سورة العنكبوتمكية بسم اللّه الرحمن الرحيم ١انظر تسفير الآية:٣ ٢انظر تسفير الآية:٣ ٣هذه السورة مكية ، قاله جابر وعكرمة والحسن . وقال ابن عباس ، وقتادة : مدنية . وقال يحيى بن سلام : مكية إلا من أولها إلى { وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ } ، ونزل أوائلها في مسلمين بمكة كرهوا الجهاد حين فرض بالمدينة ، قاله السدي ؛ أو في عمار ونظرائه ممن كان يعذب في اللّه ، قاله ابن عمر ؛ أو في مسلمين كان كفار قريش يؤذونهم ، قاله مجاهد ، و قريب مما قبله ؛ أو في مهجع مولى عمر ، قتل ببدر فجزع أبواه وامرأته عليه ، وقال فيه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : { سيد الشهداء مهجع وهو أول من يدعى إلى باب الجنة } ؛ أو في عياش أخي أبي جهل ، غدر فارتد . و { النَّاسِ } : فسر بمن نزلت فيه الآية . وقال الحسن : الناس هنا المنافقون ، أي أن يتركوا لمجرد قولهم آمنا . وحسب يطلب مفعولين . فقال الحوفي ، وابن عطية ، وأبو البقاء : سدت أن وما بعدها من معمولها مسد المفعولين ، وأجاز الحوفي وأبو البقاء أن يقولوا بدلاً من أن يتركوا . وأن يكونوا في موضع نصب بعد إسقاط الخافض ، وقدروه بأن يقولوا ولأن يقولوا . وقال ابن عطية ، وأبو البقاء : وإذا قدرت الباء كان حالاً . قال ابن عطية : والمعنى في الباء واللام مختلف ، وذلك أنه في الباء كما تقول : تركت زيداً بحاله ، وهي في اللام بمعنى من أجل ، أي حسبوا أن إيمانهم علة للترك تفسير معنى ، إذ تفسير الأعراب حسبانهم أن الترك لأجل تلفظهم بالإيمان . وقال الزمخشري : فإن قلت : فأين الكلام الدال على المضمون الذي يقتضيه الحسبان ؟ قلت : هو في قوله :{ أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ } ، وذلك أن تقديره حسبوا تركهم غير مفتونين لقولهم آمنا ، فالترك أول مفعولي حسب ، ولقولهم آمنا هو الخبر ، وأما غير مفتونين فتتمة للترك ، لأنه من الترك الذي هو بمعنى التصيير ، كقوله : فتركته جزر السباع ينشنه ألا ترى أنك قبل المجيء بالحسبان تقدر أن تقول : تركتهم غير مفتونين ، لقولهم آمنا ، على تقدير حاصل ومستقر قبل اللام ؟ فإنقلت :{ أَن يَقُولُواْ } هو علة تركهم غير مفتونين ، فكيف يصح أن يقع خبر مبتدأ ؟ قلت : كما تقول : خروجه لمخافة الشر وضربه للتأديب ، وقد كان التأديب والمخافة في قوله : خرجت مخافة الشر وضربته تأديباً ، تعليلين . وتقول أيضاً : حسبت خروجه لمخافة الشر وظننت ضربه للتأديب ، فتجعلها مفعولين كما جعلتهما مبتدأ وخبراً . انتهى ، وهو كلام فيه اضطراب . ذكر أولاً أن تقديره غير مفتونين تتمة ، يعني أنه حال ، لأنه سبك ذلك من قوله :{ وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ } ، وهذه جملة حالية . ثم ذكر { أَن يُتْرَكُواْ } هنا من الترك الذي هو من التصيير ، وهذا لا يصح ، لأن مفعول صير الثاني لا يستقيم أن يكون لقولهم ، إذ يصير التقدير أن يصيروا لقولهم :{ وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ } ، وهذا كلام لا يصح . وأما ما مثل به من البيت فإنه يصح ، وأن يكون جزر السباع مفعولاً ثانياً لترك بمعنى صير ، بخلاف ما قدر في الآية . وأما تقديره تركهم غير مفتونين لقولهم آمنا ، على تقدير حاصل ومستقر قبل اللام ، فلا يصح ؛ إذ كان تركهم بمعنى تصييرهم ، كان غير مفتونين حالاً ، إذ لا ينعقد من تركهم ، بمعنى تصييرهم ، وتقولهم مبتدأ وخبر لاحتياج تركهم ، بمعنى تصييرهم ، إلى مفعول ثان ، لأن غير مفتونين عنده حال ، لا معفول ثان . وأما قوله : فإن قلت { أَن يَقُولُواْ } إلى آخره ، فيحتاج إلى فضلة فهم ، وذلك أن قوله :{ أَن يَقُولُواْ } هو علة تركهم فليس كذلك ، لأنه لو كان علة له لكان متعلقاً ، كما يتعلق بالفعل ، ولكنه علة للخبر المحذوف الذي هو مستقر ، أو كائن ، والخبر غير المبتدأ . ولو كان لقولهم علة للترك ، لكان من تمامه ، فكان يحتاج إلى خبره . وأما قوله : كما تقول خروجه لمخافة الشر ، فلمخافة ليس علة للخروج ، بل للخبر المحذوف الذي وهو مستقر ، أو كائن .{ وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ } ، قال الشعبي : الفتنة هنا ما كلفه المؤمنون من الهجرة التي لم يتركوا دونها . وقال الكلبي : هو مثال ، {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً} وقال مجاهد : يتبتلون في أنفسهم وأموالهم . و { الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } : المؤمنون أتباع الأنبياء ، أصابهم من المحن ما فرق به المؤمن بالمنشار فرقتين ، وتمشط بأمشاط الحديد ، ولا يرجع عن دينه .{ فَلَيَعْلَمَنَّ اللّه } ، بالامتحان ، { الَّذِينَ صَدَقُوا } في إيمانهم ، { وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } فيه من علم المتعدية إلى واحد فيهما ، ويستحيل حدوث العلم للّه تعالى . فالمعنى : وليتعلقن علمه به موجوداً به كما كان متعلقاً به حين كان معدوماً . والمعنى : وليميزن الصادق منهم من الكاذب ، أو عبر بالعلم عن الجزاء ، أي وليتبين الصادق وليعذبن الكاذب . ومعنى صدقوا في إيمانهم يطابق قولهم واعتقادهم أفعالهم ، والكاذبين ضد ذلك . وقرأ علي ، وجعفر بن محمد : فليعلمن ، مضارع المنقولة بهمزة التعدي من علم المتعدية إلى واحد ، والثاني محذوف ، أي منازلهم في الآخرة من ثواب وعقاب ؛ أو الأول محذوف ، أي فليعلمن الناس الذين صدقوا ، أي يشهرهم هؤلاء في الخير ، وهؤلاء في الشر ، وذلك في الدنيا والآخرة ، أو من العلامة فيتعدى إلى واحد ، أي يسمهم بعلامة تصلح لهم ، كقوله :{ من أسر سريرة ألبسه اللّه رداءها} . وقرأ الزهري : الأولى كقراءة الجماعة ، والثانية كقراءة علي . ٤انظر تسفير الآية:٧ ٥انظر تسفير الآية:٧ ٦انظر تسفير الآية:٧ ٧{أَمْ حَسِبَ } قال ابن عطية : أم معادلة للألف في قوله :{ أَحَسِبَ } ، وكأنه عز وجل قرر الفريقين : قرر المؤمنين على ظنهم أنهم لا يفتنون ، وقرر الكافرين الذين يعملون السيئات في تعذيب المؤمنين وغير ذلك ، على ظنهم أنهم يسبقون نقمات اللّه ويعجزونه . انتهى . وليست أم هنا معادلة للألف في أحسب ، كما ذكر ، لأنها إذ ذاك تكون متصلة ، ولها شرطان : أحدهما : أن يكون قبلها لفظ همزة الاستفهام ، وهذا الشرط هنا موجود . والثاني : أن يكون بعدها مفرد ، أو ما هو في تقدير المفرد . مثال المفرد : أزيد قائم أم عمرو ؟ ومثال ما هو في تقدير المفرد : أقام زيد أم قعد ؟ وجوابها : تعيين أحد الشيئين ، إن كان التعادل بين شيئين ؛ أو الأشياء ، إن كان بين أكثر من شيئين . وهنا بعد أم جملة ، ولا يمكن الجواب هنا بأحد الشيئين ، بل أم هنا منقطعة ، بمعنى بل التي للإضراب ، بمعنى الانتقال من قضية إلى قضية ، لا بمعنى الإبطال . وهمزة الاستفهام والاستفهام هنا للتقريع والتوبيخ والإنكار ، فلا يقتضي جواباً ، لأنه في معنى : كيف وقع حسبان لك ؟ و { الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيّئَاتِ } ، قال ابن عباس : يريد الوليد بن المغيرة ، وأبا جهل ، والأسود ، والعاصي بن هشام ، وشيبة ، وعتبة ، والوليد بن عتبة ، وعقبة بن أبي معيط ، وحنظلة بن أبي سفيان ، والعاصي بن وائل ، وأنظارهم من صناديد قريش . انتهى . والآية ، وإن نزلت على سبب ، فهي تعم جميع من يعمل السيئات من كافر ومسلم . وقال مجاهد :{ أَن يَسْبِقُونَا } : أي يعجزونا ، فلا نقدر على الانتقام ، وقيل : أن يعجلونا محتوم القضاء ، وقيل : أن يهربوا منا ويفوتونا بأنفسهم . وقال الزمخشري :{ أَن يَسْبِقُونَا } : أن يفوتونا ، يعني أن الجزاء يلحقهم لا محالة ، وهم لم يطمعوا في الفوت ، ولم يحدثوا به أنفسهم ، ولكنهم لغفلتهم وقلة فكرتهم في العاقبة ، وإصرارهم على المعاصي في صورة من يقدم ذلك ويطمع فيه ؛ ونظيره :{ وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِى الاْرْضِ } ،{ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ} فإن قلت : أين مفعولاً حسب ؟ قلت : اشتمال صلة أن على مسند ومسند إليه سد مسد المفعولين ، كقولهم :{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ} ويجوز أن تضمن حسب معنى قدر ، وأم منقطعة . ومعنى الإضراب فيها أن هذا الحسبان الأول ، لأن ذلك يقدر أن لا يمتحن لإيمانه ، وهذا يظن أنه لا يجازى بمساويه . انتهى . أمّا قوله : وهو لم يطمعوا في الفوت ، إلى آخر قوله : ويطمع فيه ، فليس كما ذكر ، بل هم معتقدون أن لا بعث ولا جزاء ، ولا سيما السرية التي نص عليها ابن عباس ، وما ذكره ، كما الزمخشري ، هو على اعتقاد من يعلم أن اللّه يجازيه ، ولكن طمع في عفو اللّه . وأما قوله : اشتمال صلة أن ، إلى آخره ، فقد كان ينبغي أن يقدر ذلك في قوله : { أَن يُتْرَكُواْ } ، فيجعل ذلك سد مسد المفعولين ، ولم يقدر ما لا يصح تقديره ، وأمّا قوله : ويجوز أن تضمن حسب معنى قدر ، فتعين إن أن وما بعدها في موضع مفعول واحد ، والتضمين ليس بقياس ، ولا يصار إليه إلا عند الحاجة إليه ، وهذا الإجابة إليه . {سَاء مَا يَحْكُمُونَ } ، قال الزمخشري ، وابن عطية ما معناه : أن { مَا } موصولة و { يَحْكُمُونَ } صلتها ، أو تمييز بمعنى شيء ، ويحكمون صفة ، والمخصوص بالذم محذوف ، فالتقدير : أي حكمهم . انتهى . وفي كون ما موصولة مرفوعة بساء ، أو منصوبة على التمييز خلاف مذكور في النحو . وقال ابن كيسان : ما مصدرية ، فتقديره : بئس حكمهم . وعلى هذا القول يكون التمييز محذوفاً ، أي ساء حكماً حكمهم . وساء هنا بمعنى : بئس ، وتقدم حكم بئس إذا اتصل بهاما ، والفعل في قوله :{ بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ } مشبعاً في البقرة . وجاء بالمضارع ، وهو { يَحْكُمُونَ } ،قيل : إشعاراً بأن حكمهم مذموم حالاً واستقبالاً ، وقيل : لأجل الفاصلة وقع المضارع موقع الماضي اتساعاً . والظاهر أن { يَرْجُو } على بابها ، ومعنى { لِقَاء اللّه } : الوصول إلى عاقبة الأمر من الموت والبعث والجزاء ؛ مثلت حاله بحالة عبد قدم على مولاه من سفر بعيد ، وقد اطلع مولاه على ما عمل في غيبته عنه ، فإن كان عمل خيراً ، تلقاه بإحسان أو شراً ، فبضد الإحسان . {فَإِنَّ أَجَلَ اللّه لآتٍ } : وهو ما أجله وجعل له أجلاً ، لا نفسه لا محالة ، فليبادر لما يصدق رجاءه . وقال أبو عبيدة : يرجو : يخاف ، ويظهر أن جواب الشرط محذوف ، أي { مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللّه } ، فليبادر بالعمل الصالح الذي يحقق رجاءه ، فإن ما أجله اللّه تعالى من لقاء جزائه لآت . والظاهر أن قوله :{ وَمَن جَاهَدَ } ، معناه : ومن جاهد نفسه بالصبر على الطاعات ، فثمرة جهاده ، وهو الثواب المعد له ، إنما هو له ، لا للّه ، واللّه تعالى غني عنه وعن العالمين ، وإنما كلفهم ما كلفهم إحساناً إليهم .{ لَنُكَفّرَنَّ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ } : يشتمل من كان كافراً فآمن وعمل صالحاً ، فأسقط عنه عقاب ما كان قبل الإيمان من كفر ومعصية ، ومن نشأ مؤمناً عاملاً للصالحات وأساء في بعض أعماله ، فكفر عنه ذلك ، وكانت سيئاته مغمورة بحسناته .{ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِى } : أي أحسن جزاء أعمالهم . و قال ابن عطية : فيه حذف مضاف تقديره : ثواب أحسن الذي كانوا يعملون . انتهى . وهذا التقدير لا يسوغ ، لأنه يقتضي أن أولئك يجزون ثواب أحسن أعمالهم ، وأما ثواب حسنها فمسكوت عنه ، وهم يجزون ثواب الأحسن والحسن ، إلاّ إن أخرجت أحسن عن بابها من التفضيل ، فيكون بمعنى حسن ، فإنه يسوغ ذلك . وأما التقدير الذي قبله فمعناه : أنه مجزي أحسن جزاء العمل ، فعمله يقتضي أن تكون الحسنة بمثلها ، فجوزي أحسن جزائها ، وهي أن جعلت بعشر أمثالها . وفي هذه الآيات تحريك وهز المن تخلف عن الجهرة أن يبادر إلى استدراك ما فرط فيه منها ، وثناء على المؤمنين الذين بادروا إلى الهجرة ، وتنويه بقدرهم . ٨انظر تسفير الآية:١٢ ٩انظر تسفير الآية:١٢ ١٠انظر تسفير الآية:١٢ ١١انظر تسفير الآية:١٢ ١٢{وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ } ، في جامع الترمذي : إنها نزلت في سعد بن أبي وقاص ، آلت أمه أن لا يطعم ولا يشرب حتى تموت ، أو يكفر . وقيل : في عياش بن أبي ربيعة ، أسلم وهاجر مع عمر ، وكانت أمه شديدة الحب له ، وحلفت على مثل ذلك ، فتحيل عليه أبو جهل وأخوه الحارث ، فشداه وثاقاً حين خرج معهما من المدينة إلى أمه قصد ليراها ، وجلده كل منهما مائة جلدة ، ورداه إلى أمه فقالت : لا يزال في عذاب حتى يكفر بمحمد ، في حديث طويل ذكر في السير .{ وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوالِدَيْهِ } : أي أمرناه بتعهدهما ومراعاتهما . وانتصب { حَسَنًا } على أنه مصدر ، وصف به مصدر وصينا ، أي إيصاء حسناً ، أي ذا حسن ، أو على سبيل المبالغة ، أي هو في ذاته حسن . قال ابن عطية : يحتمل أن ينتصب على المفعول ، وفي ذلك تحريض على كونه عاماً لمعان . كما تقول : وصيتك خيراً ، وأوصيتك شراً ؛ وعبر بذلك عن جملة ما قلت له ، ويحسن ذلك دون حرف الجر ، كون حرف الجر في قوله :{ بِوالِدَيْهِ } ، لأن المعنى : ووصينا الإنسان بالحسن في قوله مع والده ، ونظير هذا قول الشاعر : عجبت من دهماء إذ تشكونا ومن أبي دهماء إذ يوصينا انتهى . مثله قول الحطيئة يوصي ابنته برة : وصيت من برة قلباً حرا بالكلب خيراً والحماة شراً وعلى هذا التقدير يكون الأصل بخير ، وهو المفعول الثاني . والباء في بوالديه وفي بالحماة وبالكلب ظرفية بمعنى في ، أي وصينا الإنسان في أمر والديه بخير . قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون المفعول الثاني في قوله : { بِوالِدَيْهِ } ، وينتصب { حَسَنًا } بفعل مضمر تقديره : يحسن حسناً ، وينتصب انتصاب المصدر . وفي التحرير : حسناً نصب عند البصريين على التكرير ، أي وصيناه حسناً ، وقيل : على القطع ، تقديره : ووصينا بالحسن ، كما تقول : وصيته خيراً ، أي بالخير ، ويعني بالقطع عن حرف الجر ، فانتصب . وقال أهل الكوفة : ووصينا الإنسان أن يفعل حسناً ، فيقدر له فعل . انتهى . وفي هذا القول حذف أن وصلتها وإبقاء المعمول ، وهو لا يجوز عند البصريين . وقال الزمخشري : وصيناه بايتاء والديه حسناً ، أو نائلاً والديه حسناً ، أي فعلاً ذا حسن ، وما هو في ذاته حسن لفرط حسنه ، كقوله :{ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا} انتهى . وهذا التقدير فيه إعمال المصدر محذوفاً وإبقاء معموله ، وهو لا يجوز عند البصريين . قال الزمخشري : ويجوز أن يجعل حسناً من باب قولك : زيداً ، بإضمار اضرب إذا رأيته متهيأ للضرب ، فتنصبه بإضمار أولهما ، أو افعل بهما ، لأن الوصية بهما دالة عليه ، وما بعده مطابق له ، فكأنه قال : قلنا أو لهما معروفاً . وقرأ عيسى ، والجحدري : حسناً ، بفتحتين ؛ والجمهور : بضم الحاء وإسكان السين ، وهما كالبَخَل . وقال أبو الفضل الرازي : وانتصابه بفعل دون التوصية المقدمة ، لأنها قد أخذت مفعوليها معاً مطلقاً ومجروراً ، فالحسن هنا صفة أقيم مقام الموصوف بمعنى : أمر حسن . انتهى ، أي أمراً حسناً ، حذف أمراً وأقيم حسن مقامه . وقوله : مطلقاً ، عنى به الإنسان ، وفيه تسامح ، بل هو مفعول به ؛ والمطلق إنما هو المصدر ، لأنه مفعول لم يقيد من حيث التفسير بأداة جر ، بخلاف سائر المفاعيل ، فإنك تقول : مفعول به ، ومفعول فيه ، ومفعول معه ، ومفعول له ؛ وفي مصحف أبي : إحساناً . {وَإِن جَاهَدَاكَ } : أي وقلنا : إن جاهداك { مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } : أي بإلهيته ، فالمراد بنفي العلم نفي المعلوم ، أي { لِتُشْرِكَ } به شيئاً ، لا يصح أن يكون إلهاً ولا يستقيم ، { فَلاَ تُطِعْهُمَا } فيما جاهداك عليه من الإشراك ؛{ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ } : شامل للموصي والموصي والمجاهد والمجاهد ، { فَأُنَبِئُكُم } : فأجازيكم ، { بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } : من بر ، أو عقوق ، أو طاعة ، أو عصيان . وكرر تعالى ما رتب للمؤمنين من دخولهم { فِى الصَّالِحِينَ } ، ليحرك النفوس إلى نيل مراتبهم . ومعنى { فِى الصَّالِحِينَ } : في جملتهم ، ومرتبة الصلاح شريفة ، أخبر اللّه بها عن إبراهيم ، وسألها سليمان ، عليهما السلام ، وأخبر تعالى أن يجعل من أطاع اللّه ورسوله معهم . ويجوز أن يكون التقدير : في ثواب الصالحين ، وهي الجنة . ولما ذكر تعالى ما أعده للمؤمنين الخلص ، ذكر حال المنافقين ناساً آمنوا بألسنتهم ، فإذا آذاهم الكفار ، جعلوا ذلك الأذى ، وهو فتنة الناس ، صارفاً لهم عن الإيمان ؛ كما أن عذاب اللّه صارف للمؤمنين عن الكفر ؛ وكونها نزلت في منافقين ، قول ابن زيد . وقال الزجاج : جزع كما يجزع من عذاب اللّه ، وهذا معنى قول مجاهد والضحاك . وقال قتادة : فيمن هاجر ، فردهم المشركون إلى مكة . وقيل : في مؤمنين أخرجهم إلى بدر المشركون فارتدوا ، وهم الذين قال فيهم : { إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَئِكَةُ ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ} {وَلَئِنْ جَاء نَصْرٌ مّن رَّبّكَ } : أي للمؤمنين ، { لَّيَقُولَنَّ } : أي القائلون أو ذيناً في اللّه، { إِنَّا مَعَكُمْ } : أي متابعون لكم في دينكم ، أو مقاتلون معكم ناصرون لكم ، قاسمونا فيما حصل لكم من الغنائم . وهذه الجملة المقسم عليها مظهرة مغالطتهم ، إذ لو كان إيمانهم صحيحاً ، لصبروا على أذى الكفار ، وإن كانت فيمن هاجر ، وكانوا يحتالون في أمرهم ، وركبوا كل هول في هجرتهم . وقرىء : ليقولن ، بفتح اللام ، ذكره أبو معاذ النحوي والزمخشري . وأعلم : أفعل تفضيل ، أي من أنفسهم ؛ وبما في صدورهم : أي بما تكن صدورهم من إيمان ونفاق ، وهذا إستفهام معناه التقرير ، أي قد علم ما انطوت عليه الضمائر من خير وشر .{ وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ } : ظاهر في أن ما قبل هذه الجملة في المنافقين ، كما قال ابن زيد ، وعلمه بالمؤمن ، وعد له بالثواب ، وبالمنافق وعيد له بالعقاب . ولما ذكر حال المؤمنين والمنافقين ، ذكر مقالة الكافرين قولاً واعتقاداً ، وهم رؤساء قريش . قال مجاهد : كانوا يقولن لمن آمن منهم : لا نبعث نحن ولا أنتم ، فإن كان عليكم شيء فهو علينا . وقيل : قائل ذلك أبو سفيان بن حرب وأمية بن خلف ، قالا لعمران : كان في الإقامة على دين الآباء إثم ، فنحن نحمله عنك ، وقيل : قائل ذلك الوليد بن المغيرة . قال ابن عطية : وقوله :{ وَلْنَحْمِلْ } ، أخبر أنهم يحملون خطاياهم على جهة التشبيه بالنقل ، لكنهم أخرجوه في صيغة الأمر ، لأنها أوجب وأشد تأكيداً في نفس السامع من المجازاة ، ومن هذا النوع قول الشاعر : فقلت ادعى وأدعو فإن أندى لصوت أن ينادي داعيان ولكونه خبراً حسن تكذيبهم فيه . وقال الزمخشري : أمروهم باتباع سبيلهم ، وهي طريقتهم التي كانوا عليها في دينهم ، وأمروا أنفسهم بحمل خطاياهم ، فحمل الأمر على الأمر وأرادوا ، ليجتمع هذان الأمران في الحصول ، أن يتبعوا سبيلنا وأن نحمل خطاياكم . والمعنى : تعليق الحمل بالاتباع ، وهذا قول صناديد قريش ، كانوا يقولون لمن آمن منهم : لا نبعث نحن ولا أنتم ، فإن عسى ، كان ذلك فإنا نتحمل عنكم الإثم . انتهى . وقوله : فإن عسى ، كان تركيب أعجمي لا عربي ، لأن إن الشرطية لا تدخل على عسى ، لأنه فعل جامد ، ولا تدخل أدوات الشرط على الفعل الجامد ؛ وأيضاً فإن عسى لا يليها كان ، واستعمل عسى بغير اسم ولا خبر ، ولم يستعملها تامة . وقرأ الحسن ، وعيسى ، ونوح القارىء : ولنحمل ، بكسر لام الأمر ؛ ورويت عن علي ، وهي لغة الحسن ، في لام الأمر . والحمل هنا مجاز ، شبه القيام بما يتحصل من عواقب الإثم بالحمل على الظهر ، والخطايا بالمحمول . وقال مجاهد : نحمل هنا من الحمالة ، لا من الحمل . وقرأ الجمهور :{ مِنْ خَطَايَاهُمْ} وقرأ داود بن أبي هند ، فيما ذكر أبو الفضل الرازي : من خطيئتهم ، على التوحيد ، قال : ومعناه الجنس ، ودل على ذلك اتصافه بضمير الجماعة . وذكر ابن خالويه ، وأبو عمر والداني أن داود هذا قرأ : من خطيآتهم ، بجمع خطيئة جمع السلامة ، بالألف والتاء . وذكر ابن عطية عنه أنه قرأ : من خطئهم ، بفتح الطاء وكسر الياء ، وينبغي أن يحمل كسر الياء على أنها همزة سهلت بين بين ، فأشبهت الياء ، لأن قياس تسهيلها هو ذلك . قال الزمخشري : فإن قلت : كيف سماهم كاذبين ؟ وإنما ضمنوا شيئاً علم اللّه أنهم لا يقدرون على الوفاء به ، ومن ضمن شيئاً لا يقدر على الوفاء به ، لا يسمى كاذباً ، لا حين ضمن ، ولا حين عجز ، لأنه في الحالين لا يدخل تحت عد الكاذبين ، وهو المخبر عن الشيء ، لا على ما هو عليه ؟ قلت : شبه اللّه حالهم ، حيث علم أن ما ضمنوه لا طريق لهم إلى أن يفوا به ، فكان ضمانهم عنده ، لا على ما عليه بالكاذبين الذين خبرهم ، لا على ما عليه المخبر عنه . ويجوز أن يريد إنهم كاذبون لأنهم قالوا ذلك وقلوبهم على خلافه ، كالكاذبين الذين يصدقون الشيء ، وفي قلوبهم فيه الخلف . انتهى . وتقدم من قول ابن عطية أن قوله : ولنحمل خبر ، يعني أمراً ، ومعناه الخبر ، وهذان الأمران منزلة الشرط والجزاء ، إذ المعنى : أن تتبعوا سبيلنا ، ولحقكم في ذلك إثم على ما تزعمون ، فنحن نحمل خطاياكم . وإذا كان المعنى على هذا ، كان إخباراً في الجزاء بما لا يطابق ، وكان كذباً . ١٣{وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ } : أثقال أنفسهم من كفرهم ومعاصيهم ، { وَأَثْقَالاً } أي أخر ، وهي أثقال الذين أغروهم ، فكانوا سبباً في كفرهم . ولم يبين من الذين يحملون أثقاله ، فأمكن اندراج أثقال المظلوم بحملها للظالم ، كما جاء في الحديث : { أنه يقتص من الظالم للمظلوم بأن يعطي من حسنات ظالمه ، فإن لم يبق للظالم حسنة أخذ من سيآت المظلوم فطرح عليه} . وفي صحيح مسلم ما معناه : أيما داع دعا إلى ضلالة ، فأتبع عليها وعمل بها بعده ، فعليه أو زار من عمل بها ممن اتبعه ، لا ينقص ذلك من أوزاهم شيئاً .{ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً } : أي سؤال توبيخ وتقريع . ١٤انظر تسفير الآية:٢٣ ١٥انظر تسفير الآية:٢٣ ١٦انظر تسفير الآية:٢٣ ١٧انظر تسفير الآية:٢٣ ١٨انظر تسفير الآية:٢٣ ١٩انظر تسفير الآية:٢٣ ٢٠انظر تسفير الآية:٢٣ ٢١انظر تسفير الآية:٢٣ ٢٢انظر تسفير الآية:٢٣ ٢٣{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً ...} ذكر هذه القصة تسلية لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، لما كان يلقى من أذى الكفار . فذكر ما لقي أول الرسل ، وهو نوح ، من أذى قومه ، المدد المتطاولة ، تسلية لخاتم الرسل صلوات اللّه عليه . والواو في { وَلَقَدْ } واو عطف ، عطفت جملة على جملة . قال ابن عطية : والقسم فيها بعيد ، يعني أن يكون المقسم به قد حذف وبقي حرفه وجوابه ، وفيه حذف المجرور وإبقاء حرف الجار ، وحرف الجر لا يعلق عن عمله ، بل لا بد له من ذكره . والظاهر أنه أقام في قومه هذه المدة المذكورة يدعوهم إلى اللّه . و قال ابن عطية : يحتمل أن تكون المدة المذكورة مدة إقامته في قومه ، من لدن مولده إلى غرق قومه . انتهى . وليس عندي محتملاً ، لأن اللبث متعقب بالفاء الدالة على التعقيب ، واختلف في مقدار عمره ، حين كان بعث وحين مات ، اختلافاً مضطرباً متكاذباً ، تركنا حكايته في كتابنا ، وهو في كتب التفسير . والاستثناء من الألف استدل به على جواز الاستثناء من العدد ، وفي كونه ثابتاً من لسان العرب خلاف مذكور في النحو ، وقد عمل الفقهاء المسائل على جواز ذلك ، وغاير بين تمييز المستثنى منه وتمييز المستثنى ، لأن التكرار في الكلام الواحد مجتنب في البلاغة ، إلا إذا كان لغرض من تفخيم ، أو تهويل ، أو تنويه . ولأن التعبير عن المدة المذكورة بما عبر به ، لأن ذكر رأس العدد الذي لا رأس أكبر منه أوقع وأوصل إلى الغرض من استطالة السامع مدّة صبره ، ولإزالة التوهم الذي يجيء مع قوله : تسعمائة وخمسون عاماً ، بأن ذلك على سبيل المبالغة لا التمام ، والاستثناء يرفع ذلك التوهم المجازي . وتقدمت وقعة نوح بأكمل مما هنا ، والخلاف في عدد من آمن ودخل السفينة . والضمير في { وَجَعَلْنَاهَا } يحتمل أن يعود على { السَّفِينَةِ } ، وأن يعود على الحادثة والقصة ، وأفرد { ءايَةً } وجاء بالفاصلة { لّلْعَالَمِينَ } ، لأن إنجاء السفن أمر معهود . فالآية إنجاؤه تعالى أصحاب السفينة وقت الحاجة ، ولأنها بقيت أعواماً حتى مر عليها الناس ورأوها ، فحصل العلم بها لهم ، فناسب ذلك قوله :{ لّلْعَالَمِينَ } ، وانتصب { إِبْرَاهِيمَ } عطفاً على { نُوحاً} قال ابن عطية : أو على الضمير في { فأَنْجَيْناهُ} وقال هو والزمخشري : بتقدير اذكروا بدل منه ، إذ بدل اشتمال منه ، لأن الأحيان تشتمل على ما فيها ، وقد تقدّم لنا أن إذ ظرف لا يتطرف ، فلا يكون مفعولاً به ، وقد كثر تمثيل المعربين ، إذ في القرآن بأن العامل فيها اذكر ، وإذا كانت ظرفاً لما مضي ، فهو لو كان منصرفاً ، لم يجز أن يكون معمولاً لا ذكر ، لأن المستقبل لا يقع في الماضي ، لا يجوز ثم أمس ، فإن كان خلع من الظرفية الماضية وتصرف فيه ، جاز أن يكون مفعولاً به ومعمولاً لا ذكر . وقرأ النحعي ، وأبو جعفر ، وأبو حنيفة ، وإبراهيم : بالرفع ، أي : ومن المرسلين إبراهيم . وهذه القصة تمثيل لقريش ، وتذكير لحال أبيهم إبراهيم من رفض الأصنام ، والدعوى إلى عبادة اللّه ، وكان نمروذ وأهل مدينة عباد أصنام . وقرأ الجمهور :{ وَتَخْلُقُونَ } ، مضارع خلق ، { إِفْكاً } ، بكسر الهمزة وسكون الفاء . وقرأ علي ، والسلمي ، وعون العقيلي ، وعبادة ، وابن أبي ليلى ، وزيد بن علي : بفتح التاء والخاء واللام مشددة . قال ابن مجاهد : رويت عن ابن الزبير ، أصله : تتخلقون ، بتاءين ، فحذفت إحداهما على الخلاف الذي في المحذوفة . وقرأ زيد بن علي أيضاً ، فيما ذكر الأهوازي : تخلقون ، من خلق المشدد . وقرأ ابن الزبير ، وفضيل بن زرقان : أفكاً ، بفتح الهمزة وكسر الفاء ، وهو مصدر مثل الكذب . قال ابن عباس :{ وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً } ، هو نحت الأصنام وخلقها ، سماها إفكاً توسعاً من حيث يفترون بها الإفك في أنها آلهة . وقال مجاهد : هو اختلاق الكذب في أمر الأوثان وغير ذلك . وقال الزمخشري : إفكاً فيه وجهان : أحدهما : أن تكون مصدراً نحو : كذب ولعب ، والإفك مخفف منه ، كالكذب واللعب من أصلهما ، وأن تكون صفة على فعل ، أي خلقاً إفكاً ، ذا إفك وباطل ، واختلافهم الإفك تسمية الأوثان آلهة وشركاء للّه وشفعاء إليه ، أو سمي الأصنام إفكاً ، وعملهم لها نحتهم خلقاً للإفك . انتهى . وهذا الترد بد منه في نحو :{ وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً } ، قولان لابن عباس ومجاهد ، وقد تقدم لنا نقلهما عنهما ونفيهم بقوله :{ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً } على جهة الاحتجاج بأمر يفهمه عامّتهم وخاصتهم ، فقرر أن الأصنام لا ترزق ، والرزق يحتمل أن يريد به المصدر : لا يملكون أن يرزقوكم شيئاً من الرزق ، واحتمل أن يكون اسم المرزوق ، أي لا يملكون لكم إيتاء رزق ولا تحصيله ، وخص الرزق لمكانته من الخلق . ثم أمرهم بابتغاء الرزق ممن هو يملكه ويؤتيه ، وذكر الرزق لأن المقصود أنهم لا يقدرون على شيء منه ، وعرفه بعد لدلالته على العموم ، لأنه تعالى عنده الأرزاق كلها .{ وَاشْكُرُواْ لَهُ } على نعمة السابغة من الرزق وغيره .{ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } : أي إلى جزائه ، أخبر بالمعاد والحشر . ثم قال :{ وَإِن تُكَذّبُواْ } : أي ليس هذا مبتكراً منكم ، وقد سبق ذلك من أمم الرسل ، قيل : قوم شيث وإدريس وغيرهم . وروي أن إدريس عليه السلام عاش في قومه ألف سنة ، فآمن به ألف إنسان على عدد سنيه ، وباقيهم على التكذيب .{ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ } : تقدم الكلام على مثل هذه الجملة . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وأبو بكر ، بخلاف عنه : تروا ، بتاء الخطاب ؛ وباقي السبعة : بالياء . والجمهور : يبديء ، مضارع أبدأ ؛ والزبير . وعيسى ، وأبو عمرو : بخلاف عنه : يبدأ ، مضارع بدأ . وقرأ الزهري :{ كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ } ، بتخفيف الهمزة بإبدالها ألفاً ، فذهبت في الوصل ، وهو تخفيف غير قياسي ، كما قال الشاعر : فارعى فزارة لا هناك المرتع وقياس تخفيف هذا التسهيل بين بين ، وتقريرهم على رؤية بدء الخلق في قوله : {أَوَ لَمْ يَرَوْاْ } ، وفي :{ فَانظُرُواْ كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ } ، إنما هو لمشاهدتهم إحياء الأرض بالنبات ، وإخراج أشياء من العدم إلى الوجود ، وقوله :{ ثُمَّ يُعِيدُهُ } ، وقوله :{ ثُمَّ اللّه يُنشِىء } ، ليس داخلاً تحت الرؤية ولا تحت النظر ، فليس { ثُمَّ يُعِيدُهُ } معطوفاً على يبدىء ، ولا { ثُمَّ يُنشِىء } داخلاً تحت كيفية النظر في البدء ، بل هما جملتان مستأنفتان ، إخباراً من اللّه تعالى بالإعادة بعد الموت . وقدم ما قبل هاتين الجملتين على سبيل الدلالة على إمكان ذلك ، فإذا أمكن ذلك وأخبر الصادق بوقوعه ، صار واجباً مقطوعاً بعامة ، ولا شك فيه . وقال قتادة :{أَوَ لَمْ يَرَوْاْ } ، بالدلائل والنظر كيف يجوز أن يعيد اللّه الأجسام بعد الموت ؟ وقال الربيع بن أنس المعنى : كيف يبدأ خلق الإنسان ثم يعيده إلى أحوال أخر ، حتى إلى التراب ؟ وقال مقاتل : الخلق هنا الليل والنهار . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : النشاءة هنا ، وفي النجم والواقعة على وزن فعالة ؛ وباقي السبعة : النشأة ، على وزن فعلة ، وهما كالرآفة والرأفة ، وهما لغتان ، والقصر أشهر ، وانتصابه على المصدر ، إما على غير المصدر قام مقام الإنشاء ، وإما على إضمار فعله ، أي فتنشئون النشأة . وفي الآية الأولى صرح باسمه تعالى في قوله :{ كَيْفَ يُبْدِىء اللّه الْخَلْقَ ثُمَّ يُبْدِىء اللّه الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ } ، وهنا عكس أضمر في بدا ثم أبرزه في قوله :{ ثُمَّ اللّه يُنشِىء } ، حتى لا تخلو الجملتان من صريح اسمه . ودل إبرازه هنا على تفخيم النشأة الآخرة وتعظيم أمرها وتقرير وجودها ، إذ كان نزاع الكفار فيها ، فكأنه قيل : ثم ذلك الذي بدأ الخلق هو الذي { يُنشِىء النَّشْأَةَ الاْخِرَةَ } ، فكان التصريح باسمه أفخم في إسناد النشأة إليه . والآخرة صفة للنشأة ، فهما نشأتان : نشأة اختراع من العدم ، ونشأة إعادة . ثم ذكر الصفة التي النشأة هي بعض مقدوراتها . ثم أخبر بأنه { يُعَذّبُ مَن يَشَاء } ،أي تعذيبه ، { وَيَرْحَمُ مَن يَشَاء } رحمته ، وبدأ بالعذاب ، لأن الكلام هو مع الكفار مكذبي الرسل .{ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ } : أي تردون . وقال الزمخشري : ومتعلق المشيئتين مفسر مبين في مواضع من القرآن ، وهو يستوجبهما من الكافر والفاسق إذا لم يتوبا ، ومن المعصوم والتائب . انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال .{ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ } : أي فائتين ما أراد اللّه لكم .{ فِي الاْرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاء } ، إن حمل السماء على العلو فجائز ، أي في البروج والقلاع الذاهبة في العلو ، ويكون تخصيصاً بعد تعميم ، أو على المظلة ، فيحتاج إلى تقرير ، أي لو صرتم فيها ، ونظيره قول الأعشى : ولو كنت في جب ثمانين قامة ورقيت أسباب السماء بسلم ليعتورنك القول حتى تهزه وتعلم أني فيك لست بمجرم وقوله تعالى :{ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ } ، على تقدير الحكم لو كنتم فيها ، { وَالاْرْضِ فَانفُذُواْ} وقال ابن زيد ، والفراء : التقدير : ولا من في السماء ، أي يعجز إن عصى . وقال الفراء : وهذا من غوامض العربية ، وأنشد قول حسان : فمن يهجو رسول اللّه منكم ويمدحه وينصره سواء أي : ومن ينصره ، وهذا عند البصريين لا يكون إلا في الشعر ، لأن فيه حذف الموصول وإبقاء صلته . وأبعد من هذا القول قول من زعم أن التقدير : وما أنتم بمعجزين من في الأرض من الإنس والجنّ ، ولا من في السماء من الملائكة ، فكيف تعجزون اللّه ؟ وقرأ الجمهور : { يَئِسُواْ } ، بالهمز ؛ والذماري ، وأبو جعفر : بغير همز ، بل بياء بدل الهمزة ، وهو وعيد ، أي ييأسون يوم القيامة . وقيل :{ مِن رَّحْمَتِى} وقيل : من ديني ، فلا أهديهم . وقيل : هو وصف بحالهم ، لأن المؤمن يكون دائماً راجياً خائفاً ، والكافر لا يخطر بباله ذلك . شبه حالهم في انتفاء رحمته عنهم بحال من يئس من الرحمة . والظاهر أن قول :{ وَإِن تُكَذّبُواْ } ، من كلام اللّه ، حكاية عن إبراهيم ، إلى قوله :{ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وقيل : هذه الآيات اعتراض من كلام اللّه بين كلام إبراهيم والإخبار عن جواب قومه ، أي وإن تكذبوا محمداً ، فتقدير هذه الجملة اعتراضاً يردّ على أبي علي الفارسي ، حيث زعم أن الأعتراض لا يكون جملتين فأكثر ، وفائدة هذا الاعتراض أنه تسلية للرسول للّه ، حيث كان قد ابتلي بمثل ما كان أبوه إبراهيم قد ابتلي ، من شرك قومه وعبادتهم الأوثان وتكذيبهم إياه ومحاولتهم قتله . وجاءت الآيات بعد الجملة الشرطية مقررة لما جاء به الرسول من توحيد اللّه ودلائله وذكر آثار قدرته والمعاد . ٢٤انظر تسفير الآية:٢٥ ٢٥لما أمرهم بعبادة اللّه ، وبين سفههم في عبادة الأوثان ، وظهرت حجته عليهم ، رجعوا إلى الغلبة ، فجعلوا القائم مقام جوابه فيما أمرهم به قولهم :{ اقْتُلُوهُ أَوْ حَرّقُوهُ} والآمرون بذلك ، إما بعضهم لبعض ، أو كبراؤهم قالوا لأتباعهم : اقتلوه ، فتستريحوا منه عاجلاً ، أو حرّقوه بالنار ؛ فإما أن يرجع إلى دينكم ، إذا أمضته النار ؛ وإما أن يموت بها ، إن أصر على قوله ودينه . وفي الكلام حذف ، أي حرّقوه في النار ، { فَأَنْجَاهُ اللّه مِنَ النَّارِ} وتقدمت قصته في تحريقه في سورة { اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} وجمع هنا فقال : الآيات ، لأن الإنجاء من النار ، وجعلها برداً وسلاماً ، وأنها في الحبل الذي كانوا أوثقوه به دون الجسم ، وإن صح ما نقل من أن مكانها ، حالة الرمي ، صار بستاناً يانعاً ، هو مجموع آيات ، فناسب الجمع ، بخلاف الإنجاء من السفينة ، فإنه آية واحدة ، وتقدم الكلام على ذلك ، وفي ذلك إشارة من النار بعد إلقائه ؛ فيما قال كعب : لم يحترق بالنار إلا الحبل الذي أوثقوه به . وجاء هنا الترديد بين قتله وإحراقه ، فقد يكون ذلك من قائلين : ناس أشاروا بالقتل ، وناس أشاروا بالإحراق . وفي اقترب قالوا :{ حَرّقُوهُ } اقتصروا على أحد الشيئين ، وهو الذي فعلوه ، رموه في النار ولم يقتلوه . وقرأ الجمهور :{ جَوَابَ } ، بالنصب ؛ والحسن ، وسالم الأفطس : بالرفع ، اسما لكان . وقرأ الحسن ، وأبو حيوة ، وابن أبي عبلة ، وأبو عمرو في رواية الأصمعي ، والأعمش عن أبي بكر : مودة بالرفع ، وبينكم بالنصب . فالرفع على خبر إن ، وما موصولة بمعنى الذي ، أي إن الأوثان التي اتخذتموها مودوداً ، أو سبب مودة ، أو مصدرية ، أي إن اتخاذكم أوثاناً مودة ، أو على خبر مبتدأ محذوف ، أي هي مودة بينكم ، وما إذ ذاك مهيئة . وروى عن عاصم : مودة ، بالرفع من غير تنوين ؛ وبينكم بالفتح ، أي بفتح النون ، جعله مبنياً لإضافته إلى مبني ، وهو موضع خفض بالإضافة ، ولذلك سقط التنوين من مودة . وقرأ أبو عمرو ، والكسائي ، وابن كثير : كذلك ، إلا أنه خفض نون بينكم . وقرأ ابن عامر ، وعاصم : بنصب مودة منوناً ونصب بينكم ؛ وحمزة كذلك ، إلا أنه أضاف مودة إلى بينكم وخفض ، كما في قراءة من نصب مودّة مهيئة . واتخذ ، يحتمل أن يكون مما تعدت إلى اثنين ، والثاني هو مودة ، أي اتخذتم الأوثان بسبب المودة بينكم ، على حذف المضاف ، أو اتخذتموها مودّة بينكم ، كقوله :{ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّه أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبّ اللّه } ،أو مما تعدت إلى واحد ، وانتصب مودة على أنه مفعول له ، أي ليتوادوا ويتواصلوا ويجتمعوا على عبادتها ، كما يجتمع ناس على مذهب ، فيقع التحاب بينهم . وذكروا عن ابن مسعود قراءة شاذة تخالف سواد المصحف ، مع أنه قد روي عنه ما في سواد المصحف بالنقل الصحيح المستفيض ، فلذلك لم أذكر تلك القراءة .{ ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } يقع بينكم التلاعن ، أي فيلاعن العبدة والمعبودات الأصنام ، كقوله : و { يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} و { بَيْنِكُمْ } ، و { وَقَالَ إِنَّمَا } : يجوز تعليقهما بلفظ مودة وعمل في ظرفين لاختلافهما ، إذ هما ظرفاً مكان وزمان ، ويجوز أن يتعلقا بمحذوفين ، فيكونان في موضع الصفة ، أي كائنة بينكم في الحياة في موضع الحال من الضمير المستكن في بينكم . وأجاز أبو البقاء أن يتعلق { وَقَالَ إِنَّمَا} باتخذتم على جعل ما كافة ونصب مودة ، لا على جعل ما موصولة بمعنى الذي ، أو مصدرية ورفع موده ، لئلا يؤدي إلى الفصل بين الموصول وما في الصلة بالخبر . وأجاز قوم منهم ابن عطية أن يتعلق { وَقَالَ إِنَّمَا } بمودة ، وأن يكون { بَيْنِكُمْ } صفة لمودة ، وهو لا يجوز ، لأن المصدر إذا وصف قبل أخذ متعلقاته لا يعمل ، وشبهتهم في هذا أنه يتسع في الظرف ، بخلاف المفعول به . وأجاز أبو البقاء أن يتعلق بنفس بينكم ، قال : لأن معناه : اجتماعكم أو وصلكم . وأجاز أيضاً أن يجعله حالاً من بينكم ، قال : لتعرفه بالإضافة . انتهى ، وهما إعرابان لا يتعقلان . ٢٦{فَئَامَنَ لَهُ لُوطٌ } : لم يؤمن بإبراهيم أحد من قومه إلا لوط عليه السلام ، حين رأى النار لم تحرقه ، وكان ابن أخي سارة ، أو كانت بنت عمه . والضمير في { وَقَالَ } عائد على إبراهيم ، وهو الظاهر ، ليتناسق مع قوله :{ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ } ، وهو قول قتادة والنخعي . وقالت فرقة : يعود على لوط ، وهاجر ، وإبراهيم ، عليهم السلام ، من قريتهما كوني ، وهي في سواد العراق ، من أرض بابل ، إلى فلسطين من أرض الشأم . وكان إبراهيم ابن خمس وسبعين سنة ، وهو أول من هاجر في اللّه . وقال ابن جريج : هاجر إلى حران ، ثم إلى الشام ، وفي هجرته هذه كانت معه سارة . والمهاجر : الفارغ عن الشيء ، وهو في عرف الشريعة : من ترك وطنه رغبة في رضا اللّه . وعرف بهذا الاسم أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، المهاجرون ، قبل فتح مكة .{ إِلَى رَبّى } ،أي إلى الجهة التي أمرني ربي بالهجرة إليها . وقيل : إلى حيث لا أمنع عبادة ربي وقيل : مهاجراً من خالفني من قومي ، متقرباً إلى ربي . ونزل إبراهيم قرية من أرض فلسطين ، وترك لوطاً في سدوم ، وهي المؤتفكة ، على مسيرة يوم وليلة من قرية إبراهيم عليهما السلام . { إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ } الذي لا يذل من عبده ، { الْحَكِيمُ } الذي يضع الأشياء مواضعها . والضمير في { ذُرّيَّتَهُ } عائد على إبراهيم .{ النُّبُوَّةَ } : إسحاق ، ويعقوب ، وأنبياء بني إسرائى ل ، وإسماعيل ، ومحمد خاتمهم ، صلى اللّه وسلم عليهم أجمعين .{ وَالْكِتَابِ } : اسم جنس يدخل فيه التوراة ، والزبور ، والإنجيل ، والفرقان . ٢٧انظر تسفير الآية:٣٥ ٢٨انظر تسفير الآية:٣٥ ٢٩انظر تسفير الآية:٣٥ ٣٠انظر تسفير الآية:٣٥ ٣١انظر تسفير الآية:٣٥ ٣٢انظر تسفير الآية:٣٥ ٣٣انظر تسفير الآية:٣٥ ٣٤انظر تسفير الآية:٣٥ ٣٥{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ } : أي في حياته قال مجاهد : نجاته من النار ، ومن الملك الجبار ، والعمل الصالح : والثناء الحسن ، بحيث يتولاه كل أمة وقال ابن جريج : والولد الذي قرت به عينه ، قاله الحسن . وقال السدي : إنه رأى مكانه من الجنة . وقال ابن أبي بردة : ما وفق له من عمل الآخرة . وقال الماوردي : بقاء ضيافته عند قبره ، وليس ذلك لنبي غيره . وقيل : النبوة والحكمة . وقيل : الصلاة عليه إلى آخر الدهر . وانتصب لوطاً بإضمار اذكر ، أو بالعطف على إبراهيم ، أو بالعطف على ما عطف عليه إبراهيم . والجمهور : على الاستفهام في أئنكم معاً . وقرىء : أنكم على الخبر ، والثاني على الاستفهام . وقال أبو عبيد : وجدته في الإمام بحرف واحد بغير ياء ، ورأيت الثاني بحرفين ، الياء والنون . ولم يأت في قصة لوط أنه دعا قومه إلى عبادة اللّه ، كما جاء في قصة إبراهيم وقصة شعيب ، لأن لوطاً كان من قوم إبراهيم وفي زمانه ، وسبقه إبراهيم إلى الدعاء لعبادة اللّه وتوحيده ، واشتهر أمره بذلك عند الخلق ، فذكر لوط ما اختص به من المنع من الفحشاء وغيرها . وأما إبراهيم وشعيب فجاآ بعد انقراض من كان يعبد اللّه ، فلذلك دعوا إلى عبادة اللّه . قال الزمخشري :{ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا } جملة مستأنفة مقررة لفاحشة تلك الفعلة ، كأن قائلاً قال : لم كانت فاحشة ؟ فقيل : لأن أحداً قبلهم لم يقدم عليها اشمئزازاً منها في طباعهم لإفراط قبحها ، حتى قدم عليها قوم لوط لخبث طينتهم ، قالوا : لم ينز ذكر على ذكر قبل قوم لوط . انتهى . ويظهر أن { مَا سَبَقَكُمْ بِهَا } جملة حالية ، كأنه قال : أتأتون الفاحشة مبتدعين لها غير مسبوقين بها ؟ واستفهم أولاً وثانياً استفهام إنكار وتوبيخ وتقريع ، وبين ما تلك الفاحشة المبهمة في قوله :{ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ } ، وإن كانت معينة أنها إتيان الذكور في الأدبار بقوله :{ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا } ، فقال :{ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرّجَالَ } : يعني في الأدبار ، { وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ } : الولد ، بتعطيل الفرج ووطء أدبار الرجال ، أو بإمساك الغرباء لذلك الفعل حتى انقطعت الطرق ، أو بالقتل وأخذ المال ، أو بقبح الأحدوثة حتى تنقطع سبل الناس في التجارات .{ وَتَأْتُونَ فِى نَادِيكُمُ } : أي في مجلسكم الذي تجتمعون فيه ، وهو اسم جنس ، إذ أنديتهم في مدائنهم كثيرة ، ولا يسمى نادياً إلاّ ما دام فيه أهله ، فإذا قاموا عنه ، لم يطلق عليه ناد إلاّ مجازاً . و { الْمُنْكَرَ } : ما تنكره العقول والشرائع والمروآت ، حذف الناس بالحصباء ، والاستخفاف بالغريب الخاطر ، وروت أم هانىء ، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم.أو إتيان الرجال في مجالسهم يرى بعضهم بعضاً ، قاله منصور ومجاهد والقاسم بن محمد وقتادة بن زيد ؛ أو تضارطهم ؛ أو تصافعهم فيها ، قاله ابن عباس ؛ أو لعب الحمام ؛ أو تطريف الأصابع بالحناء ، والصفير ، والحذف ، ونبذ الحياء في جميع أمورهم ، قاله مجاهد أيضاً ، أو الحذف بالحصى ، والرمي بالبنادق ، والفرقعة ، ومضغ العلك ، والسواك بين الناس ، وحل الأزرار ، والسباب ، والفحش في المزاح ، قاله ابن عباس أيضاً مع شركهم باللّه . كانت فيهم ذنوب غير الفاحشة ، تظالم فيما بينهم ، وبشاعة ، ومضاريط في مجالسهم ، وحذف ، ولعب بالنرد والشطرنج ، ولبس المصبغات ، ولباس النساء للرجال ، والمكوس على كل عابر ؛ وهم أول من لاط ومن ساحق . ولما وقفهم لوط عليه السلام على هذه القبائح ، أصروا على اللجاج في التكذيب ، فكان جوابهم له :{ أَن قَالُواْ ائْتِنَا بِعَذَابِ اللّه إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } ، فيما تعدنا به من نزول العذاب ، قالوا ذلك وهم مصممون على اعتقاد كذبه فيما وعدهم به . وفي آية أخرى :{ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن } ، الجمع بينهما أنهم أولاً قالواغ :{ ائْتِنَا بِعَذَابِ اللّه } ، ثم أنه كثر منه الإنكار ، وتكرر ذلك منه نهياً ووعظاً ووعيداً ، { قَالُواْ أَخْرِجُواْ ءالَ لُوطٍ} ولما كان إنما يأمرهم بترك الفواحش وما كانوا يصنعونه من قبيح المعاصي ، ويعد على ذلك بالعذاب ، وكانوا يقولون إن اللّه لم يحرم هذا ولا يعذب عليه وهو يقول إن اللّه حرمه ويعذب عليه ، { قَالُواْ ائْتِنَا بِعَذَابِ اللّه } ، فكانوا ألطف في الجواب من قوم إبراهيم بقولهم :{ اقْتُلُوهُ أَوْ حَرّقُوهُ } ، لأنه كان لا يذم آلهتهم ، وعهد إلى أصنامهم فكسرها ، فكان فعله هذا معهم أعظم من قول لوط لقومه ، فكان جوابهم له :{ أَن قَالُواْ اقْتُلُوهُ أَوْ حَرّقُوهُ} ثم استنصر لوط عليه السلام ، فبعث ملائكة لعذابهم ، ورجمهم بالحاصب ، وإفسادهم بحمل الناس على ما كانوا عليه من المعاصي طوعاً وكرهاً ، وخصوصاً تلك المعصية المبتدعة .{ بِالْبُشْرَى } : هي بشارته بولده إسحاق ، وبنافلته يعقوب ، وبنصر لوط على قومه وإهلاكهم ، و { القَرْيَةِ } : سدوم ، وفيها قيل : أَجْوَر من قاضي سدوم .{ كَانُواْ ظَالِمِينَ } : أي قد سبق منهم الظلم . واستمر على الأيام السالفة وهم مصرون ، وظلمهم : كفرهم وأنواع معاصيهم . ولما ذكروا لإبراهيم :{ إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَاذِهِ الْقَرْيَةِ } ، أشفق على لوط فقال :{ إِنَّ فِيهَا لُوطاً} ولما عللوا الإهلاك بالظلم ، قال لهم : فيها من هو بريء من الظلم ، { قَالُواْ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا } : أي منك ، وأخبر بحاله . ثم أخبروه بإنجائهم إياه { وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ} وقرأ حمزة ، والكسائي :{ لنجينه } ، مضارع أنجى ؛ وباقي السبعة : مضارع نجى ؛ والجمهور : بشد النون ؛ وفرقة : بتخفيفها . {الْغَابِرِينَ وَلَمَّا أَن جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِىء بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً } : تقدم الكلام على مثل هذه الجملة ، إلاّ أن هنا زيدت ، أن بعد لما ، وهو قياس مطرد . وقال الزمخشري أن صلة أكدت وجود الفعلين مترتباً أحدهما على الآخر في وقتين متجاورين لا فاصل بينهما ، كأنهما وجدا في جزء واحد من الزمان ، كأنه قيل : لما أحس بمجيئهم ، فاجأت المساءة من غير وقت خيفة عليهم من قومه . انتهى . وهذا الذي ذكره في الترتيب هو مذهب سيبويه ، إذ مذهبه . أن لما : حرف لا ظرف ، خلافاً للفارسي ، وهذا مذكور في علم النحو . وقرأ العربيان ، ونافع ، وحفص :{ مُنَجُّوكَ } ، مشدداً ؛ وباقي السبعة : مخففاً ، والكاف في مذهب سيبويه في موضع جر .{ وَأَهْلَكَ } : منصوب على إضمار فعل ، أي وننجي أهلك . ومن راعى هذا الموضع ، عطفه على موضع الكاف ، والكاف على مذهب الأخفش وهشام في موضع نصب ، وأهلك معطوف عليه ، لأن هذه النون كالتنوين ، وهما على مذهبهما يحذفان للطافة الضمير وشدة طلبه الاتصال بما قبله . وقرأ الجمهور : سيء ، بكسر السين ؛ وضمها نافع وابن عامر والكسائي . وقرأ عيسى ، وطلحة : سوء ، بضمهما ، وهي لغة بني هذيل . وبني وبير يقولون في قيل وبيع ونحوهما : قول وبوع . وقرىء : منزلون ، مخففاً ومشدداً ؛ وابن محيصن : رجزاً ، بضم الراء ؛ وأبو حيوة والأعمش : بكسر سين يفسقون . والظاهر أن الضمير في منها عائد على القرية ، فقال ابن عباس : منازلهم الخربة . وحكى أبو سليمان الدمشقي أن الآية في قريتهم ، إلا أن أساسها أعلاها ، وسقوفها أسفلها إلى الآن . وقال الفراء : المعنى تركناها آية ، يقول : إن في السماء لآية ، يريد أنها آية . انتهى ، وهذا لا يتجه إلا على زيادة من في الواجب ، نحو قوله : أمهرت منها جبة وتيساً ، يريد : أمهرتها ؛ وكذلك : ولقد تركناها آية ، وقيل : الهاء في منها عائدة على الفعلة التي فعلت بهم ، فقيل : الآية : الحجارة التي أدركتها أوائل هذه الأمة ، قاله قتادة ؛ وقيل : الماء الاسود على وجه الأرض ، قاله مجاهد ؛ وقيل : أنجز ما صنع بهم . و { لِقَوْمٍ } : متعلق بتركنا ، أو بينة . ٣٦انظر تسفير الآية:٤٥ ٣٧انظر تسفير الآية:٤٥ ٣٨انظر تسفير الآية:٤٥ ٣٩انظر تسفير الآية:٤٥ ٤٠انظر تسفير الآية:٤٥ ٤١انظر تسفير الآية:٤٥ ٤٢انظر تسفير الآية:٤٥ ٤٣انظر تسفير الآية:٤٥ ٤٤انظر تسفير الآية:٤٥ ٤٥{وَإِلَى مَدْيَنَ } : أي وإلى مدين أرسلنا ، أو بعثنا ، مما يتعدى بإلى . أمرهم بعبادة اللّه ، والإيمان بالبعث واليوم الآخر . والأمر بالرجاء ، أمر بفعل ما يترتب الرجاء عليه ، أقام المسبب مقام السبب . والمعنى : وافعلوا ما ترجون به الثواب من اللّه ، أو يكون أمراً بالرجاء على تقدفير تحصيل شرطه ، وهو الإيمان باللّه . وقال أبو عبيدة :{ وَارْجُواْ } : خافوا جزاء اليوم الآخر من انتقام اللّه منكم إن لم تعبدوه . وتضمن الأمر بالعبادة والرجاء أنه إن لم يفعلوا ذلك ، وقع بهم العذاب ؛ كذلك جاء :{ فَكَذَّبُوهُ } ، وجاءت ثمرة التكذيب ، وهي :{ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ } ، وتقدم تفسير مثل هذه الجمل . وانتصب { وَعَاداً وَثَمُودَاْ } أهلكنا ، لدلالة فأخذتهم الرجفة عليه . وقيل : بالعطف على الضمير في فأخذتهم ، وأبعد الكسائي في عطفه على الذين من قوله :{ يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} وقرأ : ثمود ، بغير تنوين ؛ حمزة ، وشيبة ، والحسن ، وحفص ، وباقي السبعة : بالتنوين . وقرأ ابن وثاب : وعاد وثمود ، بالخفض فيهما ، والتنوين عطفاً على مدين ، أي وأرسلنا إلى عاد وثمود . { وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم } : أي ذلك ، أي ما وصف لكم من إهلاكهم من جهة مساكنهم ، إذا نظرتم إليها عند مروركم لها ، وكان أهل مكة يمرون عليها في أسفارهم . وقرأ الأعمش : مساكنهم ، بالرفع من غير من ، فيكون فاعلاً بتبين . {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ } : أي بوسوسته وإغوائه ، { أَعْمَالَهُمْ } القبيحة .{ فَصَدَّهُمْ عَنِ سَبِيلِ اللّه } ؛ وهي طريق الإيمان باللّه ورسله .{ وَكَانُواْ مُسْتَبْصِرِينَ } : أي في كفرهم لهم به بصر وإعجاب قاله ، ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك . وقيل : عقلاء ، يعلمون أن الرسالة والآيات حق ، ولكنهم كفروا عناداً ، وجحدوا بها ، واستيقنتها أنفسهم .{ وَقَشرُونَ } : معطوف على ما قبله ، أو منصوب بإضمار اذكر .{ فَاسْتَكْبَرُواْ } : أي عن الإقرار بالصانع وعبادته في الأرض ، إشارة إلى قلة عقولهم ، لأن من في الأرض يشعر بالضعف ، ومن في السماء يشعر بالقوة ، ومن في السماء لا يستكبرون عن عبادة اللّه ، فكيف من في الأرض ؟{ وَمَا كَانُواْ سَابِقِينَ } الأمم إلى الكفر ، أي تلك عادة الأمم مع رسلهم . والحاصب لقوم لوط ، وهي ريح عاصف فيها حصا ، وقيل : ملك كان يرميهم . والصيحة لمدين وثمود ، والخسف لقارون ، والغرق لقوم نوح وفرعون وقومه . و قال ابن عطية : ويشبه أن يدخل قوم عاد في الحاصب ، لأن تلك الريح لا بد كانت تحصبهم بأمور مؤذية ، والحاصب : هو العارض من ريح أو سحاب إذا رمي بشيء ، ومنه قول الفرزدق : مستقبلين شمال الشأم تضربهم بحاصب كنديف القطن منثور ومنه قول الأخطل : ترمي العضاة بحاصب من بلحها حتى تبيت على العضاة حفالا {الْعَنكَبُوتِ } : حيوان معروف ، ووزنه فعللوت ، ويؤنث ويذكر ، فمن تذكيره قول الشاعر : على هطالهم منهم بيوت كأن العنكبوت هو ابتناها ويجمع عناكب ، ويصغر عنيكيب . يشبه تعالى الكفار في عبادتهم الأصنام ، وبنائهم أمورهم عليها بالعنكبوت التي تبني وتجتهد ، وأمرها كله ضعيف ، متى مسته أدنى هامة أو هامة أذهبته ، فكذلك أمر أولئك ، وسعيهم مضمحل ، لا قوة له ولا معتمد . وقال الزمخشري : الغرض تشبيه ما اتخذوه متكلاً ومعتمداً في دينهم ، وتولوه من دون اللّه ، مما هو مثل عند الناس في الوهن وضعف القوة ، وهو نسج العنكبوت . ألا ترى إلى مقطع التشبيه ، وهو قوله :{ ءانٍ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ } ؟ انتهى . يعني بقوله : ألا ترى إلى مقطع التشبيه بما ذكر أولاً من أن الغرض تشبيه المتخذ بالبيت ، لا تشبيه المتخذ بالعنكبوت ؟ والذي يظهر ، هو تشبيه المتخذ من دون اللّه ولياً ، بالعنكبوت المتخذة بيتاً ، أي فلا اعتماد للمتخذ على وليه من دون اللّه ، كما أن العنكبوت لا اعتمادها على بيتها في استظلال وسكنى ، بل لو دخلت فيه خرقته . ثم بين حال بيتها ، وأنه في غاية الوهن ، بحيث لا ينتفع به . كما أن تلك الأصنام لا تنفع ولا تجدي شيئاً ألبتة ، وقوله :{ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } ، ليس مرتبطاً بقوله :{ وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ } ، لأن كل أحد يعلم ذلك ، فلا يقال فيه : لو كانوا يعلمون ؛ وإنما المعنى : لو كانوا يعلمون أن هذا مثلهم ، وأن أمر دينهم بالغ من الوهن هذه الغاية لأقلعوا عنه ، وما اتخذوا الأصنام آلهة . وقال الزمخشري : إذا صح تشبيه ما اعتمدوه في دينهم ببيت العنكبوت ، وقد صح أن أوهن البيوت بيت العنكبوت ، فقد تبين أن دينهم أوهن الأديان ، لو كانوا يعلمون ؛ أو أخرج الكلام بعد تصحيح التشبيه مخرج المجاز ، وكأنه قال : وإن أوهن ما يعتمد عليه في الدين عبادة الأوثان ، لو كانوا يعلمون . ولقائل أن يقول : مثل المشرك الذي يعبد الوثن ، بالقياس إلى المؤمن الذي يعبد اللّه ، مثل عنكبوت يتخذ بيتاً ، بالإضافة إلى رجل بنى بيتاً بآجر وجص أو نحته من صخر . فكما أن أوهن البيوت ، إذا استقريتها بيتاً ، بيت العنكبوت ، كذلك أضعف الأديان ، إذا استقريتها ديناً ديناً ، عبادة الأوثان ، لو كانوا يعلمون . انتهى . وما ذكره من قوله : ولقائل أن يقول إلخ . لا يدل عليه لفظ الآية ، وإنما هو تحميل للفظ ما لا يحتمله ، كعادته في كثير من تفسيره . وقرأ أبو عمرو ، وسلام : يعلم ما ، بالإدغام ؛ والجمهور : بالفك ؛ والجمهور : تدعون ، بتاء الخطاب ؛ وأبو عمرو ، وعاصم : بخلاف ، بياء الغيبة ؛ وجوزوا في ما أن يكون مفعولاً بيدعون ، أي يعلم الذين يدعون من دونه من جميع الأشياء ، أي يعلم حالهم ، وأنهم لا قدرة لهم . وأن تكون نافية ، أي لستم تدعون من دونه شيئاً له بال ولا قدر ، فيصلح أن يسمى شيئاً ، وأن يكون استفهاماً ، كأنه قدر على جهة التوبيخ على هذا المعبود من جميع الأشياء ، وهي في هذين الوجهين مقتطعة من يعلم ، واعتراض بين يعلم وبين قوله : { وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} وجوز أبو علي أن يكون ما استفهاماً منصوباً بيدعون ، ويعلم معلقة ؛ فالجملة في موضع نصب بها ، والمعنى : أن اللّه يعلم أوثاناً تدعون من دونه ، أم غيرها لا يخفى عليه ذلك . والجملة تأكيد للمثل ، وإذا كانت ما نافية ، كان في الجملة زيادة على المثل ، حيث لم يجعل تعالى ما يدعونه شيئاً .{ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } : فيه تجهيل لهم ، حيث عبدوا ما ليس بشيء ، لأنه جماد ليس معه مصحح العلم والقدرة أصلاً ، وتركوا عبادة القادر القاهر الحكيم الذي لا يفعل شيئاً إلا لحكمة .{ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ } : أي لا يعقل صحتها وحسنها وفائدتها . وكان جهلة قريش يقولون : إن رب محمد يضرب المثل بالذباب والعنكبوت ، ويضحكون من ذلك ، وما علموا أن الأمثال والتشبيهات طرق إلى المعاني المحتجبة ، فتبرزها وتصورها للفهم ، كما صور هذا التشبيه الفرق بين حال المشرك وحال الموحد . والإشارة بقوله :{ وَتِلْكَ الاْمْثَالُ } إلى هذا المثل ، وما تقدم من الأمثال في السور . وعن جابر ، أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، تلا هذه الآية فقال : { العالم من عقل عن اللّه فعمل بطاعته واجتنب سخطه} . {خُلِقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ } : فيه تنبيه على صغر قدر الأوثان التي عبدوها . ومعنى { بِالْحَقّ } : بالواجب الثابت ، لا بالعبث واللعب ، إذ جعلها مساكن عباده ، وعبرة ودلائل على عظيم قدرته وباهر حكمته . والظاهر أن الصلاة هي المعهود ، والمعنى : من شأنها أنها إذا أدّيت على ما يجب من فروضها وسننها والخشوع فيها ، والتدبر لما يتلو فيها ، وتقدير المثول بين يدي اللّه تعالى ، أن { تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنْكَرِ} وقال ابن عباس ، والكلبي ، وابن جريج ، وحماد بن أبي سليمان : تنهى ما دام المصلي فيها . وقال ابن عمر : الصلاة هنا القرآن . وقال ابن بحر : الصلاة : الدعاء ، أي أقم الدعاء إلى أمر اللّه ، وأما من تراه من المصلين يتعاطى المعاصي ، فإن صلاته تلك ليست بالوصف الذي تقدم . وفي الحديث أن فتى من الأنصار كان يصلي مع النبي صلى اللّه عليه وسلم ، ولا يدع شيئاً من الفواحش والسرقة إلا ارتكبه ، فقيل ذلك للنبي صلى اللّه عليه وسلم ، فقال : { إن صلاتها تنهاه} . فلم يلبث أن تاب وصلحت حاله ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : { ألم أقل لكم ؟ } ولا يدل اللفظ على أن كل صلاة تنهى ، بل المعنى ، أنه يوجد ذلك فيها ، ولا يكون على العموم . كما تقول : فلان يأمر بالمعروف ، أي من شأنه ذلك ، ولا يلزم منه أن كل معروف يأمر به . والظاهر أن { أَكْبَرَ } أفعل تفضيل . فقال عبد اللّه ، وسلمان ، وأبو الدرداء ، وابن عباس ، وأبو قرة : معناه ولذكر اللّه إياكم أكبر من ذكركم إياه . وقال قتادة ، وابن زيد : أكبر من كل شيء ؛ وقيل : ولذكر اللّه في الصلاة أكبر منه خارج الصلاة ، أي أكبر ثواباً ؛ وقيل : أكبر من سائر أركان الصلاة ؛ وقيل : ولذكر اللّه نهيه أكبر من نهي الصلاة ؛ وقيل : أكبر من كل العبادة . و قال ابن عطية : وعندي أن المعنى : ولذكر اللّه أكبر على الإطلاق ، أي هو الذي ينهى عن الفحشاء والمنكر ، والجزء الذي منه في الصلاة ينهى ، كما ينهى في غير الصلاة ، لأن الانتهاء لا يكون إلاّ من ذاكر اللّه مراقبه ، وثواب ذلك الذاكر أن يذكره اللّه في ملأ خير من ملئه ، والحركات التي في الصلاة لا تأثيرلها في النهي ، والذكر النافع هو مع العلم وإقبال القلب وتفرغه إلا من اللّه . وأما ما لا يجاوز اللسان ففي رتبة أخرى . وقال الزمخشري : يريد والصلاة أكبر من غيرها من الطاعات ، وسماها بذكر اللّه ، كما قال :{ فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللّه } ، وإنما قال :{ وَلَذِكْرُ اللّه } ، لتستقل بالتعليل ، كأنه قال : والصلاة أكبر ، لأنها ذكر اللّه مما تصنعون من الخير والشر فيجازيكم ، وفيه وعيد وحث على المراقبة . ٤٦انظر تسفير الآية:٤٨ ٤٧انظر تسفير الآية:٤٨ ٤٨و { أَهْلِ الْكِتَابِ } : اليهود والنصارى .{ إِلاَّ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ } : من الملاطفة في الدعاء إلى اللّه والتنبيه على آياته .{ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ } : ممن لم يؤد جزية ونصب الحرب ، وصرح بأن للّه ولداً أو شريكاً ، أو يده مغلولة ؛ فالآية منسوخة في مهادنة من لم يحارب ، قاله مجاهد ومؤمنو أهل الكتاب .{ إِلاَّ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ } : أي بالموافقة فيما حدثوكم به من أحبار أوائلهم .{ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ } : من بقي منهم على كفره ، وعد لقريظة والنضير ، قاله ابن زيد ، والآية على هذا محكمة . وقيل : إلا الذين آذوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وقال قتادة : الآية منسوخة بقوله : { قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ } الآية . وقرأ الجمهور : إلا ، حرف استثناء ؛ وابن عباس : ألا ، حرف تنبيه واستفتاح ، وتقديره : ألا جادلوهم بالتي هي أحسن .{ وَقُولُواْ ءامَنَّا } : هذا من المجادلة بالأحسن .{ بِالَّذِى أُنزِلَ إِلَيْنَا } ، وهو القرآن ، { وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ } ، وهو التوراة والزبور والإنجيل . وفي صحيح البخاري ، عن أبي هريرة : كان أهل الكتاب يقرؤن التوراة بالعبرانية ، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : { لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا باللّه وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم} .{ وَكَذالِكَ } : أي مثل ذلك الإنزال الذي للكتب السابقة ، { أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ } : أي القرآن .{ فَالَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ } هم : عبد اللّه بن سلام ومن آمن معه .{ وَمِنْ هَؤُلاء } : أي من أهل مكة . وقيل :{ فَالَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ } : أي الذين تقدموا عهد الرسول ، يؤمنون به : أي بالقرآن ، إذ هو مذكور في كتبهم أنه ينزل على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.{ وَمِنْ هَؤُلاء } : أي ممن في عهده منهم .{ وَمَا يَجْحَدُ بِئَايَاتِنَا } ، مع ظهورها وزوال الشبهة عنها ، { إِلاَّ الْكَافِرونَ } : أي من بني إسرائيل وغيرهم . قال مجاهد : كان أهل الكتاب يقرأون في كتبهم أن محمداً عليه السلام ، لا يحظ ولا يقرأ كتاباً ، فنزلت :{ وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ } : أي من قبل نزوله عليك ، { مِن كِتَابِ } : أي كتاباً ، ومن زائدة لأنها في متعلق النفي ، { وَلاَ تَخُطُّهُ } : أي لا تقرأ ولا تكتب ، { بِيَمِينِكَ } : وهي الجارحة التي يكتب بها ، وذكرها زيادة تصوير لما نفي عنه من الكتابة ، لما ذكر إنزال الكتاب عليه ، متضمناً من البلاغة والفصاحة والإخبار عن الأمم السابقة والأمور المغيبة ما أعجز البشر أن يأتوا بسورة مثله . أخذ يحقق ، كونه نازلاً من عند اللّه ، بأنه ظهر عن رجل أمي ، لا يقرأ ولا يكتب ، ولا يخالط أهل العلم . وظهور هذا القرآن المنزل عليه أعظم دليل على صدقه ، وأكثر المسلمين على أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لم يكتب قط ، ولم يقرأ بالنظر في كتاب . وروي عن الشعبي أنه قال : ما مات رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، حتى كتب وأسند النقاش . حديث أبي كبشة السلولي : أنه صلى اللّه عليه وسلم ، قرأ صحيفة لعيينة ابن حصن وأخبر بمعناها . وفي صحيح مسلم ما ظاهره : أنه كتب مباشرة ، وقد ذهب إلى ذلك جماعة ، منهم أبو ذر عبد اللّه بن أحمد الهروي ، والقاضي أبو الوليد الباجي وغيرهما . واشتد نكير كثير من علماء بلادنا على أبي الوليد الباجي ، حتى كان بعضهم يسبه ويطعن فيه على المنبر . وتأول أكثر العلماء ما ورد من أنه كتب على أن معناه : أمر بالكتابة ، كما تقول : كتب السلطان لفلان بكذا ، أي أمر بالكتب .{ إِذاً لاَّرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ } : أي لو كان يقرأ كتباً قبل نزول القرآن عليه ، أو يكتب ، لحصلت الريبة للمبطلين ، إذا كانوا يقولون : حصل ذلك الذي يتلوه مما قرأه ، قيل : وخطه واستحفظه ؛ فكان يكون لهم في ارتيابهم تعلق ببعض شبهة ، وأما ارتيابهم مع وضوح هذه الحجة فظاهر فساده . والمبطلون : أهل الكتاب ، قاله قتادة ؛ أو كفار قريش ، قاله مجاهد . وسموا مبطلين ، لأنهم كفروا به ، وهو أمي بعيد من الريب . ولما لم يكن قارئاً ولا كاتباً ، كان ارتيابهم لا وجه له . ٤٩{بَلْ هُوَ } : أي القرآن :{ بَيّنَاتٍ فَاسْأَلْ } : واضحات الإعجاز ، { فِى صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ } : أي مستقرة ، مؤمن من بها ، محفوظة في صدورهم ، يتلوها أكثر الأمة ظاهراً ، بخلاف غيره من الكتب ، فليس بمعجز ، ولا يقرأ إلا من الصحف . وجاء في صفة هذه الأمة صدورهم : أنا جيلهم ، وكونه القرآن ، يؤيده قراءة عبد اللّه ، بل هي آيات . وقيل : بل هو ، أي النبي وأمورة ، آيات بينات ، قاله قتادة . وقرأ : بل هو آية بينة على التوحيد ؛ وقيل : بل هو ، أي كونه لا يقرأ ولا يكتب . ويقال : جحدته وجحدت به ، وكفرته وكفرت به ، قيل : والجحود الأول معلق بالواحدنية ، والثاني معلق بالنبوّة ، وختمت تلك بالكافر . ولأنه قسيم المؤمنين في قوله : { يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلاء مَن يُؤْمِنُ } ، وهذه بالظالمين ، لأنه جحد بعد إقامة الدليل على كون الرسول صدر منه القرآن منزل عليه ، وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب ، فهم الظالمون بعد ظهور المعجزة . ٥٠{وَقَالُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ايَةٌ مّن رَّبّهِ } : أي قريش ، وبعض اليهود كانوا يعلمون قريشاً مثل هذا الاقتراح يقولون له : ألا يأتيكم بآية مثل آيات موسى من العصا وغيرها ؟ وقرأ العربيان ، ونافع ، وحفص : آيات ، على الجمع ؛ وباقي السبعة : على التوحيد .{ قُلْ إِنَّمَا الاْيَاتُ عِندَ اللّه } ، ينزل أيتها شاء ، ولو شاء أن ينزل ما يقترحونه لفعل .{ وَإِنَّمَا أَنَاْ نَذِيرٌ } بما أعطيت من الآيات . وذكر يحيى بن جعدة أن ناساً من المسلمين أتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، بكتب قد كتبوا فيها بعض ما يقول اليهود ، فلما نظر إليها ألقاها وقال : { كفر بها جماعة قوم أو ضلالة قوم أن يرغبوا عما جاء به نبيهم إلى ما جاء به غير نبيهم } ، فنزلت : {أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ} والذي يظهر أنه رد على الذين قالوا :{ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ مّن رَّبّهِ } : أيأو لم يكفهم آية مغنية عن سائر الآيات ، إن كانوا طالبين للحق ، غير متعنتين هذا القرآن الذي تدوم تلاوته عليهم في كل مكان وزمان ؟ فلا تزال معهم آية ثابتة لا تزول ولا تضمحل ، كما تزول كل آية بعد وجودها ، ويكون في مكان دون مكان . إن في هذه الآية الموجودة في كل مكان وزمان لرحمة لنعمة عظيمة لا تنكر وتذكر . ٥١انظر تسفير الآية:٥٢ ٥٢وقيل :{أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ } : يعني اليهود ، { أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّمَا الاْيَاتُ عِندَ اللّه وَإِنَّمَا أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِى ذالِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ قُلْ كَفَى بِاللّه بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً } : أي قد بلغت وأنذرت ، وأنكم جحدتم وكذبتم ، وهو العالم { مَا فِي السَّمَاوَاتِ والاْرْضِ } ، فيعلم أمري وأمركم ، { وَالَّذِينَ ءامَنُواْ بِالْبَاطِلِ} قال ابن عباس : بغير اللّه . وقال مقاتل : بعبادة الشيطان . وقيل : بالضم . ٥٣انظر تسفير الآية:١٣ ٥٤انظر تسفير الآية:١٣ ٥٥{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ } : أي كفار قريش في قولهم :{ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا } ، وقول النضر :{ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً } ، وهو استعجال على جهة التعجيز والتكذيب والاستهزاء بالعذاب الذي كان يتوعدهم به الرسول . والأجل المسمى : ما سماه اللّه وأثبته في اللوح لعذابهم ، وأوجبت الحكمة تأخيره . وقال ابن جبير : يوم القيامة . وقال ابن سلام : أجل ما بين النفختين ، وقيل : يوم بدر .{ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً } : أي فجأة ، وهو ما ظهر يوم بدر ، وفي السنين السبع . ثم كرر فعلهم وقبحه ، وأخبر أن وراءهم جهنم ، تحيط بهم . وانتصب { يَوْمَ يَغْشَاهُمُ } بمحيطة . وقرأ الكوفيون ، ونافع :{ وَيَقُولُ } : أي اللّه ؛ وباقي السبعة : بالنون ، نون العظمة ، أو نون جماعة الملائكة ؛ وأبو البرهثيم : بالتاء ، أي جهنم ؛ كما نسب القول إليها في :{ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ} وقرأ ابن مسعود ، وابن أبي عبلة : ويقال ، مبنياً للمفعول . ٥٦انظر تسفير الآية:٦٣ ٥٧انظر تسفير الآية:٦٣ ٥٨انظر تسفير الآية:٦٣ ٥٩انظر تسفير الآية:٦٣ ٦٠انظر تسفير الآية:٦٣ ٦١انظر تسفير الآية:٦٣ ٦٢انظر تسفير الآية:٦٣ ٦٣أكثر المفسرين ذهبوا إلى أن قوله :{ فِى عِبَادِى } الآية ، نزلت فيمن كان مقيماً بمكة ؛ أمروا بالهجرة عنها إلى المدينة ، أي جانبوا أهل الشرك ، واطلبوا أهل الإيمان . وقال أبو العالية : سافر والطلب أوليائه . وقال ابن جبير ، وعطاء ، ومجاهد ، ومالك بن أنس : الأرض التي فيها الظلم والمنكر تترتب فيها هذه الآية ، ويلزم الهجرة عنها إلى بلد حق . وقال مطرف بن الشخير :{ إِنَّ أَرْضِى وَاسِعَةٌ } عدة بسعة الرزق في جميع الأرض . وقيل : أرض الجنة واسعة أعطيكم . وقال مجاهد : سافروا لجهاد أعدائه .{ فَإِيَّاىَ فَاعْبُدُونِ } ، من باب الاشتغال : أي فإياي اعبدوا فاعبدون . وقال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى الفاء في فاعبدون ، وتقدم المفعول ؟ قلت : الفاء جواب شرط محذوف ، لأن المعنى : إن أرضي واسعة ، فإن لم تخلصوا العبادة في أرض ، فاخلصوها في غيرها . ثم حذف الشرط وعوض من حذفة تقديم المفعول ، مع إفادة تقديمه معنى الاختصاص والإخلاص . انتهى . ويحتاج هذا الجواب إلى تأمل . ولما أخبر تعالى بسعة أرضه ، وكان ذلك إشارة إلى الهجرة ، وأمر بعبادته ، فكأن قد يتوهم متوهم أنه إذا خرج من أرضه التي نشأ فيها لأجل من حلها من أهل الكفر إلى دار الإسلام ، لا يستقيم له فيها ما كان يستقيم له في أرضه ، وربما أدى ذلك إلى هلاكه . أخبر أن كل نفس لها أجل تبلغه ، وتموت في أي مكان حل ، وأن رجوع الجمع إلى أجزائه يوم القيامة . وقرأ علي :{ تُرْجَعُونَ } ، مبنياً للفاعل ؛ والجمهور : مبنياً للمفعول ، بتاء الخطاب . وروى عن عاصم : بياء الغيبة . وقرأ أبو حيوة :{ ذَائِقَةُ } ، بالتنوين ؛{ الْمَوْتُ } : بالنصب . وقرأ :{ لَنُبَوّئَنَّهُمْ } ، من المباءة . وقرأ علي ، وعبد اللّه ، والربيع بن خيثم ، وابن وثاب ، وطلحة ، وزيد بن علي ، وحمزة ، والكسائي : من الثواء ؛ وبوّأ يتعدى لاثنين . قال تعالى :{ وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ } مقاعد للقتال ، وقد جاء متعدي بالام . قال تعالى :{ وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْراهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ } ، والمعنى : ليجعلنّ لهم مكان مباءة ، أي مرجعاً يأوون إليه .{ غُرَفَاً } : أي علالي ، وأما ثوى فمعناه : أقام ، وهو فعل لازم ، فدخلت عليه همزة التعدية فصار يتعدى إلى واحد ، وقد قرىء مشدداً عدى بالتضعيف ، فانتصب غرفاً ، إما على إسقاط حرف الجر ، أي في غرف ، ثم اتسع فحذف ، وإما على تضمين الفعل معنى التبوئة ، فتعدى إلى اثنين ، أو شبه الظرف المكاني المختص بالمبهم يوصل إليه الفعل . وروي عن ابن عامر : غرفاً ، بضم الراء . وقرأ ابن وثاب : فنعم ، بالفاء ؛ والجمهور : بغير فاء .{ الَّذِينَ صَبَرُواْ } : أي على مفارقة أوطانهم والهجرة وجميع المشاق ، من امتثال الأوامر واجتناب المناهي .{ وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } : هذان جماع الخير كله ، الصبر وتفويض الأمور إلى اللّه تعالى . ولما أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، من أسلم بمكة بالهجرة ، خافوا الفقر فقالوا غربة في بلاد لا دار لنا ، ولا فيه عقار ، ولا من يطعم . فمثل لهم بأكثر الدواب التي تتقوت ولا تدّخر ، ولا تروّي في رزقها ، ولا تحمل رزقها ، من الحمل : أي لا تنقل ، ولا تنظر في إدخار ، قاله مجاهد ، وأبو مجلز ، وعلي بن الأقمر . والإدخار جاء في حديث : { كيف بك إذا بقيت في حثالة من حثالة الناس يخبئون رزق سنة لضعف اليقين ؟ } قيل : ويجوز أن يكون من الحمالة التي لا تتكفل لنفسها ولا تروى . وقال الحسن : { لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا } : لا تدخر ، إنما تصبح فيرزقها اللّه . وقال ابن عباس : لا يدخر إلا الآدمي والنمل والفأرة والعقعق ، وقيل : البلبل يحتكر في حضنيه ، ويقال : للعقعق مخابىء ، إلا أنه ينساها . وانتفاء حملها لرزقها ، إما لضعفها وعجزها عن ذلك ، وإما لكونها خلقت لا عقل لها ، فيفكر فيما يخبؤه للمستقبل : أي يرزقها على ضعفها .{ وَإِيَّاكُمْ } : أي على قدرتكم على الاكتساب ، وعلى التحيل في تحصيل المعيشة ، ومع ذلك فرازقكم هو اللّه، { وَهُوَ السَّمِيعُ } لقولكم : نخشى الفقر ، { الْعَلِيمُ } بما انطوت عليه ضمائركم . ثم أعقب تعالى ذلك بإقرارهم بأن مبدع العالم ومسخر النيرين هو اللّه . وأتبع ذلك ببسط الرزق وضيقه ، فقال :{ اللّه يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَنْ يَشَاء } أن يبسطه ، { وَيَقْدِرُ } لمن يشاء أن يقدره . والضمير في له ظاهره العود على من يشاء ، فيكون ذلك الواحد يبسط له في وقت ، ويقدر في وقت . ويجوز أن يكون الضمير عائداً عليه في اللفظ ، والمراد لمن يشاء آخر ، فصار نظير :{ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ } : أي من عمر معمر آخر . وقولهم : عندي درهم ونصفه : أي ونصف درهم آخر ، فيكون المبسوط له الرزق غير المضيق عليه الرزق . وقرأ علقمة الحمصي : ويقدر : بضم الياء وفتح القاف وشد الدال ، { عَلِيمٌ } : يعلم ما يصلح العباد وما يفسدهم . ولما أخبر بأنهم مقرون بأن موجد العالم ، ومسخر النيرين ، ومحيي الأرض بعد موتها هو اللّه ، كان ذلك الإقرار ملزماً لهم أن رازق العباد إنما اللّه هو المتكفل به . وأمر رسوله بالحمد له تعالى ، لأن في إقرارهم توحيد اللّه بالإبداع ونفي الشركاء عنه في ذلك ، وكان ذلك حجة عليهم ، حيث أسندوا ذلك إلى اللّه وعبدوا الأصنام .{ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } ، حيث يقرون بالصانع الرازق المحيي ، ويعبدون غيره . ٦٤انظر تسفير الآية:٦٩ ٦٥انظر تسفير الآية:٦٩ ٦٦انظر تسفير الآية:٦٩ ٦٧انظر تسفير الآية:٦٩ ٦٨انظر تسفير الآية:٦٩ ٦٩{وَمَا هَاذِهِ الْحَيَواةُ الدُّنْيَا } : الإشارة بهذه ازدراء للدنيا وتصغير لأمرها ، وكيف لا ؟ وهي لا تزن عند اللّه جناح بعوضة ، أي ما هي في سرعة زوالها عن أهلها وموتهم عنها ، إلا كما يلعب الصبيان ساعة ثم يتفرقون . والحيوان ، والحياة بمعنى واحد ، وهو عند الخليل وسيبويه مصدر حيي ، والمعنى : لهي دار الحياة ، أي المستمرة التي لا تنقطع . قال مجاهد : لا موت فيها . وقيل : الحيوان : الحي ، وكأنه أطلق على الحي اسم المصدر . وجعلت الدار الآخرة حياً على المبالغة بالوصف بالحياة ، وظهور الواو في الحيوان وفي حيوة ، علم لرجل استدل به من ذهب إلى أن الواو في مثل هذا التركيب تبدل ياء لكسر ما قبلها ، نحو : شقي من الشقوة . ومن ذهب إلى أن لام الكلمة لامها ياء ، زعم أن ظهور الواو في حيوان وحيوة بدل من ياء شذوذاً ، وجواب لو محذوف ، أي لو كانوا يعلمون ، لم يؤثروا دار الفناء عليها . وجاء بنا مصدر حي على فعلان ، لأنه يدل على الحركة والاضطراب ، كالغليان ، والنزوان ، واللّهيان ، والجولان ، والطوفان . والحي : كثير الاضطراب والحركة ، فهذا البناء فيه لكثرة الحركة . ولما ذكر تعالى أنهم مقرون باللّه إذا سئلوا : من خلق العالم ؟{ وَمِنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاء مَاء } ؟ ذكر أيضاً حالة أخرى يرجعون فيها إلى اللّه ، ويقرون بأنه هو الفاعل لما يريد ، وذلك حين ركوب البحر واضطراب أمواجه واختلاف رياحه . وقال الزمخشري : فإن قلت : بم اتصل قوله :{ فَإِذَا رَكِبُواْ فِى الْفُلْكِ } ؟ قلت : بمحذوف دل عليه ما وصفهم به ، وشرح من أمرهم معناه على ما وصفوا به من الشرك والعناد . { فَإِذَا رَكِبُواْ فِى الْفُلْكِ دَعَوُاْ اللّه مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ } : كائنين في صورة من يخلص الدين للّه من المؤمنين ، حيث لا يذكرون إلا اللّه ، ولا يدعون مع اللّه آخر . وفي المخلصين ضرب من التهكم ، و { إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ } : جواب لما ، أي فاجأ السحية إشراكهم باللّه ، أي لم يتأخر عنها ولا وقتاً . والظاهر في { لِيَكْفُرُواْ } أنها لام كي ، وعطف عليه { وَلِيَتَمَتَّعُواْ } في قراءة من كسر اللام وهم : العربيان ونافع وعاصم ، والمعنى : عادوا إلى شركهم .{ لِيَكْفُرُواْ } : أي الحامل لهم على الشرك هو كفرهم بما أعطاهم اللّه تعالى ، وتلذذهم بما متعوا به من عرض الدنيا ، بخلاف المؤمنين ، فإنهم إذا نجوا من مثل تلك الشدة ، كان ذلك جالب شكر اللّه تعالى ، وطاعة له مزدادة . وقيل : اللام في :{ لِيَكْفُرُواْ } ،{ وَلِيَتَمَتَّعُواْ } ، لام الأمر ، ويؤيده قراءة من سكن لام وليتمتعوا وهم : ابن كثير ، والأعمش ، وحمزة ، والكسائي ؛ وهذا الأمر على سبيل التهديد ، كقوله :{ اعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ} وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف جاز أن يأمر اللّه تعالى بالكفر ، وبأن يعمل العصاة ما شاوؤا ، وهوناه عن ذلك ومتوعد عليه ؟ قلت : هو مجاز عن الخذلان والتحلية ، وإن ذلك الأمر مسخط إلى غاية . انتهى . والتحلية والخذلان من ألفاظ المعتزلة . وقرأ ابن مسعود : فتمتعوا فسوف تعلمون ، بالتاء فيهما : أي قيل لهم تمتعوا فسوف تعلمون ، وكذا في مصحف أبيّ . وقرأ أبو العالية : فيتمتعوا ، بالياء ، مبنياً للمفعول . ومن قرأ : وليتمتعوا ، بسكون اللام ، وكان عنده اللام في : ليكفروا ، لام كي ، فالواو عاطفة كلاماً على كلام ، لا عاطفة فعلا على فعل . وحكى ابن عطية ، عن ابن مسعود : لسوف تعلمون ، باللام ، ثم ذكرهم تعالى بنعمه ، حيث أسكنهم بلدة أمنوا فيها ، لا يغزوهم أحد ولا يستلب منهم ، مع كونهم قليلي العدد ، قارين في مكان لا زرع فيه ، وهذه من أعظم النعمة التي كفروها ، وهي نعمة لا يقدر عليها إلا اللّه تعالى . وقرأ الجمهور :{ يُؤْمِنُونَ } ، و { يَكْفُرُونَ } ، بالياء فيهما . وقرأ السلمي ، والحسن : بتاء الخطاب فيهما . وافتراؤهم الكذب : زعمهم أن للّه شريكاً ، وتكذيبهم بالحق : كفرهم بالرسول والقرآن . وفي قوله :{ لَمَّا جَاءهُ } : إشعار بأنهم لم يتوقفوا في تكذيبه وقت مجيء الحق لهم ، بخلاف العاقل ، فإنه إذا بلغه خبر ، نظر فيه وفكر حتى يبين له أصدق هو أم كذب . وأليس تقرير لمقامهم في جهنم كقوله : ألستم خير من ركب المطايا و { لِلْكَافِرِينَ } من وضع الظاهر موضع المضمر : أي مثواهم .{ وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا } : أطلق المجاهدة ، ولم يقيدها بمتعلق ، ليتناول المجاهدة في النفس الأمّارة بالسوء والشيطان وأعداء الدين ، وما ورد من أقوال العلماء ، فالمقصود بها المثال . قال ابن عباس : جاهدوا أهواءهم في طاعة اللّه وشكر آلائه والصبر على بلائه .{ لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } : لنزيدنهم هداية إلى سبيل الخير ، كقوله :{ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَءاتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ} وقال السدي : جاهدوا فينا بالثبات على الإيمان ، لنهدينهم سبلنا إلى الجنة . وقال أبو سليمان الداراني : جاهدوا فيما علموا ، لنهدينهم إلى ما لم يعلموا . وقيل : جاهدوا في الغزو ، لنهدينهم سبل الشهادة والمغفرة . وقال ابن عباس : المحسنين الموحدين . وقال غيره : المجاهدون . وقال عبد اللّه بن المبارك : من اعتاصت عليه مسألة ، فليسأل أهل الثغور عنها ، كقوله تعالى :{ لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}{ وَالَّذِينَ } : مبتدأ خبره القسم المحذوف ، وجوابه : وهو لنهدينهم وبهذا ، ونظيره ردّ على أبي العباس ثعلب في منعه أن تقع جملة القسم والمقسم عليه خبراً للمبتدأ ، ونظيره :{ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} |
﴿ ٠ ﴾