سورة الحجمدنية بسم اللّه الرحمن الرحيم ١يا أيها الناس . . . . . ذهل عن الشيء ذهولاً : اشتغل عنه قاله قطرب ، وقال غيره : غفل لطريان شاغل من أهم أو وجع أو غيره . وقيل : مع دهشة . المضغة : اللحمة الصغيرة قدر ما يمضغ . المخلقة : المسوّاة الملساء لا نقص ولا عيب فيها ، يقال : خلق السواك والعود سوّاه وملسه ، من قولهم : صخرة خلقاء أي ملساء . الطفل : يقال من وقت انفصال الولد إلى البلوغ ، ويقال لولد الوحشية طفل ، ويوصف به المفرد والمثنى والمجموع والمذكر والمؤنث بلفظ واحد ، ويقال أيضاً طفل وطفلان وأطفال وأطفلت المرأة صارت ذا طفل ، والطفل بفتح الطاء الناعم ، وجارية طفلة ناعمة ، وبنان طفل ، وقد طفل الليل أقبل ظلامه ، والطفل بالتحريك بعد العصر إذا طفلت الشمس للغروب ، والطفل أيضاً مطر . وقال المبرد : هو اسم يستعمل مصدراً كالرضا والعدل يقع على الواحد والجمع . همدت الأرض : يبست ودرست ، والثوب بلي انتهى . وقال الأعشى : قالت قتيلة ما لجسمك شاحبا وأرى ثيابك باليات همدا البهيج : الحسن السارّ للناظر ، يقال : فلان ذو بهجة أي حسن ، وقد بهج بالضم بهاجة وبهجة فهو بهيج ، وأبهجني : أعجبني بحسنه . العطف : الجانب ، وعطفا الرجل يمينه وشماله وأصله من العطف وهو اللين ، ويسمى الرداء العطاف . المجوس : قوم يعبدون النار والشمس والقمر . وقيل : يعبدون النار . وقيل : قوم اعتزلوا النصارى ولبسوا المسوح . وقيل : قوم أخذوا من دين النصارى شيئاً ومن دين اليهود شيئاً وهم القائلون العالم أصلان نور وظلمة . وقيل : الميم في المجوس بدل من النون لاستعمالهم النجاسات . صهرت الشحم بالنار أذبته ، والصهارة الآلية المذابة . وقيل : ينضج قال الشاعر : تصهره الشمس ولا ينصهر المقمعة : بكسر الميم المقرعة يقمع بها المضروب . اللؤلؤ : الجوهر . وقيل : صغاره وكباره . الضامر : المهزول . العميق : البعيد ، وأصله البعد سفلاً يقال : بئر عميق أي بعيدة الغور ، والفعل عمق وعمق . قال الشاعر : إذا الخيل جاءت من فجاج عميقة يمد بها في السير أشعث شاحب ويقال : غميق بالغين . وقال الليث : يقال عميق ومعيق لتميم ، وأعمقت البئر وأمعقتها وقد عمقت ومعقت عماقة ومعاقة وهي بعيدة العمق والمعق والأمعاق والأعماق أطراف المفازة قال : وقائم الأعماق خاوي المخترق التفث : أصله الوسخ والقذر ، يقال لمن يستقذر : ما تفثك . وعن قطرب : تفث الرجل كثر وسخه في سفره . وقال أبو محمد البصري : التفث من التف وهو وسخ الأظفار ، وقلبت الفاء ثاء كمغثور . السحيق : البعيد . وجب الشيء سقط ، ووجبت الشمس جبة قال أوس بن حجر : ألم يكسف الشمس شمس النها ر والبدر للجبل الواجب القانع : السائل ، قنع قنوعاً سأل وقنع قناعة تعفف واستغنى ببلغته . قال الشماخ : مفاقره أعف من القنوع لمال المرء يصلحه فيغني الوثن : قال شمر كل تمثال من خشب أو حجارة أو ذهب أو فضة أو نحاس ونحوها ، وكانت العرب تنصبها وتعبدها ويطلق على الصليب . قال الأعشى : يطوف العفاة بأبوابه كطوف النصارى بباب الوثن وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لعديّ بن حاتم وقد رأى في عنقه صلياً : { ألق الوثن عنك} . واشتقاقه من وثن الشيء أقامه في مكانه وثبت ، والواثن المقيم الراكز في مكانه . وقال رؤبة : على أخلاء الصفاء الوثن يعني الدوم على العهد . البدن : جمع بدنة كثمر جمع ثمرة قاله الزجاج ، سميت بذلك لأنها تبدن أي تسمن . وقال الليث : البدنة بالهاء تقع على الناقة والبقرة والبعير مما يجوز في الهدي والأضاحي ، ولا يقع على الشاة وسميت بدنة لعظمها . وقيل : تختص بالإبل . وقيل : ما أشعر من ناقة أو بقرة قاله عطاء وغيره . وقيل : البدن مفرد اسم جنس يراد به العظيم السمين من الإبل والبقر ، ويقال للسمين من الرجال . المعتر : المتعرض من غير سؤال . وقال ابن قتيبة : غرّه واغترّه وعراه واعتراه أتاه طالباً لمعروفه . قال الشاعر : سلي الطارق المعتر يا أمّ مالك إذا ما اعتراني بين قدري ومجزري وقال الآخر : لعمرك ما المعتر يغشى بلادنا لنمنعه بالضائع المنهضم {يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب اللّه شديد ومن الناس من يجادل في اللّه بغير علم ويتبع كل شيطان مريد كتب عليه أنه من تولاه فإنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلاً ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئاً وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج ذلك بأن اللّه هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن اللّه يبعث من في القبور . هذه السورة مكية إلا { هذان خصمان } إلى تمام ثلاث آيات قاله ابن عباس ومجاهد ، وعن ابن عباس أيضاً إنهن أربع آيات إلى قوله { عَذَابَ الْحَرِيقِ } وقال الضحاك : هي مدنية . وقال قتادة : إلاّ من قوله { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَى عَذَابِ مُّقِيمٌ} وقال الجمهور : منها مكي ومنها مدني . ومناسبة أولهذه السورة لما قبلها أنه ذكر تعالى حال الأشقياء والسعداء وذكر الفزع الأكبر وهو ما يقول يوم القيامة ، وكان مشركو مكة قد أنكروا المعاد وكذبوه بسبب تأخر العذاب عنهم . نزلت هذه السورة تحذيراً لهم وتخويفاً لما انطوت عليه من ذكر زلزلة الساعة وشدّة هولها ، وذكر ما أعد لمنكرها وتنبيههم على البعث بتطويرهم في خلقهم ، وبهمود الأرض واهتزازها بعد بالنبات ، والظاهر أن قوله { يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ } عام . وقيل : المراد أهل مكة ، ونبه تعالى على سبب اتقائه وهو ما يؤول إليه من أهوال الساعة وهو على حذف مضاف أي { اتَّقَوْاْ } عذاب { رَبُّكُمْ } ، والزلزلة الحركة المزعجة وهي عند النفخة الأولى . وقيل : عند الثانية . وقيل : عند قول اللّه يا آدم ابعث بعث النار . وقال الجمهور : في الدنيا آخر الزمان ويتبعها طلوع الشمس من مغربها . وعن الحسن : يوم القيامة . وعن علقمة والشعبي : عند طلوع الشمس من مغربها ، وأضيفت إلى الساعة لأنها من أشراطها ، والمصدر مضاف للفاعل فالمفعول المحذوف وهو الأرض يدل عليه { إِذَا زُلْزِلَتِ الاْرْضُ زِلْزَالَهَا } والناس ونسبة الزلزلة إلى { السَّاعَةَ } مجاز ، ويجوز أن يضاف إلى المفعول به على طريقة الاتساع في الظرف ، فتكون { السَّاعَةَ } مفعولاً بها وعلى هذه التقادير يكون ثم { زَلْزَلَةَ } حقيقة . وقال الحسن : أشد الزلزال ما يكون مع قيام الساعة . وقيل : الزلزلة استعارة ، والمراد أشد الساعة وأهوال يوم القيامة و { شَىْء } هنا يدل على إطلاقه على المعدوم لأن الزلزلة لم تقع بعد ، ومن منع إيقاعه على المعدوم قال : جعل الزلزلة شيئاً لتيقن وقوعها وصيرورتها إلى الوجود . ٢يوم ترونها تذهل . . . . . وذكر تعالى أهول الصفات في قوله { تَرَوْنَهَا } الآية لينظروا إلى تلك الصفة ببصائرهم ويتصوروها بعقولهم ليكون ذلك حاملاً على تقواه تعالى إذ لا نجاة من تلك الشدائد إلاّ بالتقوى . وروي أن هاتين الآيتين نزلتا ليلاً في غزوة بني المصطلق فقرأهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فلم ير أكثر باكياً من تلك الليلة ، فلما أصبحوا لم يحطوا السروج عن الدواب ولم يضربوا الخيام وقت النزول ولم يطبخوا قدراً ، وكانوا من بين حزين باك ومفكر . والناصب ليوم { تَذْهَلُ } والظاهر أن الضمير المنصوب في { تَرَوْنَهَا } عائداً على الزلزلة لأنها المحدث عنها ، ويدل على ذلك وجود ذهول المرضعة ووضع الحمل هذا إذا أريد الحقيقة وهي الأصل ، ويكون ذلك في الدنيا . وعن الحسن { تَذْهَلُ } المرضعة عن ولدها لغير فطام { وَتَضَعُ } الحامل ما في بطنها لغير تمام . وقالت فرقة : الضمير يعود على { السَّاعَةَ } فيكون الذهول والوضع عبارة عن شدة الهول في ذلك اليوم ، ولا ذهول ولا وضع هناك كقولهم : يوم يشيب فيه الوليد . وجاء لفظ { مُرْضِعَةٍ } دون مرضع لأنه أريد به الفعل لا النسب ، بمعنى ذات رضاع . وكما قال الشاعر : كمرضعة أولاد أخرى وضيعت بني بطنها هذا الضلال عن القصد ، والظاهر أن ما في قوله { عَمَّا أَرْضَعَتْ } بمعنى الذي ، والعائد محذوف أي أرضعته ، ويقويه تعدي وضع إلى المفعول به في قوله { حِمْلِهَا } لا إلى المصدر . وقيل : ما مصدرية أي عن إرضاعها . وقال الزمخشري : المرضعة هي التي في حال الإرضاع تلقم ثديها الصبي ، والمرضع التي شأنها أن ترضع وإن لم تباشر الإرضاع في حال وصفها به . فقيل { مُرْضِعَةٍ } ليدل على أن ذلك الهول إذا فوجئت به هذه وقد ألقمت الرضيع ثديها نزعته عن فيه لما يلحقها من الدهشة ، وخص بعض نحاة الكوفة أم الصبيّ بمرضعة والمستأجرة بمرضع وهذا باطل بقول الشاعر : كمرضعة أولاد أخرى وضيعت البيت فهذه { مُرْضِعَةٍ } بالتاء وليست أمَّا للذي ترضع . وقول الكوفيين إن الوصف الذي يختص بالمؤنث لا يحتاج فيه إلى التاء لأنها إنما جيء بها للفرق مردود بقول العرب مرضعة وحائضة وطالقة . وقرأ الجمهور { تَذْهَلُ كُلُّ } بفتح التاء والهاء ورفع كل ، وابن أبي عبلة واليماني بضم التاء وكسر الهاء أي { تَذْهَلُ } الزلزلة أو الساعة كل بالنصب ، والحمل بالفتح ما كان في بطن أو على رأس شجرة . وقرأ الجمهور { وَتَرَى } بالتاء مفتوحة خطاب المفرد وزيد بن علي بضم التاء وكسر الراء أي وترى الزلزلة أو الساعة . وقرأ الزعفراني وعباس في اختياره بضم التاء وفتح الراء ، ورفع { النَّاسِ } وأنث على تأويل الجماعة . وقرأ أبو هريرة وأبو زرعة بن عمرو بن جرير وأبو نهيك كذلك إلا أنهم نصبوا { النَّاسِ } دّى { تَرَى } إلى مفاعيل ثلاثة أحدها الضمير المستكن في { تَرَى } وهو ضمير المخاطب مفعول لم يسم فاعله ، والثاني والثالث { النَّاسَ سُكَارَى } أثبت أنهم { سُكَارَى } على طريق التشبيه ثم نفى عنهم الحقيقة وهي السكر من الخمر ، وذلك لما هم فيه من الحيرة وتخليط العقل . وقرأ الجمهور { سُكَارَى } فيهما على وزن فعالى وتقدم ذكر الخلاف في فعالى بضم الفاء أهو جمع أو اسم جمع . وقرأ أبو هريرة وأبو نهيك وعيسى بفتح السين فيهما وهو جمع تكسير واحده سكران . وقال أبو حاتم : هي لغة تميم . وقرأ الأخوان وابن سعدان ومسعود بن صالح سُكرى فيهما ، ورويت عن الرسول صلى اللّه عليه وسلم رواها عمران بن حصين وأبو سعيد الخدري وهي قراءة عبد اللّه وأصحابه وحذيفة . وقال سيبويه : وقوم يقولون سكرى جعلوه مثل مرضى لأنهما شيئان يدخلان على الإنسان ، ثم جعلوا روبي مثل سكرى وهم المستثقلون نوماً من شرب الرائب . قال أبو علي الفارسي : ويصح أن يكون جمع سكر كزمنى وزمن ، وقد حكى سيبويه : رجل سكر بمعنى سكران فيجيء سكرى حينئذ لتأنيث الجمع . وقرأ الحسن والأعرج وأبو زرعة وابن جبير والأعمش سُكرى بضم السين فيهما . قال أبو الفتح : هو اسم مفرد كالبشرى وبهذا أفتاني أبو عليّ انتهى . وقال الزمخشري : هو غريب . وقال أبو الفضل الرازي : فعلى بضم الفاء من صفة الواحدة من الإناث لكنها لما جعلت من صفات الناس وهم جماعة أجريت الجماعة بمنزلة المؤنث الموحد انتهى . وعن أبي زرعة أيضاً سُكرى بفتح السين بسُكرى بضمها . وعن ابن جبير أيضاً سكرى بالفتح من غير ألف { بِسُكَارَى } بالضم والألف . وعن الحسن أيضاً { سُكَارَى } بسكر وقال أو لا ترونها على خطاب الجمع جعلوا جميعاً رائيين لها . ثم قال { وَتَرَى } على خطاب الواحد لأن الرؤية معلقة بكون الناس على حال السكر ، فجعل كل واحد رائياً لسائرهم غشيهم من خوف عذاب اللّه ما أذهب عقولهم وردهم في حال من يذهب السكر عقله وتمييزه ، وجاء هذا الاستدراك بالإخبار عن { عَذَابُ اللّه } أنه { شَدِيدٍ } لما تقدم ما هو بالنسبة إلى العذاب كالحالة اللينة وهو الذهول والوضع ورؤية الناس أشباه السكارى ، وكأنه قيل : وهذه أحوال هينة { وَلَاكِنَّ عَذَابَ اللّه شَدِيدٌ } وليس بهين ولا لين لأن لكن لا بد أن تقع بين متنافيين بوجه ما وتقدم الكلام فيها . ٣انظر تسفير الآية:٤ ٤ومن الناس من . . . . . {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِى اللّه} أي في قدرته وصفاته . قيل : نزلت في أبي جهل . وقيل : في أُبيّ بن خلف والنضر بن الحارث . وقيل : في النضر وكان جدلاً يقول الملائكة بنات اللّه والقرآن أساطير الأولين ، ولا يقدر اللّه على إحياء من بَلي وصار تراباً والآية في كل من تعاطى الجدال فيما يجوز على اللّه وما لا يجوز من الصفات والأفعال ، ولا يرفع إلى علم ولا برهان ولا نصفة . والظاهر أن قوله { كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ } هو من الجن كقوله { وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً} وقيل : يحتمل أن يكون من الإنس كقوله { شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنّ} لما ذكر تعالى أهوال يوم القيامة ذكر من غفل عن الجزاء في ذلك اليوم وكذب به . وقرأ زيد بن عليّ{ وَيَتَّبِعْ } خفيفاً ، والظاهر أن الضمير في { عَلَيْهِ } عائد على { مِنْ } لأنه المحدث عنه ، وفي { أَنَّهُ } و { تَوَلاَّهُ } وفي { فَإِنَّهُ } عائد عليه أيضاً ، والفاعل يتولى ضمير { مِنْ } وكذلك الهاء في { يُضِلُّهُ } ويجوز أن تكون الهاء في هذا الوجه أنه ضمير الشأن ، والمعنى أن هذا المجادل لكثرة جداله بالباطل واتباعه الشيطان صار إماماً في الضلال لمن يتولاه ، فشأنه أن يضل من يتولاه . وقيل : الضمير في { عَلَيْهِ } عائد على { كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ } قاله قتادة ولم يذكر الزمخشري غيره ، وأورد ابن عطية القول الأول احتمالاً . و قال ابن عطية : ويظهر لي أن الضمير في { أَنَّهُ } الأولى للشيطان والثانية لمن الذي هو للمتولي . قال الزمخشري : والكتبة عليه مثل أي إنما { كِتَابَ } إضلال من يتولاه { عَلَيْهِ } ورقم به لظهور ذلك في حاله . وقرأ الجمهور { كِتَابَ } مبنياً للمفعول . وقرىء { كِتَابَ } مبنياً للفاعل أي كتب اللّه . وقرأ الجمهور :{ أَنَّهُ } بفتح الهمزة في موضع المفعول الذي لم يسم فاعله ، { فَإِنَّهُ } بفتحها أيضاً ، والفاء جواب { مِنْ } الشرطية أو الداخلة في خبر { مِنْ } إن كانت موصولة . و { فَإِنَّهُ } على تقدير فشأنه أنه { يُضِلُّهُ } أي إضلاله أو فله أن يضله . وقال الزمخشري : فمن فتح فلأن الأول فاعل { كِتَابَ } بعني به مفعولاً لم يسم فاعله ، قال : والثاني عطف عليه انتهى . وهذا لا يجوز لأنك إذا جعلت { فَإِنَّهُ } عطفاً على { أَنَّهُ } بقيت بلا استيفاء خبر لأن { مَن تَوَلاَّهُ } من ، فيه مبتدأة ، فإن قدرتها موصولة فلا خبر لها حتى يستقل خبراً لأنه وإن جعلتها شرطية فلا جواب لها إذ جعلت { فَإِنَّهُ } عطفاً على { أَنَّهُ } ومثل قول الزمخشري قال ابن عطية قال { وَأَنَّهُ } في موضع رفع على المفعول الذي لم يسم فاعله ، وأنه الثانية عطف على الأولى مؤكدة مثلها ، وخطا خطأ لما بيناه . وقرأ الأعمش والجعفي عن أبي عمر و { أَنَّهُ }{ فَإِنَّهُ } بكسر الهمزتين . و قال ابن عطية : وقرأ أبو عمرو { أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ } بالكسر فيهما انتهى ، وليس مشهوراً عن أبي عمرو . والظاهر أن ذلك من إسناد { كِتَابَ } إلى الجملة إسناداً لفظياً أي { كِتَابَ } عليه هذا الكلام كما تقول : كتب إن اللّه يأمر بالعدل . وقال الزمخشري : أو عن تقدير قبل أو على المفعول الذي لم يسم فاعله الكتب ، والجملة من { أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ } في موضع المفعول الذي لم يسم فاعله لقيل المقدرة ، وهذا لا يجوز عند البصريين لأن الفاعل عندهم لا يكون جملة فلا يكون ذلك مفعولاً لم يسم فاعله ، وأما الثاني فلا يجوز أيضاً على مذهب البصريين لأنه لا تكسر أن بعد ما هو بمعنى القول ، بل بعد القول صريحة ، ومعنى { وَيَهْدِيهِ } ويسوقه وعبر بلفظ الهداية على سبيل التهكم . ٥يا أيها الناس . . . . . ولما ذكر تعالى من يجادل في قدرة اللّه بغير علم وكان جدالهم في الحشر والمعاد ذكر دليلين واضحين على ذلك أحدهما في نفس الإنسان وابتداء خلقه ، وتطوره في مراتب سبع وهي التراب ، والنطفة ، والعلقة ، والمضغة ، والإخراج طفلاً ، وبلوغ الأشد ، والتوفي أو الرد إلى الهرم . والثاني في الأرض التي تشاهدون تنقلها من حال إلى حال فإذا اعتبر العاقل ذلك ثبت عنده جوازه عقلاً فإذا ورد خبر الشرع بوقوعه وجب التصديق به وأنه واقع لا محالة . وقرأ الحسن { مّنَ الْبَعْثِ } بفتح العين وهي لغة فيه كالحلب والطرد في الحلب والطرد ، والكوفيون إسكان العين عندهم تخفيف يقيسونه فيما وسطه حرف حلق كالنهر والنهر والشعر والشعر ، والبصريون لا يقيسونه وما ورد من ذلك هو عندهم مما جاء فيه لغتان . والمعنى إن ارتبتم في البعث فمزيل ريبكم أن تنظروا في بدء خلقكم { مّن تُرَابٍ } أي أصلكم آدم وسلط الفعل عليهم من حيث هم من ذريته ، أو باعتبار وسائط التولد لأن المني ودم الطمث يتولدان من الأغذية والأغذية حيوان ونبات ، والحيوان يعود إلى النبات ، والنبات من الأرض والماء والنطفة المني . وقيل { نُّطْفَةٍ } آدم قاله النقاش . والعلقة قطعة الدم الجامدة ومعنى { وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ } أي ليست كاملة ولا ملساء فالمضغ متفاوتة لذلك تفاوتوا طولاً وقصراً وتماماً ونقصاناً . وقال مجاهد { غَيْرِ مُّخَلَّقَةٍ } هي التي تستسقط وقاله قتادة والشعبي وأبو العالية . ولما كان الإنسان فيه أعضاء متباينة وكل واحد منها مختص بخلق حسن تضعيف الفعل لأن فيه خلقاً كثيرة . وقرأ ابن أبي عبلة { مُّخَلَّقَةٍ } بالنصب وغير بالنصب أيضاً نصباً على الحال من النكرة المتقدمة ، وهو قليل وقاسه سيبويه . قال الزمخشري : و { لّنُبَيّنَ لَكُمْ } بهذا التدريج قدرتنا وإن من قدر على خلق البشر { مّن تُرَابٍ } أولاً{ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ } ثانياً ولا تناسب بين التراب والماء ، وقدر على أن يجعل النطفة { عَلَقَةٍ } وبينهما تباين ظاهر ثم يجعل العلقة { مُضْغَةً } والمضغة عظاماً قدر على إعادة ما أبداه ، بل هذا أدخل في القدرة وأهون في القياس وورود الفعل غير معدي إلى المبين إعلام بأن أفعاله هذه يتبين بها من قدرته وعلمه ما لا يكتنهه الفكر ولا يحيط به الوصف انتهى . و { لّنُبَيّنَ } متعلق بخلقناكم . وقيل { لّنُبَيّنَ } لكم أمر البعث . قال ابن عطية : وهو اعتراض بين الكلامين . وقال الكرماني : يعني رشدكم وضلالكم . وقيل { لّنُبَيّنَ لَكُمْ } أن التخليق هو اختيار من الفاعل المختار ، ولولاه ما صار بعضه غير مخلق . وقرأ ابن أبي عبلة ليبين لكم ويقر بالياء . وقرأ يعقوب وعاصم في رواية { وَنُقِرُّ } بالنصب عطفاً على { لّنُبَيّنَ} وعن عاصم أيضاً ثم يخرجكم بنصب الجيم عطفاً على { وَنُقِرُّ } إذا نصب . وعن يعقوب { وَنُقِرُّ } بفتح النون وضم القاف والراء من قر الماء صبه . وقرأ أبو زيد النحوي ويقر بفتح الياء والراء وكسر القاف وفي الكلام لابن حبار { لّنُبَيّنَ }{ وَنُقِرُّ }{ ونخرجكم } بالنصب فيهن . المفضل وبالياء فيهما مع النصب ، أبو حاتم وبالياء والرفع عمر بن شبة انتهى . قال الزمخشري : والقراءة بالرفع إخبار بأنه تعالى يقر في الأرحام ما يشاء أن يقره من ذلك . {وَيُؤَخّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى } وهو وقت الوضع وما لم يشأ إقراره مجته الأرحام أو أسقطته . والقراءة بالنصب تعليل معطوف على تعليل والمعنى { خَلَقْنَاكُمْ } مدرجين هذا التدريج لغرضين أحدهما : أن نبين قدرتنا والثاني أن { نُقِرَ فِى الاْرْحَامِ } من نقر حتى يولدوا وينشؤوا ويبلغوا حد التكليف فأكلفهم . ويعضد هذه القراءة قوله { ثُمَّ لِتَبْلُغُواْ أَشُدَّكُمْ } انتهى . وقرأ يحيى بن وثاب { مَا نَشَاء } بكسر النون والأجل المسمى مختلف فيه بحسب جنين جنين فساقط وكامل أمره خارج حياً ووحد { طِفْلاً } لأنه مصدر في الأصل قاله المبرد والطبري ، أو لأن الغرض الدلالة على الجنس ، أو لأن معنى يخرجكم كل واحد كقولك الرجال يشبعهم رغيف أي يشبع كل واحد . وقال الزمخشري : الأشد كمال القوة والعقل والتمييز ، وهو من ألفاظ الجموع التي لم يستعمل لها واحد كالأشدة والقيود وغير ذلك وكأنها مشدة في غير شيء واحد فبنيت لذلك على لفظ الجمع انتهى . وتقدم الكلام في الأشد ومقداره من الزمان . وإن من الناس من قال إنه جمع شدة كأنعم جمع نعمة وأما القيود : فعن أبي عمرو الشيباني إن واحدة قيد { وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّى } وقرىء { يَتَوَفَّى } بفتح الياء أي يُسْتَوْفَى أجله ، والجمهور بالضم أي بعد الأشد وقبل الهرم ، وهو { أَرْذَلِ الْعُمُرِ } والخرف ، فيصبر إلى حالة الطفولية ضعيف البنية سخيف العقل ، ولا زمان لذلك محدود بل ذلك بحسب ما يقع في الناس وقد نرى من علت سنه وقارب المائة أو بلغها في غاية جودة الذهن والإدراك مع قوة ونشاط ، ونرى من هو في سن الاكتهال وقد ضعفت بنيته أوضح تعالى أنه قادر على إنهائه إلى حالة الخرف كما أنه كان قادراً على تدريجه إلى حالة التمام ، فكذلك هو قادر على إعادة الأجساد التي درجها في هذه المناقل وإنشائها النشأة الثانية . و { ليكلا } يتعلق بقوله ، يرد } قال الكلبي قال الكلبي { يَسِيرٌ لّكَيْلاَ } يعقل من بعد عقله الأول شيئاً . وقيل { لّكَيْلاَ } يستفيد علماً وينسى ما علمه . وقال الزمخشري : أي ليصير نسَّاءً بحيث إذا كسب علماً في شيء لم ينشب أن ينساه ويزل عنه علمه حتى يسأل عنه من ساعته ، يقول لك من هذا ؟ فتقول فلان فما يلبث لحظة إلا سألك عنه . وروى عن أبي عمرو ونافع تسكين ميم { الْعُمُرُ} {وَتَرَى الاْرْضَ هَامِدَةً } هذا هو الدليل الثاني الذي تضمنته ، والدليل الأول الآية ، ولما كان الدليل الأول بعض مراتب الخلقة فيه غير مرتبين قال { إِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ } فلم يحل في جميع رتبه على الرؤية ، ولما كان هذا الدليل الثاني مشاهداً للأبصار أحال ذلك على الرؤية فقال { وَتَرَى } أيها السامع أو المجادل { الاْرْضَ هَامِدَةً } ولظهوره تكرر هذا الدليل في القرآن و { الْمَاء } ماء المطر والأنهار والعيون والسواني واهتزازها تخلخلها واضطراب بعض أجسامها لأجل خروج النبات { وَرَبَتْ } أي زادت وانتفخت . وقرأ أبو جعفر وعبد اللّه بن جعفر وخالد بن إلياس وأبو عمرو في رواية وربأت بالهمز هنا وفي فصلت أي ارتفعت وأشرفت ، يقال : فلان يربأ بنفسه عن كذا : أي يرتفع بها عنه . قال ابن عطية : ووجهها أن يكون من ربأت القوم إذا علوت شرفاً من الأرض طليعة فكان الأرض بالماء تتطاول وتعلو انتهى . ويقال ربىء وربيئة . وقال الشاعر : بعثنا ربيئاً قبل ذلك مخملا كذئب الغضا يمشي الضراء ويتقى ٦انظر تسفير الآية:٨ ٧انظر تسفير الآية:٨ ٨ذلك بأن اللّه . . . . . ذلك الذي ذكرنا من خلق بني آدم وتطورهم في تلك المراتب ، ومن إحياء الأرض حاصل بهذا وهو حقيقته تعالى فه الثابت الموجود القادر على إحياء الموتى وعلى كل مقدور وقد وعد بالبعث وهو قادر عليه فلا بد من كيانه . وقوله { وَأَنَّ السَّاعَةَ } إلى آخره توكيد لقوله { ذالِكَ بِأَنَّ اللّه } والظاهر أن قوله { وَأَنَّ السَّاعَةَ ءاتِيَةٌ } ليس داخلاً في سبب ما تقدم ذكره ، فليس معطوفاً على أنه الذي يليه ، فيكون على تقدير . والأمر { إِنَّ السَّاعَةَ } وذلك مبتدأ وبأن الخبر . وقيل ذلك منصوب بمضمر أي فعلنا ذلك . ذلك بأن اللّه . . . . . الظاهر أن المجادل في هذه الآية غير المجادل في الآية قبلها ، فعن محمد بن كعب أنها نزلت في الأخنس بن شر. وعن ابن عباس في أبي جهل . وقيل :الأولى في المقلدين وهذه في المقلدين ، والجمهور على أنها والتي قبلها في النضر كررت مبالغة في الذم ، ولكون كل واحدة اشتملت على زيادة ليست في الأخرى . وقد قيل فيه : نه نزلت فيه بضع عشرة آية . و قال ابن عطية : وكرر هذه على وجه التوبيخ ، فكأنه يقول : هذه الأمثال في غاية الوضوح والبيان { وَمِنَ النَّاسِ } مع ذلك { مَن يُجَادِلُ } فكان الواو واو الحال ، والآية المتقدمة الواو فيها واو العطف عطفت جملة الكلام على ما قبلها ، والآية على معنى الإخبار وهي ههنا مكررة للتوبيخ انتهى . ولا يتخيل أن الواو في { وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ } واو حال ، وعلى تقدير الجملة التي قدّرها قبله لو كان مصرحاً بها لم يتقدّر بإذ فلا تكون للحال ، وإنما هي للعطف قسم المخذولين إلى مجادل { فِى اللّه بِغَيْرِ عِلْمٍ } متبع لشيطان مريد ، ومجادل { بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ } إلى آخره وعابد ربه على حرف والمراد بالعلم العلم الضروري ، وبالهدى الاستدلال والنظر لأنه يهدي إلى المعرفة ، وبالكتاب المنير الوحي أي { يُجَادِلُ } بغير واحد من هذه الثلاثة . ٩انظر تسفير الآية:١٠ ١٠ثاني عطفه ليضل . . . . . وانتصب { ثَانِىَ عِطْفِهِ } على الحال من الضمير المستكن في { يُجَادِلُ } قال ابن عباس : متكبراً ، ومجاهد : لاوياً عنقه بقبح ، والضحاك شامخاً بأنفه وابن جريج : معرضا عن الحق ، وقرأ الحسن ثاني عطف بفتح العين أي : تعطفه وترحمه و { ليضل} متعلق ب { تجادل} وقرأ مجاهد وأهل مكة وأبو عمرو في رواية { لِيُضِلَّ } بفتح الياء أي { لِيُضِلَّ } في نفسه والجمهور بضمها أي { لِيُضِلَّ } غيره ، وهو يترتب على إضلاله كثرة العذاب ، إذ عليه وزر من عمل به . ولما كان مآل جداله إلى الإضلال كان كأنه علة له ، وكذلك لما كان معرضاً عن الهدى مقبلاً على الجدال بالباطل كان كالخارج من الهدى إلى الضلال . والخزي في الدنيا ما لحقه يوم بدر من الأسر والقتل والهزيمة ، وقد أسر النضر . وقيل : يوم بدر بالصفراء . و { الْحَرِيقِ } قيل طبقة من طباق جهنم ، وقد يكون من إضافة الموصوف إلى صفته أي العذاب الحريق أي المحرق كالسميع بمعنى المسمع . وقرأ زيد بن عليّ فأذيقه بهمزة المتكلم ذلك إشارة إلى الخزي والإذاقة ، وجوزوا في إعراب ذلك هذا ما جوزوا في إعراب ذلك بأن اللّه هو الحق . وتقدم المراد في { بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ } أي باجترامك وبعدل اللّه فيك إذ عصيته ، ويحتمل أن يكون وأن اللّه متقطعاً ليس ذلك في السبب والتقدير والأمر أن اللّه . قال ابن عطية : والعبيد هنا ذكروا في معنى مسكنتهم وقلة قدرتهم ، فلذلك جاءت هذه الصيغة انتهى . وهو يفرق بين العبيد والعباد وقد رددنا عليه تفرقته في أواخر آل عمران في قوله { وَأَنَّ اللّه لَيْسَ بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ } وشرحنا هنا قوله { بِظَلَّامٍ} ١١انظر تسفير الآية:١٢ ١٢ومن الناس من . . . . . من { يَعْبُدُ اللّه } نزلت في أعراب من أسلم وغطفان تباطؤوا عن الإسلام وقالوا : نخاف أن لا ينصر محمد فينقطع ما بيننا وبين حلفائنا من يهود فلا يقرونا ولا يؤونا . وقيل : في أعراب لا يقين لهم يسلم أحدهم فيتفق تثمير ماله وولادة ذكر وغير ذلك من الخير ، فيقول : هذا دين جيد أو ينعكس حاله فيتشاءم ويرتد كما جرى للعرنيين قال معناه ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم . وعن ابن عباس : في شيبة بن ربيعة أسلم قبل ظهور الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، فلما أوحى إليه ارتد . وقيل : في يهودي أسلم فأصيب فتشاءم بالإسلام ، وسأل الرسول إلا قاله فقال : { إن الإسلام لا يقال } فنزلت . وعن الحس : هو المنافق يعبده بلسانه دون قلبه وقال ابن عيسى : على ضعف يقين . وقال أبو عبيد { عَلَى حَرْفٍ } على شك . وقال ابن عطية { حَرْفٍ } على انحراف منه عن العقيدة البيضاء ، أو على شفا منها معداً للزهوق . وقال الزمخشري { عَلَى حَرْفٍ } على طرف من الدين لا في وسطه وقبله ، وهذا مثل لكونهم على قلق واضطراب في دينهم لا على سكون وطمأنينة كالذي يكون على طرف من العسكر ، فأن أحسن بظفر وغنيمة قرّ واطمأنّ وإلاّ فرّ وطار على وجهه انتهى . وخسرانه الدنيا إصابته فيها بما يسوؤه من ذهاب ماله وفقد أحبائه فلم يسلم للقضاء . وخسران الآخرة حيث حرم ثواب من صبر فارتد عن الإسلام . وقرأ مجاهد وحميد والأعرج وابن محيصن من طريق الزعفراني وقعنب والجحدري وابن مقسم خاسر الدنيا اسم فاعل نصباً على الحل . وقرىء خاسر اسم فاعل مرفوعاً على تقدير وهو خاسر . وقال الزمخشري : والرفع على الفاعلية ووضع الظاهر موضع الضمير وهو وجه حسن انتهى . وقرأ الجمهور : { خُسْرٍ } فعلاً ماضياً وهو استئناف إخبار ، ويجوز أن يكون في موضع الحال ولا يحتاج إلى إضمار قد لأنه كثر وقوع الماضي حالاً في لسان العرب بغير قد فساغ القياس عليه ، وأجاز أبو الفضل الرازي أن يكون بدلاً من قوله { انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ } كما كان يضاعف بدلاً من يلق . وتقدم تفسير { الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ } في قوله { ضَلَالاً بَعِيداً } ونفى هنا الضر والنفع وأثبتهما في قوله { لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ } وذلك لاختلاف المتعلق ، وذلك أن قوله { مَا لاَ يَنفَعُهُمْ } هو الأصنام والأوثان ، ولذلك أتى التعبير عنها بما التي لا تكون لآحاد من يعقل . ١٣يدعو لمن ضره . . . . . وقوله { يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ } هو من عبد باقتضاء ، وطلب من عابديه من المدعين الإلهية كفرعون وغيره من ملوك بني عبيد الذين كانوا بالمغرب ثم ملكوا مصر ، فإنهم كانوا يدعون الإلهية ويطاف بقصرهم في مصر وينادون بما ينادي به رب العالمين من التسبيح والتقديس ، فهؤلاء وإن كان منهم نفع مّا لعابديهم في دار الدنيا فضررهم أعظم وأقرب من نفعهم ، إذ هم في الدنيا مملوكون للكفار وعابدون لغير اللّه ، وفي الآخرة معذبون العذاب الدائم ولهذا كان التعبير هنا بمن التي هي لمن يعقل ، وعلى هذا فتكون الجملتان من إخبار اللّه تعالى عمن يدعو إلهاً غير اللّه . وقال الزمخشري : فإن قلت : الضر والنفع منفيان عن الأصنام مثبتان لها في الآيتين وهذا تناقض قلت : إذا حصل المعنى ذهب هذا الوهم ، وذلك أن اللّه تعالى سفه الكافر بأنه يعبد جماداً لا يملك ضراً ولا نفعاً وهو يعتقد فيه بجهله وضلالته أن سينتفع به ، ثم قال يوم القيامة يقول هذا الكافر بدعاء وصراخ حين يرى استضراره بالأصنام ودخوله النار بعبادتها ، ولا يرى أثر الشفاعة التي ادعاها لها { لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ } وكرر يدعوا كأنه قال { يَدْعُو }{ يَدْعُو مِن دُونِ اللّه مَا لاَ يَضُرُّهُ وَمَا لاَ يَنفَعُهُ } ثم قال { لَمَنْ ضَرُّهُ } بكونه معبوداً{ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ } بكونه شفيعاً{ لَبِئْسَ الْمَوْلَى } انتهى . فجعل الزمخشري المدعو في الآيتين الأصنام وأزال التعارض باختلاف القائلين بالجملة الأول من قول اللّه تعالى إخباراً عن حال الأصنام . والجملة الثانية من كلام عباد الأصنام يقولون ذلك في الآخرة ، وحكى اللّه عنهم ذلك وأنهم أثبتوا ضراً بكونهم عبدوه ، وأثبتوا نفعاً بكونهم اعتقدوه شفيعاً . فالنافي هناك غير المثبت هنا ، فزال التعارض على زعمه والذي أقول إن الصنم ليس له نفع ألبتة حتى يقال { ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ} وأجاب بعضهم عن زعم من زعم أن الظاهر الآيتين يقتضي التعارض بأنها لا تضر ولا تنفع بأنفسها ولكن عبادتها نسب الضرر إليها كقوله { رَبّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ النَّاسِ } أضاف الإضلال إليهم إذ كانوا سبب الضلال ، فكذا هنا نفي الضرر عنهم لكونها ليست فاعلة ثم أضافه إليها لكونها سبب الضرر . وقال آخرون : هي في الحقيقة لا تضر ولا تنفع بين ذلك في الآية الأولى ثم أثبت لها الضر والنفع في الثانية على طريق التسليم ، أي ولو سلمنا كونها ضارة نافعة لكان ضرها أكثر من نفعها ، وتكلف المعربون وجوهاً فقالوا { يَدْعُو } إما أن يكون لها تعلق بقوله { لَمَنْ ضَرُّهُ } أولاً إن لم يكن لها تعلق فوجوه . أحدها : أن يكون توكيداً لفظياً ليدعو الأولى ، فلا يكون لها معمول . الثاني : أن تكون عاملة في ذلك من قوله { ذالِكَ هُوَ الضَّلاَلُ } وقد المفعول الذي هو { ذالِكَ } وجعل موصولاً بمعنى الذي قاله أبو علي الفارسي ، وهذا لا يصح إلا على قول الكوفيين إذ يجيزون في اسم الإشارة أن يكون موصولاً ، والبصريون لا يجيزون ذلك إلاّ في ذا بشرط أن يتقدمها الاستفهام بما أو من . الثالث : أن يكون { يَدْعُو } في موضع الحال ، { وَذَلِكَ } مبتدأ وهو فصل أو مبتدأ وحذف الضمير من { يَدْعُو } أي يدعوه وقدره مدعواً وهذا ضعيف ، لأن يدعوه لا يقدر مدعواً إنما يقدر داعياً ، فلو كان يدعى مبنياً للمفعول لكان تقديره مدعواً جارياً على القياس . وقال نحوه الزجاج وإن كان له تعلق بقوله { لَمَنْ ضَرُّهُ } فوجوه . أحدها : ما قاله الأخفش وهو أن { يَدْعُو } بمعنى يقول و { مِنْ } مبتدأ موصول صلته الجملة بعده . وهي { ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ } وخبر المبتدأ محذوف ، تقديره إله وإلهي . والجملة في موضع نصب محكية بيدعو التي هي بمعنى يقول ، قيل : هو فاسد المعنى لأن الكافر لم يعتقد قط أن الأوثان ضرها أقرب من نفعها . وقيل : في هذا القول يكون { لَبِئْسَ } مستأنفاً لأنه لا يصح دخوله في الحكاية لأن الكفار لا يقولون عن أصنامهم { لَبِئْسَ الْمَوْلَى} الثاني : أن { يَدْعُو } بمعنى يسمي ، والمحذوف آخراً هو المفعول الثاني ليسمى تقديره إلهاً وهذا لا يتم إلاّ بتقدير زيادة اللام أي يدعو من ضره . الثالث : أن يدعو شبه بأفعال القلوب لأن الدعاء لا يصدر إلاّ عن اعتقاد ، والأحسن أن يضمن معنى يزعم ويقدر لمن خبره ، والجملة في موضع نصب ليدعو أشار إلى هذا الوجه الفارسي . والرابع : ما قاله الفراء وهو أن اللام دخلت في غير موضعها والتقدير { يَدْعُو } من لضره أقرب من نفعه ، وهذا بعيد لأن ما كان في صلة الموصول لا يتقدم على الموصول . الخامس : أن تكون اللام زائدة للتوكيد ، و { مِنْ } مفعول بيدعو وهو ضعيف لأنه ليس من مواضع زيادة اللام ، لكن يقويه قراءة عبد اللّه يدعو من ضره بإسقاط اللام ، وأقرب التوجيهات أن يكون { يَدْعُو } توكيداً ليدعو الأول ؛ واللام في { لِمَنْ } لام الابتداء ، والخبر الجملة التي هي قسم محذوف ، وجوابه { لَبِئْسَ الْمَوْلَى } والظاهر أن { يَدْعُو } يراد به النداء والاستغاثة . وقيل : معناه بعيد ، و { الْمَوْلَى } هنا الناصر والعشير الصاحب المخالط . ١٤انظر تسفير الآية:١٥ ١٥إن اللّه يدخل . . . . . ولما ذكر تعالى حالة من يعبده على حرف وسفه رأيه وتوعده بخسرانه في الآخرة عقبة بذكر حال مخالفيهم من أهل الإيمان وما وعدهم به من الوعد الحس ، ثم أخذ في توبيخ أولئك الأولين كأنه يقول هؤلاء العابدون على حرف صحبهم القلق وظنوا أن اللّه لن ينصر محمداً صلى اللّه عليه وسلم وأتباعه ، ونحن إنما أمرناهم بالصبر وانتظار وعدنا ، فمن ظن غير ذلك فليمدد بسبب ويختلق وينظر هل يذهب بذلك غيظه ، قال هذا المعنى قتادة ، وهذا على جهة المثل السائر قولهم : دونك الجبل فاختنق ، يقال ذلك للذي يريد من الأمر ما لا يمكنه ، فعلى هذا تكون الهاء في { يَنصُرَهُ } للرسول صلى اللّه عليه وسلم وهو قول ابن عباس والكلبي ومقاتل والضحاك وقتادة وابن زيد والسدّي ، واختاره الفراء والزجاج فالمعنى إن لن ينصر اللّه محمداً في الدنيا بإعلاء كلمته وإظهار دينه ، وفي الآخرة بإعلاء درجته والانتقام ممن كذبه ، والرسول وإن لم يجر له ذكر في الآية ففيها ما يدل عليه وهو ذكر الإيمان في قوله { إِنَّ اللّه يُدْخِلُ الَّذِينَ ءامَنُواْ } وظانّ ذلك قوم من المسلمين لشدة غيظهم على المشركين ، يستبطئون ما وعد اللّه رسوله من النصر أو أعراب استبطؤوا ظهور الرسول صلى اللّه عليه وسلم فتباطؤوا عن الإسلام . والظاهر أن الضمير في { يَنصُرَهُ } عائد على { مِنْ } لأنه المذكور ، وحق الضمير أن يعود على المذكور وهو قول مجاهد . وحمل بعض قائلي هذا القول النصر هنا على الرزق كما قالوا : أرض منصورة أي ممطورة . وقال الشاعر : وإنك لا تعطي امراً فوق حقه ولا تملك الشق الذي أنت ناصره أي معطييه . وقال : وقف علينا سائل من بني بكر فقال : من ينصرني نصره اللّه ، فالمعنى من كان يظن أن لن يرزقه اللّه فيعدل عن دين محمد لهذا الظن كما وصف في قوله { وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ } فليبلغ غاية الجزع وهو الاختناق ، فإن ذلك لا يبلغه إلاّ ما قدر له ولا يجعله مرزوقاً أكثر مما قسم له ، ويحتمل على هذا القول أن يكون النصر على بابه أي من كان يظن أن لن ينصره اللّه في الدنيا والآخر فيغتاظ لانتفاء نصره فليمذدد ، ويدل على قوله فيغتاظ قوله { هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ } ويكون معنى قوله { فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاء ثُمَّ لْيَقْطَعْ } فليتحيل بأعظم الحيل في نصرة اللّه إياه ثم ليقطع الحبل { فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ } وتحيله في إيصال النصر إليه الشيء الذي يغيظه من انتفاء نصره بتسلط أعدائه عليه . وقال الزمخشري : هذا كلام دخله اختصار والمعنى : أن اللّه ناصر رسوله في الدنيا والآخرة ، فمن كان يظن من حاسديه وأعاديه أن اللّه يفعل خلاف ذلك ويطمع فيه ويغيظه أنه لا يظفر بمطلوبه فليستقص وسعه وليستفرغ مجهوده في إزالة ما يغيظه بأن يفعل ما يفعل من بلغ منه الغيظ كل مبلغ حتى مدّ جبلاً إلى سماء بيته فاختنق ، { فَلْيَنظُرِ } وليصور في نفسه أنه إن فعل ذلك هل يذهب نصر اللّه الذي يغيظه ، وسمي الاختناق قطعاً لأن المختنق يقطع نفسه بحبس مجاريه ، ومنه قيل للبهر القطع وسمى فعله كيداً لأنه وضعه موضع الكيد حيث لم يقدر على غيره أو على سبيل الاستهزاء لأنه لم يكد به محسوده ، إنما كاد به نفسه ، والمراد ليس في يده إلاّ ما ليس بمذهب لما يغيظه . وقيل {فَلْيَمْدُدْ } بحبل { إِلَى السَّمَاء } المظلة وليصعد عليه فليقطع الوحي أن ينزل عليه وهذا قول ابن زيد . وقيل : الضمير في { يَنصُرَهُ } عائد على الدين والإسلام . قال ابن عطية : وأبين وجوه هذه الآية أن يكون مثلاً ويكون النصر المعروف والقطع الاختناق والسماء الارتفاع في الهواء سقف أو شجرة أو نحوه فتأمله ، وما في { مَا يَغِيظُ } بمعنى الذي ، والعائد محذوف أو مصدرية . ١٦وكذلك أنزلناه آيات . . . . . وكذلك أي ومثل ذلك الإنزال { أَنزَلْنَا } القرآن كله { بَيّنَاتٍ فَاسْأَلْ } أي لا تفاوت في إنزال بعضه ولا إنزال كله والهاء في { أَنزَلْنَاهُ } للقرآن أضمر للدّلالة عليه كقوله { حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ } والتقدير والأمر { إِنَّ اللّه يَهْدِى مَن يُرِيدُ } أي يخلق الهداية في قلبك يريد هدايته لا خالق للّهداية إلاّ هو . {إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ إِنَّ اللّه يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللّه عَلَى} ١٧إن الذين آمنوا . . . . . لما ذكر قيل أن اللّه يهدي من يريد } عقب ببيان من يهديه ومن لا يهديه ، لأن ما قبله يقتضي أن من لا يريد هدايته لا يهديه يدل إثبات الهداية لمن يريد على نفيها عمن لا يريد ، والذين أشركوا هم عبدة الأوثان والأصنام ، ومن عبد غير اللّه . قال الزمخشري : ودخلت عقب ببيان من يهديه ومن لا يهديه ، لأن ما قبله يقتضي أن من لا يريد هدايته لا يهديه يدل إثبات الهداية لمن يريد على نفيها عمن لا يريد ، والذين أشركوا هم عبدة الأوثان والأصنام ، ومن عبد غير اللّه . قال الزمخشري : ودخلت { ءانٍ } على كل واحد جزأي الجملة لزيادة التأكيد ، ونحوه قول جرير : إنَّ الخليفة إنْ اللّه سربله سربال ملك به ترجى الخواتيم وظاهر هذا أنه شبه البيت بالآية ، وكذلك قرنه الزجاج بالآية ولا يتعين أن يكون البيت كالآية لأن البيت يحتمل أن يكون خبر إن الخليفة قوله : به ترجى الخواتيم ، ويكون إن اللّه سربله سربال ملك جملة اعتراضية بين اسم إن وخبرها بخلاف الآية فإنه يتعين قوله { إِنَّ اللّه يَفْصِلُ } وحسن دخول { ءانٍ } على الجملة الواقعة خبراً طول الفصل بينهما بالمعاطيف ، والظاهر أن الفصل بينهم يوم القيامة هو بصيرورة المؤمنين إلى الجنة والكافرين إلى النار ، وناسب الختم بقوله { شَهِيداً } الفصل بين الفرق . وقال الزمخشري : الفصل مطلق يحتمل الفصل بينهم في الأحوال والأماكن جميعاً فلا يجازيهم جزاءً واحداً بغير تفاوت ، ولا يجمعهم في موطن واحد . وقيل { يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ } يقضي بين المؤمنين والكافرين ، ١٨ألم تر أن . . . . . والظاهر أن السجود هنا عبارة عن طواعية ما ذكر تعالى والانقياد لما يريده تعالى ، وهذا معنى شمل من يعقل وما لا يعقل ، ومن { يَسْجُدُ } سجود التكليف ومن لا يسجده ، وعطف على ما من عبد من دون اللّه ففي { السَّمَاوَاتِ } الملائكة كانت تعبدها و { الشَّمْسَ } عبدتها حمير . وعبد { الْقَمَرُ } كنانة قاله ابن عباس . والدبران تميم . والشعرى لخم وقريش . والثريا طيىء وعطارداً أسد . والمرزم ربيعة . و { فِى الاْرْضِ } من عبد من البشر والأصنام المنحوتة من { الْجِبَالُ وَالشَّجَرُ } والبقر وما عبد من الحيوان . وقرأ الزهري { وَالدَّوَابّ } بتخفيف الباء . قال أبو الفضل الرازي ولا وجه لذلك إلاّ أن يكون فراراً من التضعيف مثل ظلت وقرن ولا تعارض بين قوله { وَمَن فِى الاْرْضِ } لعمومه وبين قوله { وَكَثِيرٌ مّنَ النَّاسِ } لخصوصه لأنه لا يتعين عطف { وَكَثِيرٌ } على ما قبله من المفردات المعطوفة الداخلة تحت يسجد إذ يجوز إضمار { يَسْجُدُ لَهُ } كثير من الناس سجود عبادة دل عليه المعنى لا أنه يفسره { يَسْجُدُ} الأول لاختلاف الاستعمالين ، ومن يرى الجمع بين المشركين وبين الحقيقة والمجاز بجيز عطف { وَكَثِيرٌ مّنَ النَّاسِ } على المفردات قبله ، وإن اختلف السجود عنده بنسبته لما لا يعقل ولمن يعقل ويجوز أن يرتفع على الابتداء ، والخبر محذوف يدل على مقابلة الذين في الجملة بعده أي { وَكَثِيرٌ مّنَ النَّاسِ } مثاب . وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون { مِنَ النَّاسِ } خبراً له أي { مِنَ النَّاسِ } الذين هم الناس على الحقيقة وهم الصالحون والمتقون ، ويجوز أن يبالغ في تكثير المحقوقين بالعذاب فعطفت كثير على كثير ثم ، عبر عنهم بحق عليهم العذاب كأنه قال { وَكَثِيرٌ }{ وَكَثِيرٌ مّنَ النَّاسِ حَقّ } عليهم { الْعَذَابَ } انتهى . وهذان التخريجان ضعيفان . وقرأ جناح بن حبيش وكبير حق بالباء . وقال ابن عطية { وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ } يحتمل أن يكون معطوفاً على ما تقدم أي { وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ } يسجد أي كراهية وعلى رغمه إما بظله وإما بخضوعه عند المكاره ، ونحو ذلك قاله مجاهد وقال سجوده بظله . وقرىء { وَكَثِيرٌ } حقاً أي { حَقَّ عَلَيْهِمُ الْعَذَابَ } حقاً . وقرىء { حَقّ } بضم الحاء ومن مفعول مقدم بيهن . وقرأ الجمهور { مِن مُّكْرِمٍ } اسم فاعل . وقرأ ابن أبي عبلة بفتح الراء على المصدر أي من إكرام . قال الزمخشري : ومن أهانه اللّه كتب عليه الشقاوة لما سبق في علمه من كفره أو فسقه ، فقد بقي مهاناً لمن يجد له مكرماً أنه يفعل ما يشاء من الإكرام والإهانة ، ولا يشاء من ذلك إلاّ ما يقتضيه عمل العاملين واعتقاد المعتقدين انتهى . وفيه دسيسة الاعتزال . ١٩انظر تسفير الآية:٢٢ ٢٠انظر تسفير الآية:٢٢ ٢١انظر تسفير الآية:٢٢ ٢٢هذان خصمان اختصموا . . . . . ولما ذكر تعالى أهل السعادة وأهل الشقاوة ذكر ما دار بينهم من الخصومة في دينه ، فقال { هَاذَانِ } قال قيس بن عباد وهلال بن يساف ، نزلت في المتبارزين يوم بدر حمزة وعليّ وعبيدة بن الحارث برز والعتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة . وعن عليّ : أنا أول من يجثو يوم القيامة للخصومة بين يديّ اللّه تعالى ، وأقسم أبو ذر على هذا ووقع في صحيح البخاري أن الآية فيهم . وقال ابن عباس : الإشارة إلى المؤمنين وأهل الكتاب وقع بينهم تخاصم ، قالت اليهود : نحن أقدم ديناً منكم فنزلت . وقال مجاهد وعطاء بن أبي رباح والحسن وعاصم والكلبي الإشارة إلى المؤمنين والكفار على العموم ، وخصم مصدر وأريد به هنا الفريق ، فلذلك جاء { اخْتَصَمُواْ } مراعاة للمعنى إذ تحت كل خصم أفراد ، وفي رواية عن الكسائي { خَصْمَانِ } بكسر الخاء ومعنى { فِى رَبّهِمْ } في دين ربهم . وقرأ ابن أبي عبلة اختصما ، راعى لفظ التثنية ثم ذكر تعالى ما أعدّ للكفار . وقرأ الزعفراني في اختياره :{ قُطّعَتْ } بتخفيف الطاء كأنه تعالى يقدر لهم نيراناً على مقادير جثثهم تشتمل عليهم كما تقطع الثياب الملبوسة ، والظاهر أن هذا المقطع لهم يكون من النار . وقال سعيد بن جبير { ثِيَابُ } من نحاس مذاب وليس شيء إذا حمي أشد حرارة منه ، فالتقدير من نحاس محمى بالنار . وقيل : الثياب من النار استعارة عن إحاطة النار بهم كما يحيط الثوب بلابسه . وقال وهب : يكسى أهل النار والعري خير لهم ، ويحيون والموت خير لهم . ولما ذكر ما يصب على رؤوسهم إذ يظهر في المعروف أن الثوب إنما يغطى به الجسد دون الرأس فذكر ما يصيب الرأس من العذاب . وعن ابن عباس : لو سقطت من الحميم نقطة على جبال الدنيا لأذابتها ولما ذكر ما يعذب به الجسد ظاهره وما يصب على الرأس ذكر ما يصل إلى باطن المعذب وهو الحميم الذي يذيب ما في البطن من الحشا ويصل ذلك الذوب إلى الظاهر وهو الجلد فيؤثر في الظاهر تأثيره في الباطن كما قال تعالى { فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ } وقرأ الحسن وفرقة { يُصْهَرُ } بفتح الصاد وتشديد الهاء . وفي الحديث : { إن الحميم ليصب على رؤوسهم فينفذ الجمجمة حتى يخلص إلى جوفه فيسلب ما في جوفه حتى يمرق من قدميه وهو الصهر ثم يعاد كما كان} . والظاهر عطف { وَالْجُلُودُ } على { مَا } من قوله { يُصْهَرُ بِهِ مَا فِى بُطُونِهِمْ } وأن { الجلود } تذاب كما تذاب الأحشاء . وقيل : التقدير وتخرق { الجلود } لأن الجلود لا تذاب إنما تجتمع على النار وتنكمش وهذا كقوله : علفتها تبناً وماء بارداً أي وسقيتها ماء . والظاهر أن الضمير في { بِهَا وَلَهُمْ } عائد على الكفار ، واللام للاستحقاق . وقيل : بمعنى على أي وعليهم كقوله { وَلَهُمُ الْلَّعْنَةُ } أي وعليهم . وقيل : الضمير يعود على ما يفسره المعنى وهو الزبانية . وقال قوم منهم الضحاك : المقامع المطارق . وقيل : سياط من نار وفي الحديث : { لو وضع مقمع منها في الأرض مث اجتمع عليه الثقلان ما أقلوه من الأرض وَمِنْ غَمّ } بد من منها بدل اشتمال ، أعيد معه الجار وحذف الضمير لفهم المعنى أي من غمها ، ويحتمل أن تكون من للسبب أي لأجل الغم الذي يلحقهم ، والظاهر تعليق الإعادة على الإرادة للخروج فلا بد من محذوف يصح به المعنى ، أي من أماكنهم المعدة لتعذيبهم { أُعِيدُواْ فِيهَا } أي في تلك الأماكن . وقيل { أُعِيدُواْ فِيهَا } بضرب الزبانية إياهم بالمقامع { وَذُوقُواْ } أي ويقال لهم ذوقوا . ٢٣إن اللّه يدخل . . . . . ولما ذكر تعالى ما أعد لأحد الخصمين من العذاب ذكر ما أعد من الثواب للخصم الآخر . وقرأ الجمهور { يُحَلَّوْنَ } بضم الياء وفتح الحاء وتشديد الللام . وقىء بضم الياء والتخفيف . وهو بمعنى المشدد . وقرأ ابن عباس { يُحَلَّوْنَ } بفتح الياء واللام وسكون الحاء من قولهم : حلى الرجل وحليت المرأة إذا صارت ذات حلي والمرأة ذات حلي والمرأة حال . وقال أبو الفضل الرازي : يجوز أن يكون من حَلي يعيني يحلى إذا استحسنته ، قال فتكون { مِنْ } زائدة فيكون المعنى يستحسنون فيها الأساورة الملبوسة انتهى . وهذا ليس بجيد لأنه جعل حلى فعلاً متعدياً ولذلك حكم بزيادة { مِنْ } في الواجب وليس مذهب البصريين ، وينبغي على هذا التقدير أن لا يجوز لأنه لا يحفظ لازماً فإن كان بهذا المعنى كانت { مِنْ } للسبب أي بلباس أساور الذهب يحلون بعين من يراهم أي يحلى بعضهم بعين بعض . قال أبو الفضل الرازي : ويجوز أن تكون { مِنْ } حليت به إذا ظفرت به ، فيكون المعنى { يُحَلَّوْنَ فِيهَا } بأساور فتكون { مِنْ } بدلاً من الباء ، والحلية من ذلك فإما إذا أخذته من حليت به فإنه الحلية ، وهو من الياء وإن أخذته من حلي بعيني فإنه من الحلاوة من الواو انتهى . ومن معنى الظفر قولهم : لم يحل فلان بطائل ، أي لم يظفر . والظاهر أن { مِنْ } في { مِنْ أَسَاوِرَ } للتبعيض وفي { مّن ذَهَبٍ } لابتداء الغاية أي أنشئت من ذهب . و قال ابن عطية :{ مِنْ } في { مِنْ أَسَاوِرَ } لبيان الجنس ، ويحتمل أن تكون للتبيعض . وتقدم الكلام على نظير هذه الجملة في الكهف . وقرأ ابن عباس من أسور بفتح الراء من غير ألف ولا هاء ، وكان قياسه أن يصرفه لأنه نقص بناؤه فصار كجندل لكنه قدر المحذوف موجوداً فمنعه الصرف . وقرأ اصم ونافع والحسن والجحدري والأعرج وأبو جعفر وعيسى بن عمر وسلام ويعقوب { وَلُؤْلُؤاً } هنا وفي فاطر بالنصب وحمله أبو الفتح على إضمار فعل وقدره الزمخشري ويؤتون { لُؤْلُؤاً } ومن جعل { مِنْ } في { مِنْ أَسَاوِرَ } زائدة جاز أن يعطف { وَلُؤْلُؤاً } على موضع { أَسَاوِرَ } وقيل يعطف على موضع { مِنْ أَسَاوِرَ } لأنه يقدر و { يُحَلَّوْنَ } حلياً{ مِنْ أَسَاوِرَ} وقرأ باقي السبعة والحسن أيضاً وطلحة وابن وثاب والأعمش . وأهل مكة ولؤلؤ بالخفض عطفاً على { أَسَاوِرَ } أو على { ذَهَبَ } لأن السوار يكون من ذهب ولؤلؤ ، يجمع بعضه إلى بعض . قال الجحدري : الألف ثابتة بعد الواو في الإمام . وقال الأصمعي : ليس فيها ألف ، وروى يحيى عن أبي بكر همز الأخير وإبدال الأولى . وروى المعلى بن منصور عنه ضد ذلك . وقرأ الفياض : ولولياً قلب الهمزتين واواً صارت الثانية واواً قبلها ضمة ، عمل فيها ما عمل في أدل من قلب الواو ياء والضمة قبلها كسرة . وقرأ ابن عباس وليلياً أبدل المهمزتين واوين ثم قلبهما ياءين اتبع الأولى للثانية . وقرأ طلحة ولول مجروراً عطفاً على ما عطف عليه المهموز . ٢٤وهدوا إلى الطيب . . . . . {وَالطَّيّبُ مِنَ الْقَوْلِ } إن كانت الهداية في الدنيا فهو قول لا إله إلاّ اللّه ، والأقوال الطيبة من الأذكار وغيرها ، ويكون الصراط طريق الإسلام وإن كان إخباراً عما يقع منهم في الآخرة فهو قولهم : الحمد للّه الذي صدقنا وعده وما أشبه ذلك من محاورة أهل الجنة ، ويكون الصراط الطريق إلى الجنة . وعن ابن عباس : هو لا إله إلا اللّه والحمد للّه زاد ابن زيد واللّه أكبر . وعن السدّي القرآن . وحكى الماوردي : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . وعن ابن عباس : هو الحمد للّه الذي صدقنا وعده ، والظاهر أن { الْحَمِيدِ } وصف للّه تعالى . قال ابن عطية : ويحتمل أن يرد بالحميد نفس الطريق ، فأضاف إليه على حد إضافته في قوله : دار الآخرة . {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّه وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِى جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ} ٢٥إن الذين كفروا . . . . . المضارع قد لا يلحظ فيه زمان معين من حال أو استقبال فيدل إذ ذاك على الاستمرار ، ومنه { وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّه } كقوله { الَّذِينَ ءامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللّه } وقيل : هو مضارع أريد به الماضي عطفاً على { كَفَرُواْ } وقيل : هو على إضمار مبتدأ أي وهم { يَصِدُّونَ } وخبر إن محذوف قدره ابن عطية بعد { وَالْبَادِ } خسروا أو هلكوا وقدره الزمخشري بعد قوله { الْحَرَامِ } نذيقهم { مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } ولا يصح تقديره بعده لأن الذي صفة { الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } فموضع التقدير هو بعد { وَالْبَادِ } لكن مقدر الزمخشري أحسن من مقدر ابن عطية لأنه يدل عليه الجملة الشرطية بعد من جهة اللفظ ، ابن عطية لحظ من جهة المعنى لأن من أذيق العذاب خسر وهلك . وقيل : الواو في { وَيَصُدُّونَ } زائدة وهو خبر إن تقديره إن الذين كفروا يصدون . قال ابن عطية : وهذا مفسد للمعنى المقصود انتهى . ولا يجيز البصريون زيادة الواو وإنما هو قول كوفي مرغوب عنه . وهذه الآية نزلت عام الحديبية حين صدّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن المسجد الحرام وذلك أنه لم يعلم لهم صد قبل ذلك بجمع إلاّ أن يراد صدهم لأفراد من الناس فقد وقع ذلك في صدر المبعث ، والظاهر أنه نفس المسجد ومن صد عن الوصول إليه فقد صد عنه . وقيل : الحرم كله لأنهم صدوه وأهله عليه السلام فنزلوا خارجاً عنه لكنه قصد بالذكر المهم المقصد من الحرم . وقرأ الجمهور { سَوَآء } بالرفع على أن الجملة من مبتدأ وخبر في موضع المفعول الثاني ، والأحسن أن يكون { الْعَاكِفُ } هو المبتدأ و { فِيهِ سَوَآء } الخبر ، وقد أجيز العكس . و قال ابن عطية : والمعنى { الَّذِى جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ } قبلة أو متعبداً انتهى . ولا يحتاج إلى هذا التقدير إلاّ إن كان أراد تفسير المعنى لا الإعراب فيسوغ لأن الجملة في موضع المفعول الثاني ، فلا يحتاج إلى هذا التقدير . وقرأ حفص والأعمش { سَوَآء } بالنصب وارتفع به { الْعَاكِفُ } لأنه مصدر في معنى مستو اسم الفاعل . ومن كلامهم : مررت برجل سواء هو والعدم ، فإن كانت جعل تتعدى إلى اثنين فسواء الثاني أو إلى واحد فسواء حال من الهاء . وقرأت فرقة منهم الأعمش في رواية القطعي { سَوَآء } بالنصب { الْعَاكِفُ فِيهِ } بالجر . قال ابن عطية : عطفاً على الناس انتهى . وكأنه يريد عطف البيان الأولى أن يكون بدل تفصيل . وقرىء { والبادي } وصلاً ووقفاً وبتركها فيهما ، وبإثباتها وصلاً وحذفها وقفاً{ سَوَاء الْعَاكِفُ } المقيم فيه { والبادي } الطارىء عليه ، وأجمعوا على الاستواء في نفس المسجد الحرام واختلفوا في مكة ، فذهب عمر وابن عباس ومجاهد وجماعة إلى أن الأمر كذلك في دوس مكة ، وأن القادم له النزول حيث وجد وعلى رب المنزل أن يؤويه شاء أو أبى ، وقال به الثوري وكذلك كان الأمر في الصدر الأول . قال ابن سابط : وكانت دورهم بغير أبواب حتى كثرت السرقة ، فاتخذ رجل باباً فأنكر عليه عمر وقال : أتغلق باباً في وجه حاج بيت اللّه ؟ فقال : إنما أردت حفظ متاعهم من السرقة فتركه ، فاتخذ الناس الأبواب وهذا الخلاف مترتب على الخلاف في فتح مكة أكان عنوة أو صلحاً ؟ وهي مسألة يبحث عنها في الفقه . والإلحاد الميل عن القصد . ومفعول { مِن بَرَدٍ } قال أبو عبيدة هو { بِإِلْحَادٍ } والباء زائدة في المفعول . قال الأعشى ضمنت برزق عيالنا أرماحنا أي رزق وكذا قراءة الحسن منصوباً قرأ { وَمَن يُرِدِ } إلحاده بظلم أي إلحاداً فيه فتوسع . و قال ابن عطية : يجوز أن يكون التقدير { وَمَن يُرِدْ فِيهِ } الناس { بِإِلْحَادٍ} وقال الزمخشري :{ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ } حالان مترادفتان ومفعول { يُرِدْ } متروك ليتناول كل متناول ، كأنه قال { وَمَن يُرِدْ فِيهِ } مراد إمّا عادلاً من القصد ظالماً{ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } وقيل : الإلحاد في الحرم منع الناس عن عمارته . وعن سعيد بن جبير : الاحتكار . وعن عطاء : قول الرجل في المبايعة لا واللّه وبلى واللّه انتهى . والأولى أن تضمن { يُرِدْ } معنى يتلبس فيتعدى بالباء . وعلق الجزاء وهو { نُذِقْهُ } على الإرادة ، فلو نوى سيئة ولم يعملها لم يحاسب بها إلاّ في مكة وهذا قول ابن مسعود وجماعة . وقال ابن عباس : الإلحاد هنا الشرك . وقال أيضاً : هو استحلال الحرام . وقال مجاهد : هو العمل السيىء فيه . وقال ابن عمر : لا واللّه وبلى واللّه من الإلحاد . وقال حبيب بن أبي ثابت : الحكر بمكة من الإلحاد بالظلم ، والأولى حمل هذه الأقوال على التمثيل لا على الحصر إذ الكلام يدل على العموم . وقرأت فرقة { وَمَن يُرِدِ } بفتح الياء من الورود وحكاها الكسائي والفراء ومعناه ومن أتى به { بِإِلْحَادٍ } ظالماً . ٢٦وإذ بوأنا لإبراهيم . . . . . ولما ذكر تعالى حال الكفار وصدهم عن المسجد الحرام وتوعد فيه من أراد فيه بإلحاد ذكر حال أبيهم إبراهيم وتوبيخهم على سلوكهم غير طريقه من كفرهم باتخاذ الأصنام وامتنانه عليهم بإنفاد العالم إليهم { وَإِذْ بَوَّأْنَا } أي واذكر { إِذْ بَوَّأْنَا } أي جعلنا { لإِبْراهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ } مباءة أي مرجعاً يرجع إليه للعمارة والعبادة . قيل : واللام زائدة أي بوّأنا إبراهيم مكان البيت أي جعلنا يبوء إليه كقوله { لَنُبَوّئَنَّهُمْ مّنَ الْجَنَّةِ غُرَفَاً } وقال الشاعر : كم صاحب لي صالح بوّأته بيدي لحدا وقيل : مفعول { بَوَّأْنَا } محذوف تقديره بوّأنا الناس ، واللام في { لإِبْراهِيمَ } لام العلة أي لأجل إبراهيم كرامة له وعلى يديه . والظاهر أن قوله { أَن لاَّ تُشْرِكْ بِى شَيْئاً } خطاب لإبراهيم وكذا ما بعده من الأمر . وقيل : هو خطاب لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { وَأَنْ } مخففة من الثقيلة قاله ابن عطية ، والأصل أن يليها فعل تحقيق أو ترجيح كحالها إذا كانت مشددة أو حرف تفسير . قاله الزمخشري وابن عطية وشرطها أن يتقدمها جملة في معنى القول و { بَوَّأْنَا } ليس فيه معنى القول ، والأولى عندي أن تكون { ءانٍ } الناصبة للمضارع إذ يليها الفعل المتصرف من ما ض ومضارع وأمر النهي كالأمر . قال الزمخشري : فإن قلت : كيف يكون النهي عن الشرك والأمر بتطهير البيت تفسيراً للتبوئة ؟ قلت : كانت التبوئة مقصودة من أجل العبادة ، فكأنه قيل تعبدنا إبراهيم قلنا له { لاَّ تُشْرِكْ بِى شَيْئاً وَطَهّرْ بَيْتِىَ } من الأصنام والأوثان والأقذار أن تطرح حوله . وقرأ عكرمة وأبو نهيك : أن لايشرك بالياء على معنى أن يقول معنى القول الذي قيل له . قال أبو حاتم : ولا بد من نصب الكاف على هذه القراءة بمعنى أن { لاَ تُشْرِكْ} والقائمون هم المصلون ذكر من أركانها أعظمها وهو القيام والركوع والسجود . ٢٧انظر تسفير الآية:٢٩ ٢٨انظر تسفير الآية:٢٩ ٢٩وأذن في الناس . . . . . وقرأ الجمهور { وَأَذّن } بالتشديد أي ناد . روي أنه صعد أبا قبيس فقال : يا أيها الناس حجوا بيت ربكم وتقدم قول من قال إنه خطاب للرسول صلى اللّه عليه وسلم ، وقاله الحسن قال : أمر أن يفعل ذلك في حجة الوداع . وقرأ الحسن وابن محيصن وآذن بمدة وتخفيف الذال . قال ابن عطية : وتصحف هذا على ابن جني فإنه حكى عهما { وَأَذّن } على فعل ماض ، وأعرب على ذلك بأن جعله عطفاً على { بَوَّأْنَا } انتهى . وليس بتصحيف بل قد حكى أبو عبد اللّه الحسين بن خالويه في شواذ القراءات من جمعه . وصاحب اللوامح أبو الفضل الرازي ذلك عن الحسن وأبن محيصن . قال صاحب اللوامح : وهو عطف على { وَإِذْ بَوَّأْنَا } فيصير في الكلام تقديم وتأخير ، ويصير { يَأْتُوكَ } جزماً على جواب الأمر الذي هو { وَطَهّرْ } انتهى . وقرأ ابن أبي إسحاق { بِالْحَجّ } بكسر الحاء حيث وقع الجمهور بفتحها . وقرأ الجمهور { رِجَالاً } وابن أبي إسحاق بضم الراء والتخفيف ، وروي كذلك عن عكرمة والحسن وأبي مجلز ، وهو اسم جمع كظؤار وروي عنهم وعن ابن عباس ومجاهد وجعفر بن محمد بضم الراء وتشديد الجيم . وعن عكرمة أيضاً رجالى على وزن النعامى بألف التأنيث المقصورة ، وكذلك مع تشديد الجيم عن ابن عباس وعطاء وابن حدير ، ورجال جمع راجل كتاجر وتجار . وقرأ الجمهور { يَأْتِينَ } فالظاهر عود الضمير { عَلَى كُلّ ضَامِرٍ } لأن الغالب أن البلاد الشاسعة لا يتوصل منها إلى مكة بالركوب ، وقد يجوز أن يكون الضمير يشمل { رِجَالاً } و { كُلّ ضَامِرٍ } على معنى الجماعات والرفاق . وقرأ عبد اللّه وأصحابه والضحاك وابن أبي عبلة يأتون غلب العقلاء الذكور في البداءة برجال تفضيلاً للمشاة إلى الحج . وعن ابن عباس : ما آسى على شيء فاتني أن لا أكون حججت ماشياً ، والاستدلال بقوله { يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلّ ضَامِرٍ } على سقوط فرض الحج على من يركب البحر ولا طريق له سواه ، لكونه لم يذكر في هذه الآية ضعيف لأن مكة ليست على بخر ، وإنما يتوصل إليها على إحدى هاتين الحالتين مشي أو ركوب ، فذكر تعالى ما يتوصل به إليها . وقرأ ابن مسعود فج معيق . قال ابن عباس وغيره من المنافع التجارة . وقال الباقر : الأجر . وقال مجاهد وعطاء كلاهما ، واختاره ابن العربي . قال الزمخشري : ونكر المنافع لأنه أراد منافع مختصة بهذه العبادة دينية ودنياوية لا توجد في غيرها من العبادات . وعن أبي حنيفة أنه كان يفاضل بين العبادات قبل أن يحج ، فلما حج فضل الحج على العبادات كلها لما شاهد من تلك الخصائص ، وكنى عن النحر والذبح بذكر اسم اللّه لأن أهل الإسلام لا ينفكون عن ذكر اسمه إذا نحروا أو ذبحوا ، وفيه تنبيه على أن الغرض الأصلي فيما يتقرب به إلى اللّه أن يذكر اسمه وقد حسن الكلام تحسيناً بيِّناً أن جمع بين قوله ليذكروا اسم اللّه عليه . وقوله { عَلَى مَا رَزَقَهُمْ } ولو قيل لينحروا { فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ }{ بَهِيمَةُ الاْنْعَامِ } لم تر شيئاً من ذلك الحسن والروعة انتهى . واستدل من قال أن المقصود بذكر اسم اللّه هو على الذبح والنحر على أن الذبح لا يكون بالليل ولا يجوز فيه لقوله { فِى أَيَّامٍ } وهو مذهب مالك وأصحاب الرأي . وقيل : الذكر هنا حمده وتقديسه شكراً على نعمته في الرزق ويؤيده قوله عليه السلام : { أنها أيام أكل وشرب } وذكر اسم اللّه والأيام المعلومات أيام العشر قاله ابن عباس والحسن وإبراهيم وقتادة وأبو حنيفة ، والمعدودات أيام التشريق الثلاثة . وقالت فرقة منهم مالك وأصحابه : المعلومات يوم النحر ويومان بعده ، والمعدودات أيام التشريق الثلاثة ، فيوم النحر معلوم لا معدود واليومان بعده معلومان معدودان ، والرابع معدود لا معلوم ويوم النحر ويومان بعده هي أيام النحر عند عليّ وابن عباس وابن عمر وأنس وأبي هريرة وسعيد بن جبير وسعيد بن المسيب وأبي حنيفة والثوري ، وعند الحسن وعطاء والشافعي ثلاثة أيام بعد يوم النحر ، وعند النخعي النحر يومان ، وعند ابن سيرين النحر يوم واحد ، وعن أبي سلمة وسليمان بن يسار الأضحى إلى هلال المحرم . و قال ابن عطية : ويظهر أن تكون المعلومات والمعدودات بمعنى أن تلك الأيام الفاضلة كلها ، ويبقى أمر الذبح وأمر الاستعجال لا يتعلق بمعدود ولا معلوم ، ويكون فائدة قوله { مَّعْلُومَاتٍ } ومعدودات التحريض على هذه الأيام وعلى اغتنام فضلها أي ليست كغيرها فكأنه قال هي مخصوصات فلتغتنم انتهى . والبهيمة مبهمة في كل ذات أربع في البر والبحر ، فبينت بالأنعام وهي الإبل والبقر والضأن والمعز وتقدم الخلاف في مدلول { بَهِيمَةُ الاْنْعَامِ } في أول المائدة ، والظاهر وجوب الأكل والإطعام . وقيل : باستحبابهما . وقيل : باستحباب الأكل ووجوب الإطعام . و { الْبَائِسَ } الذي أصابه بؤس أي شدة . والتفث : ما يصنعه المحرم عند حله من تقصير شعر وحلقه وإزالة شعثه ونحوه من إقامة الخمس من الفطرة حسب الحديث ، وفي ضمن ذلك قضاء جميع مناسكه إذ لا يقضي التفث إلاّ بعد ذلك . وقال ابن عمر : التفث ما عيهم من الحج وعنه المناسك كلها ، والنذور هنا ما ينذرونه من أعمال البر في حجهم . وقيل : المراد الخروج عما وجب عليهم نذروا أو لم ينذروا . وقرأ شعبة عن عاصم { وَلْيُوفُواْ } مشدّداً والجمهور مخففاً{ وَلْيَطَّوَّفُواْ } هو طواف الإفاضة وهو طواف الزيارة الذي هو من أركان الحج ، وبه تمام التحلل . وقيل : هو طواف الصدر وهو طواف الوداع . وقال الطبري : لا خلاف بين المتأولين أنه طواف الإفاضة . قال ابن عطية : ويحتمل بحسب الترتيب أن يكون طواف الوداع انتهى . و { الْعَتِيقِ } القديم قاله الحسن وابن زيد ، أو المعتق من الجبابرة قاله ابن الزبير وابن أبي نجيح وقتادة ، كم جبار سار إليه فأهلكه اللّه قصده تبع ليهدمه فأصابه الفالج ، فأشار الأخيار عليه أن يكف عنه وقالوا له : رب يمنعه فتركه وكساه وهو أول من كساه ، وقصده أبرهة فأصابه ما أصابه وأما الحجاج فلم يقصد التسليط على البيت لكن تحصن به ابن الزبير فاحتال لإخراجه ثم بناه أو المحرر لم يملك موضعه قط قاله مجاهد ، أو المعتق من الطوفان قاله مجاهد أيضاً وابن جبير ، أو الجيد من قولهم : عتاق الخيل وعتاق الطير أو الذي يعتق فيه رقاب المذنبين من العذاب . قال ابن عطية : وهذا يردّه التصريف انتهى . ولا يرده التصريف لأنه فسره تفسير معنى ، وأما من حيث الإعراب فلأن { الْعَتِيقِ } فعيل بمعنى مفعل أي معتق رقاب المذنبين ، ونسب الإعتاق إليه مجازاً إذ بزيارته والطواف به يحصل الإعتاق ، وينشأ عن كونه معتقاً أن يقال فيه : يعتق فيه رقاب المذنبين . ٣٠ذلك ومن يعظم . . . . . {ذالِكَ } خبر مبتدأ محذوف قدّره ابن عطية فرضكم { ذالِكَ } أو الواجب { ذالِكَ } وقدّره الزمخشري الأمر أو الشأن { ذالِكَ } قال كما يقدم الكاتب جملة من كتابه في بعض المعاني ، ثم إذا أراد الخوض في معنى آخر قال : هذا وقد كان كذا انتهى . وقيل : مبتدأ محذوف الخبر أي { ذالِكَ } الأمر الذي ذكرته . وقيل في موضع نصب تقديره امتثلوا { ذالِكَ } ونظير هذه الإشارة البليغة قول زهير وقد تقدم له جمل في وصف هرم : هذا وليس كمن يعيا بخطبته وسط الندى إذا ما ناطق نطقا وكان وصفه قبل هذا بالكرم والشجاعة ، ثم وصفه في هذا البيت بالبلاغة فكأنه قال : هذا خلقه وليس كمن يعيا بخطبته ، والحرمات ما لا يحل هتكه وجميع التكليفات من مناسك الحج وغيرها حرمه ، والظاهر عمومه في جميع التكاليف ، ويحتمل الخصوص مبا يتعلق بالحج وقاله الكلبي قال : ما أمر به من المناسك ، وعن ابن عباس هي جميع المناهي في الحج : فسوق وجدال وجماع وصيد . وعن ابن زيد هي خمس المشعر الحرام ، والمسجد الحرام ، والبيت الحرام ، والشهر الحرام ، والمحرم حتى يحل . وضمير { فَهُوَ } عائد على المصدر المفهوم من قوله { وَمَن يُعَظّمْ } أي فالتعظيم { خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبّهِ } أي قربة منه وزيادة في طاعته يثيبه عليها ، والظاهر أن خيراً هنا ليس أفعل تفضيل . {وَأُحِلَّتْ لَكُمُ بَهِيمَةُ الاْنْعَامِ } دفعاً لما كانت عليه من تحريم أشياء برأيها كالبحيرة والسائبة ، ويعني بقوله { إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ } ما نص في كتابه على تحريمه ، والمعنى { مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ } آية تحريمه . ولما حث على تعظيم حرمات اللّه وذكر أن تعظيمها خير لمعظمها عند اللّه أتبعه الأمر باجتناب الأوثان وقول الزور لأن توحيد اللّه ونفي الشركاء عنه وصدق القول أعظم الحرمات ، وجمعا في قران واحد لأن الشرك من باب الزور لأن المشرك يزعم أن الوثن يستحق العبادة فكأنه قال { فَاجْتَنِبُواْ } عبادة { الاْوْثَانِ } التي هي رأس الزور { وَاجْتَنِبُواْ قَوْلَ الزُّورِ } كله . و { مِنْ } في { مِنَ الاْوْثَانِ } لبيان الجنس ، ويقدر بالموصول عندهم أي الرجس الذي هو الأوثان ، ومن أنكر أن تكون { مِنْ } لبيان الجنس جعل { مِنْ } لابتداء الغاية فكأنه نهاهم عن الرجس عاماً ثم عين لهم مبدأه الذي منه يلحقهم إذ عبادة الوثن جامعة لكل فساد ورجس ، وعلى القول الأول يكون النهي عن سائر الأرجاس من موضع غير هذا . قال ابن عطية : ومن قال أن { مِنْ } للتبعيض قلب معنى الآية فأفسده انتهى . وقد يمكن التبعيض فيها بأن يعني بالرجس عبادة الأوثان ، وقد روي ذلك عن ابن عباس وابن جريج ، فكأنه قال : فاجتنبوا من الأوثان الرجس وهو العبادة لأن المحرم من الأوثان إنما هو العبادة ، ألا ترى أنه قد يتصور استعمال الوثن في بناء وغير ذلك مما لم يحرمه الشرع ؟ فكأن للوثن جهات منها عبادتها ، وهو المأمور باجتنابه وعبادتها بعض جهاتها ، ولما كان قول الزور معادلاً للكفر لم يعطف على الرجس بل أفرد بأن كرر له العامل اعتناء باجتنابه . وفي الحديث : { عدلت شهادة الزور بالشرك} . ٣١حنفاء للّه غير . . . . . ولما أمر باجتناب عبادة الأوثان وقول الزور ضرب مثلاً للمشرك فقال { وَمَن يُشْرِكْ بِاللّه } الآية . قال الزمخشري : يجوز في هذا التشبيه أن يكون من المركب والمفرق ، فإن كان تشبيهاً مركباً فكأنه قال : من أشرك باللّه فقد أهلك نفسه إهلاكاً ليس بعده بأن صور حاله بصورة حال من { خَرَّ مِنَ السَّمَاء } فاختطفته { الطَّيْرُ } فتفرق مرعاً في حواصلها ، وعصفت به { الرّيحَ } حتى هوت به في بعض المطارح البعيدة ، وإن كان مفرقاً فقد شبه الإيمان في علوه بالسماء والذي ترك الإيمان وأشرك باللّه بالساقط من السماء والإهواء التي تنازع أوكاره بالطير المختطفة ، والشيطان الذي يطوح به في وادي الضلالة بالريح التي { تَهْوِى } مما عصفت به في بعض المهاوي المتلفة انتهى . وقرأ نافع { فَتَخْطَفُهُ } بفتح الخاء والطاء مشددة وباقي السبعة بسكون الخاء وتخفيف الطاء . وقرأ الحسن وأبو رجاء والأعمش بكسر التاء والخاء والطاء مشددة ، وعن الحسن كذلك إلاّ أنه فتح الطاء مشددة . وقرأ الأعمش أيضاً تخطه بغير فاء وإسكان الخا وفتح الطاء مخففة . وقرأ أبو جعفر والحسن وأبو رجاء : الرياح . ٣٢انظر تسفير الآية:٣٣ ٣٣ذلك ومن يعظم . . . . . إعراب { ذالِكَ } كإعراب { ذالِكَ } المتقدم ، وتقدم تفسير { شَعَائِرَ اللّه } في أول المائدة ، وأما هنا فقال ابن عباس ومجاهد وجماعة : هي البدن الهدايا ، وتعظيمها تسمينها والاهتبال بها والمغالاة فيها . وقال زيد بن أسلم : الشعائر ست : الصفا ، والمروة ، والبدن ، والجمار ، والمشعر الحرام ، وعرفة ، والركن . وتعظيمها إتمام ما يفعل فيها . وقال ابن عمر والحسن ومالك وابن زيد : مواضع الحج كلها ومعالمه بمنى وعرفة والمزدلفة والصفا والمروة والبيت وغير ذلك ، وهذا نحو من قول زيد بن أسلم . وقيل : شرائع دينه وتعظيمها التزامها والمنافع الأجر ، ويكون والضمير في { فِيهَا } من قوله { لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ } عائداً على الشعائر التي هي الشرائع أي { لَكُمْ فِى } التمسك بها { مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ } منقطع التكليف { ثُمَّ مَحِلُّهَا } بشكل على هذا التأويل . فقيل : فقيل : الإيمان والتوجه إليه بالصلاة ، وكذلك القصد في الحج والعمرة ، أي محل ما يختص منها بالإحرام { الْبَيْتِ الْعَتِيقِ } وقيل : معنى ذلك ثم أجرها على رب { الْبَيْتِ الْعَتِيقِ } قيل : ولو قيل على هذا التأويل أن { الْبَيْتِ الْعَتِيقِ } الجنة لم يبعدوا الضمير في إنها عائد على الشعائر على حذف مضاف أي فإن تعظيمها أو على التعظمة ، وأضاف التقوى إلى القلوب كما قال عليه الصلاة والسلام : { التقوى ههنا} . وأشار إلى صدره . وعن عمر أنه أهدى نجيبة طلبت منه بثلاثمائة دينار فسأل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يبيعها ويشتري بثمنها بدناً فنهاه عن ذلك وقال : { بل اهدها } وأهدى هو عليه السلام مائة بدنة فيها جمل لأبي جهل في أنفه برة من ذهب ، وكان ابن عمر يسوق البدن مجللة بالقباطي فيتصدق بلحومها وبجلالها ، ويعتقد أن طاعة اللّه في التقرب بها وإهدائها إلى بيته المعظم أمر عظيم لا بد أن يقام به ويسارع فيه ، وذكر { الْقُلُوبُ } لأن المنافق يظهر التقوى وقلبه خال عنها ، فلا يكون مجداً في أداء الطاعات ، والمخلص التقوى باللّه في قلبه فيبالغ في أدائها على سبيل الإخلاص . وقال الزمخشري : فإن تعظيمها { مِنْ } أفعال ذوي { تَقْوَى الْقُلُوبِ } فحذفت هذه المضافات ، ولا يستقيم المعنى إلاّ بتقديرها لأنه لا بد من راجع من الجزاء إلى { مِنْ } ليتربط به ، وإنما ذكرت { الْقُلُوبُ } لأنها مراكز التقوى التي إذا ثبتت فيها وتمكنت ظهر أثرها في سائر الأعضاء انتهى . وما قدره عار من راجع إلى الجزاء إلى { مِنْ } ألا ترى أن قوله فإن تعظيمها من أفعال القلوب ليس في شيء منه ضمير يعود إلى { مِنْ } يربط جملة الجزاء بجملة الشرط الذي أداته { مِنْ } وإصلاح ما قاله أن يكون التقدير فأي تعظيمها منه ، فيكون الضمير في منه عائداً على من فيرتبط الجزاء بالشرط . وقرىء { الْقُلُوبُ } بالرفع على الفاعلية بالمصدر الذي هو { تَقْوَى } والضمير في { فِيهَا } عائد على البدن على قول الجمهور ، والمنافع درها ونسلها وصوفها وركوب ظهرها { إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى } وهو أن يسميها ويوجبها هدياً فليس له شيء من منافعها . قاله ابن عباس في رواية مقسم ، ومجاهد وقتادة والضحاك . وقال عطاء : منافع الهدايا بعد إيجابها وتسميتها هدياً بأن تركب ويشرب لبنها عند الحاجة { إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى } أي إلى أن تنحر . وقيل : إلى أن تشعر فلا تركب إلاّ عند الضرورة . وروى أبو رزين عن ابن عباس : الأجل المسمى الخروج من مكة . وعن ابن عباس { إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى } أي إلى الخروج والانتقال من هذه الشعائر إلى غيرها . وقيل : الأجل يوم القيامة . وقال الزمخشري : إلى أن تنحر ويتصدق بلحومها ويؤكل منها . و { ثُمَّ } للتراخي في الوقت فاستعيرت للتراخي في الأفعال ، والمعنى أن لكم في الهدايا منافع كثيرة في دنياكم ودينكم وإنما يعبد اللّه بالمنافع الدينية قال تعالى :{ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّه يُرِيدُ الاْخِرَةَ } وأعظم هذه المنافع وأبعدها شوطاً في النفع محلها إلى البيت أي وجوب نحرها ، أو وقت وجوب نحرها منتهية إلى البيت كقوله { هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ } والمراد نحرها في الحرم الذي هو في حكم البيت لأن الحرم هو حريم البيت ، ومثل هذا في الاتساع قولك : بلغنا البلد وإنما شارفتموه واتصل مسيركم بحدوده . وقيل : المراد بالشعائر المناسك كلها و { مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ } يأباه انتهى . وقال القفال : الهدي المتطوع به إذا عطب قبل بلوغ مكة فإن محله موضعه ، فإذا بلغ منى فهي محله وكل فجاج مكة . و قال ابن عطية : وتكرر { ثُمَّ } لترتيب الجمل لأن المحل قبل الأجل ، ومعنى الكلام عند هاتين الفريقين يعني من قال مجاهد ومن وافقه ، ومن قال بقول عطاء { ثُمَّ مَحِلُّهَا } إلى موضع النحر فذكر البيت لأنه أشرف الحرم وهو المقصود بالهدي وغيره ، والأجل الرجوع إلى مكة لطواف الإفاضة وقوله { ثُمَّ مَحِلُّهَا } مأخوذ من إحلال المحرم معناه ، ثم أخر هذا كله إلى طواف الإفاضة بالبيت العتيق ، فالبيت على هذا التأويل مراد بنفسه قاله مالك في الموطأ انتهى . ٣٤ولكل أمة جعلنا . . . . . والمنسك مفعل من نسك واحتمل أن يكون موضعاً للنسك ، أي مكان نسك ، واحتمل أن يكون مصدراً واحتمل أن يراد به مكان العبادة مطلقاً أو العبادة ، واحتمل أن يراد نسك خاص أو نسكاً خاصاً وهو موضع ذبح أو ذبح ، وحمله الزمخشري على الذبح ، يقال : شرع اللّه لكل أمة أن ينسكوا له أي يذبحوا لوجهه على وجه التقرب ، وجعل العلة في ذلك أن يذكر اسمه تقدست أسماؤه على المناسك انتهى . وقياس بناء مفعل مما مضارعه يفعل يضم العين مفعل بفتحها في المصدر والزمان والمكان ، وبالفتح قرأ الجمهور . وقرأ بكسرها الأخوان وابن سعدان وأبو حاتم عن أبي عمرو ويونس ومحبوب وعبد الوارث إلا القصبي عنه . قال ابن عطية : والكسر في هذا من الشاذ ولا يسوغ فيه القياس ، ويشبه أن يكون الكسائي سمعه من العرب . وقال الأزهري : مينسك ومنسك لغتان . وقال مجاهد : المنسك الذبح ، وإراقة الدماء يقال : نسك إذا ذبح ، والذبيحة نسيكة وجمعها نسك . وقال الفرّاء : المنسك في كلام العرب المعتاد في خير وبر . وقال ابن عرفة { مَنسَكًا } أي مذهباً من طاعة اللّه ، يقال : نسك نسك قومه إذا سلك مذهبهم . وقال الفراء { مَنسَكًا } عيداً وقال قتادة : حجاً . {لّيَذْكُرُواْ اسْمَ اللّه } معناه أمرناهم عند ذبائحهم بذكر اللّه ، وأن يكون الذبح له لأنه رازق ذلك ، ثم خرج إلى الحاضرين فقال { فَإِلَاهُكُمْ إِلَاهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُواْ } أي انقادوا ، وكما أن الإله واحد يجب أن يخلص له في الذبيحة ولا يشرك فيها لغيره ، وتقدم شرح الإخبات . وقال عمرو بن أوس : المخبتون الذين لا يظلمون وإذا ظلموا لم ينتصروا . ٣٥الذين إذا ذكر . . . . . وقرأ الجمهور { الَّذِينَ إِذَا } بالخفض على الإضافة وحذفت النون لأجلها . وقرأ ابن أبي إسحاق والحسن وأبو عمرو في رواية { الصَّلَواةِ } بالنصب وحذفت النون لأجلها . وقرأ ابن مسعود والأعمش والمقيمين بالنون { الصَّلَواةِ } بالنصب . وقرأ الضحاك : والمقيم الصلاة ، وناسب تبشير من اتصف بالإخبات هنا لأن أفعال الحج من نزع الثياب والتجرد من المخيط وكشف الرأس والتردد في تلك المواضع الغبرة المحجرة ، والتلبس بأفعال شاقة لا يعلم معناها إلاّ اللّه تعالى مؤذن بالاستسلام المحض والتواضع المفرط حيث يخرج الإنسان عن مألوفه إلى أفعال غريبة ، ولذلك وصفهم بالإخبات والوجل إذا ذكر اللّه تعالى والصبر على ما أصابهم من المشاق وإقامة الصلوات في مواضع لا يقيمها إلاّ المؤمنون المصطفون والإنفاق مما رزقهم ومنها الهدايا التي يغالون فيها . ٣٦والبدن جعلناها لكم . . . . . وقرأ الجمهور { وَالْبُدْنَ } بإسكان الدال . وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وشيبة وعيسى بضمها وهي الأصل ، ورويت عن أبي جعفر ونافع . وقرأ ابن أبي إسحاق أيضاً بضم الياء والدال وتشديد النون ، فاحتمل أن يكون اسماً مفرداً بُني على فعل كعتل ، واحتمل أن يكون التشديد من التضعيف الجائز في الوقف ، وأجرى الوصل مجرى الوقف ، والجمهور على نصب { وَالْبُدْنَ } على الاشتغال أي وجعلنا { البدن } وقرىء بالرفع على الابتداء و { اللّه لَكُمْ } أي لأجلكم و { مِن شَعَائِرِ } في موضع المفعول الثاني ، ومعنى { مِن شَعَائِرِ اللّه } من أعلام الشريعة التي شرعها اللّه وأضافها إلى اسمه تعالى تعظيماً لها { لَكُمْ فِيهَا } قال ابن عباس : نفع في الدنيا ، وأجر في الآخرة . وقال السدّي أجر . وقال النخعي : من احتاج إلى ظهرها ركب وإلى لبنها شرب { اللّه عَلَيْهَا صَوَافَّ } أي على نحرها . قال مجاهد : معقولة . وقال ابن عمر ، قائمة قد صفت أيديها بالقيود . وقال ابن عيسى : مصطفة وذكر اسم اللّه أن يقول عند النحر اللّه أكبر لا إله إلا اللّه واللّه أكبر ، اللّهم منك وإليك . وقرأ أبو موسى الأشعري والحسن ومجاهد وزيد بن أسلم وشقيق وسليمان التيمي والأعرج : صوافي جمع صافية ونون الياء عمرو بن عبيد . قال الزمخشري : التنوين عوض من حرف عند الوقف انتهى . والأولى أن يكون على لغة من صرف ما لا ينصرف ، ولا سيما الجمع المتناهي ، ولذلك قال بعضهم والصرف في الجمع أي كثيراً حتى ادّعى قوم به التخيير أي خوالص لوجه اللّه تعالى لا يشرك فيها بشيء ، كما كانت الجاهلية تشرك . وقرأ الحسن أيضاً{ صَوَافَّ } مثل عوار وهو على قول من قال فكسرت غار لحمه يريد عارياً وقولهم : اعط القوس باريها . وقرأ عبد اللّه وابن عمر وابن عباس والباقر وقتادة ومجاهد وعطاء والضحاك والكلبي والأعمش بخلاف عنه صوافن بالنون ، والصافنة من البدن ما اعتمدت على طرف رجل بعد تمكنها بثلاث قوائم وأكثر ما يستعمل في الخيل { فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا } عبارة عن سقوطها إلى الأرض بعد نحرها . قال محمد بن كعب ومجاهد وإبراهيم والحسن والكلبي { الْقَانِعَ } السائل { وَالْمُعْتَرَّ } المعترض من غير سؤال ، وعكست فرقة هذا . وحكى الطبري عن ابن عباس { الْقَانِعَ } المستغني بما أعطيه { وَالْمُعْتَرَّ } المعترض من غير سؤال . وحكى عنه { الْقَانِعَ } المتعفف { وَالْمُعْتَرَّ } السائل . وعن مجاهد { الْقَانِعَ } الجار وإن كان غنياً . وقال قتادة { الْقَانِعَ } من القناعة { وَالْمُعْتَرَّ } المعترض للسؤال . وقيل { المعتر } الصديق الزائر . وقرأ أبو رجاء : القنع بغير ألف أي { وَأَطْعِمُواْ الْقَانِعَ } فحذف الألف كالحذر والحاذر . وقرأ الحسن والمعتري اسم فاعل من اعترى . وقرأ عمرو وإسماعيل { وَالْمُعْتَرَّ } بكسر الراء دون ياء ، هذا نقل ابن خالويه . وقال أبو الفضل الرازي في كتاب اللوامح أبو رجاء بخلاف عنه ، وابن عبيد والمعتري على مفتعل . وعن ابن عباس برواية المقري { وَالْمُعْتَرَّ } أراد المعتري لكنه حذف الياء تخفيفاً واستغناءً بالكسرة عنها ، وجاء كذلك عن أبي رجاء . قال ابن مسعود : الهدي أتلات . وقال جعفر بن محمد أطعم القانع والمعتر ثلثاً ، والبائس الفقير ثلثاً ، وأهلي ثلثاً . وقال ابن المسيب : ليس لصاحب الهدي منه إلاّ الربع وهذا كله على جهة الاستحباب لا الفرض قاله ابن عطية { كَذالِكَ } سخرها لكم أي مثل ذلك التسخير { سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ} ٣٧لن ينال اللّه . . . . . تأخذونها منقادة فتعقلونها وتحبسونها صافة قوائمها فتطعنون في لباتها ، منّن عليهم تعالى بذلك ولولا تسخير اللّه لم تطق ولم تكن بأعجز من بعض الوحوش التي هي أصغر منها جرماً وأقل قوّة ، وكفى بما يتأبد من الإبل شاهداً وعبرة . و قال ابن عطية : كما أمرناكم فيها بهذا كله سخرنا لكم لن ينال اللّه لحومها ولا دماؤها . قال مجاهد : أراد المسلمون أن يفعلوا فعل المشركين من الذبح وتشريح اللحم منصوباً حول الكعبة ونضح الكعبة حواليها بالدم تقرّباً إلى اللّه ، فنزلت هذه الآية . وعن ابن عباس قريب منه ، والمعنى لن يصيب رضا اللّه اللحوم المتصدق بها ولا الدماء المهراقة بالنحر ، والمراد أصحاب اللحوم والدماء ، والمعنى لن يرضى المضحون والمقربون ربهم إلاّ بمراعاة النية والإخلاص والاحتياط بشروط التقوى في حل ما قرب به وغير ذلك من المحافظات الشرعية وأوامر الورع ، فإذا لم يراعوا ذلك لم تغن عنهم التضحية والتقريب ، وإن كثر ذلك منهم قاله الزمخشري وهو تكثير في اللفظ . وقرأ مالك بن دينار والأعرج وابن يعمر والزهري وإسحاق الكوفي عن عاصم والزعفراني ويعقوب . وقال ابن خالويه : تناله التقوى بالتاء يحيى بن يعمر والجحدري . وقرأ زيد بن علي { لُحُومُهَا وَلاَ } بالنصب { دِمَاؤُهَا وَلَاكِن يَنَالُهُ } بضم الياء وكرر ذكر النعمة بالتسخير . قال الزمخشري : لتشكروا اللّه على هدايته إياكم لإعلام دينه ومناسك حجه بأن تكبروا وتهللوا فاختصر الكلام بأن ضمن التكبير معنى الشكر وعديّ تعديته انتهى .{ وَبَشّرِ الْمُحْسِنِينَ } ظاهر في العموم . قال ابن عباس : وهم الموحدون وروي أنها نزلت في الخلفاء الأربعة . ٣٨إن اللّه يدافع . . . . . الهدم : معروف وهو نقض ما بُني . قال الشاعر : وكل بيت وإن طالت إقامته على دعائمه لا بدّ مهدوم الصومعة : موضع العبادة وزنها فعولة ، وهي بناء مرتفع منفرد حديد الأعلى ، والأصمع من الرجال الحديد القول ، وكانت قبل الإسلام مختصة برهبان النصارى وبعباد الصابئين ، قاله قتادة ثم استعمل في مئذنة المسلمين . البيع : كنائس النصارى واحدها بيعة . وقيل : كنائس اليهود . البئر : من بأرت أي حفرت ، وهي مؤنثة على وزن فعل بمعنى مفعول ، وقد تذكر على معنى القليب . تعطيل الشيء : إبطال منافعه . العقم : الامتناع من الولادة ، يقال : امرأة عقيم ورجل عقيم لا يولد له ، والجمع عقم وأصله من القطع ، ومنه الملك عقيم أي يقطع فيه الأرحام بالقتل ، والعقيم الذي قطعت ولادتها . وقال أبو عبيد العقم السد ، يقال : امرأة معقومة الرحم أي مسدودة الرحم . السطو : القهر . وقال ابن عيسى : السطوة إظهار ما يهول للإخافة . الذباب : الحيوان المعروف يجمع على ذباب بكسر الذال وضمها ، وعلى ذبّ والمذبة ما يطرد به الذباب ، وذباب السيف طرفه والعين إنسانها ، وأسنان الإبل . سلبت الشيء : اختطفته بسرعة . استنقذ : استفعل بمعنى أفعل أي أنقذ نحو أبل واستبل . {إِنَّ اللّه يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ ءامَنُواْ إِنَّ اللّه لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ اللّه عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا اللّه وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّه النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدّمَتْ صَوامِعُ} روي أن المؤمنين لما كثروا بمكة أذاهم الكفار وهاجر من هاجر إلى أرض الحبشة ، أراد بعض مؤمني مكة أن يقتل من أمكنة من الكفار ويحتال ويغدر ، فنزلت إلى قوله { كَفُورٌ } وعد فيها بالمدافعة ونهى عن الخيانة ، وخص المؤمنين بالدفع عنهم والنصرة لهم ، وعلل ذلك بأنه لا يحب أعداءهم الخائنين اللّه والرسول الكافرين نعمه . ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر جملة مما يفعل في الحج ، وكان المشركون قد صدوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عام الحديبية وآذوا من كان بمكة من المؤمنين ، أنزل اللّه تعالى هذه الآيات مبشرة المؤمنين بدفعه تعالى عنهم ومشيرة إلى نصرهم وإذنه لهم في القتال وتمكينهم في الأرض يردهم إلى ديارهم وفتح مكة ، وأن عاقبة الأمور راجعة إلى اللّه تعالى وقال تعالى : { وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} وقرأ الحسن وأبو جعفر ونافع { يُدَافِعُ } ولولا دفاع اللّه . وقرأ أبو عمرو وابن كثير يدفع { وَلَوْلاَ دَفْعُ } وقرأ الكوفيون وابن عامر { يُدَافِعُ }{ وَلَوْلاَ دَفْعُ } وفاعل هنا بمعنى المجرد نحو جاوزت وجزت . وقال الأخفش : دفع أكثر من دافع . وحكى الزهراوي أن دفاعاً مصدر دفع كحسب حساباً . و قال ابن عطية : يحسن { يُدَافِعُ } لأنه قد عنّ للمؤمنين من يدفعهم ويؤذيهم فتجيء مقاومته ، ودفعه مدافعة عنهم انتهى . يعني فيكون فاعل لاقتسام الفاعلية والمفعولية لفظاً والاشتراك فيهما معنى . وقال الزمخشر : ومن قرأ { يُدَافِعُ } فمعناه يبالغ في الدفع عنهم كما يبالغ من يغالب فيه لأن فعل المغالب يجيء أقوى وأبلغ انتهى . ولم يذكر تعالى ما يدفعه عنهم ليكون أفخم وأعظم وأعم ٣٩أذن للذين يقاتلون . . . . . ولما هاجر المؤمنون إلى المدينة أذن اللّه لهم في القتال . وقرأ نافع وعاصم وأبو عمرو بضم همزة { أَذِنَ } وفتح باقي السبعة . وقرأ نافع وابن عامر وحفص { يُقَاتَلُونَ } بفتح التاء والباقون بكسرها ، والمأذون فيه محذوف أي في القتال لدلالة { يُقَاتَلُونَ } عليه وعلل للإذن { بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ } كانوا يأتون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من بين مضروب ومشجوج ، فيقول لهم : { اصبروا فإني لم أومر بالقتال } حتى هاجر وهي أول آية أذن فيها بالقتال بعد ما نُهي عنه في نيف وسبعين آية . وقيل : نزلت في قوم خرجوا مهاجرين فاعترضهم مشركو مكة فأذن لهم في مقاتلتهم . {وَإِنَّ اللّه عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ } وعد بالنصر والإخبار بكونه يدفع عنهم ٤٠الذين أخرجوا من . . . . . {الَّذِينَ أُخْرِجُواْ } في موضع جر نعت للذين ، أو بدل أو في موضع نصب بأعني أو في موضع رفع على إضمارهم . و { إِلا أَنْ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ } في موضع نصب لأنه منقطع لا يمكن توجه العامل عليه ، فهو مقدر بلكن من حيث المعنى لأنك لو قلت { الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم }{ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا اللّه } لم يصح بخلاف ما في الدار أحد إلاّ حمار ، فإن الاستثناء منقطع ويمكن أن يتوجه عليه العامل فتقول : ما في الدار إلاّ حمار فهذا يجوز فيه النصب والرفع النصب للحجاز والرفع لتميم بخلاف مثل هذا فالعرب مجمعون على نصبه . وأجاز أبو إسحاق فيه الجر على البدل واتّبعه الزمخشري فقال { أَن يَقُولُواْ } في محل الجر على الإبدال من { حَقّ } أي بغير موجب سوى التوحيد الذي ينبغي أن يكون موجب الإقرار والتمكين لا موجب الإخراج والتبشير ، ومثله { هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ ءامَنَّا } انتهى . وما أجازاه من البدل لا يجوز لأن البدل لا يكون إلاّ إذا سبقه نفي أو نهي أو استفهام في معنى النفي ، نحو : ما قام أحد إلاّ زيد ، ولا يضرب أحد إلاّ زيد ، وهل يضرب أحد إلاّ زيد ، وأما إذا كان الكلام موجباً أو أمراً فلا يجوز البدل : لا يقال قام القوم إلاّ زيد على البدل ، ولا يضرب القوم إلاّ زيد على البدل ، لأن البدل لا يكون إلاّ حيث يكون العامل يتسلط عليه ، ولو قلت قام إلاّ زيد ، وليضرب إلاّ عمر ولم يجز . ولو قلت في غير القرآن أخرج الناس من ديارهم إلاّ بأن يقولوا لا إله إلاّ اللّه لم يكن كلاماً هذا إذا تخيل أن يكون { إِلاَّ أَن يَقُولُواْ } في موضع جر بدلاً من غير المضاف إلى { حَقّ } وإما أن يكون بدلاً من حق كما نص عليه الزمخشري فهو في غاية الفساد لأنه يلزم منه أن يكون البدل يلي غيراً فيصير التركيب بغير { إِلاَّ أَن يَقُولُواْ } وهذا لا يصح ، ولو قدرت { إِلا } بغير كما يقدر في النفي في ما مررت بأحد إلاّ زيد فتجعله بدلاً لم يصح ، لأنه يصير التركيب بغير غير قولهم { رَبُّنَا اللّه } فتكون قد أضفت غيراً إلى غير وهي هي فصار بغير غير ، ويصح في ما مررت بأحد إلاّ زيد أن تقول : ما مررت بغير زيد ، ثم إن الزمخشري حين مثل البدل قدره بغير موجب سوى التوحيد ، وهذا تمثيل للصفة جعل إلاّ بمعنى سوى ، ويصح على الصفة فالتبس عليه باب الصفة بباب البدل ، ويجوز أن تقول : مررت بالقوم إلاّ زيد على الصفة لا على البدل . {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّه النَّاسَ } الآية فيها تحريض على القتال المأذون فيه قبل ، وأنه تعالى أجرى العاد بذلك في الأمم الماضية بأن ينتظم به الأمر وتقوم الشرائع وتصان المتعبدات من الهدم وأهلها من القتل والشتات ، وكأنه لما قال { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ } قيل : فليقاتل المؤمنون ، فلولا القتال لتغلب على الحق في كل أمة وانظر إلى مجيء قوله { وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّه النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ } لفسدت الأرض إثر قتال طالوت لجالوت ، وقتل داود جالوت . وأخبر تعالى أنه لولا ذلك الدفع فسدت الأرض فكذلك هنا . وقال عليّ بن أبي طالب : ولولا دفع اللّه بأصحاب محمد الكفار عن التابعين فمن بعدهم ، وأخذ الزمخشري قول عليّ وحسنه وذيل عليه فقال : دفع اللّه بعض الناس ببعض إظهاره وتسليط المؤمنين منهم على الكافرين بالمجاهدة ، ولولا ذلك لاستولى المشركون على أهل الملل المختلفة في أزمنتهم وعلى متعبداتهم فهدموها ولم يتركوا للنصارى بيعاً ولا لرهبانهم صوامع ، ولا لليهود صلوات ، ولا للمسلمين مساجد ، ولغلب المشركون في أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم على المسلمين وعلى أهل الكتاب الذين في ذمتهم ، وهدموا متعبدات الفريقين انتهى . وقال مجاهد :{ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّه } ظلم قوم بشهادات العدول ونحو هذا . وقال قوم { دَفْعُ } ظلم الظلمة بعدل الولاة . وقالت فرقة { دَفْعُ } العذاب بدعاء الأخيار . وقال قطرب : بالقصاص عن النفوس . وقيل : بالنبيين عن المؤمنين . وقال الحسن : لولا أمان الإسلام لخربت متعبدات أهل الذمة ، ومعنى الدفع بالقتال أليق بالآية وأمكن في دفع الفساد . وقرأ الحرميان وأيوب وقتادة وطلحة وزائدة عن الأعمش والزعفراني { فهدمت } مخففاً وباقي السبعة وجماعة مشددة لما كانت المواضع كثيرة ناسب مجيء التضعيف لكثرة المواضع فتكرر الهدم لتكثيرها . وقرأ الجمهور { اللّه وَصَلَواتِ } جمع صلاة . وقرأ جعفر بن محمد { وَصَلَواتِ } بضم الصاد واللام . وحكى عنه ابن خالويه { صَلَواتٌ } بسكون اللام وكسر الصاد ، وحكيت عن الجحدري والجحدري { صَلَواتٌ } بضم الصاد وفتح اللام ، وحكيت عن الكلبي وأبي العالية بفتح الصاد وسكون اللام { صَلَواتٌ } والحجاج بن يوسف والجحدري أيضاً وصلوات وهي مساجد النصارى بضمتين من غير ألف ومجاهد كذلك إلا أنه بفتح التاء وألف بعدها والضحاك والكلبي وصلوث بضمتين من غير ألف وبثاء منقوطة بثلاث ، وجاء كذلك عن أبي رجاء والجحدري وأبي العالية ومجاهد كذلك إلاّ أنه بعد الثاء ألف . وقرأ عكرمة : وصلويثا بكسر الصاد وإسكان اللام وواو مكسورة بعدها ياء بعدها ثاء منقوطة بثلاث بعدها ألف ، والجحدري أيضاً{ صَلَواتٌ } بضم الصاد وسكون اللام وواو مفتوحة بعدها ألف بعدها ثاء مثلثة النقط . وحكى ابن مجاهد أنه قرىء كذلك إلا أنه بكسر الصاد . وحكى ابن خالويه وابن عطية عن الحجاج والجحدري صلوب بالباء بواحدة على وزن كعوب جمع صليب كظريف وظروف ، وأسينة وأسون وهو جمع شاذ أعني جمع فعيل على فعول فهذه ثلاثة عشرة قراءة والتي بالثاء المثلثة النقط . قيل : هي مساجد اليهود هي بالسريانية مما دخل في كلام العرب . وقيل : عبرانية وينبغي أن تكون قراءة الجمهور يراد بها الصلوات المعهودة في الملل ، وأما غيرها مما تلاعبت فيه العرب بتحريف وتغيير فينظر ما مدلوله في اللسان الذي نقل منه فيفسر به . وروى هارون عن أبي عمرو { صَلَواتٌ } كقراءة الجماعة إلاّ أنه لا ينون التاء كأنه جعله اسم موضع كالمواضع التي قبله ، وكأنه علم فمنعه الصرف للعلمية والعجمة وكملت القراءات بهذه أربع عشرة قراءة والأظهر في تعداد هذه المواضع أن ذلك بحسب معتقدات الأمم فالصوامع للرهبان . وقيل : للصابئين ، والبيع للنصارى ، والصلوات لليهود ، والمساجد للمسلمين وقاله خصيف . قال ابن عطية : والأظهر أنه قصد بها المبالغة في ذكر المتعبدات ، وهذه الأسماء تشترك الأمم في مسمياتها إلاّ البيعة فإنها مختصة بالنصارى في عرف لغة ومعاني هذه الأسماء هي في الأمم التي لهم كتاب على قديم الدهر ، ولم يذكر في هذه الآية المجوس ولا أهل الإشراك لأنّ هؤلاء ليس لهم ما يوجب حمايته ولا يوجد ذكر اللّه إلاّ عند أهل الشرائع انتهى . والظاهر عود الضمير في قوله { يُذْكَرُ فِيهَا } على المواضع كلها جميعها وقاله الكلبي ومقاتل ، فيكون { يُذْكَرِ } صفة للمساجد وإذا حملنا الصلوات على الأفعال التي يصليها أهل الشرائع كان ذلك إما على حذف مضاف أي ومواضع صلوات وإما على تضمين { لَّهُدّمَتْ } معنى عطلت فصار التعطيل قدراً مشتركاً بين المواضع والأفعال ، وتأخير المساجد إما لأجل قدم تلك وحدوث هذه ، وإما لانتقال من شريف إلى أشرف . وأقسم تعالى على أنه تنصر من ينصر أي ينصر دينه وأولياءه ، ونصره تعالى هو أن يظفر أولياءه بأعدائهم جلاداً وجدالاً وفي ذلك حض على القتال . ثم أخبر تعالى أنه قوي على نصرهم { عَزِيزٌ } لا يغالب . ٤١الذين إن مكناهم . . . . . والظاهر أنه يجوز في إعراب { الَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِى الاْرْضِ } ما جاز في إعراب { الَّذِينَ أُخْرِجُواْ } وقال الزجاج : هو منصوب بدل ممن ينصره ، والتمكين السلطنة ونفاذ الأمر على الخلق ، والظاهر أنه من وصف المأذون لهم في القتال وهم المهاجرون ، وفيه إخبار بالغيب عما يكون عليه سيرتهم إن مكن لهم في الأرض وبسط لهم في الدنيا ، وكيف يقومون بأمر الدين . وعن عثمان رضي اللّه عنه : هذا واللّه ثناء قبل بلاء ، يريد أن اللّه قد أثنى عليهم قبل أن يحدثوا من الخير ما أحدثوا ، وقالوا : فيه دليل على صحة أمر الخلفاء الراشدين لأن اللّه تعالى لم يجعل التمكن ونفاذ الأمر مع السيرة العادلة لغيرهم من المهاجرين لا حظ في ذلك للأنصار والطلقاء . وفي الآية أخذ العهد على من مكنه اللّه أن يفعل ما رتب على التمكين في الآية . وقيل : نزلت في أصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم. وعن الحسن وأب العالية : هم أمّته عليه السلام . وعن عكرمة : هم أهل الصلوات الخمس ، وهو قريب مما قبله . وقال ابن أبي نجيح : هم الولاة . وقال الضحاك : هو شرط شرطه اللّه من آناه الملك . وقال ابن عباس : المهاجرون والأنصار والتابعون { وَللّه عَاقِبَةُ الاْمُورِ } توعد للمخالف ما ترتب على التمكين ٤٢انظر تسفير الآية:٤٤ ٤٣انظر تسفير الآية:٤٤ ٤٤وإن يكذبوك فقد . . . . . {وَإِن يُكَذّبُوكَ } الآية فيها تسلية للرسول بتكذيب من سبق من الأمم المذكورة لأنبيائهم ، ووعيد لقريش إذ مثلهم بالأمم المكذبة المعذبة وأسند الفعل بعلامة التأنيث من حيث أراد الأمة والقبيلة ، وبنى الفعل للمفعول في { وَكُذّبَ مُوسَى } أن قومه لم يكذبوه وإنما كذبه القبط { فَأمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ } أي أمهلت لهم وأخرت عنهم العذاب مع علمي بفعلهم ، وفي قوله { فَأمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ } ترتيب الإملاء على وصف الكفر ، فكذلك قريش أملى تعالى لهم ثم أخذهم في غزوة بدر وفي فتح مكة وغيرهما ، والأخذ كناية عن العقاب والإهلاك ، النكير مصدر كالندير المراد به المصدر ، والمعنى فكيف كان إنكاري عليهم وتبديل حالهم الحسنة بالسيئة وحياتهم بالهلاك ومعمورهم بالخراب ؟ وهذا استفهام يصحبه معنى التعجب ، كأنه قيل : ما أشد ما كان إنكاري عليهم وفي الجملة إرهاب لقريش ٤٥فكأين من قرية . . . . . {فَكَأَيّن } للتكثير ، واحتمل أن يكون في موضع رفع على الابتداء وفي موضع نصب على الاشتغال . وقرأ أبو عمرو وجماعة أهلكها بتاء المتكلم ، والجمهور بنون العظمة { وَهِىَ ظَالِمَةٌ } جملة حالية { فَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا } تقدم تفسير هذه الجملة في البقرة في قوله {أَوْ كَالَّذِى مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ } وقال الزمخشري : فإن قلت : ما محل الجملتين من الإعراب ؟ أعني { وَهِىَ ظَالِمَةٌ فَهِىَ خَاوِيَةٌ } قلت : الأولى في محل نصب على الحال ، والثانية لا محل لها لأنها معطوفة على { هلكناها } وهذا الفعل ليس له محل انتهى . وهذا الذي قاله ليس بجيد لأن { نَكِيرِ فَكَأَيّن } الأجود في إعرابها أن تكون مبتدأة والخبر الجملة من قوله { أَهْلَكْنَاهَا } فهي في موضع رفع والمعطوف على الخبر خبر ، فيكون قوله { فَهِىَ خَاوِيَةٌ } في موضع رفع ، لكن يتجه قول الزّمخشري على الوجه القليل وهو إعراب { فَكَأَيّن } منصوباً بإضمار فعل على الاشتغال ، فتكون الجملة من قوله { وأهلكناها } مفسرة لذلك الفعل ، وعلى هذا لا محل لهذه الجملة المفسرة فالمعطوف عليها لا محل له . وقرأ الجحدري والحسن وجماعة { وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ } مخففاً يقال : عطلت البئر وأعطلتها فعطلت ، هي بفتح الطاء ، وعطلت المرأة من الحليّ بكسر الطاء . قال الزمخشري : ومعنى المعطلة أنها عامرة فيها الماء ومعها آلات الاستقاء إلاّ أنها عطلت أي تركت لا يستقى منها لهلاك أهلها ، والمشيد المجصص أو المرفوع البنيان والمعنى كم قرية أهلكنا ، وكم بئر عطلنا عن سقاتها و { وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ } أخليناه عن ساكنيه ، فترك ذلك لدلالة { مُّعَطَّلَةٍ } عليه انتهى . {وَبِئْرٍ }{ وَقَصْرٍ } معطوفان على { مِن قَرْيَةٍ }{ وَمِنْ قَرْيَةٌ } تمييز لكأين ، { وَكَأَيّن } تقتضي التكثير ، فدل ذلك على أنه لا يراد بقربه وبئر وقصر معين ، وإن كان الإهلاك إنما يقع في معين لكن من حيث الوقوع لا من حيث دلالة اللفظ ، وينبغي أن يكون { بئر }{ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ } من حيث عطفاً على { مِن قَرْيَةٍ } أن يكون التقدير أهلكتهما كما كان أهلكتها مخبراً به عن { كأين } الذي هو القرية من حيث المعنى . والمراد أهل القرية والبئر والقصر ، وجعل { عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ } معطوفين على { عُرُوشِهَا } جهل بالفصاحة ووصف القصر بمشيد ولم يوصف بمشيد كما في قوله في { بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ } لأن ذلك جمع ناسب التكثير فيه ، وهذا مفرد وأيضاً{ مَّشِيدٍ } فاصلة آية . وقد عين بعض المفسرين هذه البئر . فعن ابن عباس أنها كانت لأهل عدن من اليمن وهي الرس . وعن كعب الأحبار أن القصر بناه عاد الثاني وهو منذر بن عاد بن إرم بن عاد . وعن الضحاك وغيره : أن البئر بحضرموت من أرض الشحر ، والقصر مشرف على قلة جبل لا يرتقى ، والبئر في سفحه لا يقر الريح شيئاً يسقط فيها . روي أن صالحاً عليه السلام نزل عليها مع أربعة آلاف نفر ممن آمن به ونجاهم اللّه من العذاب . وهي بحضرموت ، وسميت بذلك لأن صالحاً حين حضرها مات وثم بلدة عند البئر اسمها حاضوراً بناها قوم صالح وأمروا عليهم جليس بن جلاس ، وأقاموا بها زمناً ثم كفروا وعبدوا صنماً ، وأرسل إليهم حنظلة بن صفوان ، وقيل : اسمه شريح بن صفوان نبياً فقتلوه في السوق فأهلكهم اللّه عن آخرهم وعطل بئرهم وخرب قصرهم . وعن الإمام أبي القاسم الأنصاري أنه قال : رأيت قبر صالح بالشام في بلدة يقال لها عكا فكيف يكون بحضرموت . ٤٦أفلم يسيروا في . . . . . لما ذكر تعالى من كذب الرسل من الأمم الخالية وكان عند العرب أشياء من أحوالهم ينقلونها وهم عارفون ببلادهم وكثيراً ما يمرون على كثير منها قال { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ } فاحتمل أن يكون حثاً على السفر ليشاهدوا مصارع الكفار فيعتبروا ، أو يكونوا قد سافروا وشاهدوا فلم يعتبروا فجعلوا كأن لم يسافروا ولم يروا . وقرأ مبشر بن عبيد : فيكون بالياء والجمهور بالتاء { فَتَكُونُ } منصوب على جواب الاستفهام قاله ابن عطية ، وعلى جواب التقرير قاله الحوفي . وقيل : على جواب النفي ، ومذهب البصريين أن النصب بإضمار إن وينسبك منها ومن الفعل مصدر يعطف على مصدر متوهم ، ومذهب الكوفيين أنه منصوب على الصرف إذ معنى الكلام الخبر صرفوه عن الجزم على العطف على { يَسِيرٌ } ، وردوه إلى أخي الجزم وهو النصب هذا معنى الصرف عندهم ، ومذهب الجرمي أن النصب بالفاء نفسها وإسناد العقل إلى القلب يدل على أنه محله ، ولا ينكر أن للدفاع بالقلب اتصالاً يقتضي فساد العقل إذا فسد الدماغ ومتعلق { يَعْقِلُونَ بِهَا } محذوف أي ما حل بالأمم السابقة حين كذبوا أنبياءهم و { يَعْقِلُونَ } ما يجب من التوحيد ، وكذلك مفعول { يَسْمَعُونَ } أي يسمعون أخبار تلك الأمم أو ما يجب سماعه من الوحي . والضمير في { فَإِنَّهَا } ضمير القصة وحسن التأنيث هنا ورجحه كون الضمير وليه فعل بعلامة التأنيث وهي التاء في { لاَ تَعْمَى } ويجوز في الكلام التذكير وقرأ به عبد اللّه فإنه لا تعمى . وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون ضميراً مبهماً يفسره { الاْبْصَارِ } وفي { تَعْمَى } راجع إليه انتهى . وما ذكره لا يجوز لأن الذي يفسره ما بعده محصور ، وليس هذا واحداً منها وهو في باب رب وفي باب نعم . وبئس ، وفي باب الأعمال ، وفي باب البدل ، وفي باب المتبدأ والخبر على خلاف في هذه الأربعة على ما قرر ذلك في أبوابه . وهذه الخمسة يفسر الضمير فيها المفرد وفي ضمير الشأن ويفسر بالجملة على خلاف فيه أيضاً وهذا الذي ذكره الزمخشري ليس واحداً من هذه الستة فوجب اطّراحه والمعنى أن أبصارهم سالمة لا عمى بها ، وإنما العمى بقلوبهم ، ومعلوم أن الأبصار قد تعمى لكن المنفي فيها ليس العمى الحقيقي وإنما هو ثمرة البصر وهو التأدية إلى الفكرة فيما يشاهد البصر لكن ذلك متوقف على العقل الذي محله القلب ، ووصفت { الْقُلُوبُ } بالتي { فِى الصُّدُورِ} قال ابن عطبة مبالغة كقوله { يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِم } وكما تقول نظرت إليه بعيني . وقال الزمخشري : الذي قد تعورف واعتد أن العمى على الحقيقة مكان البصر وهو أن تصاب الحدقة بما يطمس نورها ، واستعماله في القلب استعارة ومثل ، فلما أريد إثبات ما هو خلاف المعتقد من نسبة العمى إلى القلوب حقيقة ونفيه عن الأبصار احتاج هذا التصوير إلى زيادة تعيين وفضل تعريف لتقرر أن مكان العمى هو القلوب لا الأبصار ، كما تقول : ليس المضاء للسيف ولكنه للسانك الذي بين فكيك فقولك : الذي بين فكيك تقرير لما ادعيته للسانه ، وتثبيت لأن محل المضاء هو هو لا غير وكأنك قلت : ما نفيت المضاء عن السيف وأثبته للسانك فلتة ولا سهواً مني ولكن تعمدت به إياه بعينه تعمداً انتهى . وقوله ولكن تعمّدت به إياه بعينه تعمداً فصل الضمير وليس من مواضع فصله ، والصواب ولكن تعمدته به كما تقول السيف ضربتك به ولا تقول : ضربت به إياك ، وفصله في مكان اتصاله عجمة ، وقال أبو عبد اللّه الرازي : وعندي فيه وجه آخر وهو أن القلب قد يجعل كناية عن الخاطر ، والتدبير كقوله تعالى { إِنَّ فِى ذالِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ } وعند قوم أن محل الفكر هو الدماغ فاللّه تعالى بين أن محل ذلك هو الصدر . ٤٧ويستعجلونك بالعذاب ولن . . . . . والضمير في { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ } لقريش ، وكان صلى اللّه عليه وسلم يحذرهم نقمات اللّه ويوعدهم بذلك دنيا وآخرة وهم لا يصدقون بذلك ويستبعدون وقوعه ، فكان استعجالهم على سبيل الاستهزاء وأن ما توعدتنا به لا يقع وإنه لا بعث وفي قوله { وَلَن يُخْلِفَ اللّه وَعْدَهُ } أي إن ذلك واقع لا محالة ، لكن لوقوعه أجل لا يتعداه . وأضاف الوعد إليه تعالى لأن رسوله عليه الصلاة والسلام هو المخبر به عن اللّه تعالى . وقال الزمخشري : أنكر استعجالهم بالمتوعد به من العذاب العاجل والآجل ، كأنه قال : ولم يستعجلون به كأنهم يجوّزون الفوت وإنما يجوز ذلك على ميعاد من يجوز عليه الخلف واللّه عز وعلا لا يخلف الميعاد ، وما وعده ليصيبهم ولو بعد حين وهو سبحانه حليم لا يعجل انتهى . وفي قوله وإنما يجوز ذلك على ميعاد من يجوز عليه الخلف دسيسة الاعتزال . وقيل :{ وَلَن يُخْلِفَ اللّه وَعْدَهُ } في النظرة والإمهال واختلفوا في هذا التشبه . فقيل : في العدد أي اليوم عند اللّه ألف سنة من عددكم . وفي الحديث الصحيح : { يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم وذلك خمسمائة عام فالمعنى وإن طال الإمهال فإنه في بعض يوم من أيام اللّه . وقيل : التشبيه وقع في الطول للعذاب فيه ، والشدة أي { وَإِنَّ يَوْماً } من أيام عذاب اللّه لشدة العذاب فيه وطوله { كَأَلْفِ سَنَةٍ } من عددكم إذ أيام الترحة مستطالة وأيام الفرحة مستقصرة ، وكان ذلك اليوم الواحد كألف سنة من سني العذاب والمعنى أنهم لو عرفوا حال الآخرة ما استعجلوه وهذا القول قريب من قول أبي مسلم . وقيل : التشبيه بالنسبة إلى علمه تعالى وقدرته وإنفاذ ما يريد { كَأَلْفِ سَنَةٍ } واقتصر على ألف سنة وإن كان اليوم عنده كما لا نهاية له من العدد لكون الألف منتهى العدد دون تكرار ، وهذا القول لا يناسب مورد الآية إلاّ إن أريد أنه القادر الذي لا يعجزه شيء ، فإذا لم يستبعدوا إمهال يوم فلا يستبعدوا أيضاً إمهال ألف سنة . وقال ابن عباس : أراد باليوم من الأيام التي خلق اللّه فيها السموات والأرض . وقال ابن عيسى يجمع لهم عذاب ألف سنة في يوم واحد ، ولأهل الجنة سرور ألف سنة في يوم واحد . وقال الفراء : تضمنت الآية عذاب الدنيا والآخرة ، وأريد العذاب في الدنيا أي { لَنْ يُخْلِفَ اللّه وَعْدَهُ } في إنزال العذاب بكم في الدنيا ، { وَإِنَّ يَوْماً } من أيام عذابكم في الآخرة { كَأَلْفِ سَنَةٍ } من سني الدنيا فكيف تستعجلون العذاب . وقال الزجاج : تفضل تعالى عليهم بالإمهال والمعنى أن اليوم عند اللّه والألف سواء في قدرته بين ما استعجلوا به وبين تأخره . وقرأ الأخوان وابن كثير يعدون بياء الغيبة ، وباقي السبعة بتاء الخطاب وعطفت ٤٨وكأين من قرية . . . . . {فَكَأَيّن } الأولى بالفاء وهذه الثانية بالواو . وقال الزمخشري : الأولى وقعت بدلاً عن قوله { فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } وما هذه فحكمها حكم ما تقدمها من الجملتين المعطوفتين بالواو أعني قوله { لَنْ يُخْلِفَ اللّه وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ } وتكرر التكثير بكائن في القرى لإفادة معنى غير ما جاءت له الأولى لأنه ذكر فيها القرى التي أهلكها دون إملاء وتأخير ، بل أعقب الإهلاك التذكير وهذه الآية لما كان تعالى قد أمهل قريشاً حتى استعجلت بالعذاب جاءت بالإهلاك بعد الإملاء تنبيهاً على أن قريشاً وإن أملى تعالى لهم وأمهلهم فإنه لا بد من عذابهم فلا يفرحوا بتأخير العذاب عنهم ٤٩انظر تسفير الآية:٥١ ٥٠انظر تسفير الآية:٥١ ٥١قل يا أيها . . . . . ثم أمر نبيه أن يقول لأهل مكة { قُلْ يأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ } من عذاب اللّه موضح لكم ما تحذرون أو موضح النذارة لا تلجلج فيها ، وذكر النذارة دون البشارة وإن كان التقسيم بعد ذلك يقتضيهما لأن الحديث مسوق للمشركين ، و { يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ } نداء لهم وهم المقول فيهم { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ } والمخير عنهم باستعجال العذاب وإنما ذكر المؤمنون هنا وما أعد اللّه لهم من الثواب ليغاظ المشركون بذلك وليحرضهم على نيل هذه الرتبة الجليلة التي فيها فوزهم ، وحصر النذارة لأن المعنى ليس لي تعجيل عذابكم ولا تأخيره عنكم وإنما أنا منذركم به . وقال الكرماني : التقدير بشير و { نَّذِيرٍ } فحذف والتقسيم داخل في المقول ، والسعي الطلب والاجتهاد في ذلك ، ويقال : سعى فلان في أمر فلان فيكون بإصلاح وبإفساد وقد يستعمل في الشر ، يقال : فيه سعى بفلان سعاية أي تحيل ، وكاد في إيصال الشر إليه وسعيهم بالفساد في آيات اللّه حيث طعنوا فيها قسموها سحراً وشعراً وأساطير الأولين ، وثبطوا الناس عن الإيمان بها . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والجحدري وأبو السمال والزعفراني معجزّين بالتشديد هنا وفي حرفي سبأ زاد الجحدري في جميع القرآن أي مثبطين . وقرأ باقي السبعة بألف . وقرأ ابن الزبير معجّزين بسكون العين وتخفيف الزاي من أعجزني إذا سبقك فقاتك . قال صاحب اللوامح : لكنه هنا بمعنى معاجزين أي ظانين أنهم يعجزوننا ، وذلك لظنهم أنهم لا يبعثون . وقيل : في { مُعَاجِزِينَ } معاندين ، وأما معجّزين بالتشديد فإنه بمعنى مثبطين الناس عن الإسلام ، ويقال : مثبطين . وقال الزمخشري : عاجزه سابقه لأن كل واحد منهما في طلب إعجاز الآخر عن اللحاق به ، فإذا سبقه قيل أعجزه وعجزه ، فالمعنى سابقين أو مسابقين في زعمهم وتقديرهم ، طامعين أن كيدهم للإسلام يتم لهم انتهى . وقال أبو علي الفارسي : معجزين معناه ناسبين أصحاب النبيّ صلى اللّه عليه وسلم إلى العجز كما تقول : فسقت فلاناً إذا نسبته إلى الفسق . وتقدم شرح أخرى هاتين الجملتين الواردتين تقسيماً . ٥٢وما أرسلنا من . . . . . لما ذكر تعالى أنه يدفع عن الذين آمنوا وأنه تعالى أذن للمؤمنين في القتال وأنهم كانوا أخرجوا من ديارهم وذكر مسلاة رسوله صلى اللّه عليه وسلم بتكذيب من تقدم من الأمم لأنبيائهم وما آل إليه أمرهم من الإهلاك إثر التكذيب وبعد الإمهال ، وأمره أن ينادي الناس ويخبرهم أنه نذير لهم بعد أن استعجلوا بالعذاب ، وأنه ليس له تقديم العذاب ولا تأخيره ، ذكر له تعالى مسلاة ثانية باعتبار من مضى من الرسل والأنبياء وهو أنهم كانوا حريصين على إيمان قومهم متمنين لذلك مثابرين عليه ، وأنه ما منهم أحد إلاّ وكان الشيطان يراغمه بتزيين الكفر لقومه وبث ذلك إليهم وإلقائه في نفوسهم ، كما أنه صلى اللّه عليه وسلم كان من أحرص الناس على هدى قومه وكان فيهم شياطين كالنضر بن الحارث يلقون لقومه وللوافدين عليه شبهاً يثبطون بها عن الإسلام ، ولذلك جاء قبل هذه الآية { وَالَّذِينَ سَعَوْاْ فِىءايَاتِنَا مُعَاجِزِينَ } وسعيهم بإلقاء الشبه في قلوب من استمالوه ، ونسب ذلك إلى الشيطان لأنه هو المغوي والمحرك شياطين الإنس للإغواء كما قال { لاَغْوِيَنَّهُمْ } وقيل : إن { الشَّيْطَانِ } هنا هو جنس يراد به شياطين الإنس . والضمير في { أُمْنِيَّتِهِ } عائد على { الشَّيْطَانِ } أي في أمنية نفسه ، أي بسبب أمنية نفسه . ومفعول { أَلْقَى } محذوف لفهم المعنى وهو الشر والكفر ، ومخالفة ذلك الرسول أو النبيّ لأن الشيطان ليس يلقي الخير . ومعنى { فَيَنسَخُ اللّه مَا يُلْقِى الشَّيْطَانُ } أي يزيل تلك الشبه شيئاً فشيئاً حتى يسلم الناس ، كما قال { وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِى دِينِ اللّه أَفْواجاً } و { يُحْكِمُ اللّه ءايَاتِهِ } أي معجزاته يظهرها محكمة لا لبس فيها { لّيَجْعَلَ مَا يُلْقِى الشَّيْطَانُ } من تلك الشبه وزخارف القول { فِتْنَةً } لمريض القلب ولقاسيه { وَلِيَعْلَمَ } من أوتي العلم أن ما تمنى الرسول والنبيّ من هداية قومه وإيمانهم هو الحق . وهذه الآية ليس فيها إسناد شيء إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، إنما تضمنت حالة من كان قبله من الرسل والأنبياء إذا تمنوا . وذكر المفسرون في كتبهم ابن عطية والزمخشري فمن قبلها ومن بعدهما ما لا يجوز وقوعه من آحاد المؤمنين منسوباً إلى المعصوم صلوات اللّه عليه ، وأطالوا في ذلك وفي تقريره سؤالاً وجواباً وهي قصة سئل عنها الإمام محمد بن إسحاق جامع السيرة النبوية ، فقال : هذا من وضع الزنادقة ، وصنف في ذلك كتاباً . وقال الإمام الحافظ أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي : هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل ، وقال ما معناه : إن رواتها مطعون عليهم وليس في الصحاح ولا في التصانيف الحديثية شيء مما ذكروه فوجب اطّراحه ولذلك نزهت كتابي عن ذكره فيه . والعجب من نقل هذا وهم يتلون في كتاب اللّه تعالى { وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى } وقال اللّه تعالى آمراً لنبيه { قُلْ مَا يَكُونُ لِى أَنْ أُبَدّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِى إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَىَّ } وقال تعالى { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الاْقَاوِيلِ } الآية وقال تعالى :{ وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ } الآية فالتثبيت واقع والمقاربة منفية . وقال تعالى { كَذَلِكَ لِنُثَبّتَ بِهِ فُؤَادَكَ } وقال تعالى :{ سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى } وهذه نصوص تشهد بعصمته ، وأما من جهة المعقول فلا يمكن ذلك لأن تجويزه يطرق إلى تجويزه في جميع الأحكام والشريعة فلا يؤمن فيها التبديل والتغيير ، واستحالة ذلك معلومة . ولنرجع إلى تفسير بعض ألفاظ الآية إذ قد قررنا ما لاح لنا فيها من المعنى فقوله { مِن قَبْلِكَ }{ مِنْ } فيه لابتداء الغاية و { مِنْ } في { مِن رَّسُولٍ } زائدة تفيد استغراق الجنس . وعطف { وَلاَ نَبِىّ } على { مِن رَّسُولٍ } دليل على المغايرة . وقد تقدم لنا الكلام على مدلوليهما فأغنى عن إعادته هنا ، وجاء بعد { إِلا } جملة ظاهرها الشرط وهو { إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ } وقاله الحوفي ، ونصوا على أنه يليها في النفي مضارع لا يشترط فيه شرط ، فتقول : ما زيد إلاّ بفعل كذا ، وما رأيت زيداً إلاّ بفعل كذا ، وماض بشرط أن يتقدمه فعل كقوله { وَمَا يَأْتِيهِم مّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ } أو يكون الماضي مصحوباً بقدر نحو : ما زيد إلاّ قد قام ، وما جاء بعد { إِلا } في الآية جملة شرطية ولم يلها مرض مصحوب بقد ولا عار منها ، فإن صح ما نصوا عليه تؤول على أن إذا جردت للظرفية ولا شرط فيها وفصل بها بين { إِلا } والفعل الذي هو { أُلْقِىَ } وهو فصل جائز فتكون إلاّ قد وليها ماض في التقدير ووجد شرطه وهو تقدم فعل قبل { إِلا } وهو { وَمَا أَرْسَلْنَا } وعاد الضمير في { تمني } مفرداً وذكروا أنه إذا كان العطف بالواو عاد الضمير مطابقاً للمتعاطفين ، وهذا عطف بالواو وما جاء غير مطابق أولوه على الحذف فيكون تأويل هذا { مُّعْرِضُونَ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ }{ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِى أُمْنِيَّتِهِ }{ وَلاَ نَبِىّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِى أُمْنِيَّتِهِ } فحذف من الأول لدلالة الثاني عليه و { تَمَنَّى } تفعل من المنية . قال أبو مسلم : التمني نهاية التقدير ، ومنه المنية وفاة الإنسان للوقت الذي قدره اللّه ، ومنى اللّه لك أي قدر . وقال رواه اللغة : الأمنية القراءة ، واحتجوا ببيت حسان وذلك راجع إلى الأصل الذي ذكر فإن التالي مقدر للحروف فذكرها شيئاً فشيئاً انتهى . وبيت حسان : تمنى كتاب اللّه أول ليلة وآخره لاقى حمام المقادر وقال آخر : تمنى كتاب اللّه أول ليلة تمنى داوود الزبور على رسل وحمل بعض المفسرين قوله { إِذَا تُمْنَى } على تلا و { فِى أُمْنِيَّتِهِ } على تلاوته . والجملة بعد { إِلا } في موضع الحال أي { وَمَا أَرْسَلْنَاهُ } إلاّ ، وحاله هذه . وقيل : الجملة في موضع الصفة وهو قول الزمخشري في نحو : ما مررتَ بأحد إلاّ زيد خير منه ، والصحيح أن الجملة حالية لا صفة لقبولها واو الحال ، ٥٣ليجعل ما يلقي . . . . . واللام في { لِيَجْعَلَ } متعلقة بيحكم قاله الحوفي . و قال ابن عطية : بينسخ . وقال غيرهما : ألقى ، والظاهر أنها للتعليل . وقيل : هي لام العاقبة و { مَا } في { يُلْقِى } الظاهر أنها بمعنى الذي ، وجوز أن تكون مصدرية . والفتنة : الابتلاء والاختبار . والذين في قلوبهم مرض عامة الكفار . وقال الزمخشري : المنافقون والشاكون { وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ } خواص من الكفار عتاة كأبي جهل والنضر وعتبة . وقال الزمخشري : المشركون المكذبون { وَإِنَّ الظَّالِمِينَ } يريد وإن هؤلاء المنافقين والمشركين ، وأصله وإنهم فوضع الظاهر موضع المضمر ، قضاء عليهم بالظلم . والشقاق المشاقة أي في شق غير شق الصلاح ، ووصفه بالبعيد مبالغة في انتهائه وأنهم غير مرجو رجعتهم منه . ٥٤انظر تسفير الآية:٥٥ ٥٥وليعلم الذين أوتوا . . . . . والضمير في : { أَنَّهُ } قال ابن عطية : عائد على القرآن { وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ } أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وقد تقدم من قولنا في الآية ما يعود الضمير إليه { فَتُخْبِتَ } أي تتواضع وتتطامن بخلاف من في قلبه مرض وقسا قلبه . وقرأ الجمهور { لَهَادِ الَّذِينَ ءامَنُواْ } الإضافة ، وأبو حيوة وابن أبي عبلة بتنوين { الهاد} المرية : الشك . والضمير في { الْكِتَابَ مِنْهُ } قيل : عائد على القرآن . وقيل : على الرسول . وقيل : ما ألقى الشيطان ، ولما ذكر حال الكافرين أولاً ثم حال المؤمنين ثانياً عاد إلى شرح حال الكافرين ، والظاهر أن { السَّاعَةَ } يوم القيامة . قيل : واليوم العقيم يوم بدر . وقيل : ساعة موتهم أو قتلهم في الدنيا كيوم بدر ، واليوم العقيم يوم القيامة . وقال الزمخشري : اليوم العقيم يوم بدر ، وإنما وصف يوم الحرب بالعقيم لأن أولاد النساء يقتلون فيه فيصرن كأنهن عقم لم يلدن ، أو لأن المقاتلين يقال لهم أبناء الحرب فإذا قتلوا وصف يوم الحرب بالعقم على سبيل المجاز . وقيل : هو الذي لا خير فيه يقال : ريح عقيم إذا لم تنشىء مطراً ولم تلقح شجراً . وقيل : لا مثل له في عظم أمره لقتال الملائكة فيه . وعن الضحاك : إنه يوم القيامة وإن المراد بالساعة مقدماته ويجوز أن يراد بالساعة و { يَوْمٍ عَقِيمٍ } يوم القيامة كأنه قيل { حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ } أو يأتيهم عذابها فوضع { يَوْمٍ عَقِيمٍ } موضع الضمير انتهى . و قال ابن عطية : وسمى يوم القيامة أو يوم الاستئصال عقيماً لأنه لا ليلة بعده ولا يوم ، والأيام كلها نتائج يجيء واحد أثر واحد ، وكان آخر يوم قد عقم وهذه استعارة ، وجملة هذه الآية توعد انتهى . و { حَتَّى } غاية لاستمرار مريتهم ، فالمعنى { حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ }{أَوْ عَذَابٌ يَوْمٍ عَقِيمٍ } فتزول مريتهم ويشاهدون الأمر عياناً . ٥٦انظر تسفير الآية:٥٩ ٥٧انظر تسفير الآية:٥٩ ٥٨انظر تسفير الآية:٥٩ ٥٩الملك يومئذ للّه . . . . . والتنوين في { يَوْمَئِذٍ } تنوين العوض ، والجملة المعوض منها هذا التنوين هو الذي حذف بعد الغاية أي { الْمَلِكُ } يوم تزول مريتهم وقدره الزمخشري أولاً يوم يؤمنون وهو لازم لزوال المرية ، فإنه إذا زالت المرية آمنوا ، وقدر ثانياً كما قدرنا وهو الأولى . والظاهر أن هذا اليوم هو يوم القيامة من حيث أنه لا ملك فيه لأحد من ملوك الدنيا كما قال تعالى { لّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ } ويساعد هذا التقسيم بعده ، ومن قال إنه يوم بدر ونحوه فمن حيث ينفذ قضاء اللّه وحده ويبطل ما سواه ويمضي حكمه فيمن أراد تعذيبه ، ويكون التقسيم إخباراً متركباً على حالهم في ذلك اليوم العقيم من الإيمان والكفر وألفاظ التقسيم ومعانيها واضحة لا تحتاج إلى شرح . وقابل النعيم بالعذاب ووصفه بالمهين مبالغة فيه . {وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ } الآية هذا ابتداء معنى آخر ، وذلك أنه لما مات عثمان بن مظعون وأبو سلمة بن عبد الأسد قال بعض الناس : من قتل من المهاجرين أفضل ممن مات حتف أنفه ، فنزلت مسوِّية بينهم في أن اللّه يرزقهم { رِزْقًا حَسَنًا } وظاهر { وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ } العموم . وقال مجاهد : نزلت في طوائف خرجوا من مكة إلى المدينة للّهجرة فتبعهم المشركون وقاتلوهم . وروي أن طوائف من الصحابة قالوا : يا نبيّ اللّه هؤلاء الذين قتلوا قد علمنا ما أعطاهم اللّه من الخير ونحن نجاهد معك كما جاهدوا ، فما لنا إن متنا معك ؟ فأنزل اللّه هاتين الآيتين . وقال الزمخشري : لما جمعتهم المهاجرة في سبيل اللّه سوّى بينهم في الموعد أن يعطي من مات منهم مثل ما يعطي من قتل فضلاً منه وإحساناً واللّه عليم بدرجات العاملين ومراتب استحقاقهم ، حليم عن تفريط المفرط منهم بفضله وكرمه انتهى . وفي قوله : ومراتب استحقاقهم دسيسة الاعتزال ، والتسوية في الوعد بالرزق لا تدل على تفضيل في قدر المعطى ، ولا تسوية فإن يكن تفضيل فمن دليل آخر وظاهر الشريعة أن المقتول أفضل . وقيل : المقتول والميت في سبيل اللّه شهيدان . والرزق الحسن يحتمل أن يراد به رزق الشهداء في البرزخ ، ويحتمل أنه بعد يوم القيامة في الجنة وهو النعيم فيها . وقال الكلبي : هو الغنيمة . وقال الأصلم : هو العلم والفهم كقول شعيب { وَرَزَقَنِى مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا } وضعف هذان القولان لأنه تعالى جعل الرزق الحسن جزاء على قتلهم في سبيل اللّهأو موتهم بعد هجرتهم ، وبعد ذلك لا يكون الرزق في الدنيا . والظاهر أن { خَيْرُ الرَّازِقِينَ } أفعل تفضيل ، والتفاوت أنه تعالى مختص بأن يرزق بما لا يقدر عليه غيره تعالى ، وبأنه الأصل في الرزق وغيره إنما يرزق بماله من الرزق من جهة اللّه . ولما ذكر الرزق ذكر المسكن فقال { لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ } وهو الجنة يرضونه يختارونه إذ فيه رضاهم كما قال { لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً } وتقدم الخلاف في القراءة بضم الميم أو فتحها في النساء ، والأولى أن يكون يراد بالمدخل مكان الدخول أو مكان الإدخال ، ويحتمل أن يكون مصدراً . ٦٠ذلك ومن عاقب . . . . . {وَذَلِكَ ومِنْ عَاقَبَ } الآية قيل : نزلت في قوم من المؤمنين لقيهم كفار في الأشهر الحرم فأبى المؤمنون من قتالهم وأبى المشركون إلاّ القتال ، فلما اقتتلوا جدّ المؤمنون ونصرهم اللّه . ومناسبتها لما قبلها واضحة وهو أنه تعالى لما ذكر ثواب من هاجر وقتل أو مات في سبيل اللّه أخبر أنه لا يدع نصرتهم في الدنيا على من بغى عليهم . وقال ابن جريج : الآية في المشركين بغوا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأخرجوه والتقدير الأمر ذلك . قال الزمخشري : تسمية الابتداء بالجزاء لملابسته له من حيث أنه سبب وذلك مسبب عنه كما يجملون النظير على النظير والنقيض على النقيض للملابسة فإن قلت : كيف طابق ذكر العفو الغفور هذا الموضع قلت : المعاقب مبعوث من جهة اللّه عز وجل على الإخلال بالعقاب ، والعفو عن الجاني على طريق التنزيه لا التحريم ومندوب إليه ومستوجب عند اللّه المدح إن آثر ما ندب إليه وسلك سبيل التنزيه ، فحين لم يؤثر ذلك وانتصر وعاقب ولم ينظر في قول { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللّه }{ وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى }{ وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الاْمُورِ } فإن { اللّه لَعَفُوٌّ غَفُورٌ } أي لا يلومه على ترك ما بعثه عليه وهو ضامن لنصره في كرته الثانية من إخلاله بالعفو وانتقامه من الباغي عليه ، ويجوز أن يضمن له النصر على الباغي فيعرض مع ذلك بما كان أولى به من العفو ، ويلوح به ذكر هاتين الصفتين أو دل بذكر العفو والمغفرة على نه قادر على العقوبة لأنه لا يوصف بالعفو إلاّ القادر على حده ذلك ، أي ذلك النصر بسبب أنه قادر . ٦١ذلك بأن اللّه . . . . . ومن آيات قدرته البالغة أنه { يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ } و { النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ } أو بسبب أنه خالق الليل والنهار ومصرفهما فلا يخفى عليه ما يجري فيهما على أيدي عباده من الخير والشر والبغي والانتصار . وأنه { سَمِيعُ } لما يقولون { بَصِيرٌ } بما يفعلون وتقدم في أوائل آل عمران شرح هذا الإيلاج . ٦٢ذلك بأن اللّه . . . . . {ذالِكَ } أي ذلك الوصف بخلق الليل والنهار والإحاطة بما يجري فيهما وإدراك كل قول وفعل بسبب { إِنَّ اللّه }{ الْحَقّ } الثابت الإلهية وأن كل ما يدعى إلهاً دونه باطل الدعوة ، وأنه لا شيء أعلى منه شأناً وأكبر سلطاناً . وقرأ الجمهور { وَإِن مَّا } بفتح الهمزة . وقرأ الحسن بكسرها . وقرأ الإخوان وأبو عمرو وحفص { يَدَّعُونَ } بياء الغيبة هنا في لقمان . وقرأ باقي السبعة بتاء الخطاب وكلاهما الفعل فيه مبني للفاعل . وقرأ مجاهد واليماني وموسى الأسواري يدعو بالياء مبنياً للمفعول والواو عائدة على ما على معناها و { مَا } الظاهر أنها أصنامهم . وقيل : الشياطين والأولى العموم في كل مدعو دون اللّه تعالى . ٦٣ألم تر أن . . . . . لما ذكر تعالى ما دل على قدرته الباهرة من إيلاج الليل في النهار والنهار في الليل وهما أمران مشاهدان مجيء الظلمة والنور ، ذكر أيضاً ما هو مشاهد من العالم العلوي والعالم السفلي ، وهو نزول المطر وإنبات الأرض وإنزال المطر واخضرار الأرض مرئيان ، ونسبة الإنزال إلى اللّه تعالى مدرك بالعقل . وقال أبو عبد اللّه الرازي : الماء وإن كان مرئياً إلاّ أن كون اللّه منزله من السماء غير مرئي إذا ثبت هذا وجب حمله على العلم ، لأن المقصود من تلك الرؤية إذا لم يقترن بها العلم كانت كأنها لم تحصل . وقال الزمخشري : فإن قلت : هلا قيل فأصبحت ولم صرف إلى لفظ المضارع ؟ قلت : لنكتة فيه وهي إفادة بقاء أثرر المطر زماناً بعد مان . كما تقول أنعم عليّ فلان عام كذا ، فأروح وأغذو شاكراً له . ولو قلت فرحت وغدوت لم يقع ذلك الموقع . فإن قلت : فما باله رفع ولم ينصب جواباً للاستفهام ؟ قلت : لو نصب لأعطى ما هو عكس الغرض ، لأن معناه إثبات الاخضرار فينقلب بالنصب إلى نفي الاخضرار مثاله أن تقول لصاحبك : ألم تر أني أنعمت عليك فتشكر إن نصبته فأنت ناف لشكره شاك تفريطه ، وإن رفعته فأنتم ثبت للشكر هذا وأمثاله مما يجب أن يرغب له من اتسم بالعلم في علم الإعراب وتوقير أهله . و قال ابن عطية : وقوله { فَتُصْبِحُ الاْرْضُ } بمنزلة قوله فتضحى أو تصير عبارة عن استعجالها أثر نزول الماء واستمرارها كذلك عادة ووقع قوله { فَتُصْبِحُ } من حيث الآية خبراً ، والفاء عاطفة وليست بجواب لأن كونها جواباً لقوله { أَلَمْ تَرَ } فاسد المعنى انتهى . ولم يبين هو ولا الزمخشري كيف يكون النصب نافياً للاخضرار ، ولا كون المعنى فاسداً . وقال سيبويه : وسألته يعني الخليل عن { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّه أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَتُصْبِحُ الاْرْضُ مُخْضَرَّةً } فقال : هذا واجب وهو تنبيه . كأنك قلت : أتسمع { أَنزَلَ اللّه مِنَ السَّمَاء مَاء } فكان كذا وكذا . قال ابن خروف ، وقوله فقال هذا واجب ، وقوله فكان كذا يريد أنهما ماضيان ، وفسر الكلام بأتسمع ليريك أنه لا يتصل بالاستفهام لضعف حكم الاستفهام فيه ، ووقع في الشرقية عوض أتسمع انتبه انتهى . ومعنى في الشرقية في النسخة الشرقية من كتاب سيبويه . وقال بعض شراح الكتاب { فَتُصْبِحُ } لا يمكن نصبه لأن الكلام واجب ألا ترى أن المعنى { أَنَّ اللّه أَنزَلَ } فالأرض هذا حالها . وقال الفراء { أَلَمْ تَرَ } خبر كما تقول في الكلام اعلم أن اللّه يفعل كذا فيكون كذا انتهى . ويقول إنما امتنع النصب جواباً للاستفهام هنا لأن النفي إذا دخل عليه الاستفهام وإن كان يقتضي تقريراً في بعض الكلام هو معامل معاملة النفي المحض في الجواب ألا ترى إلى قوله { أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بَلَى } وكذلك في الجواب بالفاء إذا أجبت النفي كان على معنيين في كل منهما ينتفي الجواب ، فإذا قلت : ما تأتينا فتحدثنا بالنصب ، فالمعنى ما تأتينا محدثاً إنما يأتي ولا يحدث ، ويجوز أن يكون المعنى إنك لا تأتي فكيف تحدث ، فالحديث منتف في الحالتين والتقرير بأداة الاستفهام كالنفي المحض في الجواب يثبت ما دخلته الهمزة ، وينتفي الجواب فيلزم من هذا الذي قررناه إثبات الرؤية وانتفاء الاخضرار وهو خلاف المقصود . وأيضاً فإن جواب الاستفهام ينعقد منه مع الاستفهام السابق شرط وجزاء فقوله : ألم تسأل فتخبرك الرسوم يتقدر أن تسأل فتخبرك الرسوم ، وهنا لا يتقدر أن ترى إنزال المطر تصبح الأرض مخضرة لأن اخضرارها ليس مترتباً على علمك أو رؤيتك ، إنما هو مترتب على الإنزال ، وإنما عبر بالمضارع لأن فيه تصويراً للّهيئة التي الأرض عليها ، والحالة التي لابست الأرض ، والماضي يفيد انقطاع الشيء وهذا كقول جحدر بن معونة العكلي ، يصف حاله مع أشد نازلة في قصة جرت له مع الحجاج بن يوسف : يسمو بناظرتين تحسب فيهما لما أجالهما شعاع سراج لما نزلت بحصن أزبر مهصر للقرن أرواح العدا محاج فأكرأ حمل وهو يقعي باسته فإذا يعود فراجع أدراجي وعلمت أني إن أبيت نزاله أني من الحجاج لست بناجي فقوله : فأكر تصوير للحالة التي لابسها . والظاهر تعقب اخضرار الأرض إنزال المطر وذلك موجود بمكة وتهامة فقط قاله عكرمة وأخذ تصبح على حقيقتها أي : تصبح ، من ليلة المطر . وذهب إلى أن الاخضرار في غير مكة وتهامة يتأخر . و قال ابن عطية : وقد شاهدت هذا في السوس الأقصى نزل المطر ليلاً بعد قحط فأصبحت تلك الأرض الرملة التي قد نسفتها الرياح قد اخضرّت بنبات ضعف انتهى . وإذا جعلنا { فَتُصْبِحُ } بمعنى فتصير لا يلزم أن يكون ذلك الاخضرار في وقت الصباح ، وإذا كان الاخضرار متأخراً عن إنزال المطر فثم جمل محذوفة التقدير ، فتهتز وتربو فتصبح يبين ذلك قوله تعالى { فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ} وقرىء { مُخْضَرَّةً } على وزن مفعلة ومسبعة أي ذات خضر ، وخص تصبح دون سائر أوقات النهاى لأن رؤية الأشياء المحبوبة أول النهار أبهج وأسر للرائي . {إِنَّ اللّه لَطِيفٌ } أي باستخراج النبات من الأرض بالماء الذي أنزله { خيبر } بما يحدث عن ذلك النبت من الحب وغيره . وقيل { تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } بلطيف التدبير { خَبِيرٌ } بالصنع الكثير . وقيل :{ خَبِيرٌ } بمقادير مصالح عباده فيفعل على قدر ذلك من غير زيادة ولا نقصان . وقال ابن عباس { لَطِيفٌ } بأرزاق عباده { خيبر } بما في قلوبهم من القنوط . وقال الكلبي { اللّه لَطِيفٌ } بأفعاله { خَبِيرٌ } بأعمال خلقه . وقال الزمخشري { لَطِيفٌ } وأصل علمه أو فضله إلى كل شيء { خَبِيرٌ } بمصالح الخلق ومنافعهم . و قال ابن عطية : واللطيف المحكم للأمور برفق . ٦٤انظر تسفير الآية:٦٥ ٦٥له ما في . . . . . {مَّا فِى الاْرْضِ } يشمل الحيوان والمعادن والمرافق . وقرأ الجمهور { وَالْفُلْكِ } بالنصب وضم اللام ابن مقسم والكسائي عن الحسن ، وانتصب عطفاً على { مَا } ونبه عليها وإن كانت مندرجة في عموم ما تنبيهاً على غرابة تسخيرها وكثرة منافعها ، وهذا هو الظاهر . وجوز أن يكون معطوفاً على الجلالة بتقدير وأن { الْفُلْكِ } وهو إعراب بعيد عن الفصاحة و { تَجْرِى } حال على الإعراب الظاهر . وفي موضع الجر على الإعراب الثاني . وقرأ السلمي والأعرج وطلحة وأبو حيوة والزعفراني بضم الكاف مبتدأ وخبر ، ومن أجاز العطف على موضع اسم إن أجازه هنا فيكون { تَجْرِى } حالاً . والظاهر أن { ءانٍ } تقع في موضع نصب بدل اشتمال ، أي ويمنع وقوع السماء على الأرض . وقيل هو مفعول من أجله يقدره البصريون كراهة { أَن تَقَعَ } والكوفيون لأن لا تقع . وقوله { إِلاَّ بِإِذْنِهِ } أي يوم القيامة كأن طي السماء بعض هذه الهيئة لوقوعها ، ويجوز أن يكون ذلك وعيداً لهم في أنه إن أذن في سقوطها كسفاً عليكم سقطت كما في قولهم : أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً{ وَإِلاَّ بِإِذْنِهِ } متعلق بأن تقع أي { إِلاَّ بِإِذْنِهِ } فتقع . و قال ابن عطية : ويحتمل أن يعود قوله { إِلاَّ بِإِذْنِهِ } على الإمساك لأن الكلام يقتضي بغير عمد ونحوه ، فكأنه أراد إلاّ بإذنه فيها يمسكها انتهى . ولو كان على ما قاله ابن عطية لكان التركيب بإذنه دون أداة الاستثناء أي يكون التقدير ويمسك السماء بإذنه . ٦٦وهو الذي أحياكم . . . . . {وَهُوَ الَّذِى أَحْيَاكُمْ } أي بعد أن كنتم جماداً تراباً ونطفة وعلقة ومضغة وهي الموتة الأولى المذكورة في قوله تعالى { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّه وَكُنتُمْ أَمْواتًا فَأَحْيَاكُمْ } و { الإِنسَانَ} قال ابن عباس : هو الكافر . وقال أيضاً : هو الأسود بن عبد الأسد وأبو جهل وأبيّ بن خلف . وهذا على طريق التمثيل .{ لَكَفُورٌ } لجحود لنعم اللّه ، يعبد غير من أنعم عليه بهذه النعم المذكورة وبغيرها . ٦٧لكل أمة جعلنا . . . . . و { لّكُلّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً } روي أنها نزلت بسبب جدال الكفار بديل بن ورقاء وبشر بن سفيان الخزاعيين وغيرهما في الذبائح وقولهم للمؤمنين : تأكلون ما ذبحتم وهو من قتلكم ، ولا تأكلون ما قتل اللّه فنزلت بسبب هذه المنازعة . وقال ابن عطية { هُمْ نَاسِكُوهُ } يعطى أن المنسك المصدر ولو كان الموضع لقال هم ناسكون فيه انتهى . ولا يتعين ما قال إذ قد يتسع في معمول اسم الفاعل كما يتسع في معمول الفعل فهو موضع اتسع فيه فأجرى مجرى المفعول به على السعة ، ومن الاتساع في ظرف المكان قوله : ومشرب شربه رسيل لا آجن الماء ولا وبيل مشرب مكان الشرب عاد عليه الضمير ، وكان أصله أشرب فيه فاتسع فيه فتعدى الفعل إلى ضميره ومن الاتساع سير بزيد فرسخان . وقرىء { فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ } بالنون الخفيفة أي أثبت على دينك ثباتاً لا يطمعون أن يجذبوك ، ومثله { وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ ءايَاتِ اللّه } وهذا النهي لهم عن المنازعة من باب لا أرينك ههنا ، والمعنى فلا بد لهم بمنازعتك فينازعوك . وقرأ أبو مجلز { فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ } من النزع بمعنى فلا يقلعنك فيحملونك من دينك إلى أديانهم من نزعته من كذا و { الاْمْرُ } هنا الدين ، وما جئت به وعلى ما روي في سبب النزول يكون { فِى الاْمْرِ } بمعنى في الذبح { لَّعَلّى هُدًى } أي إرشاد . وجاء { وَلِكُلّ أُمَّةٍ } بالواو وهنا { لِكُلّ أُمَّةٍ } لأن تلك وقعت مع ما يدانيها ويناسبها من الآي الورادة في أمر النسائك فعطفت على أخواتها ، وأما هذه فواقعة مع أباعد عن معناها فلم تجد معطفاً قاله الزمخشري . ٦٨وإن جادلوك فقل . . . . . {وَإِن جَادَلُوكَ } آية موادعة نسختها آية السيف أي وإن أبوا للجاجهم إلاّ المجادلة بعد اجتهادك أن لا يكون بينك وبينهم تنازع فادفعهم بأن اللّه أعلم بأعمالكم وبقبحها وبما تستحقون عليها من الجزاء ، وهذا وعيد وإنذار ولكن برفق ولين ٦٩اللّه يحكم بينكم . . . . . {اللّه يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ } خطاب من اللّه للمؤمنين والكافرين أي يفصل بينكم بالثواب والعقاب ، ومسلاة لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بما كان يلقى منهم . {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّه يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاء وَالاْرْضِ إِنَّ ذالِكَ فِى كِتَابٍ إِنَّ ذالِكَ عَلَى اللّه يَسِيرٌ وَيَعْبُدُونَ} ٧٠انظر تسفير الآية:٧١ ٧١ألم تعلم أن . . . . . لما تقدم ذكر الفصل بين الكفار والمؤمنين يوم القيامة أعقب تعالى أنه عالم بجميع { مَا فِى السَّمَاء وَالاْرْضِ } فلا تخفى عليه أعمالكم و { إِنَّ ذالِكَ فِى كِتَابٍ } قيل : هو أم الكتاب الذي كتبه اللّه قبل خلق السموات والأرض ، كتب فيه ما هو كائن إلى يوم القيامة . وقيل : الكتاب اللوح المحفوظ . والإشارة بقوله { إِنَّ ذالِكَ عَلَى اللّه يَسِيرٌ } قيل : إلى الحكم السابق ، والظاهر أنه إشارة إلى حصر المخلوقات تحت علمه وإحاطته . وقال الزمخشري : ومعلوم عند العلماء باللّه أنه يعلم كل ما يحدث في السموات والأرض وقد كتبه في اللوح قبل حدوثه ، والإحاط بذلك وإثباته وحفظه عليه يسير لأن العالم الذات لا يتعذر عليه ولا يمتنع تعلق بمعلوم انتهى . وفي قوله لأن العالم الذات فيه دسيسة الاعتزال لأن من مذهبهم نفي الصفات فهو عالم لذاته لا يعلم عندهم . {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّه مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطَاناً } أي حجة وبرهاناً سماوياً من جهة الوحي والسمع { وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ } أي دليل عقلي ضروري أو غيره .{ وَمَا لِلظَّالِمِينَ } أي المجاوزين الحد في عبادة ما لا يمكن عبادته { مِن نَّصِيرٍ } ينصرهم فيما ذهبوا إليه أو إذا حل بهم العذاب . ٧٢وإذا تتلى عليهم . . . . . {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءايَاتُنَا } أي يتلوه الرسول أو غيره { ءايَاتِنَا } الواضحة في رفض آلهتهم ودعائهم إلى توحيد اللّه وعبادته { تَعْرِفُ فِى وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ } أي الذين ستروا الحق وغطوه وهو واضح بين والمنكر مصدر بمعنى الإنكار . ونبه على موجب المنكر وهو الكفر وناب الظاهر مناب المضمر كأنه قيل : تعرف في وجوههم لكنه نبه على العلة الموجبة لظهور المنكر في وجوههم ، والمنكر المساءة والتجهم والبسور والبطش الدال ذلك كله على سوء المعتقد وخبث السريرة ، لأن الوجه يظهر فيه الترح والفرح اللذان محلهما القلب . {يَكَادُونَ يَسْطُونَ } أي هم دهرهم بهذه الصفة فهم يقاربون ذلك طول زمانهم ، وإن كان قد وقع منهم سطو ببعض الصحابة في شاذ من الأوقات . قال ابن عباس :{ يَسْطُونَ } يبسطون إليهم . وقال محمد بن كعب : يقعون بهم . وقال الضحاك : يأخذونهم أخذاً باليد والمعنى واحد . وقرأ عيسى بن عمر يعرف مبنياً للمفعول المنكر ووقع { قُلْ } هل أنبئكم { بِشَرّ مّن ذالِكُمُ } وعيد وتقريع والإشارة إلى غيظهم على التالين وسطوهم عليهم ، أو إلى ما أصابهم من الكراهة والبسور بسبب ما تلي عليهم . وقرأ الجمهور { النَّارِ } رفعاً على إضمار مبتدأ كأن قائلاً يقول قال : وما هو ؟ قال : النار ، أي نار جهنم . وأجاز الزمخشري أن تكون { النَّارِ } مبتدأ و { وَعَدَهَا } الخبر وأن يكون { وَعَدَهَا } حالاً على الإعراب الأول ، وأن تكون جملة إخبار مستأنفة وأجيز أن تكون خبراً بعد خبر ، وذلك في الإعراب الأول ، وروي أنهم قالوا : محمد وأصحابه شر خلق فقال اللّه قل لهم يا محمد { أَفَأُنَبّئُكُم بِشَرّ } ممن ذكرتم على زعمكم أهل النار فهم أنتم خشر خلق اللّه . وقرأ ابن أبي عبلة وإبراهيم بن يوسف عن الأعشى وزيد بن علي { النَّارِ } بالنصب . قال الزمخشري : على الاختصاص ومن أجاز في الرفع أن تكون { النَّارِ } مبتدأ فقياسه أن يجيز في النصب أن يكون من باب الاشتغال . وقرأ ابن أبي إسحاق وإبراهيم بن نوح عن قتيبة { النَّارِ } بالجر على البدل من { شَرُّ } والظاهر أن الضمير في { وَعَدَهَا } هو المفعول الأول على أنه تعالى وعد النار بالكفار أن يطعمها إياهم ، ألا ترى إلى قولها هل من مريد ، ويجوز أن يكون الضمير هو المفعول الثاني { وَالَّذِينَ كَفَرُواْ } هو الأول كما قال { وَعَدَ اللّه الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ} ٧٣يا أيها الناس . . . . . لما ذكر تعالى أن الكفار يعبدون ما لا دليل على عبادته لا من سمع ولا من عقل ويتركون عبادة من خلقهم ، ذكر ما عليه معبوداتهم من انتفاء القدرة على خلق أقل الأشياء بل على ردّ ما أخذه ذلك الأقل منه ، وفي ذلك تجهيل عظيم لهم حيث عبدوا من هذه صفته لقوله { إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ } بتاء الخطاب . وقيل : خطاب للمؤمنين أراد اللّه أن يبين لهم خطأ الكافرين فيكون { تَدْعُونَ } خطاباً لغيرهم الكفار عابدي غير اللّه . وقيل : الخطاب عام يشمل من نظر في أمر عبادة غير اللّه ، فإنه يظهر له قبح ذلك . و { ضُرِبَ } مبني للمفعول ، والظاهر أن ضارب المثل هو اللّه تعالى ، ضرب مثلاً لما يعبد من دونه أي بين شبهاً لكم ولمعبودكم . وقيل : ضارب المثل هم الكفار ، جعلوا مثلاً للّه تعالى أصنامهم وأوثانهم أي فاسمعوا أنتم أيها الناس لحال هذا المثل ونحوه ما قال الأخفش قال : ليس ههنا { مَثَلُ } وإنما المعنى جعل الكفار للّه مثلاً . وقيل : هو { مَثَلُ } من حيث المعنى لأنه { ضُرِبَ مَثَلٌ } من يعبد الأصنام بمن يعبد ما لا يخلق ذباباً . وقال الزمخشري : فإن قلت : الذي جاء به ليس بمثل فكيف سماه مثلاً ؟ قلت : قد سميت الصفة أو القصة الرائقة المتلقاة بالاستحسان والاستغراب مثلاً تشبيهاً لها ببعض الأمثال المسيرة لكونها مستحسنة مستغربة عندهم انتهى . وقرأ الجمهور { تَدْعُونَ } بالتاء . وقرأ الحسن ويعقوب وهارون والخفاف ومحبوب عن أبي عمرو بالياء وكلاهما مبني للفاعل . وقرأ اليماني وموسى الأسواري بالياء من أسفل مبنياً للمفعول . وقال الزمخشري { لَنْ } أخت لا في نفي المستقبل إلاّ أن تنفيه نفياً مؤكداً ، وتأكيده هنا الدلالة على أن خلق الذباب منهم مستحيل مناف لأحوالهم كأنه قال : محال أن يخلقوا انتهى . وهذا القول الذي قاله في { لَنْ } هو المنقول عنه أن { لَنْ } للنفي على التأييد ، ألا تراه فسر ذلك بالاستحالة وغيره من النحاة يجعل { لَنْ } مثل لا في النفي ألا ترى إلى قوله { أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } كيف جاء النفي بلا وهو الصحيح ، والاستدلال عليه مذكور في النحو . وبدأ تعالى بنفي اختراعهم وخلقهم أقل المخلوقات من حيث أن الاختراع صفة له تعالى ثابتة مختصة لا يشركه فيها أحد ، وثنى بالأمر الذي بلغ بهم غاية التعجيز وهو أمر سلب { الذُّبَابُ } وعدم استنقاذ شيء مما { يَسْلُبْهُمُ } وكان الذباب كثيراً عند العرب ، وكانوا يضمخون أوثانهم بأنواع الطيب فكان الذباب يذهب بذلك . وعن ابن عباس : كانوا يطلونها بالزعفران ورؤوسها بالعسل ويغلقون عليها فيدخل الذباب من الكوى فيأكله . وموضع { وَلَوِ اجْتَمَعُواْ لَهُ } قال الزمخشري : نصب على الحال كأنه قال مستحيل : أن يخلقوا الذباب مشروطاً عليهم اجتماعهم جميعاً لخلقه ، وتعاونهم عليه انتهى . وتقدم لنا الكلام على نظير { وَلَوْ } هذه ، وتقرر أن الواو فيه للعطف على حال محذوفة ، كأنه قيل { لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً } على كل حال ولو في هذه الحال التي كانت تقتضي أن يخلقوا لأجل اجتماعهم ، ولكنه ليس في مقدورهم ذلك . {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ } قال ابن عباس : الصنم والذباب ، أي ينبغي أن يكون الضم طالباً لما سلب من طيبهم على معهود الأنفة في الحيوان . وقيل { المطلوب } الآلهة و { ضَعُفَ الطَّالِبُ } الذباب فضعف الآلهة أن لا منعة لهم ، وضعف الذباب في استلابه ما على الآلهة . وقال الضحاك : العابد والمعبود فضعف العابد في طلبهم الخير من غير جهته ، وضعف المعبود في إيصال ذلك لعابده . وقال الزمخشري : وقوله { ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} . وقيل : معناه التعجب أي ما أضعف الطالب والمطلوب . ٧٤ما قدروا اللّه . . . . . {مَا قَدَرُواْ اللّه حَقَّ قَدْرِهِ } أي ما عرفوه حق معرفته منافيتين لصفات آلهتهم من القوة والغلبة حيث عبدوا من هو منسلخ عن صفاته وسموه باسمه ، ولم يؤهلوا خالقهم للعبادة ثم ختم بصفتين منافيتين لصفات آلهتهم من القوة والغلبة ٧٥اللّه يصطفي من . . . . . {اللّه يَصْطَفِى } الآية نزلت بسبب قول الوليد بن المغيرة { عَلَيْهِ الذّكْرُ مِن بَيْنِنَا بْل } الآية ، وأنكروا أن يكون الرسول من البشر فرد اللّه عليهم بأن رسله ملائكة وبشر ، ٧٦يعلم ما بين . . . . . ثم ذكر أنه عالم بأحوال المكلفين لا يخفى عليه منهم شيء وإليه مرجع الأمور كلها . ٧٧انظر تسفير الآية:٧٨ ٧٨يا أيها الذين . . . . . ولما ذكر تعالى أنه اصطفى رسلاً من البشر إلى الخلق أمرهم بإقامة ما جاءت به الرسل من التكاليف وهو الصلاة قيل : كان الناس أول ما أسلموا يسجدون بلا ركوع ويرجعون بلا سجود ، فأمروا أن تكون صلاتهم بكوع وسجود واتفقوا على مشروعية السجود في آخر آية { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّه يَسْجُدُ لَهُ } وأما في هذه الآية فمذهب مالك وأبي حنيفة أنه لا يسجد فيها ، ومذهب الشافعي وأحمد أنه يسجد فيها وبه قال عمر وابنه عبد اللّه وعثمان وأبو الدرداء وأبو موسى وابن عباس { وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ } أي افردوه بالعبادة { وَافْعَلُواْ الْخَيْرَ } قال ابن عباس : صلة الأرحام ومكارم الأخلاق ، ويظهر في هذا الترتيب أنهم أمروا أولاً بالصلاة وهي نوع من العبادة ، وثانياً بالعبادة وهي نوع من فعل الخير ، وثالثاً بفعل الخير وهو أعم من العبادة فبدأ بخاص ثم بعام ثم بأعم . {وَجَاهِدُوا فِى اللّه} أمر بالجهاد في دين اللّه وإعزاز كلمته يشمل جهاد الكفار والمبتدعة وجهاد النفس . وقيل : أمر بجهاد الكفار خاصة { حَقَّ جِهَادِهِ } أي استفرغوا جهدكم وطاقتكم في ذلك ، وأضاف الجهاد إليه تعالى لما كان مختصاً باللّه من حيث هو مفعول لوجهه ومن أجله ، فالإضافة تكون بأدنى ملابسة . قال الزمخشري : ويجوز أن يتسع في الظرف كقوله : ويوم شهدناه سليماً وعامراً انتهى . يعني بالظرف الجار والمجرور ، كأنه كان الأصل حق جهاد فيه فاتسع بأن حذف حرف الجر وأضيف جهاد إلى الضمير . و { حَقَّ جِهَادِهِ } من باب هو حق عالم وجد عالم أي عالم حقاً وعالم جداً . وعن مجاهد والكلبي أنه منسوخ بقوله { فَاتَّقُواْ اللّه مَا اسْتَطَعْتُمْ} {هُوَ اجْتَبَاكُمْ } أي اختاركم لتحمل تكليفاته وفي قوله { هُوَ } تفخيم واختصاص ، أي هو لا غيره .{ مِنْ حَرَجٍ } من تضييق بل هي حنيفية سمحة ليس فيها تشديد بني إسرائيل بل شرع فيها التوبة والكفارات والرخص . وانتصب { مّلَّةَ أَبِيكُمْ } بفعل محذوف ، وقدره ابن عطية جعلها { مِلَّةَ } وقال الزمخشري : نصب الملة بمضمون ما تقدّمها كأنه قيل وسع دينكم توسعة ملة أبيكم ، ثم حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه أو على الاختصاص أي أعني بالدين { مّلَّةَ أَبِيكُمْ } كقوله : الحمد للّه الحميد ، وقال الحوفي وأبو البقاء : اتبعوا ملة إبراهيم . وقال الفراء : هو نصب على تقدير حذف الكاف ، كأنه قيل كلمة { أَبِيكُمْ } بالإضافة إلى أبيه الرسول ، وأمة الرسول في حكم أولاده فصارا بالأمته بهذه الوساطة . وقيل : لما كان أكثرهم من ولده كالرسول ورهطه وجميع العرب طلب الأكثر فأضيف إليهم . وجاء قوله { مِلَّةَ }{ إِبْرَاهِيمَ } باعتبار عبادة اللّه وترك الأوثان وهو المسوق له الآيات المتقدمة ، فلا يدل ذلك على الاتباع في تفاصيل الشرائع . والظاهر أن الضمير في { هُوَ سَمَّاكُمُ } عائد على { إِبْرَاهِيمَ } وهو أقرب مذكور ولكل نبيّ دعوة مستجابة ودعا إبراهيم فقال { رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ } فاستجاب اللّه له فجعلها أمة محمد عليه الصلاة والسلام ، وقاله ابن زيد والحسن . وقيل : يعود { هُوَ } إلى اللّه وهو قول ابن عباس وقتادة ومجاهد والضحاك . وعن ابن عباس : إن اللّه { سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ } أي في كل الكتب { وَفِى هَاذَا } أي القرآن ، ويدل على أن الضمير للّه قراءة أبيّ اللّه سماكم . قال ابن عطية : وهذه اللفظة يعني قوله { وَفِى هَاذَا } تضعيف قول من قال الضمير لإبراهيم ، ولا يتوجه إلاّ على تقدير محذوف من الكلام مستأنف انتهى . وتقدير المحذوف وسميتم في هذا القرآن المسلمين ، والمعنى أنه فضلكم على الأمم وسماكم بهذا الاسم . {لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ } أنه قد بلغكم { وَتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ } بأن الرسل قد بلغتهم ، وإذ قد خصكم بهذه الكرامة والأثرة فاعبدوه وثقوا به ولا تطلبوا النصرة والولاية إلاّ منه فهو خير مولى وناصر . وعن قتادة أعطيت هذه الأمة ما لم يعطه إلاّ نبي . قيل للنبي : أنت شهيد على أمتك . وقيل له : ليس عليك حرج . وقيل له : سل تعط . وقيل : لهذه الأمة :{ وَتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ } وقيل لهم { مَّا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدّينِ مِنْ حَرَجٍ } وقيل لهم { ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ }{ وَاعْتَصِمُواْ } قال ابن عباس سلوا ربكم أن يعصمكم من كل ما يكره . وقال الحسن تمسكوا بدين اللّه . |
﴿ ٠ ﴾