سورة لقمان

١

الم

لقمان : اسم علم ، فإن كان أعجمياً فمنعه من الصرف للعجمة والعلمية ، وإن كان عربياً فمنعه للعلمية وزيادة الألف والنون ، ويكون مشتقاً من اللقم مرتجلاً ، إذ لا يعلم له وضع في النكرات . صعر : مشدد العين ، لغة بني تميم . قال شاعرهم : وكنا إذا الجبار صعر خده

أقمنا له من ميله فيقوم

فيقوم : أمر بالاستقامة للقوافي في المخفوضة ، أي فيقوم إن قاله أبو عبيدة وانشاد الطبري فيقوما فعلاً ماضياً خطأ ، وتصاعر لغة الحجاز ،

ويق

نا له من خده المتصعر

ويقال : أصعر خده . قال الفضل : هو الميل ، وقال اليزيدي : هو التشدق في الكلام . وقال أبو عبيدة : أصل هذا من الصعر ، داء يأخذ الإبل في رؤوسها وأعناقها ، فتلتوى منه أعناقها . القلم : معروف . الختار : شديد الغدر ، ومنه قولهم : إنك لا تمد إلينا شبراً من غدر

إلا مددنا لك باعاً من ختر

وقال عمرو بن معدي كرب : وإنك لو رأيت أبا عمير

ملأت يديك من غدر وختر

وقال الأعشى : فالأيلق الفرد من تيماء منزله

حصن حصين وجار غير ختار

٢

انظر تسفير الآية:٦

٣

انظر تسفير الآية:٦

٤

انظر تسفير الآية:٦

٥

انظر تسفير الآية:٦

٦

هذه السورة مكية ، قال ابن عباس : إلا ثلاث آيات ، أولهنّ :{ وَلَوْ أَنَّ مَّا فِى الاْرْضِ} وقال قتادة : إلا آيتين ، أوّلهما :{ وَلَوْ أَنَّ } إلى آخر الآيتين ، وسبب نزولها أن قريشاً سألت عن قصة لقمان مع ابنه ، وعن بر والديه ، فنزلت .

وقيل : نزلت بالمدينة إلا الآيات الثلاث :{ وَلَوْ أَنَّ مَّا فِى الاْرْضِ } إلى آخرهنّ ، لما نزل { وَمَا أُوتِيتُم مّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} وقول اليهود : إن اللّه أنزل التوراة على موسى وخلفها فينا ومعنا ، فقال الرسول : { التوراة وما فيها من الأنباء قليل في علم اللّه } ، فنزل : { وَلَوْ أَنَّ مَّا فِى الاْرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ} ومناسبتها لما قبلها أنه

قال تعالى :{ وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِى هَاذَا الْقُرْءانِ مِن كُلّ مَثَلٍ } ، فأشار إلى ذلك بقوله :{ الم تِلْكَ ءايَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ } ؛ وكان في آخر تلك :{ وَلَئِن جِئْتَهُمْ بِئَايَةٍ } ، وهنا :{ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءايَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً } ، وتلك إشارة إلى البعيد ، فاحتمل أن يكون ذلك لبعد غايته وعلو شأنه .

و { الْكِتَابِ الْحَكِيمِ } : القرآن واللوح المحفوط . ووصف الكتاب بالحكيم ، إما لتضمنه للحكمة ، قيل :أو فعيل بمعنى المحكم ، وهذا يقل أن يكون فعيل بمعنى مفعل ، ومنه عقدت العسل فهو عقيد ، أي معقد ، ويجوز أن يكون حكيم بمعنى حاكم .

وقال الزمخشري : الحكيم : ذو الحكمة ؛ أو وصف لصفة اللّه عز وجل على الإسناد المجازي ، ويجوز أن يكون

الأصل الحكيم قابله ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، فبانقلابه مرفوعاً بعد الجر استكن في الصفة المشبهة .

وقرأ الجمهور : { هُدًى وَرَحْمَةً } ، بالنصب على الحال من الآيات ، والعامل فيها ما في تلك من معنى الإشارة ، قاله الزمخشري وغيره ، ويحتاج إلى نظر .

وقرأ حمزة ، والأعمش ، والزعفراني ، وطلحة ، وقنبل ، من طريق أبي الفضل الواسطي : بالرف ، خبر مبتدأ محذوف ، أو خبر بعد خبر ، على مذهب من يجيز ذلك .{ لّلْمُحْسِنِينَ } : يعملون الحسنات ، وهي التي ذكرها ، كإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والإيقان بالآخرة ، ونظيره قول أوس : الألمعي الذي يظن بك الظن كأن قد رأى وقد سمعا

حكي عن الأصمعي أنه سئل عن الألمعي فأنشده ولم يزد ، وخص المحسنون ، لأنهم هم الذين انتفعوا به ونظروه بعين الحقيقة .

وقيل : الذين يعملون بالحسن من الأعمال ، وخص منهم القائمون بهذه الثلاث ، لفضل الاعتداد بها . ومن صفة الإحسان ما جاء في الحديث من أن الإحسان : { أن تعبد اللّه كأنك تراه} .

وقيل : المحسنون : المؤمنون . وقال ابن سلام : هم السعداء . وقال ابن شجرة : هم المنجحون .

وقيل : الناجون ، وكرر الإشارة إليهم تنبيهاً على عظم قدرهم . ولما ذكر من صفات القرآن الحكمه ، وأنه هدى ورحمة ، وأن متبعه فائز ، ذكر حال من يطلب من بدل الحكمة باللّهو ، وذكر مبالغته في ارتكابه حتى جعله مشترياً له وباذلاً فيه رأس عقله ، وذكر علته وأنها الإضلال عن طريق اللّه .

ونزلت هذه الآية في النضر بن الحارث ، كان يتجر إلى فارس ، ويشتري كتب الأعاجم ، فيحدث قريشاً بحديث رستم واسفندار ويقول : أنا أحسن حديثاً .

وقيل : في ابن خطل ، اشترى جارية تغني بالسب ، وبهذا فسر { لَهْوَ الْحَدِيثِ } : المعازف والغناء . وفي الحديث من رواية أبي أمامة ، أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : { شراء المغنيات وبيعهم حرام } ،

وقرأ هذه الآية . وقال الضحاك : { لَهْوَ الْحَدِيثِ } : الشرك . وقال مجاهد ، وابن جريج : الطبل ، وهذا ضرب من آلة الغناء . وقال عطاء : الترهات .

وقيل : السحر .

وقيل : ما كان يشتغل به أهل الجاهلية من السباب . وقال أيضاً : ما شغلك عن عبادة اللّه ، وذكره منالسحر والأضاحيك والخرافات والغناء . وقال سهل : الجدال في الدين والخوض في الباطل ، والظاهر أن الشراء هنا مجاز عن اختيار الشيء ، وصرف عقله بكليته إليه . فإن أريد به ما يقع عليه الشراء ، كالجواري المغنيات عند من لا يرى ذلك ، وككتب الأعاجم التي اشتراها النضر ؛ فالشراء حقيقة ويكون على حذف ، أي من يشتري ذات لهو الحديث . وإضافة لهو إلى الحديث هي لمعنى من ، لأن اللّهو قد يكون من حديث ، فهو كباب ساج ، والمراد بالحديث : الحديث المنكر .

وقال الزمخشري : ويجوز أن تكون الإضافة بمعنى من التبعيضية ، كأنه قال : ومن الناس من يشتري بعض الحديث الذي هو اللّهو منه . انتهى .

وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو :{ لِيُضِلَّ } بفتح الياء ، وباقي السبعة : بضمها .

قال الزمخشري :

فإن قلت : القراءة بالرفع بينة ، لأن النضر كان غرضه باشتراء اللّهو أن يصد الناس عن الدخول في الإسلام واستماع القرآن ويضلهم عنه ، فما معنى القراءة بالفتح ؟

قلت : معنيان ،

أحدهما : ليثبت على ضلاله الذي كان عليه ، ولا يصدق عنه ، ويزيد فيه ويمده بأن المخذول كان شديد الشكيمة قد عداوة الدين وصد الناس عنه .

والثاني : أن يوضع ليضل موضع ليضل من قبل أن من أضل كان ضالاً لا محالة ، فدل بالرديف على المردوف .

فإن قلت : قوله بغير علم ما معناه

قلت : لما جعله مشترياً لهو الحديث بالقرآن قال : يشتري بغير علم بالتجارة وبغير بصيرة بها ، حيث يستبدل الضلال بالهدى والباطل بالحق ، ونحوه قوله تعالى : { فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } ،أي وما كانوا مهتدين للتجارة وبصراء بها . انتهى . و { سَبِيلِ اللّه } : الإسلام أو القرآن ، قولان .

قال ابن عطية : والذي يترجح أن الآية نزلت في لهو الحديث مضافاً إلى الكفر ، فلذلك اشتدت ألفاظ الآية بقوله :{ لِيُضِلَّ } إلى آخره .

وقرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص :{ وَيَتَّخِذَهَا } ، بالنصب عطفاً على { لِيُضِلَّ } ، تشريكاً في الصلة ؛ وباقي السبعة : بالرفع ، عطفاً على { يَشْتَرِى } ، تشريكاً في الصلة . والظاهر عود ضمير { وَيَتَّخِذَهَا } على السبيل ، كقوله :{ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا} قيل : ويحتمل أن يعود على { الْكِتَابِ الْحَكِيمِ}

وقال تعالى :{ وَلاَ تَتَّخِذُواْ آيَاتِ اللّه هُزُوًا} قيل : ويحتمل أن يعود على الأحاديث ، لأن الحديث اسم جنس بمعنى الأحاديث . وقال صاحب التحرير : ويظهر لي أنه أراد بلهو الحديث : ما كانوا يظهرونه من الأحاديث في تقوية دينهم ، والأمر بالدوام عليه ، وتفسير صفة الرسول ، وأن التوراة تدل على أنه من ولد إسحاق ، يقصدون صد أتباعهم عن الإيمان ، وأطلق اسم الشراء لكونهم يأخذون على ذلك الرشا والجعائل من ملوكهم ، ويؤيده { لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللّه } : أي دينه . انتهى ، وفيه بعض حذف وتلخيص .

٧

انظر تسفير الآية:١١

٨

انظر تسفير الآية:١١

٩

انظر تسفير الآية:١١

١٠

انظر تسفير الآية:١١

١١

{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ } : بدأ أولاً بالحمل على اللفظ ، فأفرد في قوله :{ مَن يَشْتَرِى } ،{ وليضل } ،{ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا } ، ثم جمع على الضمير في قوله :{ أُوْلئِكَ لَهُمْ } ، ثم حمل على اللفظ فأفرد في قوله :{ وَإِذَا تُتْلَى } إلى آخره . ومن في :{ مَن يَشْتَرِى } موصولة ، ونظيره في من الشرطية قوله :{ وَمَن يُؤْمِن مِنْ بِاللّه } ، فما بعده أفرد ثم قال :{ خَالِدِينَ } ، فجمع ثم قال :{ قَدْ أَحْسَنَ اللّه لَهُ رِزْقاً } ، فأفرد ، ولا نعلم جاء في القرآن ما حمل على اللفظ ، ثم على المعنى ، ثم على اللفظ ، غير هاتين الآيتين . والنحويون يذكرون { وَمَن يُؤْمِن بِاللّه } الآية فقط ، ثم على المعنى ، ثم على اللفظ ، ويستدلون بها على أن هذا الحكم جار في من الموصولة ونظيرها مما لم يثن ولم يجمع من الموصولات . وتضمنت هذه الآية ذم المشتري من وجوه التولية عن الحكمة ، ثم الاستكبار ، ثم عدم الالتفات إلى سماعها ، كأنه غافل عنها ، ثم الإيغال في الإعراض بكون أذنيه كأن فيهما صمماً يصده عن السماع . و { كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا } : حال من الضمير في { مُسْتَكْبِراً } ،أي مشبهاً حال من لم يسمعها ، لكونه لا يجعل لها بالاً ولا يلتفت إليها ؛ وكأن هي المخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الشأن واجب الحذف . و { كَأَنَّ فِى أُذُنَيْهِ وَقْراً } : حال من لم يسمعها .

وقال الزمخشري : ويجوز أن يكونا استئنافين . انتهى ، يعني الجملتين التشبيهيتين .

ولما ذكر ما وعد به الكفار من العذاب الأليم ، ذكر ما وعد به المؤمنين .

وقرأ زيد بن علي : خالدون ، بالواو ؛ والجمهور : بالياء . وانتصب { وَعَدَ اللّه } على أنه مصدر مؤكد لنفسه ، و { حَقّاً } على المصدر المؤكد لغيره ، لأن قوله :{ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ } ، والعامل فيها متغاير ، فوعد اللّه منصوب ، أي يوعد اللّه وعده ، وحقاً منصوب بأحق ذلك حقاً .{ خُلِقَ السَّمَاوَاتِ } إلى { فَأَنبَتْنَا فِيهَا } ، تقدم الكلام على ذلك . ومعنى { كَرِيمٌ } : مدحته بكرم جوهره ونفاسته وحسن منظره ، وما تقضي له النفوس بأنه أفضل من غيره حتى استحق الكرم ، فيخص لفظ الأزواج ما كان نفيساً مستحسناً من جهة ، أو مدحته بإتقان صفته وظهور حسن الرتبة والتحكم للصنع فيه ، فيعم جميع الأزواج ، وهو الأنواع .{ هَاذَا خَلْقُ اللّه } : إشارة إلى ما ذكر من مخلوقاته ، وبخ بذلك الكفار وأظهر حجته . والخلق بمعنى المخلوق ، كقولهم : درهم ضرب الأمير ، أي مضروبه . ثم سألهم على جهة التهكم بهم أن يورده .

وأما خلقته آلتهم لما ذكر مخلوقاته ، فكيف عبدوها من دونه ؟ ويجوز في ماذا أن تكون كلها موصولة بمعنى الذي ، وتكون مفعولاً ثانياً لأروني . واستعمال ماذا كلها موصولاً قليل ، وقد ذكره سيبويه . ويجوز أن تكون ما استفهامية في موضع رفع على الابتداء ، وذا موصولة بمعنى الذي ، وهو خبر عن ما ، والجملة في موضع نصب بأروني ، وأروني معلقة عن العمل لفظاً لأجل الاستفام . ثم أضرب عن توبيخهم وتبكيتهم إلى التسجيل عليهم بأنهم في حيرة واضحة لمن يتدبر ، لأن من عبد صنماً وترك خالقه جدير بأن يكون في حية وتيه لا يقلع عنه .

١٢

انظر تسفير الآية:١٣

١٣

اختلف في لقمان ، أكان حراً أم عبداً ؟ فإذا قلنا : كان حراً ، فقيل : هو ابن باعورا . قال وهب : ابن أخت أيوب عليه السلام . وقال مقاتل : ابن خالته .

وقيل : كان من أولاد آزر ، وعاش ألف سنة ، وأدرك داود عليه السلام ، وأخذ منه العلم ، وكان يفتي قبل مبعث داود ، فلما بعث داود ، قطع الفتوى ، فقيل له : لم ؟ فقال : ألا أكتفي إذا كفيت ؟ وكان قاضياً في بني إسرائيل . وقال الواقدي : كان قاضياً في بني إسرائيل ، وزمانه ما بين عيسى ومحمد ، عليهما السلام ، والأكثرون على أنه لم يكن نبياً . وقال عكرمة ، والشعبي : كان نبياً . وإذا قلنا : كان عبداً ، اختلف في جنسه ، فقال ابن عباس ، وابن المسيب ، ومجاهد : كان نوبياً مشقق الرجلين ذا مشافر . وقال الفراء وغيره : كان حبشياً مجدوع الأنف ذا مشفر . واختلف فيما كان يعانيه من الأشغال ، فقال خالد بن الربيع : كان نجاراً ، وفي معاني الزجاج : كان نجاداً ، بالدال . وقال ابن المسيب : كان خياطاً .

وقال ابن عباس : كان راعياً .

وقيل : كان يحتطب لمولاه كل يوم حزمة . وهذا الاضطراب في كونه حراً أو عبداً ، وفي جنسه ، وفيما كان يعانيه ، يوجب أن لا يكتب شيء من ذلك ، ولا ينقل . لكن المفسرون مولعون بنقل المضطربات حشواً وتكثيراً ، والصواب تركه .

وحكمة لقمان مأثورة كثيرة ، منها : قيل له : أي الناس شر ؟ قال : الذي لا يبالي أن يراه الناس مسيئاً . وقال له داود ، عليه السلام ، يوماً : كيف أصبحت ؟ قال : أصبحت في يد غيري ، فتفكر داود فيه ، فصعق صعقة . وقال وهب بن منبه : قرأت في حكم لقمان أكثر من عشرة آلاف . و { الْحِكْمَةَ } : المنطق الذي يتعظ به ويتنبه به ، ويتناقله الناس لذلك .{ أَنِ اشْكُرْ } ،

قال الزمخشري : أن هي المفسرة ، لأن إيتاء الحكمة في معنى القول ، وقد نبه سبحانه على أن الحكمة الأصلية والعلم الحقيقي هو العمل بهما ، أو عبادة اللّه والشكر له ، حيث فسر إيتاء الحكمة بالبعث على الشك . وقال الزجاج : المعنى :{ وَلَقَدْ ءاتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ } لأن يشكر اللّه ، فجعلها مصدرية ، لا تفسيرية .

وحكى سيبويه : كتبت إليه بأن قم .{ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ } : أي ثواب الشكر لا يحصل إلا للشاكرين ، إذ هو تعالى غني عن الشكر ، فشكر الشاكر لا ينفعه ، وكفر من كفر لا يضره . و { حَمِيدٌ } : مستحق الحمد لذاته وصفاته .

{وَإِذْ قَالَ } : أي واذكر إذ ،

وقيل :

يحتمل أن يكون التقدير : وآتيناه الحكمة ، إذ قال ، واختصر لدلالة المتقدم عليه . وابنه بارّ ، أي : أو أنعم ، أو اشكر ، أو شاكر ، أقوال . { وَهُوَ يَعِظُهُ } : جملة حالية . قيل : كان ابنه وامرأته كافرين ، فما زال يعظهما حتى أسلما . والظاهر أن قوله :{ إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } من كلام لقمان .

وقيل : هو خبر من اللّه ، منقطع عن كلام لقمان ، متصل به في تأكيد المعنى ؛ وفي صحيح مسلم ما ظاهره أنه من كلام لقمان .

وقرأ البزي :{أَوْ بَنِى } ، بالسكون ، و { وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا } : بكسر الياء ، و { لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً أَقِمِ } : بفتحها .

وقيل : بالسكون في الأولى والثانية ، والكسر في الوسطى ؛ وحفص والمفضل عن عاصم : بالفتح في الثلاثة على تقدير يا بنيا ، والاجتزاء بالفتحة عن الألف .

وقرأ باقي السبعة : بالكسر في الثلاثة .

١٤

انظر تسفير الآية:١٨

١٥

انظر تسفير الآية:١٨

١٦

انظر تسفير الآية:١٨

١٧

انظر تسفير الآية:١٨

١٨

{وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوالِدَيْهِ } : لما بين لقمان لابنه أن الشرك ظلم ونهاه عنه ، كان ذلك حثاً على طاعة اللّه ، ثم بين أن الطاعة تكون للأبوين ، وبين السبب في ذلك ، فهو من كلام لقمان مما وصى به ابنه ، أخبر اللّه عنه بذلك .

وقيل : هو من كلام اللّه ، قاله للقمان ، أي قلنا له اشكر . وقلنا له :{ وَوَصَّيْنَا}

وقيل : هذه الآية اعتراض بيّن أثناء وصيته للقمان ، وفيها تشديد وتوكيد لاتباع الولد والده ، وامتثال أمره في طاعة اللّه تعالى . وقال القرطبي : والصحيح أن هذه الآية وآية العنكبوت نزلتا في سعد بن أبي وقاص ، وعليه جماعة من المفسرين . ولما خص الأم بالمشقات من الحمل والنفاس والرضاع والتربية ، نبه على السبب الموجب للإيصاء ، ولذلك جاء في الحديث الأمر ببرّ الأم ثلاث مرات ، ثم ذكر الأب ، فجعل له مرة الربع من المبرة .

{وَهْناً عَلَى وَهْنٍ } ، قال ابن عباس : شدة بعد شدة ، وخلقاً بعد خلق . وقال الضحاك : ضعفاً بعض ضعف . وقال قتادة : جهداً على جهد ، يعني : ضعف الحمل ، وضعف الطلق ، وضعف النفاس ، وانتصب على هذه الأقوال على الحال .

وقيل :{ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ } : نطفة ثم علقة ، إلى آخر النشأة ، فعلى هذا يكون حالاً من الضمير المنصوب في حملته ، وهو الولد .

وقرأ عيسى الثقفي ، وأبو عمرو في رواية : وهناً على وهن ، بفتح الهاء فيهما ، فاحتمل أن يكون كالشعر والشعر ، واحتمل أن يكون مصدر وهن بكسر الهاء يوهن وهناً ، بفتحها في المصدر قياساً .

وقرأ الجمهور : بسكون الهاء فيهما . وقرؤا :{ وَفِصَالُهُ}

وقرأ الحسن ، وأبو رجاء ، وقتادة ، والجحدري ، ويعقوب : وفصله ، ومعناه الفطام ، أي في تمام عامين ، عبر عنه بنهايته ، وأجمعوا على اعتبار العامين في مدة الرضاع في باب الأحكام والنفقات ،

وأما في تحريم اللبن في الرضاع فخلاف مذكور في الفقه . و { أَنِ اشْكُرْ } في موضع نصب ، على قول الزجاج . وقال النحاس : الأجود أن تكون مفسرة .{ لِى } : أي على نعمة الإيمان .{ وَلِوالِدَيْكَ } : على نعمة التربية { إِلَىَّ الْمَصِيرُ } : توعد أثناء الوصية .{ وَإِن جَاهَدَاكَ } إلى :{ فَلاَ تُطِعْهُمَا } : تقدم الكلام عليه في العنكبوت ، إلا أن هنا عليّ ، وهناك لتشرك بلام العلة . وانتصب { مَّعْرُوفاً } على أنه صفة لمصدر محذوف ، أي صحاباً ، أو مصاحباً معروفاً وعشرة جميلة ، وهو إطعامهما وكسوتهما وعدم جفائهما وانتهارهما ، وعيادتما إذا مرضا ، ومواراتهما إذا ماتا .{ وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَىَّ } : أي رجع إلى اللّه ، وهو سبيل الرسول لا سبيلهما .{ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ } : أي مرجعك ومرجعهما ، فأجازي كلاً منكم بعمله .

ولما نهى لقمان ابنه عن الشرك ، نبهه على قدرة اللّه ، وأنه لا يمكن أن يتأخر عن مقدوره شيء فقال :{ تَعْمَلُونَ يابُنَىَّ إِنَّهَا إِن تَكُ } ، والظاهر أن الضمير في إنها ضمير القصة .

وقرأ نافع : مثقال ، بالرفع على { إِن تَكُ } تامة ، وهي قراءة الأعرج وأبي جعفر ، وأخبر عن مثقال ، وهو مذكر ، إخبار المؤنث ، لأضافته إلى مؤنث ، وكأنه قال : إن تك زنة حبة ؛ وباقي السبعة : بالنصب على { إِن تَكُ } ناقصة ، واسمها ضمير يفهم من سياق الكلام تقديره : هي ، أي التي سألت عنها . وكان فيما روي قد سأل لقمان ابنه : أرأيت الحبة تقع في مغاص البحر ؟ أيعلمها اللّه ؟ فيكون الضمير ضمير جوهر لا ضمير عرض ، ويؤيده قوله :{ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ}

وقرأ عبد الكريم الجزري : فتكن ، بكسر الكاف وشد النون وفتحها ؛ وقراءة محمد بن أبي فجة البعلبكي : فتكن ، بضم التاء وفتح الكاف والنون مشددة .

وقرأ قتادة : فتكن ، بفتح التاء وكسر الكاف وسكون النون ، من وكن يكن ، ورويت هذه القراءة عن عبد الكريم الجزري أيضاً : أي تستقر ، ويجوز أن يكون الضمير ضمير عرض ، أي تلك الفعلة من الطاعة أو المعصية . وعلى من قرأ بنصب مثقال ، يجوز أن يكون الضمير في أنها ضمير الفعلة ، لا ضمير القصة .

قال الزمخشري : فمن نصب يعني مثقال ، كان الضمير للّهيئة من الإساءة والإحسان ، أي كانت مثلاً في الصغر والقماءة ، كحبة

الخردل ، فكانت مع صغرها في أخفى موضع وأحرزه ، كجوف الصخرة ، أو حيث كانت من العالم العلوي أو السفلي .

{يَأْتِ بِهَا اللّه } ، يوم القيامة ، فيحاسب عليها .{ إِنَّ اللّه لَطِيفٌ } ، يتوصل علمه إلى كل خفي .{ خَبِيرٌ } : عالم يكنهه . وعن قتادة : لطيف باستخراجها ، خبير بمستقرها . وبدأ له بما يتعلق به أولاً ، وهو كينونة الشيء .{ فِى صَخْرَةٍ } : وهو ما صلب من الحجر وعشر إخراجه منها ، ثم أتبعه بالعالم العلوي ، وهو أغرب للسامع ، ثم أتبعه بما يكون مقر الأشياء للشاهد ، وهو الأرض .

وعن ابن عباس والسدي ، أن هذه الصخرة هي التي عليها الأرض . قال ابن عباس : هي تحت الأرضين السبع ، يكتب فيها أعمال الفجار .

قال ابن عطية : قيل : أراد الصخرة التي عليها الأرض والحوت والماء ، وهي على ظهر ملك .

وقيل : هي صخرة في الريح ، وهذا كله ضعيف لا يثبت سنده ، وإنما معنى الكلام : المبالغة والانتهاء في التفهم ، أي إن قدرته تنال ما يكون في تضاعيف صخرة ، وما يكون في السماء والأرض . انتهى . قيل : وخفاء الشيء يعرف بصغره عادة ، ويبعده عن الرائي . وبكونه في ظلمة وباحتجابه ، ففي صخرة إشارة إلى الحجاب ، وفي السموات إشارة إلى البعد ، وفي الأرض إشارة إلى الظلمة ، فإن جوف الأرض أظلم الأماكن .

وفي قوله :{ يَأْتِ بِهَا اللّه } دلالة على العلم والقدرة ، كأنه قال : يحيط بها علمه وقدرته .

ولما نهاه أولاً عن الشرك ، وأخبره ثانياً بعلمه تعالى وباهر قدرته ، أمره بما يتوسل به إلى اللّه من الطاعات ، فبدأ بأشرفها ، وهو الصلاة ، حيث يتوجه إليه بها ، ثم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ثم بالصبر على ما يصيبه من المحن جميعها ، أو على ما يصيبه بسبب الأمر بالمعروف ممن يبعثه عليه ، والنهي عن المنكر ممن ينكره عليه ، فكثيراً ما يؤذى فاعل ذلك ، وهذا إنما يريد به بعد أن يمثل هو في نفسه فيأتي بالمعروف . إن ذلك إشارة إلى ما تقدم مما نهاه عنه وأمره به . والعزم مصدر ، فاحتمل أن يراد به المفعول ، أي من معزوم الأمور ، واحتمل أن يراد به الفاعل ، أي عازم الأمور ، كقوله :{ فَإِذَا عَزَمَ الاْمْرُ} وقال ابن جريج : مما عزمه اللّه وأمر به ؛

وقيل : من مكارم الأخلاف وعزائم أهل الحزم السالكين طريق النجاة . والظاهر أنه يريد من لازمات الأمور الواجبة ، لأن الإشارة بذلك إلى جميع ما أمر به ونهى عنه . وهذه الطاعات يدل إيصاء لقمان على أنها كانت مأموراً بها في سائر الملل . والعزم : ضبط الأمر ومراعاة إصلاحه . وقال مؤرج : العزم : الحزم ، بلغة هذيل . والحزم والعزم أصلان ، وما قاله المبرد من أن العين قلبت حاء ليس بشيء ، لاطراد تصاريف كل واحد من اللفظين ، فليس أحدهما أصلاً للآخر .

{وَلاَ تُصَعّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ } : أي لا تولهم شق وجهك ، كفعل المتكبر ، وأقبل على الناس بوجهك من غير كبر ولا إعجاب ، قاله ابن عباس والجماعة . قال ابن خويز منداد : نهى أن يذل نفسه من غير حاجة ، وأورد قريباً من هذا ابن عطية احتمالاً فقال : ويحتمل أن يريد : ولا سؤالاً ولا ضراعة بالفقر . قال : والأول ، يعني تأويل ابن عباس والجماعة ، أظهر لدلالة ذكر الاختيال والعجز بعده . وقال مجاهد :{ وَلاَ تُصَعّرْ } ، أراد به الإعراض ، كهجره بسب أخيه .

وقرأ ابن كثير ، وابن عامر ، وعاصم ، وزيد بن علي : تصعر ، بفتح الصادر وشد العين ؛ وباقي السبعة : بألف ؛ والجحدري : يصعر مضارع أصعر .{ وَلاَ تَمْشِ فِى الاْرْضِ مَرَحًا } : تقدم الكلام على هذه الجملة في سورة سبحان .{ إِنَّ اللّه لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } : تقدم الكلام في النساء على نظير هذه الجملة في قوله :{ إِنَّ اللّه لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً} ولما وصى ابنه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، إذ صار هو في نفسه ممتثلاً للمعروف مزدجراً عن المنكر ، أمر به غيره وناهياً عنه غيره ، نهاه عن التكبر على الناس والإعجاب والمشي مرحاً ، وأخبره أنه تعالى لا يحب المختال ، وهو المتكبر ، ولا الفخور . قال مجاهد : وهو الذي يعدد ما أعطي ، ولا يشكر اللّه . ويدخل في الفخور : الفخر بالأنساب .

١٩

{وَاقْصِدْ فِى مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ } : ولما نهاه عن الخلق الذميم ، أمره بالخلق الكريم ، وهو القصد في المشي ، بحيث لا يبطيء ، كما يفعل المتنامسون والمتعاجبون ، يتباطؤون في نقل خطواتهم المتنامين للرياء والمتعاجب للترفع ، ولا يسرع ، كما يفعل الخرق

المتهور . ونظر أبو جعفر المنصور إلى أبي عمرو بن عبيد فقال : كلكم يمشي رويداً ، كلكم يطلب صيداً ، غير عمرو بن عبيد . وقال ابن مسعود : كانوا ينهون عن خبب اليهود ودبيب النصارى ، ولكن مشياً بين ذلك .

وقيل : معناه : اجعل بصرك موضع قدمك . وقرىء : وأقصد ، بهمزة القطع : أي سدد في مشيك ؛ من أقصده الرامي إذا سدد سهمه نحو الرمية ، ونسبها ابن خالويه للحجاز . والغض من الصوت : التنقيص من رفعه وجهارته ، والغض : رد طموح الشيء ، كالصوت والنظر والزمام . وكانت العرب تفتخر بجهارة الصوت ، وتمدح به في الجاهلية ، ومنه قول الشاعر : جهير الكلام جهير العطاس

جهير الرواء جهير النعيم

ويخطو على الأين خطو الظليم

ويعلو الرجال بخلق عميم

وغض الصوت أوفر للمتكلم ، وأبسط لنفس السامع وفهمه . وأنكر : أفعل ، إن بنى من فعل المفعول ، كقولهم : أشغل من ذات النحيين ؛ وبناؤه من ذلك شاذ . والأصوات : أصوات الحيوان كلها . وأنكر جماعة للمذام اللاحقة للأصوات ، والحمار مثل في الذم البليغ والشتيمة . شبه الرافعون أصواتهم بالحمير ، وأصواتهم بالنهاق ، ولم يؤت بأداة التشبيه ، بل أخرج مخرج الاستعارة ، وهذه أقصى مبالغة في الذم والتنفير عن رفع الصوت . ولما كان صوت الحمير متماثلاً في نفسه ، لا يكاد يختلف في الفظاعة ، أفرد لأنه في الأصل مصدر .

وأما أصوات الحمير فغير مختلفة جداً ، جمعت في قوله : { إِنَّ أَنكَرَ الاْصْواتِ } ،

فالمعنى : أنكر أصوات الحمير ، بالجمع بغير لام . وقال الحسن : كان المشركون يتفاخرون برفع الأصوات ، فرد عليهم بأنه لو كان خيراً ، فضل به الحمير . والظاهر أن قوله :{ إِنَّ أَنكَرَ الاْصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ } من كلام لقمان لابنه ، تنفير له عن رفع الصوت ، ومماثلة الحمير في ذلك . قيل : هو من كلام اللّه تعالى ، وفرغت وصية لقمان في قوله :{ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ } رداً للّه به على المشركين الذين كانوا يتفاخرون بجهارة الصوت ، ورفع الصوت يؤذي السامع ويقرع الصماخ بقوة ، وربما يخرج الغشاء الذي هو داخل الأذن .

وقيل :{ وَاقْصِدْ فِى مَشْيِكَ } : إشارة إلى الأفعال ، { وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ } : إشارة إلى الأقوال ، فنبه على التوسط في الأفعال ، وعلى الإقلال من فضول الكلام .

٢٠

انظر تسفير الآية:٢١

٢١

{أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ اللّه سَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ ...}

{سَخَّرَ لَكُمُ } : تنبيه على الصنعة الدالة على الصانع من تسخير { مَا فِي السَّمَاوَاتِ } : من الشمس ، والقمر ، والنجوم ، والسحاب ؛{ وَمَا فِى الاْرْضِ } : من الحيوان ، والنبات ، والمعادن ، والبحار ، وغير ذلك ؛ وذلك لا يكون إلا بمسخر من مالك متصرف كما يشاء .

وقرأ ابن عباس ، ويحيى بن عمارة : وأصبغ بالصاد ، وهي لغة لبني كلب ، يبدلونها من السين ، إذا جامعت الغين أو الخاء أو القاف صاداً ؛ وباقي القراء : بالسين على الأصل .

وقرأ الحسن ، والأعرج ، وأبو جعفر ، وشيبة ، ونافع ، وأبو عمرو ، وحفص :{ نِعَمَهُ } ، جمعاً مضافاً للضمير ؛ وباقي السبعة ، وزيد ابن علي : نعمة ، على الإفراد . والظاهر أنه يراد بالنعمة الظاهرة : الإسلام ، والباطنة : الستر . وعن الضحاك ، الظاهرة : حسن الصورة وامتداد القامة وتسوية الأعضاء ، والباطنة : المعرفة .

وقيل : الظاهرة : البصر والسمع واللسان وسائر الجوارح ، والباطنة : القلب والعقل والفهم . والذي ينبغي أن يقال : إن الظاهرة مما يدرك بالمشاهدة ، والباطنة ما لا يعلم إلا بدليل ، أو لا يعلم أصلاً . فكم من نعمة في بدن الإنسان لا يعلمها ، ولا يهتدي إلى العلم بها ؟ وانتصب { ظَاهِرَةً } على الحال من { نِعَمَهُ } ، الجمع على الصفة ، ومن نعمة على الإفراد . وتقدم الكلام على :{ وَمِنَ النَّاسِ } إلى :{ مُّنِيرٍ } ، في الحج ، وعلى ما بعده إلى :{ ءابَاءنَا } ، في نظيره في البقرة .{أَوْ لَوْ } : كان تقديره : أيتبعونهم في أحوالهم ؟ وفي هذه الحال التي لا ينبغي أن لا يتبع فيها الآباء ؟ لأنها حال تلف وعذاب . وقد تقدم لنا أن مثل هذا التركيب الذي فيه ولو ، إنما يكون في الشيء الذي كان ينبغي أن لا يكون ، نحو : اعطوا السائل ولو جاء على فرس ، ردوا السائل ولو بظلف محرق ، { وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} وكذلك هذا ، كان ينبغي من دعا إلى عذاب السعير أن لا يتبع وقرأ الجمهور :

٢٢

انظر تسفير الآية:٢٦

٢٣

انظر تسفير الآية:٢٦

٢٤

انظر تسفير الآية:٢٦

٢٥

انظر تسفير الآية:٢٦

٢٦

{وَمَن يُسْلِمْ } ، مضارع أسلم ؛ وعلي ، والسلمي ، وعبد اللّه بن مسلم بن يسار : بتشديد اللام ، مضارع سلم ، وتقدم الكلام على نظير هذه الجملة في البقرة ، والمراد : التفويض إلى اللّه .{ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى } : تقدم الكلام عليه في البقرة .

وقال الزمخشري ، من باب التمثيل : مثلت حال المتوكل بحال من تدلى من شاهق ، فاحتاط لنفسه بأن استمسك بأوثق عروة من حبل متين مأمون انقطاعه . انتهى . ولما ذكر حال الكافر المجادل ، ذكر حال المسلم ، وأخبر بأن منتهى الأمور صائرة إليه . و

قال ابن عطية : والعروة : موضع التعليق ، فكأن المؤمن متعلق بأمر اللّه ، فشبه ذلك بالعروة . وسلى رسوله بقوله :{ وَمَن كَفَرَ } ، إلى آخره ، وشبه إلزام العذاب وإهاقهم إليه باضطرار من يضطر إلى الشيء الذي لا يمكنه دفعه ، ولا الإنفكاك منه . والغلظ يكون في الإجرام ، فاستعير للمعنى ، والمراد : الشدة .{ لَيَقُولُنَّ اللّه } : أقام الحجة عليهم بأنهم يقرون بأن اللّه هو خالق العالم بأسره ، ويدعون مع ذلك إلاهاً غيره .{ قُلِ الْحَمْدُ للّه } على ظهور الحجة عليهم .{ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } : إضراب عن مقدر ، تقديره : ليس دعواهم ، نحو : لا يعلمون أن ما ارتكبوه من ادعاء إله غير اللّه لا يصح ، ولا يذهب إليه ذو علم . ثم أخبر أنه مالك للعالم كله ، وأنه هو الغني ، فلا افتقار له لشيء من الموجودات .{ الْحَمِيدِ } : المستحق الحمد على ما أنشأ وأنعم .

٢٧

انظر تسفير الآية:٢٨

٢٨

{وَلَوْ أَنَّ مَّا فِى الاْرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ } : تقدم في أول السورة سبب نزول هذه الآية . ولما ذكر تعالى أن ما في السموات والأرض ملك له ، وكان ذلك متناهياً ، بين أن في قدرته وعلمه عجائب لا نهاية لها ، فقال :{ وَلَوْ أَنَّ مَّا فِى الاْرْضِ } ، وأن بعد لو في موضع رفع على الفاعلية ، أي لو وقع أو ثبت على رأي المبرد ، أو في موضع مبتدأ محذوف الخبر على رأي غيره ، وتقرر ذلك في علم النحو . و { مِن شَجَرَةٍ } : تبيين لما ، وهو في التقرير في موضع الحال من الضمير الذي في الجار والمجرور المنتقل من العامل فيه ، وتقديره : ولو أن الذي استقر في الأرض كائناً من شجرة وأقلام خبر لأن ، وفيه دليل على بطلان دعوى الزمخشري وبعض العجم ممن ينصر قوله : إن خبر أن

الجائية بعد لو لا يكون اسماً جامداً ولا اسماً مشتقاً ، بل يجب أن يكون فعلاً ، وهو قول باطل ، ولسان العرب طافع بالزيادة عليه . قال الشاعر : ولو أنها عصفورة لحسبتها

مسومة تدعو عبيداً وأيماً

وقال الآخر : ما أطيب العيش لو أن الفتى حجر

تنبو الحوادث عنه وهو ملموم

وقال آخر : ولو أن حياً فائت الموت فاته

أخو الحرب فوق القارح القدوان

وهو كثير في لسانهم . والظاهر أن الواو في قوله : { وَالْبَحْرِ } ، في قراءة من رفع ، وهم الجمهور ، واو الحال ؛ والبحر مبتدأ ، و { يَمُدُّهُ } الخبر ، أي حال كون البحر ممدوداً .

وقال الزمخشري : عطفاً على محل إن ومعمولها على ولو ، ثبت كون الأشجار أقلاماً ، وثبت أن البحر مدوداً بسبعة أبحر . انتهى . وهذا لا يتم إلا على رأي المبرد ، حيث زعم أن { ءانٍ } في موضع رفع على الفاعلية . وقال بعض النحويين : هو عطف على أن ، لأنها في موضع رفع بالإبتداء ، وهو لا يتم إلا على رأي من يقول : إن أن بعد لو في موضع رفع على الابتداء ، ولولا يليها المبتدأ اسماً صريحاً إلا في ضرورة شعر ، نحو قوله : لو بغير الماء حلقي شرق

كنت كالغصان بالماء اعتصاري

فإذا عطفت والبحر على أن ومعموليها ، وهما رفع بالابتداء ، لزم من ذلك أن لو يليها الاسم مبتدأ ، إذ يصير التقدير : ولو البحر ، وذلك لا يجوز إلا في الضرورة ، إلا أنه قد يقال : إنه يجوز في المعطوف عليه نحو : رب رجل وإخيه يقولان ذلك .

وقرأ عبد اللّه : وبحر يمده ، بالتنكير بالرفع ، والواو للحال ، أو للعطف على ما تقدم ؛ وإن كان الواو واو الحال ، كان بحر ، وهو نكرة ، مبتدأ ، وذكروا في مسوغات الابتداء بالنكرة أن تكون واو الحال تقدمته ، نحو قوله : سرينا ونجم قد أضاء فقد بدا

محياك أخفى ضوؤه كل شارق

وقرأ الجمهور :{ يَمُدُّهُ } بالياء ، من مد ؛ وابن مسعود ، وابن عباس : بتاء التأنيث ، من مد أيضاً ؛ وعبد اللّه أيضاً ، والحسن ، وابن مطرف ، وابن هرمز : بالياء من تحت ، من أمد ؛ وجعفر بن محمد : والبحر مداده ، أي يكتب به من السواد . و

قال ابن عطية : هو مصدر . انتهى .{ مِن بَعْدِهِ } : أي من بعد نفاد ما فيه ، { سَبْعَةُ أَبْحُرٍ } : لا يراد به الاقتصار على هذا العدد ، بل جيء للكثرة ، كقوله : المؤمن من يأكل في معي واحد ، والكافر في سبعة أمعاء ، لا يراد به العدد ، بل ذلك إشارة إلى القلة والكثرة . ولما كان لفظ سبعة ليس موضوعاً في الأصل للتكثير ، وإن كان مراداً به التكثير ، جاء مميزه بلفظ القلة ، وهو أبحر ، ولم يقل بحور ، وإن كان لا يراد به أيضاً إلا التكثير ، ليناسب بين اللفظين . فكما يجوز في سبعة ، واستعمل للتكثر ، كذلك يجوز في أبحر ، واستعمل للتكثير . وفي الكلام جملة محذوفة يدل عليها المعنى ، وكتب بها الكتاب كلمات اللّه .

{مَّا نَفِدَتْ } ، والمعنى : ولو

أن أشجار الأرض أقلام ، والبحر ممدود بسبعة أبحر ، وكتبت بتلك الأقلام وبذلك المداد كلمات اللّه،  { مَّا نَفِدَتْ } ، ونفدت الأقلام والمداد الذي في البحر وما يمده ، كما قال :{ لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لّكَلِمَاتِ رَبّى } الآية .

وقال الزمخشري :

فإن قلت : زعمت أن قوله :{ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ } ، حال في أحد وجهي الرفع ، وليس فيه ضمير راجع إلى ذي الحال ،

قلت : هو كقوله :

وقد اغتدي والطير في وكناتها

وجئت والجيش مصطف ، وما أشبه ذلك من الأحوال التي حكمها حكم الظروف . يجوز أن يكون المعنى : وبحرها ، والضمير للأرض . انتهى . وهذا الذي جعله سؤالاً وجواباً من واضح النحو الذي لا يجهله المبتدئون فيه ، وهو أن الجملة لا سمية إذا كانت حالاً بالواو ، لا يحتاج إلى ضمير يربط ، واكتفى بالواو فيها .

وأما قوله : وما أشبه ذلك من الأحوال التي حكمها حكم الظروف ، فليس بجيد ، لأن الظرف إذا وقع حالاً ، ففي العامل فيه ضمير ينتقل إلى الظرف . والجملة الاسمية إذا كانت حالاً بالواو ، فليس فيها ضمير منتقل .

وأما قوله : ويجوز ، فلا يجوز إلا على رأي الكوفيين ، حيث يجعلون أل عوضاً من الضمير .

وقال الزمخشري :

فإن قلت : لم قيل :{ مِن شَجَرَةٍ } ، على التوحيد دون اسم الجنس الذي هو شجر ؟

قلت : أريد تفصيل الشجر ونقضها شجرة شجرة ، حتى لا يبقى من جنس الشجر واحدة إلا قد بريت أقلاماً . انتهى . وهذا النوع هو مما أوقع فيه المفرد موقع الجمع ، والنكرة موقع المعرفة ، ونظيره :{ مَا نَنسَخْ مِنْ ءايَةٍ } ،{ مَّا يَفْتَحِ اللّه لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ } ،{ وَللّه يَسْجُدُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ مَن دَابَّةٍ } ؛ وكقول العرب : هو أول فارس ، وهذا أفضل عالم ، يريد من الآيات ومن الرحمات ومن الدواب ، وأول الفرسان . أخبروا بالمفرد والنكرة ، وأرادوا به معنى الجمع المعرف بأل ، وهو مهيع في كلام العرب معروف . وكذلك يتقدر هذا من الشجرات ، أو من الأشجار . وفي هذا الكلام من المبالغة في تكثير الأقلام والمداد ما ينبغي أن يتأمل ، وذلك أن الأشجار مشتمل كل واحدة منها على الأغصان الكثيرة ، وتلك الأغصان كل غصن منها يقطع على قدر القلم ، فيبلغ عدد الأقلام في التناهي إلى ما لايعلم به ، ولا يحيط إلا اللّه تعالى .

وقرأ الجمهور :{ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللّه } ، بالألف والتاء .

وقرأ زيد بن علي : كلمة اللّه ، على التوحيد .

وقرأ الحسن : ما نفد ، بغير تاء ، كلام اللّه . قال أبو علي : المراد بالكلمات ، واللّه أعلم : ما في المعدوم دون ما خرج من العدم إلى الوجود . وقالت فرقة : المراد بكلمات اللّه : معلوماته .

وقال الزمخشري :

فإن قلت : الكلمات جمع قلة ، والمواضع مواضع التكثير لا التقليل ، فهلا قيل : كلم اللّه ؟

قلت : معناه أن كلماته لا تفي بكتبها البحار ، فكيف بكلمة ؟ انتهى . وعلى تسليم أن كلمات جمع قلة ، فجموع القلة إذا تعرفت بالألف واللام غير العهدية ، أو أضيفت ، عمت وصارت لا تخص القليل ، والعام مستغرق لجميع الأفراد .{ أَنَّ اللّه عَزِيزٌ } : كامل القدرة ، فمقدوراته لا نهاية لها .{ حَكِيمٌ } : كامل العلم ، فمعلوماته لا نهاية لها . ولما ذكر تعالى كمال قدرته وعلمه ، ذكر ما يبطل استبعادهم للحشر .{ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ } : إلا كخلق نفس واحدة وبعثها ، ومن لا نفاد لكلماته يقول للموتي : كونوا فيكونون ، فالقليل والكثير ، والواحد والجمع ، لا يتفاوت في قدرته . وقال النقاش : هذه الآية في أبيّ بن خلف ، وأبي الأسد ، ونبيه ومنبه ابني الحجاج ، قالوا : يا محمد : إنا نرى الطفل يخلق بتدريج ، وأنت تقول : اللّه يعيدنا دفعة واحدة ، فنزلت .{ إِنَّ اللّه سَمِيعٌ بَصِيرٌ } : سميع كل صوت ، بصير يبصر كل مبصر في حالة واحدة ، لا يشغله إدراك

بعضها عن بعض ، فكذلك الخلق والبعث .

٢٩

انظر تسفير الآية:٣٣

٣٠

انظر تسفير الآية:٣٣

٣١

انظر تسفير الآية:٣٣

٣٢

انظر تسفير الآية:٣٣

٣٣

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّه يُولِجُ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّه يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ ...}

{يُولِجُ الَّيْلَ } : الجملتين شرحت في آل عمران وهنا .{ إِلَى أَجَلٍ } ، ويدل على الأنتهاء ، أي : يبلغه وينتهي إليه . وفي الزمر :{ لاِجَلٍ } ، ويدل على الاختصاص بجعل الجري مختصاً بإدراك أجل مسمى ، وجري الشمس مختص بآخر السنة ، وجري القمر بآخر الشهر ؛ فكلا المعنيين متناسب لجريهما ، فلذلك عدى بهما .

وقرأ عياش ، عن أبي عمرو : بما يعملون ، بياء الغيبة .{ ذالِكَ بِأَنَّ اللّه } الآية ، تقدم شرحها في الحج وهنا .{ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ } ، وفي الحج { مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ } ، بزيادة هو . ولما ذكر تعالى تسخير النيرين وإمتنانه بذلك علينا ، ذكر أيضاً من سخر الفلك من العالم الأرضي بجامع ما اشتركا فيه من الجريان .

وقرأ الجمهور :{ أَلَمْ تَرَ } على الإفراد اللفظي .

وقرأ الأعرج ، والأعمش ، وابن يعمر : بنعمات اللّه ، بكسر النون وسكون العين جمعاً بالألف والتاء .

وقرأ ابن أبي عبلة : بفتح النون وكسر العين بالألف والتاء والباء ، وتحتمل السبية : أي تجري بسبب الريح وتسخير اللّه ، وتحتمل الحالية ، أي مصحوبة بنعمة اللّه ، وهي ما تحمله السفن من الطعام والأرزاق والتجارات . و

قال ابن عطية : الباء للالصاق . انتهى .

وقرأ موسى بن الزبير :{ الْفُلْكِ } ، بضم اللام . و { صَبَّارٍ شَكُورٍ } : بنيتا مبالغة ، وفعال أبلغ لزيادة حروفه .

ولما تقدم ذكر جري الفلك في البحر ، وكأن في ذلك ما لا يخفى على راكبه من الخوف ، وتقدم ذكر النعمة ، ناسب الختم بالصبر على ما يحذر ، وبالشكر على ما أنعم به تعالى ، وشبه الموج في ارتفاعه واسوداده واضطرابه بالظلل ، وهو السحاب .

وقيل : كالظلل : كالجبال ، أطلق على الجبل ظلة .

وقرأ محمد بن الحنفية : كالظلال ، وهما جمع ظلة ، نحو : قلة وقلل وقلال . وقوله :{ وَإِذَا غَشِيَهُمْ } ، فيه التفات خرج من ضمير الخطاب في { لِيُرِيَكُمْ } إلى ضمير الغيبة في { غَشِيَهُمْ} و { مَوْجٍ } : اسم جنس يفرق بينه وبين مفرده بتاء التأنيث ، فهو يدل على الجمع ، ولذلك شبهه بالجمع .

{فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ } ، قال الحسن : أي مؤمن يعرف حق اللّه في هذه النعم . وقال مجاهد : مقتصد على كفره : أي يسلم للّه ويفهم أن نحو هذا من القدرة ، وإن ضل في الأصنام من جهة أنه يعظمها . قيل :أو مقتصد في الإخلاص الذي كان عليه في البحر .

قال الزمخشري : يعني أن ذلك الإخلاص الحادث عند

الخوف لا ينبغي لأحد قط . انتهى . وكثر استعمال الزمخشري قط ظرفاً ، والعامل فيه غير ماضٍ ، وهو مخالف لكلام العرب في ذلك . فقبل حذف مقابل فمنهم مؤمن مقتصد تقديره : ومنهم جاحد ودل عليه ، قوله : { وَمَا يَجْحَدُ بِئَايَاتِنَا} وعلى هذا القول يكون مقتصد معناه : مؤمن مقتصد في أقواله وأفعاله بين الخوف والرجاء ، موف بما عاهد اللّه عليه في البحر ، وختم هنا ببنيتي مبالغة ، وهما :{ خَتَّارٍ } ، و { كَفُورٌ} فالصبار الشكور معترف بآيات اللّه ، والختار الكفور يجحد بها . وتوازنت هذه الكلمات لفظاً ومعنىً . أما لفظاً فظاهر ،

وأما معنىً فالختار هو الغدار ، والغدر لا يكون إلا من قلة الصبر ، لأن الصبارّ يفوّض أمره إلى اللّه ،

وأما الغدار فيعهد ويغدر ، فلا يصبر على العهد :

وأما الكفور فمقابلته معنى للشكور واضحة . ولما ذكر تعالى الدلائل على الوحدانية والحشر من أوّل السورة ، أمر بالتقوى على سبيل الموعظة والتذكير بهذا اليوم العظيم .

لا يجزي : لا يقضي ، ومنه قيل للمتقاضي : المتجازي ، وتقدم الكلام في ذلك في أوائل البقرة . ولما كان الوالد أكثر شفقة على الولد من الولد على أبيه ، بدأ به أولاً ، وأتى في الإسناد إلى الوالد بالفعل المقتضي للتجدد ، لأن شفقته متجددة على الولد في كل حال ، وأتى في الإسناد إلى الولد باسم الفاعل ، لأنه يدل على الثبوت ، والثبوت يصدق بالمرة الواحدة . والجملة من لا يجزي صفة ليوم ، والضمير محذوف ، أي منه ، فإما أن يحذف برمته ،

وإما على التدريج حذف الخبر ، فتعدى الفعل إلى الضمير وهو منصوب فحذف .

وقرأ الجمهور : لا يجزي مضارع جزى ؛ وعكرمة : بضم الياء وفتح الزاي مبنياً للمفعول ؛ وأبو السماك ، وعامر بن عبد اللّه ، وأبو السوار : لا يجزىء ، بضم الياء وكسر الزاي مهموزاً ، وومعناه : لا يغني ؛ يقال : أجزأت عنك جزاء فلان : أي أغنيت . ويجوز في { وَلاَ مَوْلُودٌ } وجهان :

أحدهما : أن يكون معطوفاً على والد ، والجملة من قوله :{ هُوَ } ، صفة مولود .

والثاني : أن يكون مبتدأ ، وهو مبتدأ ثان ، وجاز خبره ، والجملة خبر للأول ، وجاز الابتداء به ، وهو نكرة لوجود مسوغ ذلك ، وهو النفي . وذهل المهدوي فقال : لا يكون { وَلاَ مَوْلُودٌ } مبتدأ ، لأنه نكرة وما بعده صفة ، فيبقى بلا خبر و { شَيْئاً } منصوب بجاز ، وهو من باب الأعمال ، لأنه يطلبه { لاَّ يَجْزِى } ويطلبه { جَازٍ } ، فجعلناه من أعمال الثاني ، لأنه المختار .

وقرأ ابن أبي إسحاق ، وابن أبي عبلة ، ويعقوب : نغرنكم ، بالنون الخفيفة .

وقرأ سماك بن حرب ، وأبو حيوة : الغرور بالضم ، وهو مصدر ؛ والجمهور : بالفتح ، وفسره ابن مجاهد والضحاك بالشيطان ، ويمكن حمل قراءة الضم عليه جعل الشيطان نفس الغرور مبالغة .

وقال الزمخشري :

فإن قلت : قوله :{ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً } هو وارد على طريق من التوكيد ، لم يرد عليه ما هو معطوف عليه .

قلت : الأمر كذلك ، لأن الجملة الاسمية آكد من الفعلية ، وقد انضم إلى ذلك قوله :{ هُوَ } ، وقوله :{ مَوْلُودٌ } ، والسبب في مجيئه هذا السنن أن الخطاب للمؤمنين ، وغالبهم قبض آباؤهم على الكفر وعلى الدين الجاهلي ، فأريد حسم أطماعهم وأطماع الناس أن ينفعوا آباءهم في الآخرة ، وأن يشفعوا لهم ، وأن يغنوا عنهم من اللّه شيئاً ، فلذلك جيء به على الطريق الأوكد . ومعنى التوكيد في لفظ المولود : أن الواحد منهم لو شفع للوالد الأدنى الذي ولد منه ، لم تقبل شفاعته فضلاً أن يشفع لمن فوقه من أجداده ، لأن الولد يقع على الولد ، وولد الولد بخلاف المولود ، فإنه لمن ولد منك .

٣٤

{إِنَّ اللّه عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ } : يروى أن الحارث بن عمارة المحاربي قال : يا رسول اللّه ، أخبرني عن الساعة متى قيامها ؟ وإني لقد ألقيت حباتي في الأرض ، وقد أبطأت عني السماء ، متى تمطر ؟ وأخبرني عن امرأتي ، فقد اشتملت على ما في بطنها ، أذكر أم أنثى ؟ وعلمت أمس ، فما أعمل غداً ؟ وهذا مولدي قد عرفته ، فأين أموت ؟ فنزلت . وفي الحديث : { خمس لا يعلمهنّ إلا اللّه } ، وتلا هذه الآية . وعلم : مصدر أضيف إلى الساعة ، والمعنى : علم يقين ، وفيها : { وَيُنَزّلُ الْغَيْثَ } في آياته من غير تقديم ولا تأخير .{ مَا فِى الاْرْحَامِ } من ذكر أم أنثى ، تام أو ناقص ، { وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ } ، برة أو فاجرة .{ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً } من خير أو شر ، وربما عزمت على أحدهما فعلمت ضده .{ بِأَىّ أَرْضٍ تَمُوتُ } : ورما أقامت بمكان ناوية

أن لا تفارقه إلى أن تدفن به ، ثم تدفن في مكان لم يحظر لها ببال قط . وأسند العلم إلى اللّه ، والدراية للنفس ، لما في الدراية من معنى الختل والحيلة ؛ ولذا وصف اللّه بالعالم ، ولا يوصف بالداري .

وأما قوله :

لاهم لا أدري وأنت الداري

فقول عربي جلف جاهلي ، جاهل بما يطلق على اللّه من الصفات ، وما يجوز منها وما يمتنع .

وقرأ الجمهور : { بِأَىّ أَرْضٍ}

وقرأ موسى الأسواري ، وابن أبي عبلة : بأية أرض ، بتاء التأنيث لإضافتها إلى الموت ، وهي لغة قليلة فيهما . كما أن كلاً إذا أضيفت إلى مؤنث قد تؤنث ، تقول : كلهنّ فعلن ذلك ، وتدري معلقة في الموضعين . فالجملة من قوله :{ مَّاذَا تَكْسِبُ } في موضع مفعول { تَدْرِى } ، ويجوز أن يكون ماذا كلها موصولاً منصوباً بتدري ، كأنه قال : وما تدري نفس الشيء التي تكسب غداً . وبأي متعلق بتموت ، والباء ظرفية ، أي : في أي أرض ؟ فالجملة في موضع نصب بتدري . ووقع الإخبار بأن اللّه استأثر بعلمه هذه الخمس ، لأنها جواب لسائل سأل ، وهو يستأثر بعلم أشياء لا يحصيها إلا هو ، وهذه الخمس .

﴿ ٠