سورة الروم

مكية

بسم اللّه الرحمن الرحيم

١

انظر تسفير الآية:٨

٢

انظر تسفير الآية:٨

٣

انظر تسفير الآية:٨

٤

انظر تسفير الآية:٨

٥

انظر تسفير الآية:٨

٦

انظر تسفير الآية:٨

٧

انظر تسفير الآية:٨

٨

هذه السورة مكية ، قال ابن عطية وغيره ، بلا خلاف .

وقال الزمخشري : إلا قوله : { فَسُبْحَانَ اللّه} وسبب نزولها أن كسرى بعث جيشاً إلى الروم ، وأمر عليهم رجلاً ، واختلف النقلة في اسمه ؛ فسار إليهم بأهل فارس ، وظفر وقتل وخرب وقطع زيتونهم ، وكان التقاؤهم بأذرعات وبصرى ، وكان قد بعث قيصر رجلاً أميراً على الروم . وقال مجاهد : التقت

بالجزيرة . وقال السدي : بأرض الأردن وفلسطين ، فشق ذلك على المسلمين لكونهم مع الروم أهل الكتاب ، وفرح بذلك المشركون لكونهم مع المجوس ليسوا بأهل كتاب . وأخبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، أن الروم { سَيَغْلِبُونَ فِى بِضْعِ سِنِينَ}

ونزلت أوائل الروم ، فصاح أبو بكر بها في نواحي مكة :{ الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِى أَدْنَى الاْرْضِ وَهُم مّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِى بِضْعِ سِنِينَ} فقال ناس من مشركي قريش : زعم صاحبك أن الروم ستغلب فارساً في بضع سنين ، أفلا نراهنك على ذلك ؟ فقال : بلى ، وذلك قبل تحريم الرهان . فاتفقوا أن جعلوا بضع سنين وثلاث قلائص ، وأخبر أبو بكر رسول اللّه بذلك فقال : { هلا اختطبت ؟ فارجع فزدهم في الأجل والرهان} . فجعلوا القلائص مائة ، والأجل تسعة أعوام . فظهرت الروم على فارس في السنة السابعة ، وكان ممن راهن أبيّ بن خلف . فلما أراد أبو بكر الهجرة ، طلب منه أبيّ كفيلاً بالخطر إن غلبت ، فكفل به ابنه عبد الرحمن . فلما أراد أبيّ الخروج إلى أحد ، طلبه عبد الرحمن بالكفيل ، فأعطاه كفيلاً ومات أبيّ من جرح جرحه النبي صلى اللّه عليه وسلم. وظهر الروم على فارس يوم الحديبية .

وقيل : كان النصر يوم بدر للفريقين ، فأخذ أبو بكر الخطر من ذرية أبي ، وجاء به إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقال له : { تصدق به} .

وسبب ظهور الروم ، أن كسرى بعث إلى شهريزان ، وهو الذي ولاه على محاربة الروم ، أن اقتل أخاك فرّخان لمقالة قالها ، وهي قوله : لقد رأيتني جالساً على سرير كسرى ، فلم يقتله . فبعث إلى فارس أني عزلت شهريزان ووليت أخاه فرّخان ، وكتب إليه : إذا ولي ، أن يقتل أخاه شهريزان ، فأراد قتله ، فأخرج له شهريزان ثلاث صحائف من كسرى يأمره بقتل أخيه فرّخان . قال : وراجعته في أمرك مراراً ، ثم تقتلني بكتاب واحد ؟ فرد الملك إلى أخيه . وكتب شهريزان إلى قيصر ملك الروم ، فتعاونا على كسرى ، فغلبت الروم فارس ، وجاء الخبر ، ففرح المسلمون . وكان ذلك من الآيات البينات الشاهدة بصحة النبوة ، وأن القرآن من عند اللّه ، لأنها إيتاء من علم الغيب الذي لا يعلمه إلاّ اللّه .

وقرأ علي ، وأبو سعيد الخدري ، وابن عباس ، وابن عمر ، ومعاوية بن قرة ، والحسن :{ غُلِبَتِ الرُّومُ } : مبنياً للفاعل ، { سَيَغْلِبُونَ } : مبنياً للمفعول ؛ والجمهور : مبنياً للمفعول ، سيغلبون : مبنياً للفاعل . وتأويل ذلك على ما فسره ابن عمران : الروم غلبت على أدنى ريف الشأم ، يعنى : بالريف السواد . وجاء كذلك عن عثمان ، وتأوله أبو حاتم على أن الروم غلبت يوم بدر ، فعز ذلك على كفار قريش ، وسر المؤمنون ، وبشر اللّه عباده بأنهم سيغلبون في بضع سنين . انتهى . فيكون قد أخبر عن الروم بأنهم قد غلبوا ، وبأنهم سيغلبون ، فيكون غلبهم مرتين .

قال ابن عطية : والقراءة بضم الغين أصح . وأجمع الناس على سيغلبون بفتح الياء ، يراد به الروم . وروي عن ابن عمر أنه قرأ سيغلبون بضم الياء ، وفي هذه القراءة قلب المعنى الذي تظاهرت به الروايات . انتهى . وقوله : وأجمعوا ، ليس كذلك . ألا ترى أن الذين قرؤا غلبت بفتح الغين هم الذين قرؤا سيغلبون بضم الياء وفتح اللام ، وليست هذه مخصوصة بابن عمر ؟

وقرأ الجمهور : غلبهم ، بفتح الغين واللام : وعلي ، وابن عمر ، ومعاوية بن قرة : بإسكانها ؛ والقياس عن ابن عمر : وغلابهم ، على وزن كتاب . والروم : طائفة من النصارى ، وأدنى الأرض : أقر بها : فإن كانت الواقعة في أذرعات ، فهي أدنى الأرض بالنظر إلى مكة ، وهي التي ذكرها امرؤ القيس في قوله : تنوّرتها من أذرعات وأهلها

بيثرب أدنى دارها نظر عال

وإن كانت بالجزيرة ، فهي أدنى بالنظر إلى أرض كسرى . فإن كانت بالاردن ، فهي أدنى بالنظر إلى أرض الروم .

وقرأ الكلبي :{ فِى أَدْنَى الاْرْضِ } ، وتقدم الكلام في مدلول البضع باعتبار القراءتين . ففي غلبت ، بضم الغين ، يكون مضافا

للمفعول ؛ وبالفتح ، يكون مضافاً للفاعل ، ويكون المعنى : سيغلبهم المسلمون في بضع سنين ، عند انقضاء هذه المدة التي هي أقصى مدلول البضع .

أخذ المسلمون في جهاد الروم ، وكان شيخنا الأستاذ أبو جعفر بن الزبير يحكي عن أبي الحكم بن برجان أنه استخرج من قوله تعالى : { الم غُلِبَتِ الرُّومُ } إلى قوله :{ فِى بِضْعِ سِنِينَ } ، افتتاح المسلمين بيت المقدس ، معيناً زمانه ويومه ، وكان إذ ذاك بيت المقدس قد غلبت عليه النصارى ، وأن ابن برجان مات قبل الوقت الذي كان عينه للفتح ، وأنه بعد موته بزمان افتتحه المسلمون في الوقت الذي عينه أبو الحكم . وكان أبو جعفر يعتقد في أبي الحكم هذا ، أنه كان يطلع على أشياء من المغيبات يستخرجها من كتاب اللّه .

{للّه الاْمْرُ } : أي إنفاذ الأحكام وتصريفها على ما يريد .

وقرأ الجمهور :{ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ } ، بضمهما : أي من قبل غلبة الروم ومن بعدها . ولما كانا مضافين إلى معرفة ، وحذفت بنيا على الضم ، والكلام على ذلك مذكور في علم النحو .

وقرأ أبو السمال ، والجحدري ، وعون العقيلي : من قبل ومن بعد ، بالكسر والتنوين فيهما .

قال الزمخشري : على الجر من غير تقدير مضاف إليه واقتطاعه ، كأنه قيل : قبلاً وبعداً ، بمعنى أولاً وآخراً . انتهى . و

قال ابن عطية : ومن العرب من يقول : من قبل ومن بعد ، بالخفض والتنوين . قال الفراء : ويجوز ترك التنوين ، فيبقى كما هو في الإضافة ، وإن حذف المضاف . انتهى . وأنكر النحاس ما قاله الفراء ورده ، وقال الفراء في كتابه : في القرآن أشياء كثيرة من الغلط ، منها : أنه زعم أنه يجوز من قبل ومن بعد ، وإنما يجوز من قبل ومن بعد على أنهما نكرتان ، والمعنى : من متقدم ومن متأخر .

وحكى الكسائي عن بعض بني أسد للّه : الأمر من قبل ومن بعد الأول مخفوض منوّن ، والثاني مضموم بلا تنوين . والظاهر أن يومئذ ظرف { يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ } ، وعلى هذا المعنى فسره المفسرون .

وقيل :{ وَيَوْمَئِذٍ } عطف على :{ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ } ، كأنه حصر الأزمنة الثلاثة : الماضي والمستقبل والحال ، ثم ابتدأ الإخبار بفرح المؤمنين بالنصر . و { بِنَصْرِ اللّه } : أي الروم على فارس ، أو المسلمين على عدوهم ، أو في أن صدق ما قال الرسول من أن الروم ستغلب فارس ، أو في أن يسلط بعض الظالمين على بعض ، حتى تفانوا وتناكصوا ، احتمالات . وفي الحديث : { فارس نطحة أو نطحتان ، ثم لا فارس بعدها أبداً ، والروم ذات القرون ، كلما ذهب قرن خلف قرن إلى آخر الأبد} .

وقال ابن عباس : يوم بدر كانت هزيمة عبدة الأوثان وعبدة النيران ، وقال معناه أبو سعيد الخدري ،

وقيل : ورد الخبر يوم الحديبية بوفاة كسرى ، فسر المسلمون بحرب المشركين ، ولموت عدو لهم في الأرض متمكن . وهو { الْعَزِيزُ } بانتقامه من أعدائه ، { الرَّحِيمِ } لأوليائه . وانتصب { وَعَدَ اللّه } على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة التي تقدمت ، وهو قوله :{ سَيَغْلِبُونَ } ، وقوله :{ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ}{ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ } الكفار من قريش وغيرهم ، { لاَّ يَعْلَمُونَ } : نفي عنهم العلم النافع للآخرة ، وقد أثبت لهم العلم بأحوال الدنيا . قيل : والمعنى لا يعلمون أن الأمور من عند اللّه ، وأن وعده لا يخلفه ، وأن ما يورده بعينه / صلى اللّه عليه وسلم ، حق .{ يَعْلَمُونَ ظَاهِراً } : أي بيناً ، أي ما أدّته إليهم حواسهم ، فكأن علومهم إنما هي علوم البهائم .

وقال ابن عباس ، والحسن ، والجمهور : معناه ما فيه الظهور والعلوّ في الدنيا من اتقان الصناعات والمباني ومظان كسب المال والفلاحات ، ونحو هذا . وقالت فرقة : معناه ذاهباً زائلاً ، أي يعلمون أمور الدنيا التي لا بقاء لها ولا عاقبة . وقال الهذلي : وعيرها الواشون أني أحبها

وتلك شكاة ظاهر عنك عارها

أي : زائل . وقال ابن جبير :{ ظَاهِراً } ،أي يعلمون من قبل الكهنة مما يسترقه الشياطين . وقال الرماني : كل ما يعلم بأوائل الرؤية فهو الظاهر ، وما يعلم بدليل العقل فهو الباطن .

وقال الزمخشري :{ يَعْلَمُونَ } بدل من قول :{ لاَّ يَعْلَمُونَ } ، وفي هذا الإبدال من النكتة أنه أبدله منه ، وجعله بحيث يقوم مقامه ويسد مسده ، لنعلمك أنه لا فرق بين عدم العلم الذي هو الجهل ، وبين وجود العلم الذي لا يتجاوز الدنيا . وقوله :{ ظَاهِراً مّنَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا } : يفيد أن للدنيا ظاهراً اً وباطناً ، فظاهرها ما

يعرفه الجهال من التمتع بزخارفها والتنعم بملاذها ، وباطنها وحقيقتها أنها مجاز للآخرة ، يتزود إليها منها بالطاعة والأعمال الصالحة ؛ وهم الثانية توكيد لهم الأولى ، أو مبتدأ . وفي إظهارهم على أي الوجهين ، كانت تنبيه على غفلتهم التي صاروا ملتبسين بها ، لا ينفكون عنها . و { فِى أَنفُسِهِمْ } : معمول ليتفكروا ، إما على تقدير مضاف ، أي في خلق أنفسهم ليخرجوا من الغفلة ، فيعلموا أنهم يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا فقط ، ويستدلوا بذلك على الخالق المخترع .

ثم أخبر عقب هذا بأن الحق هو السبب في خلق السموات والأرض ؛

وأما على أن يكون { فِى أَنفُسِهِمْ } ظرفاً للفكرة في خلق السموات والأرض ، فيكون { فِى أَنفُسِهِمْ } توكيداً لقوله :{ يَتَفَكَّرُونَ } ، كما تقول : أبصر بعينك واسمع بأدنك .

وقال الزمخشري : في هذا الوجه كأنه قال : أو لم يحدثوا التفكر في أنفسهم ؟ أي في قلوبهم الفارغة من الفكر . والفكر لا يكون إلا في القلوب ، ولكنه زيادة تصوير لحال المتفكرين ، كقولك : اعتقده في قلبك وأضمره في نفسك . وقال أيضاً : يكون صلة المتفكر ، كقولك : تفكر في الإمر وأجال فكره . و { مَّا خَلَقَ اللّه } متعلق بالقول المحذوف ، معناه : أو لم يتفكروا ، فيقولوا هذا القول ؟

وقيل معناه : فيعلموا ، لأن في الكلام دليلاً عليه . انتهى . والدليل هو قوله :{أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُواْ}

وقيل :{أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُواْ } متصل بما بعده ، ومثله : ثم { يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مّن جِنَّةٍ } ، ومثله :{ وَظَنُّواْ مَا لَهُمْ مّن مَّحِيصٍ } ، فيكون في بمعنى الباء ، ثم { يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مّن } ، كأنه قال : أو لم يتفكروا بقلوبهم فيعلموا . انتهى . ويجوز أن يكون تفكروا هنا معلقة ، ومتعلقها الجملة من قوله :{ مَا خَلَقَ } إلى آخرها . و { فِى أَنفُسِهِمْ } : ظرف على سبيل التأكيد ، لأن الفكر لا يكون إلا في النفس ، كما أن الكتابة لا تكون إلا باليد . و { بِالْحَقّ } : في موضع الحال ، أي وهي ملتبسة بالحق مقترنة به ، وبتقدير أجل مسمى لا بد لها أن تنتهي إليه وهو : قيام الساعة ، ووقت الحساب والثواب والعقاب . ألا ترى إلى قوله :{ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ} كيف سمى تركهم غير راجعين إليه عبثاً ؟ والمراد بلقاء ربهم : الأجل المسمى .

و

قال ابن عطية :{ إِلاَّ بِالْحَقّ } ،أي بسبب المنافع التي هي حق واجب ، يريد من الدلالة عليه والعبادة له دون فتور ، والانتصار للعبرة ومنافع الإرفاق وغير ذلك .{ وَأَجَلٌ } عطف على الحق ، أي وبأجل مسمى ، وهو يوم القيامة . ففي الآية إشارة إلى البعث والنشور وفساد بنية هذا العالم . ثم أخبر عن كثير من الناس أنهم كفروا بذلك المعنى ، فعبر عنها بلقاء اللّه ، لأن لقاء اللّه هو عظيم الأمر ، فيه النجاة والهلكة . انتهى .

وقال أبو عبد اللّه الرازي : قدم هنا دلائل الأنفس على دلائل الآفاق ، وفي :{ سَنُرِيهِمْ ءايَاتِنَا فِى الاْفَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ } دلائل الآفاق على دلائل الأنفس ، وحكمة ذلك أن المفيد يذكر الفائدة على وجه يختارها ، فإن فهمت ، وإلا انتقل إلى الأبين . والمستفيد يفهم أولاً الأبين ، ثم يرتقي إلى الأخفى . وفي {أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُواْ } بفعل مسند إلى السامع ، فبدأ بما يفهم أولاً ، ثم ارتقى إليه ثانياً . وفي { سَنُرِيهِمْ } أسند إلى المفيد ، فذكر أولاً ، الآفاق ، فإن لم يفهموا ، فالأنفس ، إذ لا ذهول للإنسان عن دلائلها ، بخلاف دلائل الآفاق ، لأنه قد يذهل عنها ، وهذا مراعي في { الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّه قِيَاماً وَقُعُوداً } الآية . بدأ بأحوال الأنفس ، ثم بدلائل الآفاق . وقال أيضاً هنا :{ وَإِنَّ كَثِيرًا } ،{ وَقَبْلَ } ،{ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ } ، وذلك أن هنا ذكر كثيراً بعد ذكر الدلائل الواضحة ، وهما :{أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُواْ فِى أَنفُسِهِمْ } ، و { مَّا خَلَقَ اللّه} والإيمان بعد الدلائل أكثر من الإيمان قبلها ، فبعد ذكر الدليل ، لا بد أن يؤمن من ذلك الأكثر جمع ، فلا يبقى الأكثر . انتهى ، وفيه تلخيص . ولا يتم كلامه الأول إلا إذا جعل { فِى أَنفُسِهِمْ } محلاً للتفكر ، وجعل { مَا خَلَقَ } أيضاً محلاً ثانياً .

٩

انظر تسفير الآية:١٦

١٠

انظر تسفير الآية:١٦

١١

انظر تسفير الآية:١٦

١٢

انظر تسفير الآية:١٦

١٣

انظر تسفير الآية:١٦

١٤

انظر تسفير الآية:١٦

١٥

انظر تسفير الآية:١٦

١٦

{أَوَ لَمْ يَسِيرُواْ فِى الاْرْضِ } : هذا تقرير توبيخ ، أي قد ساروا ونظروا إلى ما حمل ممن كان قبلهم من مكذبي الرسل ، ووصف حالهم من الشدة وإثارة الأرض وعمارتها ، وأنهم أقوى منهم في ذلك . قال مجاهداً :{ وَأَثَارُواْ الاْرْضَ } : حرثوها . وقال الفراء : قلبوها للزراعة . وقال غيرهما : قلبوا وجه الأرض لاستنباط المياه ، واستخراج المعادن ، وإلقاء البذر فيها للزراعة ؛ والإثارة : تحريك الشيء حتى يرتفع ترابه .

وقرأ أبو جعفر : وآثاروا الأرض ، بمدة بعد الهمزة . وقال ابن مجاهد : ليس بشيء ، وخرجه أبو الفتح على الإشباع كقوله :

ومن ذم الزمان بمنتزاح

وقال : من ضرورة الشعر ، ولا يجيء في القرآن .

وقرأ أبو حيوة : وآثروا من الإثرة ، وهو الاستبداد بالشيء . وقرىء : وأثروا الأرض : أي أبقوا عنها آثاراً . { وَعَمَرُوهَا } : من العمارة ، أي بقاؤهم فيها أكثر من بقاء هؤلاء ، أو من العمران : أي سكنوا فيها ، أو من العمارة .

قال الزمخشري :{ أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا } : من عمارة أهل مكة ، وأهل مكة أهل واد غير ذي زرع ، ما لهم إثارة الأرض أصلاً ، ولا عمارة لهم رأساً ، فما هو إلاّ تهكم بهم وتضعيف حالهم في دنياهم ، لأن معظم ما يستظهر به أهل الدنيا ويتباهون به أمر الدهقنة ، وهم أيضاً ضعاف القوى .{ فَمَا كَانَ اللّه لِيَظْلِمَهُمْ } : قبله محذوف ، أي فكذبوهم فأهلكوا .

وقرأ الحرميان ، وأبو عمرو :{ ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ } بالرفع اسما لكان ، وخبرها { السوأى } ،أو هو تأنيث الأسوإ ، افعل من السوء .{ السُّوءى أَن كَذَّبُواْ } : مفعول من أجله متعلق بالخبر ، لا بأساء ، وإلا كان فيه الفصل بين الصلة ومتعلقها بالخبر ، وهو لا يجوز ؛ والمعنى : ثم كان عاقبتهم ، فوضع المظهر موضع المضمر .{ السوأى } : أي العقوبة التي هي أسوأ العقوبات في الآخرة ، وهي جهنم . ويجوز أن تكون { السوأى } مصدراً على وزن فعلى ، كالرجعى ، وتكون خبراً أيضاً . ويجوز أن تكون مفعولاً بأساء بمعنى اقترفوا ، وصفة مصدر محذوف ، أي الإساءة السوأى ، ويكون خبر كان { السُّوءى أَن كَذَّبُواْ}

وقرأ الأعمش والحسن : السوى ، بإبدال الهمزة واواً وإدغام الواو فيها ، كقراءة من قرأ :{ بِالسُّوء } ، بالإدغام في يوسف .

وقرأ ابن مسعود : السوء ، بالتذكير .

وقرأ الكوفيون وابن عامر :{ عَاقِبَةُ } ، بالنصب ، خبر كان ، والاسم السوأى ، أو السوء مفعول ، وكذبوا الاسم .

وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون أن بمعنى : أي تفسير الإساءة التكذيب والاستهزاء ، كانت في بمعنى القول ، نحو : نادى وكتب . ووجه آخر ، وهو أن يكون { أساؤا السوأى } بمعنى : اقترفوا الخطيئة التي هي أسوأ الخطايات ، { وَأَنْ كَذَّبُواْ } عطف بيان لها ، وخبر كان محذوف ، كما يحذف جواب لما ولو إرادة الإبهام . انتهى . وكون أن هنا حرف تفسير متكلف جداً .

وأما قول الخطايات فكذا هو في النسخة التي طالعناها ، جمع جمع تكسير بالألف والتاء ، وذلك لا ينقاس ، إنما يقتصر فيه على مورد السماع ، ولا يبعد أن يكون زيادة التاء في الخطايات من الناسخ .

وأما قوله :{ وَأَنْ كَذَّبُواْ } عطف بيان لها ، أي للسوأى ، وخبر كان محذوف الخ . فهذا فهم أعجمي ، لأن الكلام مستقل في غاية الحسن بلا حذف ، فيتكلف له محذوفاً يدل عليه دليل . وأصحابنا لا يجيزون حذف خبر كان وأخواتها ، لا اقتصاراً ولا اختصاراً ، إلا إن ورد منه شيء ، فلا ينقاس عليه .

وقرأ عبد اللّه وطلحة : يبدىء ، بضم الياء وكسر الدال ؛ والجمهور : بفتحها ؛ والأبوان : يرجعون ، بياء الغيبة ؛ والجمهور : بتاء الخطاب ، أي إلى ثوابه وعقابه ؛ والجمهور : يبلس ، بكسر اللام ؛ وعلي والسلمي : بفتحها ، من أبلسه إذا أسكته ؛ والجمهور : ولم يكن ، بالياء ؛ وخارجة والأريس ، كلاهما عن نافع ، وابن سنان عن أبي جعفر ، والأنطاكي عن شيبة : بتاء التأنيث .{ مّن شُرَكَائِهِمْ } : من الذين عبدوهم من دون اللّه ، وهي الأوثان ، وأضيفوا إليهم لأنهم أشركوهم في أموالهم ،

وقيل : لأنهم اتخذوها بزعمهم شركاء للّه . وقال مقاتل : المراد بهم الملائكة شفعاء للّه ، كما زعموا :{ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى اللّه زُلْفَى}{ وَكَانُواْ } معناه : ويكون عند معاينتهم أمر اللّه وفساد حال الأصنام عبر بالماضي ، لتيقن الأمر وصحة وقوعه . وكتب السوأى بالألف قبل الياء ، كما كتبوا علماء بني إسرائيل بواو قبل الألف والتنوين في { يَوْمَئِذٍ } ، تنوين عوض من الجملة المحذوفة ، أي { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ } ، يوم إذ { يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ} والضمير في { يَتَفَرَّقُونَ } للمسلمين والكافرين ، لدلالة ما بعده عليه .

قال الزمخشري : ويظهر أنه عائد على ما قبله ، إذ قبله :{ اللّه يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} قال قتادة : هي فرقة ، لا اجتماع بعدها .

{فِى رَوْضَةٍ } ، الروضة ، الأرض ذات النبات والماء ، وفي المثل : أحسن من بيضة ، يريدون : بيض النعامة ، والروضة مما تعجب

العرب ، وقد أكثروا من مدحها في أشعارهم . { يُحْبَرُونَ } : يسرون . حبره : سره سروراً ، وتهلل له وجهه وظهر له أثره . يحبر بالضم ، حبراً وحبرة وحبوراً ، وفي المثل : امتلأت بيوتهم حبرة فهم ينتظرون العبرة .

وحكى الكسائي : حبرته : أكرمته ونعمته . وقال علي بن سليمان : هو من قولهم : على أسنانه حبرة ، أي أثر ، أي يسير عليهم أثر النعمة .

وقيل : من التحبير ، وهو التحسين ، أي يحسنون .

ويقال : فلان حسن الحبر والسبر ، بالفتح ، إذا كان جميلاً حسن الهيئة .

وقال ابن عباس ، والضحاك ، ومجاهد : يكرمون . وقال يحيى بن أبي كثير ، والأوزاعي ، ووكيع : يسمعون الأغاني . وقال أبو بكر ، وابن عباس : يتوجون على رؤوسهم . وقال ابن كيسان : يحلون . ومعنى { مُحْضَرُونَ } : مجموعون له ، لا يغيب أحد منهم عنه بقوله :{ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا } ، وجاء في روضة منكراً وفي معرفاً .

قال الزمخشري : والتنكير لإيهام أمرها وتفخيمه ، وجاء يحبرون بالفعل المضارع لاستعماله للتجدد ، لأنهم كل ساعة يأتيهم ما يسرون به من متجددات الملاذ وأنواعها المختلفة . وجاء { مُحْضَرُونَ } باسم الفاعل لاستعماله للثبوت ، فهم إذا دخلوا العذاب يبقون فيه محضرين ، فهو وصف لاذم لهم .

١٧

انظر تسفير الآية:٢٥

١٨

انظر تسفير الآية:٢٥

١٩

انظر تسفير الآية:٢٥

٢٠

انظر تسفير الآية:٢٥

٢١

انظر تسفير الآية:٢٥

٢٢

انظر تسفير الآية:٢٥

٢٣

انظر تسفير الآية:٢٥

٢٤

انظر تسفير الآية:٢٥

٢٥

لما بين تعالى عظيم قدرته في خلق السموات والأرض بالحق ، وهو حالة ابتداء العالم ، وفي مصيرهم إلى الجنة والنار ، وهي حالة الانتهاء ، أمر تعالى بتنزيهه من كل سوء . والظاهر أنه أمر عباده بتنزيهه في هذه الأوقات ، لما يتجدد فيها من النعم . ويحتمل أن يكون كناية عن استغراق زمان العبد ، وهو أن يكون ذاكراً ربه ، واصفه بما يجب له على كل حال .

وقال الزمخشري : لما ذكر الوعد والوعيد ، أتبعه ذكر ما يوصل إلى الوعد وينجي من الوعيد .

وقيل : المراد هنا بالتسبيح : الصلاة . فعن ابن عباس وقتادة : المغرب والصبح والعصر والظهر ،

وأما العشاء ففي قوله :{ وَزُلَفاً مِّنَ الَّيْلِ}

وعن ابن عباس : الخمس ، وجعل { حِينَ تُمْسُونَ } شاملاً للمغرب والعشاء .{ وَلَهُ الْحَمْدُ فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ } : اعتراض بين الوقتين ،

ومعناه : أن الحمد واجب على أهل السموات وأهل الأرض ، وكان الحسن يذهب إلى أن هذه الآية مدنية ، لأنه كان يقول : فرضت الخمس بالمدينة . وقال الأكثرون : بل فرضت بمكة ؛ وفي التحرير ، اتفق المفسرون على أن الخمس داخلة في هذه الآية .

وعن ابن عباس : ما ذكرت الخمس إلا فيها ، وقدم الإمساء على الإصباح ، كما قدم في قول { يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ } ، والظلمات على النور ، وقابل بالعشي الإمساء ، وبالإظهار الإصباح ، لأن كلا منهما يعقب بما يقابله ؛ فالعشي يعقبه الإمساء ، والإصباح يعقبه الإظهار . ولما لم يتصرف من العشي فعل ، لا يقال أعشى ، كما يقال أمسى وأصبح وأظهر ، جاء التركيب { وَعَشِيّاً}

وقرأ عكرمة : حينا تمسون وحينا تصبحون ، بتنوين حين ، والجملة صفة حذف منها العائد تقديره : تمسون فيه وتصبحون فيه . ولما ذكر الإبداء والإعادة ، ناسب ذكره :{ يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيّتِ } ، وتقدم الكلام على هذه الآية في آل عمران .{ وَكَذالِكَ } : أي مثل ذلك الإخراج ، والمعنى : تساوي الإبداء والإعادة في حقه تعالى .

وقرأ الجمهور :{ تُخْرَجُونَ } ، بالتاء المضمومة ، مبنياً للمفعول ؛ وابن وثاب وطلحة والأعمش : بفتح تاء الخطاب وضم الراء .

ثم ذكر تعالى آياته من بدء خلق الإنسان ، آية آية ، إلى حين بعثه من القبر فقال :{ وَمِنْ ءايَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ } : جعل خلقهم من تراب ، حيث كان خلق أباهم آدم من تراب . و { تَنتَشِرُونَ } : تتصرفون في أغراضكم بثم المقتضية المهلة والتراخي . ونبه تعالى على عظيم قدرته بخلق الإنسان من تراب ، وهو أبعد الأشياء عن درجة الإحياء ، لأنه بارد يابس ، والحياة بالحرارة والرطوبة ، وكذا الروح نير وثقيل ، والروح خفيف وساكن ، والحيوان متحرك إلى الجهات الست ، فالتراب أبعد من قبول الحياة من سائر الأجسام .{ مّنْ أَنفُسِكُمْ } : فيها قولاً{ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } ، إما كون حواء خلقت من ضلع آدم ،

وأما من جنسكم ونوعكم . وعلل خلق الأزواج بالسكون إليها ، وهو الإلف . فمتى كان من الجنس ، كان بينهما تألف ، بخلاف الجنسين ، فإن يكون بينهما التنافر ، وهذه الحكمة في بعث الرسل من جنس بني آدم .

ويقال : سكن إليه : مال ، ومنه السكن : فعل بمعنى مفعول .{ مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً } : أي بالأزواج ، بعد أن لم يكن سابقة تعارف يوجب التواد . وقال مجاهد والحسن وعكرمة : المودة : النكاح ، والرحمة : الولد ، كنى بذلك عنهما .

وقيل : مودّة للشابة ، ورحمة للعجوز .

وقيل : مودة للكبير ، ورحمة للصغير .

وقيل : هما اشتباك الرحم .

وقيل : المودة من اللّه ، والبغض من الشيطان .

{وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ } : أي لغاتكم ، فمن اطلع على لغات رأى من اختلاف تراكيبها أو قوانينها ، مع اتحاد المدلول ، عجائب وغرائب في المفردات والمركبات . وعن وهب : أن الألسنة اثنان وسبعون لساناً ، في ولد حام سبعة عشر ، وفي ولد سام تسعة عشر ، وفي ولد يافث ستة وثلاثون .

وقيل : المراد باللغات : الأصوات والنغم .

وقال الزمخشري : الألسنة : اللذات وأجناس النطف وأشكاله . خالف عز وجل بين هذه الأشياء حتى لا تكاد تسمع منطقين متفقين في همس واحد ، ولا جهارة ، ولا حدة ، ولا رخاوة ، ولا فصاحة ، ولا لكنة ، ولا نظم ، ولا أسلوب ، ولا غير ذلك من صفات النطق وأحواله . انتهى .{ وَأَلْوانِكُمْ } : السواد والبياض وغيرهما ، والأنواع والضروب بتخطيط الصور ، ولولا ذلك الاختلاف ، لوقع الالتباس وتعطلت مصالح كثيرة من المعاملات وغيرها . وفيه آية بينة ، حيث فرعوا من أصل واحد ، وتباينوا في الأشكال على كثرتهم .

وقرأ الجمهور :{ لّلْعَالَمِينَ } ، بفتح اللام ، لأنها في نفسها آية منصوبة للعالم .

وقرأ حفص وحماد بن شعيب عن أبي بكر ، وعلقمة عن عاصم ، ويونس عن أبي عمرو : بكسر اللام ، إذ المنتفع بها إنما هم أهل العلم ، كقوله :{ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ} والظاهر أن { الَّذِينَ يُنفِقُونَ } متعلق { بمنامكم } ، فامتن تعالى بذلك ، لأن النهار قد يقام فيه ، وخصوص من كل مشتغلاً في حوائجه بالليل .{ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مّن فَضْلِهِ } : أي فيهما ، أي في الليل والنهار معاً ، لأن بعض الناس قد يبتغي الفعل بالليل ، كالمسافرين والحراس بالليل وغيرهم .

وقال الزمخشري : هذا من باب اللف ، وترتيبه :{ وَمِنْ ءايَاتِهِ مَنَامُكُم بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ } ، ولأنه فصل بين الفريقين الأولين بالقرينين الآخرين لأنهما زمانان ، والزمان والواقع فيه كشيء واحد مع إعانة اللف على ذلك ، ويجوز أن يراد { مَنَامُكُم } في الزمانين ، { وَابْتِغَاؤُكُمْ مّن فَضْلِهِ } فيهما . والظاهر هو الأول لتكرره في القرآن ، وأسد المعاني ما دل عليه القرآن . و

قال ابن عطية : وقال بعض المفسرين : في الكلام تقديم وتأخير ، وهذا ضعيف ، وإنما أراد أن ترتب النوم في الليل والابتغاء للنهار ، ولفظ الآية لا يعطي ذلك .{ وَمِنْ ءايَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً } : إما أن يتعلق من آياته بيريكم ، فيكون في موضع نصب ، ومن لابتداء الغاية ، أو يكون يريكم على إضمار أن ، كما قال :

ألا أيهذا الزاجري أحضر الوعى

برفع أحضر ، والتقدير أن أحضر ، فلما حذف أن ، ارتفع الفعل ، وليس هذا من المواضع التي يحذف منها أن قياساً ، أو على إنزال الفعل منزلة المصدر من غير ما يسبكه له ، كما قال الخليل في قول :

أريد لأنسى حبها

أي أرادني لأنسى حبها ، فيكون التقدير في هذين الوجهين : ومن آياته إراءته إياكم البرق ، فمن آياته في موضع رفع على أنه خبر المبتدأ . وقال الرماني : يحتمل أن يكون التقدير : ومن آياته يريكم البرق بها ، وحذف لدلالة من عليها ، كما قال الشاعر : وما الدهر إلا تارتان فمنهما

أموات وأخرى أبتغي العيش أكدح

أي : فمنهما تارة أموات ، ومن على هذه الأوجه الثلاثة للتبعيض . وانتصب { خَوْفًا وَطَمَعًا } على أنهما مصدران في موضع الحال ، أي خائفين وطامعين .

وقيل : مفعول من أجله . وقال الزجاج : وأجازه الزمخشري على تقدير إرادة خوف وطمع ، فيتحد الفاعل في العامل والمحذوف ، ولا يصح أن يكون العامل يريكم ، لاختلاف الفاعل في العامل والمصدر .

وقال الزمخشري : المفعولون فاعلون في المعنى ، لأنهم راؤون مكانه ، فكأنه قيل : لجعلكم رائين البرق خوفاً وطمعاً . انتهى . وكونه فاعلاً ، قيل : همزة التعدية لا تثبت له حكمه بعدها ، على أن المسألة فيها خلاف . مذهب الجمهور : اشتراط اتحاد الفاعل ، ومن النحويين من لا يشترطه . ولو قيل : على مذهب من يشترطه . أن التقدير : يريكم البرق فترونه خوفاً وطمعاً ، فحذف العامل للدلالة ، لكان إعراباً سائغاً واتحد فيها الفاعل . وقال الضحاك : خوفاً من صواعقه ، وطمعاً في مطره . وقال قتادة : خوفاً للمسافر ، وطمعاً للمقيم .

وقيل : خوفاً أن يكون خلباً ، وطمعاً أن يكون ماطراً . وقال الشاعر : لا يكن برقك برقاً خلبا

إن خير البرق ما العيث معه

وقال ابن سلام : خوفاً من البرد أن يهلك الزرع ، وطمعاً في المطر أن يحييه .{ وَمِنْ ءايَاتِهِ أَن تَقُومَ } : أن تثبت وتمسك ، مثل : وإذا أظلم عليهم قاموا : أي ثبتوا بأمره ، أي بإرادته . وإذا الأولى للشرط ، والثانية للمفاجأة جواب الشرط ، والمعنى : أنه لا يتأخر طرفة عين خروجكم عن دعائه ، كما يجيب الداعي المطيع مدعوه ، كما قال الشاعر :

دعوت كليباً دعوة فكأنمادعوت قرين الطود أو هو أسرع

قرين الطود : الصد ، أو الحجر ان أيد هذا . والطود : الجبل . و { الدعوة } : البعث من القبور ، و { دَعْوَةً مّنَ الاْرْضِ } يتعلق بدعاكم ، و { دَعْوَةُ } : أي مرة ، فلا يحتاج إلى تكرير دعاءكم لسرعة الإجابة .

وقيل :{ مّنَ الاْرْضِ } صفة لدعوة . و

قال ابن عطية : ومن عندي هنا لأنتهاء الغاية ، كما يقول : دعوتك من الجبل إذا كان المدعو في الجبل . انتهى . وكون من لأنتهاء الغاية قول مردود عند أصحابنا . وعن نافع ويعقوب : أنهما وقفا على دعوة ، وابتد آمن الأرض .{ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ } علقاً من الأرض بتخرجون ، وهذا لا يجوز ، لأن فيه الفصل بين الشرط وجوابه ، بالوقف على دعوة فيه إعمال ما بعد إذا الفجائية فيما قبلها ، وهو لا يجوز .

وقال الزمخشري : وقوله :{ إِذَا دَعَاكُمْ } بمنزلة قوله :{ يُرِيكُمْ } في إيقاع الجملة موقع المفرد على المعنى ، كأنه قال : ومن آياته قيام السموات والأرض ، ثم خروج الموتى من القبور إذا دعاهم دعوة واحدة : يا أهل القبور أخرجوا ، وإنما عطف هذا على قيام السموات والأرض بثم ، بياناً لعظيم ما يكون من ذلك الأمر واقتداره على مثله ، وهو أن يقول : يا أهل القبور قوموا ، فلا تبقى نسمة من الأولين والآخرين إلا قامت تنظر . انتهى .

وقرأ حمزة والكسائي : تخرجون ، بفتح التاء وضم الراء ؛ وباقي السبعة : بضمها وفتح الراء .

وبدأ أولاً من الآيات بالنشأة الأولى ، وهي خلق الإنسان من التراب ، ثم كونه بشراً منتشراً ، وهو خلق حي من جماد ، ثم أتبعه بأن خلق له من نفسه زوجاً ، وجعل بينهما تواد ، وذلك خلق حي من عضو حي . وقال :{ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } ، لأن ذلك لا يدرك إلا بالفكر في تأليف بين شيئين لم يكن بينهما تعارف ، ثم أتبعه بما هو مشاهد للعالم كلهم ، وهو خلق السموات والأرض ، واختلاف اللغات والألوان ، والاختلاف من لوازم الإنسان لا يفارقه . وقال :{ لّلْعَالَمِينَ } ، لأنها آية مكشوفة للعالم ، ثم اتبعه بالمنام والابتغاء ، وهما من الأمور المفارقة في بعض الأوقات ، بخلاف اختلاف الألسنة والألوان . وقال :{ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } ، لأنه لما كان من أفعال العبادة قد يتوهم أنه لا يحتاج إلى مرشد ، فنبه على السماع ، وجعل البال من كلام المرشد . ولما ذكر عرضيات الأنفس اللازمة والمفارقة ، ذكر عرضيأ الآفاق المفارقة من إراءة البرق وإنزال المطر ، وقدمها على ما هو من الأرض ، وهو الإتيان والإحياء ، كما قدم السموات على الأرض ، وقدم البرق على الإنزال ، لأنه كالمبشر يجيء بين يدي القادم . والأعراب لا يعلمون البلاد المعشبة ، إن لم يكونوا قد رأوا البروق اللائحة من جانب إلى جانب . وقال :{ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } ، لأن البرق والإنزال ليس أمراً عادياً فيتوهم أنه طبيعة ، إذ يقع ذلك ببلدة دون أخرى ، ووقتاً دون وقت ، وقوياً وضعيفاً ، فهو أظهر في العقل دلالة على الفاعل المختار ، فقال : هو آية لمن عقل بأن لم يتفكر تفكراً تاماً .

ثم ختم هذه الآيات بقيام السموات الأرض ، وذلك من العوارض اللازمة ، فإن كلاً من السماء والأرض لا يخرج عن مكانه ، فيتعجب من وقوف الأرض وعدم نزولها ، ومن علو السماء وثباتها من غير عمد . ثم أتبع ذلك بالنشأة الأخرى ، وهي الخروج من الأرض ، وذكر تعالى من كل باب أمرين : من الأنفس خلقكم وخلق لكم ، ومن الآفاق السماء والأرض ، ومن لوازم الإنسان اختلاف الألسنة واختلاف الألوان ، ومن خواصه المنام والابتغاء ، ومن عوارض الآفاق البرق والمطر ، ومن لوازمه قيام السماء وقيام الأرض .

٢٦

انظر تسفير الآية:٢٩

٢٧

انظر تسفير الآية:٢٩

٢٨

انظر تسفير الآية:٢٩

٢٩

{مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ } : عام في كونهم تحت ملكه وقهره . وقال الحسن :{ قَانِتُونَ } : قائمون بالشهادة على وحدانيته ، كما قال الشاعر : وفي كل شيء له آية

تدل على أنه واحد

وقال ابن عباس : مطيعون ، أي في تصريفه ، لا يمتنع عنه شيء يريد فعله بهم ، من حياة وموت وصحة ومرض ، فهي طاعة الإرادة لا طاعة العبادة .

وقيل : قائمون يوم القيامة ، يوم يقوم الناس لرب العالمين . وإذا حمل القنوت على الإخلاص ، كما قال ابن جبير ، أ على الإقرار بالعبودية ، أو قانتون من ملك ومؤمن ، لأن كل عام مخصوص .{ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } : أي والعود أهون عليه ، وليست أهون أفعل تفصيل ، لأنه تفاوت عند اللّه في النشأتين : الإبداء والإعادة ، فلذلك تأوله ابن عباس والربيع بن خيثم على أنه بمعنى هين ، وكذا هو في مصحف عبد اللّه . والضمير في عليه عائد على اللّه .

وقيل : أهون للتفضيل ، وذلك بحسب معتقد البشر وما يعطيهم النظر في المشاهد من أن الإعادة في كثير من الأشياء أهون من البداءة ، للاستغناء عن الروية التي كانت في البداءة ؛ وهذا ، وإن كان الاثنان عنده تعالى من اليسر في حيز واحد .

وقيل : الضمير في عليه عائد على الخلق ، أي والعود أهون على الخلق : بمعنى أسرع ، لأن البداءة فيها تدرج من طور إلى طور إلى أن يصير إنساناً ، والإعادة لا تحتاج إلى هذه التدريجات في الأطوار ، إنما يدعوه اللّه فيخرج ، فكأنه قال : وهو أيسر عليه ، أي أقصر مدة وأقل انتقالاً .

وقيل : المعنى وهو أهون على المخلوق ، أي يعيد شيئاً بعد إنشائه ، فهذا عرف المخلوقين ، فكيف تنكرون أنتم الإعادة في جانب الخالق ؟

قال ابن عطية : والأظهر عندي عود الضمير على اللّه تعالى ، ويؤيده قوله تعالى :{ وَلَهُ الْمَثَلُ الاعْلَى } ، كما جاء بلفظ فيه استعاذة واستشهاد بالمخلوق على الخالق ، وتشبيه بما يعهده الناس من أنفسهم ، خلص جانب العظمة ، بأن جعل له المثل الأعلى الذي لا يتصل به ، فكيف ولا تمثال مع شيء ؟ انتهى .

وقال الزمخشري :

فإن قلت : لم أخرت الصلة في قوله :{ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } ، وقدمت في قوله :{ هُوَ عَلَىَّ هَيّنٌ } ؟

قلت : هنالك قصد الاختصاص ، وهو تجبره ، فقيل : وهو على هين ، وإن كان مستصعباً عندك ، وإن تولد بين هرم وعاقر .

وأما هنا لا معنى للاختصاص ، كيف والأمر مبني على ما يعقلون من أن الإعادة أسهل من الابتداء ؟ فلو قدمت الصلة لتغير المعنى . انتهى . ومبنى كلامه على أن تقديم المعمول يؤذن بالاختصاص ، وقد تكلمنا معه في ذلك ، ولم نسلمه في قوله :{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ}

{وَلَهُ الْمَثَلُ الاعْلَى } ،قيل : هو متعلق بما قبله ، قاله الزجاج ، وهو قوله :{ وَهُوَ أَهْوَنُ } ؛ قد ضربه لكم مثلاً فيما يسهل أو يصعب .

وقيل : بما بعده من قوله :{ ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مّنْ أَنفُسِكُمْ}

وقيل : المثل : الوصف الأرفع الأعلى الذي ليس لغيره مثله ، وهو أنه القادر الذي لا يعجز عن شيء من إنشاء وإعادة وغيرهما .{ وَهُوَ الْعَزِيزُ } : أي القاهر لكل شيء ، الحكيم الذي أفعالى على مقتضى حكمته . وعن مجاهد : المثل الأعلى قوله :{ لاَ إِلَاهَ إِلاَّ اللّه } ، وله الوصف بالوحدانية ، ويؤيده قول :{ ضَرَبَ لَكُمْ}

وقال ابن عباس وغيره : بين تعالى أمر الأصنام

وفساد معتقد من يشركها باللّه ، بضربه هذا المثل ، ومعناه : أنكم أيها الناس ، إذا كان لكم عبيد تملكونهم ، فإنكم لا تشركونهم في أموالكم ومهم أموركم ، ولا في شيء على جهة استواء المنزلة ، وليس من شأنكم أن تخافوهم في أن يرثوا أموالكم ، أو يقاسمونكم إياها في حياتكم ، كما يفعل بعضكم ببعض ؛ فإذا كان هذا فيكم ، فكيف تقولون : إن من عبيده وملكه شركاء في سلطانه وألوهيته وتثبتون في جانبه ما لا يليق عندكم بجوانبكم ؟ وجاء هذا المعنى في معرض السؤال والتقرير . وقال السدي : كانوا يورثون آلهتهم ، فنزلت .

وقيل : لما نزلت ، قال أهل مكة : لا يكون ذلك أبداً ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { فلم يجوز لربكم } ؟ ومن في : { مّنْ أَنفُسِكُمْ } لابتداء الغاية ، كأنه قال : أخذ مثلاً ، وافترى من أقرب شيء منكم ، وهو أنفسكم ، ولا يبعد . ومن في :{ مِمَّا مَلَكَتْ } للتبعيض ، ومن في :{ مّن شُرَكَاء } زائدة لتأكيد الاستفهام الجاري مجرى النفي . يقول : ليس يرضى أحد منكم أن يشركه عبده في ماله وزوجته وما يختص به حتى يكون مثله ، فكيف ترضون شريكاً للّه ، وهو رب الأرباب ومالك الأحرار والعبيد ؟

وقال أبو عبد اللّه الرازي : وبين المثل والممثل به مشابهة ومخالفة . فالمشابهة معلومة ، والمخالفة من وجوه : قوله :{ مّنْ أَنفُسِكُمْ } : أي من نسلكم ، مع حقارة الأنفس ونقصها وعجزها ، وقاس نفسه عليكم مع عظمتها وجلالتها وقدرتها . وقوله :{ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } : أي عبيدكم ، والملك ما قبل النقل بالبيع ، والزوال بالعتق ، ومملوكه تعالى لا خروج له عن الملك . فإذا لم يجز أن يشرككم مملوككم ، وهو مثلكم من جميع الوجوه ومثلكم في الآدمية ، حالة الرق ، فكيف يشرك اللّه مملوكه من جميع الوجوه المباين له بالكلية ؟ وقوله :{ فِيمَا رَزَقْنَاكُمْ } : يعني أن الميسر لكم في الحقيقة إنما هو اللّه ومن رزقه حقيقة ، فإذا لم يجز أن يشرككم فيما هو لكم من حيث الاسم ، فكيف يكون له تعالى شريك فيما له من جهة الحقيقة ؟ انتهى ، وفيه بعض تلخيص . و { شُرَكَاء } في موضع رفع بالابتداء ، و { فِيمَا رَزَقْنَاكُمْ } متعلق به ، و { لَكُمْ } الخبر ، و { مِمَّا مَلَكَتْ } في موضع الحال ، لأنه نعت نكرة تقدم عليها وانتصب على الحال ، والعامل فيها العامل في الجار والمجرور ، والواقع خبراً ، وهو مقدر بعد المبتدأ . وما في فيما { رَزَقْنَاكُمْ } واقعة على النوع ، والتقدير : هل شركاء فيما رزقناكم كائنون من النوع الذي ملكته أيمانكم كائنون لكم ؟ ويجوز أن يتعلق لكم بشركاء ، ويكون مما رزقناكم في موضع الخبر ، كما تقول : لزيد في المدينة مبغض ، فلزيد متعلق بمبغض الذي هو مبتدأ ، وفي المدينة الخبر ، و { فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء } جملة في موضع الجواب للاستفهام المضمن معنى النفي ، وفيه متعلق بسواء ، و { تَخَافُونَهُمْ } خبر ثان لأنتم ، والتقدير : فأنتم مستوون معهم فيما رزقناكم ، تخافونهم كما يخاف بعضكم بعضاً أيها السادة . والمقصود نفي الشركة والإستواء والخوف ، وليس النفي منسحباً على الجواب وما بعده فقط ، كأحد وجهي ما تأتينا فتحدثنا ، أي ما تأتينا فتحدثنا ، إنما تأتي ولا تحدث ، بل هو على الوجه الآخر ، أي ما تأتينا فكيف تحدثنا ؟ أي ليس منك إتيان فلا يكون حديث . وكذلك هذا ليس لهم شريك ، فلا استواء ولا خوف .

وقرأ الجمهور : ، بالنصب ، أضيف المصدر إلى الفاعل ؛ وابن أبي عبيدة : بالرفع ، أضيف المصدر للمفعول ، وهما وجهان حسنان ، ولا قبح في إضافة المصدر إلى المفعول مع وجود الفاعل .

{كَذالِكَ } : أي مثل ذلك التفصيل ، { نُفَصّلُ الآيَاتِ } : أي نبينها ، لأن التمثيل مما يكشف المعاني ويوضحها ، لأنه بمنزلة التصوير والتشكيل لها . ألا ترى كيف صور الشرك بالصورة المشوهة ؟

وقرأ الجمهور : نفصل ، بالنون ، حملاً على رزقناكم ؛ وعباس عن ابن عمر : بياء الغيبة ، رعياً لضرب ، إذ هو مسند للغائب . وذكر بعض العلماء في هذه الآية دليلاً على صحة أصل الشركة بين المخلوقين ، لافتقار بعضهم إلى بعض ، كأنه يقول : الممتنع والمستقبح شركة العبيد لساداتهم ؛ أما شركة السادات بعضهم لبعض فلا يمتنع ولا يستقبح . والإضراب ببل في قوله :{ بَلِ اتَّبَعَ } جاء على ما تضمنته الآية ، إذ المعنى : ليس لهم حجة ولا معذرة فيما فعلوا من إشراكهم باللّه ، بل ذلك بمجرد هوى بغير علم ، لأنه قد يكون هوى للإنسان ، وهو يعلم . و { الَّذِينَ ظَلَمُواْ } : هم المشركون ، اتبعوا أهواءهم جاهلين هائمين على أوجههم ، لا يرغمهم عن هواهم علم ، إذ هم خالون من العلم

الذي قد يردع متبع الهوى . { فَمَن يَهْدِى مَنْ أَضَلَّ اللّه } : أي لا أحد يهدي من أضله اللّه ، أي هؤلاء ممن أضلهم اللّه ، فلا هادي لهم .

وقال الزمخشري : من أضل اللّه : من خذله اللّه ولم يلطف به ، لعلمه أنه ممن لا لطف له ممن يقدر على هداية مثله .{ وَمَا لَهُم مّن نَّاصِرِينَ } : دليل على أن المراد بالإضلال الخذلان . انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال .

٣٠

انظر تسفير الآية:٣٢

٣١

انظر تسفير الآية:٣٢

٣٢

{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينَ } : فقوم وجهك له وعد له غير ملتفت ، وهو تمثيل لإقباله على الدين واستقامته عليه وثباته واهتمامه بأسبابه . فإن من اهتم بالشيء ، عقد عليه طرفه وقوم له وجهه مقبلاً به عليه ، والدين دين الإسلام . وذكر الوجه ، لأنه جامع حواس الإنسان وأشرفه . و { حَنِيفاً } : حال من الضمير في أقم ، أو من الوجه ، أو من الدين ، ومعناه : مائلاً عن الأديان المحرفة المنسوخة .{ فِطْرَةَ اللّه } : منصوب على المصدر ، كقوله :{ صِبْغَةَ اللّه } ،

وقيل : منصوب بإضمار فعل تقديره : التزم فطرة اللّه .

وقال الزمخشري : الزموا فطرة اللّه ، أو عليكم فطرة اللّه . وإنما أضمرت على خطاب الجماعة لقوله :{ مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ } ، ومنيبين حال من الضمير في الزموا . وقوله :{ وَأَقِيمُواْ } ،{ وَلاَ تَكُونُواْ } ، معطوف على هذا المضمر . انتهى .

وقيل :{ فَأَقِمْ وَجْهَكَ } ، المراد به : فأقيموا وجوهكم ، وليس مخصوصاً بالرسول وحده ، وكأنه خطاب لمفرد أريد به الجمع ، أي : فأقم أيها المخاطب ، ثم جمع على المعنى ، لأنه لا يراد به مخاطب واحد . فإذا كان هذا ، فقوله :{ مُّنِيبِينَ } ،{ وَأَقِيمُواْ } ،{ وَلاَ تَكُونُواْ } ملحوظ فيه معنى الجمع . وقول الزمخشري : أو عليكم فطرة اللّه لا يجوز ، لأن فيه حذف كلمة الإغراء ، ولا يجوز حذفها ، لأنه قد حذف الفعل وعوض عليك منه . فلو جاء حذفه لكان إجحافاً ، إذ فيه حذف العوض والمعوض منه .

والفطرة ، قيل : دين الإسلام ، والناس مخصوصون بالمؤمنين .

وقيل : العهد الذي أخذه اللّه على ذرية آدم حين أخرجهم نسماً من ظهره ورجح الحذاق . إنها القابلية التي في الطفل للنظر في مصنوعات اللّه ، والاستدلال بها على موجده ، فيؤمن به ويتبع شرائعه ، لكن قد عتعرض له عوارض تصرفه عن ذلك ، كتهويد أبويه له ، وتنصيرهما ، إغواء شياطين الإنس والجن .

{لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّه} : أي لا تبديل لهذه القابلية من جهة الخالق . وقال مجاهد ، وابن جبير ، والضحاك ، والنخعي ، وابن زيد : لا تبديل لدين اللّه ، والمعنى : لمعتقدات الأديان ، إذ هي متفقة في ذلك .

وقال الزمخشري : أي ما ينبغي أن تبدل تلك الفطرة أو تغير .

وقال ابن عباس : لا تبديل لقضاء اللّه بسعادتهم وشقاوتهم ،

وقيل : هو نفي معناه : النهي ، أي لا تبدلوا ذلك الدين .

وقيل :{ لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّه } بمعنى : الواحدانية مترشحة فيه ، لا تغير لها ، حتى لو سألته : من خلق السموات والأرض ؟ تقول : اللّه . ويستغرب ما روي عن ابن عباس أن معنى { لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّه } : النهي عن خصاء الفحول من الحيوان . وقول من ذهب إلى أن المعنى في هذه الجملة ألجأ على الكفرة ، اعترض به أثناء الكلام ، كأنه يقول : أقم وجهك للدين الذي من صفته كذا وكذا ، فإن هؤلاء الكفرة ومن خلق اللّه لهم الكفر ، و { لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّه } : أي أنهم لا يفلحون ذلك الذي أمرت بإقامة وجهك له ، هو الدين المبالغ في الاستقامة . والقيم : بياء مبالغة ، من القيام ، بمعنى الاستقامة ، ووزنه فعيل ، أصله قيوم كيد ، اجتمعت الياء والواو ، وسبقت إحداهما بالسكون ، فقلبت الواو ياء ، وأدغمت الياء فيها ، وهو بناء مختص بالمعتل العين ، لم يجىء منه في الصحيح إلا بيئس وصيقل علم لامرأة .

{مُّنِيبِينَ } : حال من { النَّاسِ } ، ولا سيما إذا أريد بالناس : المؤمنون ، أو من الضمير في : الزموا فطرة اللّه ، وهو تقدير الزمخشري ، أو من الضمير في :{ فَأَقِمْ } ، إذ المقصود : الرسول وأمته ، وكأنه حذف معطوف ، أي فأقم وجهك وأمتك . وكذا زعم الزجاج في :{ الْحَكِيمُ يأيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ } : أي يا أيها النبي والناس ، ودل على ذلك مجيء الحال في { مُّنِيبِينَ } جمعاً ، وفي { إِذَا طَلَّقْتُمُ } جاء الخطاب فيه وفي ما بعده . جمعاً ، أو على خبر كان مضمرة ، أي كونوا منيبين ، ويدل عليه قوله بعد { وَلاَ تَكُونُواْ } ، وهذه احتمالات منقولة كلها .{ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } : من اليهود والنصارى ، قاله قتادة . وقال ابن زيد : هم اليهود ؛ وعن أبي هريرة وعائشة : أنهم أهل القبلة ، ولفظة الإشراك على هذا تجوز بأنهم صاروا في دينهم فرقاً . والظاهر أن المشركين : كل من

أشرك ، فيدخل فيهم أهل الكتاب وغيرهم . و { مِنَ الَّذِينَ } : بدل من المشركين ، { فَرَّقُواْ دِينَهُمْ } : أي دين الإسلام وجعلوه أدياناً مختلفة لاختلاف أهوائهم .{ وَكَانُواْ شِيَعاً } : كل فرقة تشايع إمامها الذي كان سبب ضلالها .{ كُلُّ حِزْبٍ } : أي منهم فرح بمذهبه مفتون به . والظاهر أن { كُلُّ حِزْبٍ } مبتدأ و { فَرِحُونَ } الخبر .

وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون { مِنَ الَّذِينَ } منقطعاً مما قبله ومعناه : من المفارقين دينهم . كل حزب فرحين بما لديهم ، ولكنه رفع فرحون على الوصف لكل ، كقوله :

وكل خليل غيرها ضم نفسه

انتهى . قدر أولاً فرحين مجرورة صفة لحزب ، ثم قال : ولكنه رفع على الوصف لكل ، لأنك إذا

قلت : من قومك كل رجل صالح ، جاز في صالح الخفض نعتاً لرجل ، وهو الأكثر ، كقوله : جادت عليه كل عين ترة

فتركن كل حديقة كالدرهم

وجاز الرفع نعتاً لكل ، كقوله : وعليه هبت كل معصفة

هو جاء ليس للبها دبر

يرفع هو جاء صفة لكل .

٣٣

انظر تسفير الآية:٣٥

٣٤

انظر تسفير الآية:٣٥

٣٥

{وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْاْ رَبَّهُمْ مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ بِرَبّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُواْ}

الضر : الشدة ، من فقر ، أو مرض ، أو قحط ، أو غير ذلك ؛ والرحمة : الخلاص من ذلك الضر .{ دَعَوْاْ رَبَّهُمْ } : أفردوه بالتضرع والدعاء لينجوا من ذلك الضر ، وتركوا أصنامهم لعلمهم أنه لا يكشف الضر إلا هو تعالى ، فلهم في ذلك الوقت

إنابة وخضوع ، وإذا خلصهم من ذلك الضر ، أشرك فريق ممن اخلص ، وهذا الفريق هم عبدة الأصنام .

قال ابن عطية : ويلحق من هذه الألفاظ شيء للمؤمنين ، إذ جاءهم فرج بعد شدة ، علقوا ذلك بمخلوقين ، أو بحذق آرائهم ، أو بغير ذلك ، ففيه قلة شكر اللّه ، ويسمى مجازاً . وقال أبو عبد اللّه الرازي : يقول : تخلصت بسبب اتصال الكوكب الفلاني وسبب الصنم الفلاني ، بل ينبغي أن لا يعتقد أنه يخلص بسبب فلان إذا كان ظاهراً ، فإنه شرك خفي . انتهى . و { إِذَا فَرِيقٌ } : جواب { إِذَا أَذَاقَهُمْ } ،الأولى شرطية ، والثانية للمفاجأة ، وتقدم نظيره ، وجاء هنا فريق ، لأن قوله :{ وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ } عام للمؤمن والكافر ، فلا يشرك إلا الكافر . وضر هنا مطلق ، وفي آخر العنكبوت { إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ } لأنه في مخصوصين من المشركين عباد الأصنام ، والضر هناك معين ، وهو ما يتخوف من ركوب البحر .{ إِذَا هُمْ } : أي ركاب البحر عبدة الأصنام ، ويدل على ذلك ما قبله وما بعده . واللام في { لِيَكْفُرُواْ } لام كي ، أو لام الأمر للتهديد ، وتقدم نظيره في آخر العنكبوت .

وقرأ الجمهور :{ فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } ، بالتاء فيهما .

وقرأ أبو العالية : فيتمتعوا ، بياء قبل التاء ، عطف أيضاً على { لِيَكْفُرُواْ } ،أي لتطول أعمارهم على الكفر ؛ وعنه وعن عبد اللّه : فليتمتعوا . وقال هارون في مصحف عبد اللّه : يمتعوا .{ أَمْ أَنزَلْنَا } ، أم : بمعنى بل ، والهمزة للإضراب عن الكلام السابق ، والهمزة للاستفهام عن الحجة استفهام إنكار وتوبيخ . والسلطان : البرهان ، من كتاب أو نحوه .{ فَهُوَ يَتَكَلَّمُ } : أي يظهر مذهبهم وينطق بشركهم ، والتكلم مجاز لقوله :{ هَاذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقّ} وهو يتكلم : جواب للاستفهام الذي تضمنه أم ، كأنه قال : بل أنزلنا عليهم سلطاناً ، أي برهاناً شاهداً لكم بالشرك ، فهو يشهد بصحة ذلك ، وإن قدر ذا سلطان ، أي ملكاً ذا برهان ، كان التكلم حقيقة .

٣٦

انظر تسفير الآية:٣٧

٣٧

{وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً } : أي نعمة ، من مطر ، أو سعة ، أو صحة .{ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ } : أي بلاء ، من حدث ، أو ضيق ، أو مرض .{ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ مِنْ } المعاصي .{ إِنَّ اللّه لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ } ، ففي إصابة الرحمة فرحوا وذهلوا عن شكر من أسداها إليهم ، وفي إصابة البلاء قنطوا ويئسوا وذهلوا عن الصبر ، ونسوا ما أنعم به عليهم قبل إصابة البلاء . و { إِذَا هُمْ } جواب :{ وَإِن تُصِبْهُمْ } ، يقوم مقام الفاء في الجملة الاسمية الواقعة جواباً للشرط . وحين ذكر إذاقة الرحمة ، لم يذكر سببها ، وهو زيادة الإحسان والتفضل . وحين ذكر إصابة السيئة ، ذكر سببها ، وهو العصيان ، ليتحقق بدله . ثم ذكر تعالى الأمر الذي من اعتبره لم ييأس من روح اللّه ، وهو أنه تعالى هو الباسط القابض ، فينبغي أن لا يقنط ، وأن يتلقى ما يرد من قبل اللّه بالصبر في البلاء ، والشكر في النعماء ، وأن يقلع عن المعصية التي أصابته السيئة بسببها ، حتى تعود إليه رحمة ربه .

٣٨

انظر تسفير الآية:٣٩

٣٩

ومناسبة { فَئَاتِ ذَا الْقُرْبَى } لما قبله : أنه لما ذكر أنه تعالى هو الباسط القابض ، وجعل في ذلك آية للمؤمن ، ثم نبه بالإحسان لمن به فاقة واحتياج ، لأن من الإيمان الشفقة على خلق اللّه ، فخاطب من بسط له الرزق بأداء حق اللّه من المال ، وصرفه إلى من يقرب منه من حج ، وإلى غيره من مسكين وابن سبيل . وقال الحسن : هذا خطاب لكل سامع بصلة الرحم ، { وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ}

وقيل : للرسول ، عليه السلام . وذو القربى : بنو هاشم وبنو المطلب ، يعطون حقوقهم من الغنيمة والفيء . وقال الحسن : حق المسكين وابن السبيل من الصدقة المسماة لهما . واحتج أبو حنيفة بهذه الآية في وجوب النفقة للمحارم إذا كانوا محتاجين عاجزين عن الكسب . أثبت تعالى لذي القربى حقاً ، وللمسكين وابن السبيل حقهما .

والسورة مكية ، فالظاهر أن الحق ليس الزكاة ، وإنما يصير حقاً بجهة الإحسان والمواساة . وللاهتمام بذي القربى ، قدم على المسكين وابن السبيل ، لأن بره صدقة وصلة .{ ذالِكَ } : أي الإيتاء ، { خَيْرٌ } : أي يضاعف لهم الأجر في الآخرة ، وينمو ما لهم في الدنيا لوجه اللّه ، أي التقرب إلى رضا اللّه لا يضره . ثم ذكر تعالى من يتصرف في ماله غلى غير الجهة المرضية فقال ؛{ وَمَا ءاتَيْتُمْ } أكلة اليربو ، ليزيد ويزكو في المال ، فلا يزكو عند اللّه ، ولا يبارك فيه لقوله :{ يَمْحَقُ اللّه الْرّبَوااْ وَيُرْبِى الصَّدَقَاتِ} قال السدّي : نزلت في ربا ثقيف ، كانوا يعملون بالربا ، ويعمله فيهم قريش .

وقال ابن عباس ، ومجاهد ، وابن جبير ، وطاوس : هذه الآية نزلت

في هبات ، للثواب . و

قال ابن عطية : وما جرى مجراهما مما يصنع للمجازاة ، كالسلم وغيره ، فهو وإن كان لا إثم فيه ، فلا أجر فيه ولا زيادة عند اللّه .

وقال ابن عباس أيضاً ، والنخعي : نزلت في قوم يعطون قراباتهم وإخوانهم على معنى نفعهم وتمويلهم والتفضل عليهم ، وليزيدوا في أموالهم على جهة النفع به ، فذلك النفع لهم . وقال الشعبي قريباً من هذا وهو : أن ما خدم به الإنسان غيره انتفع به ، فذلك النفع لهم . وقال الشعبي أيضاً قريباً من هذا وهو : أن لا يربو عند اللّه ، والظاهر القول الأول ، وهو النهي عن الربا .

وقرأ الجمهور : { وَمَا ءاتَيْتُمْ } ، الأول بمد الهمزة ، أي وما أعطيتم ؛ وابن كثير : بقصرها ، أي وما جئتم .

وقرأ الجمهور : ليربو ، بالياء وإسناد الفعل إلى الربا ؛ وابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، وأبو رجاء ، والشعبي ، ونافع ، وأبو حيوة : بالتاء مضمومة ، وإسناد الفعل إليهم .

وقرأ أبو مالك : ليربوها ، بضمير المؤنث .

والمضعف : ذو أضعاف في الأجر . قال الفراء : هم أصحاب المضاعفة ، كما تقول : هو مسمن ، أي صاحب إبل سمان ، ومعطش : أي صاحب إبل عطشى .

وقرأ أبي :{ الْمُضْعِفُونَ } ، بفتح العين ، اسم مفعول .

وقال الزمخشري :{ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ } ، التفات حسن ، كأنه قال لملائكته وخواص خلقه : فأولئك الذين يريدون وجه اللّه بصدقاتهم هم المضعفون ، والمعنى : المضعفون به بدلالة أولئك هم المضعفون ، والحذف لما في الكلام من الدليل عليه ، وهذا أسهل مأخذاً ، والأول أملأ بالفائدة : انتهى . وإنما احتاج إلى تقدير ما قدر ، لأن اسم الشرط ليس بظرف ، لا بد أن يكون في الجواب ضمير يعود عليه يتم به الربط .

٤٠

انظر تسفير الآية:٤٥

٤١

انظر تسفير الآية:٤٥

٤٢

انظر تسفير الآية:٤٥

٤٣

انظر تسفير الآية:٤٥

٤٤

انظر تسفير الآية:٤٥

٤٥

{اللّه الَّذِى خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مّن شَىْء سُبْحَانَهُ}

كرر تعالى خطاب الكفار في أمر أوثانهم ، فذكر أفعاله التي لا يمكن أن يدعى له فيها شريك ، وهي الخلق والرزق والإماتة والإحياء ، ثم استفهم على جهة التقرير لهم والتوبيخ ، ثم نزه نفسه عن مقالتهم . و { اللّه الَّذِى خَلَقَكُمْ } : مبتدأ وخبر .

وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون { الَّذِى خَلَقَكُمْ } صفة للمبتدأ ، والخبر :{ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ } ؛ وقوله :{ مّن ذالِكُمُ } هو الذي ربط الجملة بالمبتدأ لأن معناه : من أفعاله . انتهى . والذي ذكره النحويون أن اسم الإشارة يكون رابطاً إذا كان أشير به إلى المبتدأ .

وأما { ذالِكُمْ } هنا فليس إشارة إلى المبتدأ ، لكنه شبيه بما أجازه الفراء من الربط بالمعنى ، وخالفه الناس ، وذلك في قوله :{ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجًا يَتَرَبَّصْنَ } ، قال التقدير : يتربصن أزواجهم ، فقدر الضمير بمضاف إلى ضمير الذين ، فحصل به الربط ، كذلك قدر الزمخشري { مّن ذالِكُمُ } : من أفعاله المضاف إلى الضمير العائد على المبتدأ .

وقال الزمخشري أيضاً : هل من شركائكم الذين اتخذتموهم أنداداً له من الأصنام وغيرها من يفعل شيئاً ، قط

من تلك الأفعال ، حتى يصح ما ذهبتم إليه ؟ فاستعمل قط في غير موضعها ، لأنها ظرف للماضي ، وهنا جعلها معمولة ليفعل .

وقال الزمخشري أيضاً : ومن الأولى والثانية ، كل واحدة مستقبلة تأكيد لتعجيز شركائهم وتجهيل عبدتهم ؛ فمن الأولى للتبعيض ، والجار والمجرور خبر المبتدأ ؛ ومن يفعل هو المبتدأ ، ومن الثانية في موضع الحال من شيء ، لأنه نعت نكرة تقدم عليها فانتصب على الحال ؛ ومن الثالثة زائدة لانسحاب الاستفهام الذي معناه النفي على الكلام ، التقدير : من يفعل شيئاً من ذلكم ، أي من تلك الأفعال .

وقرأ الجمهور : { يُشْرِكُونَ } ، بياء الغيبة ؛ والأعمش ، وابن وثاب : بتاء الخطاب ، والظاهر مراد ظاهر البر والبحر . وقال الحسن : وظهور الفساد فيهما بارتفاع البركات ، ونزول رزايات ، وحدوث فتن ، وتقلب عدو كافر ، وهذه الثلاثة توجد في البر والبحر .

وقال ابن عباس :{ الْفَسَادُ فِى الْبَرّ } ، القطاع فتسده . وقال مجاهد :{ فِى الْبَرّ } ، بقتل أحد بني آدم لأخيه ، وفي البحر : بأخذ السفن غصباً ، وعنه أيضاً : البر : البلاد البعيدة من البحر ، والبحر : السوواحل والجزر التي على ضفة البحر والأنهار . وقال قتادة : البر : الفيافي ومواضع القبائل وأهل الصحارى والعمور ، والبحر : المدن ، جمع بحرة ، ومنه : ولقد أجمع أهل هذه البحيرة ليتوجوه ، يعني قول سعد بن عبادة في عبد اللّه بن أبيّ ابن سلول ، ويؤيد هذا قراءة عكرمة . والبحور بالجمع ، ورويت عن ابن عباس ، وكان قد ظهر الفساد براً وبحراً وقت بعثة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وكان الظلم عم الأرض ، فأظهر اللّه به الدين ، وأزال الفساد ، وأخمده صلى اللّه عليه وسلم. وقال النحاس : فيه قولان ،

أحدهما : ظهر الجدب في البر في البوادي وقراها والبحر ، أي في مدن البحر ، مثل :{ وَاسْئَلِ الْقَرْيَةَ } أي ظهر قلة العشب ، وغلاً السعر .

والثاني : ظهرت المعاصي من قطع السبيل والظلم ، فهذا هو الفساد على الحقيقة ، والأول مجاز ،

وقيل : إذا قل المطر قل الغوص ، وأحنق الصياد وعميت دواب البحر .

وقال ابن عباس : إذا مطرت تفتحت الأصداف في البحر ، فما وقع فيها من السماء فهو لؤلؤ .

{بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى النَّاسِ } : أي بسبب معاصيهم وذنوبهم .{ لِيُذِيقَهُمْ } : أي أنه تعالى أفسد أسباب دنياهم ومحقهم ، ليذيقهم وبال بعض أعمالهم في الدنيا ، قبل أن يعاقبهم بها جميعاً في الآخرة .{ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } عما هم فيه . و

قال ابن عطية :{ بِمَا كَسَبَتْ } : جزاء ما كسبت ، ويجوز أن يتعلق الباء بظهر ، أي بكسبهم المعاصي في البر والبحر ، وهو نفس الفساد الظاهر .

وقرأ السلمي ، والأعرج ، وأبو حيوة ، وسلام ، وسهل ، وروح ، وابن حسان ، وقنبل من طريق ابن مجاهد ، وابن الصباح ، وأبو الفضل الواسطي عنه ، ومحبوب عن أبي عمر . و : لنذيقهم ، بالنون ؛ والجمهور : بالياء ، ثم أمرهم بالمسير في الأرض ، فينظروا كيف أهلك الأمم بسبب معاصيهم وإشراكهم ، وذلك تنبيه لقريش وأمر لهم بالاعتبار بمن سلف من الأمم ، قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم .{ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّشْرِكِينَ } : أهلكهم كلهم بسبب الشرك ، وقوم بسبب المعاصي ، لأنه تعالى يهلك بالمعاصي ، كما يهلك بالشرك ، كأصحاب السبت . أو أهلكهم كلهم ، المشرك والمؤمن ، كقوله تعالى :{ وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً } ، وأهلكهم كلهم ، وهم كفار ، فأكثرهم مشركون ، وبعضهم معطل . وحين ذكر امتنانه قال :{ اللّه الَّذِى خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ } ، فذكر الوجود ثم البقاء بسبب الرزق . وحين ذكر خذلانهم بالطغيان ، بسبب البقاء بإظهار الفساد ، ثم بسبب الوجود بالإهلاك .{ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ } : يوم القيامة ، وفيه تحذير

يعم الناس ،  { لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللّه } ، المرد : مصدر رد ، ومن اللّه : يحتمل أن يتعلق بيأتي ، أي من قبل أن يأتي من اللّه يوم لا يرده أحد حتى لا يأتي لقوله :{ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا } ، ويحتمل أن يتعلق بمحذوف يدل عليه مرد ، أي لا يرده هو بعد أن يجيء به ، ولا رد له من جهته .{ يَوْمَئِذٍ } : أي يوم إذ يأتي ذلك اليوم .{ يَصَّدَّعُونَ } : يتفرقون ، فريق في الجنة ، وفريق في السعير . يقال : تصدع القوم إذا تفرقوا ، ومنه الصداع ، لأنه يفرق شعب الرأس ، وقال الشاعر : وكنا كندماني جذيمة حقبة

من الدهر حتى قيل لن يتصدعا

ثم ذكر حالتي المتفرقين :{ مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ } : أي جزاء كفره ، وعبر عن حالة الكافر بعليه ، وهي تدل على الفعل والمشقة ، وعن حال المؤمن بقوله :{ فَلاِنفُسِهِمْ } ، باللام التي هي لام الملك . و { يَمْهَدُونَ } : يوطئون ، وهي استعارة من الفرش ، وعبارة عن كونهم يفعلون في الدنيا ما يلقون به ، ما تقر به أعينهم وتسر به أنفسهم في الجنة . وقال مجاهد : هو التمهيد للقبر .

وقال الزمخشري : وتقديم الظرف في الموضعين لدلالة على أن ضرر الكفر لا يعود إلا على الكافر لا يتعداه ، ومنفعة الإيمان والعمل الصالح ترجع إلى المؤمن لا تتجاوزه . انتهى . وهو على طريقته في دعواه أن تقديم المفعول وما جرى مجراه يدل على الاختصاص ،

وأما على مذهبنا فيدل على الاهتام ،

وأما ما يدعيه من الاختصاص فمفهوم من آي كثيرة في القرآن منها :{ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} واللام في { لِيَجْزِىَ } ،

قال الزمخشري : متعلق بيمهدون ، تعليل له وتكرير { الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } ، وترك الضمير إلى الصريح لتقديره أنه لا يفلح عنده إلا المؤمن الصالح . وقوله :{ أَن لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ } ، تقرير بعد تقرير على الطرد والعكس . و

قال ابن عطية : ليجزي متعلق بيصدعون ، ويجوز أن تكون متعلقة بمحذوف تقديره ذلك ليجزي ، وتكون الإشارة إلى ما تقرر من قوله تعالى :{ مَن كَفَرَ } ،{ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً} انتهى . ويكون قسم { الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } على هذين التقديرين اللذين ذكرهما ابن عطية محذوفاً تقديره : كأنه قال : والكافرون بعد له ، ودل على حذف هذا القسيم قوله :{ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} ومعنى نفي الحب هنا : أنه لا تظهر عليهم أمارات رحمته ، ولا يرضى الكفر لهم ديناً .

وقال الزمخشري :{ مِن فَضْلِهِ } : بما تفضل عليهم بعد توفية الواجب من الثواب ، وهذا يشبه الكناية ، لأن الفضل تبع للثواب ، فلا يكون إلا بعد حصول ما هو تبع له ، أو أراد من عطائه ، وهو ثوابه ، لأن الفضول والفواضل هي الأعطية عند العرب .

٤٦

انظر تسفير الآية:٤٧

٤٧

{وَمِنْ ءايَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرّيَاحَ مُبَشّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مّن رَّحْمَتِهِ ...}

لما ذكر تعالى ظهور الفساد والهلاك بسبب الشرك ، ذكر ظهور الصلاح . والكريم لا يذكر لإحسانه عوضاً ، ويذكر لعقابه سبباً لئلا يتوهم به الظلم ؛ فذكر من أعلام قدرة إرسال الرياح مبشرات بالمطر ، لأنها متقدمة . والمبشرات : رياح الرحمة ، الجنوب والشمال والصبا ،

وأما الدبور ، فريح العذاب ، وليس تبشيرها مقتصراً به على المطر ، بل لها تبشيرات بسبب السفن والسير بها إلى مقاصد أهلها ، وكأنه بدأ أولاً بشيء عام ، وهو التبشير .

وقرأ الأعمش : الريح ، مفرداً ، وأراد معنى الجمع ، ولذلك قرأ : { مُبَشّراتٍ} ثم ذكر من أعظم تباشيرها إذاقة الرحمة ، وهي نزول المطر ، ويتبعه حصول الخصب ، والريح الذي معه الهبوب ، وإزالة العفونة من الهواء ، وتذرية الحبوب ، وغير ذلك .{ وَلِيُذِيقَكُمْ } : عطف على معنى مبشرات ، فالعامل أن يرسل ، ويكون عطفاً على التوهم ، كأنه قيل : ليبشروكم ، والحال والصفة قد يجيئان ، وفيهما معنى التعليل . تقول : أهن زيد سيئا وأكرم زيداً العالم ، تريد لإماءته ولعلمه .

وقيل : ما يتعلق به اللام محذوف ، أي ولكنا أرسلناها .

وقيل : الواو في وليذيقكم زائدة . و { بِأَمْرِهِ } : أي بأمر اللّه ، يعني أن جريانها ، لما كان مسنداً إليها ، أخبر أنه بأمره تعالى .{ مِن فَضْلِهِ } : مما يهيء لكم من الريح في التجارات في البحر ، ومن غنائم أهل الشرك . ثم بين لرسوله بأن ضرب له مثل من أرسل من الأنبياء ، ولما كان تعالى بين الأصلين : المبدأ والمعاد ، بين ذكر الأصل الثالث ، وهو النبوّة ؛ وفي الكلام حذف تقديره : وآمن به بعض وكذب بعض ، { فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ}

وفي قوله :{ وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ } : تبشير للرسول وأمته بالنصر والظفر ، إذا أخبر أن المؤمنين بأولئك المؤمنين نصروا ، وفي لفظ حقاً مبالغة في التحتم ، وتكريم للمؤمنين ، وإظهار لفضيلة سابقة الإيمان ، حيث جعلهم مستحقين النصر والظفر . والظاهر أن { حَقّاً } خبر كان ، و { نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ } الاسم ، وأخر لكون ما تعلق به فاصلة للاهتمام بالجزاء ، إذ هو محط الفائدة . و

قال ابن عطية : وقف بعض القراء على حقاً وجعله من الكلام المتقدم ، ثم استأنف جملة من قوله :{ عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ } ، وهذا قول ضعيف ، لأنه لم يدر قدر ما عرضه في نظم الآية .

وقال الزمخشري : وقد يوقف على { حَقّاً } ، ومعناه : وكان الانتقام منهم حقاً ، ثم يبتدأ علينا { نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ} انتهى . وفي الوقف على { وَكَانَ حَقّاً } بيان أنه لم يكن الانتقام ظلماً ، بل عدلاً ، لأنه لم يكن إلا بعد كون بقائهم غير مفيد إلاّ زيادة الإثم وولادة الفاجر الكافر ، فكان عدمهم خيراً من وجودهم الخبيث .

٤٨

انظر تسفير الآية:٥٠

٤٩

انظر تسفير الآية:٥٠

٥٠

{اللّه الَّذِى يُرْسِلُ الرّيَاحَ } ، هذا متعلق بقوله :{ وَمِنْ ءايَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرّيَاحَ مُبَشّراتٍ } ، والجملة التي بينهما اعتراض ، جاءت تأنيساً للرسول وتسلية ووعداً بالنصر ووعيداً لأهل الكفر ، وفي إرسالها قدرة وحكمة . أما القدرة ، فإن الهواء اللطيف الذي يسبقه البرق بحيث يقلع الشجر ويهدم البناء ، وهو ليس بذاته يفعل ذلك ، بل بفاعل مختار .

وأما الحكمة ، ففيما يفضي إليه نفس الهبوب من إثارة السحب ، وإخراج الماء منه ، وإنبات الزرع ، ودر الضرع ، واختصاصه بناس دون ناس ؛ وهذه حكمة بالغة معروفة بالمشيئة والإثارة ، تحريكها وتسييرها . والبسط : نشرها في الآفاق ، والكسف : القطع . وتقدم الكلام على قوله :{ فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ } ، وذكر الخلاف في { كِسَفًا } وحاله من جهة القراء . والضمير في :{ مِنْ خِلاَلِهِ } ، الظاهر أنه عائد على السحاب ، إذ هو المحدث عنه ، وذكر الضمير لأن السحاب اسم جنس يجوز تذكيره وتأنيثه . قيل : ويحتمل أن يعود على { كِسَفًا } في قراءة من سكن العين ، والمراد بالسماء : سمت السماء ، كقوله :{ وَفَرْعُهَا فِى السَّمَاء}{ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاء } : أي أرض من يشاء إصابتها ، فاجأهم الاستبشار ، ولم يتأخر سرورهم . وقال الأخفش :{ مِن قَبْلِهِ } تأكيد لقوله :{ مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ}

و

قال ابن عطية : أفاد الإعلام بسرعة تقلب قلوب البشر من الإبلاس إلى الاستبشار ، وذلك أن قوله :{ مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ } يحتمل الفسحة في الزمان ، أي من قبل أن ينزل بكثير ، كالأيام ونحوه ، فجاء قوله :{ مِن قَبْلُ } بمعنى : أن ذلك متصل بالمطر ، فهو تأكيد مقيد .

وقال الزمخشري : وبمعنى التوكيد ، فيه الدلالة على أن عهدهم بالمطر قد تطاول وبعد ، فاستحكم يأسهم وتمادى إبلاسهم ، فكان الاستبشار على قدر اهتمامهم بذلك . انتهى . وما ذكره ابن عطية والزمخشري من فائدة التأكيد في قوله :{ مِن قَبْلِهِ } غير ظاهر ، وإنما هو عند ذكره لمجرد التوكيد ، ويفيد رفع المجاز فقط . وقال قطرب : التقدير : وإن كانوا من قبل التنزيل ، من قبل المطر . انتهى . وصار من قبل إنزال المطر : من قبل المطر ، وهذا تركيب لا يسوغ في كلام فصيح ، فضلاً عن القرآن .

وقيل : التقدير : من قبل تنزيل الغيث : من قبل أن يزرعوا ، ودل المطر على الزرع ، لأنه يخرج بسبب المطر ؛ ودل على ذلك قوله :{ فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً } ، يعني الزرع . انتهى . وهذا لا يستقيم ، لأن { مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ } متعلق بقوله :{ لَمُبْلِسِينَ} ولا يمكن من قبل الرزع أن يتعلق بمبلسين ، لأن حرفي جر لا يتعلقان بعامل واحد إلا إن كان بواسطة حرف العطف ، أو على جهة البدل . وليس التركيب هنا ومن قبله بحرف العطف ، ولا يصح فيه البدل ، إذا إنزال الغيث ليس هو الزرع ، ولا الزرع بعضه . وقد يتخيل فيه بدل الاشتمال بتكلف . أما لاشتمال الإنزال على الزرع ، بمعنى أن الزرع يكون ناشئاً عن الإنزال ، فكأن الإنزال مشتمل عليه ، وهذا على مذهب من يقول : الأول يشتمل على الثاني . وقال المبرد : الثاني السحاب ، ويحتاج أيضاً إلى حرف عطف حتى يمكن تعلق الحرفين بمبلسين . وقال علي بن عيسى : من قبل الإرسال . وقال الكرماني : ومن قبل الاستبشار ، لأنه قرنه بالإبلاس ، ولأنه منّ عليهم بالاستبشار . انتهى . ويحتاج قوله وقول ابن عيسى إلى حرف العطف ، فإن ادعى في قوله من جعل الضمير في من قبله عائد إلى غير إنزال الغيث أن حرف العطف محذوف ، أمكن ، لكن في حذف حرف العطف خلاف ، أينقاس أم لا ينقاس ؟ أما حذفه مع الجمل فجائز ،

وأما وحده فهو الذي فيه الخلاف .

وقرأ الحرميان ، وأبو عمرو ، وأبو بكر : إلى أثر ، بالإفراد ؛ وباقي السبعة : بالجمع ؛ وسلام : بكسر الهمزة وإسكان الثاء .

وقرأ الجحدري ، وابن السميفع ، وأبو حيوة : تحيي ، بالتاء للتأنيث ، والضمير عائد على الرحمة . وقال صاحب اللوامح : وإنما أنث الأثر لاتصاله بالرحمة إضافة إليها ، فاكتسب التأنيث منها ، ومثل ذلك لا يجوز إلا إذا كان المضاف بمعنى المضاف إليه ، أو من سببه .

وأما إذا كان أجنبياً ، فلا يجوز بحال . انتهى .

وقرأ زيد بن علي : نحيي ، بنون العظمة ؛ والجمهور :{ يُحْىِ } ، بياء الغيبة ، والضمير للّه ، ويدل عليه قراءة { ءاثَارِ } بالجمع ،

وقيل : يعود على أثر في قراءة من أفرد . وقال ابن جني :{ كَيْفَ يُحْىِ } جملة منصوبة الموضع على الحال حملاً على المعنى ، كأنه قال : محيياً ، وهذا فيه نظر .{ إِنَّ ذالِكَ } : أي القادر على إحياء الأرض بعد موتها ، هو الذي يحيي الناس بعد موتهم . وهذا الإخبار على جهة القياس في البعث ، والبعث من الأشياء التي هو قادر عليها تعالى .

٥١

انظر تسفير الآية:٥٣

٥٢

انظر تسفير الآية:٥٣

٥٣

{وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا } : أخبر تعالى عن حال تقلب ابن آدم ، أنه بعد الاستبشار بالمطر ، بعث اللّه ريحاً ، فاصفر بها النبات . لظلوا يكفرون قلقاً منهم ، والريح التي تصفر النبات صر حرور ، وهما مما يصبح به النبات هشيماً ، والحرور جنب الشمال إذا عصفت . والضمير في { فَرَأَوْهُ } عائد على ما يفهم من سياق الكلام ، وهو النبات .

وقيل : إلى الأثر ، لأن الرحمة هي الغيث ، وأثرها هو النبات . ومن قرأ : آثار ، بالجمع ، رجع الضمير إلى آثار الرحمة ، وهو النبات ، واسم النبات يقع على القليل والكثير ، لأنه مصدر سمى به ما ينبت . وقال ابن عيسى : الضمير في { فَرَأَوْهُ } عائد على السحاب ، لأن السحاب إذا اصفر لم يمطر ؛

وقيل : على الريح ، وهذان قولان ضعيفان .

وقرأ صباح بن حبيش : مصفاراً ، بألف بعد الفاء . واللام في { وَلَئِنِ } مؤذنة بقسم محذوف وجوابه لظلوا ، وهو مما وضع فيه الماضي موضع المستقبل اتساعاً تقديره : ليظلن ، ونظيره قوله تعالى :{ وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ بِكُلّ ءايَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ } : أي ما

يتبعون ذمهم تعالى في جميع أحوالهم ، كان عليهم أن يتوكلوا على فضل اللّه فقنطوا ، وإن شكروا نعمته فلم يزيدوا على الفرح والاستبشار ، وإن تصبروا على بلائه كفروا . والضمير في { مِن بَعْدِهِ } عائد على الاصفرار ، أي من بعد اصفرار النبات تجحدون نعمته . وتقدم الكلام على قوله :{ فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى } إلى قوله :{ فَهُم مُّسْلِمُونَ } في أواخر النمل ، إلا أن هنا الربط بالفاء في قوله :{ فَإِنَّكَ}

٥٤

انظر تسفير الآية:٥٨

٥٥

انظر تسفير الآية:٥٨

٥٦

انظر تسفير الآية:٥٨

٥٧

انظر تسفير الآية:٥٨

٥٨

لما ذكر دلائل الآفاق ، ذكر شيئاً من دلائل الأنفس ، وجعل الخلق من ضعف ، لكثرة ضعف الإنسان أول نشأته وطفوليته ، كقوله :{ خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} والقوة التي تلت الضعف ، هي رعرعته ونماؤه وقوته إلى فصل الاكتهال . والضعف الذي بعد القوة هو حال الشيخوخة والهرم .

وقيل :{ مّن ضَعْفٍ } : من النطفة ، كقوله :{ مّن مَّاء مَّهِينٍ} والترداد في هذه الهيئات شاهد بقدرة الصانع وعلمه .

وقرأ الجمهور : بضم الضاد في ضعف معاً ؛ وعاصم وحمزة : بفتحها فيهما ، وهي قراءة عبد اللّه وأبي رجاء . وروي عن أبي عبد الرحمن والجحدري والضحاك : الضم والفتح في الثاني .

وقرأ عيسى : بضمتين فيهما . والظاهر أن الضعف والقوة هما بالنسبة إلى ما عدا البدن من ذلك ، وإن الضم والفتح بمعنى واحد في ضعف . وقال كثير من اللغويين : الضم في البدن ، والفتح في العقل .{ مَا لَبِثُواْ } : هو جواب ، وهو على المعنى ، إذ لو حكى قولهم ، كان يكون التركيب : ما لبثنا غير ساعة ، أي ما أقاموا تحت التراب غير ساعة ، وما لبثوا في الدنيا : استقلوها لما عاينوا من الآخرة ، أو فيما بين فناء الدنيا إلى البعث ، وإخبارهم بذلك هو على جهة التسور والتقول بغير علم ، أو على جهة النسيان ، أو الكذب .{ يُؤْفَكُونَ } : أي يصرفون عن قول الحق والنطق بالصدق .

{الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ } : هم الملائكة والأنبياء والمؤمنون .{ فِى كِتَابِ اللّه } : فيما وعد به في كتابه من الحشر والبعث والعلم يعم الإيمان وغيره ، ولكن نص على هذا الخاص تشريفاً وتنبيهاً على محله من العلم .

وقيل :{ فِى كِتَابِ اللّه } : اللوح المحفوظ ،

وقيل : في علمه ،

وقيل : في حكمه .

وقرأ الحسن : البعث ، بفتح العين فيهما ، وقرىء : بكسرها ، وهو اسم ، والمفتوح مصدر . وقال قتادة : هو على التقديم والتأخير ، تقديره : أوتوا العلم في كتاب اللّه والإيمان .{ لَقَدْ لَبِثْتُمْ } : وعلى هذا تكون في بمعنى الباء ، أي العلم بكتاب اللّه ، ولعل هذا القول لا يصح عن قتادة ، فإن فيه تفكيكاً للنظم لا يسوغ في كلام غير فصيح ، فكيف يسوغ في كلام اللّه ؟ وكان قتادة موصوفاً بعلم العربية ، فلا يصدر عنه مثل هذا القول . والفاء في :{ فَهَاذَا يَوْمُ الْبَعْثِ } عاطفة لهذه الجملة المقولة على الجملة التي قبلها ، وهي :{ لَقَدْ لَبِثْتُمْ } ، اعتقبها في الذكر .

قال الزمخشري :

فإن قلت : ما هذه الفاء ، وما حقيقتها ؟

قلت : هي التي في قوله :

فقد جئنا خراساناً

وحقيقتها أنها جواب شرط يدل عليه الكلام ، كأنه قال : إن صح ما قلتم من أن أقصى ما يراد بنا قلنا القفول : قد جئنا خراساناً ، وإذا أمكن جعل الفاء عاطفة ، لم يتكلف إضمار شرط ، وجعل الفاء جواباً لذلك الشرط المحذوف ، لا تعلمون لتفريطكم في طلب الحق واتباعه .

وقيل : لا تعلمون البعث ولا تعرفون به ، فصار مصيركم إلى النار ، فتطلبون التأخير . { فَيَوْمَئِذٍ } : أي يوم إذ ، يقع ذلك من إقسام الكفار وقول أولي العلم لهم .

وقرأ الكوفيون :{ لاَّ ينفَعُ } ، بالياء هنا وفي الطول ، ووافقهم نافع في الطول ؛ وباقي السبعة بتاء التأنيث .{ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ } ،

قال الزمخشري : من قولك : استعتبنى فلان فأعتبته : أي استرضاني فأرضيته ، وذلك إذا كان جانياً عليه ، وحقيقته : أعتبته : أزلت عتبه . ألا ترى إلى قوله : غضبت تميم أن يقتل عامر

يوم النثار فأعتبوا بالصيلم

كيف جعلهم غضاباً . ثم قال : فأعتبوا : أي أزيل غضبهم ، والغضب في معنى العتب ، والمعنى : لا يقال لهم أرضوا ربكم بتوبة وطاعة ، ومثله قوله تعالى :{ فَالْيَوْمَ لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلاَ هُمْ يُسْتَعَتَبُونَ}

فإن قلت : كيف جعلوا غير مستعتبين في بعض الآيات ، وغير معتبين في بعضها ؟ وقوله :{ وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مّنَ الْمُعْتَبِينَ } ؟

قلت : أما كونهم غير مستعتبين ، فهذا معناه ؛

وأما كونهم غير معتبين ، فمعناه أنهم غير راضين بما هم فيه ؛ فشبهت حالهم بحال قوم جنى عليهم ، فهم عاتبون على الجاني ، غير راضى ن منه . فإن يستعتبوا اللّه : أي يسألوه إزالة ما هم فيه ، فما هم من المجابين إلى إزالته . و

قال ابن عطية : هذا إخبار عن هول يوم القيامة ، وشدّة أحواله على الكفرة في أنهم لا ينفعهم الاعتذار ، ولا يعطون عتبى ، وهو الرضا . ويستعتبون بمعنى : يعتبون ، كما تقول : يملك ويستملك . والباب في استفعل أنه طلب الشيء وليس هذا منه ، لأن المعنى لا يفسد إذا كان المفهوم منه ، ولا يطلب منهم عتبى . انتهى . فيكون استفعل في هذا بمعنى الفعل المجرد ، وهو عتب ، أي هم من الإهمال وعدم الالتفات إليهم بمنزلة من لا يؤهل للعتب . وقد قيل : لا يعاتبون على سيئاتهم ، بل يعاقبون .

وقيل : لا يطلب لهم العتبى .

وقيل : لا يلتمس منهم عمل وطاعة ، ولكن ضربنا إشارة إلى إزالة الأعذار والإتيان بما فوق الكفاية من الإنذار .

وقال الزمخشري : وصفنا لهم كل صفة كأنها مثل في غرابتها ، وقصصنا عليهم كل قصة عجيبة الشأن ، كصفة المبعوثين يوم القيامة ، وما يقال لهم ، وما لا يقع من اعتذارهم ، ولا يسمع من استعتابهم ، ولكنهم لقسوة قلوبهم ومج أسماعهم حديث الآخرة ، إذا جئتهم بآية من آيات القرآن قالوا : أجئتنا بزور باطل ؟ انتهى . و { أَنتُمْ } : خطاب للرسول والمؤمنين ، أي : تبطلون في دعواكم الحشر والجزاء . وقال أبو عبد اللّه الرازي : وفي توحيد الخطاب بقول :{ وَلَئِن جِئْتَهُمْ } ، والجمع في قوله :{ إِنْ أَنتُمْ } لطيفة ، وهي : أن اللّه عز وجل قال :{ وَلَئِن جِئْتَهُمْ } بكل آية جاءت بها الرسل ، فيمكن أن يجاوبوه بقوله : أنتم كلكم أيها المدعون الرسالة مبطلون .

٥٩

انظر تسفير الآية:٦٠

٦٠

{كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللّه} : أي مثل هذا الطبع يطبع اللّه ، أي يحتم على قلوب الجهلة الذين قد حتم اللّه عليهم الكفر في الأزل ، وأسند الطبع إلى ذاته تعالى ، إذ هو فاعل ذلك ومقدره .

وقال الزمخشري : ومعنى طبع اللّه : صنع الألطاف التي يشرح لها الصدور حتى تقبل الحق ، ثم قال : فكأنه كذلك تصدأ القلوب وتقسو قلوب الجهلة حتى يسموا المحقين مبطلين ، وهم أعرف خلق اللّه في تلك الصفة . انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال . ثم أمره تعالى بالصبر على عداوتهم ، وقوّاه بتحقق الوعد أنه لا بد من إنجازه والوفاء به ، ونهاه عن الاهتزاز بكلامهم والتحرك ، فإنهم لا يقين لهم ولا بصيرة .

وقرأ ابن أبي إسحاق ، ويعقوب : ولا يستحقنك : بحاء مهملة وقاف ، من الاستحقاق ؛ والجمهور : بخاء معجمة وفاء ، من الاستخفاف ؛ وسكن النون ابن أبي عبلة ويعقوب ، والمعنى : لا يفتننك ويكونوا أحق بك من المؤمنين .

﴿ ٠