سورة النور

مدنية

بسم اللّه الرحمن الرحيم

١

سورة أنزلناها وفرضناها . . . . .

هذه السورة مدنية بلا خلاف ، ولما ذكر تعالي مشركي قريش ولهم أعمال من دون ذلك أي أعمال سيئة هم لها عاملون ، واستطرد بعد ذلك إلى أحوالهم ، واتخاذهم الولد والشريك ، وإلى مآلهم في النار كان من أعمالهم السيئة أنه كان لهم جوار بغايا يستحسنون عليهن ويأكلون من كسبهم من الزنا ، فأنزل اللّه أول هذه السورة تغليظاً في أمر الزنا وكان فيما ذكر وكأنه لا يصح ناس من المسلمين هموا بنكاحهن .

وقرأ الجمهور { سُورَةٌ } بالرفع فجوّزوا أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هذه { سُورَةٌ } أو مبتدأ محذوف الخبر ، أي فيما أوحينا إليك أو فيما يتلى عليكم . و

قال ابن عطية : ويجوز أن يكون مبتدأ أو الخبر { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى } وما بعد ذلك ، والمعنى السورة المنزلة والمفروضة كذا وكذا إذ السورة عبارة عن آيات مسرودة لها بدء وختم إلاّ أن يكون المبتدأ ليس بالبين أنه الخبر إلاّ أن يقدر الخبر في السورة كلها وهذا بعيد في القياس و { أَنزَلْنَاهَا } في هذه الأعاريب في موضع الصفة انتهى .

وقرأ عمر بن عبد العزيز ومجاهد وعيسى بن عمر الثقفي البصري وعيسى بن عمر الهمداني الكوفي وابن أبي عبلة وأبو حيوة ومحبوب عن أبي عمرو وأمَّ الدرداء { سُورَةٌ } بالنصب فخرج على إضمار فعل أي أتلو سورة و { أَنزَلْنَاهَا } صفة .

قال الزمخشري : أو على دونك { سُورَةٌ } فنصب على الإغراء ، ولا يجوز حذف أداة الإغراء وأجازوا أن يكون من باب الاشتغال أي أنزلنا { سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا } فأنزلناها مفسر لأنزلنا المضمرة فلا موضع له من الإعراب إلاّ أنه فيه الابتداء بالنكرة من غير مسوغ إلاّ إن اعتقد حذف وصف أي { سُورَةٌ}

معظمة أو موضحة { أَنزَلْنَاهَا } فيجوز ذلك .

وقال الفراء :{ سُورَةٌ } حال من الهاء والألف والحال من المكنى يجوز أن يتقدّم عليه انتهى . فيكون الضمير المنصوب في { أَنزَلْنَاهَا } ليس عائداً على { سُورَةٌ } وكان المعنى أنزلنا الأحكام { فرضناها سورة أي في حال كونها سورة من سور القرآن ، فليست هذه الأحكام ثابتة بالسنة فقط بل بالقرآن ، والسنة .

وقرأ الجمهور { أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا } بتخفيف الراء أي فرضنا أحكامها وجعلناها واجبة متطوّعاً بها .

وقيل : وفرضنا العمل بما فيها .

وقرأ عبد اللّه وعمر بن عبد العزيز ومجاهد وقتادة وأبو عمرو وابن كثير بتشديد الراء ما للمبالغة في الإيجاب ،

وإما لأن فيها فرائض شتى أو لكثرة المفروض عليهم . قيل : وكل أمر ونهي في هذه السورة فهو فرض .

{سورة أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا } بينات أمثالاً ومواعظ وأحكاماً ليس فيها مشكل يحتاج إلى تأويل .

٢

الزانية والزاني فاجلدوا . . . . .

وقرأ الجمهور { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى } بالرفع ، وعبد اللّه والزان بغير ياء ، ومذهب سيبويه أنه مبتدأ والخبر محذوف أي فيما يتلى عليكم حكم { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى } وقوله { فَاجْلِدُواْ } بيان لذلك الحكم ، وذهب الفراء والمبرد والزجاج إلى أن الخبر { فَاجْلِدُواْ } وجوزه الزمخشري ، وسبب الخلاف هو أنه عند سيبويه لا بد أن يكون المبتدأ الداخل الفاء في خبره موصولاً بما يقبل أداة الشرط لفظاً أو تقديراً ، واسم الفاعل واسم المفعول لا يجوز أن يدخل عليه أداة الشرط وغير سيبويه ممن ذكرنا لم يشرط ذلك ، وتقرير المذهبين والترجيح مذكور في النحو .

وقرأ عيسى الثقفي ويحيى بن يعمر وعمرو بن فأئد وأبو جعفر وشيبة وأبو السمال ورويس { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى } بنصبهما على الاشتغال ، أي واجلدوا { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى } كقولك زيداً فضربه ، ولدخول الفاء تقرير ذكر في علم النحو والنصب هنا أحسن منه في { سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا } لأجل الأمر ، وتضمنت السورة أحكاماً كثيرة فيما يتعلق بالزنا ونكاح الزواني وقذف المحصنات والتلاعن والحجاب وغير ذلك . فبدى بالزناء لقبحه وما يحدث عنه من المفاسد والعار . وكان قد نشأ في العرب وصار من إمائهم أصحاب رايات وقدّمت الزانية على الزاني لأن داعيتها أقوى لقوة شهوتها ونقصان عقلها ، ولأن زناها أفحش وأكثر عاراً وللعلوق بولد الزنا وحال النساء الحجبة والصيانة .

وقال الزمخشري :

فإن قلت : قدّمت الزانية على الزاني أولاً ثم قدم عليها ثانياً ؟

قلت : سبقت تلك الآية لعقوبتهما على ما جنيا والمرأة على المادة التي منها نشأت الجناية ، فإنها لو لم تطمع الرجل ولم تربض له ولم تمكنه لم يطمع ولم يتمكن ، فلما كانت أصلاً وأولاً في ذلك بدىء بذكرها ،

وأما الثانية فمسوقة لذكر النكاح والرجل أصل فيه لأنه هو الراغب والخاطب ومنه يبدأ الطلب انتهى . ولا يتم هذا الجواب في الثانية إلاّ إذا حمل النكاح على العقد لا على الوطء . وأل في { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى } للعموم في جميع الزناة .

وقال ابن سلام وغيره : هو مختص بالبكرين والجلد إصابة الجلد بالضرب كما تقول : رأسه وبطنه وظهره أي ضرب رأسه وبطنه وظهره وهذا مطرد في أسماء الأعيان الثلاثية العضوية ، والظاهر اندراج الكافر والعبد والمحصن في هذا العموم وهو لا يندرج في المجنون ولا الصبيّ بإجماع . وقال ابن سلام وغيره : واتفق فقهاء الأمصار على أن المحصن يرجم ولا يجلد . وقال الحسن وإسحاق وأحمد : يجلد ثم يرجم : وجلد عليّ رضي اللّه عنه شراحة الهمدانية ثم رجمها وقال : جلدتها بكتاب اللّه ورجمتها بسنة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ولا حجة في كون مرجومة أنيس والغامدية لم ينقل جلدهما لأن ذلك معلوم من أحكام القرآن فلا ينقل إلاّ ما كان زائداً على القرآن وهو الرجم ، فلذلك ذكر الرجم ولم يذكر الجلد . ومذهب أبي حنيفة أن من شرط الإحصان الإسلام ، ومذهب الشافعي أنه ليس بشرط ، واتفقوا على أن الأمة تجلد خمسين وكذا العبد على مذهب الجمهور . وقال أهل الظاهر : يجلد العبد مائة ومنهم من قال : تجلد الأمة مائة إلاّ إذا تزوجت فخمسين ، والظاهر اندراج الذمّيين في الزانية والزاني فيجلدان عند أبي حنيفة والشافعي وإذا كانا محصنين يرجمان عند الشافعي . وقال مالك : لا حد عليهما والظاهر أنه ليس على الزانية والزاني حد غير الجلد فقط وهو مذهب الخوارج ، وقد ثبت الرجم بالسنة المستفيضة وعمل به بعد الرسول خلفاء الإسلام أبو بكر وعمر وعليّ ، ومن الصحابة جابر وأبو هريرة وبريدة الأسلمي

وزيد بن خالد ، واختلفوا في التغريب بنفي البكر بعد الجلد . وقال الثوري والأوزاعي والحسن بن صالح والشافعي ينفي الزاني . وقال الأوزاعي ومالك : ينفي الرجل ولا تنفى المرأة قال مالك : ولا ينفي العبد نصف سنة ، والظاهر أن هذا الجلد إنما هو على من ثبت عليه الزنا فلو وجدا في ثوب واحد فقال إسحاق يضرب كل واحد منهما مائة جلدة ، وروي عن عمر وعليّ . وقال عطاء والثوري ومالك وأحمد : يؤدبان على مذاهبهم في الأدب ،

وأما الإكراه فالمكرهة لا حد عليها وفي حد الرجل المكره خلاف وتفصيل بين أن يكرهه سلطان فلا يحد أو غيره فيحد ، وهو قول أبي حنيفة وقول أبي يوسفض ومحمد والحسن بن صالح والشافعي لا يحد في الوجهين ، وقول زفر يحد فيهما جميعاً . والظاهر أنه لا يندرج في الزنا من أتى امرأة من دبرها ولا ذكراً ولا بهيمة .

وقيل : يندرج والمأمور بالجلد أئمة المسلمين ونوابهم . واختلفوا في إقامة الخارجي المتعلب الحدود . فقيل له ذلك .

وقيل : لا وفي إقامة السيد على رقيقه . فقال ابن مسعود وابن عمر وعائشة وفاطمة والشافعي : له ذلك . وقال أبو حنيفة ومحمد وزفر : لا ، وقال مالك والليث : له ذلك إلاّ في القطع في السرقة فإنما يقطعه الإمام ، والجلد كما قلنا ضرب الجلد ولم تتعرض الآية لهيئة الجالد ولا هيئة المجلود ولا لمحل الجلد ولا لصفة الآلة المجلود بها وذلك مذكور في كتب الفقه .

وقال الزمخشري :

فإن قلت : هذا حكم جميع الزناة والزواني أم حكيم بعضهم ؟

قلت : بل هو حكم من ليس بمحصن منهم ، فإن المحصن حكمه الرجم

فإن قلت : اللفظ يقتضي تعليق الحكم بجميع الزناة والزواني لأن قوله { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى } عام في الجميع يتناوله المحصن وغير المحصن قلت :{ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى } بدلان على الجنسين المنافيين لجنسي العفيف والعفيفة دلالة مطلقة ، والجنسية قائمة في الكل والبعض جميعاً فأيهما قصد المتكلم فلا عليه كما يفعل بالأسم المشترك انتهى . وليست دلالة اللفظ على الجنسين كما ذكر دلالة مطلقة لأن دلالة عموم الاستغراق مباينة لدلالة عموم البدل وهو الإطلاق ، وليست كدلالة المشترك لأن دلالة العموم هي كل فرد فرد على سبيل الاستغراق ، ودلالة المشترك تدل على فرد فرد على الاستغراق أعني في الاستعمال وإن كان في ذلك خلاف في أصول الفقه ، لكن ما ذكرته هو الذي يصح في النظر واستعمال كلام العرب .

وقرأ عليّ بن أبي طالب والسلمي وابن مقسم وداود بن أبي هند عن مجاهد : ولا يأخذكم بالياء لأن تأنيث الرأفة مجاز وحسن ذلك الفصل .

وقرأ الجمهور بالتاء الرأفة لفظاً .

وقرأ الجمهور { رَأْفَةٌ } بسكون الهمزة وابن كثير بفتحها وابن جريج بألف بعد الهمزة . وروي هذا عن عاصم وابن كثير ، وكلها مصادر أشهرها الأول والرأفة المنهي أن تأخذ المتولين إقامة الحد . قال أبو مجلز ومجاهد وعكرمة وعطاء : هي في إسقاط الحد ، أي أقيموه ولا يدرأ هذا تأويل ابن عمر وابن جبير وغيرهما . ومن مذهبهم أن الحد في الزنا والفرية والخمر على نحو واحد . وقال قتادة وابن المسيب وغيرهما : الرأفة المنهي عنها هي في تخفيف الضرب على الزناة ، ومن رأيهم أن يخفف ضرب الفرية والخمر ويشدد ضرب الزنا .

وقال الزمخشري : والمعنى أن الواجب على المؤمنين أن يتصلبوا في دين اللّه ويستعملوا الجد والمتانة فيه ، ولا يأخذهم اللين والهوادة في استبقاء حدوده انتهى . فهذا تحسين قول أبي مجلز ومن وافقه . وقال الزهري : يشدّد في الزنا والفرية ويخفف في حد الشرب .

وقال مجاهد والشعبي وابن زيد : في الكلام حذف تقديره { وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ } فتعطلوا الحدود ولا تقيموها . والنهي في الظاهر للرأفة والمراد ما تدعو إليه الرأفة وهو تعطيل الحدود أو نقصها ومعنى { فِى دِينِ اللّه } في الإخلال بدين اللّه أي بشرعه . قيل : ويحتمل أن يكون الدين بمعنى الحكم { إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّه وَالْيَوْمِ الاْخِرِ } تثبيت وحض وتهييج للغضب للّه ولدينه ، كما تقول : إن كنت رجلاً فافعل ، وأمر تعالى بحضور جلدهما طائفة إغلاظاً على الزناة وتوبيخاً لهم بحضرة الناس ، وسمى الجلد عذاباً إذ فيه إيلام وافتضاح وهو عقوبة على ذلك الفعل ، والطائفة المأمور بشهودها ذلك يدل

الاشتقاق على ما يكون يطوف بالشيء وأقل ما يتصور ذلك فيه ثلاثة وهي صفة غالبة لأنها الجماعة الحافة بالشيء .

وعن ابن عباس وابن زيد في تفسيرها أربعة إلى أربعين . وعن الحسن : عشرة . وعن قتادة والزهري : ثلاثة فصاعداً . وعن عكرمة وعطاء : رجلان فصاعداً وهو مشهور قول مالك . وعن مجاهد : الواحد فما فوقه واستعمال الضمير الذي للجمع عائداً على الطائفة في كلام العرب دليل على أنه يراد بها الجمع وذلك كثير في القرآن .

٣

الزاني لا ينكح . . . . .

{الزَّانِى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً } الظاهر أنه خبر قصد به تشنيع الزنا وأمره ، ومعنى { لاَ يَنكِحُ } لا يطأ وزاد { المشركة } في التقسيم ، فالمعنى أن الزاني في وقت زناه لا يجامع إلاّ زانية من المسلمين أو أخس منها وهي المشركة ، والنكاح بمعنى الجماع مروي عن ابن عباس هنا .

وقال الزمخشري :

وقيل المراد بالنكاح الوطء وليس بقول لأمرين .

أحدهما : أن هذه الكلمة أينما وردت في القرآن لم يرد بها إلاّ معنى العقد .

والثاني : فساد المعنى وأداؤه إلى قولك الزاني لا يزني إلاّ بزانية ، والزانية لا تزني إلا بزان انتهى . وما ذكره من الأمر الأول أخذه من الزجاج قال : لا يعرف النكاح في كتاب اللّه إلا بمعنى التزويج وليس كما قال ، وفي القرآن حتى تنكح زوجاً غيره ، وبيِّن الرسول صلى اللّه عليه وسلم أنه بمعنى الوطء .

وأما الأمر الثاني فالمقصود به تشنيع الزنا وتشنيع أمره وأنه محرم على المؤمنين .

وقال الزمخشري : وأخذه من الضحاك وحسنه الفاسق الخبيث الذي من شأنه الزنا ، والخبث لا يرغب في نكاح الصوالح من النساء اللاتي على خلاف صفته ، وإنما يرغب في فاسقه خبيثة من شكله ، أو في مشركة . والفاسقة الخبيثة المسافحة كذلك لا يرغب في نكاحها الصلحاء من الرجال وينفرون عنها ، وإنما يرغب فيها من هو من شكلها من الفسقة والمشركين ، ونكاح المؤمن الممدوح عند اللّه الزانية ورغبته فيها وانخراطه بذلك في سلك الفسقة المتسمين بالزنا محرم محظور لما فيه من التشبه بالفساق ، وحضور . موقع التهمة والتسبب لسوء القالة فيه والغيبة وأنواع المفاسد ومجالسة الخطائين ، كم فيها من التعرض لاقتراف الآثام فكيف بمزاوجة الزواني والقحاب وإقدامه على ذلك انتهى .

وعن ابن عمر وابن عباس وأصحابه أنها في قوم مخصوصين كانوا يزنون في جاهليتهم ببغايا مشهورات ، فلما جاء الإسلام وأسلموا لم يمكنهم الزنا فأرادوا لفقرهم زواج أولئك النسوة إذ كن من عادتهن الإنفاق على من ارتسم بزواجهن ، فنزلت الآية بسببهن والإشارة بالزاني إلى أحد أولئك أطلق عليه اسم الزنا الذي كان في الجاهلية وقوله { الزَّانِى لاَ يَنكِحُ } أي لا يتزوج ، وعلى هذين التأويلين فيه معنى التفجع عليهم وفيه توبيخ كأنه يقول : الزاني لا يريد أن يتزوج إلا زانية أو مشركة ، أي تنزع نفوسهم إلى هذه الخسائس لقلة انضباطهم ، ويرد على هذين التأويلين الإجماع على أن الزانية لا يجوز أن يتزوجها مشرك في قومه { وَحُرّمَ ذالِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} أي نكاح أولئك البغايا ، فيزعم أهل هذين التأويلين أن نكاحهن حرمه اللّه على أمّة محمد صلى اللّه عليه وسلم.

وقال الحسن : المراد الزاني المحدود ، والزانية المحدودة قال : وهذا حكم من اللّه فلا يجوز لزان محدود أن يتزوج إلاّ زانية . وقد روي أن محدوداً تزوج غير محدودة فردّ عليّ بن أبي طالب نكاحها .{ وَحُرّمَ ذالِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } يريد الزنا . وروى الزهراني في هذا حديثاً من طريق أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : { لا ينكح الزاني المحدود إلاّ مثله} .

قال ابن عطية : وهذا حديث لا يصح ، وقول فيه نظر ، وإدخال المشرك في الآية يرده وألفاظ الآية تأباه وإن قدرت المشركة بمعنى الكتابية فلا حيلة في لفظ المشرك انتهى . وقال ابن المسيب : هذا حكم كان في الزناة عام أن لا يتزوج زان إلاّ زانية ، ثم جاءت الرخصة ونسخ ذلك بقوله { وَأَنْكِحُواْ طَائِفَةٌ مّنكُمْ } وقوله { فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَاء } وروي ترتيب هذا النسخ عن مجاهد إلاّ أنه قال : حرم نكاح أولئك البغايا النفر .

قال ابن عطية : وذكر الإشراك في الآية يضعف هذه المناحي انتهى .

وعن الجبائي إنها منسوخة بالإجماع ، وضعف بأنه ثبت في أصول الفقه أن الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به ، وتلخص من هذه الأقوال أن

النكاح إن أريد به الوطء فالآية وردت مبالغة في تشنيع الزنا ، وإن أريد به التزويج فإما أن يراد به عموم في الزناة ثم نسخ ، أو عموم في الفساق الخبيثين لا يرغبون إلاّ فيمن هو شكل لهم ، والفواسق الخبائث لا يرغبن إلاّ فيمن هو شكل لهن ، ولا يجوز التزويج على ما قرره الزمخشري ، أو يراد به خصوص في قوم كانوا في الجاهلية زناة ببغايا فأرادوا تزويجهن لفقرهم وإيسارهن مع بقائهن على البغاء فلا يتزوج عفيفة ، ولو زنا رجل بامرأة ثم أراد تزويجها فأجاز ذلك أبو بكر الصديق وابن عمر وابن عباس وجابر وطاوس وابن المسيب وجابر بن زيد وعطاء والحسن وعكرمة ومالك والثوري والشافعي ، ومنعه ابن مسعود والبراء ابن عازب وعائشة وقالا : لا يزالان زانيين ما اجتمعا ، ومن غريب النقل أنه لو تزوج معروف بالزنا أو بغيره من الفسوق ثبت الخيار في البقاء معه أو فراقه وهو عيب من العيوب التي يترتب الخيار عليها ، وذهب قوم إلى أن الآية محكمة ، وعندهم أن من زنى من الزوجين فسد النكاح بينهما وقال قوم منهم لا ينفسخ ويؤمر بطلاقها إذا زنت فإن امسكها أثم قالوا لا تجوز التزويج بالزانية ولا من الزاني فإن ظهرت التوبة جاز .

وقال الزمخشري :

فإن قلت : أي فرق بين معنى الجملة الأولى ومعنى الثانية ؟

قلت : معنى الأولى صفة الزاني بكونه غير راغب في العفائف ولكن في الفواجر ، ومعنى الثانية صفتها بكونها غير مرغوب فيها للأعّفاء ولكن للزناة ، وهما معنيان مختلفان .

وعن عمرو بن عبيد { لاَ يَنكِحُ } بالجزم على النهي والمرفوع فيه معنى النهي ولكن هو أبلغ وآكد كما أن رحمك اللّه ويرحمك اللّه أبلغ من ليرحمك ، ويجوز أن يكون خبراً محضاً على معنى إن عادتهم جارية على ذلك ، وعلى المؤمن أن لا يدخل نفسه تحت هذه العادة ويتصون عنها انتهى .

وقرأ أبو البرهثيم { وَحَرَّمَ } مبنياً للفاعل أي اللّه ، وزيد بن عليّ{ وَحَرَّمَ } بضم الراء وفتح الحاء والجمهور { وَحَرَّمَ } مشدداً مبنياً للمفعول .

والقذف الرمي بالزنا وغيره ، والمراد به هنا الزنا لاعتقابه إياه ولاشتراط أربعة شهداء وهو مما يخص القذف بالزنا إذ في غيره يكفي شاهدان . قال ابن جبير : ونزلت بسبب قصة الإفك .

وقيل : بسبب القذفة عاماً ، واستعير الرمي للشتم لأنه إذاية بالقول . كما قال :

وجرح اللسان كجرح اليد

وقال : رماني بأمر كنت منه ووالدي

بريئاً ومن أجل الطويّ رماني

٤

والذين يرمون المحصنات . . . . .

و { الْمُحْصَنَاتِ } الظاهر أن المراد النساء العفائف ، وخص النساء بذلك وإن كان الرجال يشركونهن في الحكم لأن القذف فيهن أشنع وأنكر للنفوس ، ومن حيث هن هوى الرجال ففيه إيذاء لهن ولأزواجهن وقراباتهن .

وقيل : المعنى الفروج المحصنات كما قال :{ وَالَّتِى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا}

وقيل : الأنفس المحصنات وقاله ابن حزم : وحكاه الزهراوي فعلى هذين القولين يكون اللفظ شاملاً للنساء وللرجال ، ويدل على الثاني قوله { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النّسَاء } وثم محذوف أي بالزنا ، وخرج بالمحصنات من ثبت زناها أو زناه ، واستلزم الوصف بالإحصان الإسلام والعقل والبلوغ والحرية . قال أبو بكر الرازي : ولا نعلم خلافاً بين الفقهاء في هذا المعنى ، والمراد بالمحصنات غير مزوجات الرامين أو لمن زوجه حكم يأتي بعد ذلك ، والرمي بالزنا الموجب للحد هو التصريح بأن يقول : يا زانية ، أو يا زاني ، أو يا ابن الزاني وابن الزانية ، يا ولد الزنا لست لأبيك لست لهذه وما أشبه ذلك من الصرائح ، فلو عرض كأن يقول : ما أنا بزان ولا أمي بزانية لم يحد في مذهب أبي حنيفة وزفر وأبي يوسف ومحمد وابن شبرمة والثوري والحسن بن صالح والشافعي ، ويحد في مذهب مالك ، وثبت الحد فيه عن عمر بعد مشاورته الناس

وقال أحمد وإسحاق هو قذف في حال الغضب دون الرضا ، فلو قذف كتابياً إذا كان للمقذوف ولد مسلم .

وقيل : إذا قذف الكتابية تحت المسلم حُدّ وأتفقوا على أن قاذف الصبي لا يحُدَ وإن كان مثله يجامع ، واختلفوا في قاذف الصبية . فقال مالك : يحد إذا كان مثلها يجامع . وقال مالك والليث : يحد إذا كان مثلها يجامع . وقال مالك والليث : يحد قاذف المجنون . وقال غيرهما : لا يحد .

{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ } ظاهره الذكور وحكم الراميات حكمهم ، ولو قذف الصبي أو المجنون زوجته أو أجنبية فلا حدّ عليه أو أخرس وله كناية معروفة أو إشارة مفهومة حد عند الشافعي . وقال أبو حنيفة : لا يصح قذفه ولا لعانه ولما كانت معصية الزنا كبيرة من أمهات الكبائر وكان متعاطيها كثيراً ما يتسير بها فقلما يطلع أحد عليها ، شدد اللّه تعالى على القاذف حيث شرط فيها أربعة شهداء رحمة بعباده وستراً لهم والمعنى { ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ } الحكام والجمهور على إضافة { أَرْبَعَةِ } إلى { شُهَدَاء}

وقرأ أبو زرعة وعبد اللّه بن مسلم { بِأَرْبَعَةِ } بالتنوين وهي قراءة فصيحة ، لأنه إذا اجتمع اسم العدد والصفة كان الاتباع أجود من الإضافة ، ولذلك رجح ابن جني هذه القراءة على قراءة الجمهور من حيث أخذ مطلق الصفة وليس كذلك ، لأن الصفة إذا جرت مجرى الأسماء وباشرتها العوامل جرت في العدد وفي غيره مجرى الأسماء ، ومن ذلك شهيد ألا ترى إلى قوله { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ } وقوله { وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ } وكذلك : عبد فثلاثة شهداء بالإضافة أفصح من التنوين والاتباع ، وكذلك ثلاثة أعبد .

و

قال ابن عطية : وسيبويه يرى أن تنوين العدد وترك إضافته إنما يجوز في الشعر انتهى . وليس كما ذكر إنما يرى ذلك سيبويه في العدد الذي بعده اسم نحو : ثلاثة رجال ،

وأما في الصفة فلا بل الصحيح التفصيل الذي ذكرناه ، وإذا نونت أربعة فشهداء بدل إذ هو وصف جرى مجرى الأسماء أو صفة لأنه صفة حقيقية ، ويضعف قول من قال أنه حال أو تمييز ، وهذه الشهادة تكون بالمعاينة البليغة كالمرود في المكحلة ، والظاهر أنه لا يشترط شهادتهم أن تكون حالة اجتماعهم بل لو أتى بهم متفرقين صحت شهادتهم . وقال أبو حنيفة : شرط ذلك أن يشهدوا مجتمعين ، فلو جاؤوا متفرقين كانوا قذفه . والظاهر أنه يجوز أن يكون أحد الشهود زوج المقذوفة لاندراجه في أربعة شهداء ولقوله { فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مّنْكُمْ } ولم يفرق بين كون الزوج فيهم وبين أن يكونوا أجنبيين ، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه وتحد المرأة ، وروي ذلك عن الحسن والشعي . وقال مالك والشافعي : يلاعن الزوج ويحد الثلاثة وروي مثله عن ابن عباس .

{فَاجْلِدُوهُمْ } أمر للإمام ونوابه بالجلد ، والظاهر وجوب الجلد وإن لم يطالب المقذوف وبه قال ابن أبي ليلى . وقال أبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي والشافعي : لا يحد إلاّ بمطالبته . وقال مالك كذلك إلاّ أن يكون الإمام سمعه يقذفه فيحده إذا كان مع الإمام شهود عدول وإن لم يطالب المقذوف ، والظاهر أن العبد القاذف حرّاً إذا لم يأت بأربعة شهداء حد ثمانين لاندراجه في عموم { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ } وبه قال عبد اللّه بن مسعود والأوزاعي . وقال أبو حنيفة وأصحابه ومالك والثوري وعثمان البتي والشافعي : يجلد أربعين وهو قول عليّ وفعل أبي بكر وعمر وعليّ ومن بعدهم من الخلفاء قاله عبد اللّه بن ربيعة ، ولو قذف واحد جماعة بلفظ واحد أو أفرد لكل واحد حد حدّاً واحداً وهو قول أبي حنيفة وأصحابه ومالك والثوري والليث . وقال عثمان البتي والشافعي لكل واحد حد . وقال الشعبي وابن أبي ليلى : إن كان بلفظ واحد نحو يا زناة فحد واحد ، أو قال : لكل واحد يا زاني فلكل إنسان حد ، والظاهر من الآية أنه لا يجلد إلاّ القاذف ولم يأت جلد الشاهد إذا لم يستوف عدد الشهود ، وليس من جاء للشهادة للقاذف بقاذف وقد أجراه عمر مجرى القاذف . وجلد أبا بكرة وأخاه نافعاً وشبل بن معبد البجلي لتوقف الرابع وهو زيادة في الشهادة فلم يؤدها كاملة ، ولو أتى بأربعة شهداء فساق . فقال زفر : يدرأ الحد عن القاذف والشهور . وعن أبي يوسف يحد القاذف ويدرأ عن الشهود . وقال مالك وعبيد اللّه بن الحسن : يحد الشهود والقاذف .

{وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً } الظاهر أنه لا يقبل شهادته أبداً وإن أكذب نفسه وتاب ، وهو نهي جاء بعد أمر ، فكما أن حكمه الجلد كذلك حكمه رد شهادته وبه قال شريح القاضي والنخعي وابن المسيب وابن جبير والحسن والثوري وأبو حنيفة وأصحابه والحسن بن صالح : لا تقبل شهادة المحدود في القذف وإن تاب ، وتقبل شهادته في غير المقذوف إذا تاب .

وقال مالك : تقبل في القذف بالزنا وغيره إذا تاب وبه قال عطاء وطاوس ومجاهد والشعي والقاسم بن محمد وسالم والزهري ، وقال : لا تقبل شهادة محدود في الإسلام يعني مطلقاً ، وتوبته بماذا تقبل بإكذاب نفسه في القذف وهو قول الشافعي وكذا فعل عمر بنافع وشبل أكذبا أنفسهما فقبل شهادتهما ، وأصر أبو بكرة فلم تقبل شهادته حتى مات .

{وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } الظاهر أنه كلام مستأنف غير داخل في حيز الذين يرمون ، كأنه إخبار بحال الرامين بعد انقضاء الموصول المتضمن معنى الشرط وما ترتب في خبره من الجلد وعدم قبول الشهادة أبداً .

٥

إلا الذين تابوا . . . . .

{إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ } هذا الاستثناء يعقب جملاً ثلاثة ، جملة الأمر بالجلد وهو لو تاب وأكذب نفسه لم يسقط عنه حد القذف ، وجملة النهي عن قبول شهادتهم أبداً وقد وقع الخلاف في قبول شهادتهم إذا تابوا بناء على أن هذا الاستثناء راجع إلى جملة النهي ، وجملة الحكم بالفسق أو هو راجع إلى الجملة الأخيرة وهي الثالثة وهي الحكم بفسقهم والذي يقتضيه النظر أن الاستثناء إذا تعقب جملة يصلح أن يتخصص كل واحد منها بالاستثناء أن يجعل تخصيصاً في الجملة الأخيرة ، وهذه المسألة تكلم عليها في أصول الفقه وفيها خلاف وتفصيل ، ولم أر من تكلم عليها من النحاة غير المهاباذي وابن مالك فاختار ابن مالك أن يعود إلى الجمل كلها كالشرط ، واختار المهاباذي أن يعود إلى الجملة الأخيرة وهو الذي نختاره ، وقد استدللنا على صحة ذلك في كتاب التذييل والتكميل في شرح التسهيل .

وقال الزمخشري : وجعل يعني الشافعي الاستثناء متعلقاً بالجملة الثانية وحق المستثنى عنده أن يكون مجرور بدلاً من { هُمْ } في { لَهُمْ } وحقه عند أبي حنيفة النصب لأنه عن موجب ، والذي يقتضيه ظاهر الآية ونظمها أن تكون الجمل الثلاث مجموعهن جزاء الشرط يعني الموصول المضمن معنى الشرط كأنه قيل : ومن قذف المحصنات فاجلدوه وردوا شهادته وفسقوه أي اجمعوا له الحد والرد والفسق .

{إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ } عن القذف { وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ اللّه غَفُورٌ رَّحِيمٌ } فينقلبون غير محدودين ولا مردودين ولا مفسقين انتهى . وليس يقتضي ظاهر الآية عود الاستثناء إلى الجمل الثلاث ، بل الظاهر هو ما يعضده كلام العرب وهو الرجوع إلى الجملة التي تليها والقول بأنه استثناء منقطع مع ظهور اتصاله ضعيف لا يصار إليه إلاّ عند الحاجة .

٦

انظر تسفير الآية:٧

٧

والذين يرمون أزواجهم . . . . .

ولما ذكر تعالى قذف المحصنات وكان الظاهر أنه يتناول الأزواج وغيرهن ولذلك قال سعد بن عبادة : يا رسول اللّه إن وجدت مع امرأتي رجلاً أمهله حتي آتي بأربعة شهداء واللّه لأضربنه بالسيف غير مصفح ، وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عزم على حد هلال بن أمية حين رمى زوجته بشريك بن سحماء فنزلت { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ } واتضح أن المراد بقوله { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ } غير الزوجات ، والمشهور أن نازلة هلال قبل نازلة عويمر .

وقيل : نازلة عويمر قبل ، والمعنى بالزنا ولم يكن لهم شهداء ولم يقيد بعدد اكتفاء بالتقييد في قذف غير الزوجات ، والمعنى { شُهَدَاء } على صدق قولهم . وقرىء ولم تكن بالتاء .

وقرأ الجمهور بالياء وهو الفصيح لأنه إذا كان العامل مفرغاً لما بعد إلاّ وهو مؤنث فالفصيح أن يقول ما قام إلاّ هند ، وأماما قامت إلاّ هند فأكثر أصحابنا يخصه بالضرورة ، وبعض النحويين يجيزه في الكلام على قلة .

و { أَزْواجِهِمْ } يعم سائر الأزواج من المؤمنات والكافرات والإماء ، فكلهن يلاعن الزوج للانتفاء من العمل . وقال أبو حنيفة وأصحابه : بأحد معنيين

أحدهما : أن تكون الزوجة ممن لا يجب على قاذفها الحد وإن كان أجنبياً ، نحو أن تكون الزوجة مملوكة أو ذمية وقد وطئت وطأ حر إما في غير ملك .

والثاني : أن يكون أحدهما ليس من أهل الشهادة بأن يكون محدوداً في قذف أو كافراً أو عبداً ، فأمّا إذا كان أعمى أو فاسقاً فله أن يلاعن . وقال الثوري والحسن بن صالح : لا لعان إذا كان أحد الزوجين مملوكاً أو كافراً ، ويلاعن المحدود في القذف . وقال الأوزاعي : لالعان بين أهل الكتاب ولا بين المحدود في القذف وامرأته . وقال الليث : يلاعن العبد امرأته الحرة والمحدود في القذف . وعن مالك : الأمة المسلمة والحرة الكتابية يلاعن الحر المسلم والعبد يلاعن زوجته الكتابية ، وعنه : ليس بين المسلم والكافرة لعان إلاّ لمن يقول رأيتها تزني فيلاعن ظهر الحمل أو لم يظهر ، ولا يلاعن المسلم الكافرة ولا زوجته الأمة إلاّ في نفي الحمل ويتلاعن عن المملوكان المسلمان لا الكافران . وقال الشافعي كل زوج جاز طلاقه ولزمه الفرض يلاعن ، والظاهر العموم في الرامين وزوجاتهم المرميات بالزنا ، والظاهر إطلاق الرمي بالزنا سواء قال : عاينتها تزني أم قال زنيت وهو قول أبي حنيفة

وأصحابه ، وكان مالك لا يلاعن عن إلاّ أن يقول : رأيتك تزنين أو ينفي حملاً بها أو ولد منها والأعمى يلاعن . وقال الليث : لا يلاعن إلاّ أن يقول : رأيت عليها رجلاً أو يكون استبرأها ، فيقول : ليس هذا الحمل مني ولم تتعرض الآية في اللعان إلاّ لكيفيته من الزوجين . وقد أطال المفسرون الزمخشري وابن عطية وغيرهما في ذكر كثير من أحكام اللعان مما لم تتعرض له الآية وينظر ذلك في كتب الفقه .

وقرأ الجمهور { أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ } بالنصب على المصدر . وارتفع { فَشَهَادَةُ } خبراً على إضمار مبتدأ ، أي فالحكم أو الواجب أو مبتدأ على إضمار الخبر متقدماً أي فعليه أن يشهد أو مؤخراً أي كافيه أو واجبه . و { بِاللّه } من صلة { شَهَادَاتٍ } ويجوز أن يكون من صلة { فَشَهَادَةُ } قاله ابن عطية ، وفرغ الحوفي ذلك على الأعمال ، فعلى رأي البصريين واختيارهم يتعلق بشهادات ، وعلى اختيار الكوفيين يتعلق بقوله { فَشَهَادَةُ}

وقرأ الأخوان وحفص والحسن وقتادة والزعفراني وابن مقسم وأبو حيوة وابن أبي عبلة وأبو بحرية وأبان وابن سعدان { أَرْبَعُ } بالرفع خبر للمبتدإ ، وهو { فَشَهَادَةُ } و { بِاللّه } من صلة { شَهَادَاتٍ } على هذه القراءة ، ولا يجوز أن يتعلق بفشهادة للفصل بين المصدر ومعموله بالجر ولا يجوز ذلك .

وقرأ الجمهور { وَالْخَامِسَةَ } بالرفع فيهما .

وقرأ طلحة والسلمي والحسن والأعمش وخالد بن أياس ويقال ابن إلياس بالنصب فيهما .

وقرأ حفص والزعفراني بنصب الثانية دون الأولى ، فالرفع على الابتداء وما بعده الخبر ، ومن نصب الأولى فعطف على { أَرْبَعُ } في قراءة من نصب { أَرْبَعُ } ، وعلى إضمار فعل يدل عليه المعنى في قراءة من رفع { أَرْبَعُ } أي وتشهد { الخامسة } ومن نصب الثانية فعطف على { أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ } وعلى قراءة النصب في { الخامسة } يكون { حَمِيمٍ ءانٍ } بعده على إسقاط حرف الجر ، أي بأن ، وجوّز أن يكون { ءانٍ } وما بعده بدلاً من { الخامسة}

وقرأ نافع { بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ } بتخفيف { ءانٍ } ورفع { لَّعْنَةُ } و { أَنَّ غَضَبَ } بتخفيف { ءانٍ } و { غَضَبَ } فعل ماض والجلالة بعد مرفوعة ، وهي ان المخففة من الثقيلة لما خففت حذف اسمها وهو ضمير الشأن .

وقرأ أبو رجاء وقتادة وعيسى وسلام وعمرو بن ميمون والأعرج ويعقوب بخلاف عنهما ، والحسن { أَن لَّعْنَةُ } كقراءة نافع ، و { أَنَّ غَضَبَ } بتخفيف { ءانٍ } و { غَضَبَ } مصدر مرفوع وخبر ما وبعده وهي أن المخففة من الثقيلة .

وقرأ باقي السبعة { أَن لَّعْنَةُ اللّه } و { أَنَّ غَضَبَ اللّه } بتشديد { ءانٍ } ونصب ما بعدهما اسماً لها وخبر ما بعد .

قال ابن عطية : و { ءانٍ } الخفيفة على قراءة نافع في قوله { أَنَّ غَضَبَ } قد وليها الفعل .

قال أبو علي : وأهل العربية يستقبحون أن يليها الفعل إلاّ أن يفصل بينها وبينه بشيء نحو قوله { عَلِمَ أَن سَيَكُونُ } وقوله { أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا لاَ يَرْجِعُونَ }

وأماقوله تعالى { وَأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى } فذلك لعلة تمكن ليس في الأفعال .

وأما قوله { أَن بُورِكَ مَن فِى النَّارِ } فبورك على معنى الدعاء فلم يجر دخول الفواصل لئلا يفسد المعنى انتهى . ولا فرق بين { أَنَّ غَضَبَ اللّه } و { أَن بُورِكَ } في كون الفعل بعد أن دعاء ، ولم يبين ذلك ابن عطية ولا الفارسي ، ويكون غضب دعاء مثل النحاة أنه إذا كان الفعل دعاء لا يفصل بينه وبين أن بشيء ، وأورد ابن عطية { أَنَّ غَضَبَ } في قراءة نافع مورد المستغرب .

٨

انظر تسفير الآية:٩

٩

ويدرأ عنها العذاب . . . . .

{وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا الْعَذَابَ } أي يدفع و { الْعَذَابَ } قال الجمهور الحد . وقال أصحاب الرأي لا حد عليها إن لم يلاعن ولا يوجبه عليها قول الزوج .

وحكى الطبري عن آخرين أن { الْعَذَابَ } هو الحبس ، والظاهر الاكتفاء في اللعان بهذه الكيفية المذكورة في الآية وبه قال الليث ، ومكان ضمير الغائب ضمير المتكلم في شهادته مطلقاً وفي شهادتها في قوله عليها تقول عليّ . فقال الثوري وأبو حنيفة ومحمد وأبو يوسف : يقول بعد { مِنَ الصَّادِقِينَ } فيما رماها به من الزنا وكذا بعد من الكاذبين ، وكذا هي بعد من الكاذبين و { مِنَ الصَّادِقِينَ } فإن كان هناك ولد ينفيه زاد بعد قوله فيما رماها به من الزنا في نفي الولد . وقال مالك : يقول أشهد باللّه أني رأيتها تزني وهي أشهد باللّه ما رآني أزني ، والخامسة تقول ذلك أربعاً و { الخامسة } لفظ الآية .

وقال الشافعي : يقول أشهد باللّه أني لصادق فيما رميت به زوجتي فلانة بنت فلان ، ويشير إليها إن كان حاضرة أربع مرات ، ثم يقعد الإمام ويذكره اللّه تعالى فإن رآه يريد أن يمضي أمر من يضع يده على فيه ويقول : إن قولك وعليّ لعنة اللّه إن كنت من الكاذبين فيما رميت به فلانة من الزنا ، فإن قذفها بأحد يسميه بعينه واحد أو اثنين في كل شهادة ، وإن نفي ولدها زاد وأن

هذا الولد ما هو مني ، والظاهر أنه إذا طلقها بائناً فقذفها وولدت قبل انقضاء العدة فنفي الولد أنه يحد ويلحقه الولد لأنه لا ينطلق عليها زوجة إلاّ مجازاً .

وعن ابن عباس : إذا طلقها تطليقة أو تطليقتين ثم قذفها حدّ . وعن ابن عمر : يلاعن . وعن الليث والشافعي : إذا أنكر حملها بعد البينونة لاعن . وعن مالك : إن أنكره بعد الثلاث لاعنها . ولو قذفها ثم بانت منه بطلاق أو غيره فقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه : لا حد ولا لعان . وقال الأوزاعي والليث والشافعي : يلاعن وهذا هو الظاهر لأنها كانت زوجته حالة القذف ، والظاهر من قوله { أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ } أنه يلزم ذلك فإن نكل حبس حتى يلاعن وكذلك هي ، وهذا مذهب أبي حنيفة وأصحابه .

وقال مالك والحسن بن صالح والليث والشافعي : أيهما نكل حدّ هو للقذف وهي للزنا . وعن الحسن : إذا لاعن وأبت حبست . وعن مكحول والضحاك والشعبي : ترجم ومشروعية اللعان دليل على أن الزنا والقذف ليسا بكفر من فاعلهما خلافاً للخوارج في قولهم : إن ذلك كفر من الكاذب منهما لاستحقاق اللعن من اللّه والغضب .

قال الزمخشري :

فإن قلت : لم خصت الملاعنة بأن تخمس بغضب اللّه ؟

قلت : تغليظاً عليها لأنها هي أصل الفجور ومتبعة بإطماعها ، ولذلك كانت مقدّمة في آية الجلد ويشهد لذلك قوله صلى اللّه عليه وسلم الخويلة : { والرجم أهون عليك من غضب اللّه} .

١٠

ولولا فضل اللّه . . . . .

{وَلَوْ لا فَضَّلَ اللّه} إلى آخره . قال السدّي فضله منته ورحمته نعمته . وقال ابن سلام : فضله الإسلام ورحمته الكتمان . ولما بين تعالى حكم الرامي الحصنات والأزواج كان في فضله ورحمته أن جعل اللعان سبيلاً إلى الستر وإلى درء الحدّ وجواب { لَوْ لا } محذوف . قال التبريزي : تقديره لهلكتم أو لفضحكم أولعاجلكم بالعقوبة أو لتبين الكاذب . و

قال ابن عطية : لكشف الزناة بأيسر من هذا أو لأخذهم بعقاب من عنده ، ونحو هذا من المعاني التي يوجب تقديرها إبهام الجواب .

{إِنَّ الَّذِينَ جَآءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِىءٍ مِّنْهُمْ مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِى تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ لَّوْلاإِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُواْ هَاذَآ إِفْكٌ مُّبِينٌ لَّوْلاَ جَآءُو عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَآءِ فَأُوْلَائِكَ عِندَ اللّه هُمُ الْكَاذِبُونَ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّه عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِى الدُّنْيَا وَالاٌّ خِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِى مَآ أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَّا لَّيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللّه عَظِيمٌ وَلَوْلاإِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَّا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَاذَا سُبْحَانَكَ هَاذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ يَعِظُكُمُ اللّه أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ أَبَداً إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ وَيُبَيِّنُ اللّه لَكُمُ الاٌّ يَاتِ وَاللّه عَلِيمٌ حَكِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِى الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِى الدُّنْيَا وَالاٌّ خِرَةِ وَاللّه يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّه عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللّه رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}

سبب نزول هذه الآيات مشهور مذكور في الصحيح ،

١١

إن الذين جاؤوا . . . . .

والإفك : الكذب والأفتراء .

وقيل : هو البهتان لا تشعر به حتى يفجأك . والعصبة : الجماعة وقد تقدم الكلام عليها في سورة يوسف عليه السلام . { مّنكُمْ } أي من أهل ملتكم

وممن ينتمي إلى الإسلام ، ومنهم منافق ومنهم مسلم ، والظاهر أن خبر { ءانٍ } هو { عُصْبَةٌ مّنْكُمْ } و { مّنكُمْ } في موضع الصفة وقاله . الحوفي وأبو البقاء . و { لاَ تَحْسَبُوهُ } : مستأنف . وقال ابن عطية { عُصْبَةٌ } رفع على البدل من الضمى ر في { جاؤوا } وخبر { حَمِيمٍ ءانٍ } في قوله و { لاَ تَحْسَبُوهُ } التقدير أن فعل الذين وهذا أنسق في المعنى وأكثر فائدة من أن يكون { عُصْبَةٌ } خبر { ءانٍ } انتهى . والعصبة : عبد اللّه بن أبيّ رأس النفاق ، وزيد بن رفاعة ، وحسان بن ثابت ، ومسطح بن أثاثة ، وحنة بنت جحش ومن ساعدهم ممن لم يرد ذكر اسمه ، و { تَحْسَبُوهُ } الظاهر أنه عائد على الإفك وعلى اعراب ابن عطية { لاَ تَحْسَبُوهُ } الظاهر أنه عائد على الإفك ، وعلى إعراب ابن عطية . يعول على ذلك المحذوف الذي قدره اسم { ءانٍ} قيل : ويجوز أن يعود على القذف وعلى المصدر المفهوم من { جاؤوا } وعلى ما نال المسلمين من الغم ، والمعنى { مّنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ } ينزل بكم منه عار { بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } لبراءة الساحة وثواب الصبر على ذلك الأذى وانكشاف كذب القاذفين .

وقيل : الخطاب ب تحسبوه للقاذفين وكينونة ذلك خيراً لهم حيث كان هذا الذكر عقوبة معجلة كالكفارة ، وحيث ناب بعضهم . وهذا القول ضعيف لقوله بعد :{ لِكُلّ امْرِىء مّنْهُمْ مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإثْمِ } أي جزاء ما اكتسب ، وذلك بقدر ما خاض فيه لأن بعضهم ضحك وبعضهم سكت وبعضهم تكلم ، و { اكْتَسَبَ } مستعمل في المآثم ونحوها لأنها تدل على اعتمال وقصد فهو أبلغ في الترتيب وكسب مستعمل في الخير لأن حصوله مغن عن الدلالة على اعتمال فيه ، وقد يستعمل كسب في الوجهين .

{وَالَّذِينَ تَوَلَّى } كبره المشهور أنه عبد اللّه بن أبيّ ، والعذاب العظيم عذاب يوم القيامة .

وقيل : هو ما أصاب حسان من ذهاب بصره وشل يده ، وكان ذلك من عبد اللّه بن أبي لإمعانه في عداوة الرسول صلى اللّه عليه وسلم وانتهازه الفرص ، وروي عنه كلام قبيح في ذلك نزهت كتابي عن ذكره وقلمي عن كتابته قبحه اللّه .

وقيل :{ الَّذِى تَوَلَّى كِبْرَهُ } جسان ، والعذاب الأليم عماه وحده وضرب صفوان له بالسيف على رأسه وقال له : توقّ ذباب السيف عني فإنني

غلام إذا هوجيت لست بشاعر

ولكنني أحمي حماي وأتقي

من الباهت الرامي البريء الظواهر

وأنشد حسان أبياتاً يثني فيها على أم المؤمنين ويظهر براءته مما نسب إليه وهي : حصان رزان ما تزنّ بريبة

وتصبح غرثي من لحوم الغوافل

حليلة خير الناس ديناً ومنصبا

نبيّ الهدى والمكرمات الفواضل

عقيلة حي من لؤي بن غالب

كرام المساعي مجدها غير زائل

مهذبة قد طيب اللّه خيمها

وطهرها من كل شين وباطل

فإن كان ما بلغت عني قلته

فلا رفعت سوطي إليّ أناملي

وكيف وودي ما حييت ونصرتي

بآل رسول اللّه زين المحافل

له رتب عال على الناس فضلها

تقاصر عنها سورة المتطاول والمشهور أنه حد حسان ومسطح وحنة . قيل : وعبد اللّه بن أبيّ وقد ذكره بعض شعراء ذلك العصر في شعر .

وقيل : لم يحد مسطح .

وقيل : لم يحد عبد اللّه .

وقيل : لم يحد أحد في هذه القصة وهذا مخالف للنص .{ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } وقابل ذلك بقول : إنما يقال الحد بإقرار أو بينة ، ولم يتقيد بإقامته بالإخبار كما لم يتقيد بقتل المنافقين ، وقد أخبر

تعالى بكفرهم .

وقرأ الجمهور { كِبْرَهُ } بكسر الكاف .

وقرأ الحسن وعمرة بنت عبد الرحمن والزهري وأبو رجاء ومجاهد وأبو البرهثيم والأعمش وحميد وابن أبي عبلة وسفيان الثوري ويزيد بن قطيب ويعقوب والزعفراني وابن مقسم وسورة عن الكسائي ومحبوب عن أبي عمرو بضم الكاف ، والكبر والكبر مصدران لكبر الشيء عظم لكن استعمال العرب الضم ليس في السن . هذا كبر القوم أي كبيرهم سناً أو مكانة . وفي الحديث في قصة حويصة ومحيصة : { الكبر الكبر} .

وقيل { كِبْرَهُ } بالضم معظمه ، وبالكسر البداءة بالإفك .

وقيل : بالكسر الإثم .

١٢

لولا إذ سمعتموه . . . . .

{لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ } هذا تحريض على ظن الخير وزجر وأدب ، والظاهر أن الخطاب للمؤمنين حاشا من تولى كبره . قيل : ويحتمل دخولهم في الخطاب وفيه عتاب ، أي كان الإنكار واجباً عليهم ، وعدل بعد الخطاب إلى الغيبة وعن الضمير إلى الظاهر فلم يجيء التركيب ظننتم بأنفسكم { خَيْرًا } وقلتم ليبالغ في التوبيخ بطريقة الالتفات وليصرح بلفظ الإيمان دلالة على أن الاشتراك فيه مقتض أن لا يصدق مؤمن على أخيه قول عائب ولا طاعن ، وفيه تنبيه على أن حق المؤمن إذا سمع قالة في أخيه أن يبني الأمر فيه على ظن الخير ، وأن يقول بناء على ظنه { هَاذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ } هكذا باللفظ الصريح ببراءة أخيه كما يقول المستيقن المطلع على حقيقة الحال ، وهذا من الأدب الحسن ومعنى { بِأَنفُسِهِمْ } أي كان يقيس فضلاء المؤمنين والمؤمنات هذا الأمر على أنفسهم فإذا كان ذلك يبعد عليهم قضوا بأنه في حق من هو خير منهم أبعد .

وقيل : معنى { بِأَنفُسِهِمْ } بأمهاتهم .

وقيل : بإخوانهم .

وقيل : بأهل دينهم ، وقال { وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ } فسلموا على أنفسكم أي لا يلمز بعضكم بعضاً ، وليسلم بعضكم على بعض .

١٣

لولا جاؤوا عليه . . . . .

{لَوْ لا جَاءو عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء } جعل اللّه فصلاً بين الرمي الكاذب والرمي الصادق ثبوت أربعة شهداء وانتفاؤها .{ فَإِذَا لَمْ يَأْتُواْ } فهم في حكم اللّه وشريعته كاذبون ، وهذا توبيخ وتعنيف للذين سمعوا الإفك ولم يجدّوا في دفعه وإنكاره واحتجاج عليهم بما هو ظاهر مكشوف في الشرع من وجوب تكذيب القاذف بغير بينة والتنكيل .

١٤

انظر تسفير الآية:١٥

١٥

ولولا فضل اللّه . . . . .

{وَلَوْ لا فَضَّلَ اللّه} أي في الدنيا بالنعم التي منها الإمهال للتوبة { وَرَحْمَتُهُ } عليكم في الآخرة بالعفو والمغفرة .{ لَمَسَّكُمْ } العذاب فيما خضتم فيه من حديث الإفك يقال : أفاض في الحديث واندفع وهضب وخاض .{ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ } لعامل في { إِذَا }{ لَمَسَّكُمْ }

وقرأ الجمهور { تَلَقَّوْنَهُ } بفتح الثلاث وشد القاف وشد التاء البزي وأدغم ذال { إِذْ } في التاء النحوين وحمزة أي يأخذه بعضكم من بعض ، يقال : تلقى القول وتلقنه وتلقفه والأصل تتلقونه وهي قراءة أُبيّ .

وقرأ ابن السميفع { تَلَقَّوْنَهُ } بضم التاء والقاف وسكون اللام مضارع ألقى وعنه { تَلَقَّوْنَهُ } بفتح التاء والقاف وسكون اللام مضارع لقي . وقرأت عائشة وابن عباس وعيسى وابن يعمر وزيد بن عليّ بفتح التاء وكسر اللام وضم القاف من قول العرب : ولق الرجل كذب ، حكاه أهل اللغة . وقال ابن سيده ، جاؤوا بالمتعدي شاهد على غير المتعدي ، وعندي أنه أراد يلقون فيه فحذف الحرف ووصل الفعل للضمير .

وحكى الطبري وغيره أن هذه اللفظة مأخوذة من الولق الذي هو الإسراع بالشيء بعد الشيء كعدد في أثر عدد ، وكلام في أثر كلام ، يقال : ولق في سيره إذا أسرع قال :

جاءت به عيسى من الشام يلق

وقرأ ابن أسلم وأبو جعفر تألقونه بفتح التاء وهمزة ساكنة بعدها لام مكسورة من الألق وهو الكذب .

وقرأ يعقوب في رواية المازني تيلقونه بتاء مكسورة بعدها ياء ولام مفتوحة كأنه مضارع ولق بكسر اللام كما قالوا : تيجل مضارع وجلت . وقال سفيان : سمعت أمي تقرأ إذ تثقفونه يعني مضارع ثقف قال : وكان أبوها يقرأ بحرف ابن مسعود . ومعنى { بِأَفْواهِكُمْ } وتديرونه فيها من غير علم لأن الشيء المعلوم يكون في القلب ثم يعبر عنه اللسان ، وهذا الإفك ليس محله إلاّ الأفواه كما قال { يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ}

{وَتَحْسَبُونَهُ هَيّناً } أي ذنباً

صغيراً { وَهُوَ عِندَ اللّه } من الكبائر وعلق مس العذاب بثلاثة آثام تلقى الإفك والتكلم به واستصغاره

١٦

ولولا إذ سمعتموه . . . . .

ثم أخذ يوبخهم على التكلم به ، وكان الواجب عليهم إذ سمعوه أن لا يفوهوا به .

وقال الزمخشري :

فإن قلت : كيف جاز الفصل بين { لَوْ لا } و { قُلْتُمْ } ؟

قلت : للظروف شأن وهو تنزلها من الأشياء منزلة نفسها لوقوعها فيها ، وأنها لا تنفك عنها فلذلك يتسع فيها ما لايتسع في غيرها انتهى . وما ذكره من أدوات التحضى ض يوهم أن ذلك مختص بالظرف وليس كذلك ، بل يجوز تقديم المفعول به على الفعل فتقول : لو لا زيداً ضربت وهلا عمراً قتلت .

قال الزمخشري :

فإن قلت : فأي فائدة في تقديم الظرف حتى أوقع فاصلاً ؟

قلت : الفائدة بيان أنه كان الواجب عليهم أن ينقادوا حال ما سمعوه بالإفك عن التكلم به ، فلما كان ذكر الوقت أهم وجب التقديم .

فإن قلت : ما معنى { يَكُونَ } والكلام بدونه متلئب لو قيل ما لنا أن نتكلم بهذا

قلت : معناه ما ينبغي ويصح أي ما ينبغي { لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَاذَا } ولا يصح لنا ونحوه ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق { وسبحانك } تعجب من عظم الأمر .

فإن قلت : ما معنى التعجب في كلمة التسبيح ؟

قلت : الأصل في ذلك أن تسبيح اللّه عند رؤية المتعجب من صنائعه ثم كثر حتى استعمل في كل متعجب منه ، أو لتنزيه اللّه عن أن تكون حرمة نبيه صلى اللّه عليه وسلم كما قيل فيها انتهى .

١٧

يعظكم اللّه أن . . . . .

{يَعِظُكُمُ اللّه أَن تَعُودُواْ } أي في أن تعودوا ، تقول : وعظت فلاناً في كذا فتركه .{ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } حث لهم على الاتعاظ وتهييج لأن من شأن المؤمن الاحتزاز مما يشينه من القبائح .

وقيل :{ أَن تَعُودُواْ } مفعول من أجله أي كراهة { أَن تَعُودُواْ}

١٨

ويبين اللّه لكم . . . . .

{وَيُبَيّنُ اللّه لَكُمُ الاْيَاتِ } أي الدلالات على علمه وحكمته بما ينزل عليكم من الشرائع ويعلمكم من الآداب ، ويعظكم من المواعظ الشافية .

١٩

إن الذين يحبون . . . . .

{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ} قال مجاهد وابن زيد الإشارة إلى عبد اللّه بن أبي ومن أشبهه .{ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ } لعداوتهم لهم ، والعذاب الأليم في الدنيا الحد ، وفي الآخرة النار . والظاهر في { الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ } العموم في كل قاذف منافقاً كان أو مؤمناً ، وتعليق الوعيد على محبة الشياع دليل على أن إرادة الفسق فسق واللّه يعلم أي البريء من المذنب وسرائر الأمور ، ووجه الحكمة في ستركم والتغليظ في الوعيد .

وقال الحسن : عنى بهذا الوعيد واللعن المنافقين ، وأنهم قصدوا وأحبوا إذاية الرسول صلى اللّه عليه وسلم وذلك كفر وملعون فاعله . وقال أبو مسلم : هم المنافقون أوعدهم اللّه بالعذاب في الدنيا على يد الرسول بالمجاهدة كقوله { جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} وقال الكرماني : واللّه يعلم كذبهم { وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } لأنه غيب .

٢٠

ولولا فضل اللّه . . . . .

وجواب { لَوْ لا } محذوف أي لعاقبكم .{ إِنَّ اللّه } بالتبرئة { لَرَءوفٌ رَّحِيمٌ } بقبول توبة من تاب ممن قذف . قال ابن عباس : الخطاب لحسان ومسطح وحمنة والظاهر العموم .

٢١

يا أيها الذين . . . . .

تقدم الكلام على { خُطُواتِ الشَّيْطَانِ } تفسيراً وقراءة في البقرة . والضمير في { فَإِنَّهُ } عائد على { مِنْ } الشرطية ، أي فإن متبع خطوات الشيطان { يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء } وهو ما أفرط قبحه { وَالْمُنْكَرِ } وهو ما تنكره العقول السليمة أي يصير رأساً في الضلال بحيث يكون آمراً يطيعه أصحابه .

{وَلَوْ لا فَضْلُ اللّه عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ } بالتوبة الممحصة ما طهر أحد منكم .

وقرأ الجمهور { مَا زَكَى } بتخفيف الكاف ، وأمال حمزة والكسائي وأبو حيوة والحسن والأعمش وأبو جعفر في رواية وروح بتشديدها ، وأماله الأعمش وكبت { زَكَى } المخفف بالياء وهو من ذوات الواو على سبيل الشذوذ لأنه قد يمال ، أو على قراءة من شد الكاف .{ وَلَاكِنَّ اللّه يُزَكّى مَن يَشَاء } ممن سبقت له السعادة ، وكان علمه الصالح أمارة على سبقها أو من يشاء بقبول التوبة النصوح { وَاللّه سَمِيعٌ } لأقوالهم { عَلِيمٌ } بضمائرهم .

٢٢

ولا يأتل أولوا . . . . .

{وَلاَ يَأْتَلِ } هو مضارع ائتلى افتعل من الألية وهي الحلف .

وقيل : معناه يقصر من افتعل ألوت قصرت ومنه { لاَ يَأْلُونَكُمْ} وقول الشاعر : وما المرء ما دامت حشاشة نفسه

بمدرك أطراف الخطوب ولا آل وهذا قول أبي عبيدة ، واختاره أبو مسلم . وسبب نزولها المشهور أنه حلف أبي بكر على مسطح أن لا ينفق عليه ولا ينفعه بنافعة . وقال ابن عياش والضحاك : قطع جماعة من المؤمنين منافعهم عمن قال في الإفك ، وقالوا : لا نصل من تكلم فيه فنزلت في جميعهم . والآية تتناول من هو بهذا الوصف .

وقرأ الجمهور { يَأْتَلِ}

وقرأ عبد اللّه بن عياش بن ربيعة وأبو جعفر مولاه وزيد بن أسلم والحسن يتأل مضارع تألى بمعنى حلف . قال الشاعر :

تألى ابن أوس حلفة ليردّني

إلى نسوة كأنهن معائد

والفضل والسعة يعني المال ، وكان مسطح ابن خالة أبي بكر الصديق رضي اللّه عنه ، وكان من المهاجرين وممن شهد بدراً ، وكان ما نسب إليه داعياً أبا بكر أن لا يحسن إليه ، فأمر هو ومن جرى مجراه بالعفو والصفح ، وحين سمع أبو بكر { أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللّه لَكُمْ } ؟ قال : بلى ، أحب أن يغفر اللّه لي ورد إلى مسطح نفقته وقال : واللّه لا أنزعها أبداً .

وقرأ أبو حيوة وابن قطيب وأبو البرهثيم أن تؤتوا بالتاء على الالتفات ، ويناسبه { أَلاَ تُحِبُّونَ } و { أَن يُؤْتُواْ } نصب الفعل المنهي فإن كان بمعنى الحلف فيكون التقدير كراهة { أَن يُؤْتُواْ } وأن لا يؤتوا فحذف لا ، وإن كان بمعنى يقصر فيكون التقدير في أن يؤتوا أو عن أن يؤتوا .

وقرأ عبد اللّه والحسن وسفيان بن الحسين وأسماء بنت يزيد ولتعفوا ولتصفحوا بالتاء أمر خطاب للحاضرين .

٢٣

إن الذين يرمون . . . . .

{إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ } عام في الرامين واندرج فيه الراميان تغليباً للمذكر على المؤنث . و { الْمُحْصَنَاتِ } ظاهره أنه عام في النساء العفائف . وقال النحاس : من أحسن ما قيل فيه أنه عام لجميع الناس من ذكر وأنثى ، وأن التقدير يرمون الأنفس { الْمُحْصَنَاتِ } فيدخل فيه المذكر والمؤنث .

وقيل : هو خاص بمن تكلم فيها في حديث الإفك .

وقيل : خاص بأمهات المؤمنين وكبراهن منزلة وجلالة تلك فعلى أنه خاض بها جمعت إرادة لها ولبناتها من نساء الأمة الموصوفات بتلك الصفات من الإحصان والعقل والإيمان كما قال :

قدني من نصر الخبيبن قدي

يعني عبد اللّه بن

الزبير وأشياعه . و { الْغَافِلَاتِ } السليمات الصدور النقيات القلوب اللاتي ليس فيهن دهاء ولا مكر لأنهن لم يجربن الأمور ولا يفطنّ لما يفطن له المجريات ، كما قال الشاعر : ولقد لهوت بطفلة ميالة

بلهاء تطلعني على أسرارها

وكذلك البله من الرجال في قوله } أكثر أهل الجنة البله} .{ لُعِنُواْ فِى الدُّنْيَا وَالاْخِرَةِ } في قذف المحصنات . قيل : هذا الاستثناء بالتوبة وفي هذه لم يجيء استثناء .

وعن ابن عباس أن من خاض في حديث الإفك وتاب لم تقبل توبته ، والصحيح أن الوعيد في هذه الآية مشروط بعدم التوبة ، ولا فرق بين الكفر والفسق وأن من تاب غفر له . ويناسب أن تكون هذه الآية كما قيل نزلت في مشركي مكة ، كانت المرأة إذا خرجت إلى المدينة مهاجرة قذفوها وقالوا : خرجت لتفجر قاله أبو حمزة اليماني ، ويؤيده قوله { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ }

وعن ابن عباس أنها نزلت في عبد اللّه بن أُبَيّ كان يشك في الدين فإذا كان يوم القيامة علم حيث لا ينفعه .

٢٤

يوم تشهد عليهم . . . . .

والناصب ليوم تشهد ما تعلق به الجار والمجرور وهو ولهم . وقال الحوفي : العامل فيه عذاب ، ولا يجوز لأنه موصوف إلاّ على رأي الكوفيين .

وقرأ الأخوان والزعفراني وابن مقسم وابن سعدان يشهد بياء من تحت لأنه تأنيث مجازي ، ووقع الفصل ، وباقي السبعة بالتاء ، ولما كان قلب الكافر لا يريد ما يشهد به أنطق اللّه الجوارح والألسنة والأيدي والأرجل بما عملوا في الدنيا وأقدرها على ذلك ، وليست الحياة شرطاً لوجود الكلام . وقالت المعتزلة : يخلق في هذه الجوارح الكلام ، وعندهم المتكلم فاعل الكلام فتكون تلك الشهادة من اللّه في الحقيقة إلاّ أنه تعالى أضافها إلى الجوارح توسعاً . وقالوا أيضاً : إنه تعالى ينشىء هذه الجوارح على خلاف ما هي عليه ، ويلجئها أن تشهد على الإنسان وتخبر عنه بأعماله . قال القاضي : وهذا أقرب إلى الظاهر لأن ذلك يفيد أنها بفعل الشهادة .

٢٥

يومئذ يوفيهم اللّه . . . . .

وانتصب { يَوْمَئِذٍ } بيوفيهم ، والتنوين في إذ عوض من الجملة المحذوفة ، والتقدير يوم إذ تشهد .

وقرأ زيد بن عليّ{ يُوَفّيهِمُ } مخففاً والدين هنا الجزاء أي جزاء أعمالهم . وقال : ولم يبق سوى العد

وإن دناهم كما دانوا

ومنه : كما تدين تدان .

وقرأ الجمهور { الْحَقّ } بالنصب صفة لدينهم .

وقرأ عبد اللّه ومجاهد وأبو روق وأبو حيوة بالرفع صفة للّه ، ويجوز الفصل بالمفعول بين الموصول وصفته و { يَعْلَمُونَ } إلى آخره يقوي قول من قال : إن الآية في عبد اللّه بن أُبيّ لأن كل مؤمن يعلم { أَنَّ اللّه هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ}

قال الزمخشري : ولو قلبت القرآن كله وفتشت عما أوعد به العصاة لم تر اللّه عز وجل قد غلظ في شيء تغليظه في الإفك وما أنزل من الآيات القوارع المشحونة بالوعيد الشديد ، والعذاب البليغ ، والزجر العنيف ، واستعظام ما ركب من ذلك واستفظاع ما أقدم عليه ما نزل فيه على طرق مختلفة وأساليب متقنة كل واحد منها كاف في بابه ، ولو لم ينزل إلاّ هذه الثلاث لكفى بها حيث جعل القذفة ملعونين في الدارين جميعاً وتوعدهم بالعذاب العظيم في الآخرة وأن { أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ } تشهد عليهم بما أفكوا وبهتوا به ، وأنه { يُوَفّيهِمُ } جزاء الحق الذي هم أهله حتى يعلموا عند اللّه { أَنَّ اللّه هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ } فأوجز في ذلك وأشبع وفصل وأجمل وأكد وكرر ، وجاء بما لم يقع في وعيد المشركين عبدة الأوثان إلاّ ما هو دونه في الفظاعة انتهى . وهو كلام حسن . ثم قال بعد كلام

فإن قلت : ما معنى قوله { هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ } ؟

قلت : معناه ذو الحق المبين العادل الذي لا ظلم في حكمه ، والمحق الذي لا يوصف بباطل ، ومن هذه صفته لم تسقط عنده إساءة مسيء ولا إحسان محسن ، فحق مثله أن يتقى وتجتنب محارمه انتهى . وفي قوله لم تسقط عنده إساءة مسيء دسيسة الاعتزال .

٢٦

الخبيثات للخبيثين والخبيثون . . . . .

والظاهر أن { الْخَبِيثَاتُ } وصف للنساء ، وكذلك { الطَّيّبَاتِ } أي النساء الخبيثات للرجال { الخبيثين } ويرجحه مقابلته بالذكور فالمعنى أن { الْمُبِينُ الْخَبِيثَاتُ } من النساء ينزعن للخباث من الرجال ، فيكون قريباً من قوله { الزَّانِى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً}

وكذلك { الطَّيّبَاتِ } من النساء { لِلطَّيّبِينَ } من الرجال ويدل على هذا التأويل قول عائشة حين ذكرت التسع التي ما أعطيتهن امرأة غيرها . وفي آخرها : ولقد خلقت طيبة عند طيب ، ولقد وعدت مغفرة ورزقاً كريماً . وهذا التأويل نحا إليه ابن زيد فهو تفريق بين عبد اللّه وأشباهه والرسول وأصحابه ، فلم يجعل اللّه له إلاّ كل طيبة وأولئك خبيثون فهم أهل النساء الخبائث .

وقال ابن عباس والضحاك ومجاهد وقتادة : هي الأقوال والأفعال ، ثم اختلف هؤلاء فقال بعضهم : الكلمات والفعلات الخبيثة لا يقولها ولا يرضاها إلاّ الخبيثون من الناس فهي لهم وهم لها بهذا الوجه .

وقال بعضهم الكلمات : والفعلات لا تليق وتلصق عند رمي الرامي وقذف القاذف إلاّ بالخبيثين من الناس فهي لهم وهم لها بهذا الوجه .

{أُوْلَائِكَ } إشارة للطيبين أو إشارة لهم وللطيبات إذا عنى بهن النساء .{ مُبَرَّءونَ مِمَّا يَقُولُونَ } أي يقول الخبيثون من خبيثات الكلم أو القاذفون الرامون المحصنات ووعد الطيبين المغفرة عند الحساب والرزق الكريم في الجنة .

٢٧

يا أيها الذين . . . . .

غض البصر : أطبق الجفن على الجفن بحيث تمتنع الرؤية . قال الشاعر : فغض الطرف إنك من نمير

فلا كعباً بلغت ولا كلاباً

الخُمر : جمع خمار وهو المقنعة التي تلقي المرأة على رأسها ، وهو جمع كثرة مقيس فيه ، ويجمع في القلة على أخمرة وهو مقيس فيها أيضاً . قال الشاعر : وترى الشجراء في ريقه

كرؤوس قطعت فيها الخمر

الجيب : فتح يكون في طريق القميص يبدو منه بعض الجسد . والعورة : ما احترز من الإطلاع عليه ويغلب في سوأة الرجل . والمرأة الأيم : قال النضر بن شميل : كل ذكر لا أنثى معه ، وكل أنثى لا ذكر معها ووزنه فعيل كلين

ويقال : آمت تئيم . وقال الشاعر : كل امرىء ستئيم من

ه العرس أو منها يئم

أي : سينفرد فيصير أيماً ، وقياس جمعه أيائم كسيائد في جمع سيد وجمعه على فعالى محفوظ لا مقيس . البغاء : الزنا ، يقال : بغت المرأة تبغي بغاء فهي بغي وهو مختص بزنا النساء . المشكاة : الكوة غير النافذة . قال الكلبي حبشي معرب . الزجاجة : جوهر مصنوع معروف ، وضم الزاي لغة الحجاز ، وكسرها وفتحها لغة قيس . الزيت : الدهن المعتصر من حب شجرة الزيتون . قال الكرماني : السراب بخار يرتفع من قعور القيعان فيكيف فإذا اتصل به ضوء الشمس أشبه الماء من بعيد ، فإذا دنا منه الإنسان لم يره كما كان يراه بعيداً . وقال الفراء : السراب : ما لصق بالأرض .

وقيل : هو الشعاع الذي يرى نصف النهار عند اشتداد الحر في البر ، يخيل للناظر أنه الماء السارب أي الجاري . وقال الشاعر : فلما كففنا الحرب كانت عهودكم

كلمع سراب في الفلا متألق

وقال :

أمر الطول لماع السراب

وقيل : السراب ما يرقون من الهواء في الهجير في فيافي الأرض المنبسطة . اللجي : الكثير الماء ، ولجة البحر معظمة ، وكان لجياً مسنوب إلى اللجة . الودق : المطر شديده وضعيفه . قال الشاعر : فلا مزنة ودقت ودقها

ولا أرض أبقل إبقالها

وقال أبو الأشهب العقيلي : هو البرق . ومنه قول الشاعر : أثرن عجاجة وخرجن منها

خروج الودق من خلل السحاب

والودق : مصدر ودق السحاب يدق ودقاً ، ومنه استودقت الفرس . البرد : معروف وهو قطع متجمدة يذوب منه ماء بالحرارة . السنا : مقصور من ذوات الواو وهو الضوء . قال الشاعر :

يضيء سناه أو مصابيح راهب

يقال : سنا يسنو سناً ، والسنا أيضاً نبت يتداوي به ، والسناء بالمد الرفعة والعلو قال :

وسن كسنق سناء وسنما

أذعن للشيء : انقاد له . وقال الزجاج : الإذعان : الإسراع مع الطاعة . الحيف : الميل في الحكم ، يقال : حاف في قضيته أي جار . اللواذ : الروغان من شيء إلى شيء في خفية .

{ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ عَلَى أَهْلِهَا ذالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَآ أَحَداً فَلاَ تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمُ وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُواْ فَارْجِعُواْ هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللّه بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ وَاللّه يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذالِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللّه خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ ءَابَآئِهِنَّ أَوْ ءَابَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِىإِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِى الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَآءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُواْ إِلَى اللّه جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }

جاءت امرأة من الأنصار إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقالت : يا رسول اللّه إني أكون في بيتي على حال لا أحب أن يراني عليها أحد ، فلا يزال يدخل عليّ رجل من أهلي فنزلت { رَّقِيباً يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ } الآية . فقال أبو بكر بعد نزولها : يا رسول اللّه أرأيت الخانات والمساكن التي ليس فيها ساكن فنزل { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ } الآية . ومناسبة هذه الآية لما قبلها هو أن أهل الإفك إنما وجدوا السبيل إلى بهتانهم من حيث اتفقت الخلوة ، فصارت كأنها طريق للتهمة ، فأوجب اللّه تعالى أن لا يدخل المرء بيت غيره إلاّ بعد الاستئذان والسلام ، لأن في الدخول لا على هذا الوجه وقوع التهمة وفي ذلك من المضرة ما لا خفاء به . والظاهر أنه يجوز للإنسان أن يدخل بيت نفسه من غير استئذان ولا سلام لقوله { غَيْرَ بُيُوتِكُمْ } ويروى أن رجلاً قال للنبيّ صلى اللّه عليه وسلم : أأستأذن على أمي ؟ قال : { نعم } قال : ليس لها خادم غيري أأستأذن عليها كلما دخلت ؟ قال :  { أتحب أن تراها عريانة } قال الرجل : لا ، قال : وغيا النهي عن الدخول بالاستئناس والسلام على أهل تلك البيوت ، والظاهر أن الاستئناس هو خلاف الاستيحاش ، لأن الذي يطرق باب غيره لا يدري أيؤذن له أم لا ، فهو كالمستوحش من جفاء الحال إذا أذن له استأنس ، فالمعنى حتى يؤذن لكم كقوله : { لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النَّبِىّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ } وهذا من باب الكنايات والإرداف ، لأن هذا النوع من الاستئناس يردف الإذن فوضع موضع الإذن .

وقد روي عن ابن عباس أنه قال { تَسْتَأْنِسُواْ } معناه تستأذنوا ، ومن روى عن ابن عباس أن قوله { تَسْتَأْنِسُواْ } خطأ أو وهم من الكاتب وأنه قرأ حتى تستأذنوا فهو طاعن في الإسلام ملحد في الدين ، وابن عباس بريء من هذا القول . و { تَسْتَأْنِسُواْ } متمكنة في المعنى بنية الوجه في كلام العرب . وقد قال عمر للنبيّ صلى اللّه عليه وسلم : أستأنس يا رسول اللّه وعمر وأقف على باب الغرفة الحديث المشهور . وذلك يقتضي أنه طلب الأنس به صلى اللّه عليه وسلم.

وقيل : هو من الاستئناس الذي هو الاستعلام والاستكشاف ، استفعال من أنس الشيء إذا أبصره ظاهراً مكشوفاً ، والمعنى حتى تستعلموا وتستكشفوا الحال هل يراد دخولكم أم لا ، ومنه استأنس هل ترى أحداً واستأنست فلم أر أحداً ، أي تعرفت واستعلمت ومنه بيت النابعة : كان رحلى وقد زال النهار بنا

يوم الجليل على مستأنس وحد

ويجوز أن يكون من الإنس وهو أن يتعرف هل ثم إنسان . وعن أبي أيوب قال : قلنا : يا رسول اللّه ، ما الاستئناس ؟ قال :  { يتكلم الرجل بالتسبيحة والتكبيرة يتنحنح يؤذن أهل البيت والتسليم أن يقول السلام عليكم} . وكان أهل الجاهلية يقول الرجل منهم إذا دخل بيتاً غير بيته : حييتم صباحاً وحييتم مساء ثم يدخل ، فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحاف . واحد فصدّ اللّه عن ذلك وعلم الأحسن الأكمل . وذهب الطبري في { تَسْتَأْنِسُواْ } إلى أنه بمعنى حتى تؤنسوا أهل البيت من أنفسكم بالتنحنح والاستئذان ونحوه وتؤنسوا أنفسكم بأن تعلموا أن قد شعر بكم .

قال ابن عطية : وتصريف الفعل يأبى أن يكون من آنس انتهى . وقال عطاء : الاستئذان واجب على كل محتلم ، والظاهر مطلق الاستئذان فيكفي فيه المرة الواحدة . وفي الحديث : { الاستئذان ثلاث } يعني كماله . { فإن أذن له وإلاّ فليرجع ولا يزيد على ثلاث إلاّ أن يحقق أن من في البيت لم يسمع} . والظاهر تقديم الاستئذان على السلام . وفي حديث أبي داود : قل السلام عليكم أأدخل ؟ والواو في { وَتُسَلّمُواْ } لا تقتضي ترتيباً فشرع النداء بالسلام على الإذن لما في السلام من التفاؤل بالسلامة .

{ذالِكُمْ } إشارة إلى المصدر المفهوم من { تَسْتَأْنِسُواْ } و { تسلموا } أي { الاْخِرِ ذالِكُمْ } الاستئناس والتسليم { خَيْرٌ لَّكُمْ } من تحية الجاهلية .{ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } أي شرعنا ذلك ونبهناكم على ما فيه مصلحتكم من الستر وعدم الاطلاع على ما تكرهون الإطلاع عليه { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } اعتناء بمصالحكم .

٢٨

فإن لم تجدوا . . . . .

{فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَا أَحَداً } أي يأذن لكم فلا تقدموا على الدخول في ملك غيركم { حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمُ } إذ قد يكون لرب البيت فيه ما لا يحب أن يطلع عليه .{ وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُواْ فَارْجِعُواْ } وهذا عائد إلى من استأذن في دخول بيت غيره فلم يؤذن له سواء كان فيه من يأذن أم لم يكن ، أي لا تلحوا في طلب الإذن ولا في الوقوف على الباب منتظرين .{ هُوَ أَزْكَى } أي الرجوع أطهر لكم وأنمى خيراً لما فيه من سلامة الصدر والبعد عن الريبة . ثم أخبر أنه تعالى { بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } أي بما تأتون وما تذرون مما خوطبتم به فيجازيكم عليه ، وفي ذلك توعد لأهل التجسس على البيوت وطلب الدخول على غيره والنظر لما لا يحل .

٢٩

ليس عليكم جناح . . . . .

{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ }

قال الزمخشري : استثنى من البيوت التي يجب الاستئذان على داخلها ما ليس بمسكون منها نحو الفنادق وهي الخانات والربط وحوانيت البياعين ، والمتاع المنفعة كالاستكنان من الحر والبرد وإيواء الرحال والسلع والشراء والبيع انتهى . وما ذكره الزمخشري من أنه استثناء من البيوت كما ذكر هو مروي عن ابن عباس وعكرمة والحسن ، ولا يظهر أنه استثناء لأن الآية الأولى في البيوت المسكونة والمملوكة ، ولذلك قال { بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ } وهذا الآية الثانية هي في البيوت المباحة ، وقد مثل العلماء لهذه البيوت أمثلة . فقال محمد بن الحنفية وقتادة ومجاهد : هي في الفنادق التي في طرق المسافرين . قال مجاهد : لا يسكنها أحد بل هي موقوفة يأوي إليها كل ابن سبيل . و { فِيهَا مَتَاعٌ } لهم أي استمتاع بمنفعتها ، ومثل عطاء بالخرب التي تدخل للتبرز . وقال ابن زيد والشعبي : هي حوانيت القيسارية والسوق . قال ابن الحنيفة أيضاً : هي دور مكة ، وهذا لا يسوغ إلا على القول بأن دور مكة غير مملوكة ، وأن الناس فيها شركاء وأن مكة فتحت عنوة .{ وَاللّه يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ } وعيد للذين يدخلون البيوت غير المسكونة من أهل الريب .

٣٠

قل للمؤمنين يغضوا . . . . .

و { مِنْ } في { مِنْ أَبْصَارِهِمْ } عند الأخفش زائدة أي { يَغُضُّواْ }{ أَبْصَارَهُمْ } عما يحرم ، وعند غيره للتبعيض وذلك أن أول نظرة لا يملكها الإنسان وإنما يغض فيما بعد ذلك ، ويؤيده قوله لعليّ كرم اللّه وجهه : لا تتبع النظرة النظرة فإن الأولى لك وليست لك

الثانية . و

قال ابن عطية : يصح أن تكون { مِنْ } لبيان الجنس ، ويصح أن تكون لابتداء الغاية انتهى . ولم يتقدم مبهم فتكون { مِنْ } لبيان الجنس على أن الصحيح أن من ليس من موضوعاتها أن تكون لبيان الجنس .{ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ } أي من الزنا ومن التكشف . ودخلت { مِنْ } في قوله { مِنْ أَبْصَارِهِمْ } دون الفرج دلالة على أن أمر النظر أوسع ، ألا ترى أن الزوجة ينظر زوجها إلى محاسنها من الشعر والصدور والعضد والساق والقدم ، وكذلك الجارية المستعرضة وينظر من الأجنبية إلى وجهها وكفيها

وأما أمر الفرج فمضيق . وعن أبي العالية وابن زيد : كل ما في القرآن من حفظ الفرج فهو من الزنا إلاّ هذا فهو من الاستتار ، ولا يتعين ما قاله بل حفظ الفرج يشمل النوعين .{ ذالِكَ } أي غض البصر وحفظ الفرج أطهر لهم { إِنَّ اللّه خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } من إحالة النظر وانكشاف العورات ، فيجازي على ذلك . وقدم غض البصر على حفظ الفرج لأن النظر بريد الزنا ورائد الفجور والبلوى فيه أشد وأكثر لا يكاد يقدر على الاختزاز منه ، وهو الباب الأكبر إلى القلب وأعمر طرق الحواس إليه ويكثر السقوط من جهته . وقال بعض الأدباء : وما الحب إلا نظرة إثر نظرة

تزيد نمواً إن تزده لجاجاً

٣١

وقل للمؤمنات يغضضن . . . . .

ثم ذكر تعالى حكم المؤمنات في تساويهنّ مع الرجال في الغض من الأبصار وفي الحفظ للفروج . ثم قال { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ } واستثنى ما ظهر من الزينة ، والزينة ما تتزين به المرأة من حليّ أو كحل أو خضاب ، فما كان ظاهراً منها كالخاتم والفتخة والكحل والخضاب فلا بأس بإبدائه للأجانب ، وما خفى منها كالسوار والخلخال والدملج والقلادة والإكليل والوشاح والقرط فلا تبديه إلا لمن استثنى . وذكر الزينة دون مواضعها مبالغة في الأمر بالتصون والتستر لأن هذه الزين واقعة على مواضع من الحسد لا يحل النظر إليها لغير هؤلاء وهي الساق والعضد والعنق والرأس والصدر والآذان ، فنهى عن إبداء الزين نفسها ليعلم أن النظر لا يحل إليها لملابستها تلك المواقع بدليل النظر إليها غير ملابسة لها ، وسومح في الزينة الظاهرة لأن سترها فيه حرج فإن المرأة لا تجديدّاً من مزاولة الأشياء بيدها ومن الحاجة إلى كشف وجهها خصوصاً في الشهادة والمحاكمة والنكاح ، وتضطر إلى المشي في الطرقات وظهور قدميها خاصة الفقيرات منهنّ وهذا معنى قوله { إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا } يعني إلاّ ما جرت العادة والجبلة على ظهوره ، والأصل فيه الظهور وسومح في الزينة الخفيفة . أولئك المذكورون لما كانوا مختصين به من الحاجة المضطرة إلى مداخلتهم ومخالطتهم ولقلة توقع الفتنة من جهاتهم ولما في الطباع من النفر عن مماسة القرائب ، وتحتاج المرأة إلى صحبتهم في الأسفار للنزول والركوب وغير ذلك . وقال ابن مسعود { مَا ظَهَرَ مِنْهَا } هو الثياب ، ونص على ذلك أحمد قال : الزينة الظاهرة الثياب ، وقال تعالى { خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ } وفسرت الزينة بالثياب .

وقال ابن عباس : الكحل والخاتم . وقال الحسن في جماعة : الوجه والكفان . وقال ابن جريج : الوجه والكحل والخاتم والخضاب والسوار . وقال الحسن أيضاً : الخاتم والسور .

وقال ابن عباس : الكحل والخاتم فقط . وقال المسور بن مخرمة : هما والسوار . وقال الحسن أيضاً : الخاتم والسوار . وقال ابن بحر : الزينة تقع على محاسن الخلق التي فعلها اللّه وعلى ما يتزين به من فضل لباس ، فنها هنّ اللّه عن إبداءً ذلك لمن ليس بمحرم واستثنى ما لا يمكن اخفاؤه في بعض الأوقات كالوجه والأطراف على غير التلذذ . وأنكر بعضهم إطلاق الزينة على الخلقة والأقرب دخوله في الزينة وأي زينة أحسن من خلق العضو في غاية الاعتدال والحسن .

وفي قوله { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ } دليل على أن الزينة ما يعم الخلقة وغيرها ، منعهنّ من إظهار محاسن خلقهنّ فأوجب سترها بالخمار . وقد يقال لما كان الغالب من الوجه والكفين ظهورها عادة وعبادة في الصلاة والحج حسن أن يكون الاستثناء راجعاً إليهما ، وفي السنن لأبي داود أنه عليه السلام قال : { يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلاّ هذا : وأشار إلى وجهه وكفيه . وقال ابن خويز منداد : إذا كانت جميلة وخيف من وجهها

وكفيها الفتنة فعليها ستر ذلك ، وكان النساء يغطين رؤوسهنّ بالأخمرة ويسدلنها من وراء الظهر فيبقى النحر والعنق والأذنان لا ستر عليهنّ وضمن { وَلْيَضْرِبْنَ } معنى وليلقين وليضعن ، فلذلك عداه بعلى كما تقول ضربت بيدي على الحائط إذا وضعتها عليه .

وقرأ عياش عن أبي عمرو { وَلْيَضْرِبْنَ } بكسر اللام وطلحة { بِخُمُرِهِنَّ } بسكون الميم وأبو عمرو ونافع وعاصم وهشام { جُيُوبِهِنَّ } بضم الجيم وباقي السبعة بكسر الجيم .

وبدأ تعالى بالأزواج لأن اطلاعهم يقع على أعظم من الزينة ، ثم ثنى بالمحارم وسوى بينهم في إبداء الزينة ولكن تختلف مراتبهم في الحرمة بحسب ما في نفوس البشر ، فالأب والأخ ليس كابن الزوج فقد يُبدي للأب ما لا يبدى لابن الزوج . ولم يذكر تعالى هنا العم ولا الخال . وقال الحسن : هما كسائر المحارم في جواز النظر قال : لأن الآية لم يذكر فيها الرضاع وهو كالنسب ، وقال في سورة الأحزاب { لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِىءابَائِهِنَّ } ولم يذكر فيها البعولة وذكرهم هنا ، والإضافة في { نِسَائِهِنَّ } إلى المؤمنات تقتضي تعميم ما أضيف إليهن من النساء من مسلمة وكافرة كتابية ومشركة من اللواتي يكن في صحبة المؤمنات وخذمتهن ، وأكثر السلف على أن قوله {أَوْ نِسَائِهِنَّ } مخصوص بمن كان على دينهن .

قال ابن عباس : ليس للمسلمة أن تتجرد بين نساء أهل الذمة ولا تبدي للكافرة إلاّ ما تبدي للأجانب إلاّ أن تكون أَمة لقوله {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } وكتب عمر إلى أبي عبيدة أن امنع نساء أهل الذمة من دخول الحمام مع المؤمنات . والظاهر العموم في قوله {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } فيشمل الذكور والإناث ، فيجوز للعبد أن ينظر من سيدته ما ينظر أولئك المستثنون وهو مذهب عائشة وأم سلمة . وعن مجاهد : كان أمهات المؤمنين لا يحتجبن عن مكاتبهن ما بقي عليه درهم ، وروي أن عائشة كانت تمتشط وعبدها ينظر إليها . وعن سعيد بن المسيب مثله ثم رجع عنه . وقال ابن مسعود والحسن وابن المسيب وابن سيرين : لا ينظر العبد إلى شعر مولاته وهو قول أبي حنيفة . وفي الحديث : { لا يحل لامرأة تؤمن باللّه واليوم الآخر أن تسافر سفراً فوق ثلاث إلاّ مع ذي محرم } والعبد ليس بذي محرم . وقال سعيد بن المسيب : لا يغرنكم آية النور فإن المراد بها الإماء .

قال الزمخشري : وهذا هو الصحيح لأن عبد المرأة بمنزلة الأجنبي منها خصياً كان أو فحلاً . وعن ميسون بنت بحدل الكلابية : إن معاوية دخل عليها ومعه خصي فتقنعت منه ، فقال : هو خصي فقالت : يا معاوية أترى المثلة تحلل ما حرم اللّه . وعند أبي حنيفة لا يحل إمساك الخصيان واستخدامهم وبيعهم وشراؤهم ، ولم ينقل عن أحد من السلف إمساكهم انتهى . والإربة الحاجة إلى الوطء لأنهم بله لا يعرفون شيئاً من أمر النساء ، ويتبعون لأنهم يصيبون من فضل الطعام .

قال ابن عطية : ويدخل في هذه الصفة المجنون والمعتوه والمخنث والشيخ الفاني والزمن الموقوذ بزمانته .

وقرأ ابن عامر وأبو بكر بالنصب على الحال أو الاستثناء وباقي السبعة بالجر على النعت وعطف {أَوِ الطّفْلِ } على { مِنَ الرّجَالِ } قسم التابعين غير أولي الحاجة للوطء إلى قسمين رجال وأطفال ، والمفرد المحكي بأل يكون للجنس فيعم ، ولذلك وصف بالجمع في قوله { الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ } ومن ذلك قول العرب : أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض يريد الدنانير والدراهم فكأنه قال : أو الأطفال . و { الطّفْلِ } ما لم يبلغ الحلم وفي مصحف حفصة أو الأطفال جمعاً .

وقال الزمخشري : وضع الواحد موضع الجمع لأنه يفيد الجنس ويبين ما بعده أنه يراد به الجمع ونحوه { يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً } انتهى . ووضع المفرد موضع الجمع لا ينقاس عند سيبويه وإنما قوله { الطّفْلِ } من باب المفرد المعرف بلام الجنس فيعم كقوله { إِنَّ الإنسَانَ لَفِى خُسْرٍ } ولذلك صح الاستثناء منه والتلاوة ثم يخرجكم بثم لا بالواو . وقوله ونحوه ليس نحوه لأن هذا معرف بلام الجنس وطفلاً نكره ، ولا يتعين حمل طفلاً هنا على الجمع الذي لا يقيسه سيبويه لأنه يجوز أن يكون المعنى ثم يخرج كل واحد منكم كما قيل في قوله تعالى { وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ } أي لكل واحدة منهن . وكما تقول : بنو فلان يشبعهم رغيف أي يشبع كل واحد منهم رغيف . وقوله { الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ } إما من قولهم ظهر على الشيء إذا اطّلع عليه أي لا يعرفون ما العورة ولا يميزون بينها وبين غيرها ،

وإما من ظهر على فلان إذا قوي عليه وظهر على القرن أخذه . ومنه { فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ } أي غالبين قادرين عليه ، فالمعنى لم يبلغوا أوان القدرة على الوطء .

وقرأ الجمهور { عَوْراتِ } بسكون الواو وهي لغة أكثر العرب لا يحركون الواو والياء في نحو هذا الجمع . وروي عن ابن عباس تحريك واو { عَوْراتِ } بالفتح . والمشهور في كتب النحو أن تحريك الواو والياء في مثل هذا الجمع هو لغة هذيل بن مدركة . ونقل ابن خالويه في كتاب شواذ القراءات أن ابن أبي إسحاق والأعمش قرأ { عَوْراتِ } بالفتح . قال : وسمعنا ابن مجاهد يقول : هو لحن وإنما جعله لحناً وخطأ من قبل الرواية وإلاّ فله مذهب في العربية بنو تميم يقولون : روضات وجورات وعورات ، وسائر العرب بالإسكان . وقال الفراء : العرب على تخفيف ذلك إلاّ هذيلاً فتثقل ما كان من هذا النوع من ذوات الياء والواو . وأنشدني بعضهم : أبو بيضات رائح متأوب

رفيق بمسح المنكبين سبوح

{وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ } كانت المرأة تضرب الأرض برجلها ليتقعقع خلخالها فيعلم أنها ذات خلخال .

وقال ابن عباس : هو قرع الخلخال بالإجراء وتحريك الخلاخل عند الرجال . وزعم حضرمي أن امرأة اتخذت خلخالاً من فضة واتخذت جزعاً فجعلته في ساقها ، فمرت على القوم فضربت برجلها الأرض فوقع الخلخال على الجزع فصوت فنزلت هذه الآية . وقال الزجاج : وسماع صوت ذي الزينة أشد تحريكاً للشهوة من إبدائها انتهى . وقال أبو محمد بن حزم ما معناه أنه تعالى نهاهن عن ذلك لأن المرأة إذا مرت على الرجال قد لا يلتفت إليها ولا يشعر بها : وهي تكره أن لا ينظر إليها ، فإذا فعلن ذلك نبهن على أنفسهن وذلك بحبهن في تعلق الرجال بهن ، وهذا من خفايا الإعلام بحالهن . وقال مكي : ليس في كتاب اللّه آية أكثر ضمائر من هذه ، جمعت خمسة وعشرين ضميراً للمؤمنات من مخفوض ومرفوع .

وقال الزمخشري : وإنما نهى عن إظهار صوت الحلّي بعد ما نهى عن إظهار الحلّي علم بذلك أن النهي عن إظهار مواقع الحلّي أبلغ .

{وَتُوبُواْ إِلَى اللّه جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ } لما سبقت أوامر منه تعالى ومناه ، وكان الإنسان لا يكاد يقدر على مراعاتها دائماً وإن ضبط نفسه واجتهد فلا بد من تقصير أمر بالتوبة وبترجي الفلاح إذا تابوا .

وعن ابن عباس { تُوبُواْ } مما كنتم تفعلونه في الجاهلية لعلكم تسعدون في الدنيا والآخرة .

وقرأ ابن عامر { ءايَةً الْمُؤْمِنُونَ } ويا أية الساحر يا أيه الثقلان بضم الهاء ، ووجهه أنها كانت مفتوحة لوقوعها قبل الألف ، فلما سقطت الألف بالتقاء الساكنين اتبعت حركتها حركة ما قبلها وضمها التي للتنبيه بعد أي لغة لبني مالك رهط شقيق ابن سلمة ، ووقف بعضهم بسكون الهاء لأنها كتبت في المصحف بلا ألف بعدها ووقف بعضهم بالألف .

٣٢

وأنكحوا الأيامى منكم . . . . .

لما تقدمت أوامر ونواةٍ في غض البصر وحفظ الفرج وإخفاء الزينة وغير ذلك وكان الموجب للطموح من الرجال إلى النساء ومن النساء إلى الرجال هو عدم التزوج غالباً لأن في تكاليف النكاح وما يجب لكل واحد من الزوجين ما يشغل أمر تعالى بإنكاح الأيامى ، وهم الذين لا أزواج لهم من الصنفين حتى يشتغل كل منهما بما يلزمه ، فلا يلتفت إلى غيره . والظاهر أن الأمر في قوله { وَأَنْكِحُواْ } للوجوب ، وبه قال أهل الظاهر ، وأكثر العلماء على أنه هنا للندب ولم يخل عصر من الأعصار من وجود { الايَامَى } ولم ينكر ذلك ولا أمر الأولياء بالنكاح .

وقال الزمخشري :{ الايَامَى } واليتامى أصلهما أيائم ويتائم فقلبا

انتهى . وفي التحرير قال أبو عمر : وأيامى مقلوب أيائم ، وغيره من النحويين ذكر أن أيماً ويتيماً جمعاً على أيامي ويتامى شذوذاً يحفظ ووزنه فعالى ، وهو ظاهر كلام سيبويه . قال سيبويه في أواخر هذا باب تكسير ما كان من الصفات . وقالوا : وج ووجياً كما قالوا : زمن وزمنى فأجروه على المعنى كما قالوا : يتيم ويتامى وأيم وأيامى فأجروه مجرى رجاعي انتهى . وتقدم في المفردات الأيم من لا زوج له من ذكر أو أنثى . وفي شرح كتاب سيبويه لأبي بكر الخفاف : الأيم التي لا زوج لها ، وأصله في التي كانت متزوجة ففقدت زوجها برزءٍ طرأ عليها فهو من البلايا ، ثم قبل في البكر مجازاً لأنها لا زوج لها انتهى .

{مّنكُمْ } خطاب للمؤمنين ، أمر تعالى بإنكاح من تأيم من الأحرار والحرائر ومن فيه صلاح من العبيد والإماء ، واندرج المؤنث في المذكر في قوله { وَالصَّالِحِينَ } وخص الصالحين ليحصن لهم دينهم ويحفظ عليهم صلاحهم ، ولأن { الصَّالِحِينَ } من الأرقاء هم الذين يشفق مواليهم عليهم وينزلونهم منزلة الأولاد في الأثرة والمودة ، فكانوا مظنة للاهتمام بشأنهم وتقبل الوصية فيهم ، والمفسدون منهم حالهم عند مواليهم على عكس ذلك .

وقيل : معنى { وَالصَّالِحِينَ } أي للنكاح والقيام بحقوقه .

وقرأ مجاهد والحسن من عبيدكم بالياء مكان الألف وفتح العين وأكثر استعماله في المماليك .

و { إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللّه مِن فَضْلِهِ } هذا مشروط بالمشيئة المذكورة في قوله :{ وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّه مِن فَضْلِهِ إِن شَاء}{ وَاللّه واسِعٌ } أي ذو غنى وسعة ، يبسط اللّه لمن يشاء { عَلَيْهِمْ } بحاجات الناس ، فيجري عليهم ما قدر من الرزق .

٣٣

وليستعفف الذين لا . . . . .

{وَلْيَسْتَعْفِفِ } أي ليجتهد في العفة وصون النفس وهو استفعل بمعنى طلب العفة من نفسه وحملها عليها ، وجاء الفك على لغة الحجاز ولا يعلم أحد قرأ وليستعف بالإدغام { الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً} قيل النكاح هنا اسم ما يمهر وينفق في الزواج كاللحاف واللباس لما يلتحف به ويلبس ، ويؤيده قوله { حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللّه مِن فَضْلِهِ } فالمأمور بالاستعفاف هو من عدم المال الذي يتزوج به ويقوم بمصالح الزوجية . والظاهر أنه أمر ندب لقوله قبل { إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللّه مِن فَضْلِهِ}

ومعنى { لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً } أي لا يتمكنون من الوصول إليه ، فالمعنى أنه أمر بالاستعفاف كل من تعذر عليه النكاح ولا يجده بأي وجه تعذر ، ثم أغلب الموانع عن النكاح عدم المال و { حَتَّى يُغْنِيَهُمُ } ترجئة للمستعففين وتقدمة للوعد بالتفضل عليهم ، فالمعنى ليكون انتظار ذلك وتأميله لطفاً في استعفافهم وربطاً على قلوبهم ، وما أحسن ما ترتبت هذه الأوامر حيث أمر أولاً بما يعصم عن الفتنة ويبعد عن مواقعة المعصية وهو غض البصر ، ثم بالنكاح الذي يحصن به الدين ويقع به الاستغناء بالحلال عن الحرام ، ثم بالحمل على النفس الأمارة بالسوء وعزفها عن الطموح إلى الشهوة عند العجز عن النكاح إلى أن يرزق القدرة عليه انتهى . وهو من كلام الزمخشري وهو حسن ، ولما بعث السيد على تزويج الصالحين من العبيد والإماء رغبهم في أن يكاتبوهم إذا طلبوا ذلك ليصيروا أحراراً فيتصرفون في أنفسهم .

{وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ } أي المكاتبة كالعتاب والمعاتبة .{ مِمَّا مَلَكَتْ } يعم المماليك الذكور والإناث . و { الَّذِينَ } يحتمل أن يكون مبتدأ وخبره الجملة ، والفاء دخلت في الخبر لما تضمن الموصول من معنى اسم الشرط ، ويحتمل أن يكون منصوباً كما تقول : زيداً فاضربه لأنه يجوز أن تقول زيداً فاضرب ، وزيداً اضرب ، فإذا دخلت الفاء كان التقدير بنية فاضرب زيداً فالفاء في جواب أمر محذوف ، وهذا يوضح في النحو بأكثر من هذا . قال الأزهري : وسمي هذا العقد مكاتبة لما يكتب للعبد على السيد من العتق إذا أدى ما تراضيا عليه من المال ، وما يكتب للسيد على العبد من النجوم التي يؤديها ، والظاهر وجوب المكاتبة لقوله { فَكَاتِبُوهُمْ } وهذا مذهب عطاء وعمرو بن دينار والضحاك وابن سيرين وداود ، وظاهر قول عمر لأنه قال لأنس حين سأل سيرين الكتابة فتلكأ أنس كاتبه ، أو لأضربنك بالدرة ، وذهب مالك وجماعة إلى أنه أمر ندب وصيغتها كاتبتك على كذا ، ويعين ما كاتبه عليه ، وظاهر الأمر يقتضي أنه لا يشترط تنجيم ولا حلول بل يكون حالاً

ومؤجلاً ومنجماً وغير منجم ، وهذا مذهب أبي حنيفة .

وقال الشافعي : لا يجوز على أقل من ثلاثة أنجم . وقال أكثر العلماء : يجوز على نجم واحد . وقال ابن خويز منداد : إذا كاتب على مال معجل كان عتقاً على مال ولم تكن كتابة ، وأجاز بعض المالكية الكتابة الحالية وسماها قطاعة . والخير المال قاله ابن عباس ومجاهد وعطاء والضحاك ، أو الحيلة التي تقتضي الكسب قاله ابن عباس أيضاً أو الدين قاله الحسن ، أو إقامة الصلاة قاله عبيدة السلماني ، أو الصدق والوفاء والأمانة قاله الحسن وإبراهيم أو إرادة خير بالكتابة قاله سعيد بن جبير . وقال الشافعي : الأمانة والقوة على الكسب والذي يظهر من الاستعمال أنه الدين يقول : فلان فيه خير فلا يتبادر إلى الذهن إلاّ الصلاح ، والأمر بالكتابة مقيد بهذا الشرط ، فلو لم يعلم فيه خيراً لم تكن الكتابة مطلوبة بقوله { فَكَاتِبُوهُمْ } والظاهر في { وَءاتُوهُم } أنه أمر للمكاتبين وكذا

قال المفسرون وجمهور العلماء ، واختلفوا هل هو على الوجوب أو على الندب ؟ واستحسن ابن مسعود والحسن أن يكون ثلث الكتابة وَعلى ربعها ، وقتادة عشرها . وقال عمر : من أول نجومه مبادرة إلى الخير . وقال مالك : من آخر نجم . وقال بريدة والحسن والنخعي وعكرمة والكلبي والمقاتلان : أمر الناس جميعاً بمواساة المكاتب وإعانته . وقال زيد بن أسلم : الخطاب لولاة الأمور أن يعطوا المكاتبين من مال الصدقة حقهم وهو الذي تضمنه قوله { وَفِي الرّقَابِ}

وقال صاحب النظم : لو كان المراد بالإيتاء الحط لوجب أن تكون العبارة العربية ضعوا عنهم أو قاصوهم ، فلما قال { وَءاتُوهُم } دل على أنه من الزكاة إذ هي مناولة وإعطاء ، ويؤكده أنه أمر بإعطاء وما أطلق عليه الإعطاء كان سبيله الصدقة . وقوله { مِن فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ } هو ما ثبت ملكه للمالك أمر بإخراج بعضه ، ومال الكتابة ليس بدين صحيح لأنه على عبده ، والمولى لا يثبت له على عبده دين صحيح ، وأيضاً ما آتاه اللّه هو الذي يحصل في يده ويملكه وما يسقطه عقيب العقد لا يحصل له عليه ملك فلا يستحق الصفة بأنه من مالك اللّه الذي آتاه .

{وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء } في صحيح مسلم عن جابر إن جارية لعبد اللّه بن أُبَيّ يقال لها مسيكة وأخرى يقال لها أميمة كان يكرههما على الزنا ، فشكيا ذلك إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فنزلت .

وقيل : كانت له ست معاذة ومسيكة وأميمة وعمرة وأروى وقتيلة جاءته إحداهن ذات يوم بدينار وأخرى ببرد ، فقال لهما ارجعا فازنيا ، فقالتا : واللّه لا نفعل ذلك وقد جاءنا اللّه بالإسلام وحرم الزنا ، فأتتا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وشكتا فنزلت والفتاة المملوكة وهذا خطاب للجميع ، ويؤكد أن يكون { وَءاتُوهُم } خطاباً للجميع والنهي عن الإكراه على الزنا مشروط بإرادة التعفف منهن ، لأنه لا يمكن الإكراه إلاّ مع إرادة التحصن ، أما إذا كانت مريدة للزنا فإنه لا يتصور الإكراه . وكلمه { ءانٍ } وايثارها على إذا إيذان بأن المسافحات كن يفعلن ذلك برغبة وطواعية منهن ، وأن ما وجد من معاذة ومسيكة من خبر الشاذ النادر . وقد ذهب هذا النظر على كثير من المفسرين فقال بعضهم { إِنْ أَرَدْنَ } راجع إلى قوله { وَأَنْكِحُواْ الايَامَى مِنْكُمْ } وهذا فيه بعد وفصل كثير ، وأيضاً فالأيامى يشمل الذكور والإناث ، فكان لو أريد هذا المعنى لكان التركيب : إن أرادوا تحصناً فيغلب المذكر على المؤنث .

وقال بعضهم : هذا الشرط ملغى . وقال الكرماني : هذا شرط في الظاهر وليس بشرط كقوله { ءانٍ اللّه فِيهِمْ خَيْرًا } ومع أنه وإن كان لم يعلم خيراً صحت الكتابة .

وقال ابن عيسى : جاء بصيغة الشرط لتفحيش الإكراه على ذلك ، وقال : لأنها نزلت على سبب فوقع النهي على تلك الصفة انتهى . و { عَرَضَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا } هو ما يكسبنه بالزنا . وقوله { فَإِنَّ اللّه } جواب للشرط . والصحيح أن التقدير { غَفُورٌ رَّحِيمٌ } لهم ليكون جواب الشرط فيه ضمير يعود على من الذين هو اسم الشرط ، ويكون ذلك مشروطاً بالتوبة . ولما غفل الزمخشري وابن عطية وأبو البقاء عن هذا الحكم قدروا { فَإِنَّ اللّه }{ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } لهن أي للمكرهات ، فعريت جملة جواب الشرط من ضمير يعود على اسم الشرط . وقد ضعف ما قلناه أبو عبد اللّه الرازي فقال : فيه وجهان

أحدهما : فإن اللّه غفور رحيم لهنّ لأن الإكراه يزيل الإثم والعقوبة من المكره فيما فعل ،

والثاني : فإن اللّه غفور رحيم للمكره بشرط التوبة ، وهذا ضعيف لأنه على التفسير الأول لا حاجة لهذا الإضمار . وعلى الثاني يحتاج إليه انتهى .

وكلامهم كلام من لم يمعن في لسان العرب .

فإن قلت : قوله { إِكْرَاهِهِنَّ } مصدر أضيف إلى المفعول والفاعل مع المصدر محذوف ، والمحذوف كالملفوظ والتقدير من بعد إكراههم إياهنّ والربط يحصل بهذا المحذوف المقدر فلتجز المسألة

قلت : لم يعدوا في الروابط الفاعل المحذوف ، تقول : هند عجبت من ضربها زيداً فتجوز المسألة ، ولو قلت هند عجبت من ضرب زيداً لم تجز . ولما قدر الزمخشري في أحد تقدير أنه لهن أورد سؤالاً

فإن قلت : لا حاجة إلى تعليق المغفرة بهن لأن المكرهة على الزنا بخلاف المكره عليه في أنها غير آثمة

قلت : لعل الإكراه كان دون ما اعتبرته الشريعة من إكراه بقتل أو بما يخاف منه التلف أو ذهاب العضو من ضرب عنيف وغيره حتى يسلم من الإثم ، وربما قصرت عن الحد الذي تعذر فيه فتكون آثمة انتهى . وهذا السؤال والجواب مبنيان على تقدير لهنّ .

٣٤

ولقد أنزلنا إليكم . . . . .

وقرأ { مُبَيّنَاتٍ } بفتح الياء الحرميان وأبو عمرو وأبو بكر أي بيَّن اللّه في هذه السورة وأوضح آيات تضمنت أحكاماً وحدوداً وفرائض ، فتلك الآيات هي المبينة ، ويجوز أن يكون المراد مبيناً فيها ثم اتسع فيكون المبين في الحقيقة غيرها . وهي ظرف للمبين .

وقرأ باقي السبعة والحسن وطلحة والأعمش بكسر الياء ، فإما أن تكون متعدية أي { مُبَيّنَاتٍ } غيرها من الأحكام والحدود ، فأسند ذلك إليها مجاذاً ،

وإما أن تكون لا تتعدى أي بينات في نفسها لا تحتاج إلى موضح بل هي واضحة لقولهم في المثل . قد بيَّن الصبح لذي عينين . أي قد ظهر ووضح . وقوله { وَمَثَلاً } معطوف على آيات ، فيحتمل أن يكون المعنى { وَمَثَلاً } من أمثال الذين من قبلكم ، أي قصة غريبة من قصصهم كقصة يوسف ومريم في براءتهما لبراءة من رميت بحديث الإفك لينظروا قدرة اللّه في خلقه وصنعه فيه فيعتبروا . وقال الضحاك : والمراد بالمثل ما في التوراة والإنجيل من إقامة الحدود ، فأنزل في القرآن مثله . وقال مقاتل : أي شبهاً من حالهم في تكذيب الرسل أي بينا لكم ما أحللنا بهم من العذاب لتمردهم ، فجعلنا ذلك مثلاً لكم لتعلموا أنكم إذا شاركتموهم في المعصية كنتم مثلهم في استحقاق العقاب .{ وَمَوْعِظَةً لّلْمُتَّقِينَ } أي ما وعظ في الآيات والمثل من نحو قوله { وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ }{ وَلا أَذًى سَمِعْتُمُوهُ يَعِظُكُمُ اللّه أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ أَبَداً } وخص المتقين لأنهم المنتفعون بالموعظة .

٣٥

اللّه نور السماوات . . . . .

النور في كلام العرب الضوء المدرك بالبصر ، فإسناده إلى اللّه تعالى مجاز كما تقول زيد كرم وجود وإسناده على اعتبارين ، إما على أنه بمعنى اسم الفاعل أي منوّر السموات والأرض ، ويؤيد هذا التأويل قراءة عليّ بن أبي طالب وأبي جعفر وعبد العزيز المكي وزيد بن عليّ وثابت بن أبي حفصة والقورصي ومسلمة بن عبد الملك وأبي عبد الرحمن السلمي وعبد اللّه بن عياش بن أبي ربيعة { نُورٍ } فعلاً ماضياً و { الاْرْضِ } بالنصب .

وإما على حذف أي ذو نور ، ويؤيده قوله { مَثَلُ نُورِهِ } ويحتمل أن يجعل نوراً على سبيل المدح ، كما قالوا فلان شمس البلاد ونور القبائل وقمرها ، وهذا مستفيض في كلام العرب وأشعارها . قال الشاعر : كأنك شمس والملوك كواكب وقال :

قمر القبائل خالد بن زيد وقال :

إذا سار عبد اللّه من مرو ليلة

فقد سار منها بدرها وجمالها

ويروى نورها ، وأضاف النور إلى { السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ } لدلالة على سعة إشراقه وفشو إضاءته حتى يضيء له السموات والأرض ، أو يراد أهل السموات والأرض وأنهم يستضيئون به .

وقال ابن عباس :{ نُورٍ السَّمَاوَاتِ } أي هادي أهل السموات . وقال مجاهد : مدبر أمور السموات . وقال الحسن : منور السموات . وقال أبي : اللّه به نور السموات أو منه نور السموات أي ضياؤها . وقال أبو العالية : مزين السموات بالشمس والقمر والنجوم ، ومزين الأرض بالأنبياء والعلماء .

وقيل : المنزه من كل عيب امرأة نوار بريئة من الريبة والفحشاء . وقال الكرماني : هو الذي يرى ويرى به مجاز وصف اللّه به لأنه يرى ويرى بسببه مخلوقاته لأنه خلقها وأوجدها .

والظاهر أن الضمير في { مَثَلُ نُورِهِ } عائد على اللّه تعالى . واختلفوا في هذا القول ما المراد بالنور المضاف إليه تعالى . فقيل : الآيات البينات في قوله { وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ ءايَاتٍ مُّبَيّنَاتٍ }

وقيل : الإيمان المقذوف في قلوب المؤمنين .

وقيل : النور هنا هو رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.

وقيل : النور هنا المؤمن . وقال كعب وابن جبير : الضمير في { نُورِهِ } عائد على محمد صلى اللّه عليه وسلم ،أي مثل نور محمد . وقال أبيّ : هو عائد على المؤمنين وفي قراءته مثل نور المؤمن . وروي أيضاً فيها مثل نور من آمن به . وقال الحسن : يعود على القرآن والإيمان وهذه الأقوال الثلاثة عاد فيها الضمير على غير مذكور ، ونقلت المعنى المقصود بالآية بحلاف عوده على اللّه تعالى ، ولذلك

قال مكي يوقف على { والاْرْضِ } في تلك الأقوال الثلاثة . واختلفوا في هذا التشبيه أهو تشبيه جملة بجملة لا يقصد فيها إلى تشبيه جزء بجزء ومقابلة شيء بشيء ، أو مما قصد به ذلك أي مثل نور اللّه الذي هو هداه واتقانه صنعة كل مخلوق وبراهينه الساطعة على الجملة كهذه الجملة من النور الذي تتخذونه أنتم على هذه الصفة التي هي أبلغ صفات النور الذي بين أيدي الناس ، أي مثل نور اللّه في الوضوح كهذا الذي هو منتهاكم أيها البشر .

وقيل : هو من التشبيه المفصل المقابل جزءاً بجزء ، وقرروه على تلك الأقوال الثلاثة أي { مَثَلُ نُورِهِ } في محمد أو في المؤمن أو في القرآن والإيمان { كَمِشْكَاةٍ } فالمشكاة هو الرسول أو صدره { والمصباح } هو النبوة وما يتصل بها من علمه وهداه و { زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ } قلبه . والشجرة المباركة الوحي والملائكة رسل اللّه إليه ، وشبه الفصل به بالزيت وهو الحجج والبراهين والآيات التي تضمنها الوحي وعلى قول المؤمن فالمشكاة صدره و { الْمِصْبَاحُ } الأيمان والعلم . و { الزُّجَاجَةُ } قلبه والشجرة القرآن وزيتها هو الحجج والحكمة التي تضمنها . قال أبيّ : فهو على أحسن الحال يمشي في الناس كالرجل الحي يمشي في قبور الأموات ، وعلى قول الإيمان والقرآن أي مثل الإيمان والقرآن في صدر المؤمن في قلبه { كَمِشْكَاةٍ } وهذا القول ليس في مقابلة التشبيه كالأولين ، لأن المشكاة ليست تقابل الإيمان .

وقال الزمخشري : أي صفة { نُورِهِ } لعجيبة الشأن في الإضاءة { كَمِشْكَاةٍ } أي كصفة مشكاة انتهى . ويظهر لي أن قوله { كَمِشْكَاةٍ } هو على حذف مضاف أي { مَثَلُ نُورِهِ } مثل نور مشكاة وتقدّم في المفردات أن المشكاة هي الكوة غير النافذة ، وهو قول ابن جبير وسعيد بن عياض والجمهور . وقال أبو موسى : المشكاة الحديدة والرصاصة التي تكون فيها الفتيل في جوف الزجاجة . وقال مجاهد : المشكاة العمود الذي يكون المصباح على رأسه ، وقال أيضاً الحدائد التي تعلق فيها القناديل .

{فِيهَا مِصْبَاحٌ } أي سراج ضخم ، والظاهر أن { الزُّجَاجَةُ } ظرف للمصباح لقوله { الْمِصْبَاحُ فِى زُجَاجَةٍ } وقدره الزمخشري في زجاج شامي ، وكان عنده أصفى الزجاج هو الشامي ولم يقيد في الآية .

وقرأ أبو رجاء ونصر بن عاصم { فِى زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ } بكسر الزاي فيهما ، وابن أبي عبلة ونصر بن عاصم في رواية ابن مجاهد بفتحها .{ كَأَنَّهَا } أي كأن الزجاجة لصفاء جوهرها وذاتها وهو أبلغ في الإنارة ، ولما احتوت عليه من نور المصباح .

{كَوْكَبٌ دُرّىٌّ } قال الضحاك : هو الزهرة شبه الزجاجة في زهرتها بأحد الدراري من الكواكب المشاهير ، وهي المشتري ، والزهرة ، والمريخ ، وسهيل ونحو ذلك .

وقرأ الجمهور من السبعة نافع وابن عامر وحفص وابن كثير { دُرّىٌّ } بضم الدال وتشديد الراء والياء ، والظاهر نسبة الكوكب إلى الدر لبياضه وصفائه ، ويحتمل أن يكون أصله الهمز فأبدل وأدغم .

وقرأ قتادة وزيد بن عليّ والضحاك كذلك إلاّ أنهما فتحا الدال . وروى ذلك عن نصر بن عاصم وأبي رجاء وابن المسيب .

وقرأ الزهري كذلك إلاّ أنه كسر الدال .

وقرأ حمزة كذلك إلاّ أنه همز من الدرء بمعنى الدفع ، أي يدفع بعضها بعضاً ، أو يدفع ضوؤها خفاءها ووزنها فعيل . قيل : ولا يوجد فعيل إلاّ قولهم مريق للعصفر ودريء في هذه القراءة . قيل : وسرية إذا قيل إنها مشتقة من السرور ، وأبدل من أحد المضعفات الياء فأدغمت فيها ياء فعيل ، وسمع أيضاً مريخ للذي في داخل القرن اليابس بضم الميم وكسرها .

وقيل : منه عليه .

وقيل :{ دُرّىٌّ } ووزنه في الأصل فعول كسبوح فاستثقل الضم فرد إلى الكسر ، وكذا قيل في سرته ودرته .

وقرأ أبو عمرو والكسائي كذلك إلاّ أنه كسر الدال وهو بناء كثير في الأسماء نحو سكين وفي الأوصاف سكير .

وقرأ قتادة أيضاً وأبان بن عثمان وابن المسيب وأبو رجاء وعمرو بن فائد والأعمش ونصر بن عاصم كذلك إلاّ أنه بفتح الدال . قال ابن جني : وهذا عزيز لم يحفظ منه إلاّ السكينة بفتح السين وشدّ الكاف انتهى . وفي الأبنية حكى الأخفش كوكب دريء من درأته ودرية وعليك بالسكينة والوقار عن أبي زيد .

وحكى الفراء بكسر السين .

وقرأ الأخوان وأبو بكر والحسن وزيد بن عليّ وقتادة وابن وثاب وطلحة وعيسى والأعمش { تُوقد } بضم التاء أي { زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ } مضارع أوقدت مبيناً للمفعول ، ونافع وابن عامر وحفص كذلك إلاّ أنه بالياء أي { الْمِصْبَاحُ } وابن كثير

وأبو عمرو { توقد } بفتح الأربعة فعلاً ماضياً أي { مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ} والحسن والسلمي وقتادة وابن محيصن وسلام ومجاهد وابن أبي إسحاق والمفضل عن عاصم كذلك إلاّ أنه بضم الدال مضارع { توقد } وأصله تتوقد أي { زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ}

وقرأ عبد اللّه وقد بغير تاء وشدد القاف جعله فعلاً ماضياً أي وقد المصباح .

وقرأ السلمي وقتادة وسلام أيضاً كذلك إلاّ أنه بالياء من تحت . وجاء كذلك عن الحسن وابن محيصن ، وأصله يتوقد أي { الْمِصْبَاحُ } إلاّ أن حذف الياء في يتوقد مقيس لدلالة ما أبقى على ما حذف . وفي { يُوقَدُ } شاذ جدّاً لأن الياء الباقية لا تدل على التاء المحذوفة ، وله وجه من القياس وهو حمله على يعد إذ حمل يعد وتعد وأعد في حذف الواو كذلك هذ لما حذفوا من تتوقد بالتاءين حذفوا التاء مع الياء وإن لم يكن اجتماع التاء والياء مستثقلاً .

{مِن شَجَرَةٍ } أي من زيت شجرة ، وهي شجرة الزيتون .{ مُّبَارَكَةٍ } كثيرة المنافع أو لأنها تنبت في الأرض التي بارك فيها للعالمين .

وقيل : بارك فيها للعالمين .

وقيل : بارك فيها سبعون نبياً منهم إبراهيم عليه السلام ، والزيتون من أعظم الشجر ثمراً ونماء واطراد أفنان ونضارة أفنان . وقال أبو طالب : بورك الميت الغريب كما

بورك نضر الرمان والزيتون

{لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ} قال ابن زيد : هي من شجر الشام فهي ليست من شرق الأرض ولا من غربها ، لأن شجر الشام أفضل الشجر .

وقال ابن عباس وعكرمة وقتادة وغيرهم : هي في منكشف من الأرض تصيبها الشمس طول النهار تستدير عليها ، فليست خالصة للشرق فتسمى { شَرْقِيَّةٍ } ، ولا للغرب فتسمى { غَرْبِيَّةٍ } وقال الحسن : هذا مثل وليست من شجر الدنيا إذ لو كانت في الدنيا لكانت شرقية أو غربية .

وعن ابن عباس : أنها في درجة أحاطت بها فليست منكشفة لا من جهة الشرق ولا من جهة الغرب ، وهذا لا يصح عن ابن عباس لأنها إذا كانت بهذه الصفة فسد جناها . و

قال ابن عطية : إنها في وسط الشجر لا تصيبها الشمس طالعة ولا غاربة ، بل تصيبها بالغداة والعشي . وقال عكرمة : هي من شجر الجنة .

وقال ابن عمر : الشجرة مثل أي إنها ملة إبراهيم ليست بيهودية ولا نصرانية .

وقيل : ملة الإسلام ليست بشديدة ولا لينة .

وقيل : لا مضحى ولا مفيأة ، ولكن الشمس والظل يتعاقبان عليها ، وذلك أجود لحملها وأصفى لدهنها .

و { زَيْتُونَةٍ } بدل من { شَجَرَةٍ } وجوز بعضهم فيه أن يكون عطف بيان ، ولا يجوز على مذهب البصريين لأن عطف البيان عندهم لا يكون إلاّ في المعارف ، وأجاز الكوفيون وتبعهم الفارسي أنه يكون في النكرات . و { لاَّ شَرْقِيَّةٍ }{ وَلاَ } على { غَرْبِيَّةٍ } على قراءة الجمهور بالخفض صفة لزيتونة .

وقرأ الضحاك بالرفع أي لا هي شرقية ولا غربية ، والجملة في موضع الصفة .

{يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِىء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ } مبالغة في صفاء الزيت وأنه لإشراقه وجودته يكاد يضيء من غير نار . والجملة من قوله { وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ } حالية معطوفة على حال محذوفة أي { يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِىء } في كل حال ولو في هذه الحال التي تقتضي أنه لا يضيء لانتفاء مس النار له ، وتقدم لنا أن هذا العطف إنما يأتي مرتباً لما كان لا ينبغي أن يقع لامتناع الترتيب في العادة وللاستقصاء حتى يدخل ما لا يقدر دخوله فيما قبله نحو : { أعطوا السائل ولو جاء على فرس ، ردوا السائل ولو بظلف محرق} .

وقرأ الجمهور :{ تَمْسَسْهُ } بالتاء وابن عباس والحسن بالياء من تحت ، وحسنه الفصل وأن تأنيث النار مجازي وهو مؤنث بغير علامة .

{نُّورٌ عَلَى نُورٍ } أي متضاعف تعاون عليه المشكاة والزجاجة والمصباح والزيت ، فلم يبق مما يقوى النور ويزيده إشراقاً شيء لأن المصباح إذا كان في مكان ضيق كان أجمع لنوره بخلاف المكان المتسع ، فإنه ينشر النور ، والقنديل أعون شيء على زيادة النور وكذلك الزيت وصفاؤه ، وهنا تم المثال .

ثم قال { يَهْدِى اللّه لِنُورِهِ مَن يَشَاء } أي لهداه والإيمان من يشاء هدايته ويصطفيه لها . ومن فسر { النُّورُ } في { مَثَلُ نُورِهِ}

بالنبوة قدر يهدي اللّه إلى نبوته .

وقيل : إلى الاستدلال بالآيات ، ثم ذكر تعالى أنه يضرب الأمثال للناس ليقع لهم العبرة والنظر المؤدّي إلى الإيمان ، ثم ذكر إحاطة علمه بالأشياء فهو يضع هداه عند من يشاء . { فِى بُيُوتٍ } متعلق بيوقد قاله الرماني ، أو في موضع الصفة لقوله { كَمِشْكَاةٍ } أي كمشكاة في بيوت قاله الحوفي ، وتبعه الزمخشري قال { كَمِشْكَاةٍ } في بعض بيوت اللّه وهي المساجد . وقال { مَثَلُ نُورِهِ } كما ترى في المسجد نور المشكاة التي من صفتها كيت وكيت انتهى . وقوله كأنه إلى آخره تفسير معنى لا تفسير إعراب أو في موضع الصفة لمصباح أي مصباح { فِى بُيُوتٍ } قاله بعضهم أو في موضع الصفة لزجاجة قاله بعضهم ، وعلى هذه الأقوال الأربعة لا يوقف على قوله { عَلِيمٌ}

وقيل :{ فِى بُيُوتٍ } مستأنف والعامل فيه { يُسَبّحُ } حكاه أبو حاتم وجوزه الزمخشري . فقال : وقد ذكر تعلقه بكمشكاة قال : أو بما بعده وهو { يُسَبّحُ } أي { يُسَبّحُ لَهُ } رجال في بيوت وفيها تكرير كقولك زيد في الدار جالس فيها أو بمحذوف كقوله { وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِى } أي سبحوا في بيوت انتهى . وعلى هذا الأقوال الثلاثة يوقف على قوله { عَلِيمٌ } والذي اختاره أن يتعلق { فِى بُيُوتٍ } بقوله { يُسَبّحُ } وإن ارتباط هذه بما قبلها هو أنه تعالى لما ذكر أنه يهدي لنوره من يشاء ذكر حال من حصلت له الهداية لذلك النور وهم المؤمنون ، ثم ذكر أشرف عبادتهم القلبية وهو تنزيههم اللّه عن النقائص وإظهار ذلك بالتلفظ به في مساجد الجماعات ، ثم ذكر سائر أوصافهم من التزام ذكر اللّه وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وخوفهم ما يكون في البعث . ولذلك جاء مقابل المؤمنين وهم الكفار في قوله { وَالَّذِينَ كَفَرُواْ } وكأنه لما ذكرت الهداية للنور جاء في التقسيم لقابل الهداية وعدم قابلها ، فبدىء بالمؤمن وما تأثر به من أنواع الهدى ثم ذكر الكافر .

٣٦

في بيوت أذن . . . . .

والظاهر أن قوله { فِى بُيُوتٍ } أريد به مدلوله من الجمعية .

وقال الحسن : أريد به بيت المقدس ، وسمى بيوتاً من حيث فيه يتحيز بعضها عن بعض ، ويؤثر أن عادة بني إسرائيل في وقيده في غاية التهمم والزيت مختوم على ظروفه وقد صنع صنعة وقدس حتى لا يجري الوقيد بغيره ، فكان أضوأ بيوت الأرض . والظاهر أن { فِى بُيُوتٍ } مطلق فيصدق على المساجد والبيوت التي تقع فيها الصلاة والعلم . وقال مجاهد : بيوت الرسول صلى اللّه عليه وسلم.

وقال ابن عباس والحسن أيضاً ومجاهد : هي المساجد التي من عادتها أن تنور بذلك النوع من المصابيح .

وقيل : الكعبة وبيت المقدس ومسجد الرسول عليه الصلاة والسلام ومسجد قباء .

وقيل : بيوت الأنبياء . ويقوي أنها المساجد قوله { يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوّ وَالاْصَالِ } وإذنه تعالى وأمره بأن { تُرْفَعَ } أي يعظم قدرها قاله الحسن والضحاك .

وقال ابن عباس ومجاهد : تبنى وتعلى من قوله { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ}

وقيل :{ تُرْفَعَ } تظهر من الأنجاس والمعاصي .

وقيل :{ تُرْفَعَ } أي ترفع فيها الحوائج إلى اللّه .

وقيل :{ تُرْفَعَ } الأصوات بذكر اللّه وتلاوة القرآن .

{وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ } ظاهره مطلق الذكر فيعم كل ذكر عموم البدل .

وعن ابن عباس : توحيده وهو لا إله إلاّ اللّه . وعنه : يتلى فيها كتابه .

وقيل : أسماؤه الحسنى .

وقيل : يصلى فيها .

وقرأ الجمهور { يُسَبّحُ } بكسر الباء وبالياء من تحت ، وابن وثاب وأبو حيوة كذلك إلاّ أنه بالتاء من فوق ، وابن عامر وأبو بكر والبحتري عن حفص ومحبوب عن أبي عمرو والمهال عن يعقوب والمفضل وأبان بفتحها وبالياء من تحت واحد المجرورات في موضع المفعول الذي لم يسم فاعله ، والأولى الذي يلي الفعل لأن طلب الفعل للمرفوع أقوى من طلبه للمنصوب الفضلة .

وقرأ أبو جعفر : تسبح بالتاء من فوق وفتح الباء .

وقال الزمخشري : ووجهها أن تسند إلى أوقات الغدو والآصال على زيادة الباء ، وتجعل الأوقات مسبحة . والمراد بها كصيد عليه يومان والمراد وحشهما انتهى . ويجوز أن يكون المفعول الذي لم يسم فاعله ضمير التسبيحة الدال عليه { تُسَبّحُ } أي تسبح له هي أي التسبيحة كما قالوا { لِيَجْزِىَ قَوْماً } في قراءة من بناء للمفعول أي ليجزي هو أي الجزاء .

وقرأ أبو مجلز : والإيصال وتقدم نظيره

٣٧

رجال لا تلهيهم . . . . .

وارتفع { رِجَالٌ } على هاتين القراءتين على الفاعلية بإضمار فعل أي { يُسَبّحُ } أو يسبح له رجال . واختلف في اقتياس هذا ، فعلى اقتياسه نحو ضربت هند زيد أي ضربها زيد ، ويجوز أن

يكون خبر مبتدأ محذوف أي المسبح رجال . وتقدم الكلام في تفسير الغدو والآصال والمراد بهما .

ثم ذكر تعالى وصف المسبحين بأنهم لمراقبتهم أمر اللّه وطلبهم رضاه لا يشتغلون عن ذكر اللّه واحتمل قوله { لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ } وجهين :

أحدهما : أنهم لا تجارة لهم ولا بيع فيلهيهم عن ذكر اللّهكقوله : على لا حب لا يهتدى بمناره أي لا منار له فيهتدى به .

والثاني : أنهم ذوو تجارة وبيع ولكن لا يشغلهم ذلك عن ذكر اللّه وعما فرض عليهم ، والظاهر مغايرة التجارة والبيع ، ولذلك عطف فاحتمل أن تكون تجارة من إطلاق العام ويراد به الخاص ، فأراد بالتجارة الشراء ولذلك قابله بالبيع ، أو يراد تجارة الجلب

ويقال : تجر فلان في كذا إذا جلبه وبالبيع البيع بالأسواق ، ويحتمل أن يكون { وَلاَ بَيْعٌ } من ذكر خاص بعد عام ، لأن التجارة هي البيع والشراء طلباً للريح . ونبه على هذا الخاص لأنه في الإلهاء أدخل من قبل أن التاجر إذا اتجهت له بيعة رابحة وهي طلبته الكلية من صناعته ألهته ما لا يلهيه شيء يتوقع فيه الريح لأن هذا يقين وذاك مطنون .

قال الزمخشري : التاء في إقامة عوض من العين الساقطة للإعلال والأصل أقوام ، فلما أضيفت أقيمت الإضافة مقام حرف التعويض فأسقطت ونحوه :

وأخلفوك عد الأمر الذي وعدوا انتهى . وهذا الذي ذكر من أن التاء سقطت لأجل الإضافة هو مذهب الفراء ومذهب البصريين ، أن التاء من نحو هذا لا تسقط للإضافة وتقدم لنا الكلام على { لَّيْسَ الْبِرَّ } في الأنبياء وصدر البيت الذي أنشد عجزه قوله :

إن الخليط أجدوا البين فانجردوا وقد تأول خالد بن كلثوم قوله عدا الأمر على أنه جمع عدوة ، والعدوة الناحية كأن الشاعر أراد نواحي الأمر وجوانبه .

{يَخَافُونَ يَوْماً } هو يوم القيامة ، والظاهر أن معنى { تَتَقَلَّبُ } تضطرب من هول ذلك اليوم كما قال تعالى { وَإِذْ زَاغَتِ الاْبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ } فتقلبها هو قلقها واضطرابها ، فتتقلب من طمع في النجاة إلى طمع ومن حذر هلاك إلى هلاك . وهذا المعنى تستعمله العرب في الحروب كقوله : بل كان قلبك في جناحي طائر ويبعد قول من قال { تَتَقَلَّبُ } على جمر جهنم لأن ذلك ليس في يوم القيامة بل بعده . وقول من قال إن تقلبها ظهور الحق لها أي فتتقلب عن معتقدات الضلال إلى اعتقاد الحق على وجهه فتفقه القلوب بعد أن كانت مطبوعاً عليها ، وتبصر الأبصار بعد أن كانت عمياً والقول الأول أبلغ في التهويل .

٣٨

ليجزيهم اللّه أحسن . . . . .

وقرأ ابن محيصن : تُقلب بإدغام التاء في التاء .

واللام في { لِيَجْزِيَهُمُ } متعلقة بمحذوف أي فعلوا ذلك { لِيَجْزِيَهُمُ } ويجوز أن تتعلق بيسبح وهو الظاهر .

وقال الزمخشري : والمعنى يسبحون ويخافون { لِيَجْزِيَهُمُ } انتهى . والظاهر أن قوله { يَخَافُونَ } صفة لرجال كما أن { لاَّ تُلْهِيهِمْ } كذلك .{ أَحْسَنُ } هو على حذف مضاف أي ثواب أحسن ما عملوا ، أو { أَحْسَنُ } جزاء ما عملوا .{ وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ } على ما تقتضيه أعمالهم ، فأهل الجنة أبداً في مزيد .

وقال الزمخشري :{ لِيَجْزِيَهُمُ } ثوابهم مضاعفاً{ وَيَزِيدُهُمْ } على الثواب تفضيلاً وكذلك معنى قوله { الْحُسْنَى}

وزيادة المثوبة الحسنى ، وزيادة عليها من التفضل وعطاء اللّه عز وجل إما تفضل

وإما ثواب

وإما عوض .

{وَاللّه يَرْزُقُ مَن يَشَاء } ما يتفضل به { بِغَيْرِ حِسَابٍ } فأما الثواب فله حسنات لكونه على حسب الاستحقاق انتهى . وفي قوله على حسب الاستحقاق دسيسة اعتزال .

٣٩

والذين كفروا أعمالهم . . . . .

لما ذكر تعالى حالة الإيمان والمؤمنين وتنويره قلوبهم ووصفهم بما وصفهم من الأعمال النافعة في الآخرة أعقب ذلك بذكر مقابلهم الكفرة وأعمالهم ، فمثل لهم ولأعمالهم مثلين أحدهما يقتضي بطلان أعمالهم في الآخرة وأنهم لا ينتفعون بها . والثاني يقتضي حالها في الدنيا من ارتباكها في الضلال والظلمة شبه أولاً أعمالهم في اضمحلالها وفقدان ثمرتها بسراب في مكان منخفض ظنه العطشان ماء فقصده وأتعب نفسه في الوصول إليه . { حَتَّى إِذَا جَاءهُ } أي جاء موضعه الذي تخيله . فيه { لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً } أي فقده لأنه مع الدنو لا يرى شيئاً . كذلك الكافر يظن أن عمله في الدنيا نافعه حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم ينفعه عمله بل صار وبالاً عليه .

وقرأ مسلمة بن محارب : بقيعات بتاء ممطوطة جمع قيعة كديمات وقيمات في ديمة وقيمة ، وعنه أيضاً بتاء شكل الهاء ويقف عليها بالهاء فيحتمل أن يكون جمع قيعة ، ووقف بالهاء على لغة طيء كما قالوا البناه والأخواه في الوقف على البنات والأخوات . قال صاحب اللوامح : ويجوز أن يريد قيعة كالعامة أي كالقراءة العامة ، لكنه أشبع الفتحة فتولدت منها الألف مثل مخر نبق لينباع .

وقال الزمخشري : وقد جعل بعضهم بقيعات بتاء ممدودة كرجل عزهاة . وقال صاحب اللوامح : ويجوز أنه جعله مثل سعلة وسعلاة وليلة وليلاة ، والقيعة مفرد مرادف للقاع أو جمع قاع كنار ونيرة ، فتكون على هذا قراءة قيعات جمع صحة تناول جمع تكسير مثل رجالات قريش وجمالات صفر .

وقرأ شيبة وأبو جعفر ونافع بخلاف عنهما { الظَّمْانُ } بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى الميم ، والظاهر أن قوله { يَحْسَبُهُ الظَّمْانُ } هو من صفات السراب ولا يعني إلاّ مطلق { الظَّمْانُ } لا الكافر { الظَّمْانُ }

وقال الزمخشري : شبه ما يعمله من لا يعتقد الإيمان ولا يتبع الحق من الأعمال الصالحة التي يحسبها أن تنفعه عند اللّه وتنجيه من عذابه يوم القيامة ، ثم يخيب في العاقبة أمله ويلقى خلاف ما قدر بسراب يراه الكافر بالساهرة وقد غلبه عطش يوم القيامة فيحسبه ماء ، فيأتيه فلا يجد ما رجاه ويجد ربانية اللّه عنده ، يأخذونه ويعتلونه ويسقونه الحميم والغساق وهم الذين قال اللّه فيهم { عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ }{ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا }{ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً}

وقيل : نزلت في عتبة بن ربيعة بن أمية كان قد تعبد ولبس المسوح والتمس الدين في الجاهلية ثم كفر في الإسلام انتهى . فجعل { الظَّمْانُ } هو الكافر حتى تطرد الضمائر في { جَاءهُ } و { لَمْ يَجِدْهُ }{ وَوَجَدَ } و { عِندَهُ } و { فَوَفَّاهُ } لشخص واحد ، وغيره غاير بين الضمائر فالضمير في { جَاءهُ } و { لَمْ يَجِدْهُ } للظمآن . وفي { وَوَجَدَ } للكافر الذي ضرب له مثلاً بالظمآن ، أي ووجد هذا الكافر وعد اللّه بالجزاء على عمله بالمرصاد { فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ } عمله الذي جازاه عليه . وهذا معنى قول أبي وابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة وأفرد الضمير في { وَوَجَدَ } بعد تقدم الجمع حملاً على كل واحد من الكفار .

و

قال ابن عطية : يحتمل أن يعود الضمير في { جَاءهُ } على السراب . ثم في الكلام متروك كثير يدل عليه الظاهر تقديره وكذلك الكافر يوم القيامة يظن عمله نافعاً{ حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً } ويحتمل الضمير أن يعود على العمل الذي يدل عليه قوله { أَعْمَالَهُمْ } ويكون تمام المثل في قوله { مَاء } ويستغني الكلام عن متروك على هذا التأويل ، لكن يكون في المثل إيجاز واقتضاب لوضوح المعنى المراد به .

{وَوَجَدَ اللّه عِندَهُ } أي بالمجازاة ، والضمير في { عِندَهُ } عائد على العمل انتهى . والذي يظهر لي أنه تعالى شبه أعمالهم في عدم انتفاعهم بها بسراب صفته كذا ، وأن الضمائر فيما بعد { الظَّمْانُ } له . والمعنى في { وَوَجَدَ اللّه عِندَهُ } أي { وَوَجَدَ } مقدور { اللّه } عليه من هلاك بالظمأ { عِندَهُ } أي عند موضع السراب { فَوَفَّاهُ } ما كتب له من ذلك . وهو المحسوب له ، واللّه معجل حسابه لا يؤخره عنه فيكون الكلام متناسقاً آخذاً بعضه

بعنق بعض . وذلك باتصال الضمائر لشيء واحد ، ويكون هذا التشبيه مطابقاً لأعمالهم من حيث أنهم اعتقدوها نافعة فلم تنفعهم وحصل لهم الهلاك بأثر ما حوسبوا .

وأما في قول الزمخشري : فإنه وإن جعل الضمائر للظمآن لكنه جعل { الظَّمْانُ } هو الكافر وهو تشبيه الشيء بنفسه كما قال . وشبه الماء بعد الجهد بالماء .

وأما في قول غيره : ففيه تفكيك الكلام إذ غاير بين الضمائر وانقطع ترصيف الكلام بجعل بعضه مفلتاً من بعض .

٤٠

أو كظلمات في . . . . .

{أَوْ كَظُلُمَاتٍ } هذا التشبيه الثاني لأعمالهم فالأول فيما يؤول إليه أعمالهم في الآخرة ، وهذا الثاني فيما هم عليه في حال الدنيا . وبدأ بالتشبيه الأول لأنه آكد في الإخبار لما فيه من ذكر ما يؤول إليه أمرهم من العقاب الدائم والعذاب السرمدي . ثم أتبعه بهذا التمثيل الذي نبههم على ما هي أعمالهم عليه لعلهم يرجعون إلى الإيمان ويفكرون في نور اللّه الذي جاء به الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، والظاهر أنه تشبيه لأعمالهم وضلالهم بالظلمات المتكاثفة .

وقال أبو علي الفارسي : التقدير أو كذي ظلمات ، قال : ودل على هذا المضاف قوله { إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ } فالكناية تعود إلى المضاف المحذوف ، فالتشبيه وقع عند أبي عليّ للكافر لا للأعمال وهو خلاف الظاهر ، ويتخيل في تقرير كلامه أن يكون التقدير أو هم كذي ظلمات فيكون التشبيه الأول لأعمالهم . والثاني لهم في حال ضلالهم . وقال أبو البقاء : في التقدير وجهان

أحدهما :أو كأعمال ذي ظلمات ، فيقدر ذي ظلمات ليعود الضمير من قوله { إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ } إليه ، ويقدر أعمال ليصح تشبيه أعمال الكفار بأعمال صاحب الظلمة إذ لا معنى لتشبيه العمل بصاحب الظلمات .

والثاني : لا حذف فيه ، والمعنى أنه شبه أعمال الكفار بالظلمة في حيلولتها بين القلب وبين ما يهتدى إليه ، فأما الضمير في قوله { إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ } فيعود إلى مذكور حذف اعتماداً على المعنى تقديره إذا أخرج من فيها يده .

وقال الجرجاني : الآية الأولى في ذكر أعمال الكفار . والثانية في ذكر كفرهم ونسق الكفر على أعمالهم لأن الكفر أيضاً من أعمالهم ، وقد قال تعالى يخرجهم من الظلمات إلى النور . من الكفر إلى الإيمان ، فيكون التمثيل قد وقع لأعمالهم بكفر الكافر و { أَعْمَالَهُمْ } منها كفرهم ، فيكون قد شبه { أَعْمَالَهُمْ } بالظلمات ، والعطف بأو هنا لأنه قصد التنويع والتفصيل لا أن {أَوْ } للشك . وقال الكرماني :{أَوْ } للتخيير على تقدير شبه أعمال الكفار بأيهما شئت .

وقرأ سفيان بن حسين {أَوْ كَظُلُمَاتٍ } بفتح الواو جعلها واو عطف تقدّمت عليها الهمزة التي لتقرير التشبيه الخالي عن محض الاستفهام . والظاهر أن الضمير في { يَغْشَاهُ } عائد على { بَحْرٍ لُّجّىّ } أي يغشى ذلك البحر أي يغطي بعضه بعضاً ، بمعنى أن تجيء موجة تتبعها أخرى فهو متلاطم لا يسكن ، وأخوف ما يكون إذا توالت أمواجه ، وفوق هذا الموج { سَحَابٌ } وهو أعظم للخوف لإخفائه النجوم التي يهتدى بها ، وللريح والمطر الناشئين مع السحاب . ومن قدر أو كذي ظلمات أعاد الضمير في { يَغْشَاهُ } على ذي المحذوف ، أي يغشى صاحب الظلمات .

وقرأ الجمهور { سَحَابٌ } بالتنوين { ظُلُمَاتِ } بالرفع على تقدير خبر لمبتدأ محذوف ، أي هذه أو تلك { ظُلُمَاتِ } وأجاز الحوفي أن تكون مبتدأ و { بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ } مبتدأ وخبره في موضع خبر { ظُلُمَاتِ} والظاهر أنه لا يجوز لعدم المسوغ فيه للابتداء بالنكرة إلاّ إن قدرت صفة محذوفة أي ظلمات كثيرة أو عظيمة { بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ}

وقرأ البزي { سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ } بالإضافة .

وقرأ قنبل { سَحَابٌ } بالتنوين { ظُلُمَاتِ } بالجر بدلاً من { ظُلُمَاتِ } و { بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ } مبتدأ وخبر في موضع الصفة لكظلمات .

قال الحوفي : ويجوز على رفع { ظُلُمَاتِ } أن يكون { بَعْضَهَا } بدلاً منها ، وهو لا يجوز من جهة المعنى لأن المراد واللّه أعلم الأخبار بأنها ظلمات ، وأن بعض تلك الظلمات فوق بعض أي هي ظلمات متراكمة وليس على الأخبار بأن بعض ظلمات فوق بعض من غير إخبار بأن تلك الظلمات السابقة ظلمات متراكمة . وتقدم الكلام في كاد إذا دخل عليها حرف نفي مشبعاً في البقرة في قوله { وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ } فأغنى عن إعادته ، والمعنى هنا انتفاء مقاربة الرؤية ، ويلزم من ذلك انتفاء الرؤية ضرورة وقول من اعتقد زيادة يكد أو أنه يراها بعد عسر ليس بصحيح ، والزيادة قول ابن الأنباري وأنه لم يرها إلاّ بعد الجهد قول المبرد والفراء .

وقال ابن عطية ما معناه : إذا كان الفعل بعد كان منفياً دل على ثبوته نحو كاد

زيد لا يقوم ، أو مثبتاً دل على نفيه كاد زيد يقوم ، وإذا تقدم النفي على كاد احتمل أن يكون منفياً تقول : المفلوخ لا يكاد يسكن فهذا تضمن نفي السكون . وتقول : رجل منصرف لا يكاد يسكن فهذا تضمن إيجاب السكون بعد جهد انتهى . والظاهر أن هذا التشبيه الثاني هو تشبيه أعمال الكفار بهده الظلمات المتكاثفة من غير مقابلة في المعنى بأجزائه لا جزاء المشبه .

قال الزمخشري : وشبهها يعني أعماله في ظلمتها وسوادها لكونا باطلة ، وفي خلوها عن نور الحق بظلمات متراكمة من لجج البحر والأمواج والسحاب ، ومنهم من لاحظ التقابل فقال : الظلمات الأعمال الفاسدة والمعتقدات الباطلة . والبحر اللجيّ صدر الكافر وقلبه ، والموج الضلال والجهالة التي غمرت قلبه والفكر المعوجة والسحاب شهوته في الكفر وإعراضه عن الإيمان .

وقال الفراء : هذا مثل لقلب الكافر أي إنه يعقل ولا يبصر .

وقيل : { الظُّلُمَاتِ } أعماله والبحر هواه . القيعان القريب الغرق فيه الكثير الخطر ، والموج ما يغشى قلبه من جهل وغفلة ، والموج الثاني ما يغشاه من شك وشبهة ، والسحاب ما يغشاه من شرك وحيرة فيمنعه من الاهتداء على عكس ما في مثل نور الدين انتهى . والتفسير بمقابلة الأجزاء شبيه بتفسير الباطنية ، وعدول عن منهج كلام العرب .

ولما شبه أعمال الكفار بالظلمات المتراكمة وذكر أنه لا يكاد يرى اليد من شدة الظلمة قال { وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللّه لَهُ نُوراً } أي من لم ينور قلبه بنور الإيمان ويهده إليه فهو في ظلمة ولا نور له ، ولا يهتدي أبداً . وهذا النور هو في الدنيا .

وقيل : هو في الآخرة أي من لم ينوره اللّه بعفوه ويرحمه برحمته له ، وكونه في الدنيا أليق بلفظ الآية وأيضاً فذلك متلازم لأن نور الآخرة هو لمن نور اللّه قلبه في الدنيا .

وقال الزمخشري : ومن لم يوله نور توفيقه وعصمته ولطفه فهو في ظلمة الباطل لا نور له . وهذا الكلام مجراه مجرى الكنايات لأن الألطاف إنما نردف الإيمان والعمل الصالح أو كونهما مرتقبين ، ألا ترى إلى قوله { وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } وقوله { وَيُضِلُّ اللّه الظَّالِمِينَ } انتهى . وهو على طريقة الاعتزال .

٤١

ألم تر أن . . . . .

لما ذكر تعالى مثل المؤمن والكافر وأن الإيمان والضلال أمرهما راجع إليه أعقب بذكر الدلائل على قدرته وتوحيده ، والظاهر حمل التسبيح على حقيقته وتخصيص { مِنْ } في قوله ومن في الأرض بالمطيع للّه تعالى من الثقلين .

وقيل :{ مِنْ } عام لكل موجود غلب من يعقل على ما لا يعقل ، فأدرج ما لا يعقل فيه ويكون المراد بالتسبيح دلالته بهده الأشياء على كونه تعالى منزهاً عن النقائص موصوفاً بنعوت الكمال .

وقيل : المراد بالتسبيح التعظيم فمن ذي الدين بالنطق والصلاة ومن غيرهم من مكلف وجماد بالدلالة ، فيكون ذلك قدراً مشتركاً بينهما وهو التعظيم . وقال سفيان : تسبيح كل شيء بطاعته وانقياده .

{وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ } أي صفت أجنحتها في الهواء للطيران ، وإنما خص الطير بالذكر لأنها تكون بين السماء والأرض إذا طارت فهي خارجة من جملة { مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ } حالة طيرانها .

وقرأ الجمهور { وَالطَّيْرُ } مرفوعاً عطفاً على { مِنْ } و { صَافَّاتٍ } نصب على الحال .

وقرأ الأعرج { وَالطَّيْرُ } بالنصب على أنه مفعول معه .

وقرأ الحسن وخارجة عن نافع { وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ } برفعهما مبتدأ وخبر تقديره يسبحن . قيل : وتسبيح الطير حقيقي قاله الجمهور .

قال الزمخشري : ولا يبعد أن يلهم اللّه الطير دعاءه وتسبيحه كما ألهمها سائر العلوم الدقيقة التي لا يكاد العقلاء يهتدون إليها . وقال الحسن وغيره : هو تجوّز إنما تسبيحه ظهور الحكمة فيه فهو لذلك يدعو إلى التسبيح .

{كُلٌّ } أي كل ممن ذكر ، فيشمل الطير والظاهر أن الفاعل المستكن في { عِلْمٍ } وفي

{صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ } عائد على { كُلٌّ } وقاله الحسن قال : فهو مثابر عليهما يؤديهما . وقال الزجاج : الضمير في { عِلْمٍ } وفي { صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ } لكل .

وقيل : الضمير في { عِلْمٍ } لكل وفي { صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ } للّه أي صلاة اللّه وتسبيحه اللذين أمر بهما وهدى إليهما ، فهذه إضافة خلق إلى خالق . وقال مجاهد : الصلاة للبشر والتسبيح لما عداهم .

وقرأ الحسن وعيسى وسلام وهارون عن أبي عمر وتفعلون بتاء الخطاب ، وفيه وعيد وتخويف .

٤٢

وللّه ملك السماوات . . . . .

و { وَللّه مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ } إخبار بأن جميع المخلوقات تحت ملكه يتصرف فيهم بما يشاء تصرف القاهر الغالب . وإليه { الْمَصِيرُ } أي إلى جزائه من ثواب وعقاب . وفي ذلك تذكير وتخويف

٤٣

انظر تسفير الآية:٤٤

٤٤

ألم تر أن . . . . .

ولما ذكر انقياد من في السموات والأرض والطير إليه تعالى وذكر ملكه لهذا العالم وصيرورتهم إليه أكد ذلك بشيء عجيب من أفعاله مشعر بانتقال من حال إلى حال . وكان عقب قوله وإليه المصير فاعلم بانتقال إلى المعاد فعطف عليه ما يدل على تصرفه في نقل الأشياء من حال إلى حال ومعنى { يُزْجِى } يسوق قليلاً قليلاً ويستعمل في سوق الثقيل برفق كالسحاب والإبل ، والسحاب اسم جنس واحده سحابة ، والمعنى يسوق سحابة إلى سحابة .{ ثُمَّ يُؤَلّفُ بَيْنَهُ } أي بين أجزائه لأنه سحابة تتصل بسحابة فجعل ذلك ملتئماً بتأليف بعض إلى بعض .

وقرأ ورش يولف بالواو ، وباقي السبعة بالهمز وهو الأصل . فيجعله { رُكَاماً } أي متكاثفاً يجعل بعضه إلى بعض ، وانعصاره بذلك { مِنْ خِلاَلِهِ } أي فتوقه ومخارجه التي حدثت بالتراكم والانعصار . والخلال : قيل مفرد .

وقيل : جمع خلل كجبال وجبل .

وقرأ ابن مسعود وابن عباس والضحاك ومعاذ العنبري عن أبي عمرو والزعفراني من خللّه بالإفراد ، والظاهر أن في السماء جبالاً من برد قاله مجاهد والكلبي وأكثر المفسرين : خلقها اللّه كما خلق في الأرض جبالاً من حجر .

وقيل : جبال مجاز عن الكثرة لا أن في السماء جبالاً كما تقول : فلان يملك جبالاً من ذهب ، وعنده جبال من العلم يريد الكثرة . قيل :أو هو على حذف حرف التشبيه .

و { السَّمَاء } السحاب أي { مّنَ السَّمَاء } التي هي جبال أي كجبال كقوله { حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً } أي كنار قاله الزجاج ، فجعل السماء هو السحاب المرتفع سمي بذلك لسموه وارتفاعه . وعلى القول الأول المراد بالسماء الجسم الأزرق المخصوص وهو المتبادر للذهن ، ومن استعماله الجبال في الكثرة مجازاً قول ابن مقبل : إذا مت عن ذكر القوافي فلن

ترى لها شاعراً مني أطلب وأشعرا

وأكثر بيتاً شاعراً ضربت له

بطون جبال الشعر حتى تيسرا

واتفقوا على أن

{مِنْ } الأولى لابتداء الغاية .

وأما { مِن جِبَالٍ} فقال الحوفي : هي بدل من { السَّمَاء } ثم قال : وهي للتبعيض ، وهذا خطأ لأن الأولى لابتداء الغاية في ما دخلت عليه ، وإذ كانت الثانية بدلاً لزم أن يكون مثلها لابتداء الغاية ، لو

قلت : خرجت من بغداد من الكرخ لزم أن يكونا معاً لابتداء الغاية .

وقال الزمخشري وابن عطية : هي للتبعيض فيكون على قولهما في موضع المفعول لينزل . قال الحوفي والزمخشري : والثانية للبيان انتهى . فيكون التقدير وينزل من السماء بعض جبال فيها التي هي البرد فالمنزل برد لأن بعض البرد برد فمفعول { يُنَزّلٍ }{ مِن جِبَالٍ}

قال الزمخشري : أو الأولان للابتداء والأخيرة للتبعيض ، ومعناه أنه ينزل البرد من السماء من جبال فيها انتهى . فيكون { مِن جِبَالٍ } بدلاً{ مّنَ السَّمَاء}

وقيل :{ مِنْ } الثانية والثالثة زائدتان وقاله الأخفش ، وهما في موضع نصب عنده كأنه قال : وينزل من السماء جبالاً فيها أي في السماء برداً وبرداً بدل أي برد جبال . وقال الفراء : هما زائدتان أي جبالاً فيها برد لا حصى فيها ولا حجر ، أي يجتمع البرد فيصير كالجبال على التهويل فبرد مبتدأ وفيها خبره . والضمير في { فِيهَا } عائد على { الْجِبَالُ } أو فاعل بالجار والمجرور لأنه قد اعتمد بكونه في موضع الصفة لجبال .

وقيل :{ مِنْ } الأولى والثانية لابتداء الغاية ، والثالثة زائدة أي { وَيُنَزّلُ مِنَ السَّمَاء مِن جِبَالٍ } السماء برداً . وقال الزجاج : معناه { وَيُنَزّلُ مِنَ السَّمَاء مِن جِبَالٍ } برد فيها كما تقول : هذا خاتم في يدي من حديد ، أي خاتم حديد في يدي ، وإنما جئت في هذا وفي الآية بمن لما فرقت ، ولأنك إذا

قلت : هذا خاتم حديد كان المعنى واحداً انتهى . فعلى هذا يكون { مِن بَرَدٍ } في موضع الصفة لجبال ، كما كان من في من حديد صفة لخاتم ، فيكون في موضع جر ويكون مفعول { يُنَزّلٍ } هو { مِن جِبَالٍ } وإذا كانت الجبال { مِن بَرَدٍ } لزم أن يكون المنزل برداً . والظاهر إعادة الضمير في { بِهِ } على البرد ، ويحتمل أن يكون أريد به الودق والبرد وجرى في ذلك مجرى اسم الإشارة . وكأنه قال : فيصيب بذلك والمطر هو أعم وأغلب في الإصابة والصرف أبلغ في المنفعة والامتنان .

وقرأ الجمهور { سَنَا } مقصوراً{ بَرْقِهِ } مفرداً .

وقرأ طلحة بن مصرف سناء ممدوداً{ بَرْقِهِ } بضم الباء وفتح الراء جمع برقه بضم الباء ، وهي المقدار من البرق كالغرفة واللقمة ، وعنه بضم الباء والراء اتبع حركة الراء لحركة الباء كما اتبعت في { ظُلُمَاتِ } وأصلها السكون . والسناء بالمدّ ارتفاع الشأن كأنه شبه المحسوس من البرق لارتفاعه في الهواء بغير المحسوس من الإنسان ، فإن ذلك صيب لا يحس به بصر .

وقرأ الجمهور { يَذْهَبُ } بفتح الياء والهاء وأبو جعفر { يَذْهَبُ } بضم الياء وكسر الهاء . وذهب الأخفش وأبو حاتم إلى تخطئة أبي جعفر في هذه القراءة قالا : لأن الياء تعاقب الهمزة وليس بصواب لأنه لم يكن ليقرأ إلاّ بما روي . وقد أخذ القراءة عن سادات التابعين الآخذين عن جلة الصحابة أُبيّ وغيره ، ولم ينفرد بها أبو جعفر بل قرأه شيبة كذلك وخرج ذلك على زيادة الباء أي يذهب الأبصار . وعلى أن الباء بمعنى من والمفعول محذوف تقديره يذهب النور من الأبصار كما قال :

شع شرب النزيف ببرد ماء الحشرج يريد من برد . وتقليب الليل والنهار آيتان أحدهما بعد الآخر أو زيادة هذا وعكسه ، أو يغير النهار بظلمة السحاب مرة وضوء الشمس أخرى ، ويغير الليل باشتداد ظلمته مرة وضوء القمر أخرى ، أو باختلاف ما يقدر فيهما من الخير والنفع والشدة والنعمة والأمن ومقابلاتها ونحو ذلك أقوال أربعة إن في ذلك إشارة إلى ما تقدم من الدلائل الدالة على وحدانيته من تسبيح من ذكر وتسخير السحاب . وما يحدثه تعالى فيه من أفعاله حتى ينزل المطر فيقسم رحمته بين خلقه وإراءتهم البرق في السحاب الذي يكاد يخطف الأبصار ويقلب الليل والنهار .

{لَعِبْرَةً } أي اتّعاظاً . وخص أولو الأبصار بالاتّعاظ لأن البصر والبصيرة إذا استعملا وصلا إلى إدراك الحق كقوله { إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو الاْلْبَابِ}

٤٥

واللّه خلق كل . . . . .

وقرأ الجمهور { خُلِقَ } فعلاً ماضياً .{ كُلٌّ } نصب .

وقرأ حمزة والكسائي وابن وثاب والأعمش خالق اسم فاعل مضاف إلى { كُلٌّ} والدابة : ما يحرك أمامه قدماً ويدخل فيه الطير . قال الشاعر : دبيب قطا البطحاء في كل منهل والحوت وفي الحديث : { دابة من البحر مثل الظرب} . واندرج في { كُلَّ دَابَّةٍ } المميز وغيره ، فسهل التفصيل بمن التي لمن يعقل وما لا يعقل إذا كان مندرجاً في العام ، فحكم له بحكمه كان الدواب كلهم مميزون . والظاهر أن { مِن مَّاء } متعلق بخلق . و { مِنْ } لابتداء الغاية ، أي ابتدأ خلقها من الماء . فقيل : لما كان غالب الحيوان مخلوقاً من الماء لتولده من النطفة أو لكونه لا يعيش إلاّ بالماء أطلق لفظ { كُلٌّ } تنزيلاً للغالب منزلة العام ، ويخرج عما خلق من ماء ما خلق من نور

وهم الملائكة ، ومن نار وهم الجنّ ، ومن تراب وهم آدم . وخلق عيسى من الروح وكثير من الحيوان لا يتولد من نطفة .

وقيل { كُلَّ دَابَّةٍ } على العموم في هذه الأشياء كلها وإن أصل جميع المخلوقات الماء ، فروي أن أول ما خلق اللّه جوهرة فنظر إليها بعين الهيبة فصارت ماءً ، ثم خلق من ذلك الماء النار والهواء والنور ، ولما كان المقصود من هذه الآية بيان أصل الخلقة وكان الأصل الأول هو الماء قال :{ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مّن مَّاء} وقال القفال : ليس { مِن مَّاء } متعلقاً بخلق وإنما هو في موضع الصفة لكل دابة ، فالمعنى الإخبار أنه تعالى خلق كل دابة متولدة من الماء أي متولدة من الماء مخلوقة للّه تعالى . ونكر الماء هنا وعرف في { وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَىْء حَىّ } لأن المعنى هنا { خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ } من نوع من الماء مختص بهذه الدابة ، أو { مِن مَّاء } مخصوص وهو النطفة ، ثم خالف بين المخلوقات من النطفة هوامّ وبهائم وناس كما قال { يُسْقَى بِمَاء واحِدٍ وَنُفَضّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِى الاْكُلِ } وهنا قصد أن أجناس الحيوان كلها مخلوقة من هذا الجنس الذي هو جنس الماء ، وذلك أنه هو الأصل وإن تخللت بينها وبينه وسائط كما قيل : إن أصل النور والنار والتراب الماء .

وسمي الزحف على البطن مشياً لمشاكلته ما بعده من ذكر الماشين أو استعارة ، كما قالوا : قد مشى هذا الأمر وما يتمشى لفلان أمر ، كما استعاروا المشفر للشفة والشفة للجحفلة . والماشي { عَلَى بَطْنِهِ } الحيات والحوت ونحو ذلك من الدود وغيره . و { عَلَى رِجْلَيْنِ } الإنسان والطير والأربع لسائر حيوان الأرض من البهائم وغيرها ، فإن وجد من له أكثر من أربع . فقيل : اعتماده إنما هو على أربع ولا يفتقر في مشيه إلى جميعها وقد ما هو أعرف في القدرة وأعجب وهو الماشي بغير آلة مشى من له رجل وقوائم ، ثم الماشي على رجلين ثم الماشي على أربع . وفي مصحف أُبيّ ومنهم من يمشي على أكثر ، فعم بهذه الزيادة جميع الحيوان لكنه لم يثبت قرآناً ولعله ما أورده قرآن بل تنبيهاً على أن اللّه خلق من يمشي على أكثر من أربع كالعنكبوت والعقرب والرتيلاء وذي أربع وأربعين رجلاً وتسمى الاذن وهذا النوع لندوره لم يذكر .

{يَخْلُقُ اللّه مَا يَشَاء } إشارة إلى أنه تعالى ما تعلقت به إرادة خلقه أنشأه واخترعه ، وفي ذلك تنبيه على كثرة الحيوان وأنها كما اختلفت بكيفية المشيء اختلفت بأمور أخر .

٤٧

ويقولون آمنا باللّه . . . . .

نزلت إلى قوله { إِلاَّ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ } في المنافقين بسبب منافق اسمه بشر ، دعاه يهودي في خصومة بينهما إلى الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، ودعا هو إلى كعب بن الأشرف فنزلت .

ولما ذكر تعالى دلائل التوحيد أتبع ذلك بذمّ قوم آمنوا بألسنتهم دون عقائدهم .{ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مّنْهُمْ } عن الإيمان .{ بَعْدَ ذَلِكَ } أي بعد قولهم { مِنَ }{ وَمَا أُوْلَئِكَ } إشارة إلى القائلين فينتفي عن جميعهم الإيمان ، أو إلى الفريق المتولي فيكون ما سبق لهم من الإيمان ليس إيماناً إنما كان ادّعاء باللسان من غير مواطأة بالقلب .

٤٨

وإذا دعوا إلى . . . . .

وأفرد الضمير في { لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ } وقد تقدم قوله { إِلَى اللّه وَرَسُولِهِ } لأن حكم الرسول هو عن اللّه .

قال الزمخشري : كقولك أعجبني زيد وكرمه يريد كرم زيد ومنه :

ومنهل من الفلافي أوسطه

غلسته قبل القطا وفرطه

أراد قبل فرط القطا انتهى . أي قبل تقدم القطا إليه .

وقرأ أبو جعفر { لِيَحْكُمَ } في الموضعين مبنياً للمفعول و { إِذَا } الثانية للفجاءة . جواب { إِذَا } الأولى الشرطية ، وهذا أحد الدلائل على أن الجواب لا يعمل في إذا الشرطية خلافاً للأكثرين من النحاة ، لأن إذا الفجائية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها . وقد أحكم ذلك في علم النحو .

٤٩

وإن يكن لهم . . . . .

والظاهر أن { إِلَيْهِ } متعلق بيأتوا . والضمير في { إِلَيْهِ } عائد على الرسول صلى اللّه عليه وسلم. وأجاز الزمخشري أن يتعلق { إِلَيْهِ } بمذعنين قال : لأنه بمعنى مسرعين في الطاعة وهذا أحسن لتقدم صلته ودلالته على الاختصاص . وقد رددنا عليه ذلك وفي ما رجح تهيئة العامل للعمل وقطعه عن العمل وهو مما يضعف ، والمعنى أنهم لمعرفتهم أنه ليس معه إلا الحق المرّ والعدل البحت يزورون عن المحاكمة إليك إذا ركبهم الحق لئلا تنزعه منهم بقضائك عليهم لخصومهم ، وإن ثبت لهم الحق على خصم أسرع إليك كلهم ولم يرضوا إلا بحكومتك .

٥٠

أفي قلوبهم مرض . . . . .

{أَفِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَوْ ارْتَابُواْ أَمْ يَخَافُونَ }{ أَمْ } هنا منقطعة والتقدير : بل ارتابوا بل أيخافون وهو استفهام توقيف وتوبيخ ، ليقروا بأحد هذه الوجوه التي عليهم في الإقرار بها ما عليهم ، وهذا التوقيف يستعمل في الأمور الظاهرة مما يوبخ به ويذم ، أو مما يمدح به وهو بليغ جداً فمن المبالغة في الذم . قول الشاعر : ألست من القوم الذين تعاهدوا

على اللؤم والفحشاء في سالف الدهر

ومن المبالغة في المدح . قول جرير : ألستم خير من ركب المطايا

وأندى العالمين بطون راح

وقسم تعالى جهات صدودهم عن حكومته فقال { أَفِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } أي نفاق وعدم إخلاص { أَمِ ارْتَابُواْ } أي عرضت لهم الريبة والشك في نبوته بعد أن كانوا مخلصين { أَمْ يَخَافُونَ } أي يعرض لهم الخوف من الحيف في الحكومة ، فيكون ذلك ظلماً لهم . ثم استدرك ببل أنهم { هُمُ الظَّالِمُونَ}

٥١

إنما كان قول . . . . .

وقرأ عليّ وابن أبي إسحاق والحسن { إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ } بالرفع والجمهور بالنصب .

قال الزمخشري : والنصب أقوى لأن أولى الاسمين بكونه اسماً لكان أو غلهما في التعريف و { أَن يَقُولُواْ } أو غل

لأنه لا سبيل عليه للتنكير بخلاف قول المؤمنين . وكان هذا من قبيل كان في قوله { مَا كَانَ للّه أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ }{ مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَاذَا } انتهى . ونص سيبويه على أن اسم كان وخبرها إذا كانتا معرفتين فأنت بالخيار في جعل ما شئت منهما الاسم والآخر الخبر من غير اعتبار شرط في ذلك ولا اختيار .

وقرأ أبو جعفر والجحدري وخالد بن الياس { لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ } مبنياً للمفعول ، والمفعول الذي لم يسم فاعله هو ضمير المصدر أي { لِيَحْكُمَ } هو أي الحكم ، والمعنى ليفعل الحكم { بَيْنَهُمْ } ومثله قولهم : جمع بينهما وألف بينهما وقوله تعالى { وَحِيلَ بَيْنَهُمْ}

قال الزمخشري : ومثله { لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } فيمن قرأ { بَيْنِكُمْ } منصوباً أي وقع التقطع بينكم انتهى . ولا يتعين ما قاله في الآية إذ يجوز أن يكون الفاعل ضميراً يعود على شيء قبله وتقدم الكلام في ذلك في موضعه .

{أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا } أي قول الرسول { وَأَطَعْنَا } أي أمره .

٥٢

ومن يطع اللّه . . . . .

وقرىء { وَيَتَّقْهِ } بالإشباع والاختلاس والإسكان . وقرىء { وَيَتَّقْهِ } بسكون القاف وكسر الهاء من غير إشباع أجرى خبر كان المنفصل مجرى المتصل ، فكما يسكن علم فيقال علم كذلك سكن ويتقه لأنه تقه كعلم وكما قال السالم : قالت سليمى اشتر لنا سويقاً يريد اشتر لنا { وَمَن يُطِعِ اللّه } في فرائضه { وَرَسُولُهُ } في سننه و { يَخْشَى اللّه } على ما مضى من ذنوبه { وَيَتَّقْهِ } فيما يستقبل . وعن بعض الملوك أنه سأل عن آية كافية فتليت له هذه .

٥٣

وأقسموا باللّه جهد . . . . .

ولما بلغ المنافقين ما أنزل تعالى فيهم أتوا إلى الرسول صلى اللّه عليه وسلم وأقسموا إلى آخره أي { لَيُخْرِجَنَّ } عن ديارهم وأموالهم ونسائهم و { لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ } بالجهاد { لَيُخْرِجَنَّ } إليه وتقدم الكلام في { جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ } في الأنعام . ونهاهم تعالى عن قسمهم لعلمه تعالى أنه ليس حقاً .{ طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ } أي معلومة لا شك فيها ولا يرتاب ، كطاعة الخلص من المؤمنين المطابق باطنهم لظاهرههم ، لا أيمان تقسموا بها بأفواهكم وقلوبكم على خلافها ، أو طاعتكم طاعة معروفة بالقول دون الفعل ، أو طاعة معروفة أمثل وأولى بكم من هذه الأيمان الكاذبة قاله الزمخشري . و

قال ابن عطية : يحتمل معاني .

أحدها : النهي عن القسم الكاذب إذ قد عرف أن طاعتهم دغلة رديئة فكأنه يقول : لا تغالطوا فقد عرف ما أنتم عليه .

والثاني : لا تتكلفوا القسم طاعة معروفة متوسطة على قدر الاستطاعة أمثل وأجدى عليكم ، وفي هذا الوجه إبقاء عليهم .

والثالث : لا تقنعوا بالقسم طاعة تعرف منكم وتظهر عليكم هو المطلوب منكم .

والرابع : لا تقنعوا لأنفسكم بإرضائنا بالقسمة طاعة اللّه معروفة وجهاد عدوه مهيع لائح انتهى .

و { طَاعَةٌ } مبتدأ و { مَّعْرُوفَةٌ } صفة والخبر محذوف ، أي أمثل وأولى أو خبر مبتدأ محذوف أي أمرنا أو المطلوب { طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ} وقال أبو البقاء : ولو قرىء بالنصب لكان جائزاً في العربية وذلك على المصدر أي أطيعوا طاعة انتهى . وقدراه بالنصب زيد بن عليّ واليزيدي وتقدير بعضهم الرفع على إضمار ولتكن { طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ } ضعيف لأنه لا يحذف الفعل ويبقى الفاعل ، إلاّ إذا كان ثم مشعر به نحو { رِجَالٌ } بعد { يُسَبّحُ } مبنياً للمفعول أي يسبحه رجال ، أو يجاب به نفي نحو : بلى زيد لمن قال : ما جاء أحد . أو استفهام نحو قوله :

ألا هل أتى أم الحويرث مرسل

بلى خالد إن لم تعقه العوائق

٥٤

قل أطيعوا اللّه . . . . .

أي أتاها خالد . { إِنَّ اللّه خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } أي مطلع على سرائركم ففاضحكم . والتفت من الغيبة إلى الخطاب لأنه أبلغ في تبكيتهم .

ولما بكتهم بأن مطلع على سرائرهم تلطف بهم فأمرهم بطاعة اللّه والرسول وهو أمر عام للمنافقين وغيرهم .{ فَإِن تَوَلَّوْاْ } أي فإن تتولوا .{ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ } أي على الرسول { مَا حُمّلَ } وهو التبليغ ومكافحة الناس بالرسالة وإعمال الجهد في إنذارهم .{ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمّلْتُمْ } وهو السمع والطاعة واتّباع الحق . ثم علق هدايتهم على طاعته فلا يقع إلا بطاعته { وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ } تقدم الكلام على مثل هذه الجملة في المائدة .

٥٥

وعد اللّه الذين . . . . .

روي أي بعض الصحابة شكا جهد

مكافحة العدو وما كانوا فيه من الخوف وأنهم لا يضعون أسلحتهم فنزل { وَعَدَ اللّه الَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ} وروي أنه عليه الصلاة والسلام لما قال بعضهم ما أتى علينا يوم نأمن من فيه ونضع السلاح ، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : { لا تغبرون إلا يسيراً حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبياً ليسمعه حديدة} . قال ابن عباس : وهذا الوعد وعده اللّه أمّة محمد صلى اللّه عليه وسلم في التوراة والإنجيل . والخطاب في { مّنكُمْ } للرسول وأتباعه و { مِنْ } للبيان أي الذين هم أنتم وعدهم اللّه أن ينصر الإسلام على الكفر ويورثهم الأرض ويجعلهم خلفاء . وقوله { فِى الاْرْضِ } هي البلاد التي تجاورهم وهي جزيرة العرب ، ثم افتتحوا بلاد الشرق والغرب ومزقوا ملك الأكاسرة وملكوا خزائنهم واستولوا على الدنيا . وفي الصحيح : { زويت لي الأرض فأريت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي عنها} . قال بعض العلماء : ولذلك اتسع نطاق الإسلام في الشرق والغرب دون اتساعه في الجنوب والشمال .

قلت : ولا سيما في عصرنا هذا بإسلام معظم العالم في المشرق كقبائل الترك ، وفي المغرب كبلاد السودان التكرور والحبشة وبلاد الهند .

{كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } أي بني إسرائيل حين أورثهم مصر والشام بعد هلاك الجبابرة .

وقيل : هو ما كان في زمان داود وسليمان عليهما السلام ، وكان الغالب على الأرض المؤمنون . وقرىء { كَمَا اسْتَخْلَفَ } مبنياً للمفعول . واللام في { لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ } جواب قسم محذوف ، أي وأقسم { لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ } أو أجرى وعد اللّه لتحققه مجرى القسم فجووب بما يجاوب به القسم . وعلى التقدير حذف القسم بكون معمول { وَعْدُ } محذوفاً تقديره استخلافكم وتمكين دينكم . ودل عليه جواب القسم المحذوف . وقال الضحاك : هذه الآية تتضمن خلافه أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ لأنهم أهل الإيمان وعمل الصالحات . وقال صلى اللّه عليه وسلم : { الخلافة بعدي ثلاثون } انتهى . ونيدرج من جرى مجراهم في العدل من استخلف من قريش كعمر بن عبد العزيز من الأمويين ، والمهتدين باللّه في العباسيين .

{وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ } أي يثبته ويوطده بإظهاره وإعزاز أهله وإذلال الشرك وأهله . و { الَّذِى ارْتَضَى لَهُمْ } صفة مدح جليلة وقد بلغت هذه الأمة في تمكين هذا الدين الغاية القصوى مما أظهر اللّه على أيديهم من الفتوح والعلوم التي فاقوا فيها جميع العالم من لدن آدم إلى زمان هذه الملة المحمدية .

وقرأ الجمهور { وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ } بالتشديد وابن كثير وأبو بكر والحسن وابن محيصن بالتخفيف . وقال أبو العالية : لما أظهر اللّه عز وجل رسوله صلى اللّه عليه وسلم على جزيرة العرب وضعوا السلاح وآمنوا ، ثم قبض اللّه نبيه عليه السلام فكانوا آمنين كذلك في إمارة أبي بكر وعمر وعثمان حتى وقعوا فيما وقعوا فيه وكفروا بالنعمة ، فأدخل اللّه عليهم الخوف فغيروا فغير اللّه ما بهم .

{يَعْبُدُونَنِى } الظاهر أنه مستأنف فلا موضع له من الإعراب كأنه قيل : ما لهم يستخلفون ويؤمنون فقال { يَعْبُدُونَنِى } قاله الزمخشري . و

قال ابن عطية :{ يَعْبُدُونَنِى } فعل مستأنف أي هم { يَعْبُدُونَنِى } ويعني بالاستئناف الجملة لا نفس الفعل وحده وقاله الحوفي قال : ويجوز أن يكون مستأنفاً على طريق الثناء عليهم أي هم { يَعْبُدُونَنِى}

وقال الزمخشري : وإن جعلته حالاً عن وعدهم أي وعدهم اللّه ذلك في حال عبادتهم وإخلاصهم فمحله النصب انتهى . وقال الحوفي قبله . وقال أبو البقاء :{ يَعْبُدُونَنِى } حال من { لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ } و { ليبدلنهم }{ بِرَبّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ } بدل من { يَعْبُدُونَنِى } أو حال من الفاعل في { يَعْبُدُونَنِى } موحدين انتهى . والظاهر أنه متى أطلق الكفر كان مقابل الإسلام والإيمان وهو ظاهر قول حذيفة قال : كان النفاق على عهد النبيّ صلى اللّه عليه وسلم ، وقد ذهب ولم يبق إلاّ كفر بعد إيمان .

قال ابن عطية : يحتمل أن يريد كفر هذه النعم إذا وقعت ويكون الفسق على هذا غير مخرج عن الملة . قيل : ظهر في قتلة عثمان .

وقال الزمخشري :{ وَمَن كَفَرَ } يريد كفران النعمة كقوله { فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّه }{ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } أي هم الكاملون في فسقهم حيث كفروا تلك النعمة العظيمة .

٥٦

وأقيموا الصلاة وآتوا . . . . .

والظاهر أن قوله { وَأَقِيمُواْ } التفات من الغيبة إلى الخطاب ويحسنه الخطاب في منكم .

وقال الزمخشري :{ وَإِذْ أَخَذْنَا } معطوف على { أَطِيعُواْ اللّه وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ } وليس ببعيد أن يقع بين المعطوف والمعطوف عليه . فاصل . وإن طال لأن حق المعطوف أن يكون غير المعطوف عليه وكررت طاعة الرسول توكيداً لوجوبها انتهى .

٥٧

لا تحسبن الذين . . . . .

وقرأ الجمهور { لاَ تَحْسَبَنَّ } بتاء الخطاب والتقدير ، { لاَ تَحْسَبَنَّ } أيها المخاطب ولا يندرج فيه الرسول ، وقالوا : هو خطاب للرسول وليس بجيد لأن مثل هذا الحسبان لا يتصوّر وقوعه فيه عليه السلام .

وقرأ حمزة وابن عامر لا يحسبن بالياء للغيبة ، والتقدير لا يحسبن حاسب ، والرسول لا يندرج في حاسب وقالوا : يكون ضمير الفاعل للرسول لتقدم ذكره في { وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ } قاله أبو عليّ والزمخشري وليس بجيد لما ذكرناه في قراءة التاء . وقال النحاس : ما علمت أحداً من أهل العربية بصرياً ولا كوفياً إلاّ وهو يخطىء قراءة حمزة ، فمنهم من يقول : هي لحن لأنه لم يأت إلاّ بمفعول واحد ليحسبن ، وممن قال هذا أبو حاتم انتهى . وقال الفرّاء : هو ضعيف وأجازه على حذف المفعول الثاني وهو قول البصريين تقديره أنفسهم . و { مُعَاجِزِينَ } المفعول الثاني .

وقال عليّ بن سليمان :{ الَّذِينَ كَفَرُواْ } في موضع نصب قال : ويكون المعنى ولا يحسبن الكافر { الَّذِينَ كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ فِى الاْرْضِ} وقال الكوفيون :{ مُعَاجِزِينَ } المفعول الأول . و { فِى الاْرْضِ } الثاني قيل : وهو خطأ وذلك لأن ظاهر في { الاْرْضِ } تعلقه بمعجزين ، فلا يكون مفعولاً ثانياً . وخرج الزمخشري ذلك متبعاً قول الكوفيين . فقال { مُعْجِزِينَ فِى الاْرْضِ } هما المفعولان والمعنى لا يحسبن الذين كفروا أحداً يعجز اللّه في الأرض حتى يطمعوا لهم في مثل ذلك ، وهذا معنى قوي جيد انتهى . وقال أيضاً : يكون الأصل : لا يحسبنهم { الَّذِينَ كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ } ثم حذف الضمير الذي هو المفعول الأول ، وكان الذي سوغ ذلك أن الفاعل والمفعولين لما كانت كالشيء الواحد اقتنع بذكر اثنين عن ذكر الثالث انتهى . وقد رددنا هذا التخريج في آل عمران في قوله { لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْاْ } في قراءة من قرأ بياء الغيبة ، وجعل الفاعل { الَّذِينَ يَفْرَحُونَ } وملخصه أنه ليس هذا من الضمائر التي يفسرها ما بعدها فلا يتقدر لا يحسبنهم إذ لا يجوز ظنه زيد قائماً على تقدير رفع زيد بظنه .

{وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ }

قال الزمخشري : عطف على { لاَ تَحْسَبَنَّ } كأنه قيل الذين كفروا لا يفوتون اللّه { وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ } والمراد بهم المقسمون جهد أيمانهم انتهى . وقال صاحب النظام لا يحتمل أن يكون { وَمَأْوَاهُمُ } متصلاً بقوله { لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ فِى الاْرْضِ } بل هم مقهورون { وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ } انتهى . واستبعد العطف من حيث إن { لاَ تَحْسَبَنَّ } نهي { وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ } جملة خبرية فلم يناسب عنده أن يعطف الجملة الخبرية على جملة النهي لتباينهما وهذا مذهب قوم . ولما أحسن الزمخشري بهذا قال : كأنه قيل الذين كفروا لا يفوتون اللّه فتأول جملة النهي بجملة خبرية حتى تقع المناسبة ، والصحيح أن ذلك لا يشترط بل يجوز عطف الجمل على اختلافها بعضاً على بعض وإن لم تتحد في النوعية وهو مذهب سيبويه .

٥٨

يا أيها الذين . . . . .

روي أن عمر بعث إليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم غلاماً من الأنصار يقال له مدلج ، وكان نائماً فدق عليه الباب ودخل ، فاستيقظ وجلس فانكشف منه شيء فقال عمر : وددت أن اللّه نهى أبناءنا ونساءنا عن

الدخول علينا في هذه الساعة إلاّ بإذن . ثم انطلق إلى الرسول فوجد هذه الآية قد نزلت فخرّ ساجداً .

وقيل : نزلت في أسماء بنت أبي مرثد قيل : دخل عليها غلام لها كبير في وقت كرهت دخوله ، فأتت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالت : إن خدمنا وغلماننا يدخلون علينا حالاً نكرهها .

{لِيَسْتَأْذِنكُمُ } أمر والظاهر حمله على الوجوب والجمهور على الندب .

وقيل : بنسخ ذلك إذ صار للبيوت أبواب روي ذلك عن ابن عباس وابن المسيب والظاهر عموم { الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } في العبيد والإماء دون العبيد .{ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُواْ الْحُلُمَ مِنكُمْ } عام في الأطفال عبيد كانوا أو أحراراً .

وقرأ الحسن وأبو عمر

وفي رواية وطلحة { الْحُلُمَ } بسكون اللام وهي لغة تميم .

وقيل { مّنكُمْ } أي من الأحرار ذكوراً كانوا أو إناثاً . والظاهر من قوله { ثَلاَثَ مَرَّاتٍ } ثلاث استئذانات لأنك إذا ضربت ثلاث مرات لا يفهم منه إلاّ ثلاث ضربات ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام : { الاستئذان ثلاث } والذي عليه الجمهور أن معنى { ثَلاَثَ مَرَّاتٍ } ثلاث أوقات وجعلوا ما بعده من ذكر تلك الأوقات تفسيراً لقوله { ثَلاَثَ مَرَّاتٍ } ولا يتعين ذلك بل تبقى { ثَلاَثَ مَرَّاتٍ } على مدلولها .

{مّن قَبْلِ صَلَواةِ الْفَجْرِ } لأنه وقت القيام من المضاجع وطرح ما ينام فيه من الثياب ولبس ثياب اليقظة وقد ينكشف النائم .{ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مّنَ الظَّهِيرَةِ } لأنه وقت وضع الثياب للقائلة لأن النهار إذ ذاك يشتد حره في ذلك الوقت . و { مِنْ } في { مّنَ الظَّهِيرَةِ } قال أبو البقاء : لبيان الجنس أي حين ذلك هو الظهيرة ، قال : أو بمعنى من أجل حر الظهيرة و { حِينٍ } معطوف على موضع { مِن قَبْلُ }{ وَمِن بَعْدِ صَلَواةِ الْعِشَاء } لأنه وقت التجرد من ثياب اليقظة والالتحاف بثياب النوم { ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ } سمى كل واحد منها عورة لأن الناس يختل تسترهم وتحفظهم فيها ، والعورة الخلل ومنه أعور الفارس وأعور المكان ، والأعور المختل العين .

وقرأ حمزة والكسائي { ثَلَاثٍ } بالنصب قالوا : بدل من { ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ } وقدره الحوفي والزمخشري وأبو البقاء أوقات { ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ } و

قال ابن عطية : إنما يصح يعنى البدل بتقدير أوقات { عَوْراتِ } فحذف المضاف وقيم المضاف إليه مقامه .

وقرأ باقي السبعة بالرفع أي هن { ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ }

وقرأ الأعمش { عَوْراتِ } بفتح الواو وتقدم أنها لغة هذيل بن مدركة وبني تميم وعلى رفع { ثَلَاثٍ}

قال الزمخشري : يكون { لَيْسَ عَلَيْكُمْ } الجملة في محل رفع على الوصف والمعنى هن { ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ } مخصوصة بالاستئذان ، وإذا نصبت لم يكن له محل وكان كلاماً مقرراً بالاستئذان في تلك الأحوال خاصة .

{بَعْدَهُنَّ } أي بعد استئذانهم فيهن حذف الفاعل وحرف الجر بفي بعد استئذانهن ثم حذف المصدر

وقيل { لَّيْسَ } على العبيد والإماء ومن لم يبلغ الحلم في الدخول { عَلَيْكُمْ } بغير استئذان { جُنَاحٌ } بعد هذه الأوقات الثلاث { طَوفُونَ عَلَيْكُمْ } يمضون ويجيؤون وهو خبر مبتدأ محذوف تقديره هم { طَوفُونَ } أي المماليك والصغار { طَوفُونَ عَلَيْكُمْ } أي يدخلون عليكم في المنازل غدوة وعشية بغير إذن إلاّ في تلك الأوقات . وجوّزوا في { بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ } أن يكون مبتدأ وخبراً لكن الجر قدروه طائف على بعض وهو كون مخصوص فلا يجوز حذفه .

قال الزمخشري : وحذف لأن طوافون يدل عليه وأن يكون مرفوعاً بفعل محذوف تقديره يطوف بعضكم . وقال ابن عطية { بَعْضُكُمْ } بدل من قوله { طَوفُونَ } ولا يصح لأنه إن أراد بدلاً من { طَوفُونَ } نفسه فلا يجوز لأنه يصير التقدير هم { بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ } وهذا معنى لا يصح . وإن جعلته بدلاً من الضمير في { طَوفُونَ } فلا يصح أيضاً إن قدر الضمير ضمير غيبة لتقدير المبتدأ هم لأنه يصير التقدير هم يطوف { بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ } وهو لا يصح . فإن جعلت التقدير أنتم يطوف { عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ } فيدفعه أن قوله { عَلَيْكُمْ } بدل على أنهم هم المطوف عليهم ، وأنتم طوافون ، يدل على أنهم طائفون فتعارضا .

وقرأ ابن أبي عبلة طوافين بالنصب على الحال من ضمير { عَلَيْهِمْ} وقال الحسن : إذا بات الرجل خادمه معه فلا استئذان عليه ولا في هذه الأوقات الثلاثة .

٥٩

وإذا بلغ الأطفال . . . . .

{وَإِذَا بَلَغَ الاْطْفَالُ } أي من أولادكم وأقربائكم { فَلْيَسْتَأْذِنُواْ } أي في كل الأوقات فإنهم قبل البلوغ كانوا يستأذنون في ثلاث الأوقات .{ كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } يعني البالغين .

وقيل : الكبار من أولاد الرجل وأقربائه . ودل ذلك على أن الابن والأخ البالغين كالأجنبي في ذلك وتكلموا هنا

فيما به البلوغ وهي مسألة تذكر في الفقه . كذلك الإشارة إلى ما تقدم ذكره من استئذان المماليك وغير البلغ .

٦٠

والقواعد من النساء . . . . .

ولما أمر تعالى النساء بالتحفظ من الرجال ومن الأطفال غير البلغ في الأوقات التي هي مظنة كشف عورتهن استثنى { الْقَوَاعِدَ مِنَ النّسَاء } اللاتي كبرن وقعدن عن الميل إليهن والافتتان بهن فقال { وَالْقَوَاعِدُ } وهو جمع قاعد من صفات الإناث . وقال ابن السكيت : امرأة قاعد قعدت عن الحيض . وقال ابن قتيبة : سُميِّن بذلك لأنهن بعد الكبر يكثرن القعود . وقال ربيعة لقعودهن عن الاستمتاع بهن فأيسن ولم يبق لهن طمع في الأزواج .

وقيل قعدن عن الحيض والحبل . و { ثِيَابَهُنَّ } الجلباب والرداء والقناع الذي فوق الخمار والملاء الذي فوق الثياب أو الخمر أو الرداء والخمار أقوال ، ويقال للمرأة إذا كبرت امرأة واضع أي وضعت خمارها .{ غَيْرَ مُتَبَرّجَاتِ بِزِينَةٍ } أي غير متظاهرات بالزينة لينظر إليهن ، وحقيقة التبرج إظهار ما يجب إخفاؤه أو غير قاصدات التبرج بالوضع ، ورب عجوز يبدو منها الحرص على أن يظهر بها جمال .

{وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ } عن وضع الثياب ويتسترن كالشباب أفضل لهن .{ وَاللّه سَمِيعٌ } لما يقول كل قائل { عَلِيمٌ } بالمقاصد . وفي ذكر هاتين الصفتين توعد وتحذير

٦١

ليس على الأعمى . . . . .

عن ابن عباس لما نزل { وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ } تحرج المسلمون عن مواكلة الأعمى لأنه لا يبصر موضع الطعام الطيب ، والأعرج لأنه لا يستطيع المزاحمة على الطعام ، والمريض لأنه لا يستطيع استيفاء الطعام فأنزل اللّه هذه الآية قيل : وتحرجوا عن أكل طعام القرابات فنزلت مبيحة جميع هذه المطاعم ومبينة أن تلك إنما هي في التعدي والقمار وما يأكله المؤمن من مال من يكره أهله أو بصفقة فاسدة ونحوه . وقال عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عتبة بن مسعود وابن المسيب كانوا إذا نهضوا ءلى الغزو وخلفوا أهل العذر في منازلهم وأموالهم تحرجوا من أكل مال الغائب فنزلت مبيحة لهم ما تمس إليه حاجتهم من مال الغائب إذا كان الغائب قد بنى على ذلك . وقال مجاهد : كان الرجل إذا ذهب بأهل العذر إلى بيته فلم يجد فيه شيئاً ذهب بهم إلى بيوت قراباته فتحرج أهل الأعذار من ذلك فنزلت .

وقيل : كانت العرب ومن بالمدينة قبل البعث تجتنب الأكل مع أهل هذه الأعذار فبعضهم تقذراً لمكان جولان يد الأعمى ، ولانبساط الجلسة مع الأعرج ، ولرائحة المريض وهي أخلاق جاهلية وكبر . فنزلت واستبعد هذا لأنه لو كان هذا السبب لكان التركيب ليس عليكم حرج أن تأكلوا معهم ولم يكن { لَّيْسَ عَلَى الاْعْمَى حَرَجٌ } وأجاب بعضهم : بأن { عَلَى } في معنى أي في مواكلة الأعمى وهذا بعيد جداً . وفي كتاب الزهراوي عن ابن عباس أن أهل هذه الأعذار تحرجوا في الأكل مع الناس من أجل عذرهم فنزلت . وعلى هذه الأقوال كلها يكون نفي الحرج عن أهل العذر ومن بعدهم في المطاعم . وقال الحسن وعبد الرحمن بن زيد الحرج المنفي عن أهل العذر هو في القعود عن الجهاد وغيره مما رخص لهم فيه ، والحرج المنفي عمن بعدهم في الأكل مما ذكر وهو مقطوع مما قبله إذ متعلق الحرجين مختلف . وإن كان قد اجتمعا في انتفاء الحرج . وهذا القول هو الظاهر . ولم يذكر بيوت الأولاد اكتفاء بذكر بيوتكم لأن ولد الرجل بعضه وحكمه حكم نفسه ، وبيته بيته . وفي الحديث } إن أطيب ما يأكل المرء من كسبه وإن ولده من كسبه} .

ومعنى { مِن بُيُوتِكُمْ} من البيوت التي فيها أزواجكم وعيالكم ، والولد أقرب من عدد من القرابات فإذا كان سبب الرخصة هو القرابة كان الذي هو أقرب منهم أولى .

وقرأ طلحة إمهاتكم بكسر الهمزة .{أَوْ مَا مَلَكْتُم} قال ابن عباس : هو وكيل الرجل أن يتناول من التمر ويشرب من اللبن . وقال قتادة : العبد لأن ماله لك . وقال مجاهد والضحاك : خزائن بيوتكم إذا ملكتم مفاتيحها . وقال ابن جرير : الزمنى ملكوا التصرف في البيوت التي سلمت إليهم مفاتيحها .

وقيل : ولي اليتيم يتناول من ماله بقدر مّا قال تعالى { فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ } ومفاتحه بيده .

وقرأ الجمهور { مَلَكْتُم } بفتح الميم واللام خفيفة .

وقرأ ابن جبير بضم الميم وكسر اللام مشددة ، والجمهور { مَّفَاتِحهُ } جمع مفتح وابن جبير مفاتيحه جمع مفتاح ، وقتادة وهارون عن أبي عمرو مفتاحه مفرداً .{أَوْ صَدِيقِكُمْ } قرىء بكسر الصاد إتباعاً لحركة الدال حكاه حميد الخزاز ، قرن اللّه الصديق بالقرابة المحضة . قيل لبعضهم : من أحب إليك أخوك أم صديقك ؟ فقال : لا أحب أخي إلاّ إذا كان صديقي . وقال معمر : قلت لقتادة ألا أشرب من هذا

الحب ؟ قال : أنت لي صديق فما هذا الاستئذان .

وقال ابن عباس : الصديق أوكد من القرابة لا ترى استغاثة الجهنميين { فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ } ولم يستغيثوا بالآباء والأمهات ومعنى {أَوْ صَدِيقِكُمْ } أو بيوت أصدقائكم ، والصديق يكون للواحد والجمع كالخليط والقطين ، وقد أكل جماعة من أصحاب الحسن من بيته وهو غائب فجاء فسر بذلك وقال : هكذا وجدناهم يعني كبراء الصحابة ، وكان الرجل يدخل بيت صديقه فيأخذ من كيسه فيعتق جاريته التي مكنته من ذلك . وعن جعفر الصادق : من عظم حرمة الصديق أن جعله اللّه من الأنس والثقة والانبساط وترك الحشمة بمنزلة النفس والأب والابن والأخ . وقال هشام بن عبد الملك : نلت ما نلت حتى الخلافة وأعوزني صديق لا أحتشم منه . وقال أهل العلم : إذا دل ظاهر الحال على رضا المالك قام ذلك مقام الإذن الصريح .

وانتصب { جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً } على الحال أي مجتمعين أو متفرقين . قال الضحاك وقتادة : نزلت في حي من كنانة تحرجوا أن يأكل الرجل وحده فربما قعدوا لطعام بين يديه لا يجد من يؤاكله حتى يمسي فيضطر إلى الأكل وحده . وقال بعض الشعراء : إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له

أكيلاً فإني لست آكله وحدي

وقال عكرمة في قوم من الأنصار : إذا نزل بهم ضيف لا يأكلون لاّ معه .

وقيل في قوم : تحرجوا أن يأكلوا جميعاً مخافة أن يزيد أحدهم على الآخرة في الأكل .

وقيل {أَوْ صَدِيقِكُمْ } هو إذا دعاك إلى وليمة فحسب .

وقيل : هذه الآية منسوخة بقوله عليه السلام { ألا إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام} وبقوله عليه السلام من حديث ابن عمر{ لا يحلبن أحد ماشية أحد إلاّ بإذنه } وبقوله تعالى { لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُواْ}

{فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلّمُواْ عَلَى أَنفُسِكُمْ} قال ابن عباس والنخعي : المساجد فسلموا على من فيها فإن لم يكن فيها أحد قال السلام على رسول اللّه .

وقيل : يقول السلام عليكم يعني الملائكة ، ثم يقول : السلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين . وقال جابر وابن عباس وعطاء : البيوت المسكونة وقالوا يدخل فيها غير المسكونة ، فيقول : السلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين .

وقال ابن عمر : بيوتاً خالية . وقال السدّي { عَلَى أَنفُسِكُمْ } على أهل دينكم . وقال قتادة : على أهاليكم في بيوت أنفسكم .

وقيل : بيوت الكفار { فَسَلّمُواْ عَلَى أَنفُسِكُمْ }

وقال الزمخشري { فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً } من هذه البيوت لتأكلوا ، فابدؤوا بالسلام على أهلها الذين هم فيها منكم ديناً وقرابة . و { تَحِيَّةً مّنْ عِندِ اللّه } أي ثابتة بأمره مشروعة من لدنه ، أو لأن التسليم والتحية طلب للسلامة وحياة للمسلم عليه ووصفها بالبركة والطيب لأنها دعوة مؤمن لمؤمن يرجى بها من اللّه زيادة وطيب الرزق انتهى . وقال مقاتل : مباركة بالأجر .

وقيل : بورك فيها بالثواب . وقال الضحاك : في السلام عشر حسنات ، ومع الرحمة عشرون ، ومع البركات ثلاثون . وانتصب { تَحِيَّةً } بقوله { فَسَلّمُواْ } لأن معناه فيحوا كقولك : قعدت جلوساً .

٦٢

إنما المؤمنون الذين . . . . .

لما افتتح السورة بقوله { سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا } وذكر أنواعاً من الأوامر والحدود مما أنزله على الرسول عليه السلام اختتمها بما يجب له عليه السلام على أمته من التتابع والتشايع على ما فيه مصلحة الإسلام ومن

طلب استئذانه إن عرض لأحد منهم عارض ، ومن توقيره في دعائهم إياه .

وقال الزمخشري : أراد عز وجل أن يريهم عظيم الجناية في ذهاب الذاهب عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بغير إذنه .

{إِذَا كَانُواْ مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ } فجعل ترك ذهابهم { حَتَّى } ثالث الإيمان باللّه والإيمان برسوله صلى اللّه عليه وسلم ، وجعلهما كالتسبيب له والنشاط لذكره . وذلك مع تصدير الجملة بإنما وارتفاع المؤمنين مبتدأ ومخبر عنه بموصول أحاطت صلته بذكر الإيمانين ، ثم عقبه بما يزيده توكيداً وتسديداً بحيث أعاده على أسلوب آخر وهو قوله { إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّه وَرَسُولِهِ } وضمنه شيئاً آخر وهو أنه جعل الاستئذان كالمصداق لصحة الإيمانين ، وعرّض بحال الماضين وتسللّهم لو إذاً .

ومعنى قوله { لَّمْ يَذْهَبُواْ حَتَّى يَسْتَذِنُوهُ } لم يذهبوا حتى يستأذنوه وبأذن لهم ، ألا تراه كيف علق الأمر بعد وجود استئذانهم بمشيئته وإذنه لمن استصوب أن بأذن له ، والأمر الجامع الذي يجمع له الناس ، فوصف بالجمع على المجاز وذلك نحو مقابلة عدو وتشاور في أمرهم أو تضام لإرهاب مخالف ، أو ما ينتج في حلف وغير ذلك . والأمر الذي يعم بضرره أو بنفعه وفي قوله { وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ } أنه خطب جليل لا بد لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيه من ذوي رأي وقوة يظاهرونه عليه ويعاونونه ويستضيء بآرائهم ومعارفهم وتجاربهم في كفاءته ، فمفارقة أحدهم في مثل هذه الحالة مما يشق على قلبه ويشعث عليه رأيه . فمن ثم غلظ عليهم وضيق الأمر في الاستئذان مع العذر المبسوط ومساس الحاجة إليه واعتراض ما يهمهم ويعينهم ، وذلك قوله { لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ } وذكر الاستغفار للمستأذنين دليل على أن الأحسن الأفضل أن لا يحدثوا أنفسهم بالذهاب ولا يستأذنوا فيه .

وقيل : نزلت في حفر الخندق وكان قوم يتسللون بغير إذن لذلك ينبغي أن يكون الناس مع أثمتهم ومقدميهم في الدين والعلم يظاهرونهم ولا يخذلونهم في نازلة من النوازل ، ولا يتفرقون عنهم ، والأمر في الإذن مفوض إلى الإمام إن شاء أذن وإن شاء لم يأذن على حسب ما اقتضاه رأيه انتهى . وهو تفسير حسن ويجري هذا المجرى إمام الأمرة إذا كان الناس معه مجتمعين لمراعاة مصلحة دينية فلا يذهب أحد منهم عن المجمع إلاّ بإذن منه إذ قد يكون له رأي في حضور ذلك الذاهب . وقال مكحول والزهري : الجمعة من الأمر الجامع ، فإذا عرض للحاضر ما يمنعه الحضور من سبق رعاف فليستأذن حتى يذهب عنه سوء الظن به . وقال ابن سيرين : كانوا يستأذنون الإمام على المنبر ، فلما كثر ذلك قال زياد : من جعل يده على أنفه فليخرج دون إذن وقد كان هذا بالمدينة حتى إنّ سهيل بن أبي صالح رعف يوم الجمعة فاستأذن الإمام . وقال ابن سلام : هو كل صلاة فيها خطبة كالجمعة والعيدين والاستسقاء . وقال ابن زيد : في الجهاد . وقال مجاهد : الاجتماع في طاعة اللّه . قيل : في قوله { فَأْذَن لّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ } أريد بذلك عمر بن الخطاب .

وقرأ اليماني على أمر جميع .

{لاَّ تَجْعَلُواْ } خطاب لمعاصري الرسول عليه السلام

٦٣

لا تجعلوا دعاء . . . . .

لما كان التداعي بالأسماء على عادة البداوة ، أمروا بتوقير رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بأحسن ما يدعى به نحو : يا رسول اللّه ، يا نبي اللّه ، ألا ترى إلى بعض جفاة من أسلم كان يقول : يا محمد وفي قوله { كَدُعَاء بَعْضِكُمْ بَعْضاً } إشارة إلى جواز ذلك مع بضعهم لبعض إذ لم يؤمر بالتوقير والتعظيم في دعائه عليه السلام إلاّ من دعاه لا من دعا غيره . وكانوا يقولون : يا أبا القاسم يا محمد فنهوا عن ذلك .

وقيل : نهاهم عن الإبطاء والتأخر إذا دعاهم ، واختارهم المبرد والقفال ويدل عليه { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ } وهذا القول موافق لمساق الآية ونظمها .

وقال الزمخشري : إذا احتاج إلى اجتماعكم عنده لأمر فدعاكم فلا تتفرّقوا عنه إلاّ بإذنه ، ولا تقيسوا دعاءه على دعاء بعضكم بعضاً ورجوعكم عن المجمع بغير إذن الداعي انتهى . وهو قريب مما قبله . وقال أيضاً : ويحتمل { لاَّ تَجْعَلُواْ } دعاء الرسول ربه مثل ما يدعو صغيركم كبيركم وفقيركم غنيكم ، يسأله حاجة فربما أجابه وربما رده ، وإن دعوات رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مسموعة مستجابة انتهى .

وقال ابن عباس : إنما هو لا تحسبوا دعاء الرسول عليكم كدعاء بعضكم على بعض أي دعاؤه عليكم مجاب فاحذروه .

قال ابن عطية : ولفظ الآية يدفع هذا المعنى انتهى .

وقرأ الحسن ويعقوب في رواية نبيكم بنون مفتوحة وباء مكسورة وياء مشددة بدل قوله { بَيْنِكُمْ } ظرفاً قراءة الجمهور . قال صاحب اللوامح : وهو النبيّ عليه السلام على البدل من { الرَّسُولَ } فإنما صار بدلاً لاختلاف تعريفهما باللام مع الإضافة ، يعني أن الرسول معرفة باللام ونبيكم معرفة

بالإضافة إلى الضمير فهو في رتبة العلم ، فهو أكثر تعريفاً من ذي اللام فلا يصح النعت به على المذهب المشهور ، لأن النعت يكون دون المنعوت أو مساوياً له في التعريف . ثم قال صاحب اللوامح : ويجوز أن يكون نعتاً لكونهما معرفتين انتهى . وكأنه مناقض لما قرر من اختياره البدل وينبغي أن يجوز النعت لأن الرسول قد صار علماً بالغلبة كالبيت للكعبة إذ ما جاء في القرآن والسنة من لفظ الرسول إنما يفهم منه أنه محمد صلى اللّه عليه وسلم ، فإاذ كان كذلك فقد تساوياً في التعريف . ومعنى { يَتَسَلَّلُونَ } ينصرفون قليلاً قليلاً عن الجماعة في خفية ، ولواذ بعضهم ببعض أي هذا يلوذ بهذا وهذا بذاك بحيث يدور معه حيث دار استتاراً من الرسول .

وقال الحسن { لِوَاذاً } فراراً من الجهاد .

وقيل : في حفر الخندق ينصرف المنافقون بغير إذن ويستأذن المؤمنون إذا عرضت لهم حاجة . وقال مجاهد لوذاً خلافاً . وقال أيضاً{ يَتَسَلَّلُونَ } من الصف في القتال

وقيل :{ يَتَسَلَّلُونَ } على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعلى كتابه وعلى ذكره . وانتصب { لِوَاذاً } على أنه مصدر في موضع الحال أي متلاوذين ، و { لِوَاذاً } مصدر لاوذ صحت العين في الفعل فصحت في المصدر ، ولو كان مصدر لاذ لكان لياذاً كقام قياماً .

وقرأ يزيد بن قطيب { لِوَاذاً } بفتح اللام ، فاحتمل أن يكون مصدر لاذ ولم يقبل لأنه لا كسرة قبل الواو فهو كطاف طوافاً . واحتمل أن يكون مصدر لاوذ وكانت فتحة اللام لأجل فتحة الواو وخالف يتعدى بنفسه تقول : خالفت أمر زيد وبالي تقول : خالفت إلى كذا فقوله { عَنْ أَمْرِهِ } ضمن خالف معنى صدّ وأعرض فعاده بعن . و

قال ابن عطية : معناه يقع خلافهم بعد أمره كما تقول كان المرط عن ريح و { عَنْ } هي لما عدا الشيء . وقال أبو عبيدة والأخفش { عَنْ } زائدة أي { أَمَرَهُ } والظاهر أن الأمر بالحذر للوجوب وهو قول الجمهور ، وأن الضمير في { أَمَرَهُ } عائد على اللّه .

وقيل على الرسول .

وقرىء يخلفّون بالتشديد أي يخلفون أنفسهم بعد أمره ، والفتنة القتل قاله ابن عباس أيضاً أو بلاء قاله مجاهد ، أو كفر قاله السدي ومقاتل ، أو إسباغ النعم استدراجاً قاله الجراح ، أو قسوة القلب عن معرفة المعروف والمنكر قاله الجنيد ، أو طبع على القلوب قاله بعضهم . وهذه الأقوال خرجت مخرج التمثيل لا الحصر وهي في الدنيا . أو { عَذَابٌ أَلِيمٌ} قيل : عذاب الآخرة .

وقيل : هو القتل في الدنيا .

٦٤

ألا إن للّه . . . . .

{أَلا إِنَّ للّه مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ } هذا كالدلالة على قدرته تعالى عليهما وعلى المكلف فيما يعامله به من المجازاة من ثوابه وعقابه .{ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ } أي من مخالفة أمر اللّه وأمر رسوله وفيه تهديد ووعيد ، والظاهر أنه خطاب للمنافقين .

وقال الزمخشري : ادخل { قَدْ } ليؤكد علمه بما هم عليه من المخالفة عن الدين والنفاق ، ويرجع توكيد العلم إلى توكيد الوعيد وذلك أن قد إذا دخلت على المضارع كانت بمعنى ربما ، فوافقت ربما في خروجها إلى معنى التنكير في نحو قوله : فإن يمس مهجور الفناء فربما

أقام به بعد الوفود وفود

ونحو من ذلك قول زهير : أخي ثقة لا يهلك الخمر ماله

ولكنه قد يهلك المال نائله

انتهى . وكون قد إذا دخلت على المضارع أفادت التكثير قول بعض النحاة وليس بصحيح ، وإنما التكثير مفهوم من سياقة الكلام في المدح والصحيح في رب إنها لتقليل الشيء أو تقليل نظيره فإن فهم تكثير فليس ذلك من رب . ولا قد إنما هو من سياقه الكلام ، وقد بين ذلك في علم النحو .

وقرأ الجمهور { يَرْجِعُونَ } مبنياً للمفعول .

وقرأ ابن يعمر وابن أبي إسحاق وأبو عمرو مبنياً للفاعل . والتفت من ضمير الخطاب في { أَنتُمْ } إلى ضمير الغيبة في { يَرْجِعُونَ } ويجوز

أن يكون { مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ } خطاباً عاماً ويكون { يَرْجِعُونَ } للمنافقين . والظاهر عطف { وَيَوْمَ } على { مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ } فنصبه نصب المفعول .

قال ابن عطية : ويجوز أن يكون التقديم والعلم الظاهر لكم أو نحو هذا يوم فيكون النصب على الظرف .

{لّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ}

الهباء قال أبو عبيدة والزجاج : مثل الغبار يدخل الكوة مع ضوء الشمس . وقال ابن عرفة : الهبوة والهباء التراب الدقيق . وقال الجوهري يقال منه إذا ارتفع هبا يهبو هبواً ، وأهبيتُه أنا إهباءً .

وقيل : هو الشرر الطائر من النار إذا أضرمت . النثرب : التفريق . العض : وقع الأسنان على المعضوض بقوة وفعله على وزن فعل بكسر العين ،

وحكى الكسائي عضضت بفتح عين الكلمة . فلان كناية عن علم من يعقل . الجملة من الكلام هو المجتمع غير المفرق . الترتيل سرد اللفظ بعد اللفظ يتخلل بينهما زمن يسير من قولهم : ثغر مرتل أي مفلج الأسنان . السبات : الراحة ، ومنه يوم السبت لما جرت العادة من الاستراحة فيه ويقال للعليل إذا استراح من تعب العلة مسبوت قاله أبو مسلم .

وقال الزمخشري : السبات الموت والمسبوت الميت لأنه مقطوع الحياة . مرج : قال ابن عرفة خلط ومرج الأمر اختلط واضطرب .

وقيل : مرج وأمرج أجرى ، ومرج لغة الحجاز وأمرج لغة نجد . العذب : الحلو . والفرات البالغ في الحلاوة . الملح : المالح . والأجاج البالغ في الملوحة .

وقيل : المر .

وقيل : الحار . الصهر ، قال الخليل : لا يقال لأهل بيت المرأة إلاّ أصهار ، ولأهل بيت الرجل إلاّ أختان ، ومن العرب من يجعلهم أصهاراً كلهم . السراج : الشمس . الهون : الرفق واللبن . الغرفة : العلية وكل بناء عال فهو غرفة . عباءً من العبء وهو الثقيل ، يقال : عبأت الجيش بالتخفيف والتثقيل هيأته للقتال ،

ويقال : ما عبأت به أي ما اعتددت به كقولك : ما اكترثت به .

﴿ ٠