١٥

{وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مّنْهُمْ } : أي من المنافقين ، { لاَ مُقَامَ لَكُمْ } في حومة القتال والممانعة ، { فَارْجِعُواْ } إلى بيوتكم ومنازلكم ، أمروهم بالهرب عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.

وقيل : فارجعوا كفاراً إلى دينكم الأول وأسلموه إلى أعدائه . قال السدي : والقائل لذلك عبد اللّه بن أبي ابن سلول وأصحابه . وقال مقاتل : بنو مسلمة . وقال أوس بن رومان : أوس بن قبطي وأصحابه . وقال الكلبي : بنو حارثة . ويمكن صحة هذه الأقوال ، فإن فيهم من كان منافقاً .{ لاَ مُقَامَ لَكُمْ } ،

وقرأ السلمي والأعرج واليماني وحفص : بضم الميم ، فاحتمل أن يكون مكاناً ، أي لا مكان إقامة ؛ واحتمل أن يكون مصدراً ، أي لا إقامة .

وقرأ أبو جعفر ، وشيبة ، وأبو رجاء ، والحسن ، وقتادة ، والنخعي ، وعبد اللّه بن مسلم ، وطلحة ، وباقي السبعة : بفتحها ، واحتمل أيضاً المكان ، أي لا مكان قيام ، واحتمل المصدر ، أي لا قيام لكم .{ وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مّنْهُمُ النَّبِىَّ } : هو أوس بن قبطي ، استأذن في الدخول إلى المدينة عن اتفاق من عشيرته .{ يَقُولُونَ } : حال ، أي قائلين :{ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ } : أي منكشفة للعدو ،

وقيل : خالية للسراق ، يقال : أعور المنزل : انكشف . وقال الشاعر :

له الشدة الأولى إذا القرن أعوراً

وقال ابن عباس : الفريق بنو حارثة ، وهم كانوا عاهدوا اللّه لا يولون الأدبار ، اعتذروا بأن بيوتهم معرضة للعدو ، ممكنة للسراق ، لأنها غير محرزة ولا محصنة ، فاستأذنوه ليحصنوها ثم يرجعوا إليه ، فأكذبهم اللّه بأنهم لا يخافون ذلك ، وإنما يريدون الفرار .

وقرأ ابن عباس ، وابن يعمر ، وقتادة ، وأبو رجاء ، وأبو حيوة ، وابن أبي عبلة ، وأبو طالوت ، وابن مقسم ، وإسماعيل بن سليمان عن ابن كثير : عورة وبعوزة ، بكسر الواو فيهما ؛ والجمهور : بإسكانها .

قال الزمخشري : ويجوز أن يكون تخفيف عورة وبالكسر هو اسم فاعل . وقال ابن جني : صحة الواو في هذا إشارة لأنها متحركة قبلها فتحة . انتهى . فيعني أنها تنقلب ألفاً ، فيقال : عارة ، كما يقول : رجل مال ، أي ممول . وإذا كان عورة اسم فاعل ، فهو من عور الذي صحت عينه ، فاسم الفاعل كذلك تصح عينه ، فلا تكون صحة العين على هذا شذوذاً .

وقيل : السكون على أنه مصدر وصف به ، والبيت العور : هو المنفرد المعرض لمن أراد سوءاً . وقال الزجاج : عور المكان يعور عوراً وعورة فهو عور ، وبيوت عورة . وقال الفراء : أعور المنزل : بدا منه عورة ، وأعور الفارس : كان فيه موضع خلل للضرب والطعن . قال الشاعر : متى تلقهم لم تلق في البيت معورا

ولا الضيف مسحوراً ولا الجار مرسلاً

قال الكلبي :{ عَوْرَةٌ } : خالية من الرجال ضائعة . وقال قتادة : قاصية ، يخشى عليها العدو . وقال السدي : قصيرة الحيطان ، يخاف عليها السراق . وقال الليث : العورة : سوأة الإنسان ، وكل أمر يستحيا منه فهو عورة ، يقال : عورة في

التذكير والتأنيث ، والجمع كالمصدر .

وقال ابن عباس : قالت اليهود لعبد اللّه ابن أبي ابن سلول وأصحابه من المنافقين : ما الذي يحملكم على قتل أنفسكم بيد أبي سفيان وأصحابه ؟ فارجعوا إلى المدينة فأنتم آمنون . { إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً } : من الدين ،

وقيل : من القتل . وقال الضحاك : ورجع ثمانون رجلاً من غير إذن للنبي صلى اللّه عليه وسلم. والضمير في :{ دَخَلَتْ } ، الظاهر عوده على البيوت ، إذ هو أقرب مذكور . قيل :أو على المديمنة ، أي ولو دخلها الأحزاب الذين يفرون خوفاً منها ؛ والثالث على أهاليهم وأولادهم .{ ثُمَّ سُئِلُواْ الْفِتْنَةَ } : أي الردة والرجوع إلى إظهار الكفر ومقاتلة المسلمين .{ لاَتَوْهَا } : أي لجاءوا إليها وفعلوا على قراءة القصر ، وهي قراءة نافع وابن كثير .

وقرأ باقي السبعة : لآتوها بالمد ، أي لأعطوها .{ وَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَا } : وما لبثوا بالمدينة بعد ارتدادهم { إِلاَّ يَسِيراً } ، فإن اللّه يهلكهم ويخرجهم بالمؤمنين .

قال ابن عطية : ولو دخلت المدينة من أقطارها ، واشتد الحرب الحقيقي ، ثم سئلوا الفتنة والحرب لمحمد صلى اللّه عليه وسلم ، لطاروا إليها وأتوها مجيبين فيها ، ولم يتلبثوا في بيوتهم لحفظها إلا يسيراً ، قيل : قدر ما يأخذون سلاحهم . انتهى .

وقرأ الجمهور : سئلوا ،

وقرأ الحسن : سولوا ، بواو ساكنة بعد السين المضمومة ، قالوا : وهي من سال يسال ، كخاف يخاف ، لغة من سأل المهموز العين .

وحكى أبو زيد : هما يتساولان . انتهى . ويجوز أن يكون أصلها الهمزة ، لأنه يجوز أن يكون سولوا على قول من يقول في ضرب ضرب ، ثم سهل الهمزة بإبدالها واواً على قول من قال في بؤس بوس ، بإبدال الهمزة واواً لضمة ما قبلها .

وقرأ عبد الوارث ، عن أبي عمرو والأعمش : سيلوا ، بكسر السين من غير همز ، نحو : قيل .

وقرأ مجاهد : سوئلوا ، بواو بعد السين المضمومة وياء مكسورة بدلاً من الهمزة .

وقال الضحاك :{ ثُمَّ سُئِلُواْ الْفِتْنَةَ } : أي القتال في العصبية ، لأسرعوا إليه . وقال الحسن : الفتنة ، الشرك ، والظاهر عود الضمير بها على الفتنة .

وقيل : يعود على المدينة . و { عَاهَدُواْ } : أجرى مجرى اليمين ، ولذلك يتلقى بقوله :{ لاَ يُوَلُّونَ الاْدْبَارَ} وجواب هذا القسم جاء على الغيبة عنهم على المعنى : ولو جاء كما لفظوا به ، لكان التركيب : لا نولي الأدبار . والذين عاهدوا : بنو حارثة وبنو مسلمة ، وهما الطائفتان اللتان هما بالفشل في يوم أُحُد ، ثم تابوا وعاهدوا أن لا يفروا ، فوقع يوم الخندق من بني حارثة ذلك الاستئذان . قال ابن عباس : عاهدوا بمكة ليلة العقبة أن يمنعوه مما يمنعون منهم أنفسهم .

وقيل : ناس غابوا عن وقعة بدر قالوا : لئن أشهدنا اللّه قتالاً لنقاتلن من قبل : أي من قبل هذه الغزوة ، غزوة الخندق .{ لاَ يُوَلُّونَ الاْدْبَارَ } : كناية عن الفرار والانهزام ، سئلوا مطلوباً مقتضى حتى يوفى به ، وفي ذلك تهديد ووعيد .

﴿ ١٥