإسكانها وفتحها وضم العين والضاد وإسكان الضاد ، ويستعمل في العون والنصير . قال الزجاج : والإعضاد التقوّي وطلب المعونة يقال : اعتضدت بفلان استعنت به . الموبق المهلك يقال : وبق يوبق وبقاً ووبق يبق وبوقاً إذا هلك فهو وابق ، وأوبقته ذنوبه أهلكته . أدحض الحق أرهقه قاله ثعلب ، وأصله من إدحاض القدم وهو إزلاقها قال الشاعر

وردت ويجىّ اليشكري حذاره

وحاد كما حاد البعير عن الدّحض

وقال آخر : أبا منذر رمت الوفاء وهبته

وحدت كما حاد البعير المدحض

والدحض الطين الذي يزهق فيه . الموئل قال الفراء : المنجي يقال والت نفس فلان نجت . وقال الأعشى : وقد أخالس رب البيت غفلته

وقد يحاذر مني ثم ما يئل

أي : ما ينجو . وقال ابن قتيبة : الملجأ يقال : وأل فلان إلى كذا ألجأ ، يئل وألاً وؤولاً .

{وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الاْرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرّياحُ وَكَانَ اللّه}

لما بين تعالى في المثل الأول حال الكافر والمؤمن وما آل إليه افتخر به الكافر من الهلاك ، بيّن في هذا المثل حال { قَالُواْ لَن } واضمحلاها ومصير ما فيها من النعيم والترفه إلى الهلاك و { كَمَاء } قدره ابن عطية خبر مبتدأ محذوف ، أي هي أي { إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَواةِ} وقال الحوفي : الكاف متعلقة بمعنى المصدر أي ضرباً{ كَمَاء أَنزَلْنَاهُ } وأقول إن { كَمَاء } في موضع المفعول الثاني لقوله { وَاضْرِبْ } أي وصيِّر { لَهُم مَّثَلَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا } أي صفتها شبه ماء وتقدم الكلام على تفسير نظير هذه الجمل في قوله { إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الاْرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالاْنْعَامُ } في يونس { فَأَصْبَحَ } أي صار ولا يراد تقييد الخبر بالصباح فهو كقوله : أصبحت لا أحمل السلاح ولا

أملك رأس البعير إن نفرا

وقيل : هي دالة على التقييد بالصباح لأن الآفات السماوية أكثر ما تطرق ليلاً فهي كقوله { فَأَصْبَحَ يُقَلّبُ كَفَّيْهِ}

وقرأ ابن مسعود : تذريه من أذرى رباعياً .

وقرأ زيد بن عليّ والحسن والنخعي والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى وابن محيصن وخلف وابن عيسى وابن جرير : الريح على الإفراد . والجمهور { تَذْرُوهُ الرّياحُ} ولما ذكر تعالى قدرته الباهرة في صيرورة ما كان في غاية النضرة والبهجة إلى حالة التفتت

والتلاشي إلى أن فرقته الرياح ولعبت به ذاهبة وجائية ، أخبر تعالى عن اقتداره على كل شيء من الإنشاء والإفناء وغيرهما مما تتعلق به قدرته تعالى

٤٦

المال والبنون زينة . . . . .

ولما حقر تعالى حال الدنيا بما ضربه من ذلك المثل ذكر أن ما افتخر به عيينه وأضرا به من المال والبنين إنما ذلك { زِينَةُ } هذه { قَالُواْ لَن } المحقرة ، وإن مصير ذلك إنما هو إلى النفاد ، فينبغي أن لا يكترث به ، وأخبر تعالى بزينة المال والبنين على تقدير حذف مضاف أي مقر { زِينَةُ } أو وضع المال والبنين منزلة المعنى والكثرة ، فأخبر عن ذلك بقوله { زِينَةُ } ولما ذكر مآل ما في الحياة الدنيا إلى الفناء اندرج فيه هذا الجزئي من كون المال والبنين زينة ، وأنتج . أن زينة الحياة الدنيا فإن إذ ذاك فرد من أفراد ما في الحياة الدنيا ، وترتيب هذا الإنتاج أن يقال { الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا } وكل ما كان { زِينَةُ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا } فهو سريع الإنقضاء فالمال والبنون سريع الإنقضاء ، ومن بديهة العقل أن ما كان كذلك يقبح بالعاقل أن يفتخر به أو يفرح بسببه ، وهذا برهان على فساد قول أولئك المشركين الذين افتخروا على فقراء المؤمنين بكثرة الأموال والأولاد .

{وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ } قال الجمهور هي الكلمات المأثور فضلها سبحانه اللّه والحمد للّه ولا إله إلاّ اللّه واللّه أكبر ، ولا حول ولا قوة إلاّ باللّه العلي العظيم .

وقال ابن عباس وابن جبير وأبو ميسرة عمرو بن شرحبيل هي الصلوات الخمس .

وعن ابن عباس أنه كل عمل صالح من قول أو فعل يبقى للآخرة ، ورجحه الطبري وقول الجمهور مروي عن الرسول صلى اللّه عليه وسلم من طريق أبي هريرة وغيره . وعن قتادة : كل ما أريد به وجه اللّه . وعن الحسن وابن عطاء : أنا النيات الصالحة فإنّ بها تتقبل الأعمال وترفع ، ومعنى { خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَابًا } أنها دائمة باقية وخيرات الدنيا منقرضة فانية ، والدائم الباقي خير من المنقرض المنقضي .{ وَخَيْرٌ أَمَلاً } أي وخير رجاء لأن صاحبها يأمل في الدنيا ثواب اللّه ونصيبه في الآخرة دون ذي المال والبنين العاري من الباقيات الصالحات فإنه لا يرجو ثواباً .

٤٧

ويوم نسير الجبال . . . . .

ولما ذكر تعالى ما يؤول إليه حال الدنيا من النفاد أعقب ذلك بأوائل أحوال يوم القيامة فقال { وَيَوْمَ مِنْهُ الْجِبَالُ } كقوله { يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاء مَوْراً وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً} وقال :{ وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} وقال { فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبّى نَسْفاً فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً} وقال { وَإِذَا الْجِبَالُ سُيّرَتْ } والمعنى أنه ينفك نظام هذا العالم الدنيوي ويؤتي بالعالم الأخروي ، وانتصب { وَيَوْمَ } على إضمار اذكر أو بالفعل المضمر عند قوله { لَّقَدْ جِئْتُمُونَا } أي قلنا يوم كذا لقد .

وقرأ نافع وحمزة والكسائي والأعرج وشيبة وعاصم وابن مصرّف وأبو عبد الرحمن { نُسَيّرُ } بنون العظمة الجبال بالنصب ، وابن عامر وابن كثير وأبو عمرو والحسن وشبل وقتادة وعيسى والزهري وحميد وطلحة واليزيدي والزبيري عن رجاله عن يعقوب بضم التاء وفتح الياء المشددة مبنياً للمفعول { الْجِبَالُ } بالرفع وعن الحسن كذلك إلاّ أنه بضم الياء باثنتين من تحتها ، وابن محيصن ومحبوب عن أبي عمر وتسير من سارت الجبال .

وقرأ أبيّ سيرت الجبال { وَتَرَى الاْرْضَ بَارِزَةً } أي منكشفة ظاهرة لذهاب الجبال والظراب والشجر والعمارة ، أو ترى أهل الأرض بارزين من بطنها .

وقرأ عيسى { وَتَرَى الاْرْضَ } مبنياً للمفعول { وَحَشَرْنَاهُمْ } أي أقمناهم من قبورهم وجمعناهم لعرصة القيامة .

وقال الزمخشري :

فإن قلت : لم جيء بحشرناهم ماضياً بعد تسير وترى ؟

قلت : للدلالة على أن حشرهم قبل التسيير وقبل البروز ليعاينوا تلك الأهوال والعظائم ، كأنه قيل :{ وَحَشَرْنَاهُمْ } قبل ذلك انتهى . والأولى أن تكون الواو واو الحال لا واو العطف ، والمعنى وقد { حشرناهم } أي يوقع التسيير في حالة حشرهم .

وقيل :{ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ }{ وَعُرِضُواْ }{ وَوُضِعَ الْكِتَابُ } مما وضع فيه الماضي موضع المستقبل لتحقق وقوعه .

وقرأ الجمهور : نغادر بنون العظمة وقتادة تغادر على الإسناد إلى القدرة أو الأرض ، وأبان بن يزيد عن عاصم كذلك أو بفتح الدال مبنياً للمفعول واحد بالرفع وعصمة كذلك ، والضحاك نغدر بضم النون وإسكان الغين وكسر الدال ،

٤٨

وعرضوا على ربك . . . . .

وانتصب { صَفَّا } على الحال وهو مفرد تنّزل منزلة الجمع أي صفوفاً . وفي الحديث الصحيح : { يجمع اللّه الأولين والآخرين في صعيد واحد صفوفاً يسمعهم الداعي وينفذهم البصر} . الحديث بطوله وفي حديث آخر : { أهل الجنة يوم القيامة مائة وعشرون صفاً أنتم منها ثمانون صفاً} .أو انتصب

على المصدر الموضوع موضع الحال أي مصطفين .

وقيل : المعنى { صَفَّا } صفاً فحذف صفاً وهو مراد ، وهذا التكرار منبيء عن استيفاء الصفوف إلى آخرها ، شبه حالهم بحال الجند المعروضين على السلطان مصطفين ظاهرين يرى جماعتهم كما يرى كل واحد لا يحجب أحد أحداً .

{لَّقَدْ جِئْتُمُونَا } معمول لقول محذوف أي وقلنا { كَمَا خَلَقْنَاكُمْ } نعت لمصدر محذوف أي مجيئاً مثل مجيء خلقكم أي { حفاة عراة غرلاً} كما جاء في الحديث ، وخالين من المال والولد و { ءانٍ } هنا مخففة من الثقيلة . وفصل بينها وبين الفعل بحرف النفي وهو { لَنْ } كما فصل في قوله { أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن لَنْ نَّجْمَعَ } و { بَلِ } للإضراب بمعنى الانتقال من خبر إلى خبر ليس بمعنى الإبطال ، والمعنى أن لن نجمع لإعادتكم وحشركم { مَّوْعِدًا } أي مكان وعد أو زمان وعد لإنجاز ما وعدتم على ألسنة الأنبياء من البعث والنشور ، والخطاب في { لَّقَدْ جِئْتُمُونَا } للكفار المنكرين البعث على سبيل تقريعهم وتوبيخهم .

٤٩

ووضع الكتاب فترى . . . . .

{وَوُضِعَ الْكِتَابُ }

وقرأ زيد بن عليّ{ وَوُضِعَ } مبنياً للفاعل { الْكِتَابِ } بالنصب . و { الْكِتَابِ } اسم جنس أي كتب أعمال الخلق ، ويجوز أن تكون الصحائف كلها جعلت كتاباً واحداً ووضعته الملائكة لمحاسبة الخلق وإشفاقهم خوفهم من كشف أعمالهم السيئة وفضحهم وما يترتب على ذلك من العذاب السرمدي ، ونادوا هلكتهم التي هلكوا خاصة من بين الهلكات فقالوا يا ويلنا والمراد من بحضرتهم كأنهم قالوا يا من بحضرتنا انظروا هلكتنا ، وكذا ما جاء من نداء ما لا يعقل كقوله { فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ }{ نَفْسٌ ياحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطَتُ }{ قَالُواْ ياوَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا } وقول الشاعر : يا عجباً لهذه الفليقة

فيا عجباً من رحلها المتحمل

إنما يراد به تنبيه من يعقل بالتعجب مما حل بالمنادي . و { لاَ يُغَادِرُ } جملة في موضع الحال .

وعن ابن عباس : الصغيرة التبسم والكبيرة القهقهة . وعن ابن جبير : القبلة والزنا وعن غيره السهو والعمد . وعن الفضيل ضجوا واللّه من الصغائر قبل الكبائر ، وقدمت الصغيرة اهتماماً بها ، وإذا أحصيت فالكبيرة أحرى { إِلاَّ أَحْصَاهَا } ضبطها وحفظها { وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا } في الصحف عتيداً أو جزاء ما عملوا .{ وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } فيكتب عليه ما لم يعمل أو يزيد في عقابه الذي يستحقه أو يعذبه بغير جرم .

قال الزمخشري : كما يزعم من ظلم اللّه في تعذيب أطفال المشركين انتهى . ولا يقال : إن ذلك ظلم منه تعالى لأنه تعالى كل مملوكون له فله أن يتصرف في مملوكيه بما يشاء ، لا يسأل عما يفعل ، والصحيح في أطفال المشركين أنهم يكونون في الجنة خدماً لأهلها نص عليه في البخاري عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.

٥٠

وإذ قلنا للملائكة . . . . .

ذكروا في ارتباط هذه الآية بما قبلها أنه تعالى لما أمر نبيه عليه الصلاة والسلام بمجالسة الفقراء وكان أولئك المتكبرون قد تأنفوا عن مجالستهم ، وذكروا للرسول صلى اللّه عليه وسلم طردهم عنه وذلك لما جبلوا عليه من التكبر والتكثر بالأموال والأولاد وشرف الأصل والنسب ، وكان أولئك الفقراء بخلافهم في ذلك ناسب ذكر قصة إبليس بجامع ما اشتركا فيه من التكبر والافتخار بالأصل الذي خلق منه وهذا الذي ذكروه في الإرتباط هو ظاهر بالنسبة للآيات السابقة قبل ضرب المثلين ،

وإما أنه واضح بالنسبة لما بعد المثلين فلا والذي يظهر في إرتباط هذه الآية بالآية التي قبلها هو أنه لما ذكر يوم القيامة والحشر وذكر خوف المشركين مما سطر في ذلك الكتاب ، وكان إبليس هو الذي حمل المجرمين على معاصيهم واتخاذ شركاء مع اللّه ناسب ذكر إبليس والنهي

عن اتخاذ ذريته أولياء من دون اللّه تبعيداً عن المعاصي ، وعن امتثال ما يوسوس به . وتقدم الكلام في استثناء إبليس أهو استثناء متصل أم منقطع ، وهل هو من الملائكة أم ليس منهم في أوائل سورة البقرة فأغني عن إعادته ، والظاهر من هذه الآية أنه ليس من الملائكة وإنما هو من الجن . قال قتادة : الجن حي من الملائكة خلقوا من نار السموم . وقال شهر بن حوشب : هو من الجن الذين ظفرت بهم الملائكة فأسره بعض الملائكة فذهب به إلى السماء . وقال الحسن وغيره : هو أول الجن وبداءتهم كآدم في الإنس . وقالت فرقة : كان إبليس وقبيله جناً لكن الشياطين اليوم من ذريته فهو كنوح في الإنس .

وقال الزمخشري : كان من الجن كلام مستأنف جارٍ مجري التعليل بعد استثناء إبليس من الساجدين كأن قائلاً قال : ما له لم يسجد فقيل { كَانَ مِنَ الْجِنّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ } والفاء للتسبيب أيضاً جعل كونه من الجن سبباً في فسقه ، يعني إنه لو كان ملكاً كسائر من سجد لآدم لم يفسق عن أمر اللّه لأن الملائكة معصومون ألبتة لا يجوز عليهم ما يجوز على الجن والإنس كما قال :{ لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } وهذا الكلام المعترض تعمد من اللّه عز وعلا لصيانة الملائكة عن وقوع شبهة في عصمتهم ، فما أبعد البون بين ما تعمده اللّه وبين قول من ضادّه فزعم أنه كان ملكاً ورئيساً على الملائكة فعصي فلعن ومسخ شيطاناً ، ثم وكه على ابن عباس انتهى .

والظاهر أن معنى { فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ } فخرج عما أمره ربه به من السجود . قال رؤبة : يهوين في نجد وغوراً غائرا

فواسقاً عن قصدها حوائراً

وقيل :{ فَفَسَقَ } صار فاسقاً كافراً بسبب أمر ربه الذي هو قوله { اسْجُدُواْ لاِدَمَ } حيث لم يمتثله . قيل : ويحتمل أن يكون المعنى { فَفَسَقَ } فأمر ربه أي بمشيئته وقضائه لأن المشيئة يطلق عليها أمر كما تقول : فعلت ذلك عن أمرك أي بحسب مرادك ، والهمزة في { أَفَتَتَّخِذُونَهُ } للتوبيخ والإنكار والتعجب أي أبعد ما ظهر منه من الفسق والعصيان تتخذونه وذريته أولياء من دوني مع ثبوت عداوته لكم تتخذونه ولياً .

وقرأ عبيد اللّه بن زياد على المنبر وهو يخطب { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرّيَّتَهُ } بفتح الذال ، والظاهر أن لإبليس ذرية وقال بذلك قوم منهم قتادة والشعبي وابن زيد والضحاك والأعمش . قال قتادة : ينكح وينسل كما بنسل بنو آدم . وقال الشعبي : لا يكون ذرية إلاّ من زوجة . وقال ابن زيد : إن اللّه قال لإبليس إني لا أخلق لآدم ذرية إلاّ ذرأت لك مثلها ، فليس يولد لولد آدم ولد إلاّ ولد معه شيطان يقرن .

وقيل للرسول صلى اللّه عليه وسلم : ألك شيطان ؟ قال : { نعم ألا إن اللّه تعالى أعانني عليه فأسلم} . وسمي الضحاك وغيره من ذرية إبليس جماعة اللّه أعلم بصحة ذلك ، وكذلك ذكروا كيفيات في وطئه وإنساله اللّه أعلم بذلك ، وذهب قوم إلى أنه ليس لإبليس ولد وإنما الشياطين هم الذين يعينونه على بلوغ مقاصده ، والمخصوص بالذم محذوف أي { بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً } من اللّه إبليس وذريته وقال { لّلظَّالِمِينَ } لأنهم اعتاضوا من الحق بالباطل وجعلوا مكان ولايتهم إبليس وذريته ، وهذا نفس الظالم لأنه وضع الشيء في غيره موضعه .

٥١

ما أشهدتهم خلق . . . . .

وقرأ الجمهور { مَّا أَشْهَدتُّهُمْ } بتاء المتكلم .

وقرأ أبو جعفر وشيبة والسختياني وعون العقيلي وابن مقسم : ما أشهدناهم بنون العظمة ، والظاهر عود ضمير المفعول في { أَشْهَدتُّهُمْ } على إبليس وذريته أي لم أشاورهم في { خُلِقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ } بل خلقتهم على ما أردت ، ولهذا قال { وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلّينَ عَضُداً}

وقال الزمخشري : يعني إنكم اتخذتم شركاء لي في العبادة وإنما كانوا يكونون شركاء فيها لو كانوا شركاء في الإلهية فنفي

مشاركتهم في الإلهية بقوله : { مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ } لا أعتضد بهم في خلقها { وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ } أي ولا أشهدت بعضهم خلق بعض كقوله { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ } وما كنت متخذهم أعواناً فوضع { الْمُضِلّينَ } موضع الضمير ذماً لهم بالإضلال فإذا لم يكونوا لي { عَضُداً } في الخلق فما لكم تتخذونهم شركاء في العبادة انتهى .

وقيل : يعود على الملائكة والمعنى أنه ما أشهدهم ذلك ولا استعان بهم في خلقها بل خلقتهم ليطيعوني ويعبدوني فكيف يعبدونهم .

وقيل : يعود على الكفار .

وقيل : على جميع الخلق . و

قال ابن عطية : الضمير في { أَشْهَدتُّهُمْ } عائد على الكفار وعلى الناس بالجملة ، فتتضمن الآية الرد على طوائف من المنجمين وأهل الطبائع والمتحكمين والأطباء وسواهم من كل من يتخرص في هذه الأشياء ، وقاله عبد الحق الصقلي وتأول هذا التأويل في هذه الآية وأنها رادة على هذه الطوائف ، وذكر هذا بعض الأصوليين انتهى .

وقرأ أبو جعفرر والجحدري والحسن وشيبة { وَمَا كُنْتَ } بفتح التاء خطاباً للرسول صلى اللّه عليه وسلم.

قال الزمخشري : والمعنى وما صح لك الأعتضاد بهم ، وما ينبغي لك أن تعتز بهم انتهى . والذي أقوله أن المعنى إخبار من اللّه عن نبيه وخطاب منه تعالى له في انتفاء كينونته متخذ عضد من المضلين ، بل هو مذ كان ووجد عليه السلام في غاية التبرّي منهم والبعد عنهم لتعلم أمته أنه لم يزل محفوظاً من أول نشأته لم يعتضد بمضل ولا مال إليه صلى اللّه عليه وسلم.

وقرأ عليّ بن أبي طالب متخذاً المضلين أعمل اسم الفاعل .

وقرأ عيسى { عَضُداً } بسكون الضاد خفف فعلاً كما قالوا : رجل وسبع في رجل وسبع وهي لغة عن تميم ، وعنه أيضاً بفتحتين .

وقرأ شيبة وأبو عمر

وفي رواية هارون وخارجة والخفاف { عَضُداً } بضمتين ، وعن الحسن { عَضُداً } بفتحتين وعنه أيضاً بضمتين .

وقرأ الضحاك { عَضُداً } بكسر العين وفتح الضاد .

٥٢

ويوم يقول نادوا . . . . .

وقرأ الجمهور { وَيَوْمَ يَقُولُ } بالياء أي اللّه .

وقرأ الأعمش وطلحة ويحيى وابن أبي ليلى وحمزة وابن مقسم : نقول بنون العظمة أي للذين أشركوا به في الدنيا { نَادُواْ شُرَكَائِىَ } وليس المعنى أنه تعالى أخبر أنهم شركاؤه ولكن ذلك على زعمكم ، والإضافة تكون بأدنى ملابسة ومفعولاً{ زَعَمْتُمْ } محذوفان لدلالة المعنى عليهما إذ التقدير زعمتموهم شركائي والنداء بمعنى الاستغاثة ، أي استغيثوا بشركائكم والمراد نادوهم لدفع العذاب عنكم أو للشفاعة لكم ، والظاهر أن الضمير في { بَيْنَهُمْ } عائد على الداعين والمدعوين وهم المشركون والشركاء .

وقيل : يعود على أهل الهدى وأهل الضلالة ، والظاهر وقوع الدعاء حقيقة وانتفاء الإجابة .

وقيل : يحتمل أن يكون استعارة كأن فكرة الكافر ونظره في أن تلك الجمادات لا تغني شيئاً ولا تنفع هي بمنزلة الدعاء وترك الإجابة .

وقرأ الجمهور { شُرَكَائِىَ } ممدوداً مضافاً للياء ، وابن كثير وأهل مكة مقصوراً مضافاً لها أيضاً ، والظاهر انتصاب { بَيْنَهُمْ } على الظرف . وقال الفراء : البين هنا الوصل أي { وَجَعَلْنَا } نواصلهم في الدنيا هلاكاً يوم القيامة ، فعلى هذا يكون مفعولاً أول لجعلنا ، وعلى الظرف يكون في موضع المفعول الثاني .

وقال ابن عباس وقتادة والضحاك : الموبق المهلك . وقال الزجاج : جعلنا بينهم من العذاب ما يوبقهم . وقال عبد اللّه بن عمر وأنس ومجاهد : واد في جهنم يجري بدم وصديد . وقال الحسن : عداوة . وقال الربيع بن أنس : إنه المجلس . وقال أبو عبيدة : الموعد .

٥٣

ورأى المجرمون النار . . . . .

{وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ } هي رؤية عين أي عاينوها ، والظن هنا قيل : على موضوعه من كونه ترجيح أحد الجانبين . وكونهم لم يجزموا بدخولها رجاء وطمعاً في رحمة اللّه .

وقيل : معنى { فَظَنُّواْ } أيقنوا قاله أكثر الناس ، ومعنى { مُّوَاقِعُوهَا } مخالطوها واقعون فيها كقوله { وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّه إِلاَّ إِلَيْهِ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُلاَقُواْ رَّبُّهُمْ} و

قال ابن عطية : أطلق الناس أن الظن هنا بمعنى التيقن ، ولو قال بدل ظنوا أيقنوا لكان الكلام متسقاً على مبالغة فيه ، ولكن العبارة بالظن لا تجيء أبداً في موضع يقين تام قد ناله الحسن بل أعظم درجاته أن يجيء في موضع علم متحقق ، لكنه لم يقع ذلك المظنون وإلاّ فمن يقع ويحس لا يكاد يوجد في كلام العرب العبارة عنه بالظن .

وتأمل هذه الآية وتأمل قول دريد :

فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج

انتهى . وفي مصحف عبد اللّه ملاقوها مكان { مُّوَاقِعُوهَا } وقرأه كذلك الأعمش وابن غزوان عن طلحة ، والأولى جعله تفسيراً لمخالفة سواد المصحف . وعن علقمة أنه قرأ ملافوها بالفاء مشددة من لففت . وفي الحديث : { إن الكافر ليرى جهنم ويظن أنها مواقعته من مسيرة أربعين سنة} . ومعنى { مَصْرِفًا } معدلاً ومراعاً . ومنه قول أبي كبير الهذلي : أزهير هل عن شيبة من مصرف

أم لا خلود لباذل متكلف وأجاز أبو معاذ { مَصْرِفًا } بفتح الراء وهي قراءة زيد بن عليّ جعله مصدراً كالمضرب لأن مضارعه يصرف على يفعل كيصرف .

٥٤

ولقد صرفنا في . . . . .

تقدّم تفسير نظير صدر هذه الآية : و { شَىْء } هنا مفرد معناه الجمع أي أكثر الأشياء التي يتأتى منها الجدال إن فصلتها واحداً بعد واحد .{ جَدَلاً } خصومة ومماراة يعني إن جدل الإنسان أكثر من جدل كل شيء ونحوه ، فإذا هو خصيم مبين . وانتصب { جَدَلاً } على التمييز . قيل :{ الإِنسَانَ } هنا النضر بن الحارث .

وقيل : ابن الزبعري .

وقيل : أبيّ بن خلف ، وكان جداله في البعث حين أتى بعظم فذره ، فقال : أيقدر اللّه على إعادة هذا ؟ قاله ابن السائب . قيل : كل من يعقل من ملك وجنّ يجادل و { الإِنْسَانُ أَكْثَرَ } هذه الأشياء { جَدَلاً } انتهى .

وكثيراً ما يُذكر الإنسان في معرض الذمّ وقد تلا الرسول صلى اللّه عليه وسلم قوله :{ وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَىء جَدَلاً } حين عاتب علياً كرم اللّه وجهه على النوم عن صلاة الليل ، فقال له عليّ : إنما نفسي بيد اللّه ، فاستعمل { الإِنسَانَ } على العموم .

٥٥

وما منع الناس . . . . .

وفي قوله { وَمَا مَنَعَ النَّاسَ } الآية تأسف

عليهم وتنبيه على فساد حالهم لأن هذا المنع لم يكن بقصد منهم أن يمتنعوا ليجيئهم العذاب ، وإنما امتنعوا هم مع اعتقاد أنهم مصيبون لكن الأمر في نفسه يسوقهم إلى هذا فكان حالهم يقتضي التأسف عليهم . و { النَّاسِ } يراد به كفار عصر الرسول صلى اللّه عليه وسلم الذين تولوا دفع الشريعة وتكذبيها قاله ابن عطية .

وقال الزمخشري : إن الأولى نصب والثانية رفع وقبلهما مضاف محذوف تقديره { وَمَا مَنَعَ النَّاسَ } الإيمان { إِلا } انتظار { أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الاْوَّلِينَ } وهي الإهلاك {أَوْ } انتظار { أَن يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابَ } يعني عذاب الآخرة انتهى . وهو مسترق من قول الزجاج . قال الزجاج : تقديره ما منعهم من الإيمان { إِلا } طلب { أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الاْوَّلِينَ} وقال الواحدي : المعنى ما منعهم إلاّ أني قد قدّرت عليهم العذاب ، وهذه الآية فيمن قتل ببدر وأحد من المشركين ، وهذا القول نحو من قول من قال التقدير { وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ } إلاّ ما سبق في علمنا وقضائنا أن يجري عليهم { قُل لِلَّذِينَ } من عذاب الاستئصال من المسخ والصيحة والخسف والغرق وعذاب الظلة ونحو ذلك ، وأراد بالأولين من أهلك من الأمم السالفة . وقال صاحب الغنيان : إلاّ إرادة أو انتظار أن تأتيهم سنتنا في الأولين ، ومن قدر المضاف هذا أو الطلب فإنما ذلك لاعتقادهم عدم صدق الأنبياء فيما وعدوا به من العذاب كما قال حكاية عن بعضهم { إِن كَانَ هَاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ}

وقيل :{ مَا } هنا استفهامية لا نافية ، والتقدير وأي شيء { مَنَعَ النَّاسَ } أن { يُؤْمِنُواْ } و { الْهُدَى } الرسول أو القرآن قولان .

وقرأ الحسن والأعرج والأعمش وابن أبي ليلى وخلف وأيوب وابن سعدان وابن عيسى الأصبهاني وابن جرير والكوفيون بضم القاف والباء ، فاحتمل أن يكون بمعنى { قُبُلاً } لأن أبا عبيدة حكاهما بمعنى واحد في المقابلة ، وأن يكون جمع قبيل أي يجيئهم العذاب أنواعاً وألواناً .

وقرأ باقي السبعة ومجاهد وعيسى بن عمر { قُبُلاً } بكسر القاف وفتح الباء ومعناه عياناً .

وقرأ أبو رجاء والحسن أيضاً بضم القاف وسكون الباء وهو تخفيف قبل على لغة تميم . وذكر ابن قتيبة أنه قرىء بفتحتين وحكاه الزمخشري وقال مستقبلاً .

وقرأ أبيّ بن كعب وابن غزوان عن طلحة قبيلاً بفتح القاف وباء مكسورة بعدها ياء على وزن فعيل .

٥٦

انظر تسفير الآية:٥٧

٥٧

وما نرسل المرسلين . . . . .

{وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشّرِينَ } أي بالنعيم المقيم لمن آمن { وَمُنذِرِينَ } أي بالعذاب الأليم لمن كفر لا ليجادلوا ولا ليتمنى عليهم الاقتراحات { لِيُدْحِضُواْ } ليزيلوا { وَاتَّخَذُواْ ءايَاتِى } يجمع آيات القرآن وعلامات الرسول قولاً وفعلاً{ وَمَا أُنْذِرُواْ } من عذاب الآخرة ، واحتملت { مَا } أن تكون بمعنى الذي ، والعائد محذوف أي { وَمَا } أنذروه وأن تكون مصدرية أي وإنذارهم فلا تحتاج إلى عائد على الأصح { هزؤاً } أي سخرية واسخفافاً لقولهم أساطير الأولين . لو شئنا لقلنا مثل هذا وجداً لهم للرسول صلى اللّه عليه وسلم قولهم { وَمَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا } ولو شاء اللّه لأنزل ملائكة وما أشبه ذلك ، والآيات المضاف إلى الرب هو القرآن ولذلك عاد الضمير مفرداً في قوله { أَن يَفْقَهُوهُ } وإعراضه عنها كونه لا يتذكر حين ذكر ولم يتدبر ونسي عاقبة ما قدّمت يداه من الكفر والمعاصي غير مفكر فيها ولا ناظر في أن المحسن والمسيء يجزيان بما عملا .

وتقدم تفسير نظير قوله { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكّرَ بِئَايِاتِ رَبّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِىَ مَا } ثم أخبر تعالى أن هؤلاء لا يهتدون أبداً وهذا من العام والمراد به الخصوص ، وهو من طبع اللّه على قلبه وقضى عليه بالموافاة على الكفر إذ قد اهتدي كثير من الكفرة وآمنوا ، ويحتمل أن يكون ذلك حكماً على الجميع أي { وَإِن تَدْعُهُمْ } أي { إِلَى الْهُدَى } جميعاً{ فَلَنْ يَهْتَدُواْ } جميعاً{ أَبَدًا } وحمل أولاً على لفظ من فأفرد ثم على المعنى في قوله { إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ } فجمع وجعلوا دعوة الرسول إلى الهدى وهي التي تكون سبباً لوجود الإهتداء ، سبباً لانتفاء هدايتهم ، وهذا الشرط كأنه جواب للرسول عن تقدير قوله مالي لا أدعوهم إلى الهدى حرصاً منه عليه الصلاة والسلام على حصول إيمانهم ، فقيل :{ وَإِن تَدْعُهُمْ } وتقييده بالأبدية مبالغة في انتفاء هدايتهم .

٥٨

وربك الغفور ذو . . . . .

و { الْغَفُورُ } صفة مبالغة و { ذُو الرَّحْمَةِ } أي الموصوف

بالرحمة ، ثم ذكر دليل رحمته وهو كونه تعالى { لا يُؤَاخِذُهُم } عاجلاً بل يمهلهم مع إفراطهم في الكفر وعداوة الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، والموعد أجل الموت ، أو عذاب الآخرة ، أو يوم بدر ، أو يوم أحد ، وأيام النصر أو العذاب إما في الدنيا

وإما في الآخرة أقوال .

والموئل قال مجاهد : المحرز . وقال الضحاك : المخلص والضمير في { مِن دُونِهِ } عائد على الموعد .

وقرأ الزهري موّلاً بتشديد الواو من غير همز ولا ياء .

وقرأ أبو جعفر عن الحلواني عنه مولاً بكسر الواو خفيفة من غير همز ولا ياء .

وقرأ الجمهور بسكون الواو وهمزة بعدها مكسورة ،

٥٩

وتلك القرى أهلكناهم . . . . .

وأشارة تعالى بقوله { وَتِلْكَ الْقُرَى } إلى القرى المجاورة أهل مكة والعرب كقرى ثمود وقوم لوط وغيرهم ، ليعتبروا بما جرى عليهم وليحذروا ما يحل بهم كما حل بتلك القرى .{ وَتِلْكَ } مبتدأ و { الْقُرَى } صفة أو عطف بيان والخبير { أَهْلَكْنَاهُمْ } ويجوز أن تكون { الْقُرَى } الخبر و { أَهْلَكْنَاهُمْ } جملة حالية كقوله { فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً } ويجوز أن تكون { تِلْكَ } منصوباً بإضمار فعل يفسره ما بعده أي وأهلكنا { تِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ } و { تِلْكَ الْقُرَى } على إضمار مضاف أي وأصحاب تلك القرى ، ولذلك عاد الضمير على ذلك المضمر في قوله { أَهْلَكْنَاهُمْ}

وقوله { لَمَّا ظَلَمُواْ } إشعار بعلة الإهلاك وهي الظلم ، وبهذا استدل الأستاذ أبو الحسن بن عصفور على حرفية { لَّمّاً } وأنها ليست بمعنى حين لأن الظرف لا دلالة فيه على العلية . وفي قوله { لَمَّا ظَلَمُواْ } تحذير من الظلم إذ نتيجته الإهلاك وضربنا لإهلاكهم وقتاً معلوماً ، وهو الموعد واحتمل أن تكون مصدراً أو زماناً .

وقرأ الجمهور بضم الميم وفتح اللام ، واحتمل أن يكون مصدراً مضافاً إلى المفعول وأن يكون زماناً .

وقرأ حفص وهارون عن أبي بكر بفتحتين وهو زمان الهلاك .

وقرأ حفص بفتح الميم وكسر اللام مصدر هلك يهلك وهو مضاف للفاعل .

وقيل : هلك يكون لازماً ومتعدياً فعلى تعديته يكون مضافاً للمفعول ، وأنشد أبو عليّ في ذلك :

ومهمه هالك من تعرجاً

ولا يتعين ما قاله أبو عليّ في هذا البيت ، بل قد ذهب بعض النحويين إلى أن هالكاً فيه لازم وأنه من باب الصفة المشبهة أصله هالك من تعرجاً . فمن فاعل ثم أضمر في هالك ضمير مهمه ، وانتصب { مِنْ } على التشبيه بالمفعول ثم أضاف من نصب ، وقد اختلف في الموصول هل يكون من باب الصفة المشبهة ؟ والصحيح جواز ذلك وقد ثبت في أشعار العرب . قال الشاعر وهو عمر بن أبي ربيعة : أسيلات أبدان دقاق خصورها

وثيرات ما التفت عليها الملاحف

وقال آخر : فعجتها قبل الأخيار منزلة

والطيبي كل ما التاثت به الأزر

٦٠

وإذ قال موسى . . . . .

برح : زال مضارع يزول ، ومضارع يزال فتكون من أخوات كان الناقصة . الحقب : السنون واحدها حقبة . قال الشاعر : فإن تنأ عنها حقبة لاتلاقها

فإنك مما أحدثت بالمحرب

وقال الفراء : الحقب سنة ، ويأتي قول أهل التفسير فيه . السرب : المسلك في جوف الأرض . النصب : التعب والمشقة . الصخرة معروفة وهي حجر كبير . السفينة معروفة وتجمع على سفن وعلى سفائن ، وتحذف التاء فيقال سفينة وسفين وهو مما بينه وبين مفردة تاء التأنيث وهو كثير في المخلوق نادر في المصنوع ، نحو عمامة وعمام . وقال الشاعر : متى تأته تأت لج بحر

تقاذف في غوار به السفين

الأمر البشع من الأمور كالداهية والأد ونحوه . الجدار معروف ويجمع على جدر وجدران . انقض سقط ، ومن أبيات معاياة الأعراب . مرّ كما انقضّ على كوكب

عفريت جن في الدجى الأجدل

عاب الرجل ذكر وصفاً فيه يذم به ، وعاب السفينة أحدث فيها ما تنقص به .

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِىَ حُقُباً فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِى الْبَحْرِ سَرَباً فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ ءاتِنَا غَدَاءنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَاذَا نَصَباً قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنّى نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِى الْبَحْرِ}

{مُوسَى } المذكور في هذه الآية هو موسى بن عمران عليه السلام ، ولم يذكر اللّه في كتابه موسى غيره ، ومن ذهب إلى أنه غيره وهو موسى بن ميشا بن يوسف ، أو موسى بن افراثيم بن يوسف فقول لا يصح ، بل الثابت في الحديث الصحيح وفي التواريخ أنه موسى بن عمر ان نبيّ إسرائيل ، والمرسل هو وأخوه هارون إلى فرعون ، وفتاه هو يوشع بن نون بن إفراثيم بن يوسف بن يعقوب عليهم الصلاة والسلام ، والفتى الشاب ولما كان الخدم أكثر ما يكونون فتياناً قيل للخادم فتى على جهة حسن الأدب ، وندبت الشريعة إلى ذلك . ففي الحديث : { لا يقل أحدكم عبدي ولا أمتي وليقل فتاي وفتاتي} .{ لفتاة } لأنه كان يخدمه ويتبعه .

وقيل : كان يأخذ منه العلم .

ويقال : إن يوشع كان ابن أخت موسى عليه السلام وسبب هذه القصة أن موسى عليه السلام جلس يوماً في مجلس لبني إسرائيل وخطب فأبلغ ، فقيل له هل تعلم أحداً أعلم منك ؟ قال : لا ، فأوحى اللّه إليه أن يسير بطول سيف البحر حتى يبلغ { أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ } أسير أي لا أزال .

قال ابن عطية : وإنما قال هذه المقالة وهو سائر . ومن هذا قول الفرزدق : فما برحوا حتى تهادت نساؤهم

ببطحاء ذي قار عباب اللطائم

انتهى . وهذا الذي ذكره فيه حذف خبر { لا أَبْرَحُ } وهي من أخوات كان ، ونص أصحابنا على أن حذف خبر كان وأخواتها لا يجوز وإن دل على حذفه إلاّ ما جاء في الشعر من قوله : لهفي عليك للّهفة من خائف

يبغي جوارك حين ليس مجير

أي حين ليس في الدنيا .

وقال الزمخشري : فإ ن قلت :{ لا أَبْرَحُ } إن كان بمعنى لا أزول من برح المكان فقد دل على الإقامة على السفر ، وإن كان بمعنى لا أزال فلا بد من الخبر

قلت : هو بمعنى لا أزال وقد حذف الخبر لأن الحال

والكلام معاً يدلان عليه ، أما الحال فلأنها كانت حال سفر ،

وأما الكلام فلأن قوله { حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ } غاية مضروبة تستدعي ما هي غاية له ، فلا بد أن يكون المعنى لا يبرح مسيري { حَتَّى أَبْلُغَ } على أن { حَتَّى أَبْلُغَ } هو الخبر ، فاما حذف المضاف أقيم المضاف إليه مقامه وهو ضمير المتكلم ، فانقلب الفعل عن ضمير الغائب إلى لفظ المتكلم وهو وجه لطيف انتهى . وهما وجهان خلطهما الزمخشري : أما

الأول : فجعل الفعل مسنداً إلى المتكلم وهو وجه وتقديراً وجعل الخبر محذوفاً كما قدره ابن عطية و { حَتَّى أَبْلُغَ } فضلة متعلقة بالخبر المحذوف وغاية له . والوجه الثاني جعل { لا أَبْرَحُ } مسنداً من حيث اللفظ إلى المتكلم ، ومن حيث المعنى إلى ذلك المقدر المحذوف وجعله { لا أَبْرَحُ } هو { حَتَّى أَبْلُغَ } فهو عمدة إذ أصله خبر للمبتدأ لأنه خبر { أَبْرَحَ}

وقال الزمخشري . أيضاً : ويجوز أن يكون المعنى { لا أَبْرَحُ } ما أنا عليه بمعنى ألزم المسير والطلب ولا أتركه ولا أفارقه { حَتَّى أَبْلُغَ } كما تقول لا أبرح المكان انتهى . يعني إن برح يكون بمعنى فارق فيتعدى إذ ذاك إلى مفعول ويحتاج هذا إلى صحة نقل ، وذكر الطبري عن ابن عباس قال : لما ظهر موسى وقومه على مصر أنزل قومه بمصر ، فلما استقرت الحال خطب يوماً فذكر بآلاء اللّه وأيامه عند بني إسرائيل ، ثم ذكر ما هو عليه من أنه لا يعلم أحداً أعلم منه .

قال ابن عطية : وما يرى قط أن موسى عليه السلام أنزل قومه بمصر إلاّ في هذا الكلام ، وما أراه يصح بل المتظاهر أن موسى مات بفحص التيه قبل فتح ديار الجبارين ، وهذا المروي عن ابن عباس ذكره الزمخشري فقال : روي أنه لما ظهر موسى على مصر مع بني إسرائيل واستقروا بعد هلاك القبط أمره اللّه أن يذكر قومه النعمة فقام فيهم خطيباً فذكر نعمة اللّه ، وقال : إن اللّه اصطفى نبيكم وكلمه فقالوا له : قد علمنا هذا فأي الناس أعلم ؟ قال : أنا فعتب اللّه عليه حين لم يرد العلم إلى اللّه فأوحى اللّه إليه بل أعلم منك عبد لي عند مجمع البحرين وهو الخضر ، كان الخضر في أيام أفريدون قبل موسى وكان على مقدمة ذي القرنين الأكبر وبقي إلى أيام موسى ، وذكر أيضاً في أسئلة موسى أنه قال : إن كان في عبادك من هو أعلم مني فادللني عليه ، قال : أعلم منك الخضر انتهى . وهذا مخالف لما ثبت في الصحيح من أنه قيل له هل أحد أعلم منك ؟ قال : لا .

و { مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ } قال مجاهد وقتادة : هو مجتمع بحر فارس وبحر الروم .

قال ابن عطية : وهو ذراع يخرج من البحر المحيط من شمال إلى جنوب في أرض فارس من وراء أذربيجان ، فالركن الذي لاجتماع البحرين مما يلي بر الشام هو مجتمع البحرين على هذا القول . وقالت فرقة منهم محمد بن كعب القرظي : هو عند طنجة حيث يجتمع البحر المحيط والبحر الخارج منه من دبور إلى صبا . وعن أبيّ بإفريقية .

وقيل : هو بحر الأندلس والقرية التي أبت أن تضيفهما هي الجزيرة الخضراء .

وقيل :{ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ } بحر ملح وبحر عذب فيكون الخضر على هذا عند موقع نهر عظيم في البحر . وقالت فرقة : البحران كناية عن موسى والخضر لأنهما بحر اعلم . وهذا شبيه بتفسير الباطنية وغلاة الصوفية ، والأحاديث تدل على أنهما بحراً بماء .

وقال الزمخشري : من بدع التفاسير أن البحرين موسى والخضر لأنهما كانا بحرين في العلم انتهى .

وقيل : بحر القلزم .

وقيل : بحر الأزرق .

وقرأ الضحاك وعبد اللّه بن مسلم بن يسار { مَجْمَعَ } بكسر الميم الثانية والنضر عن ابن مسلم في كلا الحرفين وهو شاذ ، وقياسه من يفعل فتح الميم كقراءة الجمهور . والظاهر أن { مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ } هو اسم مكان جمع البحرين .

وقيل : مصدر .

قال ابن عباس : الحقب الدهر . وقال عبد اللّه بن عمرو وأبو هريرة : ثمانون سنة . وقال الحسن : سبعون .

وقيل : سنة بلغة قريش ذكره الفراء .

وقيل : وقت غير محدود قاله أبو عبيدة . والظاهر أن قوله {أَوْ أَمْضِىَ } معطوف على { أَبْلُغُ } فغيا بأحد الأمرين إما ببلوغه المجمع

وإما بمضيه { حُقُباً}

وقيل : هي تغيية لقوله { لا أَبْرَحُ } كقولك لا أفارقك أو تقضيني حقي ، فالمعنى { لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ } إلى أن أمضي زماناً أتيقن معه فوات مجمع البحرين .

وقرأ الضحاك { حُقُباً } بإسكان القاف والجمهور بضمها .

٦١

فلما بلغا مجمع . . . . .

{فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا } ثم جملة محذوفة التقدير فسار { فَلَمَّا بَلَغَا } أي موسى وفتاه { مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا } أي بين البحرين { نَسِيَا حُوتَهُمَا } وكان من أمر الحوت وقصته أن موسى عليه السلام حين أوحي إليه إن لي عبداً بمجمع البحرين هو أعلم منك . قال موسى : يا رب فيكف لي به ؟ قال : تأخذ معك حوتاً فتجعله في مكتل ، فحيثما فقدت الحوت فهو ثم ، فأخذ حوتاً فجعله في مكتل ثم انطلق وانطلق معه فتاه يوشع بن نون حتى أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما فنام موسى واضطرب الحوت في المكتمل فخرج منه فسقط { فِى الْبَحْرِ سَرَباً } وأمسك اللّه عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق . قيل : وكان الحوت مالحاً .

وقيل : مشوياً .

وقيل : طرياً .

وقيل : جمع يوشع الحوت والخبز في مكتل فنزلا ليلة على شاطىء عين تسمى عين الحياة ونام موسى ، فلما أصاب السمكة روح الماء وبرده عاشت . وروي أنهما أكلا منها .

وقيل : توضأ يوشع من تلك العين فانتضح الماء على الحوت فعاش ووقع في الماء ، والظاهر نسبة النسيان إلى موسى وفتاه .

وقيل : كان النسيان من أحدهما وهو فتى موسى نسي أن يعلم موسى أمر الحوت إذ كان نائماً ، وقد أحس يوشع بخروجه من المكتل إلى البحر ورآه قد اتخذ السرب فأشفق أن يوقظ موسى . وقال أؤخر إلى أن يستيقظ ثم نسي أن يعلمه حتى ارتحلا و { جَاوَزَا } وقد يسند الشيء إلى الجماعة وإن كان الذي فعله واحد منهم .

وقيل : هو على حذف مضاف أي نسي أحدهما .

وقال الزمخشري : أي { نَسِيّاً } تفقد أمره وما يكون منه مما جعل إمارة على الظفر بالطلبة .

وقيل : نسي يوشع أن يقدمه ، ونسي موسى أن يأمر فيه بشيء انتهى . وشبه بالسرب مسلك الحوت في الماء حين لم ينطبق الماء بعده بل بقي كالطاق ، هذا الذي ورد في الحديث . وقال الجمهور : بقي موضع سلوكه فارغاً . وقال قتادة : ماء جامداً

وعن ابن عباس : حجراً صلداً . وقال ابن زيد : إنما اتخذ سبيله سرباً في البر حتى وصل إلى البحر ثم عام على العادة كأنه يعني بقوله { سَرَباً } تصرفاً وجولاناً من قولهم : فحل سارب أي مهمل يرعى حيث شاء . ومنه قوله تعالى { وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ } أي متصرف . وقال قوم : اتخذ { سَرَباً } في التراب من المكتمل ، وصادف في طريقه حجراً فنقبه . والظاهر أن السرب كان في الماء ولا يفسر إلاّ بما ورد في الحديث الصحيح أن الماء صار عليه كالطاق وهو معجزة لموسى عليه السلام أو الخضر إن قلنا أنه نبي وإلاّ تكن كرامة .

وقيل : عاد موضع سلوك الحوت حجراً طريقاً وأن موسى مشى عليه متبعاً للحوت حتى أفضى به ذلك إلى جزيرة في البحر وفيها وجد الخضر

٦٢

فلما جاوزا قال . . . . .

{فَلَمَّا جَاوَزَا } أي مجمع البحرين .

وقال الزمخشري : الموعد وهو الضخرة . قيل : سارا بعد مجاوزة الصخرة الليلة والغد إلى الظهر وألقى على موسى النصب والجوع حين جاوزا لموعد ولم ينصب ولا جاع قبل ذلك فتذكر الحوت وطلبه . وقوله { مِن سَفَرِنَا } هذا إشارة إلى مسيرهما وراء الصخرة .

وقرأ الجمهور { نَصَباً } بفتحتين وعبد اللّه بن عبيد بن عمير بضمتين . قال صاحب اللوامح وهي إحدى اللغات الأربع التي فيها .

وقال الزمخشري :

فإن قلت : كيف نسي يوشع ذلك ومثله لا ينسى لكونه إمارة لهما على الطلبة التي تناهضاً من أجلها ولكونه معجزتين بينتين وهما حياة السمكة المملوحة المأكول منها

وقيل : ما كانت إلاّ شق سمكة وقيام الماء وانتصابه مثل الطاق ونفوذها في مثل السرب ، ثم كيف استمر به النيسان حتى خلفا الموعد وسارا مسيرة ليلة إلى ظهر الغد ، وحتى طلب موسى عليه السلام الحوت

قلت : قد شغله الشيطان بوساوسه فذهب بفكره كل مذهب حتى اعتراه النسيان ، وانضم إلى

ذلك أنه ضري بمشاهدة أمثاله عند موسى من العجائب ، واستأنس بأخواته فأعان الإلف على قلة الإهتمام انتهى . قال أبو بكر غالب بن عطية والداني عبد الحق المفسر : سمعت أبا الفضل الجوهري يقول في وعظة : مشى موسى إلى المناجاة فبقي أربعين يوماً لم يحتج إلى طعام ، ولما مشى إلى بشر لحقه الجوع في بعض يوم .

٦٣

قال أرأيت إذ . . . . .

وقال الزمخشري : { أَرَأَيْتَ } بمعنى أخبرني

فإن قلت : فما وجه التئام هذا الكلام فإن كل واحد من { أَرَأَيْتَ } و { إِذْ أَوَيْنَا } و { فَإِنّى نَسِيتُ الْحُوتَ } لا متعلق له ؟

قلت : لما طلب موسى الحوت ذكر يوشع ما رأى منه وما اعتراه من نسيانه إلى تلك الغاية فدهش فطفق يسأل موسى عن سبب ذلك ، كأنه قال :{ أَرَأَيْتَ } ما دهاني { إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنّى نَسِيتُ الْحُوتَ } فحذف ذلك انتهى . وكون أرأيتك بمعنى أخبرني ذكره سيبويه : وقد أمعّنا الكلام في ذلك في سورة الأنعام وفي شرحنا لكتاب التسهيل .

وأما ما يختص بأرأيت في هذا الموضع فقال أبو الحسن الأخفش : إن العرب أخرجتها عن معناها بالكلية فقالوا : أرأيتك وأريتك بحذف الهمزة إذا كانت بمعنى أخبرني ، وإذا كانت بمعنى أبصرت لم تحذف همزتها قال : وشذت أيضاً فألزمتها الخطاب على هذا المعنى ، ولا تقول فيها أبداً أراني زيد عمراً ما صنع ، وتقول هذا على معنى أعلم . وشذت أيضاً فأخرجتها عن موضعها بالكلية بدليل دخول الفاء ألا ترى قوله { أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنّى نَسِيتُ الْحُوتَ } فما دخلت الفاء إلاّ وقد أخرجت لمعنى إما أو تنبه ، والمعنى أما { إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ } فالأمر كذا ، وقد أخرجتها أيضاً إلى معنى أخبرني كما قدمنا ، وإذا كانت بمعنى أخبرني فلا بد بعدها من الاسم المستخبر عنه وتلزم الجملة التي بعدها الاستفهام ، وقد يخرج لمعنى أما ويكون أبداً بعدها الشرط وظرف الزمان فقوله { فَإِنّى نَسِيتُ الْحُوتَ } معناه أما معناه أما { إِذْ أَوَيْنَا }{ فَإِنّى نَسِيتُ الْحُوتَ } أو تنبه { إِذْ أَوَيْنَا } وليست الفاء إلاّ جواباً لأرأيت ، لأن إذ لا يصح أن يجازي بها إلاّ مقرونة بما بلا خلاف انتهى كلام الأخفش . وفيه إن { أَرَأَيْتَ } إذا كانت بمعنى أخبرني فلا بد بعدها من الاسم المستخبر عنه ، وتلزم الجملة التي بعدها الاستفهام وهذان مفقود إن في تقدير الزمخشري { أَرَأَيْتَ } هنا بمعنى أخبرني ، ومعنى { نَسِيتُ الْحُوتَ } نسيت ذكر ما جرى فيه لك .

وفي قوله { وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ } حسن أدب سبب النسيان إلى المتسبب فيه بوسوسته و { أَنْ أَذْكُرَهُ } بدل اشتمال من الضمير العائد على الحوت ، والظاهر أن الضمير في { وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِى الْبَحْرِ عَجَبًا } عائد على الحوت كما عاد في قوله { وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِى الْبَحْرِ سَرَباً } وهو من كلام يوشع .

وقيل : الضمير عائد على موسى أي اتخذ موسى . ومعنى { عَجَبًا } أي تعجب من ذلك أو اتخاذاً{ عَجَبًا } وهو أن أثره بقي إلى حيث سار . وقدره الزمخشري { سَبِيلِهِ }{ عَجَبًا } وهو كونه شبيه السرب قال : أو قال { عَجَبًا } في آخر كلام تعجباً من حاله في رؤية تلك العجيبة ونسيانه لها ، أو مما رأى من المعجزتين وقوله :{ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ } اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه .

وقيل : إن { عَجَبًا } حكاية لتعجب موسى وليس بذلك انتهى .

و

قال ابن عطية :{ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِى الْبَحْرِ عَجَبًا } يحتمل أن يكون من قول يوشع لموسى أي اتخذ الحوت سبيلاً عجباً للناس ، ويحتمل أن يكون قوله { وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِى الْبَحْرِ } تمام الخبر ثم استأنف التعجب فقال من قبل نفسه { عَجَبًا } لهذا الأمر ، وموضع العجب أن يكون حوت قد مات وأكل شقه ثم حيي بعد ذلك .

قال أبو شجاع في كتاب الطبري رأيته أتيت به فإذا هو شق حوت وعين واحدة وشق آخر ليس فيه شيّ .

قال ابن عطية : وأنا رأيته والشق الذي فيه شيّ عليه قشرة رقيقة ليست تحتها شوكة ، ويحتمل أن يكون { وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ } الآية إخباراً من اللّه تعالى وذلك على وجهين : إما أن يخبر عن موسى أنه اتخذ سبيل الحوت من البحر { عَجَبًا } أي تعجب منه ،

وإما أن يخبر عن الحوت أنه اتخذ سبيله { عَجَبًا } للناس انتهى .

وقرأ حفص :{ وَمَا أَنْسَانِيهُ } بضم الهاء وفي الفتح عليه اللّه وذلك

في الوصل وأمال الكسائي فتحة السين ، وفي مصحف عبد اللّه وقراءته { أَنْ أَذْكُرَهُ }{ إِلاَّ الشَّيْطَانُ}

وقرأ أبو حيوة : واتخاذ سبيله عطف على المصدر على ضمير المفعول في { أَذْكُرَهُ } والإشارة بقوله ذلك إلى أمر الحوت وفقده واتخاذه سبيلاً في البحر لأنه إمارة الظفر بالطلبة من لقاء ذلك العبد الصالح

٦٤

قال ذلك ما . . . . .

و { مَا } موصولة والعائد محذوف أي نبغيه . وقرىء نبغ ياء في الوصل وإثباتها أحسن وهي قراءة أبي عمرو والكسائي ونافع ،

وأما الوقف فالأكثر فيه طرح الياء اتباعاً لرسم المصحف ، وأثبتها في الحالين ابن كثير .

{فَارْتَدَّا } رجعاً على أدراجهما من حيث جاءا .{ قَصَصًا } أي يقصان الأثر { قَصَصًا } فانتصب على المصدرية بإضمار يقصان ، أو يكون في موضع الحال أي مقتصين فينصب بقوله { فَارْتَدَّا}

٦٥

فوجدا عبدا من . . . . .

{فَوَجَدَا } أي موسى والفتى { عَبْدًا مّنْ عِبَادِنَا } هذه إضافة تشريف واختصاص ، وجداه عند الصخرة التي فقد الحوت عندها وهو مسجى في ثوبه مستلقياً على الأرض فقال : السلام عليك فرفع رأسه ، وقال : أني بأرضك السلام ثم قال له ، من أنت ؟ قال : أنا موسى ، قال : موسى بني إسرائيل ؟ قال : نعم ، قال له : ألم يكن لك في بني إسرائيل ما يشغلك عن السفر إلى هنا ؟ قال : بلى ، ولكن أحببت لقاءك وأن أتعلم منك ، قال له : إني على علم من علم اللّه علمنيه لا تعلمه أنت ، وأنت على علم من علم اللّه علمكه اللّه لا أعلمه أنا . والجمهور على أنه الخضر وخالف من لا يعتد بخلافه فزعم أنه عالم آخر .

وقيل : اليسع .

وقيل : الياس .

وقيل : خضرون ابن قابيل بن آدم عليه السلام . قيل : واسم الخضر بليا بن ملكان ، والجمهور على أن الخضر نبي وكان علمه معرفة بواطن قد أوحيت إليه ، وعلم موسى الأحكام والفتيا بالظاهر . وروي أنه وجد قاعداً على ثبج البحر . وفي الحديث سمي خضراً لأنه جلس على فروة بالية فاهتزت تحته خضراء .

وقيل : كان إذا صلى اخضّر ما حوله .

وقيل : جلس على فروة بيضاء وهي الأرض المرتفعة .

وقيل : الصلبة واهتزت تحته خضراء .

وقيل : كانت أمه رومية وأبوه فارسي .

وقيل : كان ابن ملك من الملوك أراد أبوه أن يستخلفه من بعده فلم يقبل منه ولحق بجزائر البحر فطلبه أبوه فلم يقدر عليه . والجمهور على أنه مات .

وقال شرف الدين أبو عبد اللّه محمد بن أبي الفضل المرسي : أما خضر موسى بن عمران فليس بحي لأنه لو كان حياً للزمه المجيء إلى النبيّ صلى اللّه عليه وسلم والإيمان به واتبّاعه . وقد روي عنه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : { لو كان موسى وعيسى حيين لم يسعهما إلاّ اتباعي} . انتهى هكذا ورد لحديث ومذهب المسلمين أن عيسى حي وأنه ينزل من السماء ، ولعل الحديث : { لو كان موسى حياً لم يسعه إلاّ اتباعي} .

والرحمة التي آتاه اللّه إياها هي الوحي والنبوة .

وقيل : الرزق .{ وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا } أي من عندنا أي مما يختص بنا من العلم وهو الإخبار عن الغيوب .

وقرأ أبو زيد عن أبي عمرو { مّن لَّدُنَّا } بتخفيف النون وهي لغة في لدن وهي الأصل .

قيل : وقد أولع كثير ممن ينتمي إلى الصلاح بادعاء هذا العلم ويسمونه العلم اللدني ، وأنه يلقي في روع الصالح منهم شيء من ذلك حتى يخبر بأن من كان من أصحابه هو من أهل الجنة على سبيل القطع ، وأن بعضهم يرى الخضر . وكان قاضي القضاة أبو الفتح محمد بن عليّ بن مطيع القشيري المعروف بابن دقيق العيد يخبر عن شيخ له أنه رأى الخضر وحدثه ، فقيل له : من أعلمه أنه الخضر ؟ ومن أين عرف ذلك ؟ فسكت . وبعضهم يزعم أن الخضرية رتبة يتولاها بعض الصالحين على قدم الخضر ، وسمعنا الحديث عن شيخ يقال له عبد الواحد العباسي الحنبلي وكان أصحابه الحنابلة يعتقدون فيه أنه يجتمع بالخضر .

٦٦

قال له موسى . . . . .

{قَالَ لَهُ مُوسَى } في الكلام محذوف تقديره فلما التقيا وتراجعا الكلام وهو الذي ورد في الحديث الصحيح { قَالَ لَهُ مُوسَى اتَّبَعَكَ } وفي هذا دليل على التواضع للعالم ، وفي هذه القصة دليل على الحث على الرحلة في طلب العلم وعلى حسن التلطف والاستنزال والأدب في طلب العلم . بقوله { هَلْ أَتَّبِعُكَ } وفيه المسافرة مع العالم لاقتباس فوائده ، والمعنى هل يخف عليك ويتفق لك وانتصب { رَشَدًا } على أنه مفعول ثان لقوله { تعلمني } أو على أنه مصدر في موضع الحال ، وذو الحال الضمير في { نَرَاكَ اتَّبَعَكَ}

وقال الزمخشري : { عِلْمًا } ذا رشد أرشد به في ديني ، قال :

فإن قلت : أما دلت حاجته إلى التعلم من آخر في عهده أنه كما قيل موسى بن ميشا لا موسى بن عمران لأن النبيّ يجب أن يكون أعلم أهل زمانه وإمامهم المرجوع إليه في أبواب الدين ؟

قلت : لا غضاضة بالنبيّ في أخذ العلم من نبيّ قبله ، وإنما يغض منه أن يأخذ ممن دونه .

وعن سعيد بن جبير أنه قال لابن عباس : إن نوفاً ابن امرأة كعب يزعم أن الخضر ليس بصاحب موسى ، وأن موسى هو موسى بن ميشا فقال : كذب عدو اللّه انتهى .

وقرأ الحسن والزهري وأبو بحرية وابن محيصن وابن مناذر ويعقوب وأبو عبيد واليزيدي { رَشَدًا } بفتحتين وهي قراءة أبي عمرو من السبعة .

وقرأ باقي السبعة بضم الراء وإسكان الشين ،

٦٧

قال إنك لن . . . . .

ونفي الخضر استطاعة الصبر معه على سبيل التأكيد كأنها مما لا يصح ولا يستقيم ، وعلل ذلك بأنه يتولى أموراً هي في ظاهرها ينكرها الرجل الصالح فكيف النبيّ فلا يتمالك أن يشمئز لذلك ، ويبادر بالإنكار

٦٨

وكيف تصبر على . . . . .

{وَكَيْفَ تَصْبِرُ } أي إن صبرك على ما لا خبرة لك به مستبعد ، وفيه إبداء عذر له حيث لا يمكنه الصبر لما يرى من منافاة ما هو عليه من شريعته . وانتصب { خُبْراً } على التمييز أي مما لم يحط به خبرك فهو منقول من الفاعل أو على أنه مصدر على غير الصدر لأن معنى { بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ } لم تخبره .

وقرأ الحسن وابن هرمز { خُبْراً } بضم الباء .

٦٩

قال ستجدني إن . . . . .

{قَالَ سَتَجِدُنِى إِن شَاء اللّه صَابِرًا } وعده بوجدانه { صَابِراً } وقرن ذلك بمشيئة اللّه علماً منه بشدة الأمر وصعوبته ، إذ لا يصبر إلاّ على ما ينافي ما هو عليه إذ رآه { وَلاَ أَعْصِى } يحتمل أن يكون معطوفاً على { صَابِراً } أي { صَابِراً } وغير عاص فيكون في موضع نصب عطف الفعل على الاسم إذا كان في معناه كقوله { صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ } أي وقابضات ، ويجوز أن يكون معطوفاً على { سَتَجِدُنِى } فلا محل له من الإعراب ولا يكون مقيداً بالمشيئة لفظاً .

وقال القشيري : وعد موسى من نفسه بشيئين : بالصبر وقرنه بالاستثناء بالمشيئة فصبر حين وجد على يدي الخضر فيما كان منه من الفعل ، وبأن لا يعصيه فأطلق ولم يقرنه بالاستثناء فعصاه حيث قال له { فَلاَ تَسْأَلْنى } فكان يسأله فما قرن بالاستثناء لم يخالف فيه وما أطلقه وقع فيه الخف انتهى . وهذا منه على تقدير أن يكون { وَلاَ أَعْصِى } معطوفاً اً على { سَتَجِدُنِى } فلم يندرج تحت المشيئة .

٧٠

قال فإن اتبعتني . . . . .

{قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِى } أي إذا رأيت مني شيئاً خفي عليك وجه صحته فأنكرت في نفسك فلا تفاتحني بالسؤال حتى أكون أنا الفاتح عليك ، وهذا من أدب المتعلم مع العالم المتبوع . وقرأنا نافع وابن عامر { فَلاَ تَسْأَلْنى } وعن أبي جعفر بفتح السين واللام من غير همز مشددة النون وباقي السبعة بالهمز وسكون اللام وتخفيف النون . قال أبو علي . كلهم بياء في الحالين انتهى . وعن ابن عامر في حذف الياء خلاف غريب .

٧١

فانطلقا حتى إذا . . . . .

{فَانطَلَقَا } أي موسى والخضر وكان معهم يوشع ولم يضمر لأنه في حكم التبع .

وقيل : كان موسى قد صرفه وردّه إلى بني إسرائيل . والألف واللام في { السَّفِينَةِ } لتعريف الجنس إذ لم يتقدم عهد في سفينة مخصوصة . وروي في كيفية ركوبهما السفينة وخرقها وسدها أقوال ، والمعتمد ما رواه البخاري ومسلم في صحيحهما قالا : { فانطلقا يمشيان على ساحل البحر فمرت سفينة فلكموهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر فحملوه بغير نول ، فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلاّ والخضر قد قلع لوحاً من ألواح السفينة بالقدوم ، فقال له موسى : قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها { لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا } إلى قوله  {عُسْراً }}

قال : وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { وكان الأول من موسى نسياناً قال : وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر فقال له الخضر : ما علمي وعلمك من علم اللّه إلاّ مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر} .

واللام في { لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا} قيل : لام العاقبة .

وقيل : لام العلة .

وقرأ زيد بن عليّ والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى وحمزة والكسائي وخلف وأبو عبيد وابن سعدان وابن عيسى الأصبهاني ليغرق بفتح الياء والراء وسكون الغين { أَهْلِهَا } بالرفع .

وقرأ باقي السبعة بضم تاء الخطاب وإسكان الغين وكسر الراء ونصب لام { أَهْلِهَا}

وقرأ الحسن وأبو رجاء كذلك إلاّ أنهما فتحا الغين وشدد الراء .

٧٢

قال ألم أقل . . . . .

ثم ذكره الخضر بما سبق له من نفي استطاعته الصبر لما يرى

٧٣

قال لا تؤاخذني . . . . .

فقال { لاَ تُؤَاخِذْنِى بِمَا نَسِيتُ } والظاهر حمل النسيان على وضعه . وقد قال عليه السلام : { كانت الأولى من موسى نسياناً } والمعنى أنه نسي العهد الذي كان بينهما من عدم سؤاله حتى يكون هو المخبر له أولاً وهذا قول الجمهور . وعن أبيّ ابن كعب أنه ما نسي ولكن قوله هذا من معاريض الكلام .

قال الزمخشري : أراد أنه نسي وصيته ولا مؤاخذة على الناسي ، أو أخرج الكلام في معرض النهي عن المؤاخذة بالنسيان توهمه أنه نسي ليبسط عذره في الإنكار وهو من معاريض الكلام التي ينفي بها الكذب مع التوصل إلى الغرض كقول إبراهيم عليه السلام . هذه أختي وإني سقيم : أو أراد بالنسيان الترك أي { لاَ تُؤَاخِذْنِى } بما تركت من وصيتك أول مرة انتهى .

وقد بيَّن ابن عطية كلام أبيّ بكلام طويل يوقف عليه في كتابه ، ولا يعتمد إلاّ قول الرسول : { كانت الأولى من موسى نسياناً} .

{وَلاَ تُرْهِقْنِى } لا تغشني وتكلفني { مِنْ أَمْرِى } وهو اتباعك { عُسْراً } أي شيئاً صعباً ، بل سهِّل عليّ في متابعتك بترك المناقشة .

وقرأ أبو جعفر { عُسْراً } بضم السين حيث وقع

٧٤

فانطلقا حتى إذا . . . . .

فانطلقا في الكلام حذف تقديره فخرجا من السفينة ولم يقع غرق بأهلها ، فانطلقا فبينما هما يمشيان على الساحل إذا بصر الخضر { غُلَاماً } يلعب مع الصبيان وفي بعض الروايات فمر بغلمان يلعبون فعمد الخضر إلى غلام حسن الهيئة وضيء الوجه فاقتلع رأسه .

وقيل : رضه بحجر .

وقيل : ذبحه .

وقيل : فتل عنقه .

وقيل : ضرب برأسه الحائط . قيل : وكان هذا الغلام لم يبلغ الحلم ولهذا قال :{ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً}

وقيل : كان الغلام بالغاً شاباً ، والعرب تبقى على الشاب اسم الغلام . ومنه قول ليلى الأخيلية في الحجاج : شفاها من الداء الذي قد أصابها

غلام إذا هز القناة سقاها

وقال آخر : تلق ذباب السيف عني فإنني

غلام إذا هو جيت لست بشاعر

وقيل : أصله من الاغتلام وهو شدّة الشبق ، وذلك إنما يكون في الشباب الذين قد بلغوا الحلم ويتناول الصبي الصغير تجوّزاً تسمية للشيء باسم ما يؤول إليه . { واختلف في اسم هذا الغلام واسم أبيه واسم أمه} ولم يرد شيء من ذلك في الحديث . وفي الخبر أن هذا الغلام كان يفسد ويقسم لأبويه أنه ما فعل فيقسمان على قسمه ويحميانه ممن يطلبه .

وحكي القرطبي عن صاحب العرس والعرائس أن موسى عليه السلام لما قال للخضر { أَقَتَلْتَ نَفْسًا } غضب الخضر واقتلع كتف الصبي الأيسر وقشر اللحم عنه ، وإذا في عظم كتفه مكتوب كافر لا يؤمن باللّه أبداً .

وقال الزمخشري :

فإن قلت : لم قيل { السَّفِينَةِ خَرَقَهَا } بغير فاء و { فَقَتَلَهُ } بالفاء ؟

قلت : جعل خرقها جزاء للشرط ، وجعل قتله من جملة الشرط معطوفاً عليه والجزاء قال { أَقَتَلْتَ } :

فإن قلت : فلم خولف بينهما ؟

قلت : لأن خرق السفينة لم يتعقب الركوب وقد تعقب القتل لقاء الغلام انتهى .

ومعنى { زَكِيَّةً } طاهرة من الذنوب ، ووصفها بهذا الوصف لأنه لم يرها أذنبت ، قيل أو لأنها صغيره لم تبلغ الحنث . وقوله { بِغَيْرِ نَفْسٍ } يرده ويدل على كبر الغلام وإلاّ فلو كان لم يحتلم لم يجب قتله بنفس ولا بغير نفس .

وقرأ ابن عباس والأعرج وأبو جعفر وشيبة وابن محيصن وحميد والزهري ونافع واليزيدي وابن مسلم وزيد وابن بكير عن يعقوب والتمار عن رويس عنه وأبو عبيد وابن جبير الأنطاكي وابن كثير وأبو عمرو زاكية بالألف .

وقرأ زيد بن عليّ والحسن والجحدري وابن عامر والكوفيون { زَكِيَّةً } بغير ألف وبتشديد الياء وهي أبلغ من زاكية لأن فعيلا المحول من فاعل يدل على المبالغة .

وقرأ الجمهور { نُّكْراً } بإسكان الكاف .

وقرأ نافع وأبو بكر وابن ذكوان وأبو جعفر وشيبة وطلحة ويعقوب وأبو حاتم برفع الكاف حيث كان منصوباً . والنكر قيل : أقل من الأمر لأن قتل نفس واحدة أهون من إعراق أهل السفينة .

وقيل : معناه شيئاً أنكر من الأول ، لأن الخرق يمكن سده والقتل لا سبيل إلى تدارك الحياة معه . وفي قوله { لَكَ } زجر وإغلاظ ليس في الأول لأن موقعه التساؤل بأنه بعد التقدم إلى ترك السؤال واستعذار موسى بالنسيان أفظع وأفظع في المخالفة لما كان أخذ على نفسه من الصبر وانتفاء العصيان .

٧٦

قال إن سألتك . . . . .

{قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَىْء بَعْدَهَا } أي بعد هذه القصة أو بعد هذه المسألة { فَلاَ تُصَاحِبْنِى } أي فأوقع الفراق بيني وبينك .

وقرأ الجمهور { فَلاَ تُصَاحِبْنِى } من باب المفاعلة .

وقرأ عيسى ويعقوب فلا تصحبني مضارع صحب وعيسى أيضاً بضم التاء وكسر الحاء مضارع أصحب ، ورواها سهل عن أبي عمرو أي فلا تصحبني علمك وقدره بعضهم فلا تصحبني إياك وبعضهم نفسك .

وقرأ الأعرج بفتح التاء والباء وشد النون . ومعنى { قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنّى عُذْراً } أي قد اعتذرت إليّ وبلغت إلى العذر .

وقرأ الجمهور { مِن لَّدُنّى } بإدغام نون لدن في نون الوقاية التي اتصلت بياء المتكلم .

وقرأ نافع وعاصم بتخفيف النون وهي نون لدن اتصلت بياء المتكلم وهو القياس ، لأن أصل الاسماء إذا أضيفت إلى ياء المتكلم لم تلحق نون الوقاية نحو غلامي وفرسي ، وأشم شعبة الضم في الدال ، وروي عن عاصم سكون الدال . قال ابن مجاهد : وهو غلط وكأنه يعني من جهة الرواية ،

وأما من حيث اللغة فليست بغلط لأن من لغاتها لد بفتح اللام وسكون الدال .

وقرأ عيسى { عُذْراً } بضم الذال ورويت عن أبي عمرو وعن أبي عذري بكسر الراء مضافاً إلى ياء المتكلم . وفي البخاري قال : { يرحم اللّه موسى لوددنا أنه صبر حتى يقص علينا من أمرهما } وأسند الطبري قال : كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا دعا لأحد بدأ بنفسه فقال :  { رحمة اللّه علينا وعلى موسى لو صبر على صاحبه لرأي العجب } ولكنه قال { فَلاَ تُصَاحِبْنِى قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنّى عُذْراً}

٧٧

فانطلقا حتى إذا . . . . .

والقرية التي أتيا أهلها إنطاكية أو الأبله أو بجزيرة الأندلس وهي الجزيرة الخضراء ، أو برقة أو أبو حوران بنا حية أذربيجان ، أو ناصرة من أرض الروم أو قرية بأرمينية أقوال مضطربة بحسب اختلافهم في أي ناحية من الأرض كانت قصة واللّه أعلم بحقيقة ذلك . وفي الحديث أنهما كانا يمشيان على مجالس أولئك القوم يستطعمانهم وهذه عبرة مصرحة بهوان الدنيا على اللّه تعالى . وتكرر لفظ { أَهْلُ } على سبيل التوكيد ، وقد يظهر له فائدة عن التوكيد وهو أنهما حين { أَتَيَا أَهْلَ القَرْيَةِ } لم يأتيا جميع أهل القرية إنما أتيا بضعهم ، فلما قال { اسْتَطْعَمَا } احتمل أنهما لم يستطعما إلاّ ذلك البعض الذي أتياه

فجيء بلفظ أهلها ليعم جميعهم وأنهم يتبعونهم واحداً واحداً بالاستطعام ، ولو كان التركيب استطعماهم لكان عائداً على البعض المأتي .

وقرأ الجمهور { يُضَيّفُوهُمَا } بالتشديد من ضيف .

وقرأ ابن الزبير والحسن وأبو رجاء وأبو رزين وابن محيصن وعاصم في رواية المفضل وأبان بكسر الضاد وإسكان الياء من أضاف ، كما تقول ميّل وأمال ، وإسناد الإرادة إلى الجدار من المجاز البليغ والاستعارة البارعة وكثيراً ما يوجد في كلام العرب إسناد أشياء تكون من أفعال العقلاء إلى ما لا يعقل من الحيوان وإلى الجماد ، أو الحيوان الذي لا يعقل مكان العاقل لكان صادراً منه ذلك الفعل . وقد أكثر الزمخشري وغيره من إيراد الشواهد على ذلك ومن له أدنى مطالعة لكلام العرب لا يحتاج إلى شاهد في ذلك .

قال الزمخشري : ولقد بلغني أن بعض المحرفين لكلام اللّه ممن لا يعلم كان يجعل الضمير للخضر لأن ما كان فيه من آفة الجهل وسقم الفهم أراه أعلى الكلام طبقة أدناه منزلة ، فتمحل ليرده إلى ما هو عنده أصح وأفصح ، وعنده أن ما كان أبعد من المجاز أدخل في الإعجاز انتهى . وما ذكره أهل أصول الفقه عن أبي بكر محمد بن داود الأصبهاني من أنه ينكر المجاز في القرآن لعله لا يصح عنه ، وكيف يكون ذلك وهو أحد الأدباء الشعراء الفحول المجيدين في النظم والنثر .

وقرأ الجمهور { يَنقَضَّ } أي يسقط من انقضاض الطائر ، ووزنه انفعل نحو انجر . قال صاحب اللوامح : من القضة وهي الحصى الصغار ، ومنه طعام قضض إذا كان فيه حصى ، فعلى هذا { يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ } أي يتفتت فيصير حصاة انتهى .

وقيل : وزنه أفعّل من النقض كأحمرِّ .

وقرأ أبي { يَنقَضَّ } بضم الياء وفتح القاف والضاد مبنياً للمفعول من نقضته وهي مروية عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم. وفي حرف عبد اللّه وقراءة الأعمش يريد لينقض كذلك إلاّ أنه منصوب بأن المقدرة بعد اللام .

وقرأ علي وعكرمة وأبو شيخ خيوان بن خلالد الهنائي وخليد بن سعد ويحيى بن يعمر ينقاص بالصاد غير معجمة مع الألف ، ووزنه ينفعل اللازم من قاص يقيص إذا كسرته تقول : قصيته فانقاص . قال ابن خالويه : وتقول العرب انقاصت السنّ إذا انشقت طولاً . قال ذو الرمة : منقاص ومنكثب .

وقيل : إذا تصدعت كيف كان . ومنه قول أبي ذؤيب : فراق كقص السن فالصبر إنه

لكل أناس عشرة وحبور

وقرأ الزهري : ينقاض بألف وضاد معجمة وهي من قولهم : قضته معجمة فانقاض أي هدمته فانهدم . قال أبو عليّ : والمشهور عن الزهري بصاد غير معجمة .

{فَأَقَامَهُ } الظاهر أنه لم يهدمه وبناه كما ذهب إليه بعضهم من أنه هدمه وقعد يبنيه . ووقع هذا في مصحف عبد اللّه وأيد بقوله { لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً } لأن بناءه بعد هدمه يستحق عليه أجراً . وقال ابن جبير : مسحه بيده وأقامه فقام .

وقيل : أقامه بعمود عمده به . وقال مقاتل : سواه بالشيد أي لبسه به وهو الجيار .

وعن ابن عباس : دفعه بيده فاستقام وهذا أليق بحال الأنبياء .

قال الزمخشري : كانت الحال حال اضطرار وافتقار إلى المطعم وقد لزتهما الحاجة إلى آخر كسب المرء وهو المسألة فلم يجدا مواسياً ، فلما أقام الجدار لم يتمالك

موسى لما رأى من الحرمان ومساس الحاجة أن { قَالَ لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً } وطلبت على عملك جعلاً حتى تنتعش به وتستدفع الضرورة انتهى .

قال ابن عطية : وقوله { لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً } وإن لم يكن سؤالاً ففي ضمنه الإنكار لفعله ، والقول بتصويب أخذ الأجر وفي ذلك تخطئة ترك الأجر انتهى .

وقرأ عبد اللّه والحسن وقتادة وابن بحرية ولتخذت بتاء مفتوحة وخاء مكسورة ، يقال تخذ واتخذ نحو تبع واتبع ، افتعل من تخذ وأدغم التاء في التاء . قال الشاعر : وقد تخذت رجلي إلى جنب غرزها

نسيفاً كأفحوص القطاة المطرق والتاء أصل عند البصريين وليس من الأخذ ، وزعم بعضهم أن الاتخاذ افتعال من الأخذ وأنهم ظنوا التاء أصلية فقالوا في الثلاثي تخذ كما قالوا تقي من اتقى . والظاهر أن هذا إشارة إلى قوله { لَوْ شِئْتَ } أي هذا الإعراض سبب الفراق { بَيْنِى وَبَيْنَكَ } على حسب ما سبق من ميعاده . أنه قال { إِن سَأَلْتُكَ } وهذه الجملة وإن لم تكن سؤالاً فإنها تتضمنه ، إذ المعنى ألم تكن تتخذ عليه أجراً لاحتياجنا إليه .

وقال الزمخشري : قد تصور فراق بينهما عند حلول ميعاده على ما قال موسى عليه السلام { إِن سَأَلْتُكَ عَن شَىْء بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِى } فأشار إليه وجعله مبتدأ وأخبر عنه كما تقول : هذا أخوك فلا يكون هذا إشارة إلى غير الأخ انتهى . وفيما قاله نظر .

٧٨

قال هذا فراق . . . . .

وقرأ ابن أبي عبلة { فِرَاقُ بَيْنِى } بالتنوين والجمهور على الإضافة . والبين

قال ابن عطية : الصلاح الذي يكون بين المصطحبين ونحوهما ، وذلك مستعار فيه من الظرفية ومستعمل استعمال الأسماء ، وتكريره { بَيْنِى وَبَيْنَكَ } وعدوله عن بيننا لمعنى التأكيد .{ سَأُنَبّئُكَ } أي سأخبرك { بِتَأْوِيلِ } ما رأيت من خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار ، أي بما آل إليه الأمر فيما كان ظاهره أن لا يكون .

وقرأ ابن وثاب سأنبيك بإخلاص الياء من غير همز .

وعن ابن عباس : كان قول موسى في السفينة وفي الغلام للّه ، وكان قوله في الجدار لنفسه لطلب شيء من الدنيا فكان سبب الفراق . وقال أرباب المعاني : هذه الأمثلة التي وقعت لموسى مع الخضر حجة على موسى وإعجاله ، وذلك أنه لما أنكر خرق السفينة نودي : يا موسي أين كان تدبيرك هذا وأنت في التابوت مطروحاً في اليم ؟ فلما أنكر قتل الغلام قيل له : أين إنكار هذا من وكز القبطي وقضائك عليه ؟ فلما أنكر إقامة الجدار نودي أين هذا من رفعك الحجر لبنات شعيب دون أجرة ؟{ سَأُنَبّئُكَ } في معاني هذا معك ولا أفارقك حتى أوضح لك ما استبهم عليك .

{أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِى الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَآ أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَواةً وَأَقْرَبَ رُحْماً وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِى الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِى ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً }

{أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِى الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مّنْهُ زَكَواةً وَأَقْرَبَ رُحْماً وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِى الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا}

٧٩

أما السفينة فكانت . . . . .

روي أن موسى عليه السلام لما عزم الخضر على مفارقته أخذ بثيابه ، وقال : لا أفارقك حتى تخبرني بمَ أباح لك فعل ما فعلت ، فلما التمس ذلك منه أخذ في البيان والتفصيل ، فقال : { أَمَّا السَّفِينَةُ } فبدأ بقصة ما وقع له أولاً . قيل : كانت لعشرة إخوة ، خمسة زمني وخمسة يعملون في البحر .

وقيل : كانوا أجراء فنسبت إليهم للاختصاص .

وقرأ الجمهور : مساكين بتخفيف السين جمع مسكين .

وقرأ عليّ كرم اللّه وجهه بتشديد السين جمع مساك جمع تصحيح . فقيل : المعنى ملاحين ، والمساك الذي يمسك رجل السفينة وكل منهم يصلح لذلك .

وقيل : المساكون دبغة المسوك وهي الجلود واحدها مسك ، والقراءة الأولى تدل على أن السفينة كانت لقوم ضعفاء ينبغي أن يشفق عليهم ، واحتج بهذه الآية على أن المسكين هو الذي له بلغة من العيش كالسفينة لهؤلاء ، وأنه أصلح حالاً من الفقير . وقوله { فَأَرَدتُّ } فيه إسناد إرادة العيب إليه .

وفي قوله : فأراد ربك أن يبلغا لما في ذكر العيب ما فيه فلم يسنده إلى اللّه ، ولما في ذلك من فعل الخير أسنده إلى اللّه تعالى .

قال الزمخشري :

فإن قلت : قوله { فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا } مسبب عن خوف الغصب عليها فكان حقه أن يتأخر عن السبب فلم قدم عليه ؟

قلت : النية به التأخير ، وإنما قدم للعناية ولأن خوف الغصب ليس هو السبب وحده ، ولكن مع كونها { المساكين } فكان بمنزلة قولك : زيد ظني مقيم .

وقيل في قراءة أبيّ وعبد اللّه كل سفينة صالحة انتهى . ومعنى { فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا } بخرقها .

وقرأ الجمهور { وَرَاءهُم } وهو لفظ يطلق على الخلف وعلى الأمام ، ومعناه هنا أمامهم . وكذا قرأ ابن عباس وابن جبير . وكون { وَرَاءهُم } بمعنى أمامهم قول قتادة وأبي عبيد وابن السكيت والزجاج ، ولا خلاف عند أهل اللغة أن وراء يجوز بمعنى قدام ، وجاء في التزيل والشعر قال تعالى { مِّن وَرَائِهِ جَهَنَّمُ } وقال { وَمِن وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ } وقال { وَمِن وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ} وقال لبيد : أليس ورائي إن تراخت منيتي

لزوم العصا يحني عليها الأصابع

وقال سوار بن المضرب السعدي أيرجو بنو مروان سمعي وطاعتي

وقومي تميم والفلاة ورائيا

وقال آخر أليس ورائي أن أدب على العصا

فتأمن أعداء وتسأمني أهلي و

قال ابن عطية : وقوله { وَرَاءهُم } عندي هو على بابه ، وذلك أن هذه الالفاظ إنما تجيء يراعى بها الزمن ، والذي يأتي بعد هو الوراء وهو ما خلف ، وذلك بخلاف ما يظهر بادي الرأي ، وتأمل هذه الألفاظ في مواضعها حيث وردت

تجدها تطرد ، فهذه الآية معناها أن هؤلاء وعملهم وسعيهم يأتي بعده في الزمن غصب هذا الملك ، ومن قرأ أمامهم أراد في المكان أي أنهم كانوا يسيرون إلى بلده وقوله تعالى في التوراة والإنجيل . إنها بين يدي القرآن ، مطرد على ما قلناه في الزمن . وقوله { مّن وَرَائِهِمْ } مطرد كما قلنا من مراعاة الزمن . وقول النبيّ صلى اللّه عليه وسلم : { الصلاة أمامك } يريد في المكان ، وإلاّ فكونهم في ذلك الوقت كان أمام الصلاة في الزمن . وتأمل هذه المقالة فإنها مريحة من شغب الألفاظ ووقع لقتادة في كتب الطبري { أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ} قال قتادة : أمامهم ألا ترى أنه يقول { مّن وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ } وهي من بين أيديهم ، وهذا القول غير مستقيم وهذه هي العجة التي كان الحسن بن أبي الحسن يضج منها قاله الزجاج . ويجوز أن كان رجوعهم في طريقهم على الغاصب فكان وراءهم حقيقة انتهى . وهو كلام فيه تكثير وكأنه ينظر إلى ما قاله الفراء . قال الفراء : لا يجوز أن يقال للرجل بين يديك هو وراءك ، إنما يجوز ذلك في المواقيت من الليالي والأيام والدهر تقول : وراءك برد شديد ، وبين يديك برد شديد جاز الوجهان لأن البرد إذا لحقك صار من ورائك ، وكأنك إذا بلغته صار بين يديك . قال : إنما جاز هذا في اللغة لأن ما بين يديك وما قدامك إذا توارى عنك فقد صار وراءك .

وقال أبو علي : إنما جاز استعمال وراء بمعنى أمام على الاتساع لأنها جهة مقابلة لجهة فكانت كل واحدة من الجهتين وراء الأخرى إذا لم يرد معنى المواجهة ، ويجوز ذلك في الأجرام التي لا وجه لها مثل حجرين متقابلين كل واحد منهما وراء الآخر ، وأكثر أهل اللغة على أن وراء من الأضداد انتهى .

قيل : واسم هذا الملك هدد بن بدد وكان كافراً .

وقيل : الجلندي ملك غسان ،

٨٠

وأما الغلام فكان . . . . .

وقوله { فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ } في هذا حذف وهو أن المعنى وكان كافراً وكذا وجد في مصحف أبيّ .

وقرأ ابن عباس :{وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ } كافراً وكان { أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ } ونص في الحديث على أنه كان كافراً مطبوعاً على الكفر ، ويراد بأبويه أبوه وأمه ثني تغليباً من باب القمرين في القمر والشمس ، وهي تثنية لا تنقاس .

وقرأ أبو سعيد الخدري والجحدري : فكان أبواه مؤمنان ، فخرجه الزمخشري وابن عطية وأبو الفضل الرازي على أن في كان ضمير الشأن ، والجملة في موضع خبر لكان ، وأجاز أبو الفضل الرازي على أن في كل ضمير الشأن والجملة في موضع خبر لكان ، وأجاز أبو الفضل الرازي أن يكون مؤمنان على لغة بني الحارث ابن كعب ، فيكون منصوباً ، وأجاز أيضاً أن يكون في كان ضمير الغلام والجملة خبر كان .

{فَخَشِينَا } أي خفنا أن يغشى الوالدين المؤمنين { طُغْيَانًا } عليهما { وَكُفْراً } لنعمتهما بعقوقه وسوء صنيعه ، ويلحق بهما شراً وبلاء ، أو يقرن بإيمانهما طغيانه وكفرة ، فيجتمع في بيت واحد مؤمنان ، وطاغ كافر أو يعديهما بدائه ويضلهما بضلاله فيرتدا بسببه ويطغيا ويكفرا بعد الإيمان . وإنما خشى الخضر منه ذلك لأن اللّه عز وعلا أعلمه بحاله وأطلعه على سرائر أمره وأمره بقتله كاخترامه لمفسدة عرفها في حياته . وفي قراءة أبيّ فخاف ربك ، والمعنى فكره ربك كراهة من خاف سوء عاقبة الأمر فغيره . ويجوز أن يكون قوله { فَخَشِينَا } حكاية لقول اللّه عز وجل بمعنى فكرهنا كقوله { لاِهَبَ لَكِ } قاله الزمخشري . وفي قوله كاخترامه لمفسدة عرفها في حياته مذهب المعتزلة في قولهم بالأجلين ، والظاهر إسناد فعل الخشية في خشينا إلى ضمير الخضر وأصحابه الصالحين الذين أهمهم الأمر

وتكلموا .

وقيل : هو في جهة اللّه وعنه عبر الخضر وهو الذي قال فيه الزمخشري ، ويجوز أن يكون إلى آخر كلامه . قال الطبري : ومعناه وقال : معناه فكر هنا .

قال ابن عطية : والأظهر عندي في توجيه هذا التأويل وإن كان اللفظ يدافعه أنها استعارة أي على ظن المخلوقين ، والمخاطب لو علموا حاله لوقعت منهم خشية الرهق للوالدين .

وقرأ ابن مسعود فخاف ربك ، وهذا بين الاستعارة في القرآن في جهة اللّه تعالى من لعل وعسى فإن جميع ما في هذا كله من ترج وتوقع وخوف وخشية إنما هو بحسبكم أيها المخاطبون . و { يُرْهِقَهُمَا } معناه يجشمهما ويكلفهما بشدة ، والمعنى أن يلقيهما حبه في اتبّاعه .

٨١

فأردنا أن يبدلهما . . . . .

وقرأ نافع وأبو عمرو وأبو جعفر وشيبة وحميد والأعمش وابن جرير { أَن يُبْدِلَهُمَا } بالتشديد هنا وفي التحريم والقلم .

وقرأ باقي السبعة والحسن وابن محيصن بالتخفيف ، والزكاة هنا الطهارة والنقاء من الذنوب وما ينطوي عليه من شرف الخلق والسكينة ، والرحم والرحمة العطف مصدران كالكثر والكثرة ، وافعل هنا ليست للتفضيل لأن ذلك الغلام لا زكاة فيه ولا رحمة . والظاهر أن قوله { وَأَقْرَبَ رُحْماً } أي رحمة والديه وقال ابن جريج : يرحمانه . وقال رؤبة بن العجاج : يا منزل الرحم على إدريسا

ومنزل اللعن على إبليسا

وقرأ ابن عامر وأبو جعفر في رواية ويعقوب وأبو حاتم { رُحْماً } بضم الحاء .

وقرأ ابن عباس { رُحْماً } بفتح الراء وكسر الحاء .

وقيل الرحم من الرحم والقرابة أيأو صل للرحم . قيل : ولدت غلاماً مسلماً .

وقيل : جارية تزوجها نبي فولدت نبياً هدى اللّه على يديه أمة من الأمم .

وقيل : ولدت سبعين نبياً . رُوي ذلك عن ابن عباس .

قال ابن عطية : وهذا بعيد ولا تعرف كثرة الأنبياء إلاّ في بني إسرائيل ، ولم تكن هذه المرأة منهم انتهى .

٨٢

وأما الجدار فكان . . . . .

ووصف الغلامين باليتم يدل على أنهما كانا صغيرين . وفي الحديث :  { لا يتم بعد بلوغ } أي كانا { يَتِيمَيْنِ } على معنى الشفقة عليهما . قيل : واسمهما أصرم وصريم ، واسم أبيهما كاشح واسم أمهما دهنا ، والظاهر في الكنز أنه مال مدفون جسيم ذهب وفضة قاله عكرمة وقتادة .

وقال ابن عباس وابن جبير : كان علماً في مصحف مدفونة .

وقيل : لوح من ذهب فيه كلمات حكمة وذكر ، وقد ذكرها المفسرون في كتبهم ولا نطول بذكرها ، والظاهر أن أباهما هو الأقرب إليهما الذي ولدهما دنية .

وقيل : السابع .

وقيل : العاشر وحفظ هذان الغلامان بصلاح أبيهما . وفي الحديث : { إن اللّه يحفظ الرجل الصالح في ذريته} . وانتصب { رَحْمَةً } على المفعول له وأجاز الزمخشري أن ينصب على المصدر بأراد قال : لأنه في معنى رحمهما ، وأجاز أبو البقاء أن ينتصب على الحال وكلاهما متكلف .

{وَمَا فَعَلْتُهُ } أي وما فعلت ما رأيت من خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار عن اجتهاد مني ورأي ، وإنما فعلته بأمر اللّه وهذا يدل على أنه نبيّ أوحي إليه . و { تَسْطِع } مضارع اسطاع بهمزة الوصل . قال ابن الكسيت : يقال ما استطيع وما اسطيع وما استتيع واستتيع أربع لغات ، وأصل اسطاع استطاع على وزن استفعل ، فالمحذوف في اسطاع تاء الافتعال لوجود الطاء التي هي أصل ولا حاجة تدعو إلى أن المحذوف هي الطاء التي هي فاء الفعل ، ثم أبدلوا من تاء الافتعال طاءً ،

وأما استتيع ففيه أنهم أبدلوا من الطاء تاء ، وينبغي في تستيع أن يكون المحذوف تاء الافتعال كما في تسطيع .

وفي كتاب التحرير والتحبير ما نصه : تعلق بعض الجهال بما جرى لموسى مع الخضر عليهما السلام على أن الخضر أفضل من موسى وطردوا الحكم ، وقالوا : قد يكون بعض الأولياء أفضل من آحاد الأنبياء ، واستدلوا أيضاً بقول أبي يزيد خضت بحراً وقف الأنبياء على ساحله وهذا كله من ثمرات الرعونة والظنة بالنفس انتهى . وهكذا سمعنا من يحكي هذه المقالة عن بعض الضالين المضلين وهو ابن العربي الطائي الحاتمي صاحب الفتوح المكية ، فكان ينبغي أن يسمي بالقبوح الهلكية وأنه كان يزعم أن الولّي خير من النبيّ قال : لأن الولي يأخذ عن اللّه بغير واسطة ، والنبيّ يأخذ بواسطة عن اللّه ، ولأن الولي قاعد في الحضرة الألهية والنبيّ مرسل إلى قوم ، ومن كان في الحضرة أفضل ممن يرسله صاحب الحضرة إلى أشياء من هذه الكفريات والزندقة ، وقد كثر معظِّمو هذا الرجل في هذا الزمان من غلاة الزنادقة القائلة بالوحدة نسأل اللّه السلام في أدياننا وأبداننا .

٨٣

ويسألونك عن ذي . . . . .

السد الحاجز والحائل بين الشيئين ، ويقال بالضم وبالفتح . الردم : السد .

وقيل : الردم أكبر من السد لأن الردم ما جعل بعضه على بعض ، يقال : ثوب مردّم إذا كان قد رقع رقعة فوق رقعة .

وقيل : سد الخلل ، قال عنترة .

هل غادر الشعراء من متردم

أي خلل في المعاني فيسد ردماً . الزبرة : القطعة وأصله الاجتماع ، ومنه زبرة الأسد لما اجتمع على كاهله من الشعر ، وزبرت الكتاب جمعت حروفه . الصدفان جانبا الجبل إذا تحاذيا لتقاربهما أو لتلاقيهما قاله الأزهري ،

ويقال : صدف بضمهما وبفتحهما وبضم الصاد وسكون الدال وعكسه . قال بعض اللغويين : وفتحهما لغة تميم وضمهما لغة حمير . وقال أبو عبيدة : الصدف كل بناء عظيم مرتفع . القطر النحاس المذاب في قول الأكثرين .

وقيل : الحديد المذاب .

وقيل : الرصاص المذاب . النقب مصدر نقب أي حفر وقطع . الغطاء معروف وجمعه أغطية ، وهو من غطى إذا ستر . الفردوس قال الفراء : البستان الذي فيه الكرم . وقال ثعلب : كل بستان يحوّط عليه فهو فردوس .

{وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِى الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مّنْهُ ذِكْراً إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِى الاْرْضِ وَاتَيْنَاهُ مِن كُلّ شَىْء سَبَباً فَأَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِى عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَجَدَ عِندَهَا قَوْماً قُلْنَا ياذَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبّهِ فَيُعَذّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً وَأَمَّا مَنْ امَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاء الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مّن دُونِهَا سِتْراً كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً}

الضمير في { وَيَسْئَلُونَكَ } عائد على قريش أو على اليهود ، والمشهور أن السائلين قريش حين دستها اليهود على سؤاله عن الروح ، والرجل الطواف ، وفتية ذهبوا في الدهر ليقع امتحانه بذلك . وذو القرنين هو الإسكندر اليوناني ذكره ابن إسحاق . وقال وهب : هو رومي وهل هو نبيّ أو عبد صالح ليس بنبي قولان .

وقيل : كان ملكاً من الملائكة وهذا غريب . قيل : ملك الدنيا مؤمنان سليمان وذو القرنين ، وكافران نمروذ وبخت نصر ، وكان بعد نمروذ . وعن عليّ كان عبداً صالحاً ليس بملك ولا نبيّ ضرب على قرنه الأيمن فمات في طاعة اللّه ثم بعثه اللّه فضرب على قرنه الأيسر فمات ، فبعثه اللّه فسمي ذا القرنين .

وقيل : طاف قرني الدنيا يعني جانبيها شرقها وغربها .

وقيل : كان له قرنان أي ضفيرتان .

وقيل : انقرض في وقته قرنان من الناس . وعن وهب لأنه ملك الروم وفارس وروي الروم والترك وعنه كانت صفيحتا رأسه من نحاس .

وقيل : كان لتاجه قرنان .

وقيل : كان على رأسه ما يشبه القرنين .

قال الزمخشري : ويجوز أن يسمى بذلك لشجاعته كما يسمى الشجاع كبشاً كأنه ينطح أقرانه ، وكان من الروم ولد عجوز ليس لها ولد غيره انتهى .

وقيل غير ذلك في تسميته ذا القرنين والمشهور أنه الإسكندر . وقال أبو الريحان البيروتي المنجم صاحب كتاب الآثار الباقية عن القرون

الخالية : هو أبو بكر بن سمي بن عمير بن إفريقس الحميري ، بلغ ملكه مشارق الأرض ومغاربها وهو الذي افتخر به أحد الشعراء من حمير حيث قال : قد كان ذو القرنين قبلي مسلما

ملكاً علا في الأرض غير مبعد

بلغ المشارف والمغارب يبتغي

أسباب ملك من كريم سيد قال أبو الريحان : ويشبه أن يكون هذا القول أقرب لأن الأذواء كانوا من اليمن وهم الذين لا تخلوا أسماؤهم من ذي كذي المنار ، وذي يواس انتهى . والشعر الذي أنشده نسب أيضاً إلى تبع الحميري وهو .

قد كان ذو القرنين جدي مسلماً

وعن عليّ وابن عباس أن اسمه عبد اللّه بن الضحاك . وعن محمد بن عليّ بن الحسين عياش . وعن أبي خيثمة هو الصعب بن جابر بن القلمس .

وقيل : مرزبان بن مرزبة اليوناني من ولد يونان بن يافث . وعن عليّ هو من القرن الأول من ولد يافث بن نوح . وعن الحسن : كان بعد ثمود وكان عمره ألف سنة وستمائة . وعن وهب : كان في الفترة بين عيسى ومحمد صلى اللّه عليهما وسلم .

والخطاب في { عَلَيْكُمْ } للسائلين إما اليهود

وأما قريش على الخلاف الذي سبق في السائلين . وقوله { ذِكْراً } يحتمل أن يريد قرآناً وأن يريد حديثاً وخيراً ،

٨٤

إنا مكنا له . . . . .

والتمكين الذي له { فِى الاْرْضِ } كونه ملك الدنيا ودانت له الملوك كلها . قال بعض المفسرين : والدليل على أنه الإسكندر أن القرآن دل على أن الرجل المسمى بذي القرنين بلغ ملكه إلى أقصى المغرب وإلى أقصى المشرق وإلى أقصى الشمال ، بدليل أن يأجوج ومأجوج قوم من الترك يسكنون في أقصى الشمال ، وهذا الذي بلغه ملك هذا الرجل هو نهاية المعمور من الأرض ، ومثل هذا الملك البسيط لا شك أنه على خلاف العادات وما كان كذلك وجب أن يبقى ذكره مخلداً على وجه الدهر ، وأن لا يكون مختفياً ، والملك الذي اسمه في كتب التواريخ أنه بلغ ملكه إلى هذا الحد ليس إلاّ الإسكندر وذلك أنه لما مات أبوه جمع ملك الروم أبوه جمع ملك الروم بعد أن كان مع طوائف ثم قصد ملوك العرب وقهرهم وأمعن حتى انتهى إلى البحر الأخضر ، ثم عاد إلى مصر وبنى الإسكندرية وسماها باسم نفسه ، ثم دخل الشام وقصد بني إسرائيل وورد بيت المقدس وذبح في مذبحه ثم عطف إلى أرمينية ودان له العراقيون والقبط والبربر ، ثم نحو دار ابن داراً وهزمه مرات إلى أن قتله صاحب حربه ، واستولى الإسكندر على ممالك الفرس وقصد الهند والصين وغزا الأمم البعيدة ورجع إلى خراسان وبنى المدن الكثيرة ورجع إلى العراق ومرض بشهر زور ومات بها .

وورد في الحديث : { إن الذين ملكوا الأرض أربعة مؤمنان : سليمان بن داود ، وذو القرنين} . وقد تقدم ذكر ذلك وثبت في علم التواريخ أن الذي هذا شأنه ما كان إلاّ الإسكندر فوجب القطع أن المراد بذي القرنين هو الإسكندر بن فيلفوس اليوناني .

وقيل تمكينه في الأرض بالنبوة وإجراء المعجزات .

وقيل : تمكينه بأن سخر له السحاب وحمله عليها وبسط له النور فكان الليل والنهار عليه سواء .

وقيل : بكثرة أعوانه وجنوده والهيبة والوقار وقذف الرعب في أعدائه وتسهيل السير عليه وتعريفه فجاج الأرض واستيلائه على برها وبحرها .

{وَاتَيْنَاهُ مِن كُلّ شَىْء } أي يحتاج إليه في الوصول إلى أغراضه { سَبَباً } أي طريقاً موصلاً إليه ، والسبب ما يتوصل به إني المقصود من علم أو قدرة أو آلة ، فأراد بلوغ المغرب

٨٥

انظر تسفير الآية:٨٦

٨٦

فأتبع سببا

{فَأَتْبَعَ سَبَباً } يوصله إليه حتى بلغ ، وكذلك أراد المشرق { فَأَتْبَعَ سَبَباً } وأراد بلوغ السدين { فَأَتْبَعَ سَبَباً } وأصل السبب الحبل ، ثم توسع فيه حتي صار يطلق على ما يتوصل به إلى المقصود . وقال الحسن : بلاغاً إلى حيث أراد .

وقرأ زيد بن علي والزهري والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى والكوفيون وابن عامر { فَأَتْبَعَ } ثلاثتها بالتخفيف .

وقرأ باقي السبعة بالتشديد والظاهر أنهما بمعنى واحد . وعن يونس بن حبيب وأبي زيد أنه بقطع الهمزة عبارة عن المجد المسرع الحثيث الطلب ، وبوصلها إنما يتضمن الاقتفاء دون هذه الصفات .

وقرأ عبد اللّه وطلحة بن عبيد اللّه وعمرو بن العاصي وابن عمر وعبد اللّه بن عمرو ومعاوية والحسن وزيد بن عليّ وابن عامر وحمزة والكسائي حامية بالياء أي حارة .

وقرأ ابن عباس وباقي السبعة وشيبة وحميد وابن أبي ليلى ويعقوب وأبو حاتم وابن جبير الأنطاكي { حَمِئَةٍ } بهمزة مفتوحة والزهري يلينها ، يقال حمئت البئر تحمأ حمأً فهي حمئة ، وحمأتها نزعت حمأتها وأحمأتها أبقيت فيها الحمأة ، ولا تنافي بين الحامية والحمئة إذ تكون العين جامعة للوصفين . وقال أبو حاتم : وقد تمكن أن تكون حامية مهموزة بمعنى ذات حمأة فتكون القراءتان بمعنى واحد يعني إنه سهلت الهمزة بإبدالها ياء لكسرة ما قبلها ، وفي التوراة تغرب في ماء وطين . وقال تبع : فرأى مغيب الشمس عند مآبها

في عين ذي خلب وثاط حرمد أي في عين ماء ذي طين وحم أسود . وفي حديث أبي ذر أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نظر إلى الشمس عند غروبها فقال : { أتدري أين تغرب يا أبا ذر ؟ } فقلت : لا . فقال :  { إنها تغرب في عين حامية} . وهذا الحديث وظاهر النص دليل على أن قوله { فِى عَيْنٍ } متعلق بقوله { تَغْرُبُ } لا ما قاله بعض المتعسفين أن قوله في { عَيْنٍ حَمِئَةٍ } إنما المراد أن ذا القرنين كان فيها أي هي آخر الأرض ، ومعنى { تَغْرُبُ فِى عَيْنٍ } أي فيما ترى العين لا أن ذلك حقيقة كما نشاهدها في الأرض الملساء كأنها تدخل في الأرض ، ويجوز أن تكون هذه العين من البحر ، ويجوز أن تكون الشمس تغيب وراءها ، وزعم بعض البغداديين أن { فِى } بمعنى عند أي { تَغْرُبُ } عند عين .

{وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً } أي عند تلك العين . قال ابن السائب : مؤمنين وكافرين . وقال غيره : كفرة لباسهم جلود السباع وطعامهم ما أحرقته الشمس من الدواب ، وما لفظته العين من الحوت إذا غربت . وقال وهب : انطلق يؤم المغرب إلى أن انتهى إلى باسك فوجد جمعاً لا يحصيهم إلاّ اللّه ، فضرب حولهم ثلاثة عساكر حتى جمعهم في مكان واحد ، ثم دخل عليهم في النور ودعاهم إلى عبادة اللّه ، فمنهم من آمن ومنهم من صدّ عنه . وقال أبو زيد السهيلي : هم أهل حابوس ويقال لها بالسريانية جرجيساً يسكنها قوم من نسل ثمود . بقيتهم الذين آمنوا بصالح عليه السلام .

وظاهر قوله { قُلْنَا } أنه أوحي اللّه إليه على لسان ملك .

وقيل : كلمه كفاحاً من غير رسول كما كلم موسى عليه السلام ، وعلى هذين القولين يكون نبياً ويبعد ما قاله بعض المتأولين أنه إلهام وإلقاء في روعه لأن مثل هذا التخيير لا

يكون إلاّ بوحي إذ التكاليف وإزهاق النفوس لا تتحقق بالإلهام إلاّ بالإعلام . وقال عليّ بن عيسى : المعنى { قُلْنَا } يا محمد قالوا { قُلْنَا ياذَا الْقَرْنَيْنِ } ثم حذف القول الأول لأن ذا القرنين لم يصح أنه نبي فيخاطبه اللّه ، وعلى هذا يكون الضمير الذي في قالوا . المحذوفة يعود على جنده وعسكره الذين كانوا معه .

وقوله { إِمَّا أَن تُعَذّبَ } بالقتل على الكفر {وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً } أي بالحمل على الإيمان والهدى ، إما أن تكفر فتعذب ،

وإما أن تؤمن فتحسن فعبر في التخيير بالمسبب عن السبب . قال الطبري : اتخاذ الحسن هو أسرهم مع كفرهم يعني أنه خير مع كفرهم بين قتلهم وبين أسرهم ، وتفصيل ذي القرنين { أَمَّا مَن ظَلَمَ } و { أَمَّا مَنِ مِن } يدفع هذا القول

٨٧

انظر تسفير الآية:٨٨

٨٨

قال أما من . . . . .

ولما خيره تعالى بين تعذيبهم ودعائهم إلى الإسلام اختار الدعوة والاجتهاد في استمالتهم . فقال : أما من دعوته فأبى إلاّ البقاء على الظلم وهو الكفر هنا بلا خلاف فذلك هو المعذب في الدارين ،

وأما من آمن وعمل ما يقتضيه الإيمان فله جزاء الحسنى . وأتى بحرف التنفيس في { فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ } لما يتخلل بين إظهاره كفره وبين تعذيبه من دعائه إلى الإيمان وتأبيه عنه ، فهو لا يعاجلهم بالقتل على ظلمهم بل يدعوهم ويذكرهم فإن رجعوا وإلاّ فالقتل .

وقوله { ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبّهِ } أي يوم القيامة وأتى بنون العظمة في { نُعَذِّبُهُ } على عادة الملوك في قولهم نحن فعلنا . وقوله { إِلَى رَبّهِ } فيه إشعار بأن التخيير لذي القرنين ليس من اللّه تعالى ، إذ لو كان كذلك لكان التركيب ثم يرد إليك فتعذبه ، ولا يبعد أن يكون التخيير من اللّه ويكون قد أعلم ذو القرنين بذلك أتباعه ثم فصل مخاطباً لاتباعه لا لربه تعالى ، وما أحسن مجيء هذه الجمل لما ذكر ما يستحقه من ظلم بدأ بما هو أقرب لهم ومحسوس عندهم ، وهو قوله { فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ } ثم أخبر بما يلحقه آخراً يوم القيامة وهو تعذيب اللّه إياه العذاب النكر ولأن الترتيب الواقع هو كذا ولما ذكر ما يستحقه { مَنْ ءامَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً } ذكر جزاء اللّه له في الآخرة وهو { الْحُسْنَى } أي الجنة لأن طمع المؤمن في الآخرة ورجاءه هو الذي حمله على أن آمن لأجل جزائه في الآخرة ، وهو عظيم بالنسبة للإحسان في الدنيا ثم أتبع ذلك بإحسانه له في الدنيا بقوله { وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً } أي لا نقول له ما يتكلفه مما هو شاق عليه أي قولاً ذا يسر وسهولة كما قال قولاً ميسوراً . ولما ذكر ما أعد اللّه له من الحسنى جزاء لم يناسب أن يذكر جزاءه بالفعل بل اقتصر على القول أدباً مع اللّه تعالى وإن كان يعلم أنه يحسن إليه فعلاً وقولاً .

وقرأ حمزة والكسائي وحفص وأبو بحرية والأعمش وطلحة وابن مناذر ويعقوب وأبو عبيد وابن سعدان وابن عيسى الأصبهاني وابن جبير الأنطاكي ومحمد بن جرير { فَلَهُ جَزَاء } بالنصب والتنوين وانتصب { جَزَاء } على أنه مصدر في موضع الحال أي مجازي كقولك في الدار قائماً زيد . وقال أبو علي قال أبو الحسن : هذا لا تكاد العرب تكلم به مقدماً إلاّ في الشعر .

وقيل : انتصب على المصدر أي يجزي { جَزَاء} وقال الفراء : ومنصوب على التفسير والمراد بالحسنى على قراءة النصب الجنة .

وقرأ باقي السبعة { جَزَاء الْحُسْنَى } برفع { جَزَاء } مضافاً إلى { الْحُسْنَى} قال أبو عليّ جزاء الخلال الحسنة التي أتاها وعملها أو يراد بالحسنى الحسنة والجنة هي الجزاء ، وأضاف كما قال دار الآخرة و { جَزَاء } مبتدأ وله خبره .

وقرأ عبد اللّه بن إسحاق { فَلَهُ جَزَاء } مرفوع وهو مبتدأ وخبر و { الْحُسْنَى } بدل من { جَزَاء}

وقرأ ابن عباس ومسروق { جَزَاء } نصب بغير تنوين { الْحُسْنَى } بالإضافة ، ويخرج على حذف المبتدإ لدلالة المعنى عليه ، أي { فَلَهُ } الجزاء { جَزَاء الْحُسْنَى } وخرجه المهدوي على حذف التنوين لالتقاء الساكنين .

وقرأ أبو جعفر { يُسْراً } بضم السين حيث وقع .

٨٩

ثم أتبع سببا

{ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً } أي طريقاً إلى مقصده الذي يسر له .

٩٠

حتى إذا بلغ . . . . .

وقرأ الحسن وعيسى وابن محيصن { مَطْلِعَ } بفتح اللام ، ورويت عن ابن كثير وأهل مكة وهو القياس .

وقرأ الجمهور بكسرها وهو سماع في أحرف معدودة ، وقياس كسره أن يكون المضارع تطلع بكسر اللام وكان الكسائي يقول : هذه لغة ماتت في كثير من لغات العرب ، يعني ذهب من يقول من العرب تطلع بكسر اللام وبقي { مَطْلِعَ } بكسرها في اسم المكان والزمان على ذلك القياس ، والقوم هنا الزنج . وقال قتادة هم الهنود وما وراءهم . والستر البنيان أو الثياب أو السجر والجبال أقوال ، والمعنى أنهم لا شيء لهم يسترهم من حر الشمس .

وقيل : تنفذ الشمس سقوفهم وثيابهم فتصل إلى أجسامهم . فقيل : إذا طلعت نزلوا الماء حتى ينكسر حرها قاله الحسن وقتادة وابن جريج .

وقيل : يدخلون أسراباً . وقال مجاهد : السودان عند مطلع الشمس أكثر من جميع أهل الأرض .

قال ابن عطية : والظاهر من اللفظ أنها عبارة بليغة عن قرب الشمس منهم ، وفعلها بقدرة اللّه فيهم ونيلها منهم ، ولو كانت لهم أسراب لكان ستراً كثيفاً انتهى . وقال بعض الرجاز : بالزنج حرّ غير الأجسادا

حتى كسا جلودها سوادا

وذلك إنما هو من قوة حرّ الشمس عندهم واستمرارها . كذلك الإشارة إلى البلوغ أي كما بلغ مغرب الشمس بلغ مطلعها .

وقيل { أَتْبَعَ سَبَباً } كما { أَتْبَعَ سَبَباً}

وقيل : كما وجد أولئك عند مغرب الشمس وحكم فيهم كذلك وجد هؤلاء عند مطلع الشمس وحكم فيهم .

وقيل : كذلك أمرهم كما قصصنا عليكم .

وقيل :{ تَطَّلِعُ } طلوعها مثل غروبها .

وقيل :{ لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مّن دُونِهَا سِتْراً}

٩١

كذلك وقد أحطنا . . . . .

{كَذالِكَ } أي مثل أولئك الذين وجدهم في مغرب الشمس كفرة مثلهم ، وحكمهم مثل حكمهم في التعذيب لمن بقي على الكفر والإحسان لمن آمن .

وقال الزمخشري : { كَذالِكَ } أي أمر ذي القرنين كذلك أي كما وصفناه تعظيماً لأمره .

وقيل { لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مّن دُونِهَا سِتْراً } مثل ذلك الستر الذي جعلنا لكم من الجبال والحصون والأبنية والأكنان من كل جنس ، والثياب من كل صنف . و

قال ابن عطية :{ كَذالِكَ } معناه فعل معهم كفعله مع الأولين أهل المغرب ، وأخبر بقوله { كَذالِكَ } ثم أخبر تعالى عن إحاطته بجميع ما لدى ذي القرنين وما تصرّف فيه من أفعاله ، ويحتمل أن يكون { كَذالِكَ } استئناف قول ولا يكون راجعاً على الطائفة الأولى فتأمله ، والأول أصوب . وإذا كان مستأنفاً لا تعلق له بما قبله فيحتاج إلى تقدير يتم به كلاماً .

٩٢

ثم أتبع سببا

{سَبَباً } أي طريقاً أو مسيراً موصلاً إلى الشمال

٩٣

حتى إذا بلغ . . . . .

فإن { السَّدَّيْنِ } هناك . قال وهب : السدّان جبلان منيفان في السماء من ورائهما ومن أمامهما البلدان ، وهما بمنقطع أرض الترك مما يلي أرمينية وأذربيجان . وذكر الهروي أنهما جبلان من وراء بلاد الترك .

وقيل : هما جبلان من جهة الشمال لينان أملسان ، يزلق عليهما كل شيء ، وسمي الجبلان سدّين لأن كل واحد منهما سد فجاج الأرض وكانت بينهما فجوة كان يدخل منها يأجوج ومأجوج .

وقرأ مجاهد وعكرمة والنخعي وحفص وابن كثير وأبو عمرو { بَيْنَ السَّدَّيْنِ } بفتح السين .

وقرأ باقي السبعة بضمها . قال الكسائي هما لغتان بمعنى واحد . وقال الخليل وسيبويه : بالضم الاسم وبالفتح المصدر . وقال عكرمة وأبو عمرو بن العلاء وأبو عبيدة : ما كان من خلق اللّه لم يشارك فيه أحد فهو بالضم ، وما كان من صنع البشر فبالفتح . وقال ابن أبي إسحاق ما رأت عيناك فبالضم ، وما لا يرى فبالفتح . وانتصب { بَيْنَ } على أنه مفعول به يبلغ كما ارتفع في { لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } وانجر بالإضافة في { هَاذَا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ } و { بَيْنَ } من الظروف المتصرفة ما لم تركب مع أخرى مثلها ، نحو قولهم همزة بين بين .

{مِن دُونِهِمَا } من دون السدين و { قَوْماً } يعني من

البشر .

وقال الزمخشري : هم الترك انتهى . وأبعد من ذهب إلى أنهم جان .

قال الزمخشري : وهذا المكان في منقطع أرض الترك مما يلي المشرق ، ونفي مقارنة فقههم { قَوْلاً } وتضمن نفي فقههم .

وقال الزمخشري : لا يكادون يفهمونه إلاّ بجهد ومشقة كأنه فهم من نفي يكاد أنه يقع منهم الفهم بعد عسر ، وهو قول لبعضهم إن نفيها إثبات وإثباتها نفي ، وليس بالمختار .

وقرأ الأعمش وابن أبي ليلى وخلف وابن عيسى الأصبهاني وحمزة والكسائي { يَفْقَهُونَ } بضم الياء وكسر القاف أي يفهمون السامع كلامهم ، ولا يبينونه لأن لغتهم غريبة مجهولة .

٩٤

قالوا يا ذا . . . . .

والضمير في { قَالُواْ } عائد على هؤلاء القوم شكوا ما يلقون من يأجوج ومأجوج إذ رجوا عنده ما ينفعهم لكونه ملك الأرض ودوخ الملوك وبلغ إليهم وهم لم يبلغ أرضهم ملك قبله ، و { يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ } من ولد آدم قبيلتان .

وقيل : هما من ولد يافث بن نوح .

وقيل :{ يَأْجُوجَ } من الترك { وَمَأْجُوجَ } من الجيل والديلم . وقال السدي والضحاك : الترك شرذمة منهم خرجت تغير ، فجاء ذو القرنين فضرب السد فبقيت في هذا الجانب . وقال قتادة والسدي : بني السد على إحدى وعشرين قبيلة ، وبقيت منهم قبيلة واحدة دون السد فهم الترك وقد اختلف في عددهم وصفاتهم ولم يصح في ذلك شيء وهما ممنوعاً الصرف ، فمن زعم أنهما أعجميان فللعجمة والعلمية ، ومن زعم أنهما عربيان فللتأنيث والعلمية لأنهما اسما قبيلتين .

وقال الأخفش : إن جعلنا ألفهما أصلية فيأجوج يفعول ومأجوج مفعول ، كأنه من أجيج النار ومن لم يهمزهما جعلها زائدة فيأجوج منم يججت ، ومأجوج من مججت . وقال قطرب في غير الهمز مأجوج فاعول من المج ، ويأجوج فاعول من يج . وقال أبو الحسن عليّ بن عبد الصمد السخاوي أحد شيوخنا : الظاهر أنه عربي وأصله الهمز ، وترك الهمز على التخفيف وهو إما من الأجّة وهو الاختلاف كما قال تعالى { وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِى بَعْضٍ } أو من الأج وهو سرعة العدو ، قال تعالى { وَهُمْ مّن كُلّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ } وقال الشاعر : يؤج كما أج الظليم المنفر أو من الأجة وهو شدة الحرّ ، أو من أجّ الماء يئج أجوجاً إذا كان ملحاً مراً انتهى .

وقرأ عاصم والأعمش ويعقوب في رواية بالهمزة وفي { يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ } وكذا في الأنبياء وفي لغة بني أسد ذكره الفراء . قيل : ولا وجه له إلاّ اللغة الغربية المحكية عن العجاج أنه كان يهمز العألم والخأتم .

وقرأ باقي السبعة بألف غير مهموزة وهي لغة كل العرب غير بني أسد .

وقرأ العجاج ورؤبة ابنه : آجوج بهمزة بدل الياء . وإفسادهم الظاهر تحقق الإفساد منهم لا توقعه لأنها شكت من ضررنا لها . وقال سعيد بن عبد العزيز : إفسادهم أكل بني آدم .

وقيل : هو الظلم والقتل ووجوه الإفساد المعلوم من البشر .

وقيل : كانوا يخرجون أيام الربيع فلا يتركون شيئاً أخضر إلاّ أكلوه ، ولا يابساً إلاّ احتملوه ، وروي أنه لا يموت أحد منهم حتى ينظر إلى ألف ذكر من صلبه كلٌّ قد حمل السلاح .

{فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً } استدعاء منهم قبول ما يبذلونه مما يعينه على ما طلبوا على جهة حسب الأدب إذ سألوه ذلك كقول موسى للخضر { هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن}

وقرأ الحسن والأعمش وطلحة وخلف وابن سعدان وابن عيسى الأصبهاني وابن جبير الأنطاكي ومن السبعة حمزة والكسائي خراجاً بألف هنا ، وفي حرفي قد أفلح وسكن ابن عامر الراء فيها .

وقرأ باقي السبعة { لَكَ خَرْجاً } فيهما بسكون

الراء فخراج بالألف والخرج والخراج بمعنى واحد كالنول والنوال ، والمعنى جعلا تخرجه من أموالنا ، وكل ما يستخرج من ضريبة وجزية وغلة فهو خراج وخرج .

وقيل : الخرج المصدر أطلق على الخراج ، والخراج الاسم لما يخرج . وقال ابن الأعرابي : الخرج على الرؤوس يقال : أدّ خرج رأسك ، والخراج على الأرض . وقال ثعلب : الخرج أخص والخراج أعم .

وقيل : الخرج المال يخرج مرة والخراج المجبي المتكرر عرضوا عليه أن يجمعوا له أموالاً يقيم بها أمر السد .

وقال ابن عباس { خراجاً } أجراً .

وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر { وَبَيْنَهُمْ سَدّا } بضم السين وابن محيصن وحميد والزهري والأعمش وطلحة ويعقوب في رواية وابن عيسى الأصبهاني وابن جرير وباقي السبعة بفتحها

٩٥

قال ما مكني . . . . .

{قَالَ مَا مَكَّنّى فِيهِ رَبّى خَيْرٌ } أي ما بسط اللّه لي من القدرة والملك خير من خرجكم { فَأَعِينُونِى بِقُوَّةٍ } أي بما أتقوّى به من فعلة وصناع يحسنون العمل والبناء ؛ قاله مقاتل وبالآلات ؛ قال الكلبي { رَدْمًا } حاجزاً حصيناً موثقاً .

وقرأ ابن كثير وحميد : ما مكنني بنونين متحركتين ، وباقي السبعة بإدغام نون مكن في نون الوقاية .

ثم فسر الإعانة بالقوة فقال { زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى } أي أعطوني .

قال ابن عطية : إنما هو استدعاء مناولة لا استدعاء عطية وهبة لأنه قد ارتبط من قوله إنه لا يأخذ منهم الخراج ، فلم يبق إلاّ استدعاء المناولة انتهى .

٩٦

آتوني زبر الحديد . . . . .

وقرأ الجمهور { ءاتُونِى}

وقرأ أبو بكر عن عاصم ائتوني أي جيئوني . وانتصب { زُبُرِ } بإيتوني على إسقاط حرف الجر أي جيئوني بزبر { الْحَدِيدَ}

وقرأ الجمهور { زُبُرِ } بفتح الباء والحسن بضمها ، وفي الكلام حذف تقديره فأتوه أو فآتوه بها فأمر برصّ بعضها فوق بعض { حَتَّى إِذَا سَاوَى}

وقرأ الجمهور { سَاوِى } وقتادة سوّى ، وابن أبي أمية عن أبي بكر عن عاصم سُووي مبنياً للمفعول . وحكي في الكيفية أن ذا القرنين قاس ما بين الصدفين من حفر الأساس حتى بلغ الماء ثم جعل حشوه الصخر وطينه النحاس مذاب ، ثم يصب عليه والبنيان من زبر الحديد بينهما الحطب والفحم حتى سد ما بين الجبلين إلى أعلاهما ، ثم وضع المنافخ حتى إذا صارت كالنار صب النحاس المذاب على الحديد المحمى فاختلط والتصق بعضه ببعض وصار جبلاً صلداً .

وقيل : طول ما بين السدين مائة فرسخ وعرضه خمسون . وفي الحديث أن رجلاً أخبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم به فقال : { كيف رأيته } ؟ فقال : كالبرد المحبر طريقة سوداء وطريقة حمراء ، قال :  { قد رأيته} .

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر والزهري ومجاهد والحسن { الصَّدَفَيْنِ } بضم الصاد والدال ، وأبو بكر وابن محيصن وأبو رجاء وأبو عبد الرحمن كذلك إلاّ أنه سكن الدال وباقي السبعة وأبو جعفر وشيبة وحميد وطلحة وابن أبي ليلى وجماعة عن يعقوب وخلف في اختياره وأبو عبيد وابن سعدان بفتحهما ، وابن جندب بالفتح وإسكان الدال ، ورويت عن قتادة .

وقرأ الماجشون بالفتح وضم الدال .

وقرأ قتادة وأبان عن عاصم بضم الصاد وفتح الدال { حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً } في الكلام حذف تقديره فنفخوا حتى .

وقرأ الجمهور قال { ءاتُونِى } أي أعطوني .

وقرأ الأعمش وطلحة وحمزة وأبو بكر بخلاف عنه قال : ائتوني أي جيئوني و { قِطْراً } منصوب بأفرغ على إعمال الثاني ، ومفعول { ءاتُونِى } محذوف لدلالة الثاني عليه

٩٧

فما اسطاعوا أن . . . . .

{فَمَّا اسْطَاعُواْ } أي يأجوج ومأجوج { أَن يَظْهَرُوهُ } أي يصلوا عليه لبعده وارتفاعه وامّلاسه ، ولا أن ينقبوه

لصلابته وثخانته فلا سبيل إلى مجاوزته إلى غيرهم من الأمم إلاّ بأحد هذين : إما ارتقاء

وإما نقب وقد سلب قدرتهم على ذلك .

وقرأ الجمهور { فَمَا اسْطَاعُواْ } بحذف التاء تخفيفاً لقربها من الطاء .

وقرأ حمزة وطلحة بإدغامها في الطاء وهو إدغام على غير حده . وقال أبو عليّ هي غير جائزة .

وقرأ الأعشى عن أبي بكر : فما اصطاعوا بالإبدال من السين صاداً لأجل الطاء .

وقرأ الأعمش : فما استطاعوا بالتاء من غير حذف .

٩٨

قال هذا رحمة . . . . .

{قَالَ هَاذَا رَحْمَةٌ مّن رَّبّى } أي قال ذو القرنين والإشارة بهذا قال ابن عطية إلى الردم والقوة عليه والانتفاع به .

وقال الزمخشري : إشارة إلى السد أي { هَاذَا } السد نعمة من اللّه و { رَحْمَةً } على عباده أو هذا الإقدار والتمكين من تسويته . قيل : وفي الكلام حذف وتقديره فلما أكمل بناء السد واستوى واستحكم { قَالَ هَاذَا رَحْمَةٌ مّن رَّبّى}

وقرأ ابن أبي عبلة هذه رحمة من ربي بتأنيث اسم الإشارة . والوعد يحتمل أن يراد به يوم القيامة ، وأن يراد به وقت خروج يأجوج ومأجوج .

وقال الزمخشري : فإذا دنا مجيء يوم القيامة وشارف أن يأتي جعل السد دكاً أي مدكوكاً منبسطاً مستوياً بالأرض ، وكل ما انبسط بعد ارتفاع فقداندك انتهى .

وقرأ الكوفيون :{ دَكَّاء } بالمدّ ممنوع الصرف وباقي السبعة دكاً منونة مصدر دككته ، والظاهر أن { جَعَلَهُ } بمعنى صيره فدك مفعول ثان . و

قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون جعل بمعنى خلق وينصب فدكاً على الحال انتهى . وهذا بعيد جداً لأن السد إذ ذاك موجود مخلوق ولا يخلق المخلوق لكنه ينتقل من بعض هيئاته إلى هيئة أخرى ، ووعد بمعنى موعود قد سبق و

٩٩

وتركنا بعضهم يومئذ . . . . .

{تَّرَكْنَا } هذا الضمير للّه تعالى والأظهر أن الضمير في { بَعْضُهُمْ } عائد على يأجوج ومأجوج ، والجملة المحذوفة بعد إذ المعوض منها التنوين مقدرة بإذ جاء الوعد وهو خروجهم وانتشارهم في الأرض أو مقدرة بإذ حجز السد بينهم وبين القوم الذين كانوا يفسدون عندهم وهم متعجبون من السد فماج بعضهم في بعض .

وقيل : الضمير في { بَعْضُهُمْ } يعود على الخلق أي يوم إذ جاء وعد اللّه وهو يوم القيامة ويقويه قوله { وَنُفِخَ فِى الصُّورِ } فيظهر أن ذلك هو يوم القيامة ، وكذلك ما جاء بعده من الجمع وعرض جهنم وتقدم الكلام على النفخ في الصور في سورة الأنعام . و { جَمْعاً } مصدر كموعد

١٠٠

وعرضنا جهنم يومئذ . . . . .

{وَعَرَضْنَا } أي أبرزنا { جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ } أي يوم إذ جمعناهم .

وقيل : اللام بمعنى على كقوله : فخر صريعاً لليدين وللفم وأبعد من ذهب إلى أنه مقلوب . والتقدير وعرضنا الكافرين على جهنم { عَرْضاً } وتخصيصه بالكافرين بشارة للمؤمنين . و

١٠١

الذين كانت أعينهم . . . . .

{الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ } صفة ذم في { غِطَاء } استعار الغطاء لأعينهم ، والمراد أنهم لا يبصرون آياتي التي ينظر

إليها فيعتبر بها ، واذكر بالتعظيم وهذا على خذف مضاف أي من آيات { ذِكْرِى}

وقيل { عَن ذِكْرِى } عن القرآن وتأمل معانيه ، ويكون المراد بالأعين هنا البصائر لا الجوارح لأن الجوارح لا نسبة بينها وبين الذكر { وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً } مبالغة في انتفاء السمع إذ نفيت الاستطاعة ، وهم وإن كانوا صماً لأن الأصم قد يستطيع السمع إذا صيح به ، وكان هؤلاء أصمت أسماعهم فلا استطاعة بهم للسمع

١٠٢

أفحسب الذين كفروا . . . . .

{أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ } هم من عبد الملائكة وعزيراً والمسيح واتخذوهم أولياء من دون اللّه وهم بعض العرب واليهود والنصارى ، وهو استفهام فيه معنى الإنكار والتوبيخ ، والمعنى أنهم ليس لهم من ولاية هؤلاء الذين تولوهم شيء ، ولا يجدون عندهم منتفعاً ويظهر أن في الكلام حذفاً والتقدير { أَن يَتَّخِذُواْ عِبَادِى مِن دُونِى أَوْلِيَاء } فيجدي ذلك وينتفعون بذلك الاتخاذ .

وقيل : العباد هنا الشياطين . روي عن ابن عباس وقال مقاتل : الأصنام لأنها خلقه وملكه ، والأظهر تفسير العباد بما قلناه لإضافتهم إليه والأكثر أن تكون الإضافة في مثل هذا اللفظ إضافة تشريف .

وحسب هنا بمعنى ظن وبه قرأ عبد اللّه أفظن .

وقرأ عليّ بن أبي طالب وزيد بن علي بن الحسين ويحيى بن يعمر ومجاهد وعكرمة وقتادة ونعيم بن ميسرة والضحاك وابن أبي ليلى وابن كثير ويعقوب بخلاف عنهما وابن محيصن وأبو حيوة والشافعي ومسعود بن صاح { أَفَحَسِبَ } بإسكان السين وضم الباء مضافاً إلى { الَّذِينَ } أي أفكافيهم ومحسبهم ومنتهى عرضهم ، والمعنى أن ذلك لا يكفيهم ولا ينفعهم عند اللّه كما حسبوا . وقال أبو الفضل الرازي قال سهل : يعني أبا حاتم معناه : أفحسبهم وحظهم إلاّ أن { أَفَحَسِبَ } أبلغ في الذم لأنه جعله غاية مرادهم انتهى . وارتفع حسب على الابتداء والخبر { أَن يَتَّخِذُواْ}

وقال الزمخشري : أو على الفعل والفاعل لأن اسم الفاعل إذا اعتمد على الهمزة ساوى الفعل في العمل كقولك : أقائم الزيدان وهي قراءة محكمة جيدة انتهى . والذي يظهر أن هذا الإعراب لا يجوز لأن حسباً ليس باسم فاعل فتعمل ، ولا يلزم من تفسيره شيء بشيء أن تجري عليه جميع أحكامه ، وقد ذكر سيبويه أشياء من الصفات التي تجري مجرى الأسماء وأن الوجه فيها الرفع . ثم قال : وذلك مررت برجل خير منه أبوه ، ومررت برجل سواء عليه الخير والشر ، ومررت برجل أب له صاحبه ، ومررت برجل حسبك من رجل ، ومررت برجل أيما رجل هو انتهى . ولا يبعد أن يرفع به الظاهر فقد أجازوا في مررت برجل أبي عشرة أبو ارتفاع أبوه بأبي عشرة لأنه في معنى والد عشرة .

{إِنَّا أَعْتَدْنَا } أي أعددنا ويسرنا والنزل موضع النزول والنزل أيضاً ما يقدم للضيف ويهيأ له وللقادم من الطعام ، والنزل هنا يحتمل التفسيرنن وكونه موضع النزول قاله الزجاج هنا ، وما هيىء من الطعام للنزيل قول القتبي .

وقيل : جمع نازل ونصبه على الحال نحو شارف وشرف ، فإن كان ما تقدم للضيف وللقادم فيكون كقوله :{ فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} وكقول الشاعر :

تحية بينهم ضرب وجيع

وقرأ أبو حيوة وأبو عمرو بخلاف عنه { نُزُلاً } بسكون الزاي { قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُم بِالاْخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِئَايَاتِ رَبّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُواْ وَاتَّخَذُواْ ءايَاتِى وَرُسُلِى هُزُواً}

١٠٣

قل هل ننبئكم . . . . .

أي { قُلْ } يا محمد للكافرين هل نخبركم الآية فإذا طلبوا ذلك فقل لهم { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ } والأخسرون أعمالاً عن عليّ هم الرهبان كقوله { عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ} وعن مجاهد : هم أهل الكتاب .

وقيل : هم الصابئون . وسأل ابن الكواء علياً عنهم فقال : منهم أهل حروراء . وينبغي حمل هذه الأقوال على التمثيل على الحصر إذ الأخسرون أعمالاً هم كل من دان بدين غير الإسلام ، أو راءى بعمله ، أو أقام على بدعة

تؤول به إلى الكفر والأخسر من أتعب نفسه فأدى تعبه به إلى النار . وانتصب { أَعْمَالاً } على التمييز وجمع لأن أعمالهم في الضلال مختلفة وليسوا مشتركين في عمل واحد و

١٠٤

الذين ضل سعيهم . . . . .

{الَّذِينَ } يصح رفعه على أنه خبر مبتدإِ محذوف ، أي هم { الَّذِينَ } وكأنه جواب عن سؤال ، ويجوز نصبه على الذمّ وخبره على الوصف أو البدل { ضَلَّ سَعْيُهُمْ } أي هلك وبطل وذهب و { يَحْسَبُونَ } و { يُحْسِنُونَ } من تجنيس التصحيف وهو أن يكون النقط فرقاً بين الكلمتين . ومنه قول أبي عبادة البحتري : ولم يكن المغتر باللّه إذ سرى

ليعجز والمعتز باللّه طالبه

ومن غريب هذا النوع من التجنيس . قال الشاعر : سقينني ربي وغنينني

بحت بحبي حين بنّ الخرد

صحف بقوله سقيتني ربي وغنيتني بحب يحيى بن الجرد .

١٠٥

أولئك الذين كفروا . . . . .

وقرأ ابن عباس وأبو السمال { فَحَبِطَتْ } بفتح الباء والجمهور بكسرها .

وقرأ الجمهور { فَلاَ نُقِيمُ } بالنون { وَزْناً } بالنصب ومجاهد وعبيد بن عمير فلا يقيم بالياء لتقدم قوله { بآيَاتِ رَبّهِمْ } وعن عبيد أيضاً يقوم بفتح الياء كأنه جعل قام متعدياً . وعن مجاهد وابن محيصن ويعقوب بخلاف عنهم : فلا يقوم مضارع قام وزن مرفوع به . واحتمل قوله { فَلاَ نُقِيمُ } إلاّ به أنهم لا حسنة لهم توزن في موازين القيامة ، ومن لا حسنة له فهو في النار . واحتمل أن يريد المجاز كأنه قال : فلا قدر لهم عندنا يومئذ .

وفي الحديث : { يؤتي بالأكول الشروب الطويل فلا يزن جناح بعوضة } ثم قرأ { فَلاَ نُقِيمُ } الآية . وفي الحديث أيضاً : { يأتي ناس بأعمال يوم القيامة هي عندهم في العظم كجبال تهامة فإذا وزنوها لم تزن شيئاً} .

١٠٦

ذلك جزاؤهم جهنم . . . . .

{ذَلِكَ جَزَاؤُهُم } مبتدأ وخبر و { جَهَنَّمَ } بدل و { ذالِكَ } إشارة إلى ترك إقامة الوزن ، ويجوز أن يشار بذلك وإن كان مفرداً إلى الجمع فيكون بمعنى أولئك ويكون { جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ } مبتدأ وخبراً . وقال أبو البقاء :{ ذالِكَ } أي الأمر ذلك وما بعده مبتدأ وخبر ، ويجوز أن يكون { ذالِكَ } مبتدأ و { جَزَآؤُهُمْ } مبتدأ ثان و { جَهَنَّمَ } خبره . والجملة خبر الأول والعائد محذوف أي جزاؤه انتهى . ويحتاج هذا التوجيه إلى نظر قال : ويجوز أن يكون { ذالِكَ } مبتدأ و { جَزَآؤُهُمْ } بدل أو عطف بيان و { جَهَنَّمَ } الخبر . ويجوز أن يكون { جَهَنَّمَ } بدلاً من جزاء أو خبر لابتداء محذوف ، أي هو جهنم و { بِمَا كَفَرُواْ } خبر ذلك ، ولا يجوز أن تتعلق الباء بجزاؤهم للفصل بينهما و { اتَّخَذُواْ } يجوز أن يكون معطوفاً على { كَفَرُواْ } وأن يكون مستأنفاً انتهى . والآيات هي المعجزات الظاهرة على أيدي الأنبياء والصحف الإلهية المنزلة عليهم .

١٠٧

إن الذين آمنوا . . . . .

لما ذكر تعالى ما أعد للكافرين ذكر ما أعد للمؤمنين وفي الصحيح { جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ } أربع ثنتان من ذهب حليتهما وآنيتهما وما فيهما ، وثنتان من فضة حليتهما وآنيتهما وما فيهما . وفي حديث عبادة { الْفِرْدَوْسِ } أعلاها يعني أعلا الجنة . قال قتادة وربوتها ومنها تفجر أنهار الجنة . وقال أبو هريرة جبل تتفجر منه أنهار الجنة . وفي حديث أبي أمامة { الْفِرْدَوْسِ } سرة الجنة . وقال مجاهد { الْفِرْدَوْسِ } البستان بالرومية . وقال كعب والضحاك { جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ } الأعناب . وقال

عبيد اللّه بن الحارث بن كعب إنه جنات الكروم والأعناب خاصة من الثمار . وقال المبرد : { الْفِرْدَوْسِ } فيما سمعت من كلام العرب الشجر الملتف والأغلب عليه العنب .

وحكى الزجاج أنه الأودية التي تنبت ضروباً من النبات ، وهل هو عربي أو أعجمي ؟ قولان وإذا قلنا أعجمي فهل هو فارسي أو رومي أو سرياني ؟ أقوال . وقال حسان : وإن ثواب اللّه كل موحد

جنان من الفردوس فيها يخلد

قيل : ولم يسمع بالفردوس في كلام العرب إلاّ في هذا البيت بيت حسان ، وهذا لا يصح فقد قال أمية بن أبي الصلت : كانت منازلهم إذ ذاك ظاهرة

فيها الفراديس ثم الثوم والبصل

الفراديس جمع فردوس . والظاهر أن معنى { جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ } بساتين حول الفردوس ولذلك أضاف الجنات إليه .

ويقال : كرم مفردس أي معرش ، وكذلك سميت الروضة التي دون اليمامة فردوساً لأجتماع نخلها وتعريشها على أرضها . وفي دمشق باب الفراديس يخرج منه إلى البساتين . و { نُزُلاً } يحتمل من التأويل ما احتمل قوله { نُزُلاً } المتقدم .

١٠٨

خالدين فيها لا . . . . .

ومعنى { حِوَلاً } أي محولاً إلى غيرها . قال ابن عيسى : هو مصدر كالعوج والصغر .

قال الزمخشري : يقال حال عن مكانه حولاً كقوله .

عادني حبها عوداً

يعني لا مزيد عليها حتى تنازعهم أنفسهم إلى أجمع لأغراضهم وأمانيهم ، وهذه غاية الوصف لأن الإنسان في الدنيا في أي نعيم كان فهو طامح الطرف إلى أرفع منه ، ويجوز أن يراد نفي التحول وتأكيد الخلود انتهى . و

قال ابن عطية : والحول بمعنى التحول . قال مجاهد متحولاً . وقال الشاعر : لكل دولة أجل

ثم يتاح لها حول

وكأنه اسم جمع وكان واحده حوالة وفي هذا نظر . وقال الزجاج عن قوم : هي بمعنى الحيلة في التنقل وهذا ضعيف متكلف .

١٠٩

قل لو كان . . . . .

{قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ} قيل سبب نزولها أن اليهود قالوا للرسول صلى اللّه عليه وسلم : كيف تزعم أنك نبي الأمم كلها ومبعوث إليها ، وأنك أعطيت ما يحتاجه الناس من العلم وأنت مقصر قد سئلت عن الروح فلم تجب فيه ؟ فنزلت معلمة باتساع معلومات اللّه وأنها غير متناهية وأن الوقوف دونها ليس ببدع ولا نكر ، فعبر عن هذا بتمثيل ما يستكثرونه وهو قوله { قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ}

وقيل قال حيي بن أخطب في كتابكم { وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا } ثم تقروؤن { وَمَا أُوتِيتُم مّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً } فنزلت يعني إن ذلك خير كثير ولكنه قطرة من بحر كلمات اللّه { قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ } أي ماء البحر { مِدَاداً } وهو ما يمد به الدواة من الحبر ، وما يمد به السراج من السليط .

ويقال : السماء مداد الأرض { لّكَلِمَاتِ رَبّى } أي معد الكتب كلمات ربي وهو علمه وحكمته ، وكتب بذلك

المداد { لَنَفِدَ الْبَحْرُ } أي فني ماؤه الذي هو المداد قبل أن تنفد الكلمات لأن كلماته تعالى لا يمكن نفادها لأنها لا تتناهى والبحر ينفد لأنه متناه ضرورة ، وليس ببدع أن أجهل شيئاً من معلوماته

١١٠

قل إنما أنا . . . . .

{وَإِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ } لم أعلم إلاّ ما أُوحي إلى به وأعلمت .

وقرأ الجمهور { مِدَاداً لّكَلِمَاتِ رَبّى}

وقرأ عبد اللّه وابن عباس والأعمش ومجاهد والأعرج والحسن والمنقري عن أبي عمر ومدداً لكلمات ربي .

وقرأ الجمهور { تَنفَدَ } بالتاء من فوق .

وقرأ حمزة والكسائي وعمرو بن عبيد والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى بالياء .

وقرأ السلمي { أَن تَنفَدَ } بالتشديد على تفعل على المضي ، وجاء كذلك عن عاصم وأبي عمرو فهو مطاوع من نفد تقديره لنفد .

وقرأ الجمهور بمثله مدداً بفتح الميم والدال بغير ألف ، والأعرج بكسر الميم . وأنتصب { مَدَداً } على التمييز عن مثل كقوله .

فإن الهوى يكفيكه مثله صبراً

وقرأ ابن مسعود وابن عباس ومجاهد والأعمش بخلاف والتيمي وابن محيصن وحميد والحسن في رواية ، وأبو عمرو في رواية وحفص في رواية بمثله مداداً بألف بين الدالين وكسر الميم . قال أبو الفضل الرازي : ويجوز أن يكون نصبه على المصدر بمعنى ولو أمددناه بمثله إمداداً ثم ناب المدد مناب الإمداد مثل أنبتكم نباتاً .

وفي قوله { بَشَرٌ مّثْلُكُمْ } إعلام بالبشرية والمماثلة في ذلك لا أدّعي إني ملك { يُوحِى إِلَىَّ } أي عليّ إنما هو مستند إلى وحي ربي ، ونبه على الوحدانية لأنهم كانوا كفاراً بعبادة الأصنام ، ثم حض على ما فيه النجاة و { يَرْجُو } بمعنى يطمع و { لِقَاء رَبّهِ } على تقدير محذوف أي حسن لقاء ربه .

وقيل { يَرْجُو } أي يخاف سوء { لِقَاء رَبّهِ } أي لقاء جزاء ربه ، وحمل الرجاء على بابه أجود لبسط النفس إلى إحسان اللّه تعالى . ونهى عن الإشراك بعبادة اللّه تعالى . وقال ابن جبير : لا يراثي في عمله فلا يبتغي إلاّ وجه ربه خالصاً لا يخلط به غيره . قيل نزلت في جندب بن ز هير قال لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : إني أعمل العمل للّه فإذا أطلع عليه سرني فقال : { إن اللّه لا يقبل ماشورك فيه} . وروي أنه قال : { لك أجران أجر السر وأجر العلانية } وذلك إذا قصد أن يقُتدى به . وقال معاوية بن أبي سفيان : هذه آخر آية نزلت من القرآن .

وقرأ الجمهور { وَلاَ يُشْرِكْ } بياء الغائب كالأمر في قوله { فَلْيَعْمَلِ}

وقرأ أبو عمرو في رواية الجعفي عنه : ولا تشرك بالتاء خطاباً للسامع والتفاتاً من ضمير الغائب إلى ضمير المخاطب ، وهو المأمور بالعمل الصالح ثم عاد إلى الإلتفات من الخطاب إلى الغيبة في قوله بربه ، ولم يأت التركيب بربك إيذاناً بأن الضميرين لمدلول واحد وهو من في قوله { فَمَن كَانَ يَرْجُو}

﴿ ٠