سورة طه

عليه السلام مكية

بسم اللّه الرحمن الرحيم

١

طه

الثرى : التراب الندي ويثنّى ثريان ، ويقال ثريت التربة بللتها ، وثريت الأرض تثرى ثري فهي ترية ابتل ترابها بعد الجدوبة ، وأثرت فهي مثرية كثر ترابها ، وأرض ثرى ذات ثرى . وقال ابن الأعرابي : يقال فلان قريب الثرى بعيد النبط للذي يعد ولا يفي ،

ويقال : إني لأرى ثرى الغضب في وجه فلانا أي أثره ، ويقال الثرى بيني وبين فلان إذا انقطع ما بينكما . وقال جرير : فلا تنبشوا بيني وبينكم الثرى

فإن الذي بيني وبينكم مثري

آنس : وجد ، تقول العرب : هل آنست فلان أي وجدته .

وقيل : أحس وهو قريب من وجد . قال الحارث بن حلزة : آنست نبأة وروعها القناص

عصراً وقد دنا الإمساء

القبس جذوة من النار تكون على رأس عود أو قصبة أو نحوه فعل بمعنى مفعول كالقبض والنفض ،

ويقال : قبست منه ناراً أقبس فأقبسني أعطاني منه قبساً ، ومنه المقبسة لما يقتبس فيه من شقفة وغيرها ، واقتبست منه ناراً . وعلماً أي استفدته . وقال المبرد : أقبست الرجل علم وقبسته ناراً . وقال الكسائي : أقبسته ناراً وعلماً وقبسته أيضاً فيهما . الخلع والنعل معروفان وهو إزالتها من الرجل .

وقيل : النعل ما هو وقاية للرجل من الأرض كان من جلد أو حديد أو خشب أو غيره . طوى : اسم موضع . السعي المشي بسرعة ، وقد يطلق على العمل . ردى يردى ردى هلك ، وأرداه أهلكه . قال دريد بن الصمة : تنادوا فقالوا أردت الخيل فارسا

فقلت أعبد اللّه ذلكم الردى

توكأ على الشيء تحامل عليه في المشي والوقوف ، ومنه الاتكاء . توكأت واتكأت بمعنى . وتقدمت هذه المادة في سورة يوسف في قوله { متكأ } وشرحت هنا لاختلاف الوزنين وإن كان الأصل واحداً . هش على الغنم يهش بضم الهاء خبط أوراق الشجر لتسقط ، وهش إلى الرجل يهش بالكسر قاله ثعلب إذا بش وأظهر الفرح به ، والأصل في هذهالمادة الرخاوة يقال : رجل هش . الغنم معروف وهو اسم جنس مؤنث . المأربة بضم الراء وفتحها وكسرها الحاجة وتجمع على مآرب ، والإربة أيضاً الحاجة . الحية الحنش ينطلق على الذكر والأنثى والصغير والكبير ، وتقدمت مادته وكررت هنا لخصوصية المدلول . وقولهم حواء للذي يصيد الحيات من باب قوة فالمادتان مختلفتان كسبط وسبطر . الأزر : الظهر قاله الخليل ، وأبو عبيد وآزره قواه ، والأزر أيضاً القوة . وقال الشاعر : بمحنية قد آزر الضال نبتها

مجر جيوش غانمين وخيب

القذف الرمي والإلقاء . الساحل شاطىء البحر وهو جانبه الخالي من الماء ، سمي بذلك لأن الماء يسحله أي يقشره فهو فاعل بمعنى مفعول . وقال أبو تمام : هو البحر من أي النواحي أتيته

فلجته المعروف والجود ساحله

{بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ طه مَا أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءانَ لِتَشْقَى إِلاَّ تَذْكِرَةً لّمَن يَخْشَى تَنزِيلاً مّمَّنْ خَلَق الاْرْضَ وَالسَّمَاواتِ الْعُلَى الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى لَهُ مَا فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الاْرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السّرَّ وَأَخْفَى اللّه لا إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الاْسْمَاء الْحُسْنَى}

هذه السورة مكية بلا خلاف ، كان عليه السلام يراوح بين قدميه يقوم على رجل فنزلت قاله عليّ . وقال الضحاك : صلّى عليه السلام هو وأصحابه فأطال القيام لما أنزل عليه القرآن ، فقالت قريش : ما أنزل عليه إلاّ ليشقى . وقال مقاتل : قال أبو جهل والنضر والمطعم : إنك لتشقى بترك دينناً فنزلت . ومناسبة هذه السورة لآخر ما قبلها أنه تعالى لما ذكر تيسير القرآن بلسان الرسول صلى اللّه عليه وسلمأي بلغته وكان فيما علل به قوله { لِتُبَشّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً } أكد ذلك بقوله { مَا أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءانَ لِتَشْقَى إِلاَّ تَذْكِرَةً لّمَن يَخْشَى } والتذكرة هي البشارة والنذارة ، وإن ما ادعاه المشركون من إنزاله للشقاء ليس كذلك بل إنما نزل تذكرة ، والظاهر أن طه من الحروف المقطعة نحو : يس وألر وما أشبههما ، وتقدم الكلام على ذلك في أول البقرة .

وعن ابن عباس والحسن وابن جبير ومجاهد وعطاء وعكرمة : معنى { طه } يا رجل . فقيل بالنبطية .

وقيل بالحبشية .

وقيل بالعبرانية .

وقيل لغة يمنية في عك .

وقيل في عكل . وقال الكلبي : لو قلت في عك يا رجل لم يجب حتى تقول { طه} وقال السدّي معنى { طه } يا فلان . وأنشد الطبري في معنى يا رجل في لغة عك قول شاعرهم : دعوت بطه في القتال فلم يجب

فخفت عليه أن يكون موائلاً وقول الآخر

إن السفاهة طه من خلائقكملا بارك اللّه في القوم الملاعين

وقيل هو اسم من أسماء الرسول .

وقيل : من أسماء اللّه .

وقال الزمخشري : ولعل عكاً تصرفوا في يا هذا كأنهم في لغتهم قالبون الياء طاء فقالوا في يا طأ واختصروا هذا فاقتصروا على ها ، وأثر الصنعة ظاهر لا يخفي في البيت المستشهد به .

إن السفاهة طه في خلائقكم

لا قدس اللّه أخلاق الملاعين

انتهى . وكان قد قدم أنه يقال إن طاها في لغة عك في معنى يا رجل ، ثم تخرص وحزر على عك بما لا يقوله نحوي هو أنهم قلبوا الياء طاء وهذا لا يوجد في لسان العرب قلب يا التي للنداء طاء ، وكذلك حذف اسم الإشارة في النداء وإقرارها التي للتنبيه .

وقيل : طا فعل أمر وأصله طأ ، فخففت الهمزة بإبدالها ألفاً وها مفعول وهو ضمير الأرض ، أي طأ الأرض بقدميك ولا تراوح إذ كان يراوح حتى تورمت قدماه . وقرأت فرقة منهم الحسن وعكرمة وأبو حنيفة وورش في اختياره { طه} قيل : وأصله طأ فحذفت الهمزة بناء على قلبها في يطأ على حد لا هناك المرتع بُني الأمر عليه وأدخلت هاء السكت وأجري الوصل مجرى الوقف ، أو أصله طأ وأبدلت همزته هاء فقيل { طه}

وقرأ الضحاك وعمرو بن فائد : طاوي .

٢

ما أنزلنا عليك . . . . .

وقرأ طلحة ما نزل عليك بنون مضمومة وزاي مكسورة مشددة مبنياً للمفعول { الْقُرْءانَ } بالرفع .

وقرأ الجمهور { مَا أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءانَ } ومعنى { لِتَشْقَى } لتتعب بفرط تأسفك عليهم وعلى كفرهم وتحسرك على أن يؤمنوا كقوله { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ } والشقاء يجيء في معنى التعب ومنه المثل : أتعب من رائض مهر . وأشقى من رائض مهر .

قال الزمخشري : أي ما عليك إلاّ أن تبلغ وتذكر ولم يكتب عليك أن يؤمنوا لا محالة بعد أن لم تفرط في أداء الرسالة والموعطة الحسنة انتهى .

وقيل : أريد رد ما قاله أبو جهل وغيره مما تقدم ذكره في سبب النزول . و { لِتَشْقَى } و { تَذْكِرَةٌ } علة لقوله { مَا أَنَزَلْنَا } وتعدى في { لِتَشْقَى } باللام لاختلاف الفاعل إذ ضمير { مَا أَنَزَلْنَا } هو للّه ، وضمير { لِتَشْقَى } للرسول صلى اللّه عليه وسلم ، ولما اتحد الفاعل في { أَنزَلْنَا } و

٣

إلا تذكرة لمن . . . . .

{تَذْكِرَةٌ } إذ هو مصدر ذكر ، والمذكر هو اللّه وهو المنزل تعدى إليه الفعل فنصب على أن في اشتراط اتحاد الفاعل خلافا

والجمهور يشترطونه .

وقال الزمخشري :

فإن قلت : أما يجوز أن تقول : ما أنزلنا عليك القرآن أن تشقى كقوله { أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ }

قلت : بلى ولكنها نصبة طارئة كالنصبة في { وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ }

وأما النصبة في { تَذْكِرَةٌ } فهي كالتي في ضربت زيد لأنه أحد المفاعيل الخمسة التي هي أصول وقوانين لغيرها انتهى . وليس كون أن تشقى إذا حذف الجار منصوب متفقاً عليه بل في ذلك خلاف . أهو منصوب تعدى إليه الفعل بعد إسقاط الحرف أو مجرور بإسقاط الجار وإبقاء عمله ؟

و

قال ابن عطية :{ إِلاَّ تَذْكِرَةً } يصح أن ينصب على البدل من موضع { لِتَشْقَى } ويصح أن ينصب بإضمار فعل تقديره لكن أنزلناه تذكرة انتهى . وقد ردّ الزمخشري تخريج ابن عطية الأول فقال :

فإن قلت : هل يجوز أن يكون { تَذْكِرَةٌ } بدلاً من محل { لِتَشْقَى } ؟

قلت : لا لاختلاف الجنسين ولكنها نصب على الاستثناء المنقطع الذي إلاّ فيه بمعنى لكن انتهى . ويعني باختلاف الجنسين أن نصب { تَذْكِرَةٌ } نصبة صحيحة ليست بعارضة والنصبة التي تكون في { لِتَشْقَى } بعد نزع الخافض نصبة عارضة والذي نقول أنه ليس له محل البتة فيتوهم البدل منه .

وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون المعنى { إِنَّا أَنزَلْنَا } إليك { الْقُرْءانَ } لتحمل متاعب التبليغ ومقاولة العتاة من أعداء الإسلام ومقاتلتهم وغير ذلك من أنواع المشاق وتكاليف النبوة و { مَا أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ } هذا المتعب الشاق { إِلا } ليكون { تَذْكِرَةٌ } وعلى هذا الوجه يجوز أن كيون { تَذْكِرَةٌ } حالاً ومفعولاً له { لّمَن يَخْشَى } لمن يؤول أمره إلى الخشية انتهى . وهذا معنى متكلف بعيد من اللفظ وكون { إِلاَّ تَذْكِرَةً } بدل من محل { لِتَشْقَى } هو قول الزجاج . وقال النحاس : هذا وجه بعيد وأنكره أبو عليّ من قبل أن التذكرة ليست بشقاء . وقال الحوفي : ويجوز أن يكون { تَذْكِرَةٌ } بدلاً من { الْقُرْءانَ } ويكون { الْقُرْءانَ } هو { التَّذْكِرَةِ } وأجاز هو وأبو البقاء أن يكون مصدراً أي لكن ذكرنا به { تَذْكِرَةٌ} قال أبو البقاء ولا يجوز أن يكون مفعولاً له لأنزلنا المذكور لأنه قد تعدى إلى مفعول وهو { لِتَشْقَى } ولا يتعدى إلى آخر من جنسه انتهى . والخشية باعثة على الإيمان والعمل الصالح .

٤

تنزيلا ممن خلق . . . . .

وانتصب { تَنْزِيلاً } على أنه مصدر لفعل محذوف أي نزل { تَنزِيلاً مّمَّنْ خَلَق}

وقال الزمخشري : في نصب { تَنْزِيلاً } وجوه أن يكون بدلاً من { تَذْكِرَةٌ } إذا جعل حالاً لا إذا كان مفعولاً له ، لأن الشيء لا يعلل بنفسه ، وأن ينصب بنزل مضمراً ، وأن ينصب بأنزلنا لأن معنى { مَا أَنَزَلْنَا }{ إِلاَّ تَذْكِرَةً } أنزلناه تذكرة ، وأن ينصب على المدح والاختصاص ، وأن ينصب بيخشى مفعولاً به أي أنزله اللّه { تَذْكِرَةً لّمَن يَخْشَى } تنزيل اللّه وهو معنى حسن وإعراب بين انتهى . والأحسن ما قدمناه أولاً من أنه منصوب بنزل مضمرة . وما ذكره الزمخشري من نصبه على غير ذلك متكلف أما الأول ففيه جعل { تَذْكِرَةٌ } و { تَنْزِيلاً } حالين وهما مصدران ، وجعل المصدر حالاً لا ينقاس ، وأيضاً فمدلول { تَذْكِرَةٌ } ليس مدلول { تَنْزِيلاً } ولا { تَنْزِيلاً } بعض { تَذْكِرَةٌ } فإن كان بدلاً فيكون بدل اشتمال على مذهب من يرى أن الثاني مشتمل على الأول لأن التنزيل مشتمل على التذكرة وغيرها .

وأما قوله : لأن معنى ما أنزلناه إلاّ تذكرة أنزلناه تذكرة فليس كذلك لأن معنى الحصر يفوت في قوله أنزلناه تذكرة ،

وأما نصبه على المدح فبعيد ،

وأما نصبه بمن يخشى ففي غاية البعد لأن يخشى رأس آية وفاصل فلا يناسب أن يكون تنزيل مفعولاً بيخشى وقوله فيه وهو معنى حسن وإعراب بين عجمة وبعد عن إدراك الفصاحة .

وقرأ ابن أبي عبلة تنزيل رفعاً على إضمار هو ، وهذه القراءة تدل على عدم تعلق يخشى بتنزيل وأنه منقطع مما قبله فنصبه على إضمار نزل كما ذكرناه ، ومن الظاهر أنها

متعلقة بتنزيل ويجوز أن يكون في موضع الصفة فيتعلق بمحذوف . وفي قوله { مّمَّنْ خَلَق } تفخيم وتعظيم لشأن القرآن إذ هو منسوب تنزيله إلى من هذه أفعاله وصفاته ، وتحقير لمعبوداتهم وتعريض للنفوس على الفكر والنظر وكأن في قوله { مّمَّنْ خَلَق } التفات إذ فيها الخروج من ضمير التكلم وهو في ما أنزلناه إلى الغيبة وفيه عادة التفنن في الكلام وهو مما يحسن إذ لا يبقى على نظام واحد وجريان هذه الصفات على لفظ الغيبة والتفخيم بإسناد الإنزال إلى ضمير الواحد المعظم نفسه ، ثم إسناده إلى من اختص بصفات العظمة التي لم يشركه فيها أحد فحصل التعظيم من الوجهين .

وقال الزمخشري ويجوز أن يكون { أَنزَلْنَا } حكاية لكلام جبريل عليه السلام والملائكة النازلين معه انتهى . وهذا تجويز بعيد بل الظاهر أنه إخبار من اللّه تعالى عن نفسه . و { الْعُلَى } جمع العليا ووصف { السَّمَاوَاتِ } بالعُلَى دليل على عظم قدرة من اخترعها إذ لا يمكن وجود مثلها في علوها من غيره تعالى ،

٥

الرحمن على العرش . . . . .

والظاهر رفع { الرَّحْمَنُ } على خبر مبتدأ محذوف تقديره هو { الرَّحْمَنُ} و

قال ابن عطية : ويجوز أن يكون بدلاً من الضمير المستتر في { خُلِقَ } انتهى . وأرى أن مثل هذا لا يجوز لأن البدل يحل محل المبدل منه ، و { الرَّحْمَنُ } لا يمكن أن يحل محل الضمير لأن الضمير عائد على من الموصولة و { خُلِقَ } صلة ، والرابط هو الضمير فلا يحل محله الظاهر لعدم الرابط . وأجاز الزمخشري أن يكون رفع { الرَّحْمَنُ } على الابتداء قال يكون مبتدأ مشاراً بلامه إلى من خلق . وروى جناح بن حبيش عن بعضهم أنه قرأ الرحمن بالكسر .

قال الزمخشري : صفة لمن خلق يعني لمن الموصولة ومذهب الكوفيين أن الاسماء النواقص التي لا تتم إلاّ بصلاتها نحو من وما لا يجوز نعتها إلاّ الذي والتي فيجوز نعتهما ، فعلى مذهبهم لا يجوز أن يكون { الرَّحْمَنُ } صفة لمن فالأحسن أن يكون { الرَّحْمَنُ } بدلاً من من ، وقد جرى { الرَّحْمَنُ } في القرآن مجرى العلم في ولايته العوامل . وعلى قراءة الجر يكون التقدير هو { عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } وعلى قراءة الرفع إن كان بدلاً كما ذهب إليه ابن عطية فكذلك أو مبتدأ كما ذكره الزمخشري ففي موضع الخبر أو خبر مبتدأ كما هو الظاهر ، فكيون { الرَّحْمَنُ } والجملة خبرين عن هو المضمر . وتقدم الكلام على مثل هذه الجملة في الأعراف .

وما روي عن ابن عباس من الوقف على قوله { عَلَى الْعَرْشِ } ثم يقرأ { اسْتَوَى لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ } على أن يكون فاعلاً لاستوى لا يصح إن شاء اللّه .

٦

له ما في . . . . .

ولما ذكر تعالى أنه اخترع السموات والأرض وأنه استوى على العرش ذكر أنه تعالى { لَهُ } ملك جميع { مَا } حوت { السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى } أي تحت الأرض السابعة قاله ابن عباس ومحمد بن كعب . وعن السدّي : هو الصخرة التي تحت الأرض السابعة .

وقيل :{ مَا تَحْتَ الثَّرَى } ما هو في باطن الأرض فيكون ذلك توكيداً لقوله { وَمَا فِى الاْرْضِ } إلاّ إن كان المراد بفي الأرض ما هو عليها فلا يكون توكيداً .

وقيل : المعنى أن علمه تعالى محيط بجميع ذلك لأنه منشئه فعلى هذا يكون التقدير { لَهُ } علم { مَا فِي السَّمَاوَاتِ}

ولما ذكر تعالى أولاً إنشاء السموات والأرض وذكر أن جميع ذلك وما فيهما ملكه

٧

وإن تجهر بالقول . . . . .

ذكر تعالى صفة العلم وأن علمه لا يغيب عنه شيء والخطاب بقوله : { وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ } للرسول ظاهر أو المراد أمته ، ولما كان خطاب الناس لا يتأتى إلاّ بالجهر بالكلام جاء الشرط بالجهر وعلق على الجهر علمه بالسر لأن علمه بالسر يتضمن علمه بالجهر ، أي إذا كان يعلم السر فأحرى أن يعلم الجهر والسر مقابل للجهر كما قال { يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ } والظاهر أن { أُخْفِىَ } أفعل تفضيل أي { وَأَخْفَى } من السر .

قال ابن عباس :{ السّرَّ } ما تسره إلى غيرك ، والأخفى ما تخفيه في نفسك وقاله الفراء .

وعن ابن عباس أيضاً{ السّرَّ } ما أسره في نفسه ، والأخفى ما خفي عنه مما هو فاعله وهو لا يعلمه . وعن قتادة : قريب من هذا . وقال مجاهد :{ السّرَّ } ما تخفيه من الناس { وَأَخْفَى } منه الوسوسة . وقال ابن زيد { السّرَّ } سر الخلائق { وَأَخْفَى } منه سره تعالى وأنكر ذلك الطبري .

وقيل :{ السّرَّ } العزيمة { وَأَخْفَى } منه ما لم يخطر على

القلب ، وذهب بعض السلف إلى أن قوله { وَأَخْفَى } هو فعل ماض لا أفعل تفضيل أي { يَعْلَمْ } أسرار العباد { وَأَخْفَى } عنهم ما يعلمه هو كقوله { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْء مّنْ عِلْمِهِ } وقوله { وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً}

قال ابن عطية : وهو ضعيف .

وقال الزمخشري : وليس بذلك قال :

فإن قلت : كيف طابق الجزاء الشرط ؟

قلت : معناه إن تجهر بذكر اللّه من دعاء أو غيره فاعلم أنه غني عن جهرك فإما أن يكون نهياً عن الجهر كقوله { وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ }

وإما تعليماً للعباد أن الجهر ليس لإسماع اللّه وإنما هو لغرض آخر انتهى .

٨

اللّه لا إله . . . . .

والجلالة مبتدأ و { لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ } الخبر و { لَهُ الاْسْمَاء الْحُسْنَى } خبر ثان ، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف كأنه قيل من ذا الذي يعلم السر وأخفى ؟ فقيل : هو { اللّه } و { الْحُسْنَى } تأنيث الأحسن وصفة المؤنثة المفردة تجري على جمع التكسير ، وحسن ذلك كونها وقعت فاصلة والأحسنية كونها تضمنت المعاني التي هي في غاية الحسن من التقديس والتعظيم والربوبية ، والأفعال التي لا يمكن صدورها إلاّ منه ، وذكروا أن هذه { الاْسْمَاء } هي التي قال فيها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : { إن للّه تسعاً وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة} . وذكرها الترمذي مسندة .

٩

وهل أتاك حديث . . . . .

ولما ذكر تعالى تعظيم كتابه وتضمن تعظيم رسوله أتبعه بقصة موسى ليتأسى به في تحمل أعباء النبوة وتكاليف الرسالة والصبر على مقاساة الشدائد ، كما قال تعالى { وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبّتُ بِهِ فُؤَادَكَ } ف

قال تعالى :{ وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى } وهذا استفهام تقرير يحث على الإصغاء لما يلقى إليه وعلى التأسي .

وقيل :{ هَلُ } بمعنى قد أي قد { ءاتَاكَ } ، والظاهر خلاف هذا لأن السورة مكية . والظاهر أنه لم يكن أطلعه على قصة موسى قبل هذا .

وقيل : إنه استفهام معناه النفي أي ما أخبرناك قبل هذه السورة بقصة موسى ، ونحن الآن قاصون قصته لتتسلى وتتأسى وكان من حديثه أنه عليه السلام لما قضى أكمل الأجلين استأذن شعيباً في الرجوع من مدين إلى مصر لزيارة والدته وأخته فأذن له ، وقد طالت مدة جنايته بمصر ورجا خفاء أمره ، فخرج بأهله وماله وكان في فصل الشتاء وأخذ على غير الطريق مخافة ملوك الشام ، وامرأته حامل فلا يدري أليلاً تضع أم نهاراً ، فسار في البرية لا يعرف طرقها ، فألجأه المسير إلى جانب الطور الغربي الأيمن في ليلة مظلمة مثلجة شديدة البرد ، وأخذ امرأته الطلق فقدح زنده فلم يور . قيل : كان رجلاً غيوراً يصحب الرفقة ليلاً ويفارقهم نهار لئلا ترى امرأته ، فأضل الطريق .

قال وهب : ولد له ابن في الطريق

١٠

إذ رأى نارا . . . . .

ولما صلد زنده { رَأَى نَاراً} والظاهر أن { إِذْ } ظرف للحديث لأنه حدث . وأجاز الزمخشري أن تكون ظرفاً لمضمر أي { نَارًا } كان كيت وكيت ، وأن تكون مفعولاً لأذكر { امْكُثُواْ } أي أقيموا في مكانكم ، وخاطب امرأته وولديه والخادم .

وقرأ الأعمش وطلحة وحمزة ونافع في رواية { لاِهْلِهِ امْكُثُواْ } بضم الهاء وكذا في القصص والجمهور بكسرها { إِنّى آنَسْتُ } أي أحسست ، والنار على بعد لا تحس إلاّ بالبصر فلذلك فسره بعضهم برأيت ، والإيناس أعم من الرؤية لأنك تقول

{آنَسْتُ } من فلان خيراً .

وقال الزمخشري : الإيناس الإبصار البين الذي لا شبهة فيه ، ومنه إنسان العين لأنه يتبين به الشيء والإنس لظهورهم كما قيل الجن لاستتارهم .

وقيل : هو إبصار ما يؤنس به لما وجد منه الإيناس فكان مقطوعاً متيقناً حققه لهم بكلمة إن ليوطن أنفسهم . ولما كان الإتيان بالقبس ووجود الهدى مترقبين متوقعين بنى الأمر فيهما على الرجاء والطمع ، وقال : لعل ولم يقطع فيقول إني آتيكم لئلا يعد ما ليس يستيقن الوفاء به انتهى . والظاهر أنه رأى نوراً حقيقة .

وقال الماوردي : كانت عند موسى { نَارًا } وكانت عند اللّه نوراً . قيل : وخيِّل له أنه نار . قيل : ولا يجوز هذا لأن الإخبار بغير المطابق لا يجوز على الانبياء عليهم الصلاة والسلام . ولفظة على ههنا على بابها من الاستعلاء ، ومعناه إن أهل النار يستعلون المكان القريب منها ، أو لأن المصطلين بها والمستمتعين إذا تكنفوها قياماً وقعوداً كانوا مشرفين عليها ومنه قول الأعشى .

ويات على النار الندى والمحلق

وقال ابن الأنباري : على بمعنى عند وبمعنى مع وبمعنى الباء ، وذكر الزجاج أنه ضل عن الماء فترجى أن يلقى من يهديه الطريق أو يدله على الماء ، وانتصب { هُدًى } على أنه مفعول به على تقدير محذوف أي ذا { هُدًى } أو على تقدير حذف لأنه إذا وجد الهادي فقد وجد الهدى هدى الطريق .

وقيل :{ هُدًى } في الدين قاله مجاهد وقتادة وهو بعيد ، وهو وإن كان طلب من يهديه الطريق فقد وجد الهدى على الإطلاق .

١١

فلما أتاها نودي . . . . .

والضمير في { أَتَاهَا } عائد على النار أتاها فإذا هي مضطرمة في شجرة خضراء يانعة عناب قاله ابن عباس .

وقيل : سمرة قاله عبد اللّه .

وقيل : عوسج قاله وهب .

وقيل : عليقة عن قتادة ومقاتل والكلبي وكان كلما قرب منها تباعدت فإذا أدبر اتبعته ، فأيقن أن هذا أمر من أمور اللّه الخارقة للعادة ، ووقف متحيراً وسمع من السماء تسبيح الملائكة وألقيت عليه السكينة و { نُودِىَ } وهو تكليم اللّه إياه .

١٢

إني أنا ربك . . . . .

وقرأ الجمهور : { إِنّى } بكسر الهمزة على إضمار القول عند البصريين ، وعلى معاملة النداء معاملة القول لأنه ضرب منه على مذهب الكوفيين . و { أَنَاْ } مبتدأ أو فصل أو توكيد لضمير النصب ، وفي هذه الأعاريب حصل التركيب لتحقيق المعرفة وإماطة الشبهة .

وقرأ ابن كثير وأبو عمر : وأني بفتح الهمزة والظاهر أن التقدير بأني { أَنَاْ رَبُّكَ} و

قال ابن عطية : على معنى لأجل { إِنّى أَنَاْ رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ } و { نُودِىَ } قد توصل بحرف الجر وأنشد أبو عليّ : ناديت باسم ربيعة بن مكدم

إن المنوّه باسمه الموثوق

انتهى . وعلمه بأن الذي ناداه هو اللّه تعالى حصل له بالضرورة خلقاً منه تعالى فيه أو بالاستدلال بالمعجزة ، وعند المعتزلة لا يكون ذلك إلاّ بالمعجز فمنهم من عينه ومنهم من قال : لا يلزم أن يعرف ما ذلك المعجز قالوا : ولا يجوز أن يكون ذلك بالعلم الضروري لأنه ينافي في التكليف ، والظاهر أن أمره تعالى إياه بخلع النعلين لعظم الحال التي حصل فيها كما يخلع عند الملوك غاية في التواضع .

وقيل : كانتا من جلد حمار ميت فأمر بطرحهما لنجاستهما . وفي الترمذي عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم قال : { كان على موسى يوم كلمه ربه كساء صوف وجبة صوف وكمة صوف وسراويل صوف ، وكانت نعلاه من جلد حمار ميت} . قال : هذا حديث غريب ، والكمة القلنسوة الصغيرة وكونهما من جلد حمار ميت غير مدبوغ قول عكرمة وقتادة والسدّي ومقاتل والكلبي والضحاك .

وقيل : كانتا من جلد بقرة ذكي لكن أمر بخلعهما البيان بركة الوادي المقدس ، وتمس

قدماه تربته وروى أنه خلع نعليه وألقاهما من وراء الوادي . و { الْمُقَدَّسِ } المطهر و { طُوًى } اسم علم عليه فيكون بدلاً أو عطف بيان .

وقرأ الحسن والأعمش وأبو حيوة وابن أبي إسحاق وأبو السمال وابن محيص بكسر الطاء منوناً .

وقرأ الكوفيون وابن عامر بضمها منوناً .

وقرأ الحرميان وأبو عمرو بضمها غير منون .

وقرأ أبو زيد عن أبي عمرو بكسرها غير منون .

وقرأ عيس بن عمر والضحاك طاوى أذهب فمن نون فعلى تأويل المكان ، ومن لم ينون وضم الطاء فيحتمل أن يكون معدولاً عن فعل نحو زفر وقثم ، أو أعجمياً أو على معنى البقعة ، ومن كسر ولم ينون فمنع الصرف باعتبار البقعة . وقال الحسن :{ طُوًى } بكسر الطاء والتنوين مصدر ثنيت فيه البركة والتقديس مرتين فهو بوزن الثناء وبمعناه وذلك لأن الثنا بالكسر والقصر الشيء الذي تكرره ، فكذلك الطوى على هذه القراءة . وقال قطرب { طُوًى } من الليل أي ساعة أي قدس لك في ساعة من الليل لأنه نودي بالليل ، فلحق الوادي تقديس محدد أي { إِنَّكَ إِذْ نَادَاهُ } ليلاً .

١٣

وأنا اخترتك فاستمع . . . . .

قرأ طلحة والأعمش وابن أبي ليلى وحمزة وخلف في اختياره

وأما بفتح الهمزة وشد النون اخترناك بنون العظمة .

وقرأ السلمي وابن هرمز والأعمش في رواية { وَأَنَا } والألف عطفاً على { إِنّى أَنَاْ رَبُّكَ } لأنهم كسروا ذلك أيضاً ، والجمهور { وَأَنَا اخْتَرْتُكَ } بضمير المتكلم المفرد غير المعظم نفسه .

وقرأ أُبَيّ وأني بفتح الهمزة وياء المتكلم { اخْتَرْتُكَ } بتاء عطفاً على { إِنّى أَنَاْ رَبُّكَ } ومفعول { اخْتَرْتُكَ } الثاني المتعدي إليه بمن محذوف تقديره من قومك . والظاهر أن { لِمَا يُوحَى } من صلة استمع وما بمعنى الذي .

وقال الزمخشري وغيره :{ لَّمّاً يُوحِى } للذي يوحى أو للوحي ، فعلق اللام باستمع أو باخترتك انتهى . ولا يجوز التعليق باخترتك لأنه من باب الأعمال فيجب أو يختار إعادة الضمير مع الثاني ، فكان يكون فاستمع له لما يوحى فدل على أنه إعمال الثاني .

وقال أبو الفضل الجوهري : لما قيل لموسى صلوات اللّه على نبينا وعليه استمع لما يوحى وقف على حجر واستند إلى حجر ووضع يمينه على شماله وألقى ذقنه على صدره ، ووقف ليستمع وكان كل لباسه صوفاً . وقال وهب : أدب الاستماع سكون الجوارح وغض البصر والإصغاء بالسمع وحضور العقل والعزم على العمل ، وذلك هو الاستماع لما يحب اللّه وحذف الفاعل في { يُوحَى } للعلم به ويحسنه كونه فاصلة ، فلو كان مبنياً للفاعل لم يكن فاصلة

١٤

إنني أنا اللّه . . . . .

والموحى قوله { إِنّى أَنَا اللّه } إلى آخره معناه وحّدني كقوله تعالى { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } إلى آخر الجمل جاء ذلك تبييناً وتفسيراً للإبهام في قوله { لِمَا يُوحَى}

وقال المفسرون { فَاعْبُدْنِى } هنا وحدني كقوله تعالى { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } معناه ليوحدون ، والأولى أن يكون { فَاعْبُدْنِى } لفظ يتناول ما كلفه به من العبادة ، ثم عطف عليه ما هو قد يدخل تحت ذلك المطلق فبدأ بالضلالة إذ هي أفضل الأعمال وأنفعها في الآخرة ، والذكر مصدر يحتمل أن يضاف إلى الفاعل أي ليذكرني فإن ذكري أن اعبدو يصلي لي أو ليذكرني فيها لاشتمال الصلاة على الأذكار أو لأني ذكرتها في الكتب وأمرت بها ، ويحتمل أن تضاف إلى المفعول أي لأن أذكرك بالمدح والثناء وأجعل لك لسان صدق ، أو لأن تذكرني خاصة لا تشو به بذكر غيري أو خلاص ذكري وطلب وجهي لا ترائي بها ولا تقصد بها غرضاً آخر ، أو لتكون لي ذاكراً غير ناسٍ فعل المخلصين في جعلهم ذكر ربهم على ابل منهم وتوكيل هممهم وأفكارهم به كما قال { لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللّه } أو لأوقات ذكري وهي مواقيت الصلاة لقوله { فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَواةَ فَاذْكُرُواْ اللّه قِيَاماً وَقُعُوداً } واللام على هذا القول مثلها في قوله { أَقِمِ الصَّلَواةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ } وقد حمل على ذكر الصلاة بعد نسيانها من قوله عليه الصلاة والسلام : { من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها} .

قال الزمخشري : وكان حق العبادة أن يقال لذكرها كما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم

{إذا ذكرها} . ومن يتمحل له يقول : إذا ذكر الصلاة فقد ذكر اللّه ، أو بتقدير حذف المضاف أي لذكر صلاتي أو لأن الذكر والنسيان من اللّه عز وجل في الحقيقة انتهى . وفي الحديث بعد قوله : { فليصلها إذا ذكرها } قوله { إذ لا كفارة لها إلاّ ذلك} ثم قرأ { يُوحَى إِنَّنِى أَنَا}

وقرأ السلمي والنخعي وأبو رجاء : للذكري بلام التعريف وألف التأنيث ، فالذكرى بمعنى التذكرة أي لتذكيري إياك إذا ذكرتك بعد نسيانك فأقمها . وقرأت فرقة لِذِكْرَى بألف التأنيث بغير لام التعريف . وقرأت فرقة : للذكر .

ولما ذكر تعالى الأمر بالعبادة وإقامة الصلاة ذكر الحامل على ذلك وهو البعث والمعاد للجزاء

١٥

إن الساعة آتية . . . . .

فقال { إِنَّ السَّاعَةَ ءاتِيَةٌ } وهي التي يظهر عندها ما عمله الإنسان وجزاء ذلك إما ثواباً

وإما عقاباً .

وقرأ أبو الدرداء وابن جبير والحسن ومجاهد وحميد أَخْفِيها بفتح الهمزة ورويت عن ابن كثير وعاصم بمعنى أظهرها أي إنها من صحة وقوعها وتيقن كونها تكاد تظهر ، ولكن تأخرت إلى الأجل المعلوم وتقول العرب : خفيت الشيء أي أظهرته . وقال الشاعر : خفاهن من إيقانهن كأنما

خفاهن ودق من عشي مجلب

وقال آخر فإن تدفنوا الداء لا نخفه

وإن توقدوا الحرب لا نقعد

ولام { لِتُجْزَى } على هذه القراءة متعلقة بأخفيها أي أظهرها { لِتُجْزَى } كل نفس .

وقرأ الجمهور { أُخْفِيهَا } بضم الهمزة وهو مضارع أخفي بمعنى ستر ، والهمزة هنا للإزالة أي أزلت الخفاء وهو الظهور ، وإذا أزلت الظهور صار للستر كقولك : أعجمت الكتاب أزلت عنه العجمة . وقال أبو علي : هذا من باب السلب ومعناه ، أزيل عنها خفاءها وهو سترها ، واللام على قراءة الجمهور . قال صاحب اللوامح متعلقة بآتية كأنه قال { إِنَّ السَّاعَةَ ءاتِيَةٌ } لنجزي انتهى ، ولا يتم ذلك إلاّ إذا قدرنا { أَكَادُ أُخْفِيهَا } جملة اعتراضية ، فإن جعلتها في موضع الصفة لآتية فلا يجوز ذلك على رأي البصريين لأن أسم الفاعل لا يعمل إذا وصف قبل أخذ معموله .

وقيل :{ أُخْفِيهَا } بضم الهمزة بمعنى أظهرها فتتحد القراءتان ، وأخفى من الأضداد بمعنى الإظهار وبمعنى الستر . قال أبو عبيدة : خفيت وأخفيت بمعنى واحد وقد حكاه أبو الخطاب وهو رئيس من رؤساء اللغة لا شك في صدقه و { أَكَادُ } من أفعال المقاربة لكنها مجاز هنا ، ولما كانت الآية عبارة عن شدة إخفاء أمر القيامة ووقتها وكان القطع بإتيانها مع جهل الوقت أهيب على النفوس بالغ في إبهام وقتها فقال { أَكَادُ أُخْفِيهَا } حتى لا تظهر ألبتة ، ولكن لا بد من ظهورها . وقالت فرقة { أَكَادُ } بمعنى أريد ، فالمعنى أريد إخفاءها وقاله الأخفش وابن الأنباري وأبو مسلم . قال أبو مسلم : ومن أمثالهم لا أفعل ذلك : ولا أكاد أي لا أريد أن أفعله . وقالت فرقة : خبر كاد محذوف تقديره { أَكَادُ } أتى بها لقربها وصحة وقوعها كما حذف في قول صابيء البرجمي : هممت ولم أفعل وكذت وليتني

تركت على عثمان تبكي حلائله

أي وكدت أفعل . وتم الكلام ثم استأنف الإخبار بأنه يخفيها واختاره النحاس . وقالت فرقة : معناه { أَكَادُ أُخْفِيهَا } من نفسي إشارة إلى شدة غموضها عن المخلوقين وهو مروي عن ابن عباس .

ولما رأى بعضهم قلق هذا القول قال معنى من نفسي : من تلقائي ومن عندي . وقالت فرقة { أَكَادُ } زائدة لا دخول لها في المعنى بل الإخبار أن الساعة آتية

وأن اللّه يخفي وقت إتيانها ، وروي هذا المعنى عن ابن جبير ، واستدلوا على زيادة كاد بقوله تعالى { لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا } وبقول الشاعر وهو زيد الخيل : سريع إلى الهيجاء شاك سلاحه

فما إن يكاد قرنه يتنفس

وبقول الآخر وأن لا ألوم النفس مما أصابني

وأن لا أكاد بالذي نلت أنجح ولا حجة في شيء من هذا .

وقال الزمخشري :{ أَكَادُ أُخْفِيهَا } فلا أقول هي آتية لفرط إرادتي إخفاءها ، ولو لا ما في الإخبار بإتيانها مع تعمية وقتها من اللطف لما أخبرت به .

وقيل : معناه { أَكَادُ أُخْفِيهَا } من نفسي ولا دليل في الكلام على هذا المحذوف ، ومحذوف لا دليل عليه مطرح . والذي غزهم منه أن في مصحف أبي { أَكَادُ أُخْفِيهَا } من نفسي وفي بعض المصاحف { أَكَادُ أُخْفِيهَا } من نفسي فكيف أظهركم عليها انتهى . ورويت هذه الزيادة أى ضاً عن أُبَيّ ذكر ذلك ابن خالويه . وفي مصحف عبد اللّه { أَكَادُ أُخْفِيهَا } من نفسي فكيف يعلمها مخلوق . وفي بعض القراءات وكيف أظهرها لكم وهذا محمول على ما جرت به عادة العرب من أن أحدهم إذا بالغ في كتمان الشيء قال : كذت أخفيه من نفسي ، واللّه تعالى لا يخفى عليه شيء قال معناه قطرب وغيره . وقال الشاعر :

أيام تصحبني هند وأخبرهاما كدت أكتمه عني من الخبر وكيف يكتم من نفسه ومن نحو هذا من المبالغة ، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ، والضمير في { أُخْفِيهَا } عائد على { السَّاعَةَ } و { السَّاعَةَ } يوم القيامة بلا خلاف ، والسعي هنا العمل .

١٦

فلا يصدنك عنها . . . . .

والظاهر أن الضمير في { عَنْهَا } و { بِهَا } عائد على الساعة .

وقيل : على الصلاة .

وقيل { عَنْهَا } عن الصلاة و { بِهَا } أي بالساعة ، وأبعد جداً من ذهب إلى أن الضمير في { عَنْهَا } يعود على ما تقدم من كلمة { لا إِلَاهَ إِلا أَنَاْ فَاعْبُدْنِى}

والظاهر أن الخطاب في { فَلا } لموسى عليه السلام ، ولا يلزم من النهي عن الشيء إمكان وقوعه ممن سبقت له العصمة ، فينبغي أن يكون لفظاً وللسامع غيره ممن يمكن وقوع ذلك منه ، وأبعد من ذهب إلى أنه خطاب للنبيّ صلى اللّه عليه وسلم لفظاً ولأمته معنى .

وقال الزمخشري :

فإن قلت : العبارة أنهى من لا يؤمن عن صدّ موسى ، والمقصود نهي موسى عن التكذيب بالبعث أو أمره بالتصديق ؟

قلت : فيه وجهان .

أحدهما : أن صد الكافر عن التصديق بها سبب للتكذيب ، فذكر السبب ليدل على المسبب .

والثاني : أن صد الكافر مسبب عن رخاوة الرجل في الدين ولين شكيمته ، فذكر المسبب ليدل على السبب كقولهم لا أرينك هاهنا . المراد نهيه عن مشاهدته والكون بحضرته وذلك سبب رؤيته إياه ، فكان ذكر المسبب دليلاً على السبب كأنه قيل : فكن شديد الشكيمة صلب المعجم حتى لا يتلوح منك لمن يكفر بالبعث أنه يطمع في صدك عما أنت عليه { هَوَاهُ فَتَرْدَى } يجوز أن يكون منصوباً على جواز النهي وأن يكون مرفوعاً أي فأنت تردى .

وقرأ يحيى فَتِردى بكسر التاء .

١٧

وما تلك بيمينك . . . . .

{وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يامُوسَى مُوسَى } هو تقرير مضمنه التنبيه ، وجمع النفس لما يورد عليها وقد علم تعالى في الأزل ما هي وإنما سأله ليريه عظم ما يخترعه عز وجل في الخشبة

اليابسة من قلبها حية نضناضة ، ويتقرر في نفسه المباينة البعيدة بين المقلوب عنه والمقلوب إليه ، وينبهه على قدرته الباهرة و { مَا } استفهام مبتدأ و { تِلْكَ } خبره و { يَمِينِكَ } في موضع الحال كقوله { وَهَاذَا بَعْلِى شَيْخًا } والعامل اسم الإشارة .

قال الزمخشري : ويجوز أن يكون { تِلْكَ } أسماً موصولاً صلته بيمينك ، ولم يذكر ابن عطية غيره وليس ذلك مذهباً للبصريين وإنما ذهب إليه الكوفيون ، قالوا : يجوز أن يكون اسم الإشارة موصولاً حيث يتقدر بالموصول كأنه قيل : وما التي بيمينك ؟ وعلى هذا فيكون العامل في المجرور محذوفاً كأنه قيل : وما التي استقرت بيمينك ؟ وفي هذا السؤال وما قبله من خطابه تعالى لموسى عليه السلام استئناس عظيم وتشريف كريم .

١٨

قال هي عصاي . . . . .

{قَالَ هِىَ عَصَاىَ}

وقرأ ابن أبي إسحاق والجحدري عصَيّ بقلب الألف ياء وإدغامها في ياء المتكلم .

وقرأ الحسن عَصَايِ بكسر الياء وهي مروية عن ابن أبي إسحاق أيضاً وأبي عمرو معاً ، وهذه الكسرة لالتقاء الساكنين . وعن أبي إسحاق والجحدري عَصَايْ بسكون الياء .{ قَالَ هِىَ } أي أتحامل عليها في المشي والوقوف ، وهذا زيادة في الجواب كما جاء } هو الطهور ماؤه الحل ميتته} . في جواب من سأل أيتوضأ بماء البحر ؟ وكما جاء في جواب ألهذا حج ؟ قال : { نعم ولك أجر} . وحكمة زيادة موسى عليه السلام رغبته في مطاولة مناجاته لربه تعالى ، وازدياد لذاذته بذلك كما قال الشاعر : وأملي عتاباً يستطاب فليتني

أطلت ذنوباً كي يطول عتابه

وتعداده نعمه تعالى عليه بما جعل له فيها من المنافع ، وتضمنت هذه الزيادة تفصيلاً في قوله { قَالَ هِىَ عَصَاىَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْهَا وَأَهُشُّ } وإجمالاً في قوله { وَلِىَ فِيهَا مَأَرِبُ أُخْرَى}

وقيل :{ قَالَ هِىَ } جواب لسؤال آخر وهو أنه لما قال { هِىَ عَصَاىَ } قال له تعالى فما تصنع بها ؟ قال :{ قَالَ هِىَ } الآية .

وقيل : سأله تعالى عن شيئين عن العصا بقوله { وَمَا تِلْكَ } وبقوله { بِيَمِينِكَ } عما يملكه ، فأجابه عن { وَمَا تِلْكَ } ؟ بقوله { هِىَ عَصَاىَ } وعن قوله { بِيَمِينِكَ } بقوله { قَالَ هِىَ عَصَاىَ } إلى آخره انتهى . وفي التحقيق ليس قوله { بِيَمِينِكَ } بسؤال وقدم في الجواب مصلحة نفسه في قوله { قَالَ هِىَ } ثم ثنى بمصلحة رعيته في قوله { وَأَهُشُّ}

وقرأ الجمهور { وَأَهُهُّ } بضم الهاء والشين المعجمة ، والنخعي بكسرها كذا ذكر أبو الفضل الرازي وابن عطية وهي بمعنى المضمومة الهاء والمفعول محذوف وهو الورق . قال أبو الفضل : ويحتمل ذلك أن يكون من هش يهش هشاشة إذا مال ، أي أميل بها على غنمي بما أصلحها من السوق وتكسير العلف ونحوهما ، يقال منه : هش الورق والكلأ والنبات إذا جف ولأن انتهى .

وقرأ الحسن وعكرمة : وأَهُسُّ بضم الهاء والسين غير معجمة ، والهس السوق ومن ذلك الهس والهساس غير معجمة في الصفات . ونقل ابن خالويه عن النخعي أنه قرأ وأَهُسُّ بضم الهمزة من أهس رباعياً وذكر صاحب اللوامح عن عكرمة ومجاهد وأَهُهُّ بضم الهاء وتخفيف الشين قال : ولا أعرف وجهه إلاّ أن يكون بمعنى العامة لكن فرّ من قراءته من التضعيف لأن الشين فيه تفش فاستثقل الجمع بين التضعيف والتفشي . فيكون كتخفيف ظلت ونحوه . وذكر الزمخشري عن النخعي أنه قرأ { عَلَيْهَا وَأَهُشُّ } بضم الهمزة والشين المعجمة من أهش رباعياً قال : وكلاهما من هش الخبز يهش إذا كان يتكسر لهشاشته . ذكر على التفصيل والإجمال المنافع المتعلقة بالعصا كأنه أحس بما يعقب هذا السؤال من أمر عظيم يحدثه اللّه تعالى فقال ما هي إلاّ عصا لا تنفع إلاّ منافع بنات جنسها كما ينفع العيدان ليكون جوابه مطابقاً

للغرض الذي فهمه من فحوى كلام ربه ، ويجوز أن يريد عز وجل أن يعدد المرافق الكثيرة التي علقها بالعصا ويستكثرها ويستعظمها ثم يريه على عقب ذلك الآية العظيمة كأنه يقول أين أنت عن هذه المنفعة العظمى والمأربة الكبرى المنسية عندها كل منفعة ومأربة . كنت تعتد بها وتحتفل بشأنها وقالوا اسم العصا نبعة انتهى .

وقرأت فرقة { غَنَمِى } بسكون النون وفرقة عليّ غنمي بإيقاع الفعل على الغنم . والمآرب ذكر المفسرون أنها كانت ذات شعبتين ومحجن فإذا طال الغصن حناه بالمحجن ، وإذا طلب كسره لواه بالشعبتين ، وإذا سار ألقاها على عاتقه فعلق بها أدواته من القوس والكنانة والحلاب ، وإذا كان في البرية ركزها وعرض الزندين على شعبتيها وألقى عليها الكساء واستظل ، وإذا قصر رشاؤه وصل بها وكان يقاتل بها السباع عن غنمه .

وقيل : كان فيها من المعجزات أنه كان يستقي بها فتطول بطول البئر وتصير شعبتاها دلواً وتكونان شمعتين بالليل ، وإذا ظهر عدو حاربت عنه ، وإذا اشتهى ثمرة ركزها فأورقت وأثمرت ، وكان يحمل عليها زاده وسقاءه فجعلت تماشيه ويركزها فينبع الماء فإذا رفعها نضب . وكانت تقيه الهوامّ ويردّ بها غنمه وإن بعد واو هذه العصا أخذها من بيت عصي الأنبياء التي كانت عند شعيب حين اتفقا على الرعية هبط بها آدم من الجنة وطولها عشرة أذرع ،

وقيل : اثنتا عشرة بذراع موسى عليه السلام وعامل المآرب وإن كان جمعاً معاملة الواحدة المؤنثة فأتبعها صفتها في قوله أخرى ولم يقل آخر رعياً للفواصل وهي جائز في غير الفواصل . وكان أجود وأحسن في الفواصل .

وقرأ الزهري وشيبة : مارب بغير همز كذا قال الأهوازي في كتاب الإقناع في القراءات ويعني واللّه أعلم بغير هم محقق ، وكأنه يعني أنهما سهلاها بين بين .

١٩

قال ألقها يا . . . . .

{قَالَ أَلْقِهَا } الظاهر أن القائل هو اللّه تعالى ، ويبعد قول من قال يجوز أن يكون القائل الملك بإذن اللّه ومعنى { أَلْقَاهَا } اطرحها على الأرض ومنه قول الشاعر :

فألقت عصاها واستقر بها النوى

٢٠

فألقاها فإذا هي . . . . .

وإذا هي التي للمفاجأة ، والحية تنطلق على الصغيرة والكبيرة والذكر والأنثى والجان الرقيق من الحيات والثعبان العظيم منها ، ولا تنافي بين تشبيهها بالجان في قوله { فَلَمَّا رَءاهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ } وبين كونها ثعباناً لأن تشبيهها بالجان هو في أول حالها ثم تزيدت حتى صارت ثعباناً أو شبهت بالجان وهي ثعبان في سرعة حركتها واهتزازها مع عظم خلقها . قيل : كان لها عرف كعرف الفرس وصارت شعبتا العصا لها فماً وبين لحييها أربعون ذراعاً .

وعن ابن عباس : انقلبت ثعباناً تبتلع الصخر والشجر والمجن عنقاً وعيناها تتقدان ، فلما رأى هذا الأمر العجيب الهائل لحقه ما يلحق البشر عند رؤية الأهوال والمخاوف لا سيما هذا الأمر الذي يذهل العقول . ومعنى { تَسْعَى } تنتقل وتمشي بسرعة ، وحكمة انقلابها وقت مناجاته تأنيسه بهذا المعجز الهائل حتى يلقيها لفرعون فلا يلحقه ذعر منها في ذلك الوقت إذ قد جرت له بذلك عادة وتدريبه في تلقى تكاليف النبوّة ومشاق الرسالة ،

٢١

قال خذها ولا . . . . .

ثم أمره تعالى بالإقدام على أخذها ونهاه عن أن يخاف منها وذلك حين ولى مدبراً ولم يعقب .

وقيل : إنما خافها لأنه عرف ما لقي آدم منها .

وقيل : لما قال له اللّه { لاَ تَخَفْ } بلغ من ذهاب خوفه وطمأنينة نفسه أن أدخل يده في فمها وأخذ بلحيتها ويبعد ما ذكره مكي في تفسيره أنه قيل له خذ مرة وثانية حتى قيل له { خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الاْولَى } فأخذها في الثالثة لأن منصب النبوة لا يليق أن يأمره ربه مرة وثانية فلا يمتثل ما أمر به ، وحين أخذها بيده صارت عصا والسيرة من السير كالركبة والجلسة ، يقال : سار فلان سيرة حسنة ثم اتسع فيها فنقلت إلى معنى المذهب والطريقة .

وقيل : سير الأولين . وقال الشاعر :

فلا تغضبن من سيرة أنت سرتها

فأول راض سيرة من يسيرها

واختلفوا في إعراب { سِيَرتَهَا } فقال الحوفي مفعول ثان لسنعيدها على حذف الجار مثل { وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ } يعني إلى { سِيَرتَهَا } قال : ويجوز أن يكون بدلاً من مفعول { سَنُعِيدُهَا} وقال هذا الثاني أبو البقاء قال : بدل اشتمال أي صفتها وطريقتها .

وقال الزمخشري : يجوز أن ينتصب على الظرف أي { سَنُعِيدُهَا } في طريقتها الأولىأي في حال ما كانت عصا انتهى . و { سِيَرتَهَا } وطريقتها ظرف مختص فلا يتعدى إليه الفعل على طريقة الظرفية إلاّ بواسطة ، في ولا يجوز الحذف إلاّ في ضرورة أو فيما شذت فيه العرب .

قال الزمخشري : ويجوز أن يكون مفعولاً من عاده بمعنى عاد إليه . ومنه بيت زهير :

وعادك أن تلاقيها عداء

فيتعدى إلى مفعولين انتهى . وهذا هو الوجه الأول الذي ذكره الحوفي . قال : ووجه ثالث حسن وهو أن يكون { سَنُعِيدُهَا } مستقلاً بنفسه غير متعلق بسيرتها ، بمعنى أنها أنشئت أول ما أنشئت عصا ثم ذهبت وبطلت بالقلب حية ، فسنعيدها بعد الذهاب كما أنشأناها أولاً ونصب { سِيَرتَهَا } بفعل مضمر أي تسير { سِيَرتَهَا الاْولَى } يعني { سَنُعِيدُهَا } سائرة { سِيَرتَهَا الاْولَى } حيث كنت تتوكأ عليها ، ولك فيها المآرب التي عرفتها انتهى .

٢٢

واضمم يدك إلى . . . . .

والجناح حقيقة في الطائر والملك ، ثم توسع فيه فأطلق على اليد وعلى العضد وعلى جنب الرجل .

وقيل لمجنبتي العسكر جناحان على سبيل الاستعارة ، وسمي جناح الطائر لأنه يجنح به عند الطيران ، ولما كان المرغوب من ظلمة أو غيرها إذا ضم يده إلى جناحه فتر رغبة وربط جأشه أمره تعالى أن يضم يده إلى جناحه ليقوى جأشه ولتظهر له هذه الآية العظيمة في اليد . والمراد إلى جنبك تحت العضد . ولهذا قال { تُخْرِجُ } فلو لم يكن دخول لم يكن خروج كما قال في الآية الأخرى { وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ تَخْرُجْ } وفي الكلام حذف إذ لا يترتب الخروج على الضم وإنما يترتب على الإخراج والتقدير { وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ } تنضم وأخرجها { تُخْرِجُ } فحذف من الأول وأبقى مقابله ، ومن الثاني وأبقى مقابله وهو { اضمم } لأنه بمعنى أدخل كما يبين في الآية الأخرى .

{جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوء } قيل خرجت بيضاء تشف وتضيء كأنها شمس ، وكان آدم اللون وانتصب { بَيْضَاء } على الحال والسوء الرداءة والقبح في كل شيء فكنى به عن البرص كما كنى عن العورة بالسوأة ، وكما كنوا عن جذيمة وكان أبرص بالأبرص والبرص أبغض شيء إلى العرب وطباعهم تنفر منه وأسماعهم تمج ذكره فكنى عنه . وقوله { مِنْ غَيْرِ سُوء } متعلق ببيضاء كأنه قال ابيضت { مِنْ غَيْرِ سُوء} وقال الحوفي :{ مِنْ غَيْرِ سُوء } في موضع النعت لبيضاء ، والعامل فيه الاستقرار انتهى . ويقال له عند أرباب البيان الاحتراس لأنه لو اقتصر على قوله { بَيْضَاء } لأوهم أن ذلك من برص أو بهق . وانتصب { ءايَةً } على الحال وهذا على مذهب من يجيز تعداد الحال لذي حال واحد . وأجاز الزمخشري أن يكون منصوباً على إضمار خذ ودونك وما أشبه ذلك حذف لدلالة الكلام كذا قال ، فأما تقدير خذ فسائغ

وأما دونك فلا يسوغ لأنه اسم فعل من باب الإغراء فلا يجوز أن يحذف النائب والمنوب عنه ولذلك لم يجر مجراه في جميع أحكامه ، وأجاز أبو البقاء والحوفي أن يكون { ءايَةً } بدلاً من { بَيْضَاء } وأجاز أبو البقاء أن يكون حالاً من الضمير في { بَيْضَاء } أي تبيض { ءايَةً}

وقيل منصوب بمحذوف تقديره

جعلناها { ءايَةً } أو آتيناك { ءايَةً}

٢٣

لنريك من آياتنا . . . . .

واللام في { لِنُرِيَكَ } قال الحوفي متعلقة باضمم ، ويجوز أن تتعلق بتخرج . وقال أبو البقاء : تتعلق بهذا المحذوف يعني المقدر جعلناها أو آتيناك ، ويجوز أن تتعلق بما دل عليه { ءايَةً } أي دللنا بها { لِنُرِيَكَ}

وقال الزمخشري :{ لِنُرِيَكَ } أي خذ هذه الآية أيضاً بعد قلب العصا حية لنريك بهاتين الآيتين بعض { الْكُبْرَى اذْهَبْ } أو { لِنُرِيَكَ } بهما { الْكُبْرَى } من { ءايَاتِنَا } أو { لِنُرِيَكَ مِنْ ءايَاتِنَا الْكُبْرَى } فعلنا ذلك ، وتهنى أنه جاز أن يكون مفعول { لِنُرِيَكَ } الثاني { الْكُبْرَى } أو يكون { مِنْ ءايَاتِنَا } في موضع المفعول الثاني . وتكون { الْكُبْرَى } صفة لآياتنا على حد { الاْسْمَاء الْحُسْنَى } و { مَأَرِبُ أُخْرَى } بجريان مثل هذا الجمع مجرى الواحدة المؤنثة ، وأجاز هذين الوجهين من الإعراب الحوفي وابن عطية وأبو البقاء . والذي نختاره أن يكون { مِنْ ءايَاتِنَا } في موضع المفعول الثاني ، و { الْكُبْرَى } صفة لآياتنا لأنه يلزم من ذلك أن تكون إياته تعالى كلها هي الكبر لأن ما كان بعض الآيات الكبر صدق عليه أنه { الْكُبْرَى} وإذا جعلت { الْكُبْرَى } مفعولاً لم تتصف الآيات بالكبر لأنها هي المتصفة بأفعل التفضيل ، وأيضاً إذا جعلت { الْكُبْرَى } مفعولاً فلا يمكن أن يكون صفة للعصا واليد معاً لأنهما كان يلزم التثنية في وصفيهما فكان يكون التركيب الكبريين ولا يمكن أن يخص أحدهما لأن كلاً منهما فيها معنى التفضيل . ويبعد ما قال الحسن من أن اليد أعظم في الإعجاز من العصا لأنه ذكر عقيب اليد { لِنُرِيَكَ مِنْ ءايَاتِنَا الْكُبْرَى } لأنه جعل { الْكُبْرَى } مفعولاً ثانياً{ لِنُرِيَكَ } وجعل ذلك راجعاً إلى الآية القريبة وهي إخراج اليد بيضاء من غير سوء وقد ضعف قوله هذا لأنه ليس في اليد إلاّ تغيير اللون ،

وأما العصا ففيها تغيير اللون وخلق الزيادة في الجسم وخلق الحياة والقدرة والأعضاء المختلفة وابتلاع الشجر والحجر ، ثم عادت عصا بعد ذلك فقد وقع التغيير مراراً فكانت أعظم من اليد .

٢٤

اذهب إلى فرعون . . . . .

وملا أراه تعالى هاتين المعجزتين العظيمتين في نفسه وفيما يلابسه وهو العصا أمره بالذهاب إلى فرعون رسولاً من عنده تعالى وعللك حكمة الذهاب إليه بقوله { إِنَّهُ طَغَى } وخص فرعون وإن كان مبعوثاً إليهم كلهم لأنه رأس الكفر ومدعّي الإلهية وقومه تباعه . قال وهب بن منبه : قال اللّه لموسى عليه السلام اسمع كلامي واحفظ وصيتي وانطلق برسالتي أرعاك بعيني وسمعي ، وإن معك يدي ونصري ، وألبسك جنة من سلطاني تستكمل بها العزة في أمري أبعثك إلى خلق ضعيف من خلقي بطر نعمتي وأمن مكري وغرته الدنيا حتى جحد حقي وأنكر ربوبيتي ، أقسم بعزتي لولا الحجة والقدر الذي وضعت بيني وبين خلقي لبطشت به بطشة جبار ، ولكن هان عليّ وسقط من عيني فبلغه رسالتي وادعه إلى عبادتي وحذره نقمتي . وقل له قولاً ليناً فإن ناصيته بيدي لا يطرف ولا يتنفس إلاّ بعلمي في كلام طويل . قال : فسكت موسى عليه السلام سبعة أيام .

وقيل : أكثر فجاءه ملك فقال انفذ ما أمرك ربك .

٢٥

قال رب اشرح . . . . .

لما أمره تعالى بالذهاب إلى فرعون عرف أنه كلف أمراً عظيماً يحتاج معه إلى احتمال ما لا يحتمله إلاّ ذو جأش رابط وصدر فسيح ، فسأل ربه ورغب في أن يشرح صدره ليحتمل ما يرد عليه من الشدائد التي يضيق لها الصدر ، وأن يسهل عليه أمره للذي هو خلافة اللّه في أرضه وما يصحبها من مزاولة جلائل الخطوب ، وقد علم ما عليه فرعون من الجبروت والتمرد والتسلط . وقال ابن جريج : معناه وسع لي صدري لأعي عنك ما تودعه من وحيك . وقال الكرماني وسع قلبي ولينه لفهم خطابك وأداء رسالتك . والقيام بما كلفتنيه من أعبائها ، والعقدة استعارة لثقل كان في لسانه خلقة .

وقال مجاهد : كانت من الجمرة التي أدخلها فاه وكانت آسية قد ألقى اللّه محبته في قلبها وسألت فرعون أن لا يذبحه ، فبيناهي ترقصه يوماً أخذه فرعون في حجره فأخذ خصلة من لحيته .

وقيل : لطمه .

وقيل : ضربه بقضيب كان في يده فغضب فرعون فدعاء بالسياف فقالت : إنما هو صبي لا يفرق بين الياقوت والجمر . فاحضرا وأراد أن يمد يده إلى الياقوت فحول جبريل عليه السلام يده إلى الجمرة فأخذها ووضعها في فيه فاحترق لسانه انتهى وإحراق النار وتأثيرها في لسانه لا في يده دليل على فساد قول القائلين بالطبيعة .

وعن ابن عباس كانت في لسانه رثت .

وقيل : حدثت العقدة بعد المناجاة حتى لا يكلم أحد بعدها . وقال قطرب : كانت فيه مسكة عن الكلام . وقال ابن عيسى : العقدة كالتمتمة والفأفأة . وطلب موسى من حل العقدة قدر ما يفقه قوله ، قيل : وبقي بعضها لقوله وأخي هارون هو أفصح مني لسان وقوله ولا يكاد يبين .

وقيل : زالت لقوله { قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يامُوسَى مُوسَى } وهو قول الحسن ، قيل : وهو ضعيف لأنه لم يقل واحلل العقدة بل قال { عُقْدَةَ } فإذا حل عقدة فقد آتاه اللّه سؤله .

وقيل في قوله ولا يكاد يبين أن معناه لا يأتي ببيان وحجة ، وإنما قال ذلك فرعون تمويهاً وقد خاطبه وقومه وكانوا يفهمون عنه فكيف يمكن نفي البيان أو مقاربته ؟ .

وقال الزمخشري :

فإن قلت : لي في قوله { اشْرَحْ لِى صَدْرِى وَيَسّرْ لِى أَمْرِى } ما جدواه والكلام بدون مستتب ؟

قلت : قد أبهم الكلام أولاً فقال { اشْرَحْ لِى}

٢٦

ويسر لي أمري

{وَيَسّرْ لِى } فعلم أن ثم مشروحاً وميسراً ثم بين ورفع الإبهام فذكرهما فكان آكد لطلب الشرح والتيسير لصدره ، وأمره من أن يقول اشرح صدري ويسر أمري على الإيضاح الشارح لأنه تكرير للمعنى الواحد من طريقي الإجمال والتفصيل .

٢٧

واحلل عقدة من . . . . .

وقال أيضاً : وفي تنكير العقدة وإن لم يقل { وَاحْلُلْ عُقْدَةً }{ لّسَانِى } أنه طلب حل بعضها إرادة أن يفهم عنه فهماً جيداً ولم يطلب الفصاحة الكاملة ، و { مّن لّسَانِى } صفة للعقدة كأنه قيل { عُقْدَةً مّن } عقد { لّسَانِى } انتهى . ويظهر أن { مّن لّسَانِى } متعلق باحلل لأن موضع الصفة لعقدة وكذا قال الحوفي . وأجاز أبو البقاء الوجهين

٢٩

واجعل لي وزيرا . . . . .

والوزير المعين القائم بوزر الأمور أي بثقلها فوزير الملك يتحمل عنه أوزاره ومؤنه .

وقيل : من الوزر وهو الملجأ يلتجىء إليه الإنسان . وقال الشاعر : من السباع الضواري دونه وزر

والناس شرهم ما دونه وزر

كم معشر سلموا لم يؤذهم سبع

وما نرى بشراً لم يؤذهم بشر فالملك يعتصم برأيه ويلتجىء إليه في أموره . وقال الأصمعي : هو من المؤازرة وهي المعاونة والمساعدة ،

والقياس أزير وكذا

قال الزمخشري : قال وكان القياس أزير فقلبت الهمزة إلى الواو ووجه قلبها أن فعيلاً جاء في معنى مفاعل مجيأ صالحاً كعشير وجليس وقعيد وخليل وصديق ونديم ، فلما قلب في أخيه قلبت فيه ، وحمل الشيء على نظيره ليس بعزيز . ونظراً إلى يوازر وأخواته وإلى الموازرة انتهى ولا حاجة إلى ادعاء قلب الهمزة واواً لأن لنا اشتقاقاً واضحاً وهو الوزر ،

وأما قلبها في يؤازر فلأجل ضمة ما قبل الواو وهو أيضاً إبدال غير لازم ، وجوزوا أن يكون { لّى وَزِيراً } مفعولين لاجعل و

٣٠

هارون أخي

{هَارُونَ } بدل أو عطف بيان ، وأن يكون { وَزِيراً } و { هَارُونَ } مفعولية ، وقدم الثاني اعتناء بأمر الوزارة و { أَخِى } بدل من { هَارُونَ } في هذين الوجهين .

قال الزمخشري : وإن جعل عطف بيان آخر جاز وحسن انتهى . ويبعد فيه عطف البيان لأن الأكثر في عطف البيان أن يكون الأول دونه في الشهرة ، والأمر هنا بالعكس . وجوزوا أن يكون { وَزِيراً مّنْ أَهْلِى } هما المفعولان و { لِى } مثل قوله { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } يعنون أنه به يتم المعنى . و { هَارُونَ } على ما تقدم . وجوزوا أن ينتصب { هَارُونَ } بفعل محذوف أي اضم إليّ هارون وهذا لا حاجة إليه لأن الكلام تام بدون هذا المحذوف .

٣١

انظر تسفير الآية:٣٢

٣٢

اشدد به أزري

وقرأ الحسن وزيد بن عليّ وابن عامر { اشْدُدْ } بفتح الهمزة { وَأَشْرِكْهُ } بضمها فعلاً مضارعاً مجزوماً على جواب الأمر وعطف عليه { وَأَشْرِكْهُ} وقال صاحب اللوامح عن الحسن أنه قرأ أشدِّد به مضارع شدّد للتكثير ، والتكرير أي كلما حزنني أمر شددت { بِهِ أَزْرِى}

وقرأ الجمهور { اشْدُدْ }{ وَأَشْرِكْهُ } على معنى الدعاء في شد الأزر وتشريك هارون في النبوة ، وكان الأمر في قراءة ابن عامر لا يريد به النبوة بل يريد تدبيره ومساعدته لأنه ليس لموسى أن يشرك في النبوة أحداً . وفي مصحف عبد اللّه أخي وأشدد .

وقال الزمخشري : ويجوز فيمن قرأ على لفظ الأمر أن يجعل { أَخِى } مرفوعاً على الابتداء { وَاشْدُدْ بِهِ } خبره ويوقف على { هَارُونَ } انتهى . وهو خلاف الظاهر فلا يصار إليه لغير حاجة ، وكان هارون أكبر من موسى بأربعة أعوام ، وجعل موسى ما رغب فيه وطلبه من نعم سبباً تلزم منه العبادة والاجتهاد في أمر اللّه والتظافر على العبادة والتعاون فيها مثير للرغبة والتزيد من الخير .

٣٣

انظر تسفير الآية:٣٤

٣٤

كي نسبحك كثيرا

{كَىْ نُسَبّحَكَ } ننزهك عما لا يليق بك { وَنَذْكُرَكَ } بالدعاء والثناء عليك وقدم التسبيح لأنه تنزيهه تعالى في ذاته وصفاته وبراءته عن النقائص ، ومحل ذلك القلب والذكر والثناء على اللّه بصفات الكمال ومحله اللسان ، فلذلك قدم ما محله القلب على ما محله اللسان . و { كَثِيراً } نعت لمصدر محذوف أو منصوب على الحال ، أي نسبحك التسبيح في حال كثرتهم على ما ذهب إليه سيبويه

٣٥

إنك كنت بنا . . . . .

{إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً } عالماً بأحوالنا . والسؤل فعل بمعنى المسؤل كالخبز والأكل بمعنى المخبوز والمأكول ، والمعنى أعطيت طلبتك وما سألته من شرح الصدر وتيسر الأمر وحل العقدة ، وجعل أخيك وزيراً وذلك من المنة عليه .

٣٦

انظر تسفير الآية:٣٧

٣٧

قال قد أوتيت . . . . .

ثم ذكره تعالى تقديم منته عليه على سبيل التوقيف ليعظم اجتهاده وتقوي بصيرته و { مَرَّةٍ } معناه منة و { أُخْرَى } تأنيث آخر بمعنى غير أي منة غير هذه المنة ، وليست { أُخْرَى } هنا بمعنى آخرة فتكون مقابلة للأولى ، وتخيل ذلك بعضهم فقال : سماها { أُخْرَى } وهي أولى لأنها { أُخْرَى } في الذكر والأخرى لفظ مشترك يكون تأنيث الآخر بفتح الخاء وتأنيث الآخر بمعنى آخره فهذه يلحظ فيها معنى التأخر . والمعنى أني قد حفظتك وأنت طفل رضيع فكيف لا أحفظك وقد أهلتك للرسالة .

٣٨

إذ أوحينا إلى . . . . .

وفي قوله { مَرَّةً أُخْرَى } إجمال يفسره قوله { إِذَا أَوْحَيْنَا إِلَى أُمّكَ} قال الجمهور : هي وحي إلهام كقوله { وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ}

وقيل : وحي إعلام إما بإراءة ذلك في منام ،

وإما ببعث ملك إليها لا على جهة النبوّة كما بعث إلى مريم وهذا و الظاهر لظاهر قوله { يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لّى وَعَدُوٌّ لَّهُ } ولظاهر آية القصص { إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاء كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ } ويبعد ما صدر به

الزمخشري قوله : من يرد يده إما أن يكون على لسان نبي في وقتها كقوله { وَإِذَا أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيّينَ } لأنه لم ينقل أنه كان في زمن فرعون ، وكان في زمن الحواريين زكريا ويحيى . وفي قوله { مَا يُوحَى } إبهام وإجمال كقوله { إِذْ يَغْشَى السّدْرَةَ مَا يَغْشَى }{ فَغَشِيَهُمْ مّنَ الْيَمّ مَا غَشِيَهُمْ } وفيه تهويل

٣٩

انظر تسفير الآية:٤٠

٤٠

أن اقذفيه في . . . . .

وقد فسر هنا بقوله { أَنِ اقْذِفِيهِ فِى التَّابُوتِ}

قال الزمخشري : و { ءانٍ } هي المفسرة لأن الوحي بمعنى القول . و

قال ابن عطية : و { ءانٍ } في قوله { أَنِ اقْذِفِيهِ } بدل من ما يعني أنّ{ ءانٍ } مصدرية فلذلك كان لها موضع من الإعراب . والوجهان سائغان والظاهر أن { التَّابُوتِ } كان من خشب .

وقيل : من بردى شجر مؤمن آل فرعون سدت خروقه وفرشت فيه نطعاً .

وقيل : قطناً محلوجاً وسدت فمه وجصصته وقيرته وألقته في { أَلِيمٌ } وهو اسم للبحر العذب .

وقيل : اسم للنيل خاصة والأول هو الصواب كقوله { فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمّ } ولم يغرقوا في النيل .

والظاهر أن الضمير في { فَاقْذِفِيهِ فِى الْيَمّ } عائد على موسى ، وكذلك الضميران بعده إذ هو المحدث عنه لا { التَّابُوتِ } إنما ذكر { التَّابُوتِ } على سبيل الوعاء والفضلة . و

قال ابن عطية : والضمير الأول في { قذفيه } عائد على موسى وفي الثاني عائد على { فِى التَّابُوتِ } ويجوز أن يعود على موسى .

وقال الزمخشري : والضمائر كلها راجعة إلى موسى ورجوع بعضها إليه وبعضها إلى التابوت فيه هجنة لما يؤدي إليه من تنافر النظم

فإن قلت : المقذوف في البحر هو التابوت وكذلك الملقى إلى الساحل

قلت : ما ضرك لو قلت المقذوف والملقى هو موسى في جوف التابوت حتى لا تتفرق الضمائر فيتنافر عليك النظم الذي هو أم إعجاز القرآن ، والقانون الذي وقع عليه التحدي ومراعاته أهم ما يجب على المفسر انتهى .

ولقائل أن يقول أن الضمير إذا كان صالحاً لأن يعود على الأقرب وعلى الأبعد كان عوده على الأقرب راجحاً ، وقد نص النحويون على هذا فعوده على { التَّابُوتِ } في قوله { فَاقْذِفِيهِ فِى الْيَمّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ } راجح ، والجواب أنه إذا كان أحدهما هو المحدث عنه والآخر فضلة كان عوده على المحدث عنه أرحج ، ولا يلتفت إلى القرب ولهذا رددنا على أبي محمد بن حزم في دعواه أن الضمير في قوله { فَإِنَّهُ رِجْسٌ } عائد على خنزير لا على لحم لكونه أقرب مذكور ، فيحرم بذلك شحمه وغضروفه وعظمه وجلده بأن المحدث عنه هو لحم خنزير لا خنزير .

و { فَلْيُلْقِهِ } أمر معناه الخبر ، وجاء بصيغة الأمر مبالغة إذ الأمر أقطع الأفعال وأوجبها ، ومنه قول النب : ي صلى اللّه عليه وسلم : { قوموا فلأصل لكم} . أخرج الخبر في صيغة الأمر لنفسه مبالغة ، ومن حيث خرج الفعل مخرج الأمر حسن جوابه كذلك وهو قوله { يَأْخُذْهُ}

وقال الزمخشري : لما كانت مشيئة اللّه وإرادته أن لا يخطىء جرية ماء اليم الوصول به إلى الساحل وإلقاءه إليه سلك في ذلك سبل المجاز ، وجعل اليم كأنه ذو تمييز أمر بذلك ليطيع الأمر ويمتثل رسمه فقيل { فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ } انتهى . وقال الترمذي : إنما ذكره بلفظ الأمر لسابق علمه بوقوع المخبر به على ما أخبر به ، فكأن البحر مأمور ممتثل للأمر . وقال الفراء :{ فَاقْذِفِيهِ فِى الْيَمّ } أمر وفيه معنى المجازاة أي اقذفيه يلقه اليم ، والظاهر أن البحر ألقاه بالساحل فالتقطه منه .

وروي أن فرعون كان يشرب في موضع من النيل إذ رأى التابوت فأمر به فسيق إليه وامرأته معه ففتح قرأوه فرحمته امرأته وطلبته لتتخذه ابناً فأباح لها ذلك . وروي أن التابوت جاء في الماء إلى المشرعة التي كانت جواري امرأة فرعون يستقين منها الماء . فأخذت التابوت وجلبته إليها فأخرجته وأعلمته فرعون والعد والذي للّه ولموسى هو فرعون ، وأخبرت به أم موسى على طريق الإلهام ولذلك قالت لأخته { قُصّيهِ } وهي لا تدري أين استقر .

{وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مّنّى} قيل : محبة آسية وفرعون ، وكان فرعون قد أحبه حباً شديداً حتى لا يتمالك أن يصبر عنه . قال ابن عباس : أحبه اللّه وحببه إلى خلقه . وقال عطية : جعلت عليه مسحة من جمال لا يكاد يصبر عنه من رآه . وقال قتادة : كان في عينيه ملاحة ما رآه أحد إلاّ أحبه . و

قال ابن عطية : وأقوى الأقوال أنه القبول .

وقال الزمخشري :{ مِنّي } لا يخلوا أن يتعلق بألقيت فيكون المعنى على أحببتك ومن أحبه اللّه أحبته القلوب ،

وإما أن يتعلق بمحذوف هو صفة لمحبة أي محبة خالصة أو واقعة مني قد ركزتها أنا فيها في القلوب وزرعتها فيها ، فلذلك أحبك فرعون وكل من أبصرك .

وقرأ الجمهور { وَلِتُصْنَعَ } بكسر لام كي وضم التاء ونصب الفعل أي ولتُرَبَّي ويحسن إليك . وأنا مراعيك وراقبك كما يراعي الرجل الشيء بعينيه إذا اعتنى به . قال قريباً منه قتادة . وقال النحاس : يقال صنعت الفرس إذا أحسنت إليه وهو معطوف على علة محذوف أي ليتلطف بك { وَلِتُصْنَعَ } أو متعلقة بفعل متأخر تقديره فعلت ذلك .

وقرأ الحسن وأبو نهيك بفتح التاء . قال ثعلب : معناه لتكون حركتك وتصرفك على عين مني .

وقرأ شيبة وأبو جعفر في رواية بإسكان اللام والعين وضم التاء فعل أمر ، وعن أبي جعفر كذلك إلا أنه كسر اللام .

{إِذْ تَمْشِى أُخْتُكَ } قيل اسمها مريم سبب ذلك أن آسية عرضته للرضاع فلم يقبل امرأة ، فجعلت تنادي عليه في المدينة ويطاف به ويعرض للمراضع فيأبى ، وبقيت أمه بعد قذفه في اليم مغمومة فأمرت أخته بالتفتيش في المدينة لعلها تقع على خبره ، فبصرت به في طوافها فقالت { أَنَاْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ } فتعلقوا بها وقالوا : أنت عرفين هذا الصبيّ ؟ فقالت : لا ، ولكن أعلم من أهل هذا البيت الحرص على التقرب إلى الملكة والجد في خدمتها ورضاها ، فتركوها وسألوها الدلالة فجاءت بأم موسى فلما قربته شرب ثديها فسرّت آسية وقالت لها : كوني معنى في القصر ، فقالت : ما كنت لأدع بيتي وولدي ولكنه يكون عندي قالت : نعم ، فأحسنت إلى أهل ذلك البيت غاية الإحسان واعتز بنو إسرائيل بهذا الرضاع والنسب من الملكة ، ولما كمل رضاعه أرسلت آسية إليها أن جيئيني بولدي ليوم كذا ، وأمرت خدمها ومن لها أن يلقينه بالتحف والهدايا واللباس ، فوصل إليها على ذلك وهو بخير حال وأجمل شباب ، فسرّت به ودخلت به على فرعون ليراه وليهبه فأعجبه وقرّبه ، فأخذ موسى بلحية فرعون وتقدم ما جرى له عند ذكر العقدة .

والعامل في { إِذَا } قال ابن عطية فعل مضمر تقديره ومننا إذ .

وقال الزمخشري العامل في { إِذْ تَمْشِى }{ ألقيت } أو تصنع ، ويجوز أن يكون بدلاً من { أُخْرَى إِذْ أَوْحَيْنَا }

فإن قلت : كيف يصح البدل والوقتان مختلفان متباعدان ؟

قلت : كما يصح وإن اتسع الوقت وتباعد طرفاه أن يقول لك الرجل لقيت فلاناً سنة كذا ، فتقول : وأنا لقيته إذ ذاك . وربما لقيه هو في أولها وأنت في آخرها انتهى . وليس كما ذكر لأن السنة تقبل الاتساع فإذا وقع لقيهما فيها بخلاف هذين الطرفين فإن كل واحد منهما ضيق ليس بمتسع لتخصصيهما بما أضيفا إليه فلا يمكن أن يقع الثاني في الطرف الذي وقع فيه الأول ، إذ الأول ليس متسعاً لوقوع الوحي فيه ووقوع مشي الأخت فليس وقت وقوع الوحي مشتملاً على أجزاء وقع في بعضها المشي بخلاف السنة . وقال الحوفي :{ إِذْ } متعلقة بتصنع ، ولك أن تنصب { إِذْ } بفعل مضمر تقديره واذكر .

وقرأ الجمهور { كَى تَقَرَّ } بفتح التاء والقاف . وقرأت فرقة بكسر القاف ، وتقدم أنهما لغتان في قوله { وَقَرّى عَيْناً}

وقرأ جناح بن حبيش بضم التاء وفتح القاف مبنياً للمفعول . و { قَتَلْتَ نَفْساً } هو القبطي الذي استغاثه عليه الإسرائيلي قتله وهو ابن اثنتي عشرة سنة ، واغتم بسبب القتل خوفاً من عقاب اللّه ومن اقتصاص فرعون ، فغفر اللّه له باستغفاره حين قال { رَبّ إِنّى ظَلَمْتُ نَفْسِى فَاغْفِرْ لِى } ونجاه من فرعون حين هاجر به إلى مدين والغمّ ما يغمّ على القلب بسبب خوف أو فوات مقصود ، والغمّ بلغة قريش القتل ،

وقيل : من غم التابوت .

وقيل : من غم البحر ، والظاهر أنه من غم القتل حين ذهبنا بك من مصر إلى مدين . والفتون مصدر جمع فتن أو فتنة على ترك الاعتداد بالتاء كحجوز وبدور في حجزة وبدرة أي { فتناك}

ضروباً من الفتن ، والفتنة المحنة وما يشق على الإنسان .

وعن ابن عباس خلصناك من محنة بعد محنة . ولد في عام كان يقتل فيه الولدان ، وألقته أمه في البحر وهمّ فرعون بقتله ، وقتل قبطياً وآجر نفسه عشر سنين وضل الطريق وتفرقت غنمه في ليلة مظلمة انتهى . وهذه الفتون اختبره بها وخلصه حتى صلح للنبوة وسلم لها والسنون التي لبثها في مدين عشر سنين . وقال وهب : ثمان وعشرون سنة منها مهر ابنته وبين مصر ومدين ثمان مراحل وفي الكلام حذف والتقدير { الْغَمّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً } فخرجت خائفاً إلى { أَهْلِ مَدْيَنَ } فلبثت سنين وكان عمره حين ذهب إلى مدين اثني عشر عاماً وأقام عشرة أعوام في رعي غنم شعيب ، ثم ثمانية عشر عاماً بعد بنائه بامرأته بنت شعيب ، وولد له فيها فكمل له أربعون سنة وهي المدة التي عادة اللّه إرسال الأنبياء على رأسها .

{ثُمَّ جِئْتَ } إلى المكان الذي ناجيتك فيه وكلمتك واستنبأتك .{ عَلَى قَدَرٍ } أي وقت معين قدّرته لم تتقدمه ولم تتأخر عنه .

وقيل على مقدار من الزمان يوحى إلى الأنبياء فيه وهو الأربعون . وقال الشاعر : نال الخلافة أو جاءت على قدركما أتى ربه موسى على قدر

٤١

واصطنعتك لنفسي

{وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِى } أي جعلتك موضع الصنيعة ومقر الإكمال والإحسان ، وأخلصتك بالألطاف واخترتك لمحبتي يقال : اصطنع فلان فلاناً اتخذه صنيعة وهو افتعال من الصنع وهو الإحسان إلى الشخص حتى يضاف إليه فيقال هذا صنيع فلان .

وقال الزمخشري : هذا تمثيل لما خوله من منزلة التقريب والتكريم والتكليم مثل حاله بحال من يراه الملوك بجميع خصال فيه وخصائص أهلاً لأن يكون أقرب منزلة إليه وألطف محلاً فيصطنعه بالكرامة والأثرة ويستخلصه لنفسه انتهى . ومعنى { لِنَفْسِى } أي لأوامري وإقامة حججي وتبليغ رسالتي ، فحركاتك وسكناتك لي لا لنفسك ولا لأحد غيرك .

٤٢

اذهب أنت وأخوك . . . . .

الونى : الفتور ، يقال : ونى يني وهو فعل لازم ، وإذا عُدِيَّ فبعن وبفي وزعم بعض البغداديين أنه يأتي فعلاً ناقصاً من أخوات ما زال وبمعناها ، واختاره ابن مالك وأنشد : لا يني الخب شيمة الحب

ما دام فلا تحسبنه ذا ارعواء

وقالوا : امرأة آناءة أي فاترة عن النهوض ، أبدلوا من واوها همزة على غير قياس . قال الشاعر :

فما أنا بالواني ولا الضرع الغمر

شت الأمر شتاً وشتاتاً تفرّق ، وأمر شتّ متفرّق ، وشتى فعلى من الشت وألفه للتأنيث جمع شتيت كمريض ومرضى ، ومعناه متفرقة ، وشتان اسم فاعل سحت : لغة الحجاز وأسحت لغة نجد وتميم ، وأصله استقصاء الحلق للشعر . وقال الفرزدق وهو تميمي : وعض زمان يا ابن مروان لم يك

من المال إلا مسحت أو محلق

ثم استعمل في الإهلاك والإذهاب . الخيبة : عدم الظفر بالمطلوب . الصف : موضع المجمع قاله أبو عبيدة ، وسمي المصلى الصف وعن بعض العرب الفصحاء ما استطعت أن آتي الصف أي المصلى ، وقد يكون مصدراً ويقال جاؤوا صفاً أي مصطفين . التخييل : إبداء أمر لا حقيقة له ، ومنه الخيال وهو الطيف الطارق في النوم . قال الشاعر :

ألا يا لقومي للخيال المشوق وللدار تنأى بالحبيب ونلتقي

{اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِئَايَاتِى وَلاَ تَنِيَا فِى ذِكْرِى اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى قَالاَ رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى قَالَ لاَ تَخَافَا إِنَّنِى مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولاَ رَبّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إِسْراءيلَ وَلاَ تُعَذّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِئَايَةٍ مّن رَّبّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ}

أمره اللّه تعالى بالذهاب إلى فرعون فلما دعا ربه وطلب منه أشياء كان

فيها أن يشرك أخاه هارون فذكر اللّه أنه آتاه سؤله وكان منه إشراك أخيه ، فأمره هنا وأخاه بالذهاب و { أَخُوكَ } معطوف على الضمير المستكن في { اذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ } في سورة المائدة وقول بعض النحاة ، أن { وَرَبُّكَ } مرفوع على إضمار فعل ، أي وليذهب ربك وذلك البحث جار هنا . وروي أن اللّه أوحى إلى هارون وهو بمصر أن يتلقى موسى .

وقيل : سمع بمقدمه .

وقيل : ألهم ذلك وظاهر { بِآيَاتِي } الجمع . فقيل : هي العصا ، واليد ، وعقدة لسانه .

وقيل : اليد ، والعصا . وقد يطلق الجمع على المثنى وهما اللتان تقدم ذكرهما ولذلك لما قال : فائت بآية ألقى العصا ونزع اليد ، وقال : فذانك برهانان .

وقيل العصا مشتملة على آيات انقلابها حيواناً ، ثم في أول الأمر كانت صغيرة ثم عظمت حتى صارت ثعباناً ، ثم إدخال موسى يده في فمها فلا تضرّه .

وقيل : ما أعطي من معجزة ووحي .

{وَلاَ } أي لا تضعفا ولا تقصرا .

وقيل : تنسياني ولا أزال منكما على ذكر حيثما تقلبتما ، ويجوز أن يراد بالذكر تبليغ الرسالة فإن الذكر يقع على سائر العبادات ، وتبليغ الرسالة من أجلها وأعظمها ، فكان جديراً أن يطلق عليه اسم الذكر .

وقرأ ابن وثاب : ولا تِنَيَا بكسر التاء اتّباعاً لحركة النون . وفي مصحف عبد اللّه ولا تهنا أي ولا تلنا من قولهم هين لين ،

٤٣

انظر تسفير الآية:٤٤

٤٤

اذهبا إلى فرعون . . . . .

ولما حذف من يذهب إليه في الأمر قبله نص عليه في هذا الأمر الثاني . فقيل : { ذِكْرِى اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ } أي بالرسالة وأبعد من ذهب إلى أنهما أمرا بالذهاب أولاً إلى الناس وثانياً إلى فرعون ، فكرر الأمر بالذهاب لاختلاف المتعلق ، ونبه على سبب الذهاب إليه بالرسالة من عنده بقوله { إِنَّهُ طَغَى } أي تجاوز الحد في الفساد ودعواه الربوبية والإلاهية من دون اللّه . والقول اللين هو مثل ما في النازعات { هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبّكَ فَتَخْشَى } وهذا من ليف الكلام إذ أبرز ذلك في صورة الاستفهام والمشورة والعرض لما فيه من الفوز العظيم .

وقيل : عداه شباباً لا يهرم بعده وملكاً لا ينزع منه إلا بالموت وأن يبقى له لذة المطعم والمشرب والمنكح إلى حين موته .

وقيل : لا تجبهاه بما يكره وألطفا له في القول لما له من حق تربية موسى .

وقيل : كنياه وهو ذو الكنى الأربع أبو مرة ، وأبو مصعب ، وأبو الوليد ، وأبو العباس .

وقيل : القول اللين لا إلاه إلا اللّه وحده لا شريك له ، ولِينها خفتها على اللسان . وقال الحسن : هو قولهما إن لك ربًّا وإن لك معاداً وإن بين يديك جنة وناراً فآمن باللّه يدخلك الجنة يقك عذاب النار .

وقيل : أمرهما تعالى أن يقدما المواعيد على الوعيد كما قال الشاعر : أقدم بالوعد قبل الوعيد

لينهى القبائل جهالها

وقيل : حين عرض عليه موسى وهارون عليهما السلام ما عرضا شاور آسية فقالت : ما ينبغي لأحد أن يرد هذا فشاور هامان وكان لا يبت أمراً دون رأيه ، فقال له : كنت أعتقد أنك ذو عقل تكون مالكاً فتصير مملوكاً ورباً فتصير مربوباً فامتنع من قبول ما عرض عليه موسى ، والترجي بالنسبة لهما إذ هو مستحيل وقوعه من اللّه تعالى أي اذهبا على رجائكما وطمعكما وباشرا الأمر مباشرة من يرجو ويطمع أن يثمر عمله ولا يخيب سعيه ، وفائدة إرسالهما مع علمه تعالى أنه لا يؤمن إقامة الحجة عليه وإزالة المعذرة كما

قال تعالى :{ وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مّن قَبْلِهِ } الآية .

وقيل : القول اللين ما حكاه اللّه هنا وهو { فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولاَ رَبّكَ إِلَى قَوْلُهُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى } وقال أبو معاذ :{ قَوْلاً لَّيّناً } وقال الفراء لعل هنا بمعنى كي أي كي يتذكر أو يخشى كما تقول : اعمل لعلك تأخذ أجرك ، أي كي تأخذ أجرك .

وقيل : لعل هنا استفهام أي هل يتذكر أو يخشى ، والصحيح أنها على بابها من الترجِّي وذلك بالنسبة إلى البشر وفي قوله { لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } دلالة على أنه لم يكن شاكاً في اللّه .

وقيل :

{يَتَذَكَّرُ } حاله حين احتبس النيل فسار إلى شاطئه وأبعد وخرَّ ساجداً للّه راغباً أن لا يخجله ثم ركب فأخذ النيل يتبع حافر فرسه فرجاً أن يتذكر حلم اللّه وكرمه وأن يحذر من عذاب اللّه .

وقال الزمخشري : أي { يَتَذَكَّرُ } ويتأمل فيبذل النصفة من نفسه والإذغان للحق {أَوْ يَخْشَى } أن يكون الأمر كما يصفان فيجره إنكاره إلى الهلكة .

٤٥

انظر تسفير الآية:٤٦

٤٦

قالا ربنا إننا . . . . .

فرط سبق وتقدم ومنه الفارط الذي يتقدم الواردة وفرس فرط تسبق الخيل انتهى . وقال الشاعر : واستعجلونا وكانوا من صحابتنا

كما تقدم فارط الوراد

وفي الحديث :  { أنا فرطكم على الحوض} .أي متقدمكم وسابقكم ، والمعنى إننا نخاف أن يعجل علينا بالعقوبة ويبادرنا بها .

وقرأ يحيى وأبو نوفل وابن محيصن في روايته { أَن يَفْرُطَ } مبنياً للمفعول أي يسبق في العقوبة ويسرع بها ، ويجوز أن يكون من الإفراط ومجاوزة الحد في العقوبة خافا أن يحمله حامل على المعاجلة بالعذاب من شيطان ، أو من جبروته واستكباره وادعائه الربوبية ، أو من حبه الرياسة ، أو من قومه القبط المتمرّدين الذين قال اللّه فيهم { قَالَ الْمَلاَ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ }{ وَقَالَ الْمَلاَ مِن قَوْمِهِ}

وقرأت فرقة والزعفراني عن ابن محيصن { يَفْرُطَ } بضم الياء وكسر الراء من الإفراط في الأذية {أَوْ أَن يَطْغَى } في التخطي إلى أن يقول فيك ما لا ينبغي تجرئة عليك وقسوة قلبه ، وفي المجيء به هكذا على سبيل الإطلاق والرمز باب من حسن الأدب والتجافي عن التفوه بالعظيمة .

والمعية هنا بالنصرة والعون أسمع أقوالكما وأرى أفعالكما .

وقال ابن عباس { أَسْمِعْ } جوابه لكما { وَأَرَى } ما يفعل بكما وهما كناية عن العلم

٤٧

فأتياه فقولا إنا . . . . .

{فَأْتِيَاهُ } كرر الأمر بالإتيان { فَقُولا إِنَّا رَسُولاَ رَبّكَ } وخاطباه بقولهما { رَبَّكَ } تحقيراً له وإعلاماً أنه مربوب مملوك إذ كان هو يدَّعي الربوبية . وأُمرا بدعوته إلى أن يبعث معهما بني إسرائيل ويخرجهم من ذل خدمة القبط وكانوا يعذبونهم بتكليف الأعمال الشاقة من الحفر والبناء ونقل الحجارة والسخرة في كل شيء مع قتل الولدان واستخدام النساء . وقد ذكر في غير هذه الآية دعاؤه إلى الإيمان فجملة ما دعى إليه فرعون الإيمان وإرسال بني إسرائيل .

ثم ذكرا ما يدل على صدقهما في إرسالهما إليه فقالا { قَدْ جِئْنَاكَ بِئَايَةٍ مّن رَّبّكَ } وتكرر أيضاً قولهما { مِن رَبّكَ } على سبيل التوكيد بأنه مربوب مقهور ، والآية التي أحالا عليها هي العصا واليد ، ولما كانا مشتركين في الرسالة صح نسبة المجيء بالآية إليهما وإن كانت صادرة من أحدهما .

وقال الزمخشري :{ قَدْ جِئْنَاكَ بِئَايَةٍ مّن رَّبّكَ } جارية من الجملة الأولى وهي { إِنَّا رَسُولاَ رَبّكَ } مجرى البيان والتفسير ، لأن دعوى الرسالة لا تثبت إلا ببينتها التي هي المجيء بالآية ، وإنما وحد بآية ولم يثن ومعه آيتان لأن المراد في هذا الموضع تثبيت الدعوى ببرهانها فكأنه قال : قد جئناك بمعجزة وبرهان وحجة على ما ادعيناه من الرسالة وكذلك { قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيّنَةٍ مّن رَّبّكُمْ }{ مَا أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا فَأْتِ }{أَوْ لَوْ جِئْتُكَ بِشَىء مُّبِينٍ } انتهى .

وقيل : الآية اليد .

وقيل : العصا ، والمعنى بآية تشهد لنا بأنا رسولا ربك . والظاهر أن قوله { وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى } فصل للكلام ، فالسلام بمعنى التحية رغباً به عنه وجرياً على العادة في التسليم عند الفراغ من القول ، فسلما على متبعي الهدى وفي هذا توبيخ له . وفي هذا المعنى استعمل الناس هذه الآية في مخاطباتهم ومحاوراتهم .

وقيل : هو مدرج متصل بقوله { إِنَّا قَدْ أُوحِىَ إِلَيْنَا } فيكون إذ ذاك خبراً بسلامة المهتدين من العذاب .

وقيل { عَلَىَّ } بمعنى اللام أي والسلامة { لِمَنِ اتَّبَعَكَ الْهُدَى}

وقال الزمخشري : وسلام الملائكة الذين هم خزنة الجنة على المهتدين ، وتوبيخ خزنة النار والعذاب على المكذبين انتهى . وهو تفسير غريب .

وقد يقال : السلام هنا السلامة من العذاب بدليل قوله { إِنَّا قَدْ أُوحِىَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى}

٤٨

إنا قد أوحي . . . . .

وبنيْ { أُوحِىَ } لما لم يسم فاعله ، ولم يذكر الموحى لأن فرعون كانت له بادرة فربما صدر منه في حق الموحى ما لا يليق به ، والمعنى على من كذب الأنبياء وتولى عن الإيمان .

وقال ابن عباس هذه أرجى آية في القرآن لأن المؤمن ما كذب وتولى فلا يناله شيء من العذاب . وفي الكلام حذف تقديره فأتيا فرعون وقالا له ما أمرهما اللّه أن يبلغاه قال

٤٩

قال فمن ربكما . . . . .

{فَمَن رَّبُّكُمَا يامُوسَى مُوسَى } خاطبهما معاً وأفرد بالنداء موسى .

قال ابن عطية : إذ كان صاحب عظم الرسالة وكريم الآيات .

وقال الزمخشري لأنه الأصل في النبوة وهارون وزيره وتابعه ، ويحتمل أن يحمله خبثه وذعارته على استدعاء كلام موسى دون كلام أخيه لما عرف من فصاحة هارون والرتة في لسان موسى ، ويدل عليه قوله { أَمْ أَنَا خَيْرٌ مّنْ هَاذَا الَّذِى هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ } انتهى .

واستبد موسى عليه السلام بجواب فرعون من حيث خصه بالسؤال والنداء معاً ثم أعلمه من صفات اللّه تعالى بالصفة التي لا شرك لفرعون فيها ولا حيث خصه بالسؤال والنداء معاً

٥٠

قال ربنا الذي . . . . .

ثم أعلمه من صفات اللّه تعالى بالصفة التي لا شرك لفرعون فيها ولا بوجه مجاز .

قال الزمخشري : وللّه در هذا الجواب ما أخصره وما أجمعه وما أبينه لمن ألقى الذهن ونظر بعين الإنصاف وكان طالباً للحق انتهى . والمعنى أعطى كل ما خلق خلقته وصورته على ما يناسبه من الإتقان لم يجعل خلق الإنسان في خلق البهائم ، ولا خلق البهائم في خلق الإنسان ولكن خلق كل شيء فقدره تقديراً . وقال الشاعر : وله في كل شيء خلقة

وكذلك اللّه ما شاء فعل

وهذا قول مجاهد وعطية ومقاتل وقال الضحاك { خلقة } من المنفعة المنوطة به المطابقة له { خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } أي يسر كل شيء لمنافعه ومرافقه ، فأعطى العين الهيئة التي تطابق الإبصار ، والأذن الشكل الذي يوافق الاستماع ، وكذلك الأنف واليد والرجل واللسان كل واحد منها مطابق لما علق به من المنفعة غير ناب عنه . قال القشيري : والخلق المخلوق لأن البطش والمشي والرؤية والنطق معان مخلوقة أودعها اللّه للأعضاء ، وعلى هذا مفعول { أَعْطَى } الأول { كُلّ شَىْء } والثاني { خَلَقَهُ } وكذا في قول ابن عباس وابن جبير والسدّي وهو أن المعنى { أَعْطَى كُلَّ شَىء } مخلوقه من جنسه أي كل حيوان ذكر نظيره أنثى في الصورة . فلم يزاوج منهما غير جنسه ثم هداه إلى منكحه ومطعمه ومشربه ومسكنه .

وعن ابن عباس أنه هداه إلى إلفه والاجتماع به والمناكحة . وقال الحسن وقتادة { أَعْطَى كُلَّ شَىء } صلاحه وهداه لما يصلحه .

وقيل { كُلّ شَىْء } هو المفعول الثاني لأعطى و { خَلَقَهُ } المفعول الأول أي { أَعْطَى } خليقته { كُلّ شَىْء } يحتاجون إليه ويرتفقون به .

وقرأ عبد اللّه وأناس من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأبو نهيك وابن أبي إسحاق والأعمش والحسن ونصير عن الكسائي وابن نوح عن قتيبة وسلام خَلَقَهُ بفتح اللام فعلاً ماضياً في موضع الصفة لكل شيء أو لشيء ، ومفعول { أَعْطَى } الثاني حذف اقتصاراً أي { كُلَّ شَىء خَلْقَهُ } لم يخله من عطائه وإنعامه { ثُمَّ هَدَى } أي عرف كيف يرتفق بما أعطى وكيف يتوصل إليه .

وقيل : حذف اختصاراً لدلالة المعنى عليه ، أي { أَعْطَى كُلَّ شَىء خَلْقَهُ } ما يحتاج إليه وقدره ابن عطية كماله أو مصلحته .

٥١

قال فما بال . . . . .

{قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الاْولَى} لما أجابه موسى بجواب مسكت ، ولم يقدر فرعون على معارضته فيه انتقل إلى سؤال آخر وهو ما حال من هلك من القرون ، وذلك على سبيل الروغان عن الاعتراف بما قال موسى وما أجابه به ، والحيدة والمغالطة . قيل : سأله عن أخبارها وأحاديثها ليختبر أهما نبيان أو هما من جملة القصاص الذين دارسوا قصص الأمم السالفة ، ولم يكن عنده عليه السلام علم بالتوراة إنما أنزلت عليه بعد هلاك فرعون فقال { عِلْمُهَا عِندَ رَبّى}

وقيل : مراده من السؤال عنها لم عبدت الأصنام ولم تعبد اللّه إن كان الحق ما وصفت ؟

وقيل : مراده ما لها لا تبعث ولا تحاسب ولا تُجَازَى

٥٢

قال علمها عند . . . . .

فقال { عِلْمُهَا عِندَ رَبّى } فأجابه بأن هذا سؤال عن

الغيب وقد استأثر اللّه به لا يعلمه إلاّ هو . وقال النقاش : إنما سأل لما سمع وعظ مؤمن آل فرعون { ءامَنَ ياقَوْمِ إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ مّثْلَ يَوْمِ الاْحْزَابِ } الآية فرد علم ذلك إلى اللّه لأنه لم يكن نزلت عليه التوراة .

وقيل لما قال { إِنَّا قَدْ أُوحِىَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى } قال فرعون { فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الاْولَى } فإنها كذبت ثم إنهم ما عذبوا .

وقيل : لما قرر أمر المبدأ والدلالة القاطعة على إثبات الصانع قال فرعون : إن كان ما ذكرت في غاية الظهور فما بال القرون الأولى نسوه وتركوه ، فلو كانت الدلالة واضحة وجب على القرون الماضية أن لا يكونوا غافلين عنها . فعارض الحجة النقلية ، ويجوز أن يكون فرعون قد نازعه في إحاطة اللّه بكل شيء وتبينه لكل معلوم فتعنت وقال : ما تقول في سوالف القرون وتمادي كثرتهم وتباعد أطراف عددهم ، كيف أحاط بهم وبأجزائهم وجواهرهم ، فأجاب بأن كل كائن محيط به علمه وهو مثبت عنده { فِى كِتَابِ } ولا يجوز عليه الخطأ والنسيان كما يجوز عليك أيها العبد الذليل والبشر الضئيل ، أي { لاَّ يَضِلُّ } كما تضل أنت { وَلاَ يَنسَى } كما تنسى يا مدّعي الربوبية بالجهل والوقاحة قاله الزمخشري .

والظاهر عود الضمير في { عِلْمُهَا } إلى { الْقُرُونِ الاْولَى } أي مكتوب عند ربي في اللوح المحفوظ لا يجوز عليه أن يخطىء شيئاً أو ينساه ، يقال : ضللت الشيء إذا أخطجته ف مكانه ، وضللته لغتان فلم يهتد إليه كقولك : ضللت الطريق والمنزل ولا يقال أضللته إلاّ إذا ضاع منك كالدابة إذا انفلتت وشبهها قاله الفراء . وقال الزجاج : ضللته أضله إذا جعلته في مكان ولم تدر أين هو ، وأضللته والكتاب هنا اللوح المحفوظ .

وقيل { فِى كِتَابِ } فيما كتبته الملائكة من أحوال البشر .

وقيل : الضمير في { عِلْمُهَا } عائد على القيامة لأنه سأله عن بعث الأمم . وقال السدّي { لاَّ يَضِلُّ } لا يغفل . وقال ابن عيسى { لاَّ يَضِلُّ } لا يذهب عليه تقول العرب ضل منزله بغير ألف . وفي الحيوان أضل بعيره بالألف .

وقيل : التقدير { لاَّ يَضِلُّ رَبّى } الكتاب { وَلاَ يَنسَى } ما فيه قاله مقاتل . وقال القفال { لاَّ يَضِلُّ } عن معرفة الأشياء فيحيط بكل المعلومات { وَلاَ يَنسَى } إشارة إلى بقاء ذلك العلم أبد الآباد على حاله لا يتغير . وقال الحسن : لا يخطىء وقت البعث ولا ينساه .

وقال مجاهد : معنى الجملتين واحد وهو إشارة إلى أنه لا يعرض في علمه ما يغيره . وقال ابن جرير : لا يخطىء في التدبير فيعتقد في غير الصواب صواباً وإذا عرفه لا ينساه ، وقال أبو عبد اللّه الرازي : علم اللّه صفة قائمة به ولا تكون حاصلة في الكتاب لأن ذلك لا يعقل ، فالمعنى أن بقاء تلك المعلومات في علمه كبقاء المكتوبات في الكتاب ، فالغرض التوكيد بأن أسرارها معلومة له لا يزول شيء منها ، ويتأكد هذا بقوله { لاَّ يَضِلُّ رَبّى وَلاَ يَنسَى } أو المعنى أنه أثبت تلك الأحكام في كتاب عنده يظهر للملائكة مزيادة لهم في الاستدلال على أنه عالم بكل المعلومات منزه عن السهو والغفلة انتهى . وفيه بعض تلخيص .

وقرأ الحسن وقتادة والجحدري وحماد بن سلمة وابن محيصن وعيسى الثقفي لا يُضِلُّ بضم الياء أي { لاَّ يَضِلُّ } اللّه ذلك الكتاب فيضيع { وَلاَ يَنسَى } ما أثبته فيه .

وقرأ السلمي لا يُضِلُّ ربِيَ ولا يُنْسَى مبنيتين للمفعول ، والظاهر أن الجملتين استئناف وإخبار عنه تعالى بانتفاء هاتين الصفتين عنه .

وقيل : هما في موضع وصف لقوله { فِى كِتَابِ } والضمير العائد على الموصوف محذوف أي لا يضله ربي ولا ينساه . والظاهر أن الضمير في { وَلاَ يَنسَى } عائد على اللّه .

وقيل : يحتمل أن يعود على { كِتَابٌ } أي لا يدع شيئاً فالنسيان استعارة كما قال { إِلاَّ أَحْصَاهَا } فأسند الإحصاء إليه من حيث الحصر فيه ،

وعن ابن عباس لا يترك من كفر به حتى ينتقم منه ولا يترك من وحده حتى يجازيه .

٥٣

الذي جعل لكم . . . . .

ولما ذكر موسى دلالته على ربوبية اللّه تعالى وثم كلامه عند قوله { وَلاَ يَنسَى } ذكر تعالى ما نبه به على قدرته تعالى ووحدانيته ، فأخبر عن نفسه بأنه تعالى هو الذي صنع كيت وكيت ، وإنما ذهبنا إلى أن هذا هو من كلام اللّه تعالى لقوله تعالى { فَأَخْرَجْنَا } وقوله

٥٤

كلوا وارعوا أنعامكم . . . . .

{كُلُواْ وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ } وقوله { وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ } فيكون قوله { فَأَخْرَجْنَا } و { أَرَيْنَاهُ } التفاتاً من الضمير الغائب في { أعل } وسلك إلى ضمير المتكلم لمعظم نفسه ، ولا يكون الالتفات من قائلين وأبعد من ذهب إلى أن الذي نعت لقوله { إِنَّهُ رَبّى } فيكون في موضع رفع أو يكون في موضع نصب على المدح وقالهما الحوفي والزمخشري لكونه كان يكون كلام موسى فلا يتأتى الالتفات في قوله { فَأَخْرَجْنَا }{ وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ}

و

قال ابن عطية : يحتمل أن يكون { فَأَخْرَجْنَا } من كلام موسى حكاية عن اللّه تعالى على تقدير يقول عز وجل { فَأَخْرَجْنَا } ويحتمل أن يكون كلام موسى تم عند قوله { وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء } ثم وصل اللّه كلام موسى بإخباره لمحمد صلى اللّه عليه وسلم والمراد بالخطاب في لكم الخلق أجمع نبههم على هذه الآيات .

وقرأ الأعمش وطلحة وابن أبي ليلى وعاصم وحمزة والكسائي { مِهَاداً } بفتح الميم وإسكان الهاء ، وباقي السبعة مهاداً وكذا في الزخرف فقال المفضل : مصدران مهد مهداً ومهاداً . وقال أبو عبيد : مهاد اسم ، ومهد الفعل يعني المصدر . وقال آخر { مِهَاداً } مفرد ومهاد جمعه ، ومعنى ذلك أنه تعالى جعلها لهم يتصرفون عليها في جميع أحوالهم ومنافعهم ، ونهج لكم فيها طرقاً لمقاصدكم حتى لا تتعذر عليكم مصالحكم . والضمير في { بِهِ } عائد على الماء أي بسببه .

{أَزْواجاً } أي أصنافاً وهذا الالتفات في أخرجنا كهو في قوله { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّه أنَزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا }{ أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا }{ وَهُوَ الَّذِى أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلّ شَىْء } وفي هذا الالتفات تخصيص أيضاً بأنا نحن نقدر على مثل هذا ، ولا يدخل تحت قدرة أحد والأجود أن يكون { شَتَّى } في موضع نصب نعتاً لقوله { أَزْواجاً } لأنها المحدث عنها .

وقال الزمخشري : يجوز أن يكون صفة للنبات ، والنبات مصدر سُمِّيَ به النابت كما سُمِّيَ بالنبت فاستوى فيه الواحد والجمع ، يعني أنها { شَتَّى } مختلفة النفع والطعم واللون والرائحة والشكل ، بعضها يصلح للناس وبعضها للبهائم .

قالوا : من نعمته عز وجل أن أرزاق العباد إنما تحصل بعمل الأنعام وقد جعل اللّه علفها مما يفضل عن حاجتهم ولا يقدرون على أكله { كُلُواْ وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ } أمر إباحة معمول لحال محذوفة أي { فَأَخْرَجْنَا } قائلين أي آذنين في الانتفاع بها ، مبيحين أن تأكلوا بعضها وتعلفوا بعضها ، عُدِيّ هنا { وَارْعَوْا } ورعى يكون لازماً ومتعدياً تقول : رعت الدابة رعياً ، ورعاها صاحبها رعاية إذا سامها وسرحها وأراحها قاله الزجاج . وأشار بقوله { إِنَّ فِى ذَلِكَ } للآيات السابقة من جعل الأرض مهداً وسلك سبلها وإنزال الماء وإخراج النبات . وقالوا { النُّهَى } جمع نهية وهو العقل سُمِّيَ بذلك لأنه ينهى عن القبائح ، وأجاز أبو علي أن يكون مصدراً كالهدي .

٥٥

منها خلقناكم وفيها . . . . .

والضمير في { مِنْهَا } يعود على الأرض ، وأراد خلق أصلهم آدم .

وقيل : ينطلق الملك إلى تربة المكان الذي يدفن فيه من يخلق فيبددها على النطفة فيخلق من التراب والنطفة معاً قاله عطاء الخراساني .

وقيل : من الأغذية التي تتولد من الأرض فيكون ذلك تنبيهاً على ما تولدت منها الأخلاط المتولد منها الإنسان فهو من باب مجاز المجاز { وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ } أي بالدفن بها أو بالتمزيق عليها { وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً } بالبعث { تَارَةً } مرة { أُخْرَى } يؤلف أجزاءهم المتفرقة ويردّهم كما كانوا أحياء . وقوله { أُخْرَى } أي إخراجة أخرى لأن معنى قوله { مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ } أخرجناكم .

٥٦

ولقد أريناه آياتنا . . . . .

{وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ ءايَاتِنَا كُلَّهَا } هذا إخبار من اللّه تعالى لمحمد صلى اللّه عليه وسلم ، وهذا يدل على أن قوله { فَأَخْرَجْنَا } إنما هو خطاب له عليه السلام { وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ } هي المنقولة

من رأى البصرية ، ولذلك تعدت إلى اثنين بهمزة النقل و { ءايَاتِنَا } ليس عاماً إذ لم يره تعالى جميع الآيات ، وإنما المعنى آياتنا التي رآها ، فكانت الإضافة تفيد ما تفيده الألف واللام من العهد . وإنما رأى العصا واليد والطمسة وغير ذلك مما رآه فجاء التوكيد بالنسبة لهذه الآيات المعهودة .

وقيل : المعنى آيات بكمالها وأضاف الآيات إليه على حسب التشريف كأنه قال آيات لنا .

وقيل : يكون موسى قد أراه آياته وعدد عليه ما أوتي غيره من الأنبياء من آياتهم ومعجزاتهم ، وهو نبي صادق لا فرق بين ما يخبر عنه وبين ما يشاهد به { فَكَذَّبَ بِهَا } جميعاً{ وَأَبَى } أن يقبل شيئاً منها انتهى . وقاله الزمخشري وفيه بعد لأن الإخبار بالشيء لا يسمى رؤية إلا بمجاز بعيد .

وقيل :{ أَرَيْنَاهُ } هنا من رؤية القلب لا من رؤية العين ، لأنه ما كان أراه في ذلك الوقت إلا العصا واليد البيضاء أي ولقد أعلمنا { كُلَّهَا فَكَذَّبَ } هي الآيات التسع . قيل : ويجوز أن يكون أراد بالآيات آيات توحيده التي أظهرها لنا في ملكوت السموات والأرض فيكون من رؤية العين . وقال ابن عطية وأُبيّ : يقتضي كسب فرعون وهذا الذي يتعلق به الثواب والعقاب ، ومتعلق التكذيب محذوف فالظاهر أنه الآيات واحتمل أن يكون التقدير { فَكَذَّبَ } موسى { وَأَبَى } أن يقبل ما ألقاه إليه من رسالته .

قيل : ويجوز أن يكون أراد وكذب أنها من آيات اللّه وقال : من سحر ،

٥٧

قال أجئتنا لتخرجنا . . . . .

ولهذا { قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يامُوسَى مُوسَى } ويبعد هذا القول قوله { لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ بَصَائِرَ } وقوله { وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً } فيظهر أنه كذب لظلمه لا أنه التبس عليه أنها آيات سحر . وفي قوله { أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا } وهن ظهر منه كثير واضطراب لما جاء به موسى إذ علم أنه على الحق وأنه غالبه على ملكه لا محالة ، وذكر علة المجيء وهي إخراجهم وألقاها في مسامع قومه ليصيروا مبغضين له جداً إذ الإخراج من الموطن مما يشق وجعله اللّه مساوياً للقتل في قوله { أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُمْ } وقوله { بِسِحْرِكَ } تعلل وتحير لأنه لا يخفى عليه أن ساحراً لا يقدر أن يخرج ملك مثله من أرضه ويغلبه على ملكه بالسحر ، وأورد ذلك على سبيل الشبهة الطاعنة في النبوة ، وأن المعجز إنما يتميز عن السحر بكون المعجز مما تتعذر معارضته

٥٨

انظر تسفير الآية:٥٩

٥٩

فلنأتينك بسحر مثله . . . . .

فقال { فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مّثْلِهِ } ويدل على أن أمر موسى عليه السلام كان قد قَوِيَ وكثر منعته من بني إسرائيل ووقع أمره في نفوس الناس ، إذ هي مقالة من يحتاج إلى الحجة لا من يصدع بأمر نفسه ، وأرضهم هي أرض مصر وخاطبه بقوله { بِسِحْرِكَ } لأن الكلام كان معه والعصا واليد إنما ظهرنا من قبله { فَلَنَأْتِيَنَّكَ } جواب لقسم محذوف ، أوهم الناس أن ما جاء به موسى إنما هو من باب السحر وأن عنده من يقاومه في ذلك ، فطلب ضرب موعد للمناظرة بالسحر . والظاهر أن { مَّوْعِدًا } هنا هو زمان أي فعين لنا وقت اجتماع ولذلك أجاب بقوله { قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزّينَةِ } ومعنى { لاَّ نُخْلِفُهُ } أي لا نخلف ذلك الوقت في الاجتماع فيه وقدره بعضهم مكاناً معلوماً وينبوعه قوله { مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزّينَةِ}

وقال القشيري : الأظهر أنه مصدر ولذلك قال { لاَّ نُخْلِفُهُ } أي ذلك الموعد والإخلاف أن يعد شيئاً ولا ينجزه .

وقال الزمخشري : إن جعلته زماناً نظراً في قوله { مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزّينَةِ } مطابق له لزمك شيئان أن نجعل الزمان مخلفاً وأن يعضل عليك ناصب { مَكَاناً } وإن جعلته مكاناً لقوله { مَكَاناً } لزمك أيضاً أن يقع الإخلاف على المكان وأن لا يطابق قوله { قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزّينَةِ } وقراءة الحسن غير مطابقة له { مَكَاناً } جميعاً لأنه قرأ { يَوْمُ الزّينَةِ } بالنصب فبقي أن يجعل مصدراً بمعنى الوعد ، ويقدر مضاف محذوف أي مكان موعد . ويجعل الضمير في { نُخْلِفُهُ } و { مَكَاناً } بدل من المكان المحذوف .

فإن قلت : كيف طابقته قوله { مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزّينَةِ } ولا بد من أن تجعله زماناً والسؤال واقع عن المكان لا عن الزمان ؟

قلت : هو مطابق معنى وإن لم يطابق لفظاً لأنه لا بد لهم

من أن يجتمعوا يوم الزينة في مكان بعينه مشتهراً باجتماعهم فيه في ذلك اليوم ، فبذكر الزمان علم المكان .

وأما قراءة الحسن فالموعد فيها مصدر لا غير ، والمعنى إنجاز وعدكم يوم الزينة وطابق هذا أيضاً من طريق المعنى ، ويجوز أن يقدر مضاف محذوف ويكون المعنى اجعل { بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ } وعداً{ لاَّ نُخْلِفُهُ }

فإن قلت : فبم ينتصب { مَكَاناً } ؟

قلت : بالمصدر أو بفعل يدل عليه المصدر ،

فإن قلت : كيف يطابقه الجواب ؟

قلت : أما على قراءة الحسن فظاهر ،

وأما على قراءة العامة فعلى تقدير وعدكم وعد يوم الزينة .

ويجوز على قراءة الحسن أن يكون { مَوْعِدُكُمْ } مبتدأ بمعنى الوقت و { ضُحًى } خبره على نية التعريف فيه لأنه قد وصف قبل العمل بقوله { لاَّ نُخْلِفُهُ } وهو موصول ، والمصدر إذا وصف قبل العمل لم يجز أن يعمل عندهم . وقوله و { ضُحًى } خبره على نية التعريف فيه ، لأنه ضحى ذلك اليوم بعينه ، هو وإن كان ضحى ذلك اليوم بعينه ليس على نية التعريف بل هو نكرة ، وإن كان من يوم بعينه لأنه ليس معدولاً عن الألف واللام كسحر ولا هو معرف بالإضافة . ولو

قلت : جئت يوم الجمعة بكراً لم ندع أن بكراً معرفة وإن كنا نعلم أنه من يوم بعينه .

وقرأ أبو جعفر وشيبة لا نَخلُفْهُ بجزم الفاء على أنه جواب الأمر .

وقرأ الجمهور برفعها صفة لموعد . وقال الحوفي { مَّوْعِدًا } مفعول اجعل { مَكَاناً } طرف العامل فيه اجعل . وقال أبو علي { مَّوْعِدًا } مفعول أولا لأجعل و { مَكَاناً } مفعول ثان ، ومنع أن يكون { مَكَاناً } معمولاً لقوله { مَّوْعِدًا } لأنه قد وصف .

قال ابن عطية : وهذه الأسماء العاملة عمل الفعل إذا نعتت أو عطف عليها أو أخبر عنها أو صغرت أو جمعت وتوغلت في الأسماء كمثل هذا لم تعمل ولا يعلق بها شيء هو منها ، وقد يتوسع في الظروف فيعلق بعد ما ذكرنا لقوله عز وجل { يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللّه أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ } فقوله إذ متعلق بقوله لمقت . وهو قد أخبر عنه وإنما جاز هذا في الظروف خاصة ومنع قوم أن يكون { مَكَاناً } نصباً على المفعول الثاني لنخلفه ، وجوزه جماعة من النحاة ووجهه أن يتسع في أن يحلف الموعد انتهى . وقوله إذا نعت هذا ليس مجمعاً عليه في كل عامل عمل الفعل ، ألا ترى اسم الفاعل العاري عن أل إذا وصف قبل العمل في إعماله خلاف البصريون يمنعون والكوفيون يجوزون ، وكذلك أيضاً إذا صغر في إعماله خلاف ،

وأما إذا جمع فلا يعلم خلاف في جواز إعماله ،

وأما المصدر إذا جمع ففي جواز إعماله خلاف ،

وأما استثناؤه من المعمولات الظروف فغيره يذهب إلى منع ذلك مطلقاً في المصدر ، وينصب إذ بفعل يقدر بما قبله أي مقتكم إذ تدعون .

{وَلا أَنتَ } معطوف على الضمير المستكن في { تُخْلَفَهُ } المؤكد بقوله { نَحْنُ}

وقرأ ابن عامر وحمزة وعاصم ويعقوب والحسن وقتادة وطلحة والأعمش وابن أبي ليلى وأبو حاتم وابن جرير { سُوًى } بضم السين منوناً في الوصل .

وقرأ باقي السبعة بكسرها منوناً في الوصل .

وقرأ الحسن أيضاً } سُوى } بضم السين من غير تنوين في الحالين أجرى الوصل مجرى الوقف لا أنه منعه الصرف لأن فعلاً من الصفات متصرف كحطم ولبد .

وقرأ عيسى سِوَى بكسر السين من غير تنوين في الحالين أجرى الوصل أيضاً مجرى الوقف ، ومعنى بضم السين من غير تنوين في الحالين أجرى الوصل مجرى الوقف لا أنه منعه الصرف لأن فعلاً من الصفات متصرف كحطم ولبد .

وقرأ عيسى سِوَى بكسر السين من غير تنوين في الحالين أجرى الوصل أيضاً مجرى الوقف ، ومعنى { سُوًى } أي عدلاً ونصفة . قال أبو علي : كأنه قال قربه منكم قربه منا . وقال غيره : إنما أراد أن حالنا فيه مستوية فيعم ذلك القرآن ، وأن تكون المنازل فيه واحدة في تعاطي الحق لا تعترضكم فيه الرئاسة وإنما يقصد الحجة . وعن مجاهد وهو من الاستواء لأن المسافة من الوسط إلى الطرفين مستوية لا تفاوت فيها ، وهذا معنى ما تقدم من قول أبي عليّ قربه منكم قربه منا . وقال الأخفش { سُوًى } مقصور إن كسرت سينه أو ضممت ، وممدود إن فتحتها ثلاث لغات ويكون فيها جميعاً بمعنى غير وبمعنى عدل ، ووسط بين الفريقين . وقال الشاعر : وإن أبانا كان حل بأهله سوى

بين قيس قيس غيلان والفزر

قال : وتقول مررت برجل سواك وسواك وسواك أي غيرك ، ويكون للجميع وأعلى هذه اللغات الكسر قاله النحاس . وقالت فرقة : معنى { مَكَاناً سُوًى } مستوياً من الأرض أي لا وَعر فيه ، ولا جبل ، ولا أكمة ، ولا مطمئن من الأرض بحيث يسير ناظر أحد فلا يرى مكان موسى والسحرة وما يصدر عنهما ، قال ذلك واثقاً من غلبة السحرة لموسى فإذا شاهدوا غلبهم إياه رجعوا عما كانوا اعتقدوا فيه . وقالت فرقة : معناه مكاناً سوى : مكاننا هذا وليس بشيء لأن سوى إذا كانت بمعنى غير لا تستعمل إلا مضافة لفظاً ولا تقطع عن الإضافة .

وقرأ الحسن والأعمش وعاصم في رواية وأبو حيوة وابن أبي عبلة وقتادة والجحدري وهبيرة والزعفراني يوم الزينة بنصب الميم وتقدم تخريج هذه القراءة في كلام الزمخشري وروي أن { يَوْمُ الزّينَةِ } كان عيداً لهم ويوماً مشهوداً وصادف يوم عاشوراء ، وكان يوم سبت .

وقيل : هو يوم كسر الخليج الباقي إلى اليوم .

وقيل : يوم النيروز وكان رأس سنتهم .

وقيل : يوم السبت فإنه يوم راحة ودعة .

وقيل : يوم سوق لهم .

وقيل : يوم عاشوراء .

وقرأ ابن مسعود والجحدري وأبو عمران الجوني وأبو نهيك وعمرو بن فايد وأن تحشر بتاء الخطاب أي يا فرعون وروي عنهم بالياء على الغيبة ، والناس نصب في كلتا القراءتين . قالصاحب اللوامح { وَأَن يُحْشَرَ } الحاشر { النَّاسُ ضُحًى } فحذف الفاعل للعلم به انتهى . وحذف الفاعل في مثل هذا لا يجوز عند البصريين . وقال غيره { وَأَن يُحْشَرَ } القوم قال ويجوز أن يكون فيه ضمير فرعون ذكره بلفظ الغيبة ، إما على العادة التي تخاطب بها الملوك أو خاطب القوم لقوله { مَوْعِدُكُمْ } وجعل { يُحْشَرُ } لفرعون ويجوز أن يكون { وَأَن يُحْشَرَ } في موضع رفع عطفاً على { يَوْمُ الزّينَةِ } وأن يكون في موضع جر عطفاً على { الزّينَةِ } وانتصب { ضُحًى } على الظرف وهو ارتفاع النهار ، ويؤنث ويذكر والضحاء بفتح الضاد ممدود مذكر وهو عند ارتباع النهار الأعلى ، وإنما واعدهم موسى ذلك اليوم ليكون علو كلمة اللّه وظهور دينه وكبت الكافر وزهوق الباطل على رؤوس الأشهاد ، وفي المجمع الغاص لتقوى رغبة من رغب في اتباع الحق ، ويكل حد المبطلين وأشياعهم ويكثر المحدث بذلك الأمر العلم في كل بدو وحضر ، ويشيع في جميع أهل الوبر والمدر . والظاهر أن قوله { قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزّينَةِ } من كلام موسى عليه السلام لأنه جواب لقول فرعون { فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً } ولأن تعيين اليوم إنما يليق بالمحق الذي يعرف اليد له لا المبطل الذي يعرف أنه ليس معه إلا التلبيس . ولقوله { مَوْعِدُكُمْ } وهو خطاب للجميع ، وأبعد من ذهب إلى أنه من كلام فرعون .

٦٠

فتولى فرعون فجمع . . . . .

{فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ } أي معرضاً عن قبول الحق أو { تَوَلَّى } ذلك الأمر بنفسه أو فرجع إلى أهله لاستعداد مكايده ، أو أدبر على عادة المتواعدين أن يولي كل واحد منهما صاحبه ظهره إذا افترقا . أقوال { فَجَمَعَ كَيْدَهُ } أي ذوي كيده وهم السحرة . وكانوا عصابة لم يخلق اللّه أسحر منها { ثُمَّ أَتَى } للموعد الذي كانوا تواعدوه . وأتى موسى أيضاً بمن معه من بني إسرائيل

٦١

قال لهم موسى . . . . .

قال لهم موسى { وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى اللّه كَذِباً } وتقدم تفسير ويل في سورة البقرة ، خاطبتهم خطاب محذر وندبهم إلى قول الحق إذ رأوه وأن لا يباهتوا بكذب . وعن وهب لما قال للسحرة { وَيْلَكُمْ } قالوا ما هذا بقول ساحر { فَيُسْحِتَكُم } يهلككم ويستأصلكم ، وفيه دلالة على عظم الافتراء وأنه يترتب عليه هلاك الاستئصال ، ثم ذكر أنه لا يظفر بالبغية ولا ينجح طلبه { مَنِ افْتَرَى } على اللّه الكذب .

٦٢

فتنازعوا أمرهم بينهم . . . . .

ولما سمع السحرة منه هذه المقالة هالهم ذلك ووقعت في نفوسهم مهابته { فَتَنَازَعُواْ أَمْرَهُمْ } أي تجاذبوه والتنازع يقتضي الاختلاف .

وقرأ حمزة والكسائي وحفص والأعمش وطلحة وابن جرير { فَيُسْحِتَكُم } بضم الياء وكسر الحاء من أسحت رباعياً .

وقرأ باقي السبعة ورويس وابن عباعي بفتحهما من سحت ثلاثياً . وإسرارهم النجوى خيفة من فرعون أن يتبين فيهم ضعفاً لأنهم لم يكونوا مصممين على غلبة موسى بل كان ظناً من بعضهم .

وعن ابن عباس أن نجواهم إن غلبنا موسى اتبعناه ، وعن قتادة إن كان ساحراً فسنغلبه ، وإن كان من السماء فله أمر .

وقال الزمخشري : والظاهر أنهم تشاوروا في السر وتجاذبوا أهداب

القول ، ثم { قَالُواْ إِنْ هَاذانِ لَسَاحِرانِ } فكانت نجواهم في تلفيق هذا الكلام وتزويره خوفاً من غلبتهما وتثبيطاً للناس من اتباعهما انتهى .

٦٣

قالوا إن هذان . . . . .

وحكى ابن عطية قريباً من هذا القولعن فرقة قالوا : إنما كان تناجيهم بالآية التي بعد هذا { إِنْ هَاذانِ لَسَاحِرانِ } والأظهر أن تلك قيلت علانية ، ولو كان تناجيهم ذلك لم يكن ثم تنازع .

وقرأ أبو جعفر والحسن وشيبة والأعمش وطلحة وحميد وأيوب وخلف في اختياره وأبو عبيد وأبو حاتم وابن عيسى الأصبهاني وابن جرير وابن جبير الأنطاكي والأخوان والصاحبان من السبعة إنّ بتشديد النون { هَاذَانِ } بألف ونون خفيفة { لَسَاحِرانِ } واختلف في تخريج هذه القراءة . فقال القدماء من النحاة إنه على حذف ضمير الشأن والتقدير إنه هذان لساحران ، وخبر { ءانٍ } الجملة من قوله { هَاذانِ لَسَاحِرانِ } واللام في { لَسَاحِرانِ } داخلة على خبر المبتدأ ، وضعف هذا القول بأن حذف هذا الضمير لا يجيء إلا في الشعر وبأن دخول اللام في الخبر شاذ .

وقال الزجاج : اللام لم تدخل على الخبر بل التقدير لهما ساحران فدخلت على المبتدأ المحذوف ، واستحسن هذا القول شيخه أبو العباس المبرد والقاضي إسماعيل بن إسحاق بن حماد بن زيد .

وقيل : ها ضمير القصة وليس محذوفاً ، وكان يناسب على هذا أن تكون متصلة في الخط فكانت كتابتها { إِنْ هَاذانِ لَسَاحِرانِ } وضعف ذلك من جهة مخالفته خط المصحف .

وقيل { ءانٍ } بمعنى نعم ، وثبت ذلك في اللغة فتحمل الآية عليه و { هَاذانِ لَسَاحِرانِ } مبتدأ وخبر واللام في { لَسَاحِرانِ } على ذينك التقديرين في هذا التخريج ، والتخريج الذي قبله وإلى هذا ذهب المبرد وإسماعيل بن إسحاق وأبو الحسن الأخفش الصغير ، والذي نختاره في تخريج هذه القراءة أنها جاءت على لغة بعض العرب من إجراء المثنى بالألف دائماً وهي لغة لكنانة حكى ذلك أبو الخطاب ، ولبني الحارث بن كعب وخثعم وزبيد وأهل تلك الناحية حُكِي ذلك عن الكسائي ، ولبني العنبر وبنى الهجيم ومراد وعذرة . وقال أبو زيد : سمعت من العرب من يقلب كل ياء ينفتح ما قبلها ألفاً .

وقرأ أبو بحرية وأبو حيوة والزهري وابن محيصن وحميد وابن سعدان وحفص وابن كثير { ءانٍ } بتخفيف النون هذا بالألف وشدد نون { هَاذَانِ } ابن كثير ، وتخريج هذه القراءة واضح وهو على أن أن هي المخففة من الثقيلة و { هذان } مبتدأ و { لساحران } الخبر واللام للفرق بين إن النافية وإن المخففة من الثقيلة على رأي البصريين والكوفيين ، يزعمون أن إن نافية واللام بمعنى إلاّ . وقرأت فرقة إن ذان لساحران وتخريجها كتخريج القراءة التي قبلها ، وقرأت عائشة والحسن والنخعي والجحدري والأعمش وابن جبير وابن عبيد وأبو عمر وإن هذين بتشديد نون إنّ وبالياء في هذين بدل الألف ، وإعراب هذا واضح إذ جاء على المهيع المعروف في التثنية لقوله { فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ إِحْدَى ابْنَتَىَّ هَاتَيْنِ } بالألف رفعاً والياء نصباً وجراً . وقال الزجاج : لا أجيز قراءة أبي عمر ولأنها خلاف المصحف . وقال أبو عبيد : رأيتها في الإمام مصحف عثمان هذن ليس فيها ألف ، وهكذا رأيت رفع الاثنين في ذلك المصحف بإسقاط الألف ، وإذا كتبوا النصب والخفض كتبوه بالياء ولا يسقطونها ، وقالت جماعة منهم عائشة وأبو عمر : وهذا مما لحن الكاتب فيه وأقيم بالصواب .

وقرأ عبد اللّه إن ذان إلا ساحران قاله ابن خالويه وعزاها الزمخشري لابَيّ . وقال ابن مسعود : إن هذان ساحران بفتح أن وبغير لام بدل من { النَّجْوَى } انتهى . وقرأت فرقة ما هذا إلاّ ساحران وقولهم { يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ مّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا } تبعوا فيه مقالة فرعون { أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ } ونسبوا السحر أيضاً لهارون لما كان مشتركاً معه في الرسالة وسالكاً طريقته ، وعلقوا الحكم على الإرادة وهم لا اطلاع لهم عليها تنقيصاً لهما وحطاً من قدرهما ، وقد كان ظهر لهم من أمر اليد والعصا ما يدل على صدقهما ، وعلموا أنه ليس في قدرة الساحر أن يأتي بمثل ذلك ، والظاهر أن الضمير في { قَالُواْ } عائد على السحرة خاطب بعضهم بعضاً .

وقيل : خاطبوا فرعون مخاطبة التعظيم ، والطريقة السيرة والمملكة والحال التي هم عليها . و { الْمُثْلَى } تأنيث الأمثل أي الفضلى الحسنى .

وقيل : عبر عن السيرة بالطريقة وأنه يراد بها أهل العقل والسن والحجى ، وحكوا أن العرب تقول فلان طريقة قومه أي

سيدهم ، وعن علي نحو ذلك قال : وتصرفات وجوه الناس هليهما .

وقيل : هو على حذف مضاف أي { وَيَذْهَبَا } بأهل طريقتكم وهم بنو إسرائيل لقول موسى { أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إِسْراءيلَ } بالغوا في التنفيرعنهما بنسبتهما إلى السحر ، وبالطبع ينفر عن السحر وعن رؤية الساحر ثم بإرادة الإخراج من أرضهم ثم بتغيير حالتهم من المناصب والرتب المرغوب فيها .

٦٤

فأجمعوا كيدكم ثم . . . . .

وحكى تعالى عنهم في متابعة فرعون في قوله { فَجَمَعَ كَيْدَهُ } قوله { فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ }

وقيل : هو من كلام فرعون ، والظاهر أنه من كلام السحرة بعضهم لبعض .

وقرأ الجمهور { فَأَجْمِعُواْ } بقطع الهمزة وكسر الميم من أجمع رباعياً أي اعزموا واجعلوه مجمعاً عليه حتى لا تختلفوا ولا يتخلف واحد منكم المسألة المجمع عليها .

وقرأ الزهري وابن محيصن وأبو عمرو ويعقوب في رواية وأبو حاتم بوصل الألف وفتح الميم موافقاً لقوله { فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ } وتقدم الكلام في جمع وأجمع في سورة يونس في قصة نوح عليه السلام .

وتداعوا إلى الإتيان { صَفَّا } لأنه أهيب في عيون الرائين ، وأظهر في التمويه وانتصب { صَفَّا } على الحال أي مصطفين أو مفعولاً به إذ هو المكان الذي يجتمعون فيه لعيدهم وصلواتهم .

وقرأ شبل بن عباد وابن كثير في رواية شبل عنه ثم ايتوا بكسر الميم وإبدال الهمزة ياء تخفيفاً . قال أبو علي وهذا غلط ولا وجه لكسر الميم من ثم . وقال صاحب اللوامح : وذلك لالتقاء الساكنين كما كانت الفتحة في العامة كذلك { وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ } أي ظفر وفاز ببغيته من طلب العلوّ في أمره وسعى سعيه ، واختلفوا في عدد السحرة اختلافاً مضطرباً جداً فأقل ما قيل أنهم كانوا اثنين وسبعين ساحراً مع كل ساحر عصي وحبال ، وأكثر ما قيل تسعمائة ألف .

٦٥

قالوا يا موسى . . . . .

٦٥

قالوا يا موسى . . . . .

في الكلام حذف تقديره فجاؤوا مصطفين إلى مكان الموعد ، وبيد كل واحد منهم عصا وحبل ، وجاء موسى وأخوه ومعه عصاه فوقفوا و { قَالُواْ يأَبَانَا مُوسَى إَمَامًا أَن تُلْقِىَ } وذكروا الإلقاء لأنهم علموا أن آية موسى في إلقاء العصا . قيل : خيروه ثقة منهم بالغلب لموسى ، وكانوا يعتقدون أن أحداً لا يقاومهم في السحر .

وقال الزمخشري : وهذا التخيير منهم

استعمال أدب حسن معه وتواضع له وخفض جناح ، وتنبيه على إعطائهم النصفة من أنفسهم ، وكان اللّه عز وجل ألهمهم ذلك وعلم موسى عليه السلام اختيار إلقائهم أولاً مع ما فيه من مقابلة الأدب بأدب حتى يبرزوا ما معهم من مكائد السحر ويستنفذوا أقصى طرقهم ومجهودهم ، فإذا فعلوا أظهر اللّه سلطانه وقذف بالحق على الباطل فدمغه وسلط المعجزة على السحر فمحقته ، وكانت آية بينة للناظرين بينة للمعتبرين انتهى . وهو تكثير وخطابة وإن ما بعده ينسبك بمصدر فإما أن يكون مرفوعاً

وإما أن يكون منصوباً والمعنى أنك تختار أحد الأمرين ، وقدّر الزمخشري الرفع الأمر إلقاؤك أو إلقاؤنا فجعله خبر المبتدأ محذوف ، واختار أن يكون مبتدأ والخبر محذوف تقديره إلقاؤك أول ويدل عليه قوله {وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى } فتحسن المقابلة من حيث المعنى وإن كان من حيث التركيب اللفظي لم تحصل المقابلة لأنا قدّرنا إلقاؤك أول ، ومقابلة كونهم يكونون أول من يلقي لكنه يلزم من ذلك أن يكون إلقاؤهم أول فهي مقابلة معنوية . وفي تقدير الزمخشري الأمر إلقاؤك لا مقابلة فيه .

وقدّر الزمخشري النصب اختر أحد الأمرين وهذا تفسير معنى لا تفسير إعراب ، وتفسير الإعراب { أَمَّا } نختار { أَن تُلْقِىَ } وتقدم نحو هذا التركيب في الأعراف .

٦٦

قال بل ألقوا . . . . .

{قَالَ بَلْ أَلْقُواْ } لا يكون الأمر بالإلقاء من باب تجويز السحر والأمر به لأن الغرض في ذلك الفرق بين إلقائهم والمعجزة ، وتعين ذلك طريقاً إلى كشف الشبهة إذ الأمر مقرون بشرط أي ألقوا إن كنتم محقين لقوله { فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّثْلِهِ } ثم قال { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } وفي الكلام حذف تقديره فألقوا فإذا .

قال أبو البقاء :{ فَإِذَا حِبَالُهُمْ } الفاء جواب ما حذف وتقديره فألقوا وإذا في هذا ظرف مكان ، والعامل فيه ألقوا انتهى . فقوله { فَإِذَا } الفاء جواب ما حذف وتقديره فألقوا ليست هذه فاء جواب لأن فألقوا لا تجاب ، وإنما هي للعطف عطفت جملة المفاجأة على ذلك المحذوف . وقوله وإذا في هذا ظرف مكان يعني أن إذا التي للمفاجأة ظرف مكان وهو مذهب المبرد وظاهر كلام سيبويه ، وقوله : والعامل فيه ألقوا ليس بشيء لأن الفاء تمنع من العمل ولأن إذا هذه إنما هي معمولة لخبر المبتدأ الذي هو { حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ } إن لم يجعلها هي في موضع الخبر ، لأنه يجوز أن يكون الخبر يخيل ، ويجوز أن تكون إذا ويخيل في موضع الحال ، وهذا نظير : خرجت فإذا الأسد رابض ورابضاً فإذا رفعنا رابضاً كانت إذا معمولة ، والتقدير فبالحضرة الأسد رابض أو في المكان ، وإذا نصبتا كانت خبراً ولذلك تكتفي بها ، وبالمرفوع بعدها كلاماً نحو خرجت فإذا الأسد .

وقال الزمخشري : يقال في إذا هذه إذا المفاجأة والتحقيق فيها أنها إذا الكائنة بمعنى الوقت الطالبة ناصباً لها وجملة تضاف إليها خصت في بعض المواضع بأن يكون ناصبها فعلاً مخصوصاً وهو فعل المفاجأة ، والجملة ابتدائية لا غير فتقدير قوله تعالى { فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ } ففاجأ موسى وقت تخييل حبالهم وعصيهم ، وهذا تمثيل والمعنى على مفاجأته حبالهم وعصيهم مخيلة إليه السعي انتهى . فقوله : والتحقيق فيها إذا كانت الكائنة بمعنى الوقت هذا مذهب الرياشي أن إذا الفجائية ظرف زمان وهو قول مرجوح ، وقول الكوفيين أنها حرف قول مرجوح أيضاً وقوله الطالبة ناصباً لها صحيح ، وقوله : وجملة تضاف إليها هذا عند أصحابنا ليس بصحيح لأنها إما أن تكون هي خبر المبتدأ

وإما معمولة لخبر المبتدأ ، وإذا كان كذلك استحال أن تضاف إلى الجملة لأنها إما أن تكون بعض لجملة أو معمولة لبعضها ، فلا تمكن الإضافة . وقوله خصت في بعض المواضع بأن يكون ناصبها فعلاً مخصوصاً وهو فعل المفاجأة قد بينا الناصب لها ، وقوله والجملة ابتدائية لا غير هذا الحصر ليس بصحيح بل قد نص الأخفش في الأوسط على أن الجملة المصحوبة بقد تليها وهي فعلية تقول : خرجت فإذا قد ضرب

زيد عمراً وبنى على ذلك سأله الاشتغال خرجت فإذا زيد قد ضربه عمرو ، برفع زيد ونصبه ،

وأما قوله : والمعنى على مفاجأته حبالهم وعصيهم مخيلة إليه السعي فهذا بعكس ما قدّر بل المعنى على مفاجأة حبالهم وعصيهم إياه . فإذا

قلت : خرجت فإذا السبع ، فالمعنى أنه فاجني السبع وهجم ظهوره .

وقرأ الحسن وعيسى عُصِيَهُم بضم العين حيث كان وهو الأصل لأن الكسر اتباع لحركة الصاد وحركة الصاد لأجل الياء . وفي كتاب اللوامح الحسن وعُصْيهم بضم العين وإسكان الصاد وتخفيف الياء مع الرفع فهو أيضاً جمع كالعامّة لكنه على فعل .

وقرأ الزهري والحسن وعيسى وأبو حيوة وقتادة والجحدري وروح والوليدان وابن ذكوان تخيل بالتاء مبنياً للمفعول وفيه ضمير الحبال والعصي و { أَنَّهَا تَسْعَى } بدل اشتمال من ذلك الضمير .

وقرأ أبو السماك تخيل بفتح التاء أي تتخيل وفيها أيضاً ضمير ما ذكر و { وَإِنَّهَا تَسْعَى } بدل اشتمال أيضاً من ذلك الضمير لكنه فاعل من جهة المعنى . و

قال ابن عطية : إنها مفعول من أجله . وقال أبو القاسم بن حبارة الهذلي الأندلسي في كتاب الكامل من تأليفه عن أبي السماك أنه قرأ تخيل بالتاء من فوق المضمومة وكسر الياء والضمير فيه فاعل ، و { أَنَّهَا تَسْعَى } في موضع نصب على المفعول به . ونسب ابن عطية هذه القراءة إلى الحسن والثقفي يعني عيسى ، ومن بني تخيل للمفعول فالمخيل لهم ذلك هو اللّه للمحنة والابتلاء وروى الحسن بن أيمن عن أبي حيوة نخيل بالنون وكسر الياء ، فالمخيل لهم ذلك هو اللّه والضمير في { إِلَيْهِ } الظاهر أنه يعود على موسى لقوله قبل { قَالَ بَلْ أَلْقُواْ } ولقوله بعد { فَأَوْجَسَ فِى نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى }

وقيل : يعود على فرعون ، والظاهر من القصص أن الحبال والعصي كانت تتحرك وتنتقل الانتقال الذي يشبه انتقال من قامت به الحياة ، ولذلك ذكر السعي وهو وصف من يمشي من الحيوان ، فروى أنهم جعلوا في الحبال زئبقاً وألقوها في الشمس فأصاب الزئبق حرارة الشمس فتحرك فتحركت العصي والحبال معه .

وقيل : حفروا الأرض وجعلوا تحتها ناراً وكانت العصي والحبال مملوءة بزئبق ، فلما أصابتها حرارة الأرض تحركت وكان هذا من باب الدّك .

وقيل : إنها لم تتحرك وكان ذلك من سحر العيون وقد صرح تعالى بهذا فقالوا { سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ } فكان الناظر يخيل إليه أنها تنتقل .

٦٧

فأوجس في نفسه . . . . .

وتقدم شرح أوجس .

وقال الزمخشري : كان ذلك لطبع الجبلة البشرية وأنه لا يكاد يمكن الخلو من مثله وهو قول الحسن .

وقيل : كان خوفه على الناس أن يفتتنوا لهول ما رأى قبل أن يلقي عصاه وهو قول مقاتل ، والإيجاس هو من الهاجس الذي يخطر بالبال وليس يتمكن و { خِيفَةً } أصله خوفة قلبت الواو ياء لكسرة ما قبلها . و

قال ابن عطية : يحتمل أن تكون خوفه بفتح الخاء قلبت الواو ياء ثم كسرت الخاء للتناسب .

٦٨

انظر تسفير الآية:٦٩

٦٩

قلنا لا تخف . . . . .

{إِنَّكَ أَنتَ الاْعْلَى } تقرير لغلبته وقهره وتوكيد بالاستئناف وبكلمة التوكيد وبتكرير الضمير وبلام التعريف ، وبالأعلوية الدالة على التفضيل { وَأَلْقِ مَا فِى يَمِينِكَ } لم يأت التركيب وألق عصاك لما في لفظ اليمين من معنى اليمن والبركة .

قال الزمخشري : وقوله { مَا فِى يَمِينِكَ } ولم يقل عصاك جائز أن يكون تصغيراً لها أي لا تبال بكثرة حبالهم وعصيهم ، وألق العويد الفرد الصغير الجرم الذي في يمينك فإنه بقدرة اللّه يتلقفها على حدته وكثرتها وصغره وعظمها ، وجائز أن يكون تعظيماً لها أي لا تحتفل بهذه الأجرام الكبيرة الكثيرة فإن في يمينك شيئاً أعظم منها كلها وهذه على كثرتها أقل شيء وأنزره عندها ، فألقه تتلقفها بإذن اللّه وتمحقها انتهى . وهو تكثير وخطابه لا طائل في ذلك .

وفي ذوله { تَلْقَفْ } جمل على معنى ما لا على لفظها إذ أطلقت ما على العصا والعصا مؤنثة ، ولو حمل على اللفظ لكان بالياء .

وقرأ الجمهور تَلَقَّف بفتح اللام وتشديد القاف مجزوماً على جواب الأمر .

وقرأ ابن عامر كذلك وبرفع الفاء على الاستئناف أو على الحال من الملقى .

وقرأ أبو جعفر وحفص وعصمة عن عاصم { تَلْقَفْ } بإسكان اللام والفاء وتخفيف القاف وعن قنبل أنه كان يشدد من تلقّف يريد يتلقف .

وقرأ الجمهور { كَيْدَ } بالرّفع على أن { مَا } موصولة بمعنى الذي والعائد محذوف ، ويحتمل أن تكون { مَا } مصدرية أي أن صنعتم كيد ، ومعنى

{صَنَعُواْ } هنا زوّروا وافتعلوا كقوله { تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ}

وقرأ مجاهد وحميد وزيد بن عليّ{ كَيْدَ سَاحِرٌ } بالنصب مفعولاً لصنعوا وما مهيئة .

وقرأ أبو بحرية والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى وخلف في اختياره وابن عيسى الأصبهاني وابن جبير الأنطاكي وابن جرير وحمزة والكسائي سِحْر بكسر السين وإسكان الحاء بمعنى ذي سحر أو ذوي سحر ، أو هم لتوغلهم في سحرهم كأنهم السحر بعينه أو بذاته ، أو بين الكيد لأنه يكون سحراً وغير سحر كما تبين المائة بدرهم ونحوه علم فقه وعلم نحو .

وقرأ الجمهور ساحر اسم فاعل من سحر ، وأفرد ساحر من حيث أن فعل الجميع نوع واحد من السحر ، وذلك الحبال والعصي فكأنه صدر من ساحر واحد لعدم اختلاف أنواعه .

وقال الزمخشري : لأن القصد في هذا الكلام إلى معنى الجنسية لا إلى معنى العدد ، فلو جمع لخيل أن المقصود هو العدد ألا ترى أن قوله { وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ } أي هذا الجنس انتهى .

وعرف في قوله { وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ } لأنه عاد على ساحر النكرة قبله كقوله { كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ}

وقال الزمخشري : إنما نكر يعني أولاً من أجل تنكير المضاف لا من أجل تنكيره في نفسه كقول العجاج :

في سعي دنيا طال ما قد مدت

وفي حديث عمر رضي اللّه عنه : لا في أمر دنيا ولا في أمر آخرة المراد تنكير الأمر كأنه قال : إنما صنعوا كيد سحري وفي سعي دنياوي وأمر دنياوي وأخراوي انتهى . وقول العجاج . في سعي دنيا ، محمول على الضرورة إذ دنيا تأنيث الأدنى ، ولا يستعمل تأنيثه إلاّ بالألف واللام أو بالإضافة

وأما قول عمر فيحتمل أن يكون من تحريف الرواة .

ومعنى { وَلاَ يُفْلِحُ } لا يظفر ببغيته { حَيْثُ أَتَى } أي حيث توجه وسلك . وقالت فرقة معناه أن الساحر بقتل حيث تقف وهذا جزاء من عدم الفلاح . وقرأت فرقة أين أتى وبعد هذا جمل محذوفة ، والتقدير فزال إيجاس الخيفة وألقى ما في يمينه وتلقفت حبالهم وعصيهم ثم انقلبت عصا ، وفقدوا الحبال والعصي وعلموا أن ذلك معجز ليس في طوق البشر

٧٠

فألقي السحرة سجدا . . . . .

{فَأُلْقِىَ السَّحَرَةُ سُجَّداً } وجاء التركيب { فَأُلْقِىَ السَّحَرَةُ } ولم يأت فسجدوا كأنه جاءهم أمر وأزعجهم وأخذهم فصنع بهم ذلك ، وهو عبارة عن سرعة ما تأثروا لذلك الخارق العظيم فلم يتمالكوا أن وقعوا ساجدين . وقدم موسى في الأعراف وأخر هارون لأجل الفواصل ولكون موسى هو المنسوب إليه العصا التي ظهر فيها ما ظهر من الإعجاز ، وأخر موسى لأجل الفواصل أيضاً كقوله { لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى } وأزواجاً من نبات إذا كان شتى صفة لقوله أزواجاً ولا فرق بين قام زيد وعمرو وقام عمرو وزيداً إذا لوأ ولا تقتضي ترتيباً على أنه يحتمل أن يكون القولان من قائلين نطقت طائفة بقولهم رب موسى وهارون ، وطائفة بقولهم : رب هارون وموسى ولما اشتركوا في المعنى صح نسبة كل من القولين إلى الجميع .

وقيل : قدم { هَارُونَ } هنا لأنه كان أكبر سناً من { مُوسَى}

وقيل لأن فرعون كان ربَّى موسى فبدؤوا بهارون ليزول تمويه فرعون أنه ربي موسى فيقول أنا ربيته . وقالوا : رب هارون وموسى ولم يكتفوا بقولهم برب العالمين للنص على أنهم آمنوا { بِرَبّ } هذين وكان فيما قبل يزعم أنه رب العالمين .

٧١

قال آمنتم له . . . . .

وتقدم الخلاف في قراءة { أَمِنتُمْ } وفي لأقطعن ولأصلبن في الأعراف . وتفسير نظير هذه الآية فيها وجاء هناك آمنتم به وهنا له ، وآمن يوصل بالباء إذا كان باللّه وباللام لغيره في الأكثر نحو { فَمَا ءامَنَ لِمُوسَى }{ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ }{ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا }{ فَئَامَنَ لَهُ لُوطٌ } واحتمل الضمير في به أن يعود على موسى وأن يعود على الرب ، وأراد بالتقطيع والتصليب في الجذوع التمثيل بهم ، ولما كان الجذع مقراً للمصلوب واشتمل عليه اشتمال الظرف على المظروف عُدِّيَ الفعل بفي التي للوعاء .

وقيل في بمعنى على .

وقيل : نقر فرعون

الخشب وصلبهم في داخله فصار ظرفاً لهم حقيقة حتى يموتوا فيه جوعاً وعطشاً ومن تعدية صلب بفي قول الشاعر : وهم صلبوا العبدي في جذع نخلة

فلا عطست شيبان إلاّ بأجدعا

وفرعون أول من صلب ، وأقسم فرعون على ذلك وهو فعل نفسه وعلى فعل غيره ، وهو { وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا } أي أيي وأي من آمنتم به .

وقيل : أيي وأي موسى ، وقال ذلك على سبيل الاستهزاء لأن موسى لم يكن من أهل التعذيب وإلى هذا القول ذهب الزمخشري قال : بدليل قوله { لَهُ قَبْلَ } واللام مع الإيمان في كتاب اللّه لغير اللّه كقوله { يُؤْمِنُ بِاللّه وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ } وفيه نفاحة باقتداره وقهره وما ألفه وضَرِيَ به من تعذيب الناس بأنواع العذاب ، وتوضيع لموسى عليه السلام واستضعاف مع الهزء به انتهى . وهو قول الطبري قال : يريد نفسه وموسى عليه السلام ، والقول الأول أذهب مع مخرقة فرعون { وَلَتَعْلَمُنَّ } هنا معلق { فِرْعَوْنَ أَشَدَّ } جملة استفهامية من مبتدإ وخبر في موضع نصب لقوله { وَلَتَعْلَمُنَّ } سدّت مسد المفعولين أو في موضع مفعول واحد إن كان { لتعلمنّ } معدى تعدية عرف ، ويجوز على الوجه أن يكون { وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا } مفعولاً{ لتعلمن } وهو مبني على رأي سيبويه و { فِرْعَوْنَ أَشَدَّ } خبر مبتدأ محذوف ، و { أَيُّنَا } موصولة والجملة بعدها صلة والتقدير و { لتعلمنّ } من هو { أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى}

٧٢

قالوا لن نؤثرك . . . . .

{قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ } أي لن نختار اتباعك وكوننا من حزبك وسلامتنا من عذابك { عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيّنَاتِ } وهي المعجزة التي أتتنا وعلمنا صحتها . وفي قولهم هذا توهين له واستصغار لما هددهم به وعدم اكتراث بقوله . وفي نسبة المجيء إليهم وإن كانت البينات جاءت لهم ولغيرهم لأنهم كانوا أعرف بالسحر من غيرهم ، وقد علموا أن ما جاء به موسى ليس بسحر فكانوا على جلية من العلم بالمعجز ، وغيرهم يقلدهم في ذلك وأيضاً فكانوا هم الذين حصل لهم النفع بها فكانت بينات واضحة في حقهم .

والواو في { وَالَّذِى فَطَرَنَا } واو عطف على { مَا جَاءنَا } أي وعلى { الَّذِى فَطَرَنَا } لما لاحت لهم حجة اللّه في المعجزة بدؤوا بها ثم ترقوا إلى القادر على خرق العادة وهو اللّه تعالى وذكروا وصف الاختراع وهو قولهم { الَّذِى فَطَرَنَا } تبينناً لعجز فرعون وتكذيبه في ادعاء ربوبيته وإلاهيته وهو عاجز عن صرف ذبابة فضلاً عن اختراعها .

وقيل : الواو للقسم وجوابه محذوف ، ولا يكون { لَن نُّؤْثِرَكَ } جواباً لأنه لا يجاب في النفي بلن إلاّ في شاذ من الشعر و { مَا } موصولة بمعنى الذي وصلته { أَنتَ قَاضٍ } والعائد محذوف أي ما أنت قاضيه . قيل : ولا يجوز أن تكون { مَا } مصدرية لأن المصدرية توصل بالأفعال ، وهذه موصولة بابتداء وخبر انتهى . وهذا ليس مجمعاً عليه بل قد ذهب ذاهبون من النحاة إلى أن { مَا } المصدرية توصل بالجملة الاسمية . وانتصب { هَاذِهِ الْحَيَواةَ } على الظرف وما مهيئة ويحتمل أن تكون مصدرية أي إن قضاءك كائن في { هَاذِهِ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا } لا في الآخرة ، بل في الآخرة لنا النعيم ولك العذاب .

وقرأ الجمهور { تَقْضِى } مبنياً للفاعل خطاباً لفرعون .

وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة تُقْضَى مبنياً للمفعول هذه الحياة بالرفع اتسع في الظرف فاجْرِي مجرى المفعول به ، ثم بُني الفعل لذلك ورفع به كما تقول : صم يوم الجمعة وولد له ستون عاماً . ولم يصرح في القرآن بأنه أنفذ فيهم وعيده ولا أنه قطع أيديهم وأرجلهم وصلبهم ، بل الظاهر أنه تعالى سلمهم منه ويدل على ذلك قوله { أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ }

وقيل : أنفذ فيهم وعيده وصلبهم على الجذوع وإكراهه إياهم على السحر . قيل : حملهم على معارضة موسى .

وقيل : كان يأخذ ولدان الناس ويجربهم على ذلك فأشارت السحرة إلى

ذلك قاله الحسن

٧٣

انظر تسفير الآية:٧٦

٧٤

انظر تسفير الآية:٧٦

٧٥

 انظر تسفير الآية:٧٦

٧٦

إنا آمنا بربنا . . . . .

{وَاللّه خَيْرٌ وَأَبْقَى } ردّ على قوله { أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى } أي وثواب اللّه وما أعده لمن آمن به ، روي أنهم قالوا لفرعون أرنا موسى نائماً ففعل فوجده ويحرسه عصاه ، فقالوا : ما هذا بسحر الساحر إذا نام بطل سحره فأبى إلا أن يعارضوه ويظهر من قولهم أئن لنا لأجراً عدم الإكراه .

{إِنَّهُ مَن يَأْتِ إِلَىَّ مِنْ تَزَكَّى } قيل هو حكاية لهم عظة لفرعون .

وقيل : خبر من اللّه لا على وجه الحكاية تنبيهاً على قبح ما فعل فرعون وحسن ما فعل السحرة موعظة وتحذيراً ، والمجرم هنا الكافر لذكر مقابله { وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً } ولقوله { لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَا } أي يعذب عذاباً ينتهي به إلى الموت ثم لا يجهز عليه فيستريح ، بل يعاد جلده ويجدد عذابه فهو لا يحيا حياة طيبة بخلاف المؤمن الذي يدخل النار فهم يقاربون الموت ولا يجهز عليهم فهذا فرق بين المؤمن والكافر . وفي الحديث { إنهم يماتون إماتة} وهذا هو معناه لأنه لا يموت في الآخرة و { تَزَكَّى } تطهَّر من دنس الكفر .

وقيل : قال لا إله إلا اللّه .

{وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِى فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِى الْبَحْرِ يَبَساً لاَّ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تَخْشَى فَأَتْبَعَهُمْ}

٧٧

ولقد أوحينا إلى . . . . .

هذا استئناف إخبار عن شيء من أمر موسى عليه السلام وبينه وبين مقال السحرة المتقدم مدة من الزمان ، حدث فيها لموسى وفرعون حوادث ، وذلك أن فرعون لما انقضى أمر السحرة وغلب موسى وقَويَ أمره وعده فرعون أن يرسل معه بني إسرائيل ، فأقام موسى على وعده حتى غدره فرعون ونكث وأعلمه أنه لا يرسلهم معه ، فبعث اللّه حينئذ الآيات المذكورة في غير هذه الآيات الجراد والقمل إلى آخرها كلما جاءت آية وعد فرعون أن يرسل بني إسرائيل عند انكشاف العذاب ، فإذا انكشف نكث حتى تأتي أخرى فلما كملت الآيات أوحى اللّه إلى موسى عليه السلام أن يخرج بني إسرائيل في الليل سارياً والسَري مسير الليل .

ويحتمل أنْ { ءانٍ } تكون مفسرة وأن تكون الناصبة للمضارع و { بِعِبَادِى } إضافة تشريف لقوله { وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى } والظاهر أن الإيحاء إليه بذلك وبأن يضرب البحر كان متقدماً بمصر على وقت اتباع فرعون موسى وقومه بجنوده .

وقيل : كان الوحي بالضرب حين قارب فرعون لحاقه وقوي فزع بني إسرائيل ، ويروى أن موسى عليه السلام نهض ببني إسرائيل وهم ستمائة ألف إنسان ، فسار بهم من مصر يريد بحر القلزم ، واتصل الخبر فرعون فجمع جنوده وحشرهم ونهض وراءه فأوحى اللّه إلى موسى أن يقصد البحر فجزع بنو إسرائيل ، ورأوا أن العدو من ورائهم والبحر من أمامهم وموسى يثق بصنع اللّه ، فلما رآهم فرعون قد نهضوا نحو البحر طمع فيهم وكان مقصدهم إلى موضع ينقطع فيه الفحوص والطرق الواسعة . قيل : وكان في خيل فرعون سبعون ألف أدهم ونسبة ذلك من سائر الألوان .

وقيل : أكثر من هذا فضرب موسى عليه السلام البحر فانفرق اثنتي عشرة فرقة طرقاً واسعة بينها حيطان الماء واقفة ، ويدل عليه فكان كل فرق كالطود العظيم .

وقيل : بل هو طريق واحد لقوله { فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِى الْبَحْرِ يَبَساً } انتهى .

وقد يراد بقوله { طَرِيقاً } الجنس فدخل موسى عليه السلام بعد أن بعث اللّه ريح الصبا فجففت تلك الطرق حتى يبست ودخل بنو إسرائيل ، ووصل فرعون إلى المدخل وبنو إسرائيل كلهم في

البحر فرأى الماء على تلك الحال فجزع قومه واستعظموا الأمر فقال لهم : إنما انفلق من هيبتي وتقدم غرق فرعون وقومه في سورة يونس . والظاهر أن لفظة اضرب هنا على حقيقتها من مس العصا بقوّة ، وتحامل على العصا ويوضحه في آية أخرى { أَنِ اضْرِب بّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ } فالمعنى أن اضرب بعصاك البحر لينفلق لهم فيصير طريقاً فتعدى إلى الطريق بدخول هذا المعنى لما كان الطريق متسبباً عن الضرب جعل كأنه المضروب .

وقال الزمخشري :{ فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً } فاجعل لهم من قولهم : ضرب له في ماله سهماً ، وضرب اللبن عمله انتهى . وفي الحديث : { اضربوا لي معكم بسهم} . ولما لم يذكر المضروب حقيقة وهو البحر ، ولو كان صرّح بالمضروب حقيقة لكان التركيب طريقاً فيه ، فكان يعود على البحر المضروب و { يَبَساً } مصدر وصف به الطريق وصفه بما آل إليه إذ كان حالة الضرب لم يتصف باليبس بل مرت عليه الصبا فجففته كما روي ،

ويقال : يبس يبساً ويبساً كالعدم والعدم ومن كونه مصدراً وصف به المؤنث قالوا : شاة يبس وناقة يبس إذا جف لبنها .

وقرأ الحسن يَبْساً بسكون الباء . قال صاحب اللوامح : قد يكون مصدراً كالعامة وقد يكون بالإسكان المصدر وبالفتح الاسم كالنفض .

وقال الزمخشري : لا يخلو اليبس من أن يكون مخففاً عن اليبس أو صفة على فعل أو جمع يابس كصاحب وصحب ، وصف به الواحد تأكيداً لقوله ومعاً جياعاً جعله لفرط جوعه كجماعة جياع انتهى .

وقرأ أبو حيوة : يابساً اسم فاعل .

وقرأ الجمهور : لا تخاف وهي جملة في موضع الحال من الضمير { فَاضْرِب }

وقيل في موضع الصفة للطريق ، وحذف العائد أي لا تخاف فيه .

وقرأ الأعمش : وحمزة وابن أبي ليلى { لاَ تَخَفْ } بالجزم على جواب الأمر أو على نهي مستأنف قاله الزجاج .

وقرأ أبو حيوة وطلحة والأعمش ، دَرْكاً بسكون الراء والجمهور بفتحها ، والدرك والدرك اسمان من الإدراك أي لا يدركك فرعون وجنوده ولا يلحقونك { وَلاَ تَخْشَى } أنت ولا قومك غرقاً وعطفه على قراءة الجمهور لا تخاف ظاهر ،

وأما على قراءة الجزم فخرج على أن الألف جيء بها لأجل أواخر الآي فاصلة نحو قوله { فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاْ } وعلى أنه إخبار مستأنف أي وأنت { لا } وعلى أنه مجزوم بحذف الحركة المقدرة على لغة من قال : ألم يأتيك وهي لغة قليلة . وقال الشاعر : إذا العجوز غضبت فطلق

ولا ترضاها ولا تملق

٧٨

فأتبعهم فرعون بجنوده . . . . .

وقرأ الجمهور : { تَخْشَى فَأَتْبَعَهُمْ } بسكون التاء ، وأتبع قد يكون بمعنى تبع فيتعدى إلى واحد كقوله { فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ } وقد يتعدى إلى اثنين كقوله : وأتبعناهم ذرياتهم فتكون التاء زائدة أي جنوده ، أو تكون للحال والمفعول الثاني محذوف أي رؤساؤه وحشمه .

وقرأ أبو عمرو في رواية والحسن فاتَّبعَعهم بتشديد التاء وكذا عن الحسن في جميع ما في القرآن إلا { فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ } والباء في بجنوده في موضع الحال كما تقول : اخرج زيد بسلاحه أو الباء للتعدي لمفعول ثان بحرف جر ، إذ لا يتعدى اتبع بنفسه إلا إلى حرف واحد .

وقرأ الجمهور { بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مّنَ الْيَمّ مَا غَشِيَهُمْ } على وزن فعل مجرد من الزيادة . وقرأت فرقة منهم الأعمش فغشاهم من اليم ما غشاهم بتضعيف العين فالفاعل في القراءة الأولى { مَا } وفي الثانية الفاعل اللّه أي فغشاهم اللّه .

قال الزمخشري : أو فرعون لأنه الذي ورط جنوده وتسبب لهلاكهم . وقال { مَا غَشِيَهُمْ } من باب الاختصار ومن جوامع الكلم التي تستقل مع قلتها بالمعاني الكثيرة ، أي { غَشِيَهُمْ } ما لا يعلم كَنَهَهُ إلاّ اللّه . وقال ابن

عطية : { مَا غَشِيَهُمْ } إبهام أهول من النص على قدر ما ، وهو كقوله { إِذْ يَغْشَى السّدْرَةَ مَا يَغْشَى } والظاهر أن الضمير في { غَشِيَهُمْ } في الموضعين عائد على فرعون وقومه ،

وقيل الأول على فرعون وقومه ، والثاني على موسى وقومه : وفي الكلام حذف على هذا القول تقديره فنجا موسى وقومه ، وغرّق فرعون وقومه . وقال الزجاج : وقرىء وجنوده عطفاً على فرعون .

٧٩

وأضل فرعون قومه . . . . .

{وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ } أي من أول مرة إلى هذه النهاية ويعني الضلال في الدين .

وقيل : أضلهم في البحر لأنهم غرقوا فيه ، واحتج به القاضي على مذهبه فقال : لو كان الضلال من خلق اللّه لما جاز أن يقال :{ وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ } بل وجب أن يقال : اللّه أضلهم لأن اللّه تعالى ذمه بذلك فكيف يكون خالقاً للكفر لأن من ذم غيره بفعل شيء لا بد أن يكون المذموم فاعلاً لذلك الفعل وإلاّ استحق الذام الذم انتهى . وهو على طريقة الاعتزال { وَمَا هَدَى } أي ما هداهم إلى الدين ، أو ما نجا من الغرق ، أو ما هتدى في نفسه لأن { هُدًى } قد يأتي بمعنى اهتدى .

٨٠

انظر تسفير الآية:٨١

٨١

يا بني إسرائيل . . . . .

{يابَنِى إِسْراءيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مّنْ عَدُوّكُمْ } ذكرهم تعالى بأنواع نعمه وبدأ بإزالة ما كانوا فيه من الضرر من الإذلال والخراج والذبح وهي آكد أن تكون مقدمة على المنفعة الدنيوية لأن إزالة الضرر أعظم في النعمة من إيصال تلك المنفعة ، ثم أعقب ذلك بذكر المنفعة الدينية وهو قوله { وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الاْيْمَنَ } إذ أنزل على نبيهم موسى كتاباً فيه بيان دينهم وشرح شريعتهم ، ثم يذكر المنفعة الدنيوية وهو قوله { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى } والظاهر أن الخطاب لمن نجامع موسى بعد إغراق فرعون .

وقيل : لمعاصري الرسول صلى اللّه عليه وسلم اعتراضاً في أثناء قصة موسى توبيخاً لهم إذ لم يصبر سلفهم على أداء شكر نعم اللّه فهو على حذف مضاف ، أي أنجينا آباءكم من تعذيب آل فرعون . وخاطب الجميع بواعدناكم وإن كان الموعودون هم السبعين الذين اختارهم موسى عليه السلام لسماع كلام اللّه ، لأن سماع أولئك السبعين تعود منفعته على جميعهم إذ تطمئن قلوبهم وتسكن وتقدم الكلام في { جَانِبِ الطُّورِ الاْيْمَنِ } في سورة مريم ، وعلى { وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى } في سورة البقرة .

وقرأ حمزة والكسائي وطلحة : قد أنجيتكم وواعدتكم ما رزقتكم بتاء الضمير ، وباقي السبعة بنون العظمة وحميد نجَّيناكم بتشديد الجيم من غير ألف قبلها وبنون العظمة وتقدم خلاف أبي عمرو وفي واعد في البقرة .

والطيبات هنا الحلال اللذيذ لأنه جمع الوصفين . وقرىء { الاْيْمَانَ }

قال الزمخشري بالجر على الجوار نحو جحر ضب خرب انتهى . وهذا من الشذوذ والقلة بحيث ينبغي أن لا تخرّج القراءة عليه ، والصحيح أنه نعت للطور لما فيه من اليمن

وأما لكونه على يمين من يستقبل الجبل ، ونهاهم عن الطغيان فيما رزقهم وهو أن يتعدوا حدود اللّه فيها بأن يكفروها ويشغلهم اللّهو والنعم عن القيام بشكرها ، وأن ينفقوها في المعاصي ويمنعوا الحقوق الواجبة عليهم فيها .

وقرأ زيد بن علي ولا تَطْغُوا فيه بضم الغين . .

وعن ابن عباس { وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ } لا يظلم بعضكم بعضاً فيأخذه من صاحبه يعني بغير حق . وعن الضحاك ومقاتل : لا تجاوزوا حدَّ الإباحة . وعن الكلبي : لا تكفروا النعمة أي لا تستعينوا بنعمتي على مخالفتي .

وقرأ الجمهور { فَيَحِلَّ } بكسر الحاء { وَمَن يَحْلِلْ } بكسر اللام أي فيجب ويلحق .

وقرأ الكسائي بضم الحاء ولام يحلُل أي ينزل وهي قراءة قتادة وأبي حيوة والأعمش وطلحة ووافق ابن عتيبة في يحلل فضم ، وفي الإقناع لأبي علي الأهوازي ما نصه ابن غزوان عن طلحة لا يحلن عليكم { غَضَبِى } بلام ونون مشددة وفتح اللام وكسر الحاء أي : لا تتعرضوا للطغيان فيه فيحل عليكم غضبي من باب لا أرينك هنا وفي كتاب اللوامح قتادة وعبد اللّه بن مسلم بن يسار وابن وثاب والأعمش فَيُحَّلُ بضم الياء وكسر الحاء من الإحلال فهو متعد من حل بنفسه ، والفاعل فيه مقدر ترك لشهرته وتقديره فيحل به طغيانكم { غَضَبِى } عليكم ودل على ذلك { وَلاَ تَطْغَوْاْ } فيصير { غَضَبِى } في موضع نصب مفعول به . وقد يجوز أن يسند الفعل إلى { غَضَبِى } فيصير في موضع رفع بفعله ، وقد حذف منه المفعول للدليل عليه وهو العذاب أو نحوه انتهى .{ فَقَدْ هَوَى } كنى به عن الهلاك ، وأصله أن يسقط من جبل فيهلك يقال هوى الرجل أي سقط ، ويشبه الذي يقع في ورطة بعد أن بنجوة منها بالساقط ، أو { هَوَى } في جهنم وفي سخط اللّه وغضب اللّه عقوباته ، ولذلك وصف بالنزول .

ولما حذر تعالى من الطغيان فيما رزق وحذر من حلول غضبه فتح باب الرجاء للتائبين

٨٢

وإني لغفار لمن . . . . .

وأتى بصيغة المبالغة وهي قوله { وَإِنّى لَغَفَّارٌ لّمَن تَابَ } قال ابن عباس من الشرك { وَامَنَ } أي وحد اللّه { وَعَمِلَ صَالِحَاً } أدى الفرائض { ثُمَّ اهْتَدَى } لزم الهداية وأدامها إلى الموافاة على الإسلام .

وقيل : معناه لم يشك في إيمانه .

وقيل : ثم استقام .

قال ابن عطية : والذي تقوى في معنى { ثُمَّ اهْتَدَى } أن يكون ثم حفظ معتقداته من أن يخالف الحق في شيء من الأشياء ، فإن الاهتداء على هذا الوجه غير الإيمان وغير العمل .

وقال الزمخشري : الاهتداء هو الاستقامة والثبات على الهدى المذكور وهو التوبة والإيمان والعمل الصالح ، ونحوه :{ إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللّه ثُمَّ اسْتَقَامُواْ } وكلمة التراخي دلت على تباين المنزلتين دلالتها على تباين الوقتين في جاءني زيد ثم عمر ، وأعني أن منزلة الاستقامة على الخبر مباينة لمنزلة الخبر نفسه لأنها أعلى منه وأفضل .

٨٣

انظر تسفير الآية:٨٤

٨٤

وما أعجلك عن . . . . .

لما نهض موسى عليه السلام ببني إسرائيل إلى جانب الطور الأيمن حيث كان الموعد أن يكلم اللّه موسى بما فيه شرف العاجل والآجل ، رأى على وجه الاجتهاد أن يقدم وحده مبادراً إلى أمر اللّه وحرصاً على القرب منه وشوقاً إلى مناجاته ، واستخلف هارون على بني إسرائيل وقال لهم موسى : تسيرون إلى جانب الطور فلما انتهى موسى عليه السلام وناجى ربه ، زاده في الأجل عشراً وحينئذ وقفه على استعجاله دون القوم ليخبره موسى أنهم على الأثر فيقع الإعلام له بما صنعوا { وَمَا } استفهام أيأي شيء عجل بك عنهم .

قال الزمخشري : وكان قد مضى مع النقباء إلى الطور على الموعد المضروب ثم تقدمهم شوقاً إلى كلام ربه وينجز ما وعد به بناء على اجتهاده ، وظن أن ذلك أقرب إلى رضا اللّه ، وزال عنه أنه عز وجل ما وقت أفعاله إلا نظراً إلى دواعي الحكمة وعلماً بالمصالح المتعلقة بكل وقت ، فالمراد بالقوم النقباء انتهى .

والظاهر أن قوله عز وجل { عَن قَومِكَ } يريد به جميع بني إسرائيل كما قد بيّنا قبل لا السبعين .

وقال الزمخشري : وليس يقول من جوز أن يراد جميع قومه وأن يكون قد فارقهم قبل الميعاد وجه صحيح ما يأباه قوله { هُمْ أُوْلاء عَلَى أَثَرِى } انتهى .{ وَمَا أَعْجَلَكَ } سؤال عن سبب العجلة وأجاب بقوله { هُمْ أُوْلاء عَلَى أَثَرِى وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبّ لِتَرْضَى } لأن قوله { وَمَا أَعْجَلَكَ } تضمن تأخر قومه عنه ، فأجاب مشيراً إليهم لقربهم منه إنهم على أثره جائين

للموعد ، وذلك على ما كان عهد إليهم أن يجيئوا للموعد . ثم ذكر السبب الذي حمله على العجلة وهو ما تضمنه قوله { وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبّ لِتَرْضَى } من طلبه رضا اللّه تعالى في السبق إلى ما وعده ربه ومعنى { إِلَيْكَ } إلى مكان وعدك و { لِتَرْضَى } أي ليدوم رضاك ويستمر ، لأنه تعالى كان عنه راضياً .

وقال الزمخشري :

فإنقلت :{ مَا أَعْجَلَكَ } سؤال عن سبب العجلة ، فكان الذي ينطبق عليه من الجواب أن يقال : طلب زيادة رضاك والشوق إلى كلامك وينجز موعدك وقوله { هُمْ أُوْلاء عَلَى أَثَرِى } كما ترى غير منطبق عليه .

قلت : قد تضمن ما واجهه به رب العزة شيئين أحدهما إنكار العجلة في نفسها ، والثاني السؤال عن سبب المستنكر والحامل عليه ، فكان أهم الأمرين إلى موسى بسط العذر وتمهيد العلة في نفس ما أنكر عليه ، فاعتل بأنه لم يوجد مني إلاّ تقدم يسير مثله لا يعتد به في العادة ولا يحتفل به ، وليس بيني وبين من سبقته إلا مسافة قريبة يتقدم بمثلها الوفد رأسهم ومقدمهم ، ثم عقبه بجواب السؤال عن السبب فقال { وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبّ لِتَرْضَى } ولقائل أن يقول : حارَ لِما وَرَد عليه من التهيب لعتاب اللّه فأذهله ذلك عن الجواب المنطبق المترتب على حدود الكلام انتهى . وفيه سوء أدب على الأنبياء عليهم السلام .

وقرأ الحسن وابن معاذ عن أبيه أولائي بياء مكسورة وابن وثاب وعيسى في رواية { أُوْلاء } بالقصر . وقرأت فرقة أولاي بياء مفتوحة .

وقرأ عيسى ويعقوب وعبد الوارث عن أبي عمرو وزيد بن علي إثري بكسر الهمزة وسكون الثاء .

وحكى الكسائي أثْرِي بضم الهمزة وسكون الثاء وتروى عن عيسى .

وقرأ الجمهور { أُوْلاء } بالمد والهمز على { أَثَرِى } بفتح الهمز والثاء و { عَلَى أَثَرِى } يحتمل أن يكون خبراً بعد خبر ، أو في موضع نصب على الحال .

٨٥

قال فإنا قد . . . . .

قال : { فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِىُّ } أي اختبرناهم بما فعل السامري أو ألقيناهم في فتنة أي ميل مع الشهوات ووقوع في اختلاف { مِن بَعْدِكَ } أي من بعد فراقك لهم .

وقال الزمخشري : أراد بالقوم المفتونين الذين خلفهم مع هارون ، وكانوا ستمائة ألف ما نجا من عبادة العجل إلاّ اثنا عشر ألفاً

فإن قلت : فيي القصة أنهم أقاموا بعد مفارقته عشرين ليلة وحسبوا أربعين مع أيامها ، وقالوا قد أكملنا العدة ثم كان أمر العجل بعد ذلك ، فكيف التوفيق بين هذا وبين قوله تعالى لموسى عند مقدمه { إِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ } ؟

قلت : قد أخبر اللّه تعالى عن الفتنة المترقبة بلفظ الموجودة الكائنة على عادته ، وافترض السامري غيبته فعزم على إضلالهم غب انطلاقه . وأخذ في تدبير ذلك فكان بدء الفتنة موجوداً انتهى .

وقرأ الجمهور :{ وَأَضَلَّهُمُ } فعلاً ماضياً .

وقرأ أبو معاذ وفرقة وأضَلُهم برفع اللام مبتدأ والسامري خبره وكان أشدهم ضلالاً لأنه ضال في نفسه مضل غيره . وفي القراءة الشهري أسند الضلال إلى السامري لأنه كان السبب في ضلالهم ، وأسند الفتنة إليه تعالى لأنه هو الذي خلقها في قلوبهم . و { السَّامِرِىُّ } قيل اسمه موسى بن ظفر .

وقيل : منجا وهو ابن خالة موسى أو ابن عمه أو عظيم من بني إسرائيل من قبيلة تعرف بالسامرة ، أو علج من كرمان ، أو من باجرما أو من اليهود أو من القبط آمن بموسى وخرج معه ، وكان جاره أو من عباد البقر وقع في مصر فدخل في بني اسرائيل بظاهره وفي قلبه عبادة البقر أقوال وتقوم في الأعراف كيفية اتخاذ العجل وقبل ذلك في البقرة فأغنى عن إعادتها هنا .

٨٦

فرجع موسى إلى . . . . .

{فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ } وذلك بعدما استوفى الأربعين وانتصب { غَضْبَانَ أَسِفًا } على الحال ، والأسف أشد الغضب .

وقيل : الحزن وغضبه من حيث له قدرة على تغيير منكرهم ، وأسفه وهو حزنه من حيث علم أنه موضع عقوبة لا يد له بمدفعها ولا بد منها .

قال ابن عطية : والأسف في كلام العرب متى كان من ذي قدرة على من دونه فهو غضب ، ومتى كان من الأقل على الأقوى فهو حزن ، وتأمل ذلك فهو مطرد ، ثم أخذ موسى عليه السلام يوبخهم على إضلالهم والوعد الحسن ما وعدهم من الوصول إلى جانب الطور الأيمن وما بعد ذلك من الفتوح في الأرض والمغفرة لمن تاب وآمن وغير ذلك مما وعد اللّه أهل

طاعته .

وقال الزمخشري : وعدهم اللّه بعدما استوفى الأربعين أن يعطيهم التوراة التي فيها هدى ونور ، ولا وعد أحسن من ذاك وأجمل . وقال الحسن : الوعد الحسن الجنة .

وقيل : أن يسمعهم كلامه والعهد الزمان ، يريد مفارقته لهم يقال طال عهدي بكذا أي طال زماني بسبب مفارقتك ، وعدوه أن يقيموا على أمره وما تركهم عليه من الإيمان فأخلفوا موعد بعبادتهم العجل انتهى .

وانتصب { وَعْداً } على المصدر والمفعول الثاني ليعدكم محذوف أو أطلق الوعد ويراد به الموعود فيكون هو المفعول الثاني وفي قوله { أَفَطَالَ } إلى آخره توقيف على أعذار لم تكن ولا تصح لهم وهو طول العهد حتى يتبين لهم خلف في الموعد وإرادة حلول غضب اللّه ، وذلك كله لم يكن ولكنهم عملوا عمل من لم يتدبر . وسُمِّي العذاب غضباً من حيث هو ناشىء عن الغضب فإن جعل بمعنى الإرادة فصفة ذات أو عن ظهور النقمة والعذاب فصفة فعل .{ مَّوْعِدِى } مصدر يحتمل أن يضاف إلى الفاعل أي أوجدتموني أخلفت ما وعدتكم من قول العرب . فلان أخلف وعد فلان إذا وجد وقع فيه الخلف قاله المفضل ، وأن يضاف إلى المفعول وكانوا وعدوه أن يتمسكوا بدين اللّه وسنة موسى عليه السلام ولا يخالفوا أمر اللّه أبداً فأخلفوا موعده بعبادتهم العجل .

٨٧

قالوا ما أخلفنا . . . . .

وقرأ الأخوان والحسن والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى وقعنت بِمُلْكِنا بضم الميم .

وقرأ زيد بن عليّ ونافع وعاصم وأبو جعفر وشيبة وابن سعدان بفتحها وباقي السبعة بكسرها .

وقرأ عمر رضي اللّه عنه بِمَلَكِنا بفتح الميم واللام وحقيقته بسلطاننا ، فالملك والملك بمنزلة النقض والنقض . والظاهر أنها لغات والمعنى واحد وفرق أبو عليّ وغيره بين معانيها فمعنى الضم أنه لم يكن لنا ملك فنخلف موعدك بسلطانه وإنما أخلفناه بنظر أدّى إليه ما فعل السامري ، فليس المعنى أن لهم ملكاً وإنما هذا كقول ذي الرّمة : لا يشتكي سقط منها وقد رقصت

بها المفاوز حتى ظهرها حدب أي لا يكون منها سقطة فتشتكي ، وفتح الميم مصدر من ملك والمعنى ما فعلنا ذلك بأنا ملكنا الصواب ولا وقفنا له ، بل غلبتنا أنفسننا وكسر الميم كثر استعماله فيما تحوزه اليد ولكنه يستعمل في الأمور التي يبرمها الإنسان ومعناها كمعنى التي قبلها . والمصدر في هذين الوجهين مضاف إلى الفاعل والمفعول مقدر أي { يملكنا } الصواب .

وقال الزمخشري ؛ أي { قَالُواْ مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ } بأن ملكنا أمرنا أي لو ملكنا أمرنا وخلينا ورأينا لما أخلفناه ، ولكن غلبنا من جهة السامري وكيده .

وقرأ الأخوان وأبو عمرو وابن محيصن بفتح الحاء والميم وأبو رجاء بضم الحاء وكسر الميم .

وقرأ باقي السبعة وأبو جعفر وشيبة وحميد ويعقوب غير روح كذلك إلا أنهم شدّدوا الميم ، والأوزار الأثقال أطلق على ما كانوا استعاروا من لقيط برسم التزين أوزاراً لثقلها ، أو لسبب أنهم أثموا في ذلك فسميت أوزاراً لما حصلت الأوزار التي هي الآثام بسببها . والقوم هنا القبط .

وقيل : أمرهم بالاستعارة موسى .

وقيل : أمر اللّه موسى بذلك .

وقيل : هو ما ألقاه البحر مما كان على الذين غرقوا .

وقيل : الأوزار التي هي الآثام من جهة أنهم لم يردوها إلى أصحابها ، ومعنى أنهم حملوا الآثام وقذفوها على ظهورهم كما جاؤهم يحملون أوزارهم على ظهورهم .

وقيل معنى { فقذفناهم } أي الحليّ على أنفسنا وأولادنا .

وقيل { الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا } في النار أي ذلك الحلي ، وكان أشار عليهم بذلك السامري فحفرت حفرة وسجرت فيها النار وقذف كل من معه شيء ما عنده من ذلك في النار . وقذف السامري ما معه . ومعنى { فَكَذَلِكَ } أي مثل قذفنا إياها { أَلْقَى السَّامِرِىُّ } ما كان معه . وظاهر هذه الألفاظ أن العجل لم يصنعه السامري .

وقال الزمخشري :{ فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِىُّ } أراهم أنه يلقي

حلياً في يده مثل ما ألقوا وإنما ألقى التربة التي أخدها من موطىء حيزوم فرس جبريل عليه السلام ، أوحى إليه وليه الشيطان أنها إذا خالطت مواتاً صار حيواناً

٨٨

فأخرج لهم عجلا . . . . .

فأخرج لهم السامري من الحفرة عجلاً خلقه اللّه من الحلي التي سبكتها النار تخور كخور العجاجيل . والمراد بقوله { إِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ } هو خلق العجل للامتحان أي امتحناهم بخلق العجل وحملهم السامري على الضلال وأوقعهم فيه حين قال لهم { هَاذَا إِلَاهُكُمْ وَإِلَاهُ مُوسَى } انتهى .

وقيل : معنى { جَسَداً } شخصاً .

وقيل : لا يتغذى ، وتقدم الكلام على قوله { لَّهُ خُوَارٌ } في الأعراف . والضمير في { فَقَالُواْ } لبني إسرائيل أي ضلوا حين قال كبارهم لصغارهم و { هَاذَا } إشارة إلى العجل .

وقيل : الضمير في { فَقَالُواْ } عائد على السامري أخبر عنه بلفظ الجمع تعظيماً لجرمه .

وقيل : عليه وعلى تابعيه .

وقرأ الأعمش فنَسِيْ بسكون الياء ، والظاهر أن الضمير في { فَنَسِىَ } عائد على السامري أي { فَنَسِىَ } إسلامه وإيمانه قاله ابن عباس ، أو فترك ما كان عليه من الدين قاله مكحول ، وهو كقول ابن عباس أو { فَنَسِىَ } أن العجل { لاَ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلاَ يَمْلِكُ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً } و { فَنَسِىَ } الاستدلال على حدوث الأجسام وأن الإله لا يحل في شيء ولا يحل فيه شيء وعلى هذه الأقوال يكون { فَنَسِىَ } إخباراً من اللّه عن السامري .

وقيل : الضمير عائد على موسى عليه السلام أي { فَنَسِىَ } موسى أن يذكر لكم أن هذا إلهكم أو { فَنَسِىَ } الطريق إلى ربه ، وكلا هذين القولين عن ابن عباس . أو { فَنَسِىَ } موسى إلهه عندكم وخالفه في طريق آخر قاله قتادة ، وعلى هذه الأقوال يكون من كلام السامري .

٨٩

أفلا يرون ألا . . . . .

ثم بيَّن تعالى فساد اعتقادهم بأن الألوهية لا تصلح لمن سلبت عنه هذه الصفات فقال : { أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا لاَ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً } وهذا كقول إبراهيم ليه { لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ } والرؤية هنا بمعنى العلم ، ولذلك جاء بعدها أن المخففة من الثقيلة كما جاء { أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلّمُهُمْ } بأن الثقيلة وبرفع يرجع قرأ الجمهور .

وقرأ أبو حيوة { أَن لا يُرْجَعُ } بنصب العين قاله ابن خالويه وفي الكامل ووافقه على ذلك وعلى نصب { وَلاَ يَمْلِكُ } الزعفراني وابن صبيح وأبان والشافعي محمد بن إدريس الإمام المطلبي جعلوها أن الناصبة للمضارع وتكون الرؤية من الإبصار .

٩٠

ولقد قال لهم . . . . .

اللحية معروفة وتجمع على لِحَى بكسر اللام وضمها . نسف ينسف بكسر سين المضارع وضمها نسفاً فرّق وذرى . وقال ابن الأعرابيي : قلع من الأصل . الزرقة : لون معروف ، يقال : زرقت عينه وازرَّقت وازراقت ، القاع قال ابن الأعرابي : الأرض الملساء لا نبات فيها ولا بناء . وقال الجوهري : المستوي من الأرض . ومنه قول ضرار بن الخطاب : ليكونن بالبطاح قريش

فقعة القاع في أكف الإماء

والجمع أقوع وأقواع وقيعان .

وحكى مكي أن القاع في اللغة المكان المنكشف . وقال بعض أهل اللغة : القاع مستنقع الماء . الصفصف : المستوى الأملس .

وقيل : الذي لا نبات فيه ، وهو مضاعف كالسبسب . الأمت : التل . والعوج : التعوج في الفجاج قاله ابن الأعرابي . الهمس : الصوت الخفي قاله أبو عبيدة .

وقيل : وطء الأقدام . قال الشاعر :

وهن يمشين بنا هميساً

ويقال للأسد الهموس لخفاء وطئه ، ويقال همس الطعام مضغه . عنا يعنو : ذل وخضع ، وأعناه غيره أذلة . وقال أمية بن أبي الصلت : مليك على عرش السماء مهيمن

لعزته تعنو الوجوه وتسجد

الهضم : النقص تقول العرب : هضمت لك حقي أي حططت منه ، ومنه هضيم الكشحين أي ضامرهما وفي الصحاح : رجل هضيم ومتهضم مظلوم وتهضمه واهتضمه ظلمه . وقال المتوكل الليثي : إن الأذلة واللئام لمعشر

مولاهم المنهضم المظلوم

عرى يُعَرَّى لم يكن على جلده شيء يقيه . قال الشاعر : وإن يعرين إن كسى الجواري

فتنبو العين عن كرم عجاف

ضحى يضحي : برز للشمس . قال عمرو بن أبي ربيعة :

رأت رجلاً أيما إذا الشمس عارضت

فيضحي

وأما بالعشي فيحضر

الضنك : الضيق والشدّة : ضنك عيشة يضنك ضناكة وضنكاً ، وامرأة ضناك كثيرة اللحم صار جلدها به . زهرة : بفتح الهاء وسكونها نحو نهر ونهر ما يروق من النور ، وسراج زاهر له بريق ، والأنجم الزهر المضيئة ، وأزهر الشجر بدا زهره وهو النور .

٩١

انظر تسفير الآية:٩٢

٩٢

قالوا لن نبرح . . . . .

أشفق هارون على نفسه وعليهم وبذل لهم النصيحة ، وبيَّن أن ما ذهبوا إليه من أمر العجل إنما هو فتنة إذ كان مأموراً من عند اللّه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ومن أخيه موسى عليه السلام { اخْلُفْنِى فِى قَوْمِى } الآية ولا يمكنه أن يخالف أمر اللّه وأمر أخيه . وروي أن اللّه أوحى إلى يوشع إني مهلك من قومك أربعين ألفاً فقال : يا رب فما بال الأخيار ؟ قال : إنهم لم تغضبوا لغضبي ، والمضاف إليه المقطوع عنه من قبل قدره الزمخشري من قبل أن يقول لهم السامري ما قال ، كأنهم أول ما وقعت عليه أبصارهم حين طلع من الحفرة افتتنوا به واستحسنوه قبل أن ينطق السامري بادر هارون عليه السلام بقوله { إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ}

و

قال ابن عطية : أخبر عز وجل أن هارون قد كان قال لهم في أول حال العجل إنما هي فتنة وبلاء وتمويه من السامري ، وإنما ربكم الرحمن الذي له القدرة والعلم والخلق والاختراع { فَاتَّبِعُونِى } إلى الطور الذي واعدكم اللّه تعالى إليه { وَأَطِيعُواْ أَمْرِى } فيما ذكرته لكم انتهى . والضمير في { بِهِ } عائد على العجل ، زجرهم أولاً هارون عن الباطل وإزالة الشبهة بقوله { إِنَّمَا فُتِنتُمْ } ثم نبههم على معرفة ربهم وذكر وصف الرحمة تنبيهاً على أنهم متى تابوا قبلهم وتذكيراً لتخليصهم من فرعون زمان لم يوجد العجل ، ثم أمرهم باتباعه تنبيهاً على أنه نبيّ يجب أن يتبع ويطاع أمره .

وقرأ الحسن وعيسى وأبو عمرو في رواية وأن ربكم بفتح الهمزة والجمهور بكسرها ، والمصدر المنسبك منها في موضع خبر مبتدأ محذوف تقديره والأمر { إِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ } فهو من عطف جملة على جملة ، وقدره أبو حاتم ولأن ربكم الرحمن . وقرأت فرقة أنما وأن ربكم بفتح الهمزتين وتخريج هذه القراءة على لغة سليم حيث يفتحون أن بعد القول مطلقاً .

ولما وعظهم هارون ونبههم على ما فيه رشدهم اتبعوا سبيل الغي و { قَالُواْ لَن نَّبْرَحَ } على عبادته مقيمين ملازمين له ، وغيوا ذلك برجوع موسى وفي قولهم ذلك دليل على عدم رجوعهم إلى الاستدلال وأخذ بتقليدهم السامري ودلالة على أن { لَنْ } لا تقتضي التأييد خلافاً للزمخشري إذ لو كان من موضوعها التأبيد لما جازت التغيية بحتى لأن التغيية لا تكون إلا حيث يكون الشيء محتملاً فيزيل ذلك الاحتمال بالتغيية .

وقيل قوله { قَالَ يَاءادَمُ هَارُونَ } كلام محذوف تقديره فرجع موسى ووجدهم عاكفين على عبادة العجل { قَالَ يَاءادَمُ هَارُونَ } وكان ظهور العجل في سادس وثلاثين يوماً وعبدوه وجاءهم موسى بعد استكمال الأربعين ، فعتب موسى على عدم اتباعه لما رآهم قد ضلوا

٩٣

ألا تتبعن أفعصيت . . . . .

و { لا } زائدة كهي في قوله { مَا مَنَعَكَ أَن لاَ تَسْجُدُواْ} وقال عليّ بن عيسى دخلت { لا } هنا لأن المعنى ما دعاك إلى أن لا تتبعني ، وما حملك على أن لا تتبعني بمن معك من المؤمنين } أفعصيت أمري } يريد قوله أفعصيت أمري } يريد قوله يريد قوله { اخْلُفْنِى } الآية .

وقال الزمخشري : ما منعك أن تتبعني في الغضب للّه وشدّة الزجر على الكفر والمعاصي ،

وهلا قاتلت من كفر بمن آمن ومالك لم تباشر الأمر كما كنت أباشره أنا لو كنت شاهداً ، أو مالك لم تلحقني . وفي ذلك تحميل للفظ ما لا يحتمله وتكثير ولما كان قوله تتبعني لم يذكر متعلقه كان الظاهر أن لا تتبعني إلى جبل الطور ببني إسرائيل

٩٤

قال يا ابن . . . . .

فيجيء اعتذار هارون بقوله { إِنّى خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِى إِسْرءيلَ } إذ كان لا يتبعه إلاّ المؤمنون ويبقى عباد العجل عاكفين عليه كما قالوا { لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ } ويحتمل أن يكون المعنى تتبعني تسير بسيري في الإصلاح والتسديد ، فيجيء اعتذاره أن الأمر تفاقم فلو تقويت عليه تقاتلوا واختلفوا فكان تفريقاً بينهم وإنما لاينت جهدي .

وقرأ عيسى بن سليمان الحجازي بِلَحْيَتِي بفتح اللام وهي لغة أهل الحجاز . وكان موسى عليه السلام شديد الغضب للّه ولدينه ، ولما رأى قومه عبدوا عجلاً من دون اللّه بعد ما شاهدوا من الآيات العظام لم يتمالك أن أقبل على أخيه قابضاً على شعر رأسه ، وكان كثير الشعر وعلى شعر وجهه يجره إليه فأبدى عذره فإنه لو قاتل بعضهم ببعض لتفرقوا وتفانوا ، فانتظرتك لتكون المتدراك لهم ، وخشيت عتابك على اطراح ما وصيتني به والعمل بموجبها . وتقدّم الكلام على { ابْنَ أُمَّ } قراءة وإعراباً وغير ذلك .

وقرأ أبو جعفر ولم يُرْقِبْ بضم التاء وكسر القاف مضارع أرقب .

٩٥

قال فما خطبك . . . . .

ولما اعتذر له أخوه رجع إلى مخاطبة الذي أوقعهم في الضلال وهو السامري وتقدّم الكلام في الخطب في سورة يوسف . وقال ابن عطية { مَا خَطْبُكُمَا } كما تقول ما شأنك وما أمرك ، لكن لفظة الخطب تقتضي انتهاراً لأن الخطب مستعمل في المكاره فكأنه قال : ما تحسك وما شؤمك ، وما هذا الخطب الذي جاء من قبلك انتهى . وهذا ليس كما ذكر ألا ترى إلى قوله قال { فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ } وهو قول إبراهيم لملائكة اللّه فليس هذا يقتضي انتهاراً ولا شيئاً مما ذكر .

وقال الزمخشري : خطب مصدر خطب الأمر إذا طلبه ، فإذا قيل لمن يفعل شيئاً ما خطبك ، فمعناه ما طلبك له انتهى . ومنه خطبة النكاح وهو طلبه .

وقيل : هو مشتق من الخطاب كأنه قال له : ما حملك على أن خاطبت بني إسرائيل بما خاطبت وفعلت معهم ما فعلت

٩٦

قال بصرت بما . . . . .

{قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ} قال أبو عبيدة : علمت ما لم يعلموا . وقال الزجاج : بصر بالشيء إذا علمه وأبصر إذا نظر .

وقيل : بصر به وأبصره بمعنى واحد .

وقرأ الأعمش وأبو السماك : بَصِرْتُ بكسر الصاد بما لم تَبْصَروا بفتح الصاد .

وقرأ عمرو بن عبيد بُصُرْتُ بضم الباء وضم الصاد بما لم تُبْصَروا بضم التاء وفتح الصاد مبنياً للمفعول فيهما .

وقرأ الجمهور { بَصُرْتُ } بضم الصاد وحمزة والكسائي وأبو بحرية والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى وابن مناذر وابن سعدان وقعنت تبصروا بتاء الخطاب لموسى وبني إسرائيل وباقي السبعة { يَبْصُرُواْ } بياء الغيبة .

وقرأ الجمهور { فَقَبَضْتُ قَبْضَةً } بالضاد المعجمة فيهما أي أخذت بكفي مع الأصابع .

وقرأ عبد اللّه وأبي وابن الزبير وحميد والحسن بالصاد فيهما ، وهو الأخذ بأطراف الأصابع .

وقرأ الحسن بخلاف عنه وقتادة ونصر بن عاصم بضم القاف والصاد المهملة ، وأدغم ابن محيصن الضاد المنقوطة في تاء المتكلم وأبقى الإطباق مع تشديد التاء .

وقال المفسرون { الرَّسُولَ } هنا جبريل عليه السلام ، وتقديره من { أَثَرِ } فرس { الرَّسُولَ } وكذا قرأ عبد اللّه ، والأثر التراب الذي تحت حافره { فَنَبَذْتُهَا } أي ألقيتها على الحليّ الذي تصور منه العجل فكان منها ما رأيت . وقال الأكثرون رأى السامري جبريل يوم فلق البحر ، وعن عليّ رآه حين ذهب موسى إلى الطور وجاءه جبريل فأبصره دون الناس .

وقال الزمخشري :

فإن قلت : لم سماه { الرَّسُولَ } دون جبريل وروح القدس ؟

قلت : حين حل ميعاد الذهاب إلى الطور أرسل اللّه إلى موسى جبريل راكب حيزوم فرس الحياة ليذهب به ، فأبصره السامري فقال : إن لهذا

لشأناً فقبض القبضة من تربة موطئه ، فلما سأله موسى عن قصته قال قبضت من أثر فرس المرسل إليك يوم حلول الميعاد ، ولعله لم يعرف أنه جبريل انتهى . وهو قول عليّ مع زيادة .

وقال أبو مسلم الأصبهاني : ليس في القرآن تصريح بهذا الذي ذكره المفسرون ، وهنا وجه آخر وهو أن يكون المراد بالرسول موسى عليه السلام ، وأثره سنته ورسمه الذي أمر به ، فقد يقول الرجل : فلان يقفو أثر فلان ويقتص أثره إذا كان يمتثل رسمه ، والتقدير أن موسى لما أقبل على السامري باللوم والمسألة عن الأمر الذي دعاه إلى إضلال القول في العجل { قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ } أي عرفت أن الذي أنتم عليه ليس بحق ، وقد كنت قبضت قبضة من أثرك أيها الرسول أي شيئاً من دينك { فَنَبَذْتُهَا } أي طرحتها . فعند ذلك أعلم موسى بما له من العذاب في الدنيا والآخرة وإنما أراد لفظ الإخبار عن غائب كما يقول الرجل لرئيسه وهو مواجه له : ما يقول الأمير في كذا أو بماذا يأمر الأمير ، وتسميته رسولاً مع جحده وكفره ، فعلى مذهب من حكى اللّه عنه قوله { وَقَالُواْ يأَيُّهَا الَّذِى نُزّلَ عَلَيْهِ الذّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ } فإن لم يئمنوا بالإنزال قيل : وما ذكره أبو مسلم أقرب إلى التحقيق إلاّ أن فيه مخالفة المفسرين . قيل : ويبعد ما قالوه أن جبريل ليس معهوداً باسم رسول ، ولم يجر له فيما تقدم ذكر حتى تكون اللام في الرسول لسابق في الذكر ، ولأن ما قالوه لا بد من إضمار أي من أثر حافر فرس الرسول والإضمار خلاف الأصل ، ولأن اختصاص السامري برؤية جبريل ومعرفته من بين الناس يبعد جداً ، وكيف عرف أن حافر فرسه يؤثر هذا الأثر الغريب العجيب من إحياء الجماد به وصيرورته لحماً ودماً ؟ وكيف عرف جبريل يتردّد إلى نبيّ وقد عرف نبوّته وصحت عنده فحاول الإضلال ؟ ويكف اطلع كافر على تراب هذا شأنه ؟ فلقائل أن يقول : لعل موسى اطلع على شيء آخر يشبه هذا فلأجله أتى بالمعجزات ، فيصير ذلك قادحاً فيما أتوا به من الخوارق انتهى . ما رجح به هذا القائل قول أبي مسلم الأصبهاني .

{وَكَذالِكَ سَوَّلَتْ لِى نَفْسِى } أي كما حدث ووقع قربت لي نفسي وجعلته لي رسولاً وإرباً حتى فعلته ،

٩٧

قال فاذهب فإن . . . . .

وكان موسى عليه السلام لا يقتل بني إسرائيل إلا في حد أو وحي ، فعاقبه باجتهاد نفسه بأن أبعده ونحاه عن الناس وأمر بني إسرائيل باجتنابه واجتناب قبيلته وأن لا يواكلوا ولا يناكحوا ، وجعل له أن يقول مدة حياته { لاَ مِسَاسَ } أي لا مماسة ولا إذابة .

وقال الزمخشري : عوقب في الدنيا بعقوبة لا شيء أطم منها وأوحش ، وذلك أنه منع من مخالطة الناس منعاً كلياً ، وحرم عليهم ملاقاته ومكالمته ومبايعته ومواجهته وكل ما يعايش به الناس بعضهم بعضاً ، وإذا اتفق أن يماس أحداً رجلاً أو امرأة حمّ الماسّ والممسوس فتحامى الناس وتحاموه ، وكان يصبح { لاَ مِسَاسَ } ويقال إن قومه باق فيهم ذلك إلى اليوم انتهى . وكون الحمى تأخذ الماس والممسوس قول قتادة والأمر بالذهاب حقيقة ودخلت الفاء للتعقيب إثر المحاورة وطرده بلا مهلة زمانية ، وعبر بالمماسة عن المخالطة لأنها أدنى أسباب المخالطة فنبه بالأدنى على الأعلى ، والمعنى لا مخالطة بينك وبين الناس فنفر من الناس ولزم البرية وهجر البرية وبقي مع الوحوش إلى أن استوحش وصار إذا رأى أحداً يقول { لاَ مِسَاسَ } أي لا تمسني ولا أمسك .

وقيل : ابتلي بعذاب قيل له { لاَ مِسَاسَ } بالوسواس وهو الذي عناه الشاعر بقوله : فأصبح ذلك كالسامري

إذ قال موسى له لا مساسا

ومنه قول رؤبة :

حتى تقول الأزد لا مساسا

وقيل : أراد موسى قتله فمنعه اللّه من قتله لأنه كان شيخاً . قال بعض شيوخنا وقد وقع مثل هذا في شرعنا في

قصة الثلاثة الذين خلفوا أمر الرسول عليه السلام أن لا يكلموا ولا يخالطوا وأن يعتزلوا نساءهم حتى تاب اللّه عليهم .

وقرأ الجمهور { لاَ مِسَاسَ } بفتح السين والميم المكسورة و { مِسَاسَ } مصدر ماس كقتال من قاتل ، وهو منفي بلا التي لنفي الجنس ، وهو نفي أريد به النهي أي لا تمسني ولا أمسك .

وقرأ الحسن وأبو حيوة وابن أبي عبلة وقعنب بفتح الميم وكسر السين . فقال صاحب اللوامح : هو على صورة نزال ونظار من أسماء الأفعال بمعنى أنزل وأنظر ، فهذه الأسماء التي بهذه الصيغة معارف ولا تدخل عليها إلا النافية التي تنصب النكرات نحو لا مال لك ، لكنه فيه نفي الفعل فتقديره لا يكون منك مساس ، ولا أقول مساس ومعناه النهي أي لا تمسني انتهى . وظاهر هذا أن مساس اسم فعل .

وقال الزمخشري { لاَ مِسَاسَ } بوزن فجار ونحوه قولهم في الظباء : إن وردن الماء فلا عباب

وإن فقدنه فلا إباب

وهي أعلام للمسة والعبة والأبة وهي المرة من الأب وهو الطلب . وقال ابن عطية { لاَ مِسَاسَ } هو معدول عن المصدر كفجار ونحوه ، وشبهه أبو عبيدة وغيره بنزال ودراك ونحوه ، والشبه صحح من حيث هي معدولات ، وفارقه في أن هذه عدلت عن الأمر ومساس وفجار عدلت عن المصدر . ومن هذا قول الشاعر : تميم كرهط السامري وقوله

ألا لا يريد السامري مساس

انتهى . فكلام الزمخشري وابن عطية يدل على أن مساس معدول عن المصدر الذي هو المسة ، كفجار معدولاً عن الفجرة { وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً } أي في يوم القيامة .

وقرأ الجمهور { لَّن تُخْلَفَهُ } بالتاء المضمومة وفتح اللام على معنى لن يقع فيه خلف بل ينجزه لك اللّه في الآخرة على الشرك والفساد بعدما عاقبك في الدنيا .

وقال الزمخشري : وهذا من أخلفت الموعد إذا وجدته خلفاً . قال الأعشى : أثوى وقصر ليله ليزوّدا

فمضى وأخلف من قتيلة موعدا

وقرأ ابن كثير والأعمش وأبو عمرو بضم التاء وكسر اللام أي لن تستطيع الروغان عنه . والحيدة فتزول عن موعد العذاب .

وقرأ أبو نهيك : لن تَخْلُفُه بفتح التاء وضم اللام هكذا بالتاء منقوطة من فوق عن أبي نهيك في نقل ابن خالويه . وفي اللوامح أبو نهيك لن يَخْلُفه بفتح الياء وضم اللام وهو من خلفه يخلفه إذا جاء بعده أي الموعد الذي لك لا يدفع قولك الذي تقوله فيما بعد { لاَ مِسَاسَ } بالفعل فهو مسند إلى الموعد أو الموعد لن يختلف ما قدر لك من العذاب في الآخرة . وقال سهل : يعني أبا حاتم لا يعرف لقراءة أبي نهيك مذهباً انتهى .

وقرأ ابن مسعود والحسن بخلاف عنه نخلفه بالنون وكسر اللام أي لا ننقص مما وعدنا لك من الزمان شيئاً . وقال ابن جني لن يصادفه مخالفاً .

وقال الزمخشري : لن يخلفه اللّه . حكى قوله عز وكل كما مر في { لاِهَبَ لَكِ } انتهى .

ثم وبخ موسى عليه السلام السامري بما أراد أن يفعل بالعجل الذي اتخذه إلهاً من الاستطالة عليه بتغيير هيئته ، فواجهه بقوله { وَانظُرْ إِلَى إِلَاهِكَ } وخاطبه وحده إذ كان هو رأس الضلال وهو ينظر لقولهم { لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ } وأقسم { لَّنُحَرّقَنَّهُ } وهو أعظم فساد الصورة { ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِى الْيَمّ } حتى تتفرق أجزاؤه فلا يجتمع ، ويظهر أنه لما كان قد أخذ السامري القبضة من أثر فرس جبريل وهو داخل البحر حالة تقدم فرعون وتبعه فرعون في الدخول ناسب أن ينسف ذلك العجل الذي صاغه

السامري من الحليّ الذي كان أصله للقبط . وألقى فيه القبضة في البحر ليكون ذلك تنبيهاً على أن ما كان به قيام الحياة آل إلى العدم . وألقى في محل ما قامت به الحياة وإن أموال القبط قذفها اللّه في البحر بحيث لا ينتفع بها كما قذف اللّه أشخاص مالكيها في البحر وغرقهم فيه .

وقرأ الجمهور ونصر بن عاصم لابن يعمر { ظَلْتَ } بظاء مفتوحة ولام ساكنة .

وقرأ ابن مسعود وقتادة والأعمش بخلاف عنه وأبو حيوة وابن أبي عبلة وابن يعمر بخلاف عنه كذلك إلا أنهم كسروا الظاء ، وعن ابن يعمر ضمها وعن أُبَيّ والأعمش ظللت بلامين على الأصل ، فأما حذف اللام فقد ذكره سيبويه في الشذوذ يعني شذوذ القياس لا شذوذ الاستعمال مع مست وأصله مسست وأحست أصله أحسست ، وذكر ابن الأنباري همت وأصله هممت ولا يكون ذلك إلاّ إذا سكن آخر الفعل نحو ظلت إذ أظله ظللت . وذكر بعض من عاصرناه أن ذلك منقاس في كل مضاعف العين واللام في لغة بني سليم حيث تسكن آخر الفعل . وقد أمعنّا الكلام على هذه المسألة في شرح التسهيل من تأليفنا ، فأما من كسر الظاء فلأنه نقل حركة اللام إلى الظاء بعد نزع حركتها تقديراً ثم حذف اللام ،

وأما من ضمها فيكون على أنه جاء في بعض اللغات على فعل بضم العين فيهما ، ونقلت ضمة اللام إلى الظاء كما نقلت في حالة الكسر على ما تقرر .

وقرأ الجمهور { لَّنُحَرّقَنَّهُ } مشدداً مضارع حرَّق مشدداً .

وقرأ الحسن وقتادة وأبو جعفر وأبو رجاء والكلبي مخففاً من أحرق رباعياً .

وقرأ عليّ وابن عباس وحميد وأبو جعفر في رواية وعمرو بن فائد بفتح النون وسكون الحاء وضم الراء ، والظاهر أن حرق وأحرق هو بالنار .

وأما القراءة الثالثة فمعناها لنبردنه بالمبرد يقال حرق يحرق ويحرق بضم راء المضارع وكسرها . وذكر أبو عليّ أن التشديد قد يكون مبالغة في حرق إذا برد بالمبرد . وفي مصحف أُبَيّ وعبد اللّه لنذبحنه ثم لنحرقنه ثم لننسفنه وتوافق هذه القراءة من روى أنه صار لحماً ودماً ذا روح ، ويترتب الإحراق بالنار على هذا ،

وأما إذا كان جماداً مصوغاً من الحليّ فيترتب برده لا إحراقه إلا إن عنى به إذابته .

وقال السّدي : أمر موسى بذبح العجل فذبح وسالمنه الدم ثم أحرق ونسف رماده .

وقيل : بردت عظامه بالمبرد حتى صارت بحيث يمكن نسفها .

وقرأ الجمهور { لَنَنسِفَنَّهُ } بكسر السين . وقرت فرقة منهم عيسى بضم السين .

وقرأ ابن مقسم : لِنُنَسِّفنه بضم النون الأولى وفتح الثانية وتشديد السين . والظاهر وقول الجمهور أن موسى تعجل وحده فوقع أمر العجل ، ثم جاء موسى وصنع بالعجل ما صنع ثم خرج بعد ذلك بالسبعين على معنى الشفاعة في ذنب بني إسرائيل وأن يطلعهم أيضاً على أمر المناجاة ، فكان لموسى عليه السلام نهضتان . وأسند مكي خلاف هذا أن موسى كان مع السبعين في المناجاة وحينئذ وقع أمر العجل ، وأن اللّه أعلم موسى بذلك فكتمه عنهم وجاء بهم حتى سمعوا لغط بني إسرائيل حول العجل ، فحينئذ علمهم موسى انتهى .

٩٨

إنما إلهكم اللّه . . . . .

ولما فرغ من إبطال ما عمله السامري عاد إلى بيان الدين الحق فقال { إِنَّمَا إِلَاهُكُمُ اللّه }

وقرأ الجمهور { واسِعُ } فانتصب علماً على التمييز المنقول من الفاعل ، وتقدم نظيره في الأنعام .

وقرأ مجاهد وقتادة وسَّع بفتح السين مشددة .

قال الزمخشري : وجهه أن { واسِعُ } متعد إلى مفعول واحد وهو كل شيء .

وأما { عِلْمًا } فانتصابه على التمييز وهو في المعنى فاعل ، فلما ثقل نقل إلى التعدية إلى مفعولين فنصبهما معاً على المفعولية ، لأن المميز فاعل في المعنى كما تقول : خاف زيد عمراً خوّفت زيداً عمراً ، فترد بالنقل ما كان فاعلاً مفعولاً . وقال ابن عطية { واسِعُ } بمعنى خلق الأشياء وكثرها بالاختراع فوسعها موجودات انتهى .

٩٩

كذلك نقص عليك . . . . .

ذلك إشارة إلى نبأ موسى وبني إسرائيل وفرعون أي كقصنا هذا النبأ الغريب نقص عليك من أنباء الأمم السابقة ، وهذا فيه ذكر نعمة عظيمة وهي الإعلام بأخبار الأمم السالفة ليتسلى بذلك ويعلم أن ما صدر من الأمم لرسلهم وما قاست الرسل منهم ، والظاهر أن الذكر هنا القرآن امتن تعالى عليه بإيتائه الذكر المشتمل على القصص والأخبار الدال ذلك على معجزات أوتيها . وقال مقاتل : { ذِكْراً } بياناً . وقال أبو سهل : شرفاً وذكراً في الناس .

١٠٠

من أعرض عنه . . . . .

{مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ } أي عن القرآن بكونه لم يؤمن به ولم يتبع ما فيه .

وقرأ الجمهور { يَحْمِلُ } مضارع حمل مخففاً مبنياً للفاعل . وقرأت فرقة منهم داود بن رفيع : يُحَمِّل مشدد الميم مبنياً للمفعول لأنه يكلف ذلك لا أنه يحمله طوعاً و { وِزْراً } مفعول ثان و { وِزْراً } ثقلاً باهظاً يؤده حمله وهو ثقل العذاب . وقال مجاهد : إثماً . وقال الثوري شركاً والظاهر أنه عبَّر عن العقوبة بالوزر لأنه سببها ولذلك قال { خَالِدِينَ فِيهِ}

١٠١

خالدين فيه وساء . . . . .

أي في العذاب والعقوبة وجمع خالدين ، والضمير في { لَهُمْ } حملاً على معنى من بعد الحمل على لفظها في أعرض وفي فإنه يحمل ، والمخصوص بالذم محذوف أي وزرهم و { لَهُمْ } للبيان كهي في { هَيْتَ لَكَ } لا متعلقة بساء { وَسَاء } هنا هي التي جرت مجرى بئس لا ساء التي بمعنى أحزن وأهم لفساد المعنى .

١٠٢

يوم ينفخ في . . . . .

ويوم ننفخ بدل من يوم القيامة .

وقرأ الجمهور { يُنفَخُ } مبنياً للمفعول { وَنَحْشُرُ } بالنن مبنياً للفاعل بنون العظمة .

وقرأ أبو عمرو وابن محيصن وحميد : ننفخ بنون العظمة لنحشر أسند النفخ إلى الآمر به ، والنافخ هو إسرافيل ولكرامته أسند ما يتولاه إلى ذاته المقدسة و { الصُّورِ } تقدم الكلام فيه في الأنعام . وقرىء يَنْفُخُ ويَحْخشرُ بالياء فيهما مبنياً للفاعل .

وقرأ الحسن وابن عياض في جماعة { فِى الصُّورِ } على وزن درر والحسن : يُحْشَرُ ، بالياء مبنياً للمفعول ، ويَحْشُرُ مبنياً للفاعل ، وبالياء أي ويحشر اللّه . والظاهر أن المراد بالزرق زرقة العيون ، والزرقة أبغض ألوان العيون إلى العرب لأن الروم أعداؤهم وهم زرق العيون ، ولذلك قالوا في صفة العدو : أسود الكبد ، أصهب السبال ، أزرق العين . وقال الشاعر : وما كنت أخشى أن تكون وفاته

بكفي سبنتي أزرق العين مطرق وقد ذكر في آية أخرى أنهم يحشرون سود الوجوه ، فالمعنى تشويه الصورة من سواد الوجه وزرقة العين وأيضاً فالعرب تتشاءم بالزرقة . قال الشاعر :

لقد زرقت عيناك يا ابن مكعبرألا كل عليسى من اللؤم أزرق

وقيل : المعنى عمياً لأن العين إذا ذهب نورها أزرق ناظرها ، وبهذا التأويل يقع الجمع بين قوله { زُرْقاً } في هذه الآية و { عُمْيًا } في الآية الأخرى .

وقيل : زرق ألوان أبدانهم ، وذلك غاية في التشويه إذ يجيئن كلون الرماد وفي كلام العرب يسمى هذا اللون أزرق ، ولا تزرق الجلود إلا من مكابدة الشدائد وجفوف رطوبتها .

وقيل :{ زُرْقاً } عطاشاً والعطش الشديد يرد سواد العين إلى البياض ، ومنه قولهم سنان أزرق وقوله :

فلما وردن الماء زرقاً جمامه

أي ابيض ، وذكرت الآيتان لابن عباس فقال ليوم القيامة حالات فحالة يكونون فيها زرقاً وحالة يكونون

عمياً .

١٠٣

يتخافتون بينهم إن . . . . .

{يَتَخَافَتُونَ } يتسارّون لهول المطلع وشدة ذهاب أذهانهم قد عزب عنهم قدر المدة التي لبثوا فيها { إِن لَّبِثْتُمْ } أي في دار الدنيا أو في البرزح أو بين النفختين في الصور ثلاثة أقوال : ووصف ما لبثوا فيه بالقصر لأنها لما يعاينون من الشدائد كانت لهم في الدنيا أيام سرور ، وأيام السرور قصار أو لذهابها عنهم وتقضيها ، والذاهب وإن طالت مدته قصير بالانتهاء ، أو لاستطالتهم الآخرة وأنها أبد سرمد يستقصر إليها عمر الدنيا ، ويقال لبث أهلها فيها بالقياس إلى لبثهم في الآخرة و { إِذْ } معمولة لأعلم . و

١٠٤

نحن أعلم بما . . . . .

{أَمْثَالَهُمْ } أعدلهم . و { طَرِيقَةً } منصوبة على التمييز .{ إِلاَّ يَوْماً } إشارة لقصر مدة لبثهم . و { إِلاَّ عَشْراً } يحتمل عشر ليال أو عشرة أيام ، لأن المذكر إذا حذف وأبقى عدده قد لا يأتي بالتاء . حكى الكسائي عن أبي الجراح : صمنا من الشهر خمساً ، ومنه ما جاء في الحديث ثم أتبعه بست من شوال ، يريد ستة أيام وحسن الحذف هنا كون ذلك فاصلة رأس آية ذكر أولاً منتهى أقل العدد وهو العشر ، وذكر أعدلهم طريقة أقل العدد ، وهو اليوم الواحد ودل ظاهر قوله { إِلاَّ يَوْماً } على أن المراد بقولهم { عَشْراً } عشرة أيام .

١٠٥

ويسألونك عن الجبال . . . . .

وضمير الغائب في { وَيَسْئَلُونَكَ } عائد على قريش منكري البعث أو على المؤمنين سألوا عن ذلك ، أو على رجل من ثقيف وجماعة من قومه أقوال ثلاثة . والكاف خطاب للرّسول صلى اللّه عليه وسلم ،

١٠٦

انظر تسفير الآية:١٠٧

١٠٧

فيذرها قاعا صفصفا

والظاهر وجود السؤال ويبعد قول من قال إنه لم يكن سؤال بل المعنى أن يسألوك { عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ } فضمن معنى الشرط ، فلذلك أجيب بالفاء وروي أن اللّه يرسل على الجبال ريحاً فيدككها حتى تكون كالعهن المنفوش ، ثم يتوالى عليها حتى يعيدها كالهباء المنبث فذلك هو النسف ، والظاهر عود الضمير في { فَيَذَرُهَا } على الجبال أي بعد النسف تبقى { قَاعاً } أي مستوياً من الأرض معتدلاً .

وقيل فيذر مقارها ومراكزها .

وقيل : يعود على الأرض وإن لم يجر لها ذكر لدلالة الجبال عليها .

وقال ابن عباس { عِوَجَا } ميلاً{ وَلاَ مِنَ } أثراً مثل الشراك . وعنه أيضاً{ عِوَجَا } وادياً{ وَلا أَمْتاً } رابية . وعنه أيضاً الأمت الارتفاع . وقال قتادة { عِوَجَا } صدعاً{ وَلا أَمْتاً } أكمة .

وقيل : الأمت الشقوق في الأرض .

وقيل : غلظ مكان في الفضاء والجبل ويرق في مكان حكاه الصولي .

وقيل : كان الأمت في الآية العوج في السماء تجاه الهواء ، والعوج في الأرض مختص بالأرض .

وقال الزمخشري :

فإن قلت : قد فرقوا بين العوج والعوج فقالوا : العِوَج بالكسر في المعاني ، والعَوَج بالفتح في الأعيان والأرض ، فكيف صح فيها المكسور العين ؟

قلت : اختيار هذا اللفظ له موقع حسن بديع في وصف الأرض بالاستواء والملاسة ونفي الاعوجاج عنها على أبلغ ما يكون ، وذلك أنك لو عمدت إلى قطعة أرض فسوّيتها وبالغت في التسوية على عينك وعيون البصراء من الفلاحة ، واتفقتم على أن لم يبق فيها اعوجاج قط ثم استطلعت رأي المهندس فيها وأمرته أن يعرض استواءها على المقاييس الهندسية لعثر فيها على عوج في غير موضع لا يدرك بذلك بحاسة البصر ، ولكن بالقياس الهندسي فنفى اللّه عز وجل ذلك العوج الذي دق ولطف عن الإرداك اللّهم إلا بالقياس الذي يعرفه صاحب التقدير والهندسة ، وذلك الاعوجاج لما لم يدرك إلاّ بالقياس دون الإحساس لحق بالمعاني فقيل فيه عوج بالكسرة . الأمت النتوّ اليسير ، يقال : مدّ حبله حتى ما فيه أمت انتهى .

١٠٨

انظر تسفير الآية:١٠٩

١٠٩

يومئذ يتبعون الداعي . . . . .

{يَوْمَئِذٍ } أي يوم إذ ينسف اللّه البجال { يَتَّبِعُونَ } أي الخلائق { الدَّاعِىَ } داعي اللّه إلى المحشر نحو قوله { مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ } وهو إسرافيل يقوم على صخرة بيت المقدس يدعو الناس فيقبلون من كل جهة يضع الصور في فيه ، ويقول : أيتها العظام البالية والجلود المتمزقة واللحوم المتفرّقة هلم إلى العرض على الرحمن . وقال محمد بن كعب : يجمعون في ظلمة قد طويت السماء وانتثرت النجوم فينادي مناد فيموتون موته . وقال عليّ بن عيسى { الدَّاعِىَ } هنا الرسول صلى اللّه عليه وسلم الذي كان يدعوهم إلى اللّه فيعوجون على الصراط يميناً وشمالاً ويميلون عنه ميلاً عظيماً ، فيومئذ لا ينفعهم اتباعه ، والظاهر أن الضمير في { لَهُ } عائد على { الدَّاعِىَ } نفى عنه العوج أي { لاَ عِوَجَ } لهم عنه بل يأتون مقبلين إليه متبعين لصوته من غير انحراف .

وقال الزمخشري : أي لا يعوج له مدعوّ بل يستوون إليه انتهى .

وقيل { لاَ عِوَجَ لَهُ } في موضع وصف لمنعوت محذوف أي اتباعاً{ لاَ عِوَجَ لَهُ } فيكون الضمير في { لَهُ } عائداً على ذلك المصدر المحذوف . وقال ابن عطية يحتمل أن يريد به الإخبار أي لا شك فيه ، ولا يخالف وجوده خبره ويحتمل أن يريد لا محيد لأحد عن اتباعه ، والمشي نحو صوته والخشوع التطامن والتواضع وهو في الأصوات استعارة بمعنى الخفاء . والاستسرار للرحمن أي لهيبة الرحمن وهو مطلع قدرته .

وقيل هو على حذف مضاف أي وخشع أهل الأصوات والهمس الصوت الخفي الخافت ، ويحتمل أن يريد بالهمس المسموع تخافتهم بينهم وكلامهم السر ، ويحتمل أن يريد صوت الأقدام وأن أصوات النطق ساكنة .

وقال الزمخشري :{ إِلاَّ هَمْساً } وهو الركز الخفي ومنه الحروف المهموسة .

وقيل : هو من همس الإبل وهو صوت إخفافها إذا مشت ، أي لا يسمع إلا خَفْقُ الأقدام ونقلها إلى المحشر انتهى .

وعن ابن عباس وعكرمة وابن جبير : الهمس الإقدام ، واختاره الفراء والزجاج

وعن ابن عباس أيضاً وتحريك الشفاه بغير نطق ، وعن مجاهد الكلام الخفي ويؤيد قراءة أُبَيّ فلا ينطقون { إِلاَّ هَمْساً } وعن أبي عبيدة الصوت الخفي يومئذ بدل من { يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ } أو يكون التقدير يوم إذ { يَتَّبِعُونَ } ويكون منصوباً بلا تنفع و { مِنْ } مفعول بقوله { لاَّ تَنفَعُ } و { لَهُ } معناه لأجله وكذا في ورضي له أي لأجله ، ويكون من للمشفوع له أو بدل من الشفاعة على حذف مضاف أي إلاّ شفاعة من أذن له أو منصوب على الاستثناء على هذا التقدير ، أو استثناء منقطع فنصب على لغة الحجاز ، ورفع على لغة تميم ، ويكون { مِنْ } في هذه الأوجه للشافع والقول المرضي عن ابن عباس لا إله إلا اللّه .

١١٠

يعلم ما بين . . . . .

والظاهر أن الضمير في { أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } عائد على الخلق المحشورين وهم متبعو الداعي .

وقيل : يعود على الملائكة .

وقيل : على الناس لا بقيد الحشر والاتباع ، وتقدم تفسير هذه الجملة في آية الكرسي في البقرة ، والضمير في { بِهِ } عائد على { مَا } أي { وَلاَ يُحِيطُونَ } بمعلوماته { عِلْمًا}

١١١

وعنت الوجوه للحي . . . . .

والظاهر عموم { الْوجُوهَ } أي وجوه الخلائق ، وخص { الْوجُوهَ } لأن آثار الذل إنما تظهر في أول { الْوجُوهَ} وقال طلق بن حبيب : المراد سجود الناس على الوجوه والآراب السبعة ، فإن كان روى أن هذا يكون يوم القيامة فتكون الآية إخباراً عنه ، واستقام المعنى وإن كان أراد في الدنيا فليس ذلك بملائم للآيات التي قبلها وبعدها .

وقال الزمخشري : المراد بالوجود وجوه العصاة وأنهم إذا عاينوا يوم القيامة الخيبة والشقوة وسوء الحساب صارت وجوههم عانية أي ذليلة خاضعة مثل وجوه العناة وهم الأسارى ونحوه { فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ }{ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ } و { الْقَيُّومُ } تقدم الكلام عليه في البقرة .

{وَقَدْ خَابَ } أي لم ينجح ولا ظفر بمطلوبه ، والظلم يعم الشرك والمعاصي وخيبة كل حامل بقدر ما حمل من الظلم ، فخيبة المشرك دائماً وخيبة المؤمن العاصي مقيدة بوقت في العقوبة إن عوقب . ولما خص الزمخشري الوجوه بوجوه العصاة قال في قوله { وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً } أنه اعتراض كقولك : خابوا وخسروا حتى تكون الجملة دخلت بين العصاة وبين من يعمل من الصالحات ، فهذا عنده قسيم { وَعَنَتِ الْوُجُوهُ}

وأما ابن عطية فجعل قوله { وَمَن يَعْمَلْ إِلَى هَضْماً } معادلاً لقوله { وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً } لأنه جعل { وَعَنَتِ الْوُجُوهُ } عامة في وجوه الخلائق .

١١٢

ومن يعمل من . . . . .

و { مِنَ الصَّالِحَاتَ } بيسير في الشرع لأن { مِنْ } للتبعيض والظلم مجاوزة الحد في عظم سيئاته ، والهضم نقص من حسناته قاله ابن عباس . وقال قتادة : الظلم أن يزاد من ذنب غيره . وقال ابن زيد : الظلم أن لا يجزى بعمله .

وقيل : الظلم أن يأخذ من صاحبه فوق حقه ، والهضم أن يكسر من حق أخيه فلا يوفيه له كصفة المطفقين يسترجحون لأنفسهم إذا اكتالوا ويخسرون هذا كالوا انتهى . والظلم والهضم متقاربان . قال الماوردي :

والفرق أن الظلم منع الحق كله والهضم منع بعضه .

وقرأ الجمهور { فَلاَ يَخَافُ } على الخبر أي فهو لا يخاف .

وقرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد فلا يَخَفْ علي النهي

١١٣

وكذلك أنزلناه قرآنا . . . . .

{ وَكَذالِكَ } عطف على كذلك نقص أي ومثل ذلك الإنزال أو كما أنزلنا عليك هذه الآيات المضمنة الوعيد أنزلنا القرآن كله على هذه الوتيرة مكررين فيه آيات الوعيد ليكونوا بحيث يراد منهم ترك المعاصي أو فعل الخير والطاعة ، والذكر يطلق على الطاعة والعبادة .

وقيل : كما قدرنا هذه الأمور وجعلناها حقيقة بالمرصاد للعباد كذلك حذرنا هؤلاء أمرها و { أَنْزَلْنَاهُ قُرْانًا عَرَبِيّا } وتوعدنا فيه بأنواع { مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ } بحسب توقع الشر وترجيهم { يَتَّقُونَ } اللّه ويخشون عقابه فيؤمنون ويتذكرون نعمه عندهم ، وما حذرهم من أليم عقابه هذا تأويل فرقة في قوله {أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً } وقالت فرقة : معناه أو يكسبهم شرفاً ويبقي عليهم إيمانهم ذكراً في الغابرين .

وقيل : المعنى كما رغبنا أهل الإيمان بالوعد حذرنا أهل الشرك بالوعيد { وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ } كالطوفان والصيحة والرجفة والمسخ ، ولم يذكر الوعد لأن الآية سيقت مساق التهديد { لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } أي ليكونوا على رجاء من أن يوقع في قلوبهم الاتقاء أو يتقون أن ينزل بهم ما نزل بمن تقدّمهم أي { يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً } أي عظة وفكراً واعتباراً . وقال قتادة ورعاً .

وقيل : أنزل القرآن ليصيروا محترزين عمالاً ينبغي {أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً } يدعوهم إلى الطاعات ، وأسند ترجي التقوى إليهم وترجي إحداث الذكر للقرآن لأن التقوى عبارة عن انتفاء فعل القبيح ، وذلك استمرار على العدم الأصلي فلم يسند القرآن وأسند إحداث الذكر إلى القرآن لأنه أمر حدث بعد أن لم يكن والظاهر أن أو هنا لأحد الشيئين . قيل :{أَوْ } كهي في جالس أو ابن سيرين أي لا تكن خالياً منهما .

وقرأ الحسن {أَوْ يُحْدِثُ } ساكنة الثاء .

وقرأ عبد اللّه ومجاهد وأبو حيوة والحسن في رواية والجحدري وسلام ، أو نحدث بالنون وجزم الثاء ، وذلك حمل وصل على وقف أو تسكين حرف الإعراب استثقالاً لحركته نحو قول جرير :

أو نهر تيري فلا تعرفكم العرب

١١٤

فتعالى اللّه الملك . . . . .

ولما كان فيما سبق تعظيم القرآن في قوله { وَقَدْ اتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْراً }{ وَكَذالِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْءاناً عَرَبِيّاً } ذكر عظمة منزله تعالى ثم ذكر هاتين الصفتين وهي صفة { الْمَلِكُ } التي تضمنت القهر ، والسلطنة والحق وهي الصفة الثابتة له إذ كل من يدعي إلهاً دونه باطل لا سيما الإله الذي صاغوه من الحلي ومضمحل ملكه ومستعار ، وتقدّم أيضاً صفة سلطانه يوم القيامة وعظم قدرته وذلة عبيده وحسن تلطفه بهم ، فناسب تعاليه ووصفه بالصفتين المذكورتين ، ولما ذكر القرآن وإنزاله قال على سبيل الاستطراد طالباً منه التأني في تحفظ القرآن { وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْءانِ مِن قَبْلِ إَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ } أي تأن حتى يفرغ الملقى إليك الوحي ولا تساوق في قراءتك قراءته وإلقاء ، كقوله تعالى { لاَ تُحَرّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ }

وقيل : معناه لا تبلغ ما كان منه مجملاً حتى يأتيك البيان .

وقيل : سبب الآية أن امرأة شكت إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم أن زوجها لطمها ، فقال لها { بينكما القصاص} ثم نزلت { الرّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النّسَاء } ونزلت هذه بمعنى الأمر بالتثبت في الحكم بالقرآن .

وقيل : كان إذا نزل عليه الوحي أمر بكتبه للحين ، فأمر أن يتأتى حتى يفسر له المعاني ويتقرر عنده . وقال الماوردي : معناه ولا تسأل قبل أن يأتيك الوحي إن أهل مكة وأسقف نجران قالوا : يا محمد أخبرنا عن كذا وقد ضربنا لك أجلاً ثلاثة أيام فأبطأ الوحي عليه ، وفشت المقالة بين اليهود قد غلب محمد فنزلت { وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْءانِ } أي بنزوله . وقال أبو مسلم { وَلاَ تَعْجَلْ } بقراءته في نفسك أو في تأديته إلى غيرك أو في اعتقاد ظاهره أو في تعريف غيرك ما يقتضيه ظاهره احتمالات .

{مِن قَبْلُ إِنَّ يَقْضِى إِلَيْكَ وَحْيُهُ } أي تمامه أو بيانه احتمالات ، فالمراد إذاً أن لا ينصب نفسه ولا غيره عليه حتى يتبين بالوحي تمامه أو بيانه أو هما جميعاً ، لأنه يجب التوقف في المعنى لما يجوز أن يحصل عقيبه من استثناء أو شرط أو غيرهما من المخصصات ، وهذه العجلة لعله فعلها باجتهاد عليه السلام انتهى . وفيه بعض تلخيص .

وقرأ الجمهور :{ يُقْضَى إِلَيْكَ } مبنياً للمفعول { وَحْيُهُ} مرفوع به .

وقرأ عبد اللّه والجحدري والحسن وأبو حيوة ويعقوب وسلام والزعفراني وابن مقسم نقضي بنون العظمة مفتوح الياء وحيه بالنصب .

وقرأ الأعمش كذلك إلا أنه سكن الياء من يقضي . قال صاحب اللوامح : وذلك على لغة من لا يرى فتح الياء بحال إذا انكسر ما قبلها وحلت طرفاً انتهى .

{وَقُل رَّبّ زِدْنِى عِلْماً } قال مقاتل أي قرآناً .

وقيل : فهماً .

وقيل : حفظاً وهذا القول متضمن للتواضع للّه والشكر له عند ما علم من ترتيب التعلم أي علمتني مآرب لطيفة في باب التعلم وأدباً جميلاً ما كان عندي ، فزدني علماً .

وقيل : ما أمر اللّه رسوله بطلب الزيادة في شيء إلاّ في طلب العلم .

١١٥

ولقد عهدنا إلى . . . . .

تقدّمت قصة آدم في البقرة والأعراف والحجر والكهف ، ثم ذكر ههنا لما تقدّم { كَذالِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاء مَا قَدْ سَبَقَ } كان من هذا الإنباء قصة آدم ليتحفظ بنوه من وسوسة الشيطان ويتنبهوا على غوائله ، ومن أطاع الشيطان منهم ذكر بما جرى لأبيه آدم معه وأنه أوضحت له عداوته ، ومع ذلك نسي ما عهد إليه ربه وأيضاً لما أمر بأن يقول { رَّبّ زِدْنِى عِلْماً } كان من ذلك ذكر قصة آدم وذكر شيء من أحواله فيها لم يتقدّم ذكرها ، فكان في ذلك مزيد علم له عليه السلام ، والعهد عند الجمهور الوصية . والظاهر أن المضاف إليه المحذوف بعد قوله { مِن قَبْلُ } تقديره { مِن قَبْلُ } هؤلاء الذين صرف لهم من الوعيد في القرآن لعلهم يتقون ، وهم الناقضو عهد اللّه والتاركو الإيمان . وقال الحسن :{ مِن قَبْلُ } الرسول والقرآن .

وقيل :{ مِن قَبْلُ } أن يأكل من الشجرة .

وقال الطبري : المعنى أن يعرض يا محمد هؤلاء الكفرة عن آياتي ويخالفوا رسلي ويطيعوا إبليس ، فقدما فعل ذلك أبوهم آدم .

قال ابن عطية : وهذا ضعيف وذلك أن كون آدم مثالاً للكفار الجاحدين باللّه ليس بشيء ، وآدم عليه السلام إنما عصى بتأويل ففي هذا غضاضته عليه السلام ، وإنما الظاهر في هذه الآية إما أن يكون ابتداء قصص لا تعلق له بما قبله ،

وإما أن يجعل تعلقه إنما هو لما عهد إلى محمد صلى اللّه عليه وسلم أن لا يعجل بالقرآن مثل له بنبيّ قبله عهد إليه { فَنَسِىَ } فعرف ليكون أشد في التحذير وأبلغ في العهد إلى محمد صلى اللّه عليه وسلم.

وقال الزمخشري : يقال في أموامر الملوك ووصاياهم : تقدم الملك إلى فلان وأوغر عليه وعزم عليه وعهد إليه ، عطف اللّه سبحانه وتعالى قصة آدم على قوله { وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } والمعنى وأقسم قسماً لقد أمرنا أباهم آدم ووصيناه أن لا يقرب الشجرة ، وتوعدناه بالدخول في جملة الظالمين إن قربها وذلك { مِن قَبْلُ } وجودهم { مِن قَبْلُ } أن نتوعدهم فخالف إلى ما نُهي عنه وتوعد في ارتكابه مخالفتهم ، ولم يلتفت إلى الوعيد كما لا يلتفتون كأنه يقول : إن أساس أمر بني آدم على ذلك وعرقهم راسخ فيه انتهى . والظاهر أن النسيان هنا الترك إن ترك ما وصي به من الاحتراس عن الشجرة وأكل ثمرتها .

وقال الزمخشري : يجوز أن يراد بالنسيان الذي هو نقيض الذكر وأنه لم يعن بالوصية العناية الصادقة ولم يستوثق منها بعقد القلب عليها وضبط النفس حتى

تولد من ذلك النسيان انتهى . وقاله غيره . و

قال ابن عطية : ونسيان الذهول لا يمكن هنا لأنه لا يتعلق بالناسي عقاب انتهى .

وقرأ اليماني والأعمش فَنُسِّيَ بضم النون وتشديد السين أي نسّاه الشيطان ، والعزم التصميم والمضي .

قال الزمخشري : أي على ترك الأكل وأن يتصلب في ذلك تصلباً يؤيس الشيطان من التسويل له ، والوجود يجوز أن يكون بمعنى العلم ومفعولاه { لَهُ عَزْماً } وأن يكون نقيض العدم كأنه قال وعد منا { لَهُ عَزْماً } انتهى .

وقيل { وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } على المعصية وهذا يتخرج على قول من قال إنه فعل نسياناً .

وقيل : حفظاً لما أمر به .

وقيل : صبراً عن أكل الشجرة .

وقيل { عَزْماً } في الاحتياط في كيفية الاجتهاد .

١١٦

وإذ قلنا للملائكة . . . . .

وتقدم الكلام على نظير قوله { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُواْ لاِدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى } و { أَبَى } جملة مستأنفة مبينة أن امتناعه من السجود إنما كان عن إباء منه وامتناع ، والظاهر حذف متعلق { أَبَى } وأنه يقدر هنا ما صرح به في الآية الأخرى { أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ }

وقال الزمخشري { أَبَى } جملة مستأنفة كأنه جواب قائل قال : لمَ لمْ يسجد ؟ والوجه أن لا يقدر له مفعول وهو السجود المدلول عليه بقوله { اسْجُدُواْ } وأن يكون معناه أظهر الإباء وتوقف وتثبط انتهى .

١١٧

انظر تسفير الآية:١١٨

١١٨

فقلنا يا آدم . . . . .

و { هَاذَا } إشارة إلى إبليس و { عَدُوٌّ } يطلق على الواحد والمثنى والمجموع ، عرف تعالى آدم عداوة إبليس له ولزوجته ليحذراه فلن يغنيَ الحذر عن القدر ، وسبب العداوة فيما قيل إنّ إبليس كان حسوداً فلما رأى آثار نعم اللّه على آدم حسده وعاداه .

وقيل : العداوة حصلت من تنافي أصليهما إذ إبليس من النار وآدم من الماء والتراب { فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا } النهي له والمراد غيره أي لا يقع منكما طاعة له في إغوائه فيكون ذلك سبب خروجكما من الجنة ، وأسند الإخراج إليه وإن كان المخرج هو اللّه تعالى لما كان بوسوسته هو الذي فعل ما ترتب عليه الخروج { فَتَشْقَى } يحتمل أن يكون منصوباً بإضمار أن في جواب النهي وأن يكون مرفوعاً على تقدير فأنت تشقى . وأسند الشقاء إليه وحده بعد اشتراكه مع زوجه في الإخراج من حيث كان هو المخاطب أولاً والمقصود بالكلام ولأن في ضمن شقاء الرجل شقاء أهله ، وفي سعادته سعادتها فاختصر الكلام بإسناده إليه دونها مع المحافظة على الفاصلة .

وقيل : أراد بالشقاء التعب في طلب القوت وذلك راجع إلى الرجل . وعن ابن جبير : أهبط له ثور أحمر يحرث عليه فيأكل بكد يمينه وعرق جبينه .

وقرأ شيبة ونافع وحفص وابن سعدان { وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَؤُا } بكسر همزة وإنك .

وقرأ الجمهور بفتحها فالكسر عطف على أن لك ، والفتح عطف على المصدر المنسبك من ن لا تجوع ، أي أن لك انتفاء جوعك وانتفاء ظمئك ، وجاز عطف { إِنَّكَ } على أن لاشتراكهما في المصدر ، ولو باشرتها إن المكسورة لم يجز ذلك وإن كا على تقديرها ألا ترى أنها معطوفة على اسم إن ، وهو أن لا تجوع لكنه يجوز في العطف ما لا يجوز في المباشرة ، ولما كان الشبع والري والكسوة والسكن هي الأمور التي هي ضرورية للإنسان اقتصر عليها لكونها كافية له . وفي الجنة ضروب من أنواع النعيم والراحة ما هذه بالنسبة إليها كالعدم فمنها الأمن من الموت الذي هو مكدر لكل لذة ، والنظر إلى وجه اللّه سبحانه ورضاه تعالى عن أهلها ، وأن لا سقم ولا حزن ولا ألم ولا كبر ولا هرم ولا غل ولا غضب ولا حدث ولا مقاذير ولا تكليف ولا حزن ولا خوف ولا ملل ، وذكرت هذه الأربعة بلفظ النفي لأثبات أضدادها وهو الشبع والري والكسوة والسكن ، وكانت نقائضها بلفظ النفي وهو الجوع والعُري والظمأ والضحو ليطرق سمعه بأسامي أصناف الشقوة التي حذره منها حتى يتحامى السبب الموقع فيها كراهة لها .

قال ابن عطية : وكان عرف الكلام أن يكون الجوع مع الظمأ والعُري مع الضحاء لأنها تتضاد إذ العُري نفسه البرد فيؤذي والحر يفعل ذلك بالضاحي ، وهذه الطريقة مهيع في كلام العرب أن يقرن النسب . ومنه قول امرىء القيس :

كأني لم أركب جواداً للذة

ولم أتبطن كاعباً ذات خلخال

ولم أسبأ الرق الروي ولم أقل

لخيلي كري كرة بعد إجفال

وقد ذهب بعض الأدباء إلى أن بيتي امرىء القيس كافطاني للنسب ، وأن ركوب الخيل للصيد وغيره من الملاذ يناسب تبطن الكاعب انتهى .

وقيل : هذا الجواب على قدر السؤال لما أمر اللّه آدم بسكنى الجنة قال : إلهي ألي فيها ما آكل ؟ ألي فيها ما ألبس ؟ ألي فيها ما أشرب ؟ ألي فيها ما أستظل به ؟

وقيل : هي مقابلة معنوية ، فالجوع خلو الباطن ، والتعري خلو الظاهر ، والظمأ إحراق الباطن ، والضحو إحراق الظاهر فقابل الخلو بالخول والإحراق بالإحراق .

وقيل : جمع امرؤ القيس في بيتيه بين ركوب الخيل للذة والنزهة ، وبين تبطن الكاعب للذة الحاصلة فيهما ، وجمع بين سباء الرق وبين قوله لخيله كري لما فيهما من الشجاعة ولما عيب على أبي الطيب قوله : وقفت وما في الموت شك لواقف

كأنك في جفن الردى وهو نائم

تمر بك الأبطال هَزْمَى كليمة

ووجهك وضاح وثغرك باسم

فقال : إن كنت أخطأت فقد أخطأ امرؤ القيس .

١٢٠

فوسوس إليه الشيطان . . . . .

وتقدم الكلام في { فَوَسْوَسَ } والخلاف في كيفيتها في الأعراف ، وتعدى وسوس هنا بإلى وفي الأعراف باللام ، فالتعدي بإلى معناه أنهى الوسوسة إليه والتعدّي بلام الجر ، قيل معناه : لأجله ولما وسوس إليه ناداه باسمه ليكون أقبل عليه وأمكن للاستماع ، ثم عرض عليه ما يلقى بقوله { هَلْ أَدُلُّكَ } على سبيل الاستفهام الذي يشعر بالنضح . ويؤثر قبول من يخاطبه كقول موسى { هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى } وهو عرض فيه مناصحة ، وكان آدم قد رغبه اللّه تعالى في دوام الراحة وانتظام المعيشة بقوله { فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا } الآية ورغبة إبليس في دوام الراحة بقوله :{ هَلْ أَدُلُّكَ } فجاءه إبليس من الجهة التي رغبه اللّه فيها . وفي الأعراف { مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَاذِهِ الشَّجَرَةِ} وهنا { هَلْ أَدُلُّكَ } والجمع بينهما أن قوله { هَلْ أَدُلُّكَ } يكون سابقاً على قوله { مَا نَهَاكُمَا } لما رأى إصغاءه وميله إلى ما عرض عليه انتقل إلى الإخبار والحصر .

ومعنى { عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ } أي الشجرة التي مَن أكل منها خلد وحصل له ملك لا يخلق ، وهذا يدل لقراءة الحسن بن عليّ وابن عباس إلا أن تكونا ملكين بكسر اللام

١٢١

فأكلا منها فبدت . . . . .

{فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ } تقدم الكلام على نحو هذه الآية في الأعراف { وَعَصَى ءادَمَ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى }

قال الزمخشري عن ابن عباس : لا شبهة في أن آدم صلوات اللّه عليه لم يمتثل ما رسم اللّه له وتخطى فيه ساحة الطاعة ، وذلك هو العصيان . ولما عصى خرج فعله من أن يكون رشداً وخيراً فكان غياً لا محالة لأن الغيَّ خلاف الرشد . ولكن قوله { وَعَصَىءادَمُ رَبَّهُ فَغَوَى } بهذا الإطلاق وهذا التصريح ، وحيث لم يقل وزل آدم وأخطأ وما أشبه ذلك مما يعبر به عن الزلات والفرطات فيه لطف بالمكلفين ومزجرة بليغة وموعظة كافة ، وكأنه قيل لهم : انظروا واعتبروا كيف نعتب على النبيّ المعصوم حبيب اللّه الذي لا يجوز عليه اقتراف الصغيرة غير المنفرة زلته بهذه الغلظة وبهذا اللفظ الشنيع ، فلا تتهاونوا بما يفرط منكم من السيئات

والصغائر فضلاً عن أن تجسروا عن التورط في الكبائر ، وعن بعضهم { فَغَوَى } فسئم من كثرة الأكل ، وهذا وإن صح على لغة من يقلب الياء المسكور ما قبلها ألفاً فيقول في فنى وبقى فنا وبقا ، وهم بنو طيىء تفسير خبيث انتهى .

وقال القاضي أبو بكر بن العربي : لا يجوز لأحدنا اليوم أن يخبر بذلك عنه عليه السلام إلاّ إذا ذكرناه في أثناء قوله تعالىأو قول نبيه عليه السلام ، فإما أن يبتدىء ذلك من قبل نفسه فليس بجائز لنا في آبائنا الأدنين إلينا المماثلين لنا ، فكيف ففي أبينا الأقدم الأعظم الأكرم النبيّ المقدم الذي اجتباه اللّه وتاب عليه وغفر له . قال القرطبي : وإذا كان هذا في المخلوق لا يجوز والإخبار عن صفات اللّه كاليد والرجل والأصبع والجنب والنزول إلى غير ذلك أولى بالمنع ، وأنه لا يجوز الابتداء بشيء من ذلك إلاّ في أثناء قراءة كتابه أو سنة رسول عليه السلام ، ولهذا قال الإمام مالك بن أنس : من وصف شيئاً من ذات اللّه مثل قوله تعالى { وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّه مَغْلُولَةٌ } فأشار بيده إلى عنقه قطعت يده وكذلك في السمع والبصر يقطع ذلك منه لأنه شبه اللّه سبحانه بنفسه .

١٢٢

ثم اجتباه ربه . . . . .

{ثُمَّ اجْتَبَاهُ } أي اصطفاه وقربه وتاب عليه أي قبل توبته { وَهَدَى } أي هداه للنبوة أو إلى كيفية التوبة ، أو هداه رشده حتى رجع إلى الندم .

١٢٣

قال اهبطا منها . . . . .

والضمير في { اهْبِطَا } ضمير تثنية وهو أمر لآدم وحواء جعل هبوطهما عقوبتهما و { جَمِيعاً } حال منهما . و

قال ابن عطية : ثم أخبرهما بقوله { جَمِيعاً } أن إبليس والحية مهبطان معهما ، وأخبرهما أن العداوة بينهم وبين أنسالهم إلى يوم القيامة انتهى . ولا يدل قوله { جَمِيعاً } أن إبليس والحية يهبطان معهما لأن { جَمِيعاً } حال من ضمير الاثنين أي مجتمعين ، والضمير في { بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ } ضمير جمع . قيل : يريد إبليس وبنيه وآدم وبنيه .

وقيل : أراد آدم وذريته ، فالعداوة واقعة بينهم والبغضاء لاختلاف الأديان وتشتت الآراء .

وقيل : آدم وإبليس والحية . وقال أبو مسلم الأصبهاني : الخطاب لآدم عليه السلام ولكونهما جنسين صح قوله { اهْبِطَا } ولأجل اشتمال كل واحد من الجنسين على الكثرة صح قوله { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى}

وقال الزمخشري : لما كان آدم وحواء عليهما السلام أصلي البشر والسببين اللذين منهما نشؤوا وتفرعوا جعلا كأنهما البشر في أنفسهما فخوطبا مخاطبتهم ، فقيل { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم } على لفظ الجماعة ، ونظيره إسنادهم الفعل إلى السبب وهو في الحقيقة للمسبب انتهى . و { هُدًى } شريعة اللّه .

وعن ابن عباس ضمن اللّه لمن اتبع القرآن أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة ثم تلا { فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى } والمعنى أن الشقاء في الآخرة هو عقاب من ضل في الدنيا عن طريق الدين ، فمن اتبع كتاب اللّه وامتثل أوامره وانتهى عن نواهيه نجا من الضلال ومن عقابه . وعن ابن جبير من قرأ القرآن واتبع ما فيه عصمه اللّه من الضلالة ووقاه سوء الحساب . وقال أبو عبد اللّه الرازي : وهذه الآية تدل على أن المراد بالهدى الذي ذكره اللّه تعالى اتباع الأدلة واتباعها لا يتكامل إلاّ بأن يستدل بها ، وبأن يعمل بها ، ومن هذه حاله فقد ضمن تعالى أن لا يضل ولا يشقى في الآخرة لأنه تعالى يهديه إلى الجنة .

وقيل { لاَّ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى } في الدنيا . فإن قيل : المنعم بهدى اللّه قد يلحقه الشقاء في الدنيا . قلنا : المراد لا يضل في الدين ولا يشقى بسبب الدين فإن حصل بسبب آخر فلا بأس انتهى .

١٢٤

ومن أعرض عن . . . . .

ولما ذكر تعالى من اتبع الهدى أتبعه بوعيد من أعرض عن ذكره ، والذكر يقع على القرآن وعلى سائر الكتب الإلهية . وضنك : مصدر يوصف به المذكر والمؤنث والمفرد والمثنى والمجموع ، والمعنى النكد الشاق من العيش والمنازل ومواطن الحرب نحوها . ومنه قول عنترة : إن المنية لو تمثل مثلت

مثلي إذا نزلوا بضنك المنزل

وعن ابن عباس : نزلت هذه الآية في الأسود بن عبد الأسد المخزومي ، والمراد ضغطة القبر تختلف فيه أضلاعه . وقال الحسن وقتادة والكلبي : هو الضيق في الآخرة في جهنم فإن طعامهم فيها الضريع والزقوم وشرابهم الحميم والغسلين ، ولا يموتون فيها ولا يحيون ، وقال عطاء : المعيشة الضنك معيشة الكافر لأنه غير موقن بالثواب والعقاب . وقال ابن جبير : يسلب القناعة حتى لا يشبع . وقال أبو سعيد الخدري والسدّي : هو عذاب القبر ، ورواه أبو هريرة

رضي اللّه عنه عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم. وقال الجوهري : المعيشة الضنك في الدنيا ، والمعنى أن الكافر وإن كان متسع الحال والمال فمعه من الحرص والأمل والتعذيب بأمور الدنيا والرغبة وامتناع صفاء العيش لذلك ما تصير معيشته ضنكاً وقالت فرقة { ضَنكاً } بأكل الحرام .

ويستدل على أن المعيشة الضنك قبل يوم القيامة { وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَى } وقوله :{ وَلَعَذَابُ الاْخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى } فكأنه ذكر نوعاً من العذاب ، ثم ذكر أن عذاب الآخرة أشد وأبقى ، وحسن قول الجمهور الزمخشري فقال : ومعنى ذلك أن مع الدين التسليم والقناعة والتوكل على اللّه وعلى قسمته ، فصاحبه ينفق ما رزقه بسماح وسهولة فيعيش عيشاً طيباً كما قال تعالى { فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَواةً طَيّبَةً } والمعرض عن الدين مستول عليه الحرص الذي لا يزال يطيح به إلى الازدياد من الدنيا مسلط عليه الشح الذي يقبض يده عن الإنفاق ، فعيشه ضنك وحاله مظلمة انتهى .

وقرأ الحسن ضنكي بألف التأنيث ولا تنوين وبالإمالة بناؤه صفة على فعلى من الضنك .

وقرأ الجمهور { ضَنكاً } بالتنوين وفتحة الكاف فتحة إعراب .

وقرأ الجمهور { وَنَحْشُرُهُ } بالنون ، وفرقة منهم أبان بن تغلب بسكون الراء فيجوز أن يكون تخفيفاً ، ويجوز أن يكون جرماً بالعطف على موضع { فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً } لأنه جواب الشرط ، وكأنه قيل { وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى } تكن له معيشة ضنك { وَنَحْشُرُهُ } ومثله { مَن يُضْلِلِ اللّه فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ } في قراءة من سكن ويذرهم . وقرأت فرقة ويحشره بالياء . وقرىء ويحشره بسكون الهاء على لفظ الوقف قاله الزمخشري . ونقل ابن خالويه هذه القراءة عن أبان بن تغلب والأحسن تخريجه على لغة بني كلاب وعقيل فإنهم يسكنون مثل هذه الهاء . وقرىء { لِرَبّهِ لَكَنُودٌ } والظاهر أن قوله { أَعْمَى } المراد به عمى البصر كما قال { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا }

وقيل : أعمى البصيرة .

قال ابن عطية : ولو كان هذا لم يحس الكافر بذلك لأنه مات أعمى البصيرة ويحشر كذلك . وقال مجاهد والضحاك ومقاتل وأبو صالح وروي عن ابن عباس :{ أَعْمَى } عن حجته لا حجة له يهتدي بها .

وعن ابن عباس يحشر بصيراً ثم إذا استوى إلى المحشر { أَعْمَى}

وقيل :{ أَعْمَى } عن الحيلة في دفع العذاب عن نفسه كالأعمى الذي لا حيلة له فيما لا يراه .

وقيل { أَعْمَى } عن كل شيء إلاّ عن جهنم . وقال الجبائي : المراد من حشره { أَعْمَى } لا يهتدي إلى شيء . وقال إبراهيم بن عرفة : كل ما ذكره اللّه عز وجل في كتابه فذمه فإنما يريد عَمَى القلب قال تعالى فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.

١٢٥

قال رب لم . . . . .

وقال مجاهد : معنى { لِمَ حَشَرْتَنِى أَعْمَى } أي لا حجة لي وقد كنت عالماً بحجتي بصيراً بها أحاج عن نفسي في الدنيا انتهى . سأل العبد ربه عن السبب الذي استحق به أن يحشر أعمى لأنه جهله ، وظن أنه لا ذنب له

١٢٦

قال كذلك أتتك . . . . .

فقال له جل ذكره { كَذالِكَ أَتَتْكَ ايَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذالِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى } أي مثل ذلك أنت ، ثم فسر بأن آياتنا أتتك واضحة مستنيرة فلم تنظر إليها بعين المعتبر ، ولم تتبصر وتركتها وعميت عنها فكذلك اليوم نتركك على عماك ولا نزيل غطاءه عن عينيك قاله الزمخشري . والنسيان هنا بمعنى الترك لا بمعنى الذهول ، ومعنى { تُنْسَى } تترك في العذاب

١٢٧

وكذلك نجزي من . . . . .

{وَكَذالِكَ نَجْزِى } أي مثل ذلك الجزاء { نَجْزِى مَنْ أَسْرَفَ } أي من جاوز الحد في المعصية ثم أخبر تعالى أن عذاب الآخرة أشد أي من عذاب الدنيا لأنه أعظم منه { وَأَبْقَى } أي منه لأنه دائم مستمر وعذاب الدنيا منقطع .

وقال الزمخشري : والحشر على العمى الذي لا يزوال أبداً أشد من ضيق العيش المنقضي ، أو أراد ولتركنا إياه في العمى { أَشَدُّ وَأَبْقَى } من تركه لآياتنا .

{أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِى مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِى ذَلِكَ لايَاتٍ لاِوْلِى النُّهَى وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ ءانَاء الَّيْلِ فَسَبّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ} سقط : ترضى ، ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك

١٢٨

أفلم يهد لهم . . . . .

قرأ الجمهور { يَهْدِ } الياء .

وقرأ فرقة منهم ابن عباس والسلمي بالنون ، وبخهم تعالى وذكرهم العبر بمن تقدم من القرون ، ويعني بالإهلاك الإهلاك الناشىء عن تكذيب الرسل وترك الإيمان باللّه واتباع رسله ، والفاعل ليهد ضمير عائد على اللّه تعالى ، ويؤيد هذا التخريج قراءة نهد بالنون ومعناه نبين وقاله الزجاج .

وقيل : الفاعل مقدر تقديره الهدى والآراء والنظر والاعتبار . و

قال ابن عطية : وهذا أحسن ما يقدر به عندي انتهى . وهو قول المبرد وليس بجيد إذ فيه حذف الفاعل وهو لا يجوز عند البصريين ، وتحسينه أن يقال الفاعل مضمر تقديره { يَهْدِ } هو أي الهدى . وقال أبو البقاء : الفاعل ما دل عليه { أَهْلَكْنَا } والجملة مفسرة له . قال الحوفي { كَمْ أَهْلَكْنَا } قد دل على هلاك القرون ، فالتقدير أفلم نبين لهم هلاك من { أَهْلَكْنَا }{ مّنَ الْقُرُونِ } ومحو آثارهم فيتعظوا بذلك .

وقال الزمخشري : فاعل { لَّمْ يَهْدِنِى } الجملة بعده يريد ألم يهد لهم هذا بمعناه ومضمونه ونظيره قوله تعالى { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الاْخِرِينَ سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِى الْعَالَمِينَ } أي تركنا عليه هذا الكلام ، ويجوز أن يكون فيه ضمير اللّهأو الرسول انتهى . وكون الجملة فاعلاً هو مذهب كوفي ،

وأما تشبيهه وتنظيره بقوله { تَّرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الاْخِرِينَ سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِى الْعَالَمِينَ } فإن تركنا عليه معناه معنى القول فحكيت به الجملة كأنه قيل وقلنا عليه ، وأطلقنا عليه هذا اللفظ والجملة تحكي بمعنى القول كما تحكى بلفظه ، وأحسن التخاريج الأول وهو أن يكون الفاعل ضميراً عائداً على اللّه كأنه قال { أَفَلَمْ } يبين اللّه ومفعول يبين محذوف ، أي العبر بإهلاك القرون السابقة ثم قال { كَمْ أَهْلَكْنَا } أي كثيراً أهلكنا ، فكم مفعوله بأهلكنا والجملة كأنها مفسرة للمفعول المحذوف ليهد .

وقال الحوفي : قال بعضهم هي في موضع رفع فاعل { يَهْدِ } وأنكر هذا على قائله لأن كم استفهام لا يعمل فيها ما قبلها انتهى . وليست كم هنا استفهاماً بل هي خبرية .

وقال أبو البقاء :{ يَهْدِ لَهُمْ } في فاعله وجهان أحدهما ضمير اسم اللّه تعالى أي ألم يبين اللّه لهم وعلق { يَهْدِ } هنا إذ كانت بمعنى يعلم كما علقت في قوله تعالى { وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ } انتهى .

و { كَمْ } هنا خبرية والخبرية لا تعلق العامل عنها ، وإنما تعلق عنه الاستفهامية .

وقرأ ابن السميفع : يُمَسُّون بالتشديد مبنياً للمفعول لأن المثنى يخلق خطوة بخطوة وحركة بحركة وسكوناً بسكون ، فناسب البناء للمفعول والضمير في { يَمْشُونَ } عائد على ما عاد عليه لهم وهم الكفار الموبخون يريد قريشاً ، والعرب يتقلبون في بلاد عاد وثمود والطوائف التي كانت قريش تمر عليها إلى الشام وغيره ، ويعاينون آثار هلاكهم و { يَمْشُونَ فِى مَسَاكِنِهِمْ } جملة في موضع الحال من ضمير { لَهُمْ } والعامل { يهذ } أي ألم نبين للمشركين في حال مشيهم في مساكن من أهلك من الكفار .

وقيل : حال من مفعول { وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا } أي أهلكناهم غارين آمنين متصرّفين في مساكنهم لم يمنعهم عن التمتع والتصرف مانع من مرض ولا غيره ، فجاءهم الإهلاك بغتة على حين غفلة منهم به .

{إِنَّ فِى ذَلِكَ } أي في ذلك التبيين بإهلاك القرون الماضية { لاَيَاتٍ لاِوْلِى } أي العقول السليمة .

١٢٩

ولولا كلمة سبقت . . . . .

ثم بين تعالى الوجه الذي لأجله لا يترك العذاب معجلاً على من كفر بمحمد صلى اللّه عليه وسلم والكلمة السابقة هي المعدة بتأخير جزائهم في الآخرة

قال تعالى : { الدُّبُرَ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ } تقول : لولا هذه العدة لكان مثل إهلاكنا عاداً وثموداً لازماً هؤلاء الكفرة ، واللزام إما مصدر لازم وصف به

وإما فعال بمعنى مفعل أي ملزم كأنه آلة للزوم ، ولفظ لزومه كما قالوا لزاز خصم . وقال أبو

عبد اللّه الرازي : لا شبهة أن الكلمة إخبار اللّه تعالى ملائكته وكتبه في اللوح المحفوظ أن أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم وإن كذبوا يؤخرون ولا يفعل بهم ما فعل بغيرهم من الاستئصال انتهى .

والأجل أجل حياتهم أو أجل إهلاكهم في الدنيا أو عذاب يوم القيامة ، أقوال : فعلى الأول يكون العذاب ما يلقى في قبره وما بعده . وعلى

الثاني : قتلهم بالسيف يوم بدر . وعلى

الثالث : هو عذاب جهنم . وفي صحيح البخاري { أن يوم بدر هو اللزام وهو البطشة الكبرى} والظاهر عطف { وَأَجَلٌ مُّسَمًّى } على كلمة وأخر المعطوف عن المعطوف عليه ، وفصل بينهما بجواب { لَوْلاَ } لمراعاة الفواصل ورؤوس الآي ، وأجاز الزمخشري أن يكون { وَأَجَلٌ } معطوفاً على الضمير المستكن في كان قال أي { لَكَانَ } الأخذ العاجل { وَأَجَلٌ مُّسَمًّى } لازمين له كما كانا لازمين لعاد وثمود ، ولم ينفرد الأجل المسمى دون الأخذ العاجل انتهى .

١٣٠

فاصبر على ما . . . . .

ثم أمره تعالى بالصبر على ما يقول مشركو قريش ، وهم الذين عاد الضمير عليهم في { أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ } وكانوا يقولون أشياء قبيحة مما نص اللّه عنهم في كتابه ، فأمره تعالى بالصبر على أذاهم والاحتمال لما يصدر من سوء أخلاقهم ، وأمره بالتسبيح والحمد للّه و { إِنَّ رَبَّكَ } في موضع الحال ، أي وأنت حامد لربك . والظاهر أنه أمر بالتسبيح مقروناً بالحمد ،

وإما أن يراد اللفظ أي قل سبحان اللّه والحمد للّه ، أو أريد المعنى وهو التوزيه والتبرئة من السوء والثناء الجميل عليه . وقال أبو مسلم : لا يبعد حمله على التنزيه والإجلال ، والمعنى اشتغل بتنزيه اللّه في هذه الأوقات . قال أبو عبد اللّه الرازي : وهذا القول أقرب إلى الظاهر وإلى ما تقدم ذكره لأنه صبره أولاً{ عَلَى مَا يَقُولُونَ } من التكذيب ومن إظهار الكفر والشرك الذي يليق بذلك أن يؤمر بتنزيهه عن قولهم حتى يكون مظهراً لذلك وداعياً ، ولذلك ما جمع كل الأوقات أو يراد المجاز فيكون المراد الصلاة فقبل طلوع الشمس صلاة الصبح وقبل غروبها صلاة العصر { وَمِنْ ءانَاء الَّيْلِ } المغرب والعتمة { وَأَطْرَافَ النَّهَارِ } الظهر وحده .

قال ابن عطية : ويحتمل اللفظ أن يراد قول سبحان اللّه وبحمده من بعد صلاة الصبح إلى ركعتي الضحى وقبل غروب الشمس ، فقد قال عليه السلام : { من سبح عند غروب الشمس سبعين تسبيحة غربت بذنوبه } انتهى .

وقال الزمخشري : { وَقَبْلَ غُرُوبِهَا } يعني الظهر والعصر لأنهما واقعتان في النصف الأخير من النهار بين زوال الشمس وغروبها ، وتعمد { أَمَّنْ هُوَ }{ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ } مختصاً لها بصلاتك ، وذلك أن أفضل الذكر ما كان بالليل لاجتماع القلب وهدوّ الرجل والخلو بالرب .

وقال تعالى :{ إِنَّ نَاشِئَةَ الَّيْلِ } وقال :{ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءانَاء الَّيْلِ } الآيتين . ولأن الليل وقت السكون والراحة فإذا صرف إلى العبادة كانت على النفس أشد وأشق وللبدن أتعب وأنصب ، فكانت أدخل في معنى التكليف وأفضل عند اللّه وقد تناول التسبيح في { أَمَّنْ هُوَ } صلاة العتمة { وَفِى الَّيْلَ النَّهَارَ } صلاة المغرب وصلاة الفجر على التكرار إرادة الاختصاص كما اختصت في قوله { حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَواتِ والصَّلَواةِ الْوُسْطَى } عند بعض المفسرين انتهى . وجاء هنا { وَأَطْرَافَ النَّهَارِ } وفي هود { وَأَقِمِ الصَّلَواةَ طَرَفَىِ النَّهَارِ } فقيل : جاء على حد قوله .

ومهمهين قذفين مرتين . ظهراهما مثل ظهور الترسين .

جاءت التثنية على الأصل والجمع لا من اللبس إذ النهار ليس له إلاّ طرفان .

وقيل : هو على حقيقة الجمع الفجر الطرف الأول ، والظهر والعصر من الطرف الثاني ، والطرف الثالث المغرب والعشاء .

وقيل : النهار له أربعة أطراف عند طلوع الشمس ، وعند غروبها ، وعند زوال الشمس ، وعند وقوفها للزوال .

وقيل : الظهر في آخر طرف النهار الأول ، وأول طرف النهار الآخر ، فهي في طرفين منه ، والطرف الثالث غروب الشمس وهو وقت المغرب .

وقيل يجعل النهار للجنس فلكل يوم طرف فيتكرر بتكرره .

وقيل : المراد بالأطراف الساعات لأن الطرف آخر الشيء .

وقرأ الجمهور : { وَأَطْرَافَ } بنصب الفاء وهو معطوف على { وَمِنْ ءانَاء الَّيْلِ}

وقيل : معطوف على { قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ }

وقرأ الحسن وعيسى بن عمر { وَأَطْرَافَ } بخفض الفاء عطفاً على { ءانَاء}

{لَعَلَّكَ تَرْضَى } أي تثاب على هذه الأعمال بالثواب الذي تراه وأبرز ذلك في صورة الرجاء والطمع لا على القطع .

وقيل : لعل من اللّه واجبة .

وقرأ أبو حيوة وطلحة والكسائي وأبو بكر وأبان وعصمة وأبو عمارة عن حفص وأبو زيد عن المفضل وأبو عبيد ومحمد بن عيسى الأصبهاني تُرْضَى بضم التاء أي يرضيك ربك .

١٣١

ولا تمدن عينيك . . . . .

ولما أمره تعالى بالصبر وبالتسبيح جاء النهي عن مد البصر إلى ما متع به الكفرة يقال : مد البصر إلى ما متع به الكفار ، يقال : مد نظره إليه إذا أدام النظر إليه ، والفكرة في جملته وتفصيله . قيل : والمعنى على هذا ولا تعجب يا محمد مما متعناهم به من مال وبنين ومنازل ومراكب وملابس ومطاعم ، فإنما ذلك كله كالزهرة التي لا بقاء لها ولا دوام ، وإنها عما قليل تفنى وتزول . والخطاب وإن كان في الظاهر للرسول صلى اللّه عليه وسلم فالمراد أمته هو كان صلى اللّه عليه وسلم أبعد شيء عن النظر في زينة الدنيا وأعلق بما عند اللّه من كل أحد ، وهو القائل في الدنيا { ملعونة ملعون ما فيها إلا ما أريد به وجه اللّه} وكان شديد النهي عن الاغترار بالدنيا والنظر إلى زخرفها { وَلاَ تَمُدَّنَّ } أبلغ من لا تنظر لأن مد البصر يقتضي الإدامة والاستحسان بخلاف النظر ، فإنه قد لا يكون ذلك معه والعين لا تمدّ فهو على حذف مضاف أي { لاَ تَمُدَّنَّ } نظر { عَيْنَيْكَ } والنظر غير الممدد معفو عنه . وذلك مثل من فاجأ الشيء ثم غض بصره . والنظر إلى الزخارف مركوز في الطبائع فمن رأى منها شيئاً أحب إدمان النظر إليه ، وقد شدّد المتقون في غض البصر عن أبنية الظلمة وعدد الفسقة مركوباً وملبوساً وغيرهما لأنهم إنما اتخذوها لعيون النظارة حتى يفتخروا بها ، فالناظر إليها محصل لغرضهم وكالمغرى لهم على اتخاذها . وانتصب { أَزْواجاً } على أنه مفعول به ، والمعنى أصنافاً من الكفرة و { مِنْهُمْ } في موضع الصفة لأزواجاً أي أصنافاً وأقواماً من الكفرة . كما قال :{ وَءاخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْواجٌ}

وأجاز الزمخشري أن ينتصب { أَزْواجاً } عن الحال من ضمير { بِهِ } و { مَتَّعْنَا } مفعوله منهم كأنه قيل إلى الذي متعنا به وهو أصناف بعضهم ، وناساً منهم . و { زَهْرَةَ } منصوب على الذم أو مفعول ثان لمتعنا على تضمينه معنى أعطينا أو بدل من محل الجار والمجرور ، أو بدل من { أَزْواجاً } على تقدير ذوي زهرة ، أو جعلهم { زَهْرَةَ } على المبالغة أو منصوب بفعل محذوف يدل عليه { مَتَّعْنَا } أي جعلنا لهم { زَهْرَةَ } أو حال من الهاء ، أو ما على تقدير حذف التنوين من { زَهْرَةَ } لالتقاء الساكنين وخبر { الْحَيَواةَ } على البدل من { مَا } وكل هذه الأعاريب منقول والأخير اختاره مكي ، وردّ كونه بدلاً من محل { مَا } لأن فيه الفصل بالبدل بين الصلاة وهي { مَتَّعْنَا } ومعمولها وهو { لِنَفْتِنَهُمْ } فالبدل وهو { زَهْرَةَ}

وقرأ الجمهور { زَهْرَةَ } بسكون الهاء .

وقرأ الحسن وأبو البر هشيم وأبو حيوة وطلحة وحميد وسلام ويعقوب وسهل وعيسى والزهري بفتحها .

وقرأ الأصمعي عن نافع لِنُفْتِنَهم بضم النون من أفتنه إذا جعل الفتنة واقعة فيه ، والزهرة والزهرة بمعنى واحد كالجهرة والجهرة . وأجاز الزمخشري في { زَهْرَةَ } المفتوح الهاء أن يكون جمع زاهر نحو كافر وكفرة ، وصفهم بأنهم زاهر وهذه الدنيا الصفاء ألوانهم مما يلهون ويتنعمون وتهلل وجوههم وبهاء زيهم وشارتهم بخلاف ما عليه المؤمنون والصلحاء من شحوب الألوان والتقشف في الثياب ، ومعنى { لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } أي لنبلوهم حتى يستوجبوا العذاب لوجود الكفران منهم أو لنعذبهم في الآخرة بسببه .

{وَرِزْقُ رَبّكَ خَيْرٌ وَاتَّقَى } أي ما ذخر لهم من المواهب في الآخرة { خَيْرٌ } مما متع به هؤلاء في الدنيا { وَأَبْقَى } أي أدوم .

وقيل : ما رزقهم وإن كان قليلاً خير مما رزقوا وإن كان كثير الحلية ذلك وحرمية هذا .

وقيل : ما رزقت من النبوة والإسلام .

وقيل : ما يفتح اللّه على المؤمنين من البلاد

والغنائم .

وقيل : القناعة .

وقيل : ثواب اللّه على الصبر وقلة المبالاة بالدنيا .

١٣٢

وأمر أهلك بالصلاة . . . . .

ولما أمره تعالى بالتسبيح في تلك الأوقات المذكورة ونهاه عن مد بصره إلى ما متع به الكفار أمره تعالى بأن يأمر أهله بالصلاة التي هي بعد الشهادة آكد أركان الإسلام ، وأمره بالاصطبار على مداومتها ومشاقها وأن لا يشتغل عنها ، وأخبره تعالى أن لا يسأله أن يرزق نفسه وأن لا يسعى في تحصيل الرزق ويدأب في ذلك ، بل أمره بتفريغ باله لأمر الآخرة ويدخل في خطابه عليه السلام أمته .

وقرأ الجمهور { نَرْزُقُكَ } بضم القاف . وقرأت فرقة : منهم وابن وثاب بإدغام القاف في الكاف وجاء ذلك عن يعقوب . قال صاحب اللوامح : وإنما امتنع أبو عمرو من إدغام مثله بعد إدغامه { نَرْزُقُكُمْ } ونحوها لحلول الكاف منه طرفاً وهو حرف وقف ، فلو حرك وقفاً لكان وقوفه على حركة وكان خروجاً عن كلامهم . ولو أشار إلى الفتح لكان الفتح أخف من أن يتبعض بل خروج بعضه كخروج كله ، ولو سكن لأجحف بحرف . ولعل من أدغم ذهب مذهب من يقول جعفر وعامر وتفعل فيشدد وقفاً أو أدغم على شرط أن لا يقف بحال فيصير الطرف كالحشو انتهى .

و { الْعَاقِبَةَ } أي الحميدة أو حسن العاقبة لأهل التقوى

١٣٣

وقالوا لولا يأتينا . . . . .

{وَقَالُواْ لَوْلاَ يَأْتِينَا بِئَايَةٍ مّن رَّبّهِ } هذه عادتهم في اقتراح الآيات كأنهم جعلوا ما ظهر من الآيات ليس بآيات ، فاقترحوا هم ما يختارون على ديدنهم في التعنت فأجيبوا بقوله {أَوَ لَمْ تَأْتِهِمْ بَيّنَةُ مَا فِى الصُّحُفِ الاْولَى } أي القرآن الذي سبق التبشيرية وبإيحائي من الرسل به في الكتب الإلهية السابقة المنزّلة على الرسل ، والقرآن أعظم الآيات في الإعجاز وهي الآية الباقية إلى يوم القيامة . وفي هذا الاستفهام توبيخ لهم .

وقرأ نافع وأبو عمرو وحفص { تَأْتِهِم } بالتاء على لفظ بينة .

وقرأ باقي السبعة وأبو بحرية وابن محيصن وطلحة وابن أبي ليلى وابن مناذر وخلف وأبو عبيدة وابن سعدان وابن عيسى وابن جبير الأنطاكي يأتهم بالياء لمجاز تأنيث الآية والفصل .

وقرأ الجمهور بإضافة { بَيّنَةً } إلى { مَا } وفرقة منهم أبو زيد عن أبي عمرو بالتنوين و { مَا } بدل . قال صاحب اللوامح : ويجوز أن يكون ما نفياً وأريد بذلك ما في القرآن من الناسخ والفصل مما لم يكن في غيره من الكتب . وقرأت فرقة بنصب { بَيّنَةً } والتنوين و { مَا } فاعل بتأتهم و { بَيّنَةً } نصب على الحال ، فمن قرأ يأتهم بالياء فعلى لفظ { مَا } ومن قرأ بالتاء راعى المعنى لأنه أشياء مختلفة وعلوم من مضى وما شاء اللّه .

وقرأ الجمهور { فِى الصُّحُفِ } بضم الحاء ، وفرقة منهم ابن عباس بإسكانها

١٣٤

ولو أنا أهلكناهم . . . . .

والضمير في ضمن قبله يعود على البينة لأنها في معنى البرهان ، والدليل قاله الزمخشري والظاهر عوده على الرسول صلى اللّه عليه وسلم لقوله : { لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً } ولذلك قدره بعضهم قبل إرساله محمداً إليهم والذل والخزي مقترنان بعذاب الآخرة .

وقيل { نَّذِلَّ } في الدنيا و { نخزَى } في الآخرة .

وقيل : الذل الهوان والخزي الافتضاح .

وقرأ الجمهور { أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى } مبنياً للفاعل ، وابن عباس ومحمد بن الحنفية وزيد بن علي والحسن في رواية عباد والعمري وداود والفزاري وأبو حاتم ويعقوب مبنياً للمفعول .

١٣٥

قل كل متربص . . . . .

{قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبّصٌ فَتَرَبَّصُواْ } أي منتظر منا ومنكم عاقبة أمره ، وفي ذلك تهديد لهم ووعيد وأفرد الخبر وهو { مُّتَرَبّصٌ } حملاً على لفظ { كُلٌّ } كقوله { قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ } والتربص التأني والانتظار للفرح و { مِنْ أَصْحَابِ } مبتدأ وخبر علق عنه } فستعلمون } وأجاز الفراء أن تكون ما موصولة بمعنى الذي فتكون مفعولة بفستعلمون و فستعلمون } وأجاز الفراء أن تكون ما موصولة بمعنى الذي فتكون مفعولة بفستعلمون و وأجاز الفراء أن تكون ما موصولة بمعنى الذي فتكون مفعولة بفستعلمون و { أَصْحَابُ } خبر مبتدأ محذوف تقديره الذي هم أصحاب ، وهذا جار على مذهب الكوفيين إذ يجيزون حذف مثل هذا الضمير مطلقاً سواء كان في الصلة طول أم لم يكن وسواء كان الموصول أياً أم غيره .

وقرأ الجمهور { السَّوِيّ } على وزن فعيل أي المستوي .

وقرأ أبو مجلز وعمران بن حدير السواء أي الوسط .

وقرأ الجحدري وابن يعمر السوأى على وزن فعلى أنث لتأنيث { الصّراطِ } وهو مما يذكر ويؤنث تأنيث الأسواء من السوأى على ضد الاهتداء قوبل به { وَمَنِ اهْتَدَى } على الضد ومعناه { فَسَتَعْلَمُونَ } أيها الكفار من على الضلال ومن على الهدى ، ويؤيد ذلك قراءة ابن عباس الصراط السوء وقد روي عنهما أنهما قرآ السوأى على وزن فعلى ، فاحتمل أن يكون أصله السووي إذ روي ذلك عنهما فخفف الهمزة بإبدالها واوا

وأدغم ، واحتمل أن يكون فعلى من السواء أبدلت ياؤه واواً وأدغمت الواو وفي الواو ، وكان القياس أنه لما بني فعلى من السواءان يكون السويا فتجتمع واو وياء ، وسبقت إحداهما بالسكون فتقلب الواو ياء وتدغم في الياء ، فكان يكون التركيب السيا . وقرىء السُوَيّ بضم السين وفتح الواو وشد الياء تصغير السوء . قاله الزمخشري ، وليس بجيد إذ لو كان تصغير سوء لثبتت همزته في التصغير ، فكنت تقول سؤيي والأجود أن يكون تصغير سواء كما قالوا في عطاء عطي . ومن قرأ السوأى أو السوء كان في ذلك مقابلة لقوله { وَمَنِ اهْتَدَى } وعلى قراءة الجمهور لم تراع المقابلة في الاستفهام .

﴿ ٠