٦١{مُّبِيناً يأَيُّهَا النَّبِىُّ قُل لاِزْواجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذالِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللّه غَفُوراً } كان دأب الجاهلية أن تخرج الحرة والأمة مكشوفتي الوجه في درع وخمار ، وكان الزناة يتعرضون إذا خرجن بالليل لقضاء حوائجهن في النخيل والغيطان للإماء ، وربما تعرضوا للحرة بعلة الأمة ، يقولون : حسبناها أمة ، فأمرن أن يخالفن بزيهن عن زي الإماء ، بلبس الأردية والملاحف ، وستر الرؤوس والوجوه ، ليحتشمن ويهبن ، فلا يطمع فيهن . وروي أنه كان في المدينة قوم يجلسون على الصعدات لرؤية النساء ومعارضتهن ومراودتهن ، فنزلت . قيل : والجلابيب : الأردية التي تستر من فوق إلى أسفل ، وقال ابن جبير : المقانع ؛ وقيل : الملاحف ، وقيل : الجلباب : كل ثوب تلبسه المرأة فوق ثيابها ، وقيل : كل ما تستتر به من كساء أو غيره . قال أبو زيد : تجلببت من سواد الليل جلباباً وقيل : الجلباب أكبر من الخمار . وقال عكرمة : تلقي جانب الجلباب على غيرها ولا يرى . وقال أبو عبيدة السلماني ، حين سئل عن ذلك فقال : أن تضع رداءها فوق الحاجب ، ثم تديره حتى تضعه على أنفها . وقال السدي : تغطي إحدى عينيها وجبهتها والشق الآخر إلا العين . انتهى . وكذا عادة بلاد الأندلس ، لا يظهر من المرأة إلا عينها الواحدة . وقال الكسائي : يتقنعن بملاحفهن منضمة عليهن ، أراد بالإنضمام معنى : الإدناء . وقال ابن عباس ، وقتادة : وذلك أن تلويه فوق الجبين وتشده ، ثم تعطفه على الأنف ، وإن ظهرت عيناها ، لكنه يستر الصدر ومعظم الوجه . والظاهر أن قوله : { وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ } يشمل الحرائر والإماء ، والفتنة بالإماء أكثر ، لكثرة تصرفهن بخلاف الحرائر ، فيحتاج إخراجهن من عموم النساء إلى دليل واضح . ومن في :{ مِن جَلَابِيبِهِنَّ } للتبعيض ، و { عَلَيْهِنَّ } : شامل لجميع أجسادهن ، أو { عَلَيْهِنَّ } : على وجوههن ، لأن الذي كان يبدو منهن في الجاهلية هو الوجه .{ ذالِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ } : لتسترهن بالعفة ، فلا يتعرض لهن ، ولا يلقين بما يكرهن ؛ لأن المرأة إذا كانت في غاية التستر والانضمام ، لم يقدم عليها ، بخلاف المتبرجة ، فإنها مطموع فيها . { وَكَانَ اللّه غَفُوراً رَّحِيماً } : تأنيس للنساء في ترك الاستتار قبل أن يؤمر بذلك . ولما ذكر حال المشرك الذي يؤذي اللّه ورسوله ، والمجاهر الذي يؤذي المؤمنين ، ذكر حال المسر الذي يؤذي اللّه ورسوله ، ويظهر الحق ويضمر النفاق . ولما كان المؤذون ثلاثة ، باعتبار إذايتهم للّه ولرسوله وللمؤمنين ، كان المشركون ثلاثة : منافق ، ومن في قلبه مرض ، ومرجف . فالمنافق يؤذي سراً ، والثاني يؤذي المؤمن باتباع نسائه ، والثالث يرجف بالرسول ، يقول : غلب ، سيخرج من المدينة ، سيؤخذ ، هزمت سراياه . وظاهر العطف التغاير بالشخص ، فيكون المعنى : لئن لم ينته المنافقون عن عداوتهم وكيدهم ، والفسقة عن فجورهم ، والمرجفون عما يقولون من أخبار السوء ويشيعونه . ويجوز أن يكون التغاير بالوصف ، فيكون واحداً بالشخص ثلاثة بالوصف . كما جاء أن المسلمين والمسلمات ، فذكر أوصافاً عشرة ، والموصوف بها واحد ، ونص على هذين الوصفين من المنافقين لشدة ضررهما على المؤمنين . قال عكرمة :{ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } ، هو العزل وحب الزنا ، ومنه فيطمع الذي في قلبه مرض . وقال السدي : المرض : النفاق ، ومن في قلوبهم مرض . وقال ابن عباس : هم الذين آذوا عمر . وقال الكلبي : من آذى المسلمين . وقال ابن عباس :{ المرجفون } : ملتمسوا الفتن . وقال قتادة : الذين يؤذون قلوب المؤمنين بإيهام القتل والهزيمة .{ الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ } : أي لنسلطنك عليهم ، قاله ابن عباس . وقال قتادة : لنحرسنك بهم . {ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا } : أي في المدينة ، و { ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ } معطوف على { لَنُغْرِيَنَّكَ } ، ولم يكن العطف بالفاء ، لأنه لم يقصد أنه متسبب عن الإغراء ، بل كونه جواباً للقسم أبلغ . وكان العطف بثم ، لأن الجلاء عن الوطن كان أعظم عليهم من جميع ما أصيبوا ، به فتراخت حالة الجلاء عن حالة الإغراء .{ إِلاَّ قَلِيلاً } : أي جواراً قليلاً ، أو زماناً قليلاً ، أو عدداً قليلاً ، وهذا الأخير استثناء من المنطوق ، وهو ضمير الرفع في { يُجَاوِرُونَكَ } ،أو ينتصب قليلاً على الحال ، أي إلا قليلين ، والأول استثناء من المصدر الدال عليه { يُجَاوِرُونَكَ } ، والثاني من الزمان الدال عليه { يُجَاوِرُونَكَ } ، والمعنى : أنهم يضطرون إلى طلب الجلاء عن المدينة خوف القتل . وانتصب { مَّلْعُونِينَ } على الذم ، قاله الطبري ؛ وأجاز ابن عطية أن يكون بدلاً من { قَلِيلاً } ، قال : هو من إقلاء الذي قدرناه ؛ وأجاز هو أيضاً أن يكون حالاً من الضمير في { يُجَاوِرُونَكَ } ، قال : كأنه قال : ينتفون من المدينة معلونين ، فلا يقدر { لاَ يُجَاوِرُونَكَ } ، فقدر ينتفون حسن هذا . انتهى . وقال الزمخشري ، والحوفي ، وتبعهما أبو البقاء : يجوز أن يكون حالاً من الضمير في { لاَ يُجَاوِرُونَكَ } ، كما قال ابن عطية . قال الزمخشري : وهذا نصه معلونين ، نصب على الشتم أو الحال ، أي لا يجاورونك ، إلا ملعونين . دخل حرف الاستثناء على الظرف والحال معاً ، كما مر في قول :{ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ } ، ولا يصح أن ينتصب من أخذ ، والأن ما بعد كلمة الشرط لا يعمل فيما قبلها . انتهى . وتقدم الكلام معه في مجيء الحال مما قبل إلا مذكورة بعد ما استثنى بإلا ، فيكون الاستثناء منصباً عليهما ، وأن جمهور البصريين منعوا من ذلك . وأما تجويز ابن عطية أن يكون بدلاً ، فالبدل بالمشتق قليل . وأما قول الزمخشري : لأن ما بعد كلمة الشرط لا يعمل فيما قبلها ، فليس هذا مجمعاً عليه ، لأن ما بعد كلمة الشرط شيئان : فعل الشرط والجواب . فأما فعل الشرط ، فأجاز الكسائي تقديم معموله على الكلمة ، أجاز زيد أن يضرب اضربه ، وأما الجواب فقد أجاز أيضاً تقديم معموله عليه نحو : إن يقم زيد عمراً يضرب . وقد حكي عن بعض النحويين أنه قال : المعنى :{ أَيْنَمَا ثُقِفُواْ } : أخذوا ملعونين ، والصحيح أن ملعونين صفة لقليل ، أي إلا قليلين ملعونين ، ويكون قليلاً مستثنى من الواو في لا يجاورونك ، والجملة الشرطية صفة أيضاً ، أي مقهورين مغلوباً عليهم . ومعنى { ثُقِفُواْ } : حصروا وظفر بهم ، ومعنى { أُخِذُواْ } : أسروا ، والأخيذ : الأسير . وقرأ الجمهور :{ قَاتِلُواْ } ، بتشديد التاء ؛ وفرقة : بتخفيفها ، فيكون { تَقْتِيلاً } مصدراً على غير قياس المصدر . والظاهر أن المنافقين انتهوا عما كانوا يؤذون به الرسول والمؤمنين ، وتستر جميعهم ، وكفوا خوفاً من أن يقع بهم ما وقع القسم عليه ، وهو الإغراء والجلاء والأخذ والقتل . وقيل : لم يمتثلوا للانتهاء جملة ، ولا نفذ عليهم الوعيد كاملاً . ألا ترى إلى إخراجهم من المسجد ، ونهيه عن الصلاة عليهم ، وما نزل فيهم في سورة براءة ؟ وأبعد من ذهب إلى أنه لم ينته هؤلاء الأصناف ، ولم ينفذ اللّه الوعيد عليهم ، ففيه دليل على بطلان القول بإنفاذ الوعيد في الآخرة ، ويكون هذا الوعيد مفروضاً ومشروطاً بالمشيئة . |
﴿ ٦١ ﴾