٤٥

{وَإِلَى مَدْيَنَ } : أي وإلى مدين أرسلنا ، أو بعثنا ، مما يتعدى بإلى . أمرهم بعبادة اللّه ، والإيمان بالبعث واليوم الآخر . والأمر بالرجاء ، أمر بفعل ما يترتب الرجاء عليه ، أقام المسبب مقام السبب . والمعنى : وافعلوا ما ترجون به الثواب من اللّه ، أو يكون أمراً بالرجاء على تقدفير تحصيل شرطه ، وهو الإيمان باللّه . وقال أبو عبيدة :{ وَارْجُواْ } : خافوا جزاء اليوم الآخر من انتقام اللّه منكم إن لم تعبدوه . وتضمن الأمر بالعبادة والرجاء أنه إن لم يفعلوا ذلك ، وقع بهم العذاب ؛ كذلك جاء :{ فَكَذَّبُوهُ } ، وجاءت ثمرة التكذيب ، وهي :{ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ } ، وتقدم تفسير مثل هذه الجمل . وانتصب { وَعَاداً وَثَمُودَاْ } أهلكنا ، لدلالة فأخذتهم الرجفة عليه .

وقيل : بالعطف على الضمير في فأخذتهم ، وأبعد الكسائي في عطفه على الذين من قوله :{ يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ}

وقرأ : ثمود ، بغير تنوين ؛ حمزة ، وشيبة ، والحسن ، وحفص ، وباقي

السبعة : بالتنوين .

وقرأ ابن وثاب : وعاد وثمود ، بالخفض فيهما ، والتنوين عطفاً على مدين ، أي وأرسلنا إلى عاد وثمود . { وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم } : أي ذلك ، أي ما وصف لكم من إهلاكهم من جهة مساكنهم ، إذا نظرتم إليها عند مروركم لها ، وكان أهل مكة يمرون عليها في أسفارهم .

وقرأ الأعمش : مساكنهم ، بالرفع من غير من ، فيكون فاعلاً بتبين .

{وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ } : أي بوسوسته وإغوائه ، { أَعْمَالَهُمْ } القبيحة .{ فَصَدَّهُمْ عَنِ سَبِيلِ اللّه } ؛ وهي طريق الإيمان باللّه ورسله .{ وَكَانُواْ مُسْتَبْصِرِينَ } : أي في كفرهم لهم به بصر وإعجاب قاله ، ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك .

وقيل : عقلاء ، يعلمون أن الرسالة والآيات حق ، ولكنهم كفروا عناداً ، وجحدوا بها ، واستيقنتها أنفسهم .{ وَقَشرُونَ } : معطوف على ما قبله ، أو منصوب بإضمار اذكر .{ فَاسْتَكْبَرُواْ } : أي عن الإقرار بالصانع وعبادته في الأرض ، إشارة إلى قلة عقولهم ، لأن من في الأرض يشعر بالضعف ، ومن في السماء يشعر بالقوة ، ومن في السماء لا يستكبرون عن عبادة اللّه ، فكيف من في الأرض ؟{ وَمَا كَانُواْ سَابِقِينَ } الأمم إلى الكفر ، أي تلك عادة الأمم مع رسلهم . والحاصب لقوم لوط ، وهي ريح عاصف فيها حصا ،

وقيل : ملك كان يرميهم . والصيحة لمدين وثمود ، والخسف لقارون ، والغرق لقوم نوح وفرعون وقومه . و

قال ابن عطية : ويشبه أن يدخل قوم عاد في الحاصب ، لأن تلك الريح لا بد كانت تحصبهم بأمور مؤذية ، والحاصب : هو العارض من ريح أو سحاب إذا رمي بشيء ، ومنه قول الفرزدق : مستقبلين شمال الشأم تضربهم

بحاصب كنديف القطن منثور

ومنه قول الأخطل : ترمي العضاة بحاصب من بلحها

حتى تبيت على العضاة حفالا

{الْعَنكَبُوتِ } : حيوان معروف ، ووزنه فعللوت ، ويؤنث ويذكر ، فمن تذكيره قول الشاعر : على هطالهم منهم بيوت

كأن العنكبوت هو ابتناها

ويجمع عناكب ، ويصغر عنيكيب . يشبه تعالى الكفار في عبادتهم الأصنام ، وبنائهم أمورهم عليها بالعنكبوت التي تبني وتجتهد ، وأمرها كله ضعيف ، متى مسته أدنى هامة أو هامة أذهبته ، فكذلك أمر أولئك ، وسعيهم مضمحل ، لا قوة له ولا معتمد .

وقال الزمخشري : الغرض تشبيه ما اتخذوه متكلاً ومعتمداً في دينهم ، وتولوه من دون اللّه ، مما هو مثل عند الناس في الوهن وضعف القوة ، وهو نسج العنكبوت . ألا ترى إلى مقطع التشبيه ، وهو قوله :{ ءانٍ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ } ؟ انتهى . يعني بقوله : ألا ترى إلى مقطع التشبيه بما ذكر أولاً من أن الغرض تشبيه المتخذ بالبيت ، لا تشبيه المتخذ بالعنكبوت ؟ والذي يظهر ، هو تشبيه المتخذ من دون اللّه ولياً ، بالعنكبوت المتخذة بيتاً ، أي فلا اعتماد للمتخذ على وليه من دون اللّه ، كما أن العنكبوت لا اعتمادها على بيتها في استظلال وسكنى ، بل لو دخلت فيه خرقته . ثم بين حال بيتها ، وأنه في غاية الوهن ، بحيث لا ينتفع به . كما أن تلك الأصنام لا تنفع ولا تجدي شيئاً ألبتة ، وقوله :{ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } ، ليس مرتبطاً بقوله :{ وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ } ، لأن كل أحد يعلم ذلك ، فلا يقال فيه : لو كانوا يعلمون ؛ وإنما المعنى : لو كانوا يعلمون أن

هذا مثلهم ، وأن أمر دينهم بالغ من الوهن هذه الغاية لأقلعوا عنه ، وما اتخذوا الأصنام آلهة .

وقال الزمخشري : إذا صح تشبيه ما اعتمدوه في دينهم ببيت العنكبوت ، وقد صح أن أوهن البيوت بيت العنكبوت ، فقد تبين أن دينهم أوهن الأديان ، لو كانوا يعلمون ؛ أو أخرج الكلام بعد تصحيح التشبيه مخرج المجاز ، وكأنه قال : وإن أوهن ما يعتمد عليه في الدين عبادة الأوثان ، لو كانوا يعلمون . ولقائل أن يقول : مثل المشرك الذي يعبد الوثن ، بالقياس إلى المؤمن الذي يعبد اللّه ، مثل عنكبوت يتخذ بيتاً ، بالإضافة إلى رجل بنى بيتاً بآجر وجص أو نحته من صخر . فكما أن أوهن البيوت ، إذا استقريتها بيتاً ، بيت العنكبوت ، كذلك أضعف الأديان ، إذا استقريتها ديناً ديناً ، عبادة الأوثان ، لو كانوا يعلمون . انتهى .

وما ذكره من قوله : ولقائل أن يقول إلخ . لا يدل عليه لفظ الآية ، وإنما هو تحميل للفظ ما لا يحتمله ، كعادته في كثير من تفسيره .

وقرأ أبو عمرو ، وسلام : يعلم ما ، بالإدغام ؛ والجمهور : بالفك ؛ والجمهور : تدعون ، بتاء الخطاب ؛ وأبو عمرو ، وعاصم : بخلاف ، بياء الغيبة ؛ وجوزوا في ما أن يكون مفعولاً بيدعون ، أي يعلم الذين يدعون من دونه من جميع الأشياء ، أي يعلم حالهم ، وأنهم لا قدرة لهم . وأن تكون نافية ، أي لستم تدعون من دونه شيئاً له بال ولا قدر ، فيصلح أن يسمى شيئاً ، وأن يكون استفهاماً ، كأنه قدر على جهة التوبيخ على هذا المعبود من جميع الأشياء ، وهي في هذين الوجهين مقتطعة من يعلم ، واعتراض بين يعلم وبين قوله : { وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} وجوز أبو علي أن يكون ما استفهاماً منصوباً بيدعون ، ويعلم معلقة ؛ فالجملة في موضع نصب بها ، والمعنى : أن اللّه يعلم أوثاناً تدعون من دونه ، أم غيرها لا يخفى عليه ذلك . والجملة تأكيد للمثل ، وإذا كانت ما نافية ، كان في الجملة زيادة على المثل ، حيث لم يجعل تعالى ما يدعونه شيئاً .{ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } : فيه تجهيل لهم ، حيث عبدوا ما ليس بشيء ، لأنه جماد ليس معه مصحح العلم والقدرة أصلاً ، وتركوا عبادة القادر القاهر الحكيم الذي لا يفعل شيئاً إلا لحكمة .{ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ } : أي لا يعقل صحتها وحسنها وفائدتها .

وكان جهلة قريش يقولون : إن رب محمد يضرب المثل بالذباب والعنكبوت ، ويضحكون من ذلك ، وما علموا أن الأمثال والتشبيهات طرق إلى المعاني المحتجبة ، فتبرزها وتصورها للفهم ، كما صور هذا التشبيه الفرق بين حال المشرك وحال الموحد . والإشارة بقوله :{ وَتِلْكَ الاْمْثَالُ } إلى هذا المثل ، وما تقدم من الأمثال في السور . وعن جابر ، أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، تلا هذه الآية فقال : { العالم من عقل عن اللّه فعمل بطاعته واجتنب سخطه} .

{خُلِقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ } : فيه تنبيه على صغر قدر الأوثان التي عبدوها . ومعنى { بِالْحَقّ } : بالواجب الثابت ، لا بالعبث واللعب ، إذ جعلها مساكن عباده ، وعبرة ودلائل على عظيم قدرته وباهر حكمته . والظاهر أن الصلاة هي المعهود ، والمعنى : من شأنها أنها إذا أدّيت على ما يجب من فروضها وسننها والخشوع فيها ، والتدبر لما يتلو فيها ، وتقدير المثول بين يدي اللّه تعالى ، أن { تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنْكَرِ}

وقال ابن عباس ، والكلبي ، وابن جريج ، وحماد بن أبي سليمان : تنهى ما دام المصلي فيها .

وقال ابن عمر : الصلاة هنا القرآن . وقال ابن بحر : الصلاة : الدعاء ، أي أقم الدعاء إلى أمر اللّه ،

وأما من تراه من المصلين يتعاطى المعاصي ، فإن صلاته تلك ليست بالوصف الذي تقدم .

وفي الحديث أن فتى من الأنصار كان يصلي مع النبي صلى اللّه عليه وسلم ، ولا يدع شيئاً من الفواحش والسرقة إلا ارتكبه ، فقيل ذلك للنبي صلى اللّه عليه وسلم ، فقال : { إن صلاتها تنهاه} . فلم يلبث أن تاب وصلحت حاله ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : { ألم أقل لكم ؟ } ولا يدل اللفظ على أن كل صلاة تنهى ، بل المعنى ، أنه يوجد ذلك فيها ، ولا يكون على العموم . كما تقول : فلان يأمر بالمعروف ، أي من شأنه ذلك ، ولا

يلزم منه أن كل معروف يأمر به . والظاهر أن { أَكْبَرَ } أفعل تفضيل . فقال عبد اللّه ، وسلمان ، وأبو الدرداء ، وابن عباس ، وأبو قرة : معناه ولذكر اللّه إياكم أكبر من ذكركم إياه . وقال قتادة ، وابن زيد : أكبر من كل شيء ؛

وقيل : ولذكر اللّه في الصلاة أكبر منه خارج الصلاة ، أي أكبر ثواباً ؛

وقيل : أكبر من سائر أركان الصلاة ؛

وقيل : ولذكر اللّه نهيه أكبر من نهي الصلاة ؛

وقيل : أكبر من كل العبادة . و

قال ابن عطية : وعندي أن المعنى : ولذكر اللّه أكبر على الإطلاق ، أي هو الذي ينهى عن الفحشاء والمنكر ، والجزء الذي منه في الصلاة ينهى ، كما ينهى في غير الصلاة ، لأن الانتهاء لا يكون إلاّ من ذاكر اللّه مراقبه ، وثواب ذلك الذاكر أن يذكره اللّه في ملأ خير من ملئه ، والحركات التي في الصلاة لا تأثيرلها في النهي ، والذكر النافع هو مع العلم وإقبال القلب وتفرغه إلا من اللّه .

وأما ما لا يجاوز اللسان ففي رتبة أخرى .

وقال الزمخشري : يريد والصلاة أكبر من غيرها من الطاعات ، وسماها بذكر اللّه ، كما قال :{ فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللّه } ، وإنما قال :{ وَلَذِكْرُ اللّه } ، لتستقل بالتعليل ، كأنه قال : والصلاة أكبر ، لأنها ذكر اللّه مما تصنعون من الخير والشر فيجازيكم ، وفيه وعيد وحث على المراقبة .

﴿ ٤٥