سورة السجدةمكية بسم اللّه الرحمن الرحيم ١انظر تسفير الآية:٤ ٢انظر تسفير الآية:٤ ٣انظر تسفير الآية:٤ ٤هذه السورة مكية ، قيل : إلا خمس آيات :{ تتجافي } إلى { بِهَا تُكَذّبُونَ} وقال ابن عباس ، ومقاتل ، والكبي : إلا ثلاث آيات نزلت بالمدينة :{ أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً} قال كفار قريش : لم يبعث اللّه محمداً إلينا ، وإنما الذي جاء به اختلاق منه ، فنزلت . ولما ذكر تعالى ، فيما قبلها ، دلائل التوحيد من بدء الخلق ، وهو الأصل الأول ؛ ثم ذكر المعاد والحشر ، وهو الأصل الثاني ، وختم به السورة ، ذكر في بدء هذه السورة الأصل الثالث ، وهو تبيين الرسالة . و { الْكِتَابِ } : القرآن . قال الحوفي :{ تَنزِيلَ} مبتدأ ، { وَلاَ رَيْبَ } خبره . ويجوز أن يكون { تَنزِيلَ } خبر مبتدأ ، أي هذا المتلو تنزيل ، أو هذه الحروف تنزيل ، و { الم } بدل على الحروف . وقال أبو البقاء :{ الم } مبتدأ ، و { تَنزِيلَ } خبره بمعنى المنزل ، و { لاَ رَيْبَ فِيهِ } حال من الكتاب ، والعامل فيه تنزيل ، و { مِن رَّبّ الْعَالَمِينَ } متعلق بتنزيل أيضاً . ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في فيه ، والعامل فيه الظرف . ويجوز أن يكون { تَنزِيلَ } مبتدأ ، و { لاَ رَيْبَ فِيهِ } الخبر ، و { مِن رَّبّ الْعَالَمِينَ } حال كما تقدم . ولا يجوز على هذا أن يتعلق بتنزيل ، لأن المصدر قد أخبر عنه . ويجوز أن يكون الخبر { مِن رَّبّ الْعَالَمِينَ } ، و { لاَ رَيْبَ } حال من الكتاب ، وأن يكون خبراً بعد خبر . انتهى . والذي أختاره أن يكون { تَنزِيلَ } مبتدأ ، و { لاَ رَيْبَ } اعتراض ، و { مِن رَّبّ الْعَالَمِينَ } الخبر . و قال ابن عطية :{ مِن رَّبّ الْعَالَمِينَ } متعلق بتنزيل ، ففي الكلام تقديم وتأخير ؛ ويجوز أن يتعلق بقوله :{ لاَ رَيْبَ } ،أي لا شك ، من جهة اللّه تعالى ، وإن وقع شك الكفرة ، فذلك لا يراعى . والريب : الشك ، وكذا هو في كل القرآن ، إلا قوله :{ رَيْبَ الْمَنُونِ} انتهى . وإذا كان { تَنزِيلَ } خبر مبتدأ محذوف ، وكانت الجملة اعتراضية بين ما افتقر إلى غيره وبينه ، لم نقل فيه : إن فيه تقديماً وتأخيراً ، بل لو تأخر لم يكن اعتراضاً . وأما كونه متعلقاً بلا ريب ، فليس بالجيد ، لأن نفي الريب عنه مطلقاً هو المقصود ، لأن المعنى : لا مدخل للريب فيه ، إن تنزيل اللّه ، لأن موجب نفي الريب عنه موجود فيه ، وهو الإعجاز ، فهو أبعد شيء من الريب . وقولهم :{ افْتَرَاهُ } ، كلام جاهل لم يمعن النظر ، أو جاحد مستيقن أنه من عند اللّه ، فقال ذلك حسداً ، أو حكماً من اللّه عليه بالضلال . وقال الزمخشري : والضمير في فيه راجع إلى مضمون الجملة ، كأنه قيل : لا ريب في ذلك ، أي في كونه منزلاً من رب العالمين . ويشهد لوجاهته قوله :{ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ } ، لأن قولهم هذا مفترى إنكار لأن يكون من رب العالمين . وكذلك قوله :{ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبّكَ } ، وما فيه من تقدير أنه من اللّه ، وهذا أسلوب صحيح محكم ، أثبت أولاً أن تنزيله من رب العالمين ، وأن ذلك ما لا ريب فيه . ثم أضرب عن ذلك إلى قوله :{ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ } ، لأن أم هي المنقطعة الكائنة بمعنى بل ، والهمزة إنكاراً لقولهم وتعجباً منه لظهور أمره في عجز بلغائهم عن مثل ثلاث آيات ، ثم أضرب عن الإنكار إلى الإثبات أنه الحق من ربك . انتهى ، وهو كلام فيه تكثير . وقال أبو عبيدة : أم يكون معناه : بل يقولون ، فهو خروج من حديث إلى حديث ؛ ومن ربك في موضع الحال ، أي كائناً من عند ربك ، وبه متعلق بلتنذر ، أو بمحذوف تقديره : أنزله لتنذر . والقوم هنا قريش والعرب ، وما نافية ، ومن نذير : من زائدة ، ونذير فاعل أتاهم . أخبر تعالى أنه لم يبعث إليهم رسولاً بخصوصيتهم قبل محمد صلى اللّه عليه وسلم ، لا لهم ولا لآبائهم ، لكنهم كانوا متعبدين بملة إبراهيم وإسماعيل ، وما زالوا على ذلك إلى أن غير ذلك بعض رؤسائهم ، وعبدوا الأصنام وعم ذلك ، فهم مندرجون تحت قوله :{ وَإِن مّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ } ،أي شريعته ودينه ؛ والنذير ليس مخصوصاً بمن باشر ، بل يكون نذيراً لمن باشره ، ولغير من باشره بالقرب ممن سبق لها نذير ، ولم يباشرهم نذير غير محمد صلى اللّه عليه وسلم. وقال ابن عباس ، ومقاتل : المعنى لم يأتهم في الفترة بين عيس ومحمد ، عليهما السلام . وقال الزمخشري :{ مَّا أَتَاهُم مّن نَّذِيرٍ مّن قَبْلِكَ } ،كقوله :{ مَّا أُنذِرَ ءابَاؤُهُمْ } ، وذلك أن قريشاً لم يبعث اللّه إليهم رسولاً قبل محمد صلى اللّه عليه وسلم. فإن قلت : فإذا لم يأتهم نذير ، لم تقم عليهم حجة . قلت : أما قيام الحجة بالشرائع التي لا يدرك علمها إلا بالرسل فلا ، وأما قيامها بمعرفة اللّه وتوحيده وحكمته فنعم ، لأن أدلة العقل الموصلة إلى ذلك معهم في كل زمان . انتهى . والذي ذهب إليه غير ما ذهب إليه المفسرون ، وذلك أنهم فهموا من قوله :{ مَا ءاتَاهُمُ } ، و { مَّا أُنذِرَ ءابَاؤُهُمْ } ، أن ما نافية ، وعندي أن ما موصولة ، والمعنى : لتنذر قوماً العقاب الذي أتاهم .{ مّن نَّذِيرٍ } : متعلق بأتاهم ، أي أتاهم على لسان نذير من قبلك . وكذلك { لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ ءابَاؤُهُمْ } : أي العقاب الذي أنذره آباؤهم ، فما مفعولة في الموضعين ، وأنذر يتعدى إلى اثنين . قال تعالى :{ فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً } ، وهذا القول جار على ظواهر القرآن . قال تعالى :{ وَإِن مّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ } ، و { أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ } ،{ وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً } ،{ وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِى أُمّهَا رَسُولاً} ولما حكى تعالى عنهم أنهم يقولون : إن محمداً صلى اللّه عليه وسلم افتراه ورد عليهم ، اقتصر في ذكر ما جاء به القرآن على الإنذار ، وإن كان قد جاء له وللتبشير ليكون ذلك ردعاً لهم ، ولأنه إذا ذكر الإنذار ، صار عند العاقل فكر فيما أنذر به ، فلعل ذلك الفكر يكون سبباً لهدايته . و { لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ } : ترجية من رسول اللّه ، كما كان في قوله :{ لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } ، من موسى وهارون . قال الزمخشري : وأن يستعار لفظ الترجي للإرادة . انتهى . يعني أنه عبر عن الإرادة بلفظ الترجي ، ومعناه : إرادة اهتدائهم ، وهذه نزغة اعتزالية ، لأنه عندهم أن يرد هداية العبد ، فلا يقع ما يريد ، ويقع ما يريد العبد ، تعالى اللّه عن ذلك . ولما بين تعالى أمر الرسالة ، ذكر ما على الرسول من الدعاء إلى التوحيد وإقامة الدليل بذكر مبدأ العالم . وتقدم الكلام على { فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } في الأعراف .{ مَا لَكُمْ مّن دُونِهِ مِن وَلِيّ وَلاَ شَفِيعٍ } : أي إذا جاوزتموه إلى سواه فاتخذتموه ناصراً وشفيعاً .{ أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ } موجد هذا العالم ، فتعبدوه وترفضوا ما سواه ؟ ٥{يُدَبّرُ الاْمْرَ } ، الأمر : واحد الأمور . قال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، وعكرمة ، والضحاك : ينفذ اللّه قضاءه بجيمع ما يشاؤه .{ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ } : أي يصعد ، خبر ذلك { فِى يَوْمٍ } من أيام الدنيا ، { مِقْدَارُهُ } : أن لو سير فيه السير المعروف من البشر { أَلْفَ سَنَةٍ } ، لأن ما بين السماء والأرض خمسمائة عام . وقال مجاهد أيضاً : الضمير في مقداره عائد على التدبير ، أي كان مقدار التدبير المنقضي في يوم ألف سنة لو دبره البشر . وقال مجاهد أيضاً : يدبر ويلقي إلى الملائكة أمور ألف سنة من عندنا ، وهو اليوم عنده ، فإذا فرغت ألقى إليهم مثلها . فالمعنى : أن الأمور تنفذ عنه لهذه المدة وتصير إليه آخر ، لأن عاقبة الأمور إليه . وقيل : المعنى يدبره في الدنيا إلى أن تقوم الساعة ، فينزل القضاء والقدر ، ثم تعرج إليه يوم القيامة ، ومقداره ما ذكر ليحكم فيه من ذلك اليوم ، حيث ينقطع أمر الأمراء ، أو أحكام الحكام ، وينفرد بالأمر كل يوم من أيام الآخرة بألف سنة ، وهو على الكفار قدر خسمين ألف سنة حسبما في سورة سأل سائل ، وتأتي الأقوال فيه إن شاء اللّه تعالى . وقيل : ينزل الوحي مع جبريل من السماء إلى الأرض ، ثم يرجع إلى ما كان من قبول الوحي أو ربه مع جبريل ، وذلك في وقت هو في الحقيقة ألف سنة ، لأن المسافة مسيرة ألف سنة في الهبوط والصعود ، لأن ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة سنة ، وهو يوم من أيامكم لسرعة جبريل ، لأنه يقطع مسيرة ألف سنة في يوم واحد . قال الزمخشري : وبداية الأمر المأمور به من الطاعات والأعمال الصالحة ، ينزله مدبراً من السماء إلى الأرض ، ثم لا يعمل به ، ولا يصعد إليه ذلك المأمور به خالصاً كما يريده ويرتضيه ، إلا في مدة متطاولة ، لقلة الأعمال للّه والخلوص من عباده ، وقلة الأعمال الصاعدة ، لأنه لا يوصف بالصعود إلا الخالص ، ودل عليه قوله على أثره :{ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} انتهى . وقيل : يدبر أمر الشمس في طلوعها من المشرق وغروبها في المغرب ، ومدارها في العالم من السماء إلى الأرض ، لأنها على أهل الأرض تطلع إلى أن تغرب ، وترجع إلى موضعها من الطلوع في يوم مقداره في المسافة ألف سنة . والضمير في { إِلَيْهِ } عائد إلى السماء ، لأنها تذكر ؛ وقيل : إلى اللّه . وقال عبد اللّه بن سابط : يدبر أمر الدنيا أربعة : جبريل للرياح ، والجنود وميكائيل للقطر والماء ، وملك الموت لقبض الأرواح ، وإسرافيل لنزول الأمر عليهم . وقيل : العرش موضع التدبير ، وما دونه موضع التفصيل ، وما دون السموات موضع التعريف . وقال السدي : الأمر : الوحي . وقال مقاتل : القضاء . وقال غيرهما : أمر الدنيا . قال الزجاج : تقول عرجت في السلم أعرج ، وعرج الرجل يعرج إذا صار أعرج . وقرأ ابن أبي عبلة :{ يَعْرُجُ } مبنياً للمفعول ؛ والجمهور : مبنياً للفاعل . قال أبو عبد اللّه الرازي : وفي هذا لطيفة ، وهو أن اللّه ذكر في الآية المتقدمة عالم الأجسام والخلق ، وأشار إلى عظمة الملك ؛ وذكر هنا عالم الأرواح والأمر بقوله :{ يُدَبّرُ الاْمْرَ } ، والروح من عالم الأمر ، كما قال :{ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّى } ، وأشار إلى دوامه بلفظ يوهم الزمان . والمراد دوام النفاد ، كما يقال في العرف : طال زمان فلان ، والزمان يمتد فيوجد في أزمنة كثيرة . فأشار إلى عظمة الملك بالمكان ، وأشار إلى دوامه هنا بالزمان والمكان من خلقه وملكه ، والزمان بحكمه وأمره . انتهى . وهو كلام ليس جارياً على فهم العرب . وقرأ الجمهور :{ مّمَّا تَعُدُّونَ } ، بتاء الخطاب . وقرأ السلمي ، وابن وثاب ، والأعمش ، والحسن : بياء الغيبة ، بخلاف عن الحسن . وقرأ جناح بن حبيش : ثم تعرج الملائكة ، بزيادة الملائكة ، ولعله تفسير منه لسقوطه في سواد المصحف . ٦انظر تسفير الآية:١١ ٥انظر تسفير الآية:١١ ٦انظر تسفير الآية:١١ ٧انظر تسفير الآية:١١ ٨انظر تسفير الآية:١١ ٩انظر تسفير الآية:١١ ١٠انظر تسفير الآية:١١ ١١{ذالِكَ } : أي ذلك الموصوف بالخلق والاستواء والتدبير ، { عَالِمُ الْغَيْبِ } : والغيب الآخرة ، { وَالشَّهَادَةِ } : الدنيا ، أو الغيب : ما غاب عن المخلوقين ، والشهادة : ما شوهد من الأشياء ، قولان . وقرأ زيد بن علي :{ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } : بخفض الأوصاف الثلاثة ؛ وأبو زيد النحوي : بخفض { الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} وقرأ الجمهور : برفع الثلاثة على أنها أخبار لذلك ، أو الأول خبر والاثنان وصفان ، ووجه الخفض أن يكون ذلك إشارة إلى الأمر ، وهو فاعل بيعرج ، أي ثم يعرج إليه ذلك ، أي الأمر المدبر ، ويكون عالم وما بعده بدلاً من الضمير في إليه . وفي قراءة ابن زيد يكون ذلك عالم مبتدأ وخبر ، والعزيز الرحيم بالخفض بدل من الضمير في إليه . وقرأ الجمهور : خلقه ، بفتح اللام ، فعلاً ماضياً صفة لكل أو لشيء . وقرأ العربيان ، وابن كثير : بسكون اللام ، والظاهر أنه بدل اشتمال ، والمبدل منه كل ، أي أحسن خلق كل شيء ، فالضمير في خلقه عائد على كل . وقيل : الضمير في خلقه عائد على اللّه ، فيكون انتصابه نصب المصدر المؤكد لمضمون الجملة ، كقوله :{ صِبْغَةَ اللّه } ، وهو قول سيبويه ، أي خلقه خلقاً . ورجح على بدل الاشتمال بأن فيه إضافة المصدر إلى الفاعل ، وهو أكثر من إضافته إلى المفعول ، وبأنه أبلغ في الامتنان ، لأنه إذا قال :{ أَحْسَنَ كُلَّ شَىْء } ، كأن أبلغ من : أحسن خلق كل شيء ، لأنه قد يحسن الخلق ، وهو المجاز له ، ولا يكون الشيء في نفسه حسناً . فإذا قال :{ أَحْسَنَ كُلَّ شَىْء } ، اقتضى أن كل شيء خلقه حسن ، بمعنى : أنه وضع كل شيء في موضعه . انتهى . وقيل : في هذا الوجه ، وهو عود الضمير في خلقه على اللّه ، يكون بدلاً من كل شيء ، بدل شيء من شيء ، وهما لعين واحدة . ومعنى { أَحْسَنُ } : حسن ، لأنه ما من شيء خلقه إلا وهو مرتب على ما تقضيه الحكمة . فالمخلوقات كلها حسنة ، وإن تفاوتت في الحسن ، وحسنها من جهة المقصد الذي أريد بها . ولهذا قال ابن عباس : ليست القردة بحسنة ، ولكنها متقنة محكمة . وعلى قراءة من سكن لام خلقه ، قال مجاهد : أعطى كل جنس شكله ، والمعنى : خلق كل شيء على شكله الذي خصه به . وقال الفراء : ألهم كل شيء خلقه فيما يحتاجون إليه ، كأنه أعلمهم ذلك ، فيكون كقوله :{ أَعْطَى كُلَّ شَىء خَلْقَهُ} وقرأ الجمهور : بدأ بالهمز ؛ والزهري : بالألف بدلاً من الهمزة ، وليس بقياس أن يقول في هدأ : هدا ، بإبدال الهمزة ألفاً ، بل قياس هذه الهمزة التسهيل بين بين ؛ على أن الأخفش حكى في قرأت : قريت ونظائره . وقيل : وهي لغية ؛ والأنصار تقول في بدأ : بدى ، بكسر عين الكلمة وياء بعدها ، وهي لغة لطي . يقولون في فعل هذا نحو بقى : بقأ ، فاحتمل أن تكون قراءة الزهري على هذه اللغة أصله بدى ، ثم صار بدأ ، أو على لغة الأنصار . وقال ابن رواحة : باسم الإله وبه بدينا ولو عبدنا غيره شقينا {وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ } : هو آدم ، عليه الصلاة والسلام .{ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ } : أي ذريته . نسل من الشيء : انفصل منه .{ ثُمَّ سَوَّاهُ } : قومه وأضاف الروح إلى ذاته دلالة على أنه خلق عجيب ، لا يعلم حقيقته إلا هو ، وهي إضافة ملك إلى مالك وخلق إلى خالق تعالى .{ وَجَعَلَ لَكُمُ } : التفات ، إذ هو خروج من مفرد غائب إلى جمع مخاطب ، وتعديد للنعم ، وهي شاملة لآدم ؛ كما أن التسوية ونفخ الروح شامل له ولذريته . والظاهر أن { وَقَالُواْ } ، الضمير لجمع ، وقيل : القائل أبيّ بن خلف ، وأسند إلى الجمع لرضاهم به ، والناصب للظرف محذوف يدل عليه { أئنا } وما بعدها تقديره انبعث .{ أَءذَا ضَلَلْنَا } ، ومن قرأ إذا بغير استفهام ، فجواب إذا محذوف ، أي : إذا ضللنا في الأرض نبعث ، ويكون إخباراً منهم على طريق الاستهزاء . وكذلك من قرأ : إنا على الخبر ، أكدوا ذلك الاستهزاء باستهزاء آخر . وقرأ الجمهور : بفتح اللام ، والمضارع يضل بكسر عين الكلمة ، وهي اللغة الشهيرة الفصحية ، وهي لغة نجد . قال مجاهد : هلكنا ، وكل شيء غلب عليه غيره حتى تلف وخفي فقد هلك ، وأصله من : ضل الماء في اللبن ، إذا ذهب . وقال قطرب : ضللنا : غبنا في الأرض ، وأنشد قول النابغة الذبياني : فآب مضلوه بعين جلية وغودر بالجولان حزم ونائل وقرأ يحيى بن يعمر ، وابن محيصن ، وأبو رجاء ، وطلحة ، وابن وثاب : بكسر اللام ، والمضارع بفتحها ، وهي لغة أبي العالية . وقرأ أبو حيوة : ضللنا ، بالضاد المنقوطة وضمها وكسر اللام مشددة ، ورويت عن علي . وقرأ علي ، وابن عباس ، والحسن ، والأعمش ، وأبان ين سعيد بن العاص : صللنا ، بالصاد المهملة وفتح اللام ، ومعناه : أنتنا . وعن الحسن : صللنا ، بكسر اللام ، يقال : صل يصل ، بفتح العين في الماضي وكسرها في المضارع ؛ وصل يصل : بكسر العين في الماضي وفتحها في المضارع ؛ وأصل يصل ، بالهمزة على وزن أفعل . قال الشاعر : تلجلج مضغة فيها أبيض أصلت فهي تحت الكشح داء وقال الفراء : معناه صرنا بين الصلة ، وهي الأرض اليابسة الصلبة . وقال النحاس : لا نعرف في اللغة صللنا ، ولكن يقال : أصل اللحم وصل ، وأخم وخم إذ أنتن ، وحكاه غيره . { بَلْ هُم بِلَقَاء رَبّهِمْ كَافِرُونَ } : جاحدون بلقاء اللّه والصيرورة إلى جزائه . ثم أمره تعالى أن يخبرهم بجملة الحال غبر مفصلة ، من قبض أرواحهم ، ثم عودهم إلى جزاء ربهم بالبعث . و { مَالِكَ الْمَوْتُ } : اسمه عزرائيل ، ومعناه عبد اللّه . وقرأ الجمهور :{ تُرْجَعُونَ } ، مبنياً للمفعول ؛ وزيد بن علي : مبنياً للفاعل . ١٢{وَلَوْ تَرَى } : الظاهر أنه خطاب للرسول ، وقيل : له ولأمته ، أي : يا محمد منكري البعث يوم القيامة لرأيت العجب . وقال أبو العباس : المعنى يا محمد قل للمجرم .{ وَلَوْ تَرَى } : رأى أن الجملة معطوفة على { يَتَوَفَّاكُم } ، داخلة تحت { قُلْ } ، فلذلك لم يجعله خطاباً للرسول . والظاهر أن لو هنا لم تشرب معنى التمني ، بل هي التي لما كان سيقع لوقوع غيره ، والجواب محذوف ، أي لرأيت أسوأ حال يرى . ولو تعليق في الماضي ، وإذ ظرف للماضي ، فلتحقق الأخبار ووقوعه قطعاً أتى بهما تنزيلاً منزلة الماضي . وقال الزمخشري : يجوز أن يكون خطاباً لرسول اللّه ، وفيه وجهان : أحدهما : أن يراد به التمني ، كأن قيل : وليتك ترى ، والتمني له ، كما كان الترجي له في :{ لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ } ، لأنه تجرع منهم الغصص ومن عداوتهم وضرارهم ، فجعل اللّه له ، تمنى أن يراهم على تلك الصفة الفظيعة من الحياء والخزي والغم ليشمت بهم ، وأن تكون لو امتناعية ، وقد جوابها ، وهو : لرأيت أمراً فظيعاً . ويجوز أن يخاطب به كل أحد ، كما تقول : فلان لئيم إن أكرمته أهانك ، وإن أحسنت إليه أساء إليك ، فلا يريد به مخاطباً بعينه ، وكأنك قلت : إن أكرم وإن أحسن إليه . انتهى . والتمني بلو في هذا الموضع بعيد ، وتسمية لو امتناعية ليس بجيد ، بل العبارة الصحيحة لو لما كان سيقع لوقوع غيره ، وهي عبارة سيبويه ، وقوله قد حذف جوابها وتقديره : وليتك ترى ما يدل على أنها كانت إذا للتمني لا جواب لها ، والصحيح أنها إذا أشربت معنى التمني ، يكون لها جواب كحالها إذا لم تشربه . قال الشاعر : فلو نبش المقابر عن كليب فيخبر بالذنائب أي زير بيوم الشعشمين لقر عينا وكيف لقاء من تحت القبور وقال الزمخشري : وقد تجيء لو في معنى التمني ، كقولك : لو تأتيني فتحدثني ، كما تقول : ليتك تأتيني فتحدثني . فقال ابن مالك : إن أراد به الحذف ، أي وددت لو تأتيني فصحيح ، وإن أراد أنها موضوعة للتمني فغير صحيح ، لأنها لو كانت موضوعة له ، ما جاز أن يجمع بينها وبين فعل التمني . لا يقال : تمنيت ليتك تفعل ، ويجوز : تمنيت لو تقوم . وكذلك امتنع الجمع بين لعل والترجي ، وبين إلا واستثنى . انتهى . { نَاكِسُواْ رُءوسِهِمْ } : مطرقوها ، من الذل والحزن والهم والغم . وقرأ زيد بن علي : نكسوا رؤوسهم ، فعلاً ماضياً ومفعولاً ؛ والجمهور : اسم فاعل مضاف .{ عِندَ رَبّهِمْ } : أي عند مجازاته ، وهو مكان شدة الخجل ، لأن المربوب إذا أساء ووقف بين يدي ربه كان في غاية الخجل .{ رَبَّنَا } : على إضمار يقولون ، وقدره الزمخشري : يستغيثون بقولهم :{ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا } ما كنا نكذب ؛{ وَسَمِعْنَا } : ما كنا ننكر ؛ وأبصرنا صدق وعدك ووعيدك ، وسمعنا تصديق رسلك ، وكنا عمياً وصماً فأبصرنا وسمعنا ، فارجعنا إلى الدنيا .{ إِنَّا مُوقِنُونَ } : أي بالبعث . قاله النقاش ؛ وقيل : مصدقون بالذي قال الرسول ، قاله يحيى بن سلام . وموقنون : مشعر بالالتباس في الحال ، أي حين أبصروا وسمعوا . وقيل : موقنون : زالت الآن عنا الشكوك ، ولم نكن في الدنيا نتدبر ، وكنا كمن لا يبصر ولا يسمع . وقيل : لك الحجة ، ربنا قد أبصرنا رسلك وعجائب في الدنيا ، وسمعنا كلامهم فلا حجة لنا ، وهذا اعتراف منهم . ١٣انظر تسفير الآية:١٤ ١٤{لاَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا } : أي اخترعنا الإيمان فيها ، كقوله :{ أَن لَّوْ يَشَاء اللّه لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا } ، و { لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى } ، و { لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} وقال الزمخشري : على طريق الإلجاء والقسر ، ولكنا بنينا الأمر على الاختيار دون الاضطرار ، فاستحبوا العمى على الهدى ، فحقت كلمة العذاب على أهل العمى دون أهل البصر . ألا ترى إلي ما عقبه به من قوله : { فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ } ؟ فجعل ذوق العذاب نتيجة فعلهم من نسيان العاقبة وقلة الفكر فيها ، وترك الاستعداد لها . والمراد بالنسيان : خلاف التذكر ، يعني : أن الانهماك في الشهوات أنهككم وألهاكم عن تذكر العاقبة ، وسلط عليكم نسيانها . ثم قال :{ إِنَّا نَسِينَاكُمْ } على المقابلة : أي جازيناكم جزاء نسيانكم . وقيل : هو بمعنى الترك ، قاله ابن عباس وغيره ، أي تركتم الفكر في العاقبة ، فتركناكم من الرحمة . انتهى . وقوله : على طريق الإلجاء والقسر ، هو قول المعتزلة . وقالت الإمامية : يجوز أن يريد هداها إلى طريق الجنة في الآخرة ، ولم يعاقب أحداً ، لكن حق القول منه أن يملأ جهنم ، فلا يجب على اللّه هداية الكل إليها . قالوا : بل الواجب هداية المعصومين ؛ فأما من له ذنب ، فجائز هدايته إلى النار جزاء على أفعاله ، وفي جواز ذلك منع لقطعهم على أن المراد هداها إلى الإيمان . انتهى . و { هَاذَا } : صفة ليومكم ، ومفعول { فَذُوقُواْ } محذوف ، أو مفعول فذوقوا هذا العذاب بسبب نسيانكم { لِقَاء يَوْمِكُمْ هَاذَا } ، وهو ما أنتم فيه من نكس الرؤوس والخزي والغم ؛ أو ذوقوا العذاب المخلد في جهنم . وفي استئناف قوله :{ إِنَّا نَسِينَاكُمْ } ، وبناء الفعل على إن واسمها تشديد في الانتقام منهم . ١٥انظر تسفير الآية:١٧ ١٦انظر تسفير الآية:١٧ ١٧{وَإِنَّمَا يُؤْمِنُ بِئَايَاتِنَا } : أثنى تعالى على المؤمنين في وصفهم بالصفة الحسنى ، من سجودهم عند التذكير ، وتسبيحهم وعدم استكبارهم ؛ بخلاف ما يصنع الكفرة من الإعراض عن التذكير ، وقول الهجر ، وإظهار التكبر ؛ وهذه السجدة من عزائم سجود القرآن . وقال ابن عباس : السجود هنا بمعنى الركوع . وروي عن ابن جريج : المسجد مكان الركوع ، يقصد من هذا ويلزم على هذا أن تكون الآية مدنية ومن مذهب ابن عباس أن القارىء للسجدة يركع ، واستدل بقوله :{ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ}{ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ } : أي ترتفع وتتنحى ، يقال : جفا الرجل الموضع : تركه . قال عبد اللّه بن رواحة : نبي تجافى جنبه عن فراشه إذا استثقلت بالمشركين المضاجع وقال الزجاج والرماني : التجافي : التنحي إلى جهة فوق . والمضاجع : أماكن الاتكاء للنوم ، الواحد مضجع ، أي هم منتبهون لا يعرفون نوماً . وقال الجمهور : المراد بهذا التجافي صلاة النوافل بالليل ، وهو قول الأوزاعي ومالك والحسن البصري وأبي العالية وغيرهم . وفي الحديث ، ذكر قيام الليل ، ثم استشهد بالآية ، يعني الرسول . وقال أبو الدرداء ، وقتادة ، والضحاك : تجافي الجنب : هو أن يصلي العشاء والصبح في جماعة . وقال الحسن : هو التهجد ؛ وقال أيضاً : هو وعطاء : هو العتمة . وفي الترمذي ، عن أنس : نزلت في انتظار الصلاة التي تدعى العتمة . وقال قتادة ، وعكرمة : التنفل ما بين المغرب والشعاء ، { يَدَّعُونَ } : حال ، أو مستأنف خوفاً وطمعاً ، مفعول من أجله ، أو مصدران في موضع الحال . والظاهر أن الدعاء هو : الابتهال إلى اللّه ، وقيل : الصلاة . وقرأ الجمهور :{ مَّا أُخْفِىَ لَهُم } ، فعلاً ماضياً مبنياً للمفعول ؛ وحمزة ، والأعمش ، ويعقوب : بسكون الياء ، فعلاً مضارعاً للمتكلم ؛ وابن مسعود : وما نخفي ، بنون العظمة ؛ والأعمش أيضاً : أخفيت . وقرأ محمد بن كعب : ما أخفي ، فعلاً ماضياً مبنياً للفاعل . وقرأ الجمهور :{ مّن قُرَّةِ } ، على الإفراد . وقرأ عبد اللّه ، وأبو الدرداء ، وأبو هريرة ، وعوف العقيلي : من قرات ، على الجمع بالألف والتاء ، وهي رواية عن أبي جعفر والأعمش ؛ و { مَّا أُخْفِىَ } يحتمل أن تكون موصولة ، وأن تكون استفهامية ، فيكون { تَعْلَمْ } متعلقة . والجملة في موضع المفعول ، إن كان { تَعْلَمْ } مما عدى لواحد ؛ وفي موضع المفعولين إن كانت تتعدى لاثنين ، وتقدم تفسيره في { قُرَّةُ عَيْنٍ } في طه وفي الحديث ، قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : { أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، اقرؤا إن شئتم : { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ }}. وقال ابن مسعود : في التوراة مكتوب على اللّه للذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع ما لا عين رأت ولا أذن سمعت إلى آخره .{ وَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ } : نكرة في سياق النفي ، فيعم جميع الأنفس مما ادّخرا للّه تعالى لأولئك ، وأخفاه من جميع خلائقه مما تقر به أعينهم ، لا يعلمه إلا هو ، وهذه عدة عظيمة لا تبلغ الأفهام كنهها ، بل ولا تفاصيلها . وقال الحسن : أخفوا اليوم أعمالاً في الدنيا ، فأخفى اللّه لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت . { جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } ، وهو تعالى الموفق للعمل الصالح . وقال الزمخشري : فحسم أطماع المتمنين . انتهى ، وهذه نزغة اعتزالية . ١٨انظر تسفير الآية:٢٢ ١٩انظر تسفير الآية:٢٢ ٢٠انظر تسفير الآية:٢٢ ٢١انظر تسفير الآية:٢٢ ٢٢{أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً } ، قال ابن عباس وعطاء : نزلت في علي والوليد بن عقبة . تلاحماً ، فقال له الوليد : أنا أذلق منك لساناً ، وأحد سناناً ، وأرد للكتيبة . فقال له علي : اسكت ، فإنك فاسق . قال الزمخشري : فنزلت عامة للمؤمنين والفاسقين ، فتناولتهما وكل من في مثل حالهما . وقال الزجاج ، والنحاس : نزلت في علي وعقبة بن أبي معيط . فعلى هذا تكون الآية مكية ، لأن عقبة لم يكن بالمدنية ، وإنما قتل بطريق مكة ، منصرف بدر . والجمع في { لاَّ يَسْتَوُونَ } ، والتقسيم بعده ، حمل على معنى من . وقيل :{ لاَّ يَسْتَوُونَ } لاثنين ، وهو المؤمن والفاسق ، والتثنية جمع . وقال الزجاج : ونزول الآية في علي والوليد ، ثم بين انتفاء الاستواء بمقر كل واحد منهما بالإفراد . والجمهور :{ جَنَّاتُ } بالجمع . وقيل : سميت بذلك لما روي عن ابن عباس ، قال : يأوي إليها أرواح الشهداء . وقيل : هي عن يمين العرش . وقرأ الجمهور :{ نُزُلاً } بضم الزاي ؛ وأبو حيوة : بإسكانها . والنزل : عطاء النازل ، ثم صار عاماً فيما يعد للضيف .{وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُواْ } : أي بالكفر ، { فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ} قال الزمخشري : ويجوز أن يراد : فجنة مأواهم النار ، أي النار لهم مكان جنة المأوى للمؤمنين ، كقوله :{ فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} انتهى وهذا فيه بعد . وإنما يذهب إلى مثل { فَبَشّرْهُم } إذا كان مصرحاً به فيقول : قام مقام التبشير العذاب ، وكذلك قام مقام التحية ضرب وجيع . أما أن تضمر شيئاً لكلام مستغنى عنه جار على أحسن وجوه الفصاحة حتى يحمل الكلام على إضمار ، فليس بجيد . و { الْعَذَابِ الاْدْنَى } ، قال أبيّ ، وابن عباس ، والضحاك ، وابن زيد : مصائب الدنيا في الأنفس والأموال . وقال ابن مسعود ، والحسن بن علي : هو القتل بالسيف ، نحو يوم بدر . وقال مجاهد : القتل والجوع لقريش ، وعنه : إنه عذاب القبر . وقال النخعي ، ومقاتل : هو السنون التي أجاعهم اللّه فيها . وقال ابن عباس أيضاً : هو الحدود . وقال أبيّ أيضاً : هو البطشة واللزام والدخان . و { الْعَذَابَ الاْكْبَرَ } ، قال ابن عطية : لا خلاف أنه عذاب الآخرة . وفي التحرير وأكثرهم على أن العذاب الأكبر عذاب يوم القيامة في النار . وقيل : هو القتل والسبي والأسر . وعن جعفر بن محمد : أنه خروج المهدي بالسيف .{ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } ، قال ابن مسعود : لعل من بقي منهم يتوب . وقال أبو العالية : لعلهم يتوبون . وقال مقاتل : يرجعون عن الكفر إلى الإيمان . وقيل لعلهم يريدون الرجوع ويطلبونه لقوله :{ فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً} وسميت إرادة الرجوع رجوعاً ، كما سميت إرادة القيام قياماً في قوله تعالى :{ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ} انتهى . ويقابل الأدنى : الأبعد ، والأكبر : الأصغر . لكن الأدنى يتضمن الأصغر ، لأنه منقض بموت المعذب والتخويف ، إنما يصلح بما هو قريب ، وهو العذاب العاجل . والأكبر يتضمن الأبعد ، لأنه واقع في الآخرة ، والتخويف بالبعيد إنما يصلح بذكر عظمه وشدته ، فحصلت المقابلة من حيث التضمن ، وخرج في كل منهما بما هو آكد في التخويف . وقال الزمخشري : فإن قلت : من أين صح تفسير الرجوع بالتوبة ؟ ولعل من اللّه إرادة ، وإذا أراد اللّه شيئاً كان ولم يمتنع ، وتوبتهم مما لا يكون ، ألا ترى أنها لو كانت مما يكون لم يكونوا ذائقين العذاب الأكبر ؟ قلت : إرادة اللّه تتعلق بأفعاله وأفعال عباده ، فإذا أراد شيئاً من أفعاله كان ، ولم يمنع للاقتدار وخلوص الداعي ؛ وأما أفعال عباده ، فإما أن يريدها وهم مختارون لها ومضطرون إليها بقسره وإلجائه ، فإن أرادها وقدرها فحكمها حكم أفعاله ، وإن أرادها على أن يختاروها وهو عالم أنهم لا يختارونها لم يقدح ذلك في اقتداره ، كما لا يقدح في اقتدارك إرادتك أن يختار عبدك طاعتك ، وهو لا يختارها ، لأن اختياره لا يتعلق بقدرتك ، فلم يكن بعده دالاً على عجزك . انتهى ، وهو على مذهب المعتزلة ، وقد ردّ عليهم أهل السنة ، وذلك مقرر في علم الكلام .{ مِمَّن ذُكّرَ بِئَايَاتِ رَبّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا } ، بخلاف المؤمنين ، إذا ذكروا بها خروا سجداً .{ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا } ، قال الزمخشري : ثم للاستبعاد ، والمعنى : أن الإعراض عن مثل آيات اللّه في وضوحها وإنارتها وإرشادها إلى سواء السبيل ، والفوز بالسعادة العظمى بعد التذكير بها مستبعد في العقل ؛ والعادة ، كما تقول لصاحبك : وجدت مثل تلك الفرصة ، ثم لم تنتهزها استبعاداً لتركه الانتهاز ، ومنه ثم في بيت الشاعر : ولا يكشف الغماء إلا ابن حرة يرى غمرات الموت ثم يزورها استبعد أن يزور غمرات الموت بعد أن رآها واستيقنها واطلع على شدتها . انتهى . { مِنَ الْمُرْجُومِينَ } : عام في كل من أجرم ، فيندرج فيه بجهة الأولوية من كان أظلم ظالم ؛ والإجرام هنا : هو : الكفر . وقال يزيد بن رفيع : هي في أهل القدر ، وقرأ :{ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ } إلى قوله :{ بِقَدَرٍ} وفي الحديث : { ثلاث من كن فيه فقد أجرم : من عقد لواء في غير حق ، ومن عق والديه ، ومن نصر ظالماً} . ٢٣انظر تسفير الآية:٢٦ ٢٤انظر تسفير الآية:٢٦ ٢٥انظر تسفير الآية:٢٦ ٢٦لما قرر الأصوال الثلاثة : الرسالة ، وبدء الخلق ، والمعاد ، عاد إلى الأصل الذي بدأ به ، وهو الرسالة التي ليست بدعاً في الرسالة ، إذ قد سبق قبلك رسل . وذكر موسى عليه السلام ، لقرب زمانه ، وإلزاماً لمن كان على دينه ؛ ولم يذكر عيسى ، لأن معظم شريعته مستفاد من التوراة ، ولأن أتباع موسى لا يوافقون على نبوته ، وأتباع عيسى متفقون على نبوة موسى . و { الْكِتَابِ } : التوراة . وقرأ الحسن : في مرية ، بضم الميم ، والظاهر أن الضمير عائد على موسى ، مضافاً إليه على طريق المفعول ، والفاعل محذوف ضمير الرسول ، أي من لقائك موسى ، أي في ليلة الإسراء ، أي شاهدته حقيقة ، وهو النبي الذي أوتي التوراة ، وقد وصفه الرسول فقال : { آدم طوال جعد ، كأنه من رجال شنوءة حين رآه ليلة الإسراء } ، قاله أبو العالية وقتادة وجماعة من السلف . وقال المبرد : حين امتحن الزجاج بهذه المسألة . وقيل : عائد على الكتاب ، فإما مضاف إليه على طريق الفاعل والمفعول محذوف ، أي من لقاء الكتاب موسى ووصوله إليه ، وإما بالعكس ، أي من لقاء موسى الكتاب وتلقيه . وقيل : يعود على الكتاب على تقدير مضمر ، أي من لقاء مثله ، أي : إنا آتيناك مثل ما آتينا موسى ، ولقناك بمثل ما لقن من الوحي ، فلا تك في شك من أنك لقنت مثله ولقيت نظيره ، ونحوه من لقائه قوله : { وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْءانَ} وقال الحسن : يعود على ما تضمنه القول من الشدة والمحنة التي لقي موسى ، وذلك إن إخباره بأنه آتى موسى الكتاب كأنه قال : ولقد آتينا موسى هذا العبء الذي أنت بسبيله ، فلا تمتر أنك تلقى ما لقي هو من المحنة بالناس . انتهى ، وهذا قول بعيد . وأبعد من هذا ، من جعله عائداً على ملك الموت الذي تقدم ذكره ، والجملة اعتراضية . وقيل : عائد على الرجوع إلى الآخرة ، وفي الكلام تقديم وتأخير ، والتقدير : { ثُمَّ إِلَى رَبّكُمْ تُرْجَعُونَ} {فَلاَ تَكُن فِى مِرْيَةٍ مّن لّقَائِهِ } : أي من لقاء البعث ، وهذه أنقال كان ينبغي أن ينزه كتابنا عن نقلها ، ولكن نقلها المفسرون ، فاتبعناهم . والضمير في { وَجَعَلْنَاهُ } لموسى ، وهو قول قتادة . وقيل : للكتاب ، جعله هادياً من الضلالة ؛ وخص بني إسرائيل بالذكر ، لأنه لم يتعبد بما فيها ولد إسماعيل .{ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ } : أي من بني إسرائيل ، { أَئِمَّةَ } : قادة يقتدى بهم . وقرأ الجمهور :{ لَمَّا صَبَرُواْ } ، بفتح اللام وشد الميم . وعبد اللّه وطلحة ، والأعمش ، وحمزة ، والكسائي ، ورويس : بكسر اللام وتخفيف الميم .{ وَكَانُواْ } : يحتمل أن يكون معطوفاً على { صَبَرُواْ } ، فيكون داخلاً في التعليق . ويحتمل أن يكون عطفاً على { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ} وقرأ عبد اللّه أيضاً : بما صبروا ، بباء الجر ، والضمير في منهم ظاهره يعود على بني إسرائيل . والفصل : يوم القيامة يعم الخلق كلهم .{أَوَ لَمْ يَهْدِ لَهُمْ } : تقدم الكلام على نحو هذه الآية إعراباً وقراءة وتفسيراً في طه ، إلا أن هنا :{ مِن قَبْلِهِمُ } والقوم { يَسْمَعُونَ } ، وهناك :{ قَبْلَهُمْ } ، و { لاِوْلِى} ويسمعون ، والنهي من الفواصل . ٢٧انظر تسفير الآية:٣٠ ٢٨انظر تسفير الآية:٣٠ ٢٩انظر تسفير الآية:٣٠ ٣٠{أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ الْمَاء } : أقام تعالى الحجة على الكفرة بالأمم السالفة الذين كفروا فأهلكوا ، ثم أقامها عليهم بإظهار قدرته وتنبيههم على البعث ، وتقدّم تفسير { الْجُرُزِ } في الكهف ، وكل أرض جزر داخلة في هذا ، فلا تخصيص لها بمكان معين . وقال ابن عباس : هي أرض أبين من اليمن ، وهي أرض تشرب بسيول لا تمطر . وقرىء : الجرز ، بسكون الراء .{ فَنُخْرِجُ بِهِ } : أي بالماء ، وخص الزرع بالذكر ، وإن كان يخرج اللّه به أنواعاً كثيرة من الفواكه والبقول والعشب المنتفع به في الطب وغيره ، تشريفاً للزرع ، ولأنه أعظم ما يقصد من النبات ، وأوقع الزرع موقع النبات . وقدمت الأنعام ، لأن ما ينبت يأكله الأنعام أول فأول ، من قبل أن يأكل بنو آدم الحب . ألا ترى أن القصيل ، وهو شعير يزرع ، تأكله الأنعام قبل أن يسبل ؛ والبرسيم والفصفصة وأمثال ذلك تبادره الأنعام بالأكل قبل أن يأكل بنو آدم حب الزرع ، أو لأنه غذاء الدواب ، والإنسان قد يتغذى بغيره من حيوان وغيره ، أو بدأ بالأدنى ثم ترقى إلى الأشرف ، وهم بنو آدم . وقرأ أبو حيوة ، وأبو بكر في رواية : يأكل ، بالياء من أسفل . وقرأ الجمهور :{ يُبْصِرُونَ } ، بياء الغيبة ؛ وابن مسعود : بتاء الخطاب . وجاءت الفاصلة :{ أَفَلاَ يُبْصِرُونَ } ، لأن ما سبق مرئي ، وفي الآية قبله مسموع ، فناسب :{ أَفَلاَ يَسْمَعُونَ} ثم أخبر تعالى عن الكفرة ، باستعجال فصل القضاء بينهم وبين الرسول على معنى الهزء والتكذيب . و { الْفَتْحُ } : الحكم ، قاله الجمهور ، وهو الذي يترتب عليه قوله :{ قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ } الخ ، ويضعف قول الحسن ومجاهد : فتح مكة ، لعدم مطابقته لما بعده ، لأن من آمن يوم فتح مكة ، إيمانه ينفعه ، وكذا قول من قال : يوم بدر .{ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ } : أي لا يؤخرون عن العذاب . ولما عرف غرضهم في سؤالهم على سبيل الهزء ، وقيل لهم : لا تستعجلوا به ولا تستهزؤا ، فكأن قد حصلتم في ذلك اليوم وآمنتم ، فلم ينفعكم الإيمان ، واستنظرتم في حلول العذاب ، فلم تنظروا ، فيوم منصوب بلا ينفع . ثم أمر بالإعراض عنهم وانتظار النصر عليهم والظفر بهم .{ إِنَّهُمْ مُّنتَظِرُونَ } للغلبة عليكم لقوله :{ فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبّصُونَ } ، وقيل : إنهم منتظرون العذاب ، أي هذا حكمهم ، وإن كانوا لا يشعرون . وقرأ اليماني : منتظرون ، بفتح الظاء ، اسم مفعول ؛ والجمهور : بكسرها ، اسم فاعل ، أي منتظر هلاكهم ، فإنهم أحقاء أن ينتظر هلاكهم ، يعني : إنهم هالكون لا محالة ، أو : وانتظر ذلك ، فإن الملائكة في السماء ينتظرونه . |
﴿ ٠ ﴾