سورة صمكية بسم اللّه الرحمن الرحيم ١انظر تسفير الآية:٥ ٢انظر تسفير الآية:٥ ٣انظر تسفير الآية:٥ ٤انظر تسفير الآية:٥ ٥ص والقرآن ذي . . . . . لات : هي لا ، ألحقت بها التاء كما ألحقت في ثم ورب ، فقالوا : ثمت وربت ، وهي تعمل عمل ليس في مذهب سيبويه ، وعمل إن في مذهب الأخفش . فإن ارتفع ما بعدها ، فعلى الابتداء عنده ؛ ولها أحكام ذكرت في علم النحو ، ويأتي شيء منها هنا عند ذكر القراءات التي فيها . والمناص : المنجا والغوث ، يقال ناصه ينوصه : إذا فاته . قال الفراء : النوص : التأخر ، يقال ناص عن قرنه ينوص نوصاً ومناصاً : أي فر وزاغ ، وأنشد لامرىء القيس : أم ذكر سلمى ان نأتك كنوص واستناص طلب المناص قال حارثة بن بدر : غمر الجراء إذا قصرت عنانه بيدي استناص ورام جري المسحل وقال الجوهري : استناص : تأخر . وقال النحاس : ناص ينوص : تقدم . الوتد : معروف ، وكسر التاء أشهر من فتحها . ويقال : وتد واتد ، كما يقال : شغل شاغل . قال الأصمعي وأنشد : لاقت على الماء جذيلاً واتدا ولم يكن يخلفها المواعدا وقالوا : ودّ فأدغموه ، قال الشاعر : تخرج الودّ إذا ما أشحذت وتواريه إذا ما تشتكر وقالوا فيه : دت ، فأدغموا بإدال الدال تاء ، وفيه قلب الثاني للأول ، وهو قليل . هذه السورة مكية ، ومناسبتها لآخر ما قبلها أنه لما ذكر عن الكفار أنهم كانوا يقولون :{ لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مّنَ الاْوَّلِينَ } ، لأخلصوا العبادة للّه . وأخبر أنهم أتاهم الذكر فكفروا به . بدأ في هذه السورة بالقسم بالقرآن ، لأنه الذكر الذي جاءهم ، وأخبر عنهم أنهم كافرون ، وأنهم في تعزز ومشاقة للرسول الذي جاء به ؛ ثم ذكر من أهلك من القرون التي شاقت الرسل ليتعظوا . وروي أنه لما مرض أبو طالب ، جاءت قريش رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وعند رأس أبي طالب مجلس رجل ، فقام أبو جهل كي يمنعه ، وشكوه إلى أبي طالب ، فقال : يا ابن أخي ، ما تريد من قومك ؟ فقال : يا عم ، إنما أريد منهم كلمة تذل لهم بها العرب ، وتؤدّي إليهم الجزية بها العجم . قال : وما الكلمة ؟ قال : كلمة واحدة ، قال : وما هي ؟ قال : لا إله إلا اللّه ، قال فقاموا وقالوا : أجعل الآلهة إلهاً واحداً ؟ قال : فنزل فيهم القرآن :{ ص وَالْقُرْءانِ ذِى الذّكْرِ } ، حتى بلغ ، { إِنْ هَاذَا إِلاَّ اخْتِلاَقٌ} قرأ الجمهور : صاد ، بسكون الدال . وقرأ أبي ، والحسن ، وابن أبي إسحاق ، وأبو السمال ، وابن أبي عبلة ، ونصر بن عاصم : صاد ، بكسر الدال ، والظاهر أنه كسر لالتقاء الساكنين . وهو حرف من حروف المعجم نحو : قاف ونون . وقال الحسن : هو أمر من صادى ، أي عارض ، ومنه الصدى ، وهو ما يعارض الصوت في الأماكن الصلبة الخالية من الأجسام ، أي عارض بعملك القرآن . وعنه أيضاً : صاديت : حادثت ، أي حادث ، وهو قريب من القول الأول . وقرأ عيسى ، ومحبوب عن أبي عمرو ، وفرقة : صاد ، بفتح الدال ، وكذا قرأ : قاف ونون ، بفتح الفاء والنون ، فقيل : الفتح لالتقاء الساكنين طلباً للتخفيف ؛ وقيل : انتصب على أنه مقسم به ، حذف منه حرف القسم نحو قوله : أللّه لأفعلن ، وهو اسم للسورة ، وامتنع من الصرف للعلمية والتأنيث ، وقد صرفها من قرأ صاد بالجر والتنوين على تأويل الكتاب والتنزيل وهو ابن أبي إسحاق في رواية . وقرأ الحسن أيضاً : صاد ، بضم الدال ، فإن كان اسماً للسورة ، فخبر مبتدأ محذوف ، أي هذه ص ، وهي قراءة ابن السميفع وهرونه الأعور ؛ وقرأ قاف ونون ، بضم الفاء والنون . وقيل : هو حرف دال على معنى من فعل أو من اسم ، فقال الضحاك : معناه صدق اللّه . وقال محمد بن كعب : مفتاح أسماء اللّه محمد صادق الوعد صانع المصنوعات . وقيل : معناه صدق محمد . قال ابن عباس ، وابن جبير ، والسدّي : ذي الذكر : ذي الشرف الباقي المخلد . وقال قتادة : ذي التذكرة ، للناس والهداية لهم . وقيل : ذي الذكر ، للأمم والقصص والغيوب والشرائع وجواب القسم ، قيل : مذكور ، فقال الكوفيون والزجاج : هو قوله : { إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} وقال الفراء : لا نجده مستقيماً في العربية لتأخره جداً عن قوله :{ وَالْقُرْءانِ} وقال الأخفش : هو { إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرٌّ سُلَ } ، وقال قوم :{ كَمْ أَهْلَكْنَا } ، وحذف اللام أي لكم ، لما طال الكلام ؛ كما حذفت في { وَالشَّمْسُ } ، ثم قال :{ قَدْ أَفْلَحَ } ، حكاه الفراء وثعلب ، وهذه الأقوال يجب اطراحها . وقيل : هو صاد ، إذ معناه : صدق محمد وصدق اللّه . وكون صاد جواب القسم ، قاله الفراء وثعلب ، وهذا مبني على تقدم جواب القسم ، واعتقاد أن الصاد يدل على ما ذكروه . وقيل : الجواب محذوف ، فقدره الحوفي : لقد جاءكم الحق ونحوه ، والزمخشري : إنه لمعجز ، وابن عطية : ما الأمر كما تزعمون ، ونحو هذا من التقدير . ونقل أن قتادة والطبري قالا : هو محذوف قبل { بَلِ } ، قال : وهو الصحيح ، وقدره ما ذكرنا عنه ، وينبغي أن يقدر ما أثبت هنا جواباً للقرآن حين أقسم به ، وذلك في قوله تعالى :{ يس وَالْقُرْءانِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ } ، ويقوي هذا التقدير ذكر النذارة هنا في قوله :{ وَعَجِبُواْ أَن جَاءهُم مٌّ نذِرٌ مّنْهُمْ } ، وقال هناك :{ لِتُنذِرَ قَوْماً } ، فالرسلة تتضمن النذارة والبشارة ، وبل للانتقال من هذا القسم والمقسم عليه إلى حالة تعزز الكفار ومشاقهم في قبول رسالتك وامتثال ما جئت به ، واعتراف بالحق . وقرأ حماد بن الزبرقان ، وسورة عن الكسائي ، وميمون عن أبي جعفر ، والجحدري من طريق العقيلي : في غرة ، بالغين المعجمة والراء ، أي في غفلة ومشاقة .{ قَبْلَهُمْ } : أي قبل هؤلاء ذوي المنعة الشديدة والشقاق ، وهذا وعيد لهم .{ فَنَادَوْاْ } : أي استغاثوا ونادوا بالتوبة ، قاله الحسن ؛ أو رفعوا أصواتهم ، يقال : فلان أندى صوتاً : أي أرفع ، وذلك بعد معاينة العذاب ، فلم يك وقت نفع . وقرأ الجمهور :{ وَّلاَتَ حِينَ } ، بفتح التاء ونصب النون ، فعلى قول سيبويه ، عملت عمل ليس ، واسمها محذوف تقديره : ولات الحين حين فوات ولا فرار . وعلى قول الأخفش : يكون حين اسم لات ، عملت عمل إن نصبت الإسم ورفعت الخبر ، والخبر مخذوف تقديره : ولات أرى حين مناص . وقرأ أبو السمال : ولات حين ، بضم التاء ورفع النون ؛ فعلى قول سيبويه : حين مناص اسم لات ، والخبر محذوف ؛ وعلى قول الأخفش : مبتدأ ، والخبر محذوف . وقرأ عيسى بن عمر : ولات حين ، بكسر التاء وجر النون ، خبر بعد لات ، وتخريجه مشكل ، وقد تمحل الزمخشري في تخريج الخبر في قوله : طلبوا صلحنا ولات حين أوان فأجبنا أن لات حين بقاء قال : شبه أوان بإذ في قوله : وأنت إذ صحيح في أنه زمان قطع منه المضاف إليه وعوض ، لأن الأصل : ولات أوان صلح . فإن قلت : فما تقول في حين مناص ، والمضاف إليه قائم ؟ قلت : نزل قطع المضاف والمضاف إليه ، وجعل تنوينه عوضاً من الضمير المحذوف ، ثم بنى الحين لكونه مضافاً إلى غير متمكن . انتهى . هذا التمحل ، والذي ظهر لي في تخريج هذه القراءة الشاذة ، والبيت النادر في جر ما بعد لات : أن الجر هو على إضمار من ، كأنه قال : لات من حين مناص ، ولات من أوان صلح ، كما جروا بها في قولهم : على كم جذع بيتك ؟ أي من جذع في أصح القولين ، وكما قالوا : لا رجل جزاه اللّه خيراً ، يريدون : لا من رجل ، ويكون موضع من حين مناص رفعاً على أنه اسم لات بمعنى ليس ، كما تقول : ليس من رجل قائماً ، والخبر محذوف ، وهذا على قول سيبويه ، أو على أنه مبتدأ أو الخبر محذوف ، على قول الأخفش . وقال بعضهم : ومن العرب من يخفض بلات ، وأنشد الفراء : ولتندمن ولات ساعة مندم وخرج الأخفش ولات أوان على إضمار حين ، أي ولات حين أوان ، حذف حين وأبقى أوان على جره . وقال أبو إسحاق : ولات أواننا ، فحذف المضاف إليه ، فوجب أن لا يعرب ، وكسره لالتقاء الساكنين ؛ وهذا هو الوجه الذي قرره الزمخشري ، أخذه من أبي إسحاق الزجاج ، وأنشده المبرد : ولات أوان بالرفع . وعن عيسى : ولات حين ، بالرفع ، مناص : بالفتح . وقال صاحب اللوامح : فإن صح ذلك ، فلعله بنى حين على الضم ، فيكون في الكلام تقديم وتأخير ، وأجراه مجرى قبل وبعد في الغاية ، وبنى مناص على الفتح مع لات ، على تقدير : لات مناص حين ، لكن لا إنما تعمل في النكرات في اتصالها بهن دون أن يفصل بينهما ظرف أو غيره ، وقد يجوز أن يكون لذلك معنى لا أعرفه . انتهى . وقرأ عيسى أيضاً : ولات بكسر التاء ، وحين بنصب النون ، وتقدم تخريج نصب حين . ولات روي فيها فتح التاء وضمها وكسرها والوقف عليها بالتاء ، قول سيبويه والفراء وابن كيسان والزجاج ، ووقف الكسائي والمبرد بالهاء ، وقوم على لا ، وزعموا أن التاء زيدت في حين ؛ واختاره أبو عبيدة وذكر أن رآه في الإمام مخلوطاً تاؤه بحين ، وكيف يصنع بقوله : ولات ساعة مندم ، ولات أوان . وقال الكلبي : كانوا إذا قاتلوا فاضطروا ، قال بعضهم لبعض : مناص ، أي عليكم بالفرار ، فلما أتاهم العذاب قالوا : مناص ، فقال اللّه : { وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ} قال القشيري : فعلى هذا يكون التقدير : فنادوا مناص ، فحذف لدلالة ما بعده عليه ، أي ليس الوقت وقت ندائكم به ، وفيه نوع تحكم ، إذ كل من هلك من القرون يقول مناص عند الاضطرار . انتهى . وقال الجرجاني : أي فنادوا حين لا مناص ، أي ساعة لا منجا ولا فوت . فلما قدم لا وأخر حين اقتضى ذلك الواو ، كما تقتضي الحال إذا جعل مبتدأ وخبراً مثل : جاء زيد راكباً ، ثم تقول : جاء زيد وهو راكب ، فحين ظرف لقوله : { فَنَادَوْاْ} انتهى . وكون أصل هذه الجملة : فنادوا حين لا مناص ، وأن حين ظرف لقوله :{ فَنَادَوْاْ } دعوى أعجمية مخالفة لنظم القرآن ، والمعنى على نظمه في غاية الوضوح ، والجملة في موضع الحال ، فنادوا وهم لات حين مناص ، أي لهم . ولما أخبر تعالى عن الكفار أنهم في عزة وشقاق ، أردف بما صدر عنهم من كلماتهم الفاسدة ، من نسبتهم إليه السحر والكذب . ووضع الظاهر موضع المضمر في قوله :{ وَقَالَ الْكَافِرُونَ } ،أي : وقالوا تنبيهاً على الصفة التي أوجبت لهم العجب ، حتى نسبوا من جاء بالهدى والتوحيد إلى السحر والكذب .{ أَجَعَلَ الاْلِهَةَ إِلَاهاً واحِداً } ، قالوا : كيف يكون إله واحد يرزق الجميع وينظر في كل أمورهم ؟ وجعل : بمعنى صير في القول والدعوى والزعم ، وذكر عجبهم مما لا يعجب منه . والضمير في { وَعَجِبُواْ } لهم ، أي استغربوا مجيء رسول من أنفسهم . وقرأ الجمهور :{ عُجَابٌ } ، وهو بناء مبالغة ، كرجل طوال وسراع في طويل وسريع . وقرأ علي ، والسلمي ، وعيسى ، وابن مقسم : بشم الجيم ، وقالوا : رجل كرّام وطعام طياب ، وهو أبلغ من فعال المخفف . وقال مقاتل : عجاب لغة أزد شنوءة . والذين قالوا :{ أَجَعَلَ الاْلِهَةَ إِلَاهاً واحِداً } ، قال ابن عباس : صناديد قريش ، وهم ستة وعشرون . ٦انظر تسفير الآية:١٣ ٧انظر تسفير الآية:١٣ ٨انظر تسفير الآية:١٣ ٩انظر تسفير الآية:١٣ ١٠انظر تسفير الآية:١٣ ١١انظر تسفير الآية:١٣ ١٢انظر تسفير الآية:١٣ ١٣{وَانطَلَقَ الْمَلا مِنْهُمْ } : الظاهر انطلاقهم عن مجلس أبي طالب ، حين اجتمعوا هم والرسول عنده وشكوه على ما تقدّم في سبب النزول ؛ ويكون ثم محذوف تقديره : يتحاورون .{ أَنِ امْشُواْ } ، وتكون أن مفسرة لذلك المحذوف ، وامشوا أمر بالمشي ، وهو نقل الأقدام عن ذلك المجلس . وقال الزمخشري : وأن بمعنى أي ، لأن المنطلقين عن مجلس التقاول لا بد لهم من أن يتكلموا ويتفاوضوا فيما جرى لهم ، فكان انطلاقهم مضمناً معنى القول والأمر بالمشي ، أي بعضهم أمر بعضاً . وقيل : أمر الأشراف أتباعهم وأعوانهم . ويجوز أن تكون أن مصدرية ، أي وانطلقوا بقولهم امشوا ، وقيل : الانطلاق هنا الاندفاع في القول والكلام ، وأن مفسرة على هذا ، والأمر بالمشي لا يراد به نقل الخطا ، إنما معناه : سيروا على طريقتكم ودوموا على سيرتكم . وقيل :{ امْشُواْ } دعاء بكسب الماشية ، قيل : وهو ضعيف ، لأنه كان يلزم أن تكون الألف مقطوعة ، لأنه إنما يقال : أمشي الرجل إذا صار صاحب ماشية ؛ وأيضاً فهذا المعنى غير متمكن في الآية . وقال الزمخشري : ويجوز أنهم قالوا : امشوا ، أي أكثروا واجتمعوا ، من مشت المرأة إذا كثرت ولادتها ؛ ومنه الماشية للتفاؤل . انتهى . وأمروا بالصبر على الآلهة ، أي على عبادتها والتمسك بها . والإشارة بقوله :{ إِنَّ هَذَا } أي ظهور محمد صلى اللّه عليه وسلم ، وعلوه بالنبوة ، { لَشَىْء يُرَادُ } : أي يراد منا الانقياد إليه ، أو يريده اللّه ويحكم بإمضائه ، فليس فيه إلا الصبر ، أو أن هذا الأمر شيء من نوائب الدهر مراد منا ، فلا انفكاك عنه ، وأن دينكم لشيء يراد ، أي يطلب ليؤخذ منكم وتغلبوا معليه ، احتمالات أربعة . وقال القفال : هذه كلمة تذكر للتهديد والتخويف ، المعنى : أنه ليس غرضه من هذا القول تقرير للدين ، وإنما غرضه أن يستولي علينا ، فيحكم في أموالنا وأولادنا بما يريد .{ مَّا سَمِعْنَا بِهَاذَا فِى الْمِلَّةِ الاْخِرَةِ } ، قال ابن عباس ، ومجاهد ، ومحمد بن كعب ، ومقاتل : ملة النصارى ، لأن فيها التثليث ، ولا توحد . وقال مجاهد ، وقتادة : ملة العرب : قريش ونجدتها . وقال الفراء ، والزجاج : ملة اليهود والنصرانية ، أشركت اليهود بعزير ، وثلث النصارى . وقيل : في الملة الآخرة التي كنا نسمع أنها تكون في آخر الزمان ، وذلك أنه قبل المبعث ، كان الناس يستشعرون خروج نبي وحدوث ملة ودين . ويدل على صحة هذا ما روي من أقوال الأحبار أولي الصوامع ، وما روي عن الكهان شق وسطيح وغيرهما ، وما كانت بنو إسرائيل تعتقد من أنه يكون منهم . وقيل : في الملة الآخرة ، أي لم نسمع من أهل الكتاب ولا الكهان أنه يحدث في الملة الآخرة توحيد اللّه . { إِنْ هَاذَا إِلاَّ اخْتِلاَقٌ } : أي افتعال وكذب . {عَلَيْهِ الذّكْرُ مِن بَيْنِنَا بْل } : أنكروا أن يختص بالشرف من بين أشرافهم وينزل عليه الكتاب من بينهم ، وهذا الإنكار هو ناشىء عن حسد عظيم انطوت عليه صدورهم فنطقت به ألسنتهم .{ بْل هُمْ فَى شَكّ مّن ذِكْرِى } : أي من القرآن الذي أنزلت على رسولي يرتابون فيه ، والإخبار بأنهم في شك يقتضي كذبهم في قولهم :{ إِنْ هَاذَا إِلاَّ اخْتِلاَقٌ}{ بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ } : أي بعد ، فإذا ذاقوه عرفوا أن ما جاء به حق وزال عنهم الشك .{ أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبّكَ } : أي ليسوا متصرفين في خزائن الرحمة ، فيعطون ما شاؤوا ، ويمنعون من شاؤوا ما شاؤوا ، ويصطفون للرسالة من أرادوا ، وإنما يملكها ويتصرف فيها { الْعَزِيزُ } : الذي لا يغالب ، { الْوَهَّابُ } : ما شاء لمن شاء . لما استفهم استفهام إنكار في قوله :{ أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبّكَ } ، وكان ذلك دليلاً على انتفاء تصرفهم في خزائن رحمة ربك ، أتى بالإنكار والتوبيخ بانتفاء ما هو أعم فقال :{ أَمْ لَهُم مٌّ لْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ } : أي ليس لهم شيء من ذلك .{ فَلْيَرْتَقُواْ } : أي ألهم شيء من ذلك ، فليصعدوا ، { فِى الاْسْبَابُ } ، الموصولة إلى السماء ، والمعارج التي يتوصل بها إلى تدبير العالم ، فيضعون الرسالة فيمن اختاروا . ثم صغرهم وحقرهم ، فأخبر بما يؤول إليه أمرهم من الهزيمة والخيبة . قيل : وما زائدة ، ويجوز أن تكون صفة أريد به التعظيم على سبيل الهزء بهم ، أو التحقير ، لأن مال الصفة تستعمل على هذين المعنيين . و { هُنَالِكَ } : ظرف مكان يشار به للبعيد . والظاهر أنه يشار به للمكان الذي تفاوضوا فيه مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، بتلك الكلمات السابقة ، وهو مكة ، فيكون ذلك إخباراً بالغيب عن هزيمتهم بمكة يوم الفتح ، فالمعنى أنهم يصيرون مهزومين بمكة يوم الفتح . وقيل :{ هُنَالِكَ } ، إشارة إلى الإرتقاء في الأسباب ، أي هؤلاء القوم إن راموا ذلك جند مهزوم . وقيل : أشير بهنالك إلى جملة الأصنام وعضدها ، أي هم جند مهزوم في هذه السبيل . وقال مجاهد ، وقتادة : الإشارة إلى يوم بدر ، وكان غيباً ، أعلم اللّه به على لسان رسوله . وقيل : الإشارة إلى حصر عام الخندق بالمدينة . وقال الزمخشري : وهنالك ، إشارة إلى حيث وضعوا فيه أنفسهم من الانتداب لمثل ذلك القول العظيم من قولهم : لمن يندبه لأمر ليس من أهله ، لست هنالك . انتهى . و { هُنَالِكَ } ، يحتمل أن يكون في موضع الصفة لجند ، أي كائن هنالك ؛ ويحتمل أن يكون متعلقاً بمهزوم ، وجند خبر مبتدأ محذوف ، أي هم جند ، ومهزوم خبره . وقال أبو البقاء : جند مبتدأ ، وما زائدة ، وهنالك نعت ، ومهزوم الخبر . انتهى . وفيه بعد لفصله عن الكلام الذي قبله . ومعنى { مّن الاْحَزَابِ } : من جملة الأحزاب الذين تعصبوا في الباطل وكذبوا الرسل . ولما ذكر تعالى أنه أهلك قبل قريش قروناً كثيرة لما كذبوا رسلهم ، سرد منهم هنا من له تعلق بعرفانه . و { ذُو الاْوْتَادِ } : أي صاحب الأوتاد ، وأصله من ثبات البيت المطنب بأوتاده . قال الأفوه العوذي : والبيت لا يبتنى إلا على عمد ولا عماد إذا لم ترس أوتاد فاستعير لثبات العز والملك واستقامة الأمر ، كما قال الأسود : في ظل ملك ثابت الأوتاد قاله الزمخشري ، وأخذه من كلام غيره . وقال ابن عباس ، وقتادة ، وعطاء : كانت له أوتاد وخشب يلعب بها وعليها . وقال السدي : كان يقتل الناس بالأوتاد ، ويسمرهم في الأرض بها . وقال الضحاك : أراد المباني العظيمة الثابتة . وقيل : عبارة عن كثرة أخبيته وعظم عساكره . وقيل : كان يشج المعذب بين أربع سواري ، كل طرف من أطرافه إلى سارية مضروبة فيها وتد من حديث ، ويتركه حتى يموت . روي معناه عن الحسن ومجاهد ، وقيل : كان يمده بين أربعة أوتاد في الأرض ، ويرسل عليه العقارب والحيات . وقيل : يشدهم بأربعة أوتاد ، ثم يرفع صخرة فتلقى عليه فتشدخه . وقال ابن مسعود ، وابن عباس ، في رواية عطية : الأوتاد : الجنود ، يشدون ملكه ، كما يقوي الوتد الشيء . وقيل : بنى مناراً يذبح عليها الناس ، قاله ابن جبير . { أُوْلَئِكَ الاْحْزَابُ } : أي الذين تحزبوا على أنبيائهم ، كما تحزب قريش على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. والظاهر أن الإشارة بأولئك إلى أقرب مذكور ، وهم قوم نوح ومن عطف عليهم ؛ وفيه تفخيم لشأنهم وإعلاء لهم على من تحزب على رسول اللّه ، أي هؤلاء العظماء لما كذبوا عوقبوا ، وكذلك أنتم . ١٤{إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرٌّ سُلَ فَحَقَّ عِقَابِ } : فوجب عقابهم . كذبت قوم نوح ، آذوا نوحاً فأغرقوا ؛ وقوم هود فأهلكوا بالريح ؛ وفرعون فأغرق ؛ وثمود بالصيحة ؛ وقوم لوط بالخسف ؛ والأيكة بعذاب الظلة . ومعنى { إِن كُلٌّ } : ما كان من قوم نوح فمن بعدهم ، { فَحَقَّ عِقَابِ } : أي وجب عقابهم ، فكذلك يحق عليكم أيها المكذبون بالرسول . قال الزمخشري :{ أُوْلَئِكَ الاْحْزَابُ } ، قصد بهذه الإشارة الإعلام بأن الأحزاب الذين جعل الجند المهزوم هم هم ، وأنهم الذين وجد منهم التكذيب ، ولقد ذكرت تكذيبهم أولاً في الجملة الخبرية على وجه الإبهام ، ثم جاء بالجملة الاستثنائية ، فأوضحه فيها بأن كل واحد من الأحزاب كذب الرسل ، لأنهم إذا كذبوا واحداً منهم ، فقد كذبوا جميعاً ، وفي تكرير التكذيب وإيضاحه بعد إبهامه ، والتنويع في تكريره بالجملة الخبرية أولاً ، وبالاستثناء ثانياً ، وما في الاستثنائية من الوضع على وجه التوكيد والتخصيص أنواع من المبالغة المسجلة عليهم باستحقاق أشدّ العذاب وأبلغه . ثم قال :{ فَحَقَّ عِقَابِ } : أي فوجب لذلك أن أعاقبهم حق عقابهم . انتهى . ١٥انظر تسفير الآية:٢٠ ١٦انظر تسفير الآية:٢٠ ١انظر تسفير الآية:٢٠ ١٨انظر تسفير الآية:٢٠ ١٩انظر تسفير الآية:٢٠ ٢٠وما ينظر هؤلاء . . . . . الفواق ، بضم الفاء وفتحها : الزمان الذي ما بين حلبتي الحالب ورضعتي الراضع ، وفي الحديث : { العبادة قدر فواق الناقة} . وأفاقت الناقة إفاقة : اجتمعت الفيقة في ضرعها فهي مفيق ومفيقة ، عن أبي عمرو . والفيقة : اللبن الذي يجتمع بين الحلبتين ، ويجمع على أفواق ، وأفاويق جمع الجمع . وقال أبو عبيدة والفراء ومؤرج : الفواق ، بالفتح : الإفاقة والاستراحة . القط ، قال الفراء : الحظ والنصيب ، ومنه قيل للصك : القط ، وقال أبو عبيدة والكسائي : القط : الكتاب بالجوائز ، وقال الأعشى : ولا الملك النعمان يوم لقيته بغبطته يعطي القطوط ويأفق ويروى بأمته : أي بنعمته ، ويأفق : يصلح ، وهو في الكتاب أكثر استعمالاً . قال أمية بن أبي الصلت : قوم لهم ساحة أرض العراق وما يجبى إليهم بها والقط والعلم ويجمع أيضاً على قططة ، وفي القليل قط وأقطاط . تسور الحائط والسور وتسنمه والبعير : علا أعلاه . والسور : حائط المدينة ، وهو غير مهمور . الشطط : مجاوزة الحد وتخطي الحق . وقال أبو عبيدة : شططت على فلان وأشططت : جرت في الحكم . التسع : رتبة من العدد معروفة ، وكسر التاء أشهر من الفتح . النعجة : الأنثى من بقر الوحش ومن الضأن ، ويكنى بها عن المرأة . قال الشاعر : هما نعجتان من نعاج تبالة لذي جؤذرين أو كبعض لدى هكر وقال ابن عون : أنا أبوهن ثلاث هنه رابعة في البيت صغراً هنه ونعجتي خمساً توفيهنه إلا فتى سجح يغذيهنه عزة : غلبه ، يعزه عزاً ؛ وفي المثل : من عز برأي من غلب سلب . وقال الشاعر : قطاة عزها شرك فباتت تجاذبه وقد علق الجناح الصافن من الخيل : الذي يرفع إحدى يديه ويقف على طرف سنبكه ، وقد يفعل ذلك برجله ، وهي علامة الفراهة ، وأنشد الزجاج : ألف الصفون فما يزال كأنه مما يقوم على الثلاث كسيرا وقال أبو عبيدة : الصافن : الذي يجمع يديه ويسويهما ، وأما الذي يقف على طرف السنبك فهو المتخيم . وقال القتبي : الصافن : الواقف في الخيل وغيرها . وفي الحديث : { من سره أن يقوم الناس له صفوناً فليتبوأ مقعده من النار } ، أي يديمون له القيام ، حكاه قطرب . وأنشد النابغة : لناقبة مضروبة بفنائها عتاق المهارى والجياد الصوافن وقال الفراء : على هذا رأيت العرب وأشعارهم تدل على أنه القيام خاصة . جاد الفرس : صار رابضاً ، يجود جودة بالضم ، فهو جواد للذكر والأنثى من خيل جياد وأجواد وأجاويد . وقيل : الطوال الأعناق من الجيد ، وهو العنق ، إذ هي من صفات فراهتها . وقيل : الجياد جمع جود ، كثوب وثياب . الرخاء : اللينة ، مشتقة من الرخاوة . {وَمَا يَنظُرُ هَؤُلآء إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ اصْبِر عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودُ ذَا الاْيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ إِنَّا سَخَّرْنَا الجِبَالَ مَعَهُ يُسَبّحْنَ بِالْعَشِىّ وَالإشْرَاقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَءاتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ وَهَلْ أَتَاكَ نَبَؤُا الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُواْ الْمِحْرَابَ إِذْ دَخَلُواْ عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُواْ لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقّ وَلاَ تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصّراطِ} {وَمَا يَنظُرُ } : أي ينظر ، { هَؤُلاء } : إشارة إلى كفار قريش ، والإشارة بهؤلاء مقوية أن الإشارة باؤلئك هي للذين يلونها من قوم نوح وما عطف عليه . وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون إشارة إلى جميع الأحزاب لاستحضارهم بالذكر ، أو لأنهم كالحضور عند اللّه . انتهى . وفيه بعد ، وهو إخبار منه تعالى صدقه الوجود . والصيحة : ما نالهم من قتل وأسر وغلبة ، كما تقول ؛ صاح فيهم الدهر . وقال قتادة : توعدهم بصيحة القيامة والنفخ في الصور . وقيل : بصيحة يملكون بها في الدنيا . فالقول الأول فيه الانتظار من الرسول لشيء معين فيهم ، وعلى هذين القولين بمدرج عقوبة ، وتحت أمر خطر ما ينتظرون فيه إلا الهلكة . وقرأ الجمهور :{ مِن فَوَاقٍ } ، بفتح الفاء ؛ والسلمي ، وابن وثاب ، والأعمش ، وحمزة ، والكسائي ، وطلحة : بضمها ، فقيل : هما بمعنى واحد ، كقصاص الشعر . وقال ابن زيد ، والسدي : بالفتح ، إفاقة من أفاق واستراح ، كجواب من أجاب . قال ابن عباس :{ مِن فَوَاقٍ } : من ترداد . وقال مجاهد : من رجوع . {عَجّل لَّنَا قِطَّنَا } : نصيبنا من العذاب . وقال أبو العالية والكلبي : صحفنا بإيماننا . وقال السدي : المعنى : أرنا منازلنا من الجنة حتى نتابعك ، وعلى كل قول ، فإنما قالوا ذلك على سبيل الاستخفاف والاستهزاء . ومعنى { قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ } : أي الذين يزعمون أنه واقع في العالم ، إذ هم كفرة لا يؤمنون بالبعث . ولما كانت مقالتهم تقتضي الاستخفاف ، أمر تعالى نبيه بالصبر على أذاهم ، وذكر قصصاً للأنبياء : داود وسليمان وأبوب وغيرهم ، وما عرض لهم ، فصبروا حتى فرج اللّه عنهم ، وصارت عاقبتهم أحسن عاقبة . فكذلك أنت تصبر ، ويؤول أمرك إلى أحسن مآل ، وتبلغ ما تريد من إقامة دينك وإماتة الضلال . وقيل : { اصْبِر عَلَى مَا يَقُولُونَ } ، وعظم أمر مخالفتهم للّه في أعينهم ، وذكرهم بقصة داود وما عرض له ، وهو قد أوتي النبوة والملك ، فما الظن بكم مع كفركم وعصيانكم ؟ انتهى . وهو ملتقط من كلام الزمخشري مع تغيير بعض ألفاظه لا تناسب منصب النبة . وقيل : أمر بالصبر ، فذكر قصص الأنبياء ليكون برهاناً على صحة نبوته . وقيل :{ اصْبِر عَلَى مَا يَقُولُونَ } ، وحافظ على ما كلفت به من مصابرتهم ، وتحمل أذاهم ، واذكر داود وكرامته على اللّه ، وما عرض له ، ومالقي من عتب اللّه .{ ذَا الاْيْدِ } : أي ذا القوة في الدين والشرع والصدع بأمر اللّه والطاعة للّه ، وكان من ذلك قوياً في بدنه . والآوّاب : الرجّاع إلى طاعة اللّه ، قاله مجاهد وابن زيد . وقال السدي : المسبح . ووصفه بأنه أوأب يد على أن ذا الأيد معناه : القوة في الدين . ويقال : رجل أيد وأيد وذو أد وأياد : كل بمعنى ما يتقوى . و { الإشراق } : وقت الإشراق . قال ثعلب : شرقت الشمس ، إذا طلعت ؛ وأشرقت : إذا أضاءت وصفت . وفي الحديث ، أنه عليه السلام ، صلى صلاة الضحى وقال : { يا أم هانىء ، هذه صلاة الإشراق ، وفي هذين الوقتين كانت صلاة بني إسرائيل} . وتقدّم كل الكلام في تسبيح الجبال في قصة داود في سورة الأنبياء ، وأتى بالمضارع باسم الفاعل دلالة على حدوث التسبيح شيئاً بعد شيء ، وحالاً بعد حال ؛ فكأن السامع محاضر تلك الجبال سمعها تسبح . ومثله قول الأعشى : لعمري لقد لاحت عيون كثيرة إلى ضوء نار في بقاع تحرق أي : تحرق شيئاً فشيئاً . ولو قال محرقة ، لم يدل على هذا المعنى . وقرأ الجمهور :{ وَالإشْرَاقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً } ، بنصبهما ، عطفاً على الجبال يسبحن ، عطف مفعول على مفعول ، وحال على حال ، كقولك : ضربت هنداً مجردة ، ودعداً لابسة . وقرأ ابن أبي عبلة ، والجحدري : والطير محشورة ، برفعهما ، مبتدأ وخبر ، أو جاء محشورة باسم المفعول ، لأنه لم يرد أنها تحشر شيئاً ، إذ حاشرها هو اللّه تعالى ، فحشرها جملة واحدة أدل على القدرة . والظاهر عود الضمير في له على داود ، أي كل واحد من الجبل والطير لأجل داود ، أي لأجل تسبيحه . سبح لأنها كانت ترجع تسبيحه ، ووضع الأواب موضع المسبح . وقيل : الضمير عائد على اللّه ، أي كل من داود والجبال والطير أواب ، أي مسبح مرجع للتسبيح . وقرأ الجمهور :{ وَشَدَدْنَا } ، مخففاً : أي قوينا ، كقوله :{ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} والحسن ، وابن أبي عبلة : بشد الدال ، وهي عبارة شاملة لما وهبه اللّه تعالى من قوة وجند ونعمة ، فالتخصيص ببعض الأشياء لا يظهر . وقال السدي : بالجنود . قيل : كان يبيت حول محرابه أربعون ألف مسلم يحرسونه ، وهذا بعيد في العادة ؛ وقيل : بهيبة قذفها اللّه له في قلوب قومه . و { الْحِكْمَةَ } هنا : النبوة ، أو الزبور ، أو الفهم في الدين ، أو كل كلام ، ولقن الحق أقوال .{ وَفَصْلَ الْخِطَابِ } ، قال علي والشعبي : إيجاب اليمين على المدعى عليه ، والبينة على المدعي . وقال ابن عباس ، ومجاهد ، والسدي : القضاء بين الناس بالحق وإصابته وفهمه . وقال الشعبي : كلمة أما بعد ، لأنه أول من تكلم بها وفصل بين كلامين . قال الزمخشري : لأنه يفتتح إذا تكلم في الأمر الذي له شأن بذكر اللّه وتحميده ، فإذا أراد أن يخرج إلى الغرض المسوق إليه ، فصل بينه وبين ذكر اللّه بقوله : أما بعد . ويجوز أن يراد بالخطاب : القصد الذي ليس له فيه اختصار مخل ، ولا إشباع ممل ؛ ومنه ما جاء في صفة كلام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فصل لا نذر ولا هذر . انتهى . ولما كان تعالى قد كمل نفس نبيه داود بالحكمة ، أردفه ببيان كمال خلقه في النطق والعبادة فقال : { وَفَصْلَ الْخِطَابِ} ٢١انظر تسفير الآية:٢٢ ٢٢{وَهَلْ أَتَاكَ نَبَؤُا الْخَصْمِ } : لما أنثى تعالى على داود عليه السلام بما أثنى ، ذكر قصته هذه ، ليعلم أن مثل قصته لا يقدح في الثناء عليه والتعظيم لقدره ، وإن تضمنت استغفاره ربه ، وليس في الاستغفار ما يشعر بارتكاب أمر يستغفر منه ، وما زال الاستغفار شعار الأنبياء المشهود لهم بالعصمة . ومجيء مثل هذا الاستفهام إنما يكون لغرابة ما يجيء معه من القصص ، كقوله :{ وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى } ، فيتهيأ المخاطب بهذا الإستفهام لما يأتي بعده ويصغي لذلك . وذكر المفسرون في هذه القصة أشياء لا تناسب مناصب الأنبياء ، ضربنا عن ذكرها صفحاً ، وتكلمنا على ألفاظ الآية . والنبأ : الخبر ، فالخبر أصله مصدر ، فلذلك تصلح للمفرد والمذكر وفروعهما ، وهنا جاء للجمع ، ولذلك قال :{ إِذْ تَسَوَّرُواْ } : إذ دخلوا ، كما قال الشاعر : وخصم يعدون الدخول كأنهم قروم غيارى كل أزهر مصعب والظاهر أنهم كانوا جماعة ، فلذلك أتى بضمير الجمع . فإن كان المتحاكمان اثنين ، فيكون قد جاء معهم غيرهم على جهة المعاضدة أو المؤانسة ، ولا خلاف أنهم كانوا ملائكة ، كذا قال بعضهم . وقيل : كانا أخوين من بني إسرائيل لأب وأم ، والأول أشهر . وقيل : الخصم هنا اثنان ، وتجوز في العبارة فأخبر عنهما أخبار ما زاد على اثنين ، لأن معنى الجمع في التثنية . وقيل : معنى خصمان : فريقان ، فيكون تسوروا ودخلوا عائداً على الخصم الذي هو جمع الفريقين ، ويدل على أن خصمان بمعنى فريقان قراءة من قرأ : بغى بعضهم على بعض . وقال تعالى :{ هَاذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُواْ فِى رَبّهِمْ } ، بمعنى : فأما إن هذا أخي . وما روي أنه بعث إليه ملكان ، فالمعنى : أن التحاكم كان بين اثنين ، ولا يمتنع أن يصحبهما غيرهما . وأطلق على الجميع خصم ، وعلى الفريقين خصمان ، لأن من جاء مع متخاصم لمعاضدة فهو في سورة خصم ، ولا يبعد أن تطلق عليه التسمية ، والعامل في الظرف ، وهو إذ أتاك ، قاله الحوفي ورد بأن إتيان النبأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا يقع إلا في عهده ، لا في عهد داود . وقال ابن عطية ، وأبو البقاء : العامل فيه نبأ ورد بما رد به ما قبله أن النبأ الواقع في عهد داود عليه السلام لا يصح إتيانه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وإذا أردت بالنبأ القصة في نفسها ، لم يكن ناصباً . وقيل : العامل فيه محذوف تقديره : وهل أتاك تخاصم الخصم ؟ قاله الزمخشري . ويجوز أن ينتصب بالخصم ، لما فيه من معنى الفعل . وإذ دخلوا بدل من إذ الأولى ؛ وقيل : ينتصب بتسوروا . وروي أن اللّه تعالى بعث إليه ملكين في صورة إنسانين ، فطلبا أن يدخلا عليه ، فوجداه في يوم عبادته ، فمنعهما ، فتسورا عليه المحراب ، فلم يشعر إلا وهما بين يديه جالسان . قال ابن عباس : جزأ زمانه أربعة أجزاء : يوماً للعبادة ، ويوماً للقضاء ، ويوماً للاشتغال بخواص أموره ، ويوماً لجميع بني إسرائيل ، فيعظهم ويبكيهم . فجاءوه في غير القضاء ، ففزع منهم لأنهم نزلوا عليه من فوق ، وفي يوم الاحتجاب ، والحرس حوله لا يتركون من يدخل عليه ، فخاف أن يؤذوه . وقيل : كان ذلك ليلاً ، ويحتمل أن يكون فزعه من أجل أن أهل ملكته قد استهانوه حتى ترك بعضهم الاستئذان ، فينكون فزعه على فساد السيرة ، لا من الداخلين . وقال أبو الأحوص : فزع منهم لأنهما دخلا عليه ، وكل منهما آخذ برأس صاحبه . وقيل : فزع منهم لما رأى من تسورهم على موضع مرتفع جداً لا يمكن أن يرتقي إليه بعد أشهر مع أعوان وكثرة عدد . وقيل : إنهما قالا : لم نتوصل إليك إلا بالتسور لمنع الحجاب ، وخفنا تفاقم الأمر بيننا ، فقبل داود عذرهم . ولما أدركوا منه الفزع قالوا :{ لاَ تَخَفْ } ،أي لسنا ممن جاء إلا لأجل التحاكم .{ خَصْمَانِ } : يحتمل أن يكون هذا موصولاً بقولهما :{ لاَ تَخَفْ } ، بادر بإخبار ما جاءا إليه . ويحتمل أن يكون سألهم : ما أمركم ؟ فقالوا : خصمان ، أي نحن خصمان .{ بَغَى } : أي جار ، { بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ } ، كما قال الشاعر : ولكن الفتى حمل بن بدر بغى والبغي مرتعه وخيم وقرأ أبو يزيد الجراد ، عن الكسائي : خصمان ، بكسر الخاء ؛ وفي أمرهم له ونهيهم ببعض فظاظة على الحكام ، حمل على ذلك ما هم فيه من التخاصم والتشاجر ، واستدعوا عدله من غير ارتياب في أنه يحكم بالعدل . وقرأ الجمهور :{ وَلاَ تُشْطِطْ } ، مفكوكاً من أشط رباعياً ؛ وأبو رجاء ، وابن أبي عبلة ، وقتادة ، والحسن ، وأبو حيوة : تشطط ، من شط ثلاثياً . وقرأ قتادة أيضاً : تشط ، مدغماً من أشط . وقرأ زر : تشاطط ، بضم التاء وبالألف على وزن تفاعل ، مفكوكاً . وعن قتادة أيضاً : تشطط من شطط ، { وَسَوَآء الصّراطِ } : وسط طريق الحق ، لا ميل فيه من هنا ولا هنا . ٢٣{إِنَّ هَذَا أَخِى } : هو قول المدعي منهما ، وأخي عطف بيان عند ابن عطية ، وبدل أو خبر لأن عند الزمخشري . والأخوّة هنا مستعارة ، إذ هما ملكان ، لكنهما لما ظهرا في صورة انسانين تكلما بالأخوّة ، ومجازها أنها إخوة في الدين والإيمان ، أو على معنى الصحبة والمرافقة ، أو على معنى الشركة والخلطة لقوله :{ وَإِنَّ كَثِيراً مّنَ الْخُلَطَاء } ، وكل واحدة من هذه الأخوات تقتضي منع الاعتداء ، ويندب إلى العدل . وقرأ الجمهور :{ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ } ، بكسر التاء فيهما . وقرأ الحسن ، وزيد بن علي : بفتحها . وقرأ الجمهور :{ نَعْجَةً } ، بفتح النون ؛ والحسن ، وابن هرمز : بكسر النون ، وهي لغة لبعض بني تميم . قيل : وكنى بالنعجة عن الزوجة .{ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا } : أي ردها في كفالتي . وقال ابن كيسان : اجعلها كفلي ، أي نصيبي . وقال ابن عباس : أعطنيها ؛ وعنه ، وعن ابن مسعود : تحول لي عنها ؛ وعن أبي العالية : ضمها إلي حتى أكفلها .{ وَعَزَّنِى فِى الْخِطَابِ } ، قال الضحاك : إن تكلم كان أفصح مني ، وإن حارب كان أبطش مني . و قال ابن عطية : كان أوجه مني وأقوى ، فإذا خاطبته كان كلامه أقوى من كلامي ، وقوته أعظم من قوتي . وقال الزمخشري : جاءني محجاج لم أقدر أن أورد عليه ما أرده به . وأراد بالخطاب : مخاطبة المحاج المجادل ، أو أراد خطيب المرأة ، وخطبها هو فخاطبني خطاباً : أي غالبني في الخطبة ، فغلبني حيث زوجها دوني ؛ وقيل : غلبني بسلطانه ، لأنه لما سأله لم يستطع خلافه . قال الحافظ أبو بكر بن العربي : كان ببلادنا أمير يقال له سيري بن أبي بكر ، فكلمته في أن يسأل لي رجلاً حاجة ، فقال لي : أما علمت أن طلب السلطان للحاجة غضب لها ؟ فقلت : أما إذا كان عدلاً فلا . وقرأ أبو حيوة ، وطلحة : وعزني ، بتخفيف الزاي . قال أبو الفتح : حذف الزاي الواحدة تخفيفاً ، كما قال أبو زبيد : أحسن به فهز إليه شوس وروي كذلك عن عاصم . وقرأ عبيد اللّه ، وأبو وائل ، ومسروق ، والضحاك ، والحسن ، وعبيد بن عمير : وعازني ، بألف وتشديد الزاي : أي وغالبني . والظاهر إبقاء لفظ النعجة على حقيقتها من كونها أنثى الضأن ، ولا يكنى بها عن المرأة ، ولا ضرورة تدعو إلى ذلك لأن ذلك الإخبار كان صادراً من الملائكة ، على سبيل التصوير للمسئلة والفرض لها مرة غير تلبس بشيء منها ، فمثلوا بقصة رجل له نعجة ، ولخليطه تسع وتسعون ، فأراد صاحبه تتمة المائة ، فطمع في نعجة خليطة ، وأراد انتزاعها منه ؛ وحاجة في ذلك محاجة حريص على بلوغ مراده ، ويدل على ذلك قوله :{ وَإِنَّ كَثِيراً مّنَ الْخُلَطَاء } ، وهذا التصوير والتمثيل أبلغ في المقصود وأدل على المراد . ٢٤انظر تسفير الآية:٢٥ ٢٥{قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ } : ليس هذا ابتداء من داود ، عليه السلام ، إثر فراغ لفظ المدعي ، ولا فتيا بظاهر كلامه قبل ظهور ما يجب ، فقيل ذلك على تقدير ، أي لئن كان ما تقول ، { لَقَدْ ظَلَمَكَ} وقيل : ثم محذوف ، أي فأقر المدعي عليه فقال :{ لَقَدْ ظَلَمَكَ } ، ولكنه لم يحك في القرآن اعتراف المدّعي عليه ، لأنه معلوم من الشرائع كلها ، إذ لا يحكم الحاكم إلا بعد إجابة المدّعى عليه . فأما ما قاله الحليمي من أنه رأى في المدّعي مخايل الضعف والهضيمة ، فحمل أمره على أنه مظلوم ، كما تقول ، فدعاه ذلك إلى أن لا يسأل المدعى عليه ، فاستعجل بقوله :{ لَقَدْ ظَلَمَكَ } ، فقوله ضعيف لا يعول عليه . وروي أن داود ، عليه السلام ، لما سمع كلام الشاكي قال للآخر : ما تقول ؟ فأقر فقال له : لئن لم ترجع إلى الحق لأكسرن الذي فيه عيناك ، وقال للثاني :{ لَقَدْ ظَلَمَكَ } ؛ فتبسما عند ذلك وذهبا ، ولم يرهما لحينه ، ورأى أنهما ذهبا نحو السماء بمرأى منه . وأضاف المصدر إلى المفعول ، وضمن السؤال معنى الإضافة ، أي بإضافة نعجتك على سبيل السؤال والطلب ، ولذلك عداه بإلى . {وَإِنَّ كَثِيراً مّنَ الْخُلَطَاء لَيَبْغِى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ } : هذا من كلام داود ، ويدل على أن زمانه كان فيه الظلم والاعتداء كثيراً . والخلطاء : الشركاء الذين خلطوا أموالهم ، الواحد خليط . قصد داود بهذا الكلام الموعظة الحسنة ، والترغيب في إيثار عادة الخلطاء الصلحاء الذين حكم لهم بالقلة ، وأن يكره إليهم الظلم ، وأن يسلي المظلوم عن ما جرى عليه من خليطه ، وأن له في أكثر الخلطاء أسوة . وقرىء : ليبغي ، بفتح الياء على تقدير حذف النون الخفيفة ، وأصله : ليبغين ، كما قال : اضرب عنك الهموم طارقها يريد : اضربن ، ويكون على تقدير قسم محذوف ذلك القسم ، وجوابه خير لأن . وعلى قراءة الجمهور ، يكون ليبغي خبراً لأن . وقرىء : ليبغ ، بحذف الياء كقوله : محمد تفد نفسك كل نفس أي : تفدي على أحد القولين . و { قَلِيلٌ } : خبره مقدّم ، وما زائدة تفيد معنى التعظيم والتعجب ، وهم مبتدأ .{ وَظَنَّ دَاوُودُ } : لما كان الظن الغالب يقارب العلم ، استعير له ، ومعناه : وعلم داود وأيقن أنا ابتليناه بمحاكمة الخصمين . وأنكر ابن عطية مجيء الظن بمعنى اليقين . وقال : لسنا نجده في كلام العرب ، وإنما هو توقيف بين معتقدين غلب أحدهما على الآخر ، وتوقعه العرب على العلم الذي ليس على الحواس ودلالة اليقين التام ، ولكن يخلط الناس في هذا ويقولون : ظن بمعنى أيقن ، وطول ابن عطية في ذلك بما يوقف عليه في كتابه . وقرأ الجمهور :{ فَتَنَّاهُ } ؛ وعمر بن الخطاب ، وأبو رجاء ، والحسن : بخلاف عنه ، شد التاء والنون مبالغة ؛ والضحاك : أفتناه ، كقوله : لئن فتنتني لهي بالأمس أفتنت وقتادة ، وأبو عمرو في رواية ؛ يخفف التاء والنون ، والألف ضمير الخصمين .{ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ } ، راكعاً : حال ، والخرور : الهويّ إلى الأرض . فإما أنه عبر بالركوع عن السجود ، وإما أنه ذكر أول أحوال الخرور ، أي راكعاً ليسجد . وقال الحسن : لأنه لا يكون ساجداً حتى يركع . وقال الحسن بن الفضل : أخر من ركوعه ، أي سجد بعد أن كان راكعاً وقال قوم : يقال خر لمن ركع ، وإن لم ينته إلى الأرض . والذي يذهب إليه ما دل عليه ظاهر الآية من أن المتسورين المحراب كانوا من الإنس ، دخلوا عليه من غير المدخل ، وفي غير وقت جلوسه للحكم ، وأنه فزع منهم ظاناً أنهم يغتالونه ، إذا كان منفرداً في محرابه لعبادة ربه . فلما اتضح له أنهم جاءوا في حكومة ، وبرز منهم اثنان للتحاكم ، كما قص اللّه تعالى ، وأن داود عليه السلام ظن دخولهم عليه في ذلك الوقت ومن تلك الجهة إنقاذ من اللّه له أن يغتالوه ، فلم يقع ما كان طنه ، فاستغفر من ذلك الظن ، حيث أخلف ولم يكن يقع مظنونه ، وخر ساجداً ، أو رجع إلى اللّه تعالى فغفر له ذلك الظن ؛ ولذلك أشار بقوله :{ فَغَفَرْنَا لَهُ ذالِكَ } ، ولم يتقدّم سوى قوله : { وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ } ، ويعلم قطعاً أن الأنبياء ، عليهم السلام ، معصومون من الخطايا ، لا يمكن وقوعهم في شيء منها ضرورة أن لو جوزنا عليهم شيئاً من ذلك ، بطلت الشرائع ، ولم نثق بشيء مما يذكرون أنه أوحى اللّه به إليهم ، فما حكى اللّه تعالى في كتابه يمر على ما أراده تعالى ، وما حكى القصاص مما فيه غض عن منصب النبوة طرحناه ، ونحن كما قال الشاعر : ونؤثر حكم العقل في كل شبهة إذا آثر الآخبار جلاس قصاص ٢٦انظر تسفير الآية:٣٣ ٢٧انظر تسفير الآية:٣٣ ٢٨انظر تسفير الآية:٣٣ ٢٩انظر تسفير الآية:٣٣ ٣٠انظر تسفير الآية:٣٣ ٣١انظر تسفير الآية:٣٣ ٣٢انظر تسفير الآية:٣٣ ٣٣{مَئَابٍ يادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِى الاْرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللّه إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ} جعله تعالى داود خليفة في الأرض يدل على مكانته ، عليه السلام ، عنده واصطفائه ، ويدفع في صدر من نسب إليه شيئاً مما لا يليق بمنصب النبوّة . واحتمل لفظ خليفة أن يكون معناه : تخلف من تقدمك من الأنبياء ، أن يعلي قدرك بجعلك ملكاً نافذ الحكم ، ومنه قيل : خلفاء اللّه في أرضه . واستدل من هذه الآية على احتياج الأرض إلى خليفة من اللّه ، ولا يلزم ذلك من الآية ، بل لزومه من جهة الشرع والإجماع . قال ابن عطية : ولا يقال خليفة اللّه إلا لرسول . وأما الخلفاء ، فكل واحد منهم خليفة الذي قبله ، وما يجيء في الشعر من تسمية أحدهم خليفة اللّه فذلك تجوز ، كما قال قيس الرقيات : خليفة اللّه في بريته حقت بذاك الأقلام والكتب وقالت الصحابة لأبي بكر : خليفة رسول اللّه ، وبذلك كان يدعى مدته . فلما ولي عمر قالوا : خليفة خليفة رسول اللّه ، وطال الأمر وزاد أنه في المستقبل ، فدعوه أمير المؤمنين ، وقصر هذا الاسم على الخلفاء . انتهى .{ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقّ } : أمر بالديمومة ، وتنبيه لغيره ممن ولي أمور الناس . فمن حيث هو معصوم لا يحكم إلا بالحق ، أمر أولاً بالحكم ؛ ولما كان الهوى قد يعرض لغير المعصوم ، أمر باجتنابه ، وذكر نتيجة اتباعه ، وهو إضلاله عن سبيل اللّه . و { فَيُضِلَّكَ } : جواب للنهي ، والفاعل في فيضلك ضمير { الْهَوَى } ،أو ضمير المصدر المفهوم من { وَلاَ تَتَّبِعِ } ،أي فيضلك اتباع الهوى . ولما ذكر ما ترتب على اتباع الهوى ، وهو الإضلال عن سبيل اللّه ، ذكر عقاب الضال . وقرأ الجمهور :{ يُضِلُّونَ } ، بفتح الياء ، لأنهم لما أضلهم اتباع الهوى صاروا ضالين . وقرأ ابن عباس ، والحسن : بخلاف عنهما ؛ وأبو حيوة : بضم الياء ، وهذه القراءة أعم ، لأنه لا يضل الإضال في نفسه ؛ وقراءة الجمهور أوضح . و { بِمَا نَسُواْ } : متعلق بما تعلق به لهم ، ونسوا : تركوا ، و { يَوْمٍ } : يجوز أن يكون منصوب بنسوا ، أو بما تعلق به لهم ، ويكون النسيان عبارة عن ضلالهم عن سبيل اللّه . وانتصب { بَاطِلاً } على أنه نعت لمصدر محذوف ، أي خلق باطلاً ، أو على الحال ، أي مبطلين ، أو ذوي باطل ، أو على أنه مفعول من أجله . معنى باطلاً : عبثاً . {ذالِكَ } : أي كون خلقها باطلاً ، { ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ } : أي مظنونهم ، وهؤلاء ، وإن كانوا مقرين بأن خالق السموات والأرض هو اللّه تعالى ، فهم من حيث أنكروا المعاد والثواب والعقاب ظانون أن خلق ذلك ليس بحكمة ، وأن خلق ذلك إنما هو عبث ؛ ولذلك قال تعالى :{ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ} فنبه على المعاد والرجوع إلى جزائه ، ثم ذكر ما بين المؤمن ، عامل الصالحات ، والمفسد من التباين ، وأنهما ليساسيين ، وقابل الصلاح بالفساد ، والتقوى بالفجور . قال ابن عباس : هي عامة في جميع المسلمين والكافرين . وقيل في قوم من مشركي قريش قالوا : نحن لنا في الآخرة أعظم مما لنا في الدنيا ، فأنزل اللّه هذه الآية . وقيل في جماعة من المؤمنين والكافرين معينين بارزوا يوم بدر علياً وحمزة وعبيدة بن الحرث ، رضي اللّه عنهم ، وعتبة وشيبة والوليد بن عتبة ؛ ووصف كلاً ناسبه . والاستفهام بأم في الموضعين استفهام إنكار ، والمعنى : أنه لا يستوي عند اللّه من أصلح ومن أفسد ، ولا من اتقى ومن فجر ، وكيف تكون التسوية بين من أطاع ومن عصي ؟ إذن كان يبطل الجزاء ، والجزاء لا محالة واقع ، والتسوية منتفية . ولما انتفت التسوية ، بين ما تصلح به لمتبعه السعادة الأبدية ، وهو كتاب اللّه تعالى ، فقال :{ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ } ، وارتفاعه على إضمار متبدأ ، أي هذا كتاب . وقرأ الجمهور :{ مُّبَارَكٌ } ، على الصفة . وقرىء : مبارك ، على الحال اللازمة ، أي هذا كتاب . وقرأ الجمهور :{ لّيَدَّبَّرُواْ ءايَاتِهِ } ، بياء الغيبة وشد الدال ، وأصله ليتدبروا . وقرأ عليّ بهذا الأصل . وقرأ أبو جعفر : بتاء الخطاب وتخفيف الدال ؛ وجاء كذلك عن عاصم والكسائي بخلاف عنهما ، والأصل : لتتدبروا بتاءين ، فحذفت إحداهما على الخلاف الذي فيها ، أهي تاء المضارعة أم التاء التي تليها ؟ واللام في ليدبروا لام كي ، وأسند التدبر في الجميع ، وهو التفكر في الآيات ، والتأمل الذي يفضي بصاحبه إلى النظر في عواقب الأشياء . وأسند التذكر إلى أولي العقول ، لأن ذا العقل فيه ما يهديه إلى الحق وهو عقله ، فلا يحتاج إلا إلى ما يذكره فيتذكروا ، والمخصوص بالمدح محذوف ، التقدير :{ نِعْمَ الْعَبْدُ } هو ، أي سليمان . وقرىء : نعم على الأصل ، كما قال : نعم الساعون في القوم الشطر أثنى تعالى عليه لكثرة رجوعه إليه ، أو لكثرة تسبيحه .{ إِذْ عُرِضَ } ، الناصب لإذ ، قيل :{ أَوَّابٌ } ، وقيل : اذكر على الاختلاف في تأويل هذه الآية . قال الجمهور : عرضت عليه آلاف من الخيل تركها أبوه له ، وقيل : ألف واحد ، فأجريت بين يديه عشياً ، فتشاغل بحسنها وجريها ومحبتها عن ذكر له ، فقال : ردوها عليّ . فطفق يضرب أعناقها وعراقيبها بالسيف لما كانت سبب الذهول عن ذلك الذكر ، فأبد له اللّه أسرع منها الريح . وقال قوم ، منهم الثعلبي : كانت بالناس مجاعة ، ولحوم الخيل لهم حلال ، فعقرها لتؤكل على سبيل القربة ، ونحر الهدى عندنا . انتهى . وفي هذه القصة ألفاظ فيها غض من منصب النبوّة كفينا عنه . والخير في قوله { حُبَّ الْخَيْرِ } : أي هذا القول يراد به الخيل . والعرب تسمي الخيل الخير ، قاله قتادة والسدي : وقال الضحاك ، وابن جبير : الخير هنا المال ، وانتصب حب الخير ، قيل : على المفعول به لتضمن أحببت معنى آثرت ، قاله الفرّاء . وقيل : منصوب على المصدر التشبيهي ، أي أحببت الخيل كحب الخير ، أي حباً مثل حب الخير . وقيل : عدى بعن فضمن معنى فعل يتعدى بها ، أي أنبت حب الخير عن ذكر ربي ، أو جعلت حب الخير مغني عن ذكر ربي . وذكر أبو الفتح الهمداني في كتاب التبيان أن أحببت بمعنى : لزمت ، من قوله : مثل بعير السوء إذ أحبا وقالت فرقة :{ أَحْبَبْتُ } : سقطت إلى الأرض ، مأخوذ من أحب البعير إذا أعي وسقط . قال بعضهم : حب البعير : برك ، وفلان : طأطأ رأسه . وقال أبو زيد : بعير محب ، وقد أحب إحباباً ، إذا أصابه مرض أو كسر ، فلا يبرح مكانه حتى يبرأ أو يموت . قال ثعلب : يقال للبعير الحسير محب ، فالمعنى : قعدت عن ذكر ربي . وحب الخير على هذا مفعول من أجله ، والظاهر أن الضمير في { تَوَارَتْ } عائد على { الصَّافِنَاتُ } ،أي دخلت اصطبلاتها ، فهي الحجاب . وقيل : حتى توارت في المسابقة بما يحجبها عن النظر . وقيل : الضمير للشمس ، وإن لم يجر لها ذكر لدلالة العشي عليها . وقالت طائفة : عرض على سليمان الخيل وهو في الصلاة ، فأشار إليهم أني في صلاتي ، فأزالوها عنه حتى دخلت في الاصطبلات ؛ فقال هو لما فرغ من صلاته :{ إِنّى أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ } ،أي الذي عند اللّه في الآخرة بسبب ذكر ربي ، كأنه يقول : فشغلني ذلك عن رؤية الخيل حتى أدخلت اصطبلاتها ، ردوها عليّ فطفق يمسح أعرافها وسوقها محبة لها . وقال ابن عباس والزهري : مسحه بالسوق والأعناق لم يكن بالسيف بل بيدية تكريماً لها ومحبة ، ورجحه الطبري . وقيل : بل غسلاً بالماء . وقال الثعلبي : إن هذا المسح كان في السوق والأعناق بوسم حبس في سبيل اللّه . انتهى . وهذا القول هو الذي يناسب مناصب الأنبياء ، لا القول المنسوب للجمهور ، فإن في قصته ما لا يليق ذكره بالنسبة للأنبياء . و { حَتَّى تَوَارَتْ } : غاية ، فالفعل يكون قبلها متطاولاً حتى تصح الغاية ، فأحببت : معناه أردت المحبة . وقال الزمخشري : فإن قلت : بم اتصل قوله :{ رُدُّوهَا عَلَىَّ } ؟ قلت : بمحذوف تقديره : قال ردوها عليّ ، فأضمروا ضمير ما هو جواب له ، كأن قائلاً قال : فماذا قال سليمان ؟ لأنه موضع مقتض للسؤال اقتضاء ظاهراً . ثم ذكر الزمخشري لفظاً فيه غض من النبوة فتركته . وما ذهب إليه من هذا الإضمار لا يحتاج إليه ، إذ الجملة مندرجة تحت حكاية القول وهو :{ فَقَالَ إِنّى أَحْبَبْتُ} فهذه الجملة وجملة { رُدُّوهَا عَلَىَّ } محكيتان بقال ، وطفق من أفعال المقاربة للشروع في الفعل ، وحذف غيرها لدلالة المصدر عليه ، أي فطفق يمسح مسحاً . وقرأ الجمهور :{ مَسْحاً } : وزيد بن علي : مساحاً ، على وزن قتال ، والباء { فِى بِالسُّوقِ } زائدة ، كهي في قوله :{ فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} وحكى سيبويه : مسحت برأسه ورأسه بمعنى واحد ، وتقدم الكلام على ذلك في المائدة . وقرأ الجمهور : بالسوق ، بغير همز على وزن فعل ، وهو جمع ساق ، على وزن فعل بفتح العين ، كأسد وأسد ؛ وابن كثير بالهمز ، قال أبو علي : وهي ضعيفة ، لكن وجهها في القياس أن الضمة لما كانت تلي الواو وقدر أنها عليها فهمزت ، كما يفعلون بالواو المضمومة . ووجه همز السوق من السماع أن أبا حبة النميري كان يهمز كل واو ساكنة قبلها ضمة ، وكان ينشد : حب المؤقدين إلى مؤسى انتهى . وليست ضعيفة ، لأن الساق فيه الهمزة ، ووزن فعل بسكون العين ، فجاءت هذه القراءة على هذه اللغة . وقرأ ابن محيصن : بهمزة بعدها الواو ، رواهما بكار عن قنبل . وقرأ زيد بن علي : بالساق مفرداً ، اكتفى به عن الجمع لأمن اللبس . ومن غريب القول أن الضمير في ردوها عائد على الشمس ، وقد اختلفوا في عدد هذه الخيل على أقوال متكاذبة ، سودوا الورق بذكرها . ٣٤{وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيّهِ جَسَداً } : نقل المفسرون في هذه الفتنة وإلقاء الجسد أقوالاً يجب براءة الأنبياء منها ، يوقف عليها في كتبهم ، وهي مما لا يحل نقلها ، وأما هي من أوضاع اليهود والزنادقة ، ولم يبين اللّه الفتنة ما هي ، ولا الجسد الذي ألقاه على كرسي سليمان . وأقرب ما قيل فيه : أن المراد بالفتنة كونه لم يستثن في الحديث الذي قال : { لأطوفنّ الليلة على سبعين امرأة ، كل واحدة تأتي بفارس يجاهد في سبيل اللّه ، ولم يقل إن شاء اللّه ، فطاف عليهن ، فلم تحمل إلا امرأة واحدة ، وجاءته بشق رجل} . قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : { والذي نفسي بيده ، لو قال إن شاء اللّه لجاهدوا في سبيل اللّه فرساناً أجمعون} . فالمراد بقوله :{ وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيّهِ جَسَداً } هو هذا ، والجسد الملقى هو المولود شق رجل . وقال قوم : مرض سليمان مرضاً كالإغماء حتى صار على كرسيه جسداً كأنه بلا روح . ولما أمر تعالى نبيه عليه السلام بالصبر على ما يقول كفار قريش وغيرهم ، أمره بأن يذكر من ابتلي فصبر ، فذكر قصة داود وقصة سليمان وقصة أيوب ليتأسى بهم ، وذكر ما لهم عنده من الزلفى والمكانة ، فلم يكن ليذكر من يتأسى به ممن نسب المفسرون إليه ما يعظم أن يتفوه به ويستحيل عقلاً وجود بعض ما ذكروه ، كتمثل الشيطان بصورة نبي ، حتى يلتبس أمره عند الناس ، ويعتقدون أن ذلك المتصور هو النبي ، ولو أمكن وجود هذا ، لم يوثق بإرسال نبي ، وإنما هذه مقالة مسترقة من زنادقة السوفسطائية ، نسأل اللّه سلامة أذهاننا وعقولنا منها .{ ثُمَّ أَنَابَ } : أي بعد امتحاننا إياه ، أدام الإنابة والرجوع . ٣٥انظر تسفير الآية:٤٠ ٣٦انظر تسفير الآية:٤٠ ٣٧انظر تسفير الآية:٤٠ ٣٨انظر تسفير الآية:٤٠ ٣٩انظر تسفير الآية:٤٠ ٤٠{قَالَ رَبّ اغْفِرْ لِى } : هذا أدب الأنبياء والصالحين من طلب المغفرة من اللّه هضماً للنفس وإظهاراً للذلة والخشوع وطلباً للترقي في المقامات ، وفي الحديث : { إني لأستغفر اللّه في اليوم والليلة سبعين مرة } ، والاستغفار مقدمة بين يدي ما يطلب المستغفر بطلب الأهم في دينه ، فيترتب عليه أمر دنياه ، كقول نوح في ما حكى اللّه عنه : { فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً } الآية . والظاهر أن طلب الملك كان بعد هذه المحنة . وذكر المفسرون أنه أقام في ملكه عشرين سنة قبل هذا الابتلاء ، وأقام بعدها عشرين سنة ، فيمكن أنه كان في ملك قبل المحنة ، ثم سأل بعدها ملكاً مقيداً بالوصف الذي بعده ، وهو كونه لا ينبغي لأحد من بعده ، واختلفوا في هذا القيد ، فقال عطاء بن أبي رباح وقتادة : إلى مدة حياتي ، لا أسلبه ويصير إلى غيري . و قال ابن عطية : إنما قصد بذلك قصداً جائزاً ، لأن للإنسان أن يرغب من فضل اللّه فيما لا يناله أحد ، لا سيما بحسب المكانة والنبوة . وانظر إلى قوله :{ لاَّ يَنبَغِى } ، إنما هي لفظة محتملة ليست تقطع في أنه لا يعطي اللّه نحو ذلك الملك لأحد . انتهى . وقال الزمخشري : كان سليمان عليه السلام ناشئاً في بيت الملك والنبوة ووارثاً لهما ؛ فأراد أن يطلب من ربه معجزة ، فطلب على حسب إلفه ملكاً زائداً على الممالك زيادة خارقة للعادة بالغة حد الإعجاز ، ليكون ذلك دليلاً على نبوته ، قاهراً للمبعوث إليهم ، ولن يكون معجزة حتى تخرق العادات ، فذلك معنى قوله :{ لاَّ يَنبَغِى لاِحَدٍ مّن بَعْدِى} وقيل : كان ملكاً عظيماً ، فخاف أن يعطي مثله أحد ، فلا يحافظ على حدود اللّه فيه ، كما قالت الملائكة :{ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ} وقيل : ملكاً لا أسلبه ، ولا يقوم فيه غيري مقامي . ويجوز أن يقال : علم اللّه فيما اختصه به من ذلك الملك العظيم مصالح في الدين ، وعلم أنه لا يطلع بأحبابه غيره ، وأوجبت الحكمة استيهابه ، فأمره أن يستوهبه بأمر من اللّه على الصفة التي علم اللّه أن لا يضبطه عليها إلا هو وحده دون سائر عباده . أو أراد أن يقول : ملكاً عظيماً ، فقال :{ لاَّ يَنبَغِى لاِحَدٍ مّن بَعْدِى } ، ولم يقصد بذلك إلا عظمة الملك وسعته ، كما تقول لفلان : ما ليس لأحد من الفضل والمال ، وربما كان للناس أمثال ذلك ، ولكنك تريد تعظيم ما عنده . انتهى . ولما بالغ في صفة هذا الملك الذي طلبه ، أتى في صفته تعالى باللفظ الدال على المبالغة فقال :{ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ } : أي الكثير الهبات ، لا يتعاظم عنده هبة . ولما طلب الهبة التي اختص بطلبها ، وهبه وأعطاه ما ذكر تعالى من قوله :{ فَسَخَّرْنَا لَهُ الرّيحَ} وقرأ الجمهور : بالإفراد ؛ والحسن ، وأبو رجاء وقتادة ، وأبو جعفر : الرياح بالجمع ، وهو أعم لعظم ملك سليمان ، وإن كان المفرد بمعنى الجمع لكونه اسم جنس . { تَجْرِى } : يحتمل أن تكون جملة حالية ، أي جارية ، وأن تكون تفسيرية لقوله :{ فَسَخَّرْنَا لَهُ الرّيحَ}{ بِأَمْرِهِ } ؛ أي لا يمتنع عليه إذا أراد جريها .{ رُخَاء } ، قال ابن عباس والحسن والضحاك : مطيعة . وقال مجاهد : طيبة .{ حَيْثُ أَصَابَ } : أي حيث قصد وأراد ، حكى الزجاج عن العرب . أصاب الصواب فأخطأ الجواب : أي قصد . وعن رؤية أن رجلين من أهل اللغة قصداه ليسألاه عن هذه الكلمة ، فخرج إليهما فقال : أين تصيبان ؟ فقال : هذه طلبتنا . ويقال : أصاب اللّه بك خيراً ، وأنشد الثعلبي : أصاب الكلام فلم يستطع فأخطأ الجواب لدى المفصل وقال وهب : حيث أصاب ، أي أراد . قيل : ويجوز أن يكون أصاب دخلت فيه همزة التعدية من صاب ، أي حيث وجه جنوده وجعلهم يصوبون صوب السحاب والمطر . وقيل : أصاب : أراد ، بلغة حمير . وقال قتادة : بلغة هجر .{ وَالشَّيَاطِينَ } : معطوف على الريح و { كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ } : بدل ، وأتى ببنية المبالغة ، كما قال :{ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ } الآية ، وقال النابغة : إلا سليمان إذ قال الإله له قم في البرية فاحددها عن الفند وجيش الجنّ إني قد أذنت لهم يبنون تدمر بالصفاح والعمد والمعطوف على العام عام ، فالتقدير : وكل غواص ، أي في البحر يستخرجون له الحلية ، وهو أول من استخرج الدر .{ وَءاخَرِينَ } : عطف على كل ، فهو داخل في البدل ، إذ هو بدل كل من كل بدل التفصيل ، أي من الجنّ ، وهم المردة ، سخرهم له حتى قرنهم في الأصفاد لكفرهم . وقال النابغة في ذلك : فمن أطاعك فانفعه بطاعته كما أطاعك وادللّه على الرشد ومن عصاك فعاقبه معاقبة تنهى الظلوم ولا تقعد على ضمد وتقدم تفسير { مُّقَرَّنِينَ فِى الاْصْفَادِ } في آخر سورة إبراهيم عليه السلام ، وأوصاف من ملك سليمان في سورة النمل .{ هَاذَا عَطَاؤُنَا } : إشارة لما أعطاه اللّه تعالى من الملك الضخم وتسخير الريح والإنس والجنّ والطير ، وأمره بأن يمنّ على من يشاء ويمسك عن من يشاء . وقفه على قدر النعمة ، ثم أباح له التصرف فيها بمشيئته ، وهو تعالى قد علم أنه لا يتصرف إلا بطاعة اللّه . قال الحسن وغيره ، قاله قتادة : إشارة إلى ما فعله الجن ، أي فامتن على من شئت منهم ، وأطلقه من وثاقه ، وسرحه من خدمته ، وامسك أمره كما تريد . وقال ابن عباس : إشارة إلى ما وهبه من النساء وأقدره عليهنّ من جماعهنّ ، ولعله لا يصح عن ابن عباس ، لأنه لم يجر هنا ذكر النساء ، ولا ما أوتي من القدرة على ذلك ، و { بِغَيْرِ حِسَابٍ } : في موضع الحال من { عَطَاؤُنَا } ،أي هذا عطاؤنا جماً كثيراً لا تكاد تقدر على حصر . ويجوز أن يكون { بِغَيْرِ حِسَابٍ } من تمام { فَامْنُنْ} أو أمسك : أي لا حساب عليك في إعطاء من شئت أو حرمانه ، وفي إطلاق من شئت من الشياطين أو إيثاقه . وختم تعالى قصته بما ذكر في قصة والده ، وهو قوله :{ فَغَفَرْنَا لَهُ ذالِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا} وقرأ الجمهور :{ وَحُسْنُ مَئَابٍ } ، بالنصب عطفاً على { الزلفى} وقرأ الحسن ، وابن أبي عبلة : بالرفع ، ويقفان على { عِندَنَا لَزُلْفَى } ، ويبتدئانه { وَحُسْنُ مَئَابٍ } ، وهو مبتدأ ، خبره محذوف تقديره : وحسن مآب له . ٤١انظر تسفير الآية:٤٤ ٤٢انظر تسفير الآية:٤٤ ٤٣انظر تسفير الآية:٤٤ ٤٤واذكر عبدنا أيوب . . . . . الضغث : حزمة صغيرة من حشيش أو ريحان أو قضبان ، وقيل : القبضة الكبيرة من القضبان ، ومنه قولهم : ضغث على إبالة ، والإبالة : الحزمة من الحطب ، والضغث : القبضة عليها من الحطب أيضاً ، ومنه قول الشاعر : وأسفل مني نهدة قد ربطتها وألقيت ضغثاً من خلى متطيب الحنث : فعل ماحلف على تركه ، وترك ما حلف على فعله ، الغساق : ما سال ، يقال : غسقت العين والجرح . وعن أبي عبيدة : أنه البارد المنتن ، بلغة الترك ؛ وقال الأزهري : الغاسق : البارد ، ولهذا قيل : ليل غاسق ، لأنه أبرد من النهار . الاقتحام : ركوب الشدة والدخول فيها ، والقحمة : الشدة . {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنّى مَسَّنِىَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَاذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مّنَّا وَذِكْرَى لاِوْلِى الاْلْبَابِ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِب بّهِ وَلاَ تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نّعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْراهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِى الاْيْدِى وَالاْبْصَارِ إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الاْخْيَارِ وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مّنَ الاْخْيَارِ} لما أمر نبيه بالصبر ، وذكر ابتلاء داود وسليمان ، وأثنى عليهما ، ذكر من كان أشدّ ابتلاء منهما ، وأنه كان في غاية الصبر ، بحيث أثنى اللّه عليه بذلك . وأيوب : عطف بيان أو بدل . قال الزمخشري : وإذ بدل اشتمال منه . وقرأ الجمهور :{ إِنّى } بفتح الهمزة ، وعيسى : بكسرها ، وجاء بضمير التكلم حكاية لكلامه الذي ناداه بسببه ، ولو لم يحك لقال : إنه مسه ، لأنه غائب ، وأسند المس إلى الشيطان . قال الزمخشري : لما كانت وسوسته إليه وطاعته له فيما وسوس سبباً فيما مسه اللّه به من النصب والعذاب ، نسبه إليه وقد راعى الأدب في ذلك حيث لم ينسبه إلى اللّه في دعائه ، مع أنه فاعله ، ولا يقدر عليه إلا هو . وقيل : أراد ما كان يوسوس به إليه في مرضه من تعظيم ما نزل به البلاء ، فالتجأ إلى اللّه في أن يكفيه ذلك بكشف البلاء ، أو بالتوفيق في دفعه ورده بالصبر الجميل . وذكر في سبب بلائه أن رجلاً استغاثه على ظالم ، فلم يغثه . وقيل : كانت مواشيه في ناحية ملك كافر ، فداهنه ولم يفده . وقيل : أعجب بكثرة ماله . انتهى . ولا يناسب مناصب الأنبياء ما ذكره الزمخشري من أن أيوب كانت منه طاعة للشيطان فيما وسوس به ، وأن ذلك كان سبباً لما مسه اللّه به من النصب والعذاب ، ولا أن رجلاً استغاثه على ظالم فلم يغثه ، ولا أنه داهن كافراً ، ولا أنه أعجب بكثرة ماله . وكذلك ما رووا أن الشيطان سلطه اللّه عليه حتى أذهب أهله وماله لا يمكن أن يصح ، ولا قدرة له على البشر إلا بإلقاء الوساوس الفاسدة لغير المعصوم . والذي نقوله : أنه تعالى ابتلى أيوب عليه السلام في جسده وأهله وماله ، على ما روي في الأخبار . وروى أنس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم ، أن أيوب بقي في محنته ثماني عشرة سنة يتساقط لحمه حتى مله العالم ، ولم يصبر عليه إلا امرأته ، ولم يبين لنا توالي السبب المقتضي لعلته . وأما إسناده المس إلى الشيطان ، فسبب ذلك أنه كان يعوده ثلاث من المؤمنين ، فارتد أحدهم ، فسأل عنه فقيل : ألقى إليه الشيطان أن اللّه لا يبتلي الأنبياء والصالحين ، فحينئذ قال : { مَسَّنِىَ الشَّيْطَانُ } ، نزل لشفقته على المؤمنين . مس الشيطان ذلك المؤمن حتى ارتد منزلة مسه لنفسه ، لأن المؤمن الخير يتألم برجوع المؤمن الخير إلى الكفر ؛ ولذلك جاء بعده :{ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ } ، حتى يغتسل ويذهب عنه البلاء ، فلا يرتد أحد من المؤمنين بسبب طول بلائه ، وتسويل الشيطان أنه تعالى لا يبتلي الأنبياء . وقيل : أشار بقوله :{ مَسَّنِىَ الشَّيْطَانُ } إلى تعريضه لامرأته ، وطلبه أن تشرك باللّه ، وكأنه بتشكي هذا الأمر كان عليه أشدّ من مرضه . وقرأ الجمهور :{ بِنُصْبٍ } ، بضم النون وسكون الصاد ، قيل : جمع نصب ، كوثن ووثن ؛ وأبو جعفر ، وشيبة ، وأبو عمارة عن حفص ، والجعفي عن أبي بكر ، وأبو معاذ عن نافع : بضمتين ، وزيد بن علي ، والحسن ، والسدّي ؛ وابن عبلة ، ويعقوب ، والجحدري : بفتحتين ؛ وأبو حيوة ، ويعقوب في رواية ، وهبيرة عن حفص : بفتح النون وسكون الصاد . وقال الزمخشري : النصب والنصب ، كالرشد والرشد ، والنصب على أصل المصدر ، والنصب تثقيل نصب ، والمعنى واحد ، وهو التعب والمشقة . والعذاب : الألم ، يريد مرضه وما كان يقاسي فيه من أنواع الوصب . انتهى . و قال ابن عطية : وقد ذكر هذه القراءات ، وذلك كل بمعنى واحد معناه المشقة ، وكثيراً ما يستعمل النصب في مشقة الإعياء . وفرق بعض الناس بين هذه الألفاظ ، والصواب أنها لغات بمعنى من قولهم : أنصبني الأمر ، إذا شق عليّ انتهى . وقال السدّي : بنصب في الجسد وعذاب في المال ، وفي الكلام حذف تقديره : فاستجبنا له وقلنا :{ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ } ، فركض ، فنبعت عين ، فقلنا له :{ هَاذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ } فيه شقاؤك ، فاغتسل فبرأ ، { وَوَهَبْنَا لَهُ } ، ويدل على هذه المحذوفات معنى الكلام وسياقه . وتقدم الكلام في الركض في سورة الأنبياء . وعن قتادة والحسن ومقاتل : كان ذلك بأرض الجابية من الشأم . ومعنى { هَاذَا مُغْتَسَلٌ } : أي ما يغتسل به ، { وَشَرَابٌ } ،أي ما تشربه ، فباغتسالك يبرأ ظاهرك ، وبشربك يبرأ باطنك . والظاهر أن المشار إليه كان واحداً ، والعين التي نبعت له عينان ، شرب من إحداهما واغتسل من الأخرى . وقيل : ضرب برجله اليمنى ، فنبعت عين حارة فاغتسل . وباليسرى ، فنبعت باردة فشرب منها ، وهذا مخالف لظاهر قوله :{ مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ } ، فإنه يدل على أنه ماء واحد . وقيل : أمر بالركض بالرجل ، ليتناثر عنه كل داء بجسده . وقال القتبي : المغتسل : الماء الذي يغتسل به . وقال مقاتل : هو الموضع الذي يغتسل فيه . وقال الحسن : ركض برجله ، فنبعت عين ماء ، فاغتسل منها ، ثم مشى نحواً من أربعين ذراعاً ، ثم ركض برجله ، فنبعت عين ، فشرب منها . قيل : والجمهور على أنه ركض ركضتين ، فنبعت له عينان ، شرب من إحداهما ، واغتسل من الأخرى . والجمهور : على أنه تعالى أحيا له من مات من أهله ، وعافى المرضى ، وجمع عليه من شتت منهم . وقيل : رزقه أولاداً وذرية قدر ذريته الذين هلكوا ، ولم يردّ أهله الذين هلكوا بأعيانهم ، وظاهر هذه الهيئة أنها في الدنيا . وقيل ذلك وعد ، وتكون تلك الهيئة في الآخرة . وقيل : وهبه من كان حياً منهم ، وعافاه من الأسقام ، وأرغد لهم العيش ، فتناسلوا حتى تضاعف عددهم وصار مثلهم . و { رَحْمَةً } ،{ وَذِكْرَى } : مفعولان لهما ، أي أن الهبة كانت لرحمتنا إياه ، وليتذكر أرباب العقول ، وما يحصل للصابرين من الخير ، وما يؤول إليه من الأجر . وفي الكلام حذف تقديره : وكان حلف ليضربن امرأته مائة ضربة لسبب جرى منها ، وكانت محسنة له ، فجعلنا له خلاصاً من يمينه بقولنا : { وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً} قال ابن عباس : الضغث : عثكال النخل . وقال مجاهد : الأثل ، وهو نبت له شوك . وقال الضحاك : حزمة من الحشيش مختلفة . وقال الأخفش : الشجر الرطب ، واختلفوا في السبب الذي أوجب حلفه . ومحصول أقوالهم هو تمثل الشيطان لها في صورة ناصح أو مداو . وعرض لها شفاء أيوب على يديه على شرط لا يمكن وقوعه من مؤمن ، فذكرت ذلك له ، فعلم أن الذي عرض لها هو الشيطان ، وغضب لعرضها ذلك عليه فحلف . وقيل غير ذلك من الأسباب ، وهي متعارضة . فحلل اللّه يمينه بأهون شيء عليه وعليها ، لحسن خدمتها إياه ورضاه عنها ، وقد وقع مثل هذه الرخصة في الإسلام . أني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بمخدج قد خبث بأمة فقال : { خذوا عثكالاً فيه مائة شمراخ فاضربوه بها ضربة} . وقال بذلك بعض أهل العلم في الإيمان ، قال : ويجب أن يصيب المضروب كل واحد من المائة ، إما أطرافها قائمة ، وإما أعراضها مبسوطة ، مع وجود صورة الضربة . والجمهور على ترك القول في الحدود ، وأن البر في الإيمان لا يقع إلا بإتمام عدد الضربات . ووصف اللّه تعالى نبيه بالصبر . وقد قال :{ مَسَّنِىَ الضُّرُّ } ، فدل على أن الشكوى إلى اللّه تعالى لا تنافي الوصف بالصبر . وقد قال يعقوب : إنما أشكو بثي وحزني إلى اللّه على أن أيوب عليه السلام طلب الشفاء خيفة على قومه أن يوسوس إليهم الشيطان أنه لو كان نبياً لم يبتل ، وتألفاً لقومه على الطاعة ، وبلغ أمره في البلاء إلى أنه لم يبق منه إلا القلب واللسان . ويروى أنه قال في مناجاته : إلهي قد علمت أنه لم يخالف لساني قلبي ، ولم يتبع قلبي بصري ، ولم يمنعني ما ملكت يميني ، ولم آكل إلا ومعي يتيم ، ولم أبت شبعاناً ولا كاسياً ومعي جائع أو عريان ، فكشف اللّه عنه . ٤٥انظر تسفير الآية:٤٨ ٤٦انظر تسفير الآية:٤٨ ٤٧انظر تسفير الآية:٤٨ ٤٨{وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْراهِيمَ } ، وقرأ ابن عباس وابن كثير وأهل مكة ، عبدنا على الإفراد ، وإبراهيم بدل منه ، أو عطف بيان . والجمهور على الجمع ، وما بعده من الثلاثة بدل أو عطف بيان . وقرأ الجمهور :{ أُوْلِى الاْيْدِى } ، بالياء . قال ابن عباس ومجاهد : القوة في طاعة اللّه . وقيل : إحسانهم في الدين وتقدمهم عند اللّه على عمل صدق ، فهي كالأيدي ، وهو قريب مما قبله . وقيل : النعم التي أسداها اللّه إليهم من النبوة والمكانة . وقيل { الاْيْدِى } : الجوارح المتصرفة في الخير ، { وَالاْبْصَارُ } الثاقبة فيه . قال الزمخشري : لما كانت أكثر الأعمال تباشر بالأيدي غلبت ، فقيل في كل عمل : هذا مما عملت أيديهم ، وإن كان عملاً لا يتأتى فيه المباشرة بالأيدي ، أو كان العمال جذماً لا أيدي لهم ، وعلى ذلك ورد قوله عز وعلا :{ أُوْلِى الاْيْدِى وَالاْبْصَارِ } ، يريد : أولي الأعمال والفكر ؛ كأن الذين لا يعملون أعمال الآخرة ، ولا يجاهدون في اللّه ؛ ولا يفكرون أفكار ذوي الديانات ، ولا يستبصرون في حكم الزمني الذين لا يقدرون على إعمال جوارحهم ، والمسلوبي العقول الذين لا استبصار بهم ؛ وفيه تعريض بكل من لم يكن من عمال اللّه ، ولا من المستبصرين في دين اللّه ، وتوبيخ على تركهم المجاهدة والتأمل مع كونهم متمكنين منها . انتهى ، وهو تكثير . وقال أبو عبد اللّه الرازي : اليد آلة لأكثر الأعمال ، والبصر آلة لأقوى الإدراكات ، فحسن التعبير عن العمل باليد ، وعن الإدراك بالبصر . والنفس الناطقة لهو قوّتان : عاملة وعالمة ، فأولي الأيدي والأبصار إشارة إلى هاتين الحالتين . وقرأ عبد اللّه ، والحسن ، وعيسى ، والأعمش : الأيد بغير ياء ، فقيل : يراد الأيدي حذف الياء اجتزاء بالكسرة عنها ، ولما كانت أل تعاقب التنوين ، حذفت الياء معها ، كما حذفت مع التنوين ، وهذا تخريج لا يسوغ ، لأن حذف هذه الياء مع وجود أل ذكره سيبويه في الضرائر . وقيل : الأيدي : القوة في طاعة اللّه ، والأبصار : عبارة عن البصائر التي يبصرون بها الحقائق وينظرون بنور اللّه تعالى . وقال الزمخشري : وتفسير الأيدي من التأييد قلق غير متمكن ، وإنما كان قلقاً عنده لعطف الأبصار عليه ، ولا ينبغي أن يعلق ، لأنه فسر أولي الأيدي والأبصار بقوله : يريد أولي الأعمال والفكر . وقرىء : الأيادي ، جمع الجمع ، كأوطف وأواطف . وقرأ أبو جعفر ، وشيبة ، والأعرج ، ونافع ، وهشام : بخالصة ، بغير تنوين ، أضيفت إلى ذكرى . وقرأ باقي السبعة بالتنوين ، و { ذِكْرِى } بدل من { بِخَالِصَةٍ} وقرأ الأعمش ، وطلحة : بخالصتهم ، و { أَخْلَصْناهُمْ } : جعلناهم لنا خالصين وخالصة ، يحتمل ، وهو الأظهر ، أن يكون اسم فاعل به عن مزية أو رتبة أو خصلة خالصة لا شوب فيها ، ويحتمل أن كون مصدراً ، كالعاقبة ، فيكون قد حذف منه الفاعل ، أي أخلصناهم بأن أخلصوا ذكرى الدار ، فيكون ذكرى مفعولاً ، أو بأن أخلصنا لهم ذكرى الدار ، أو يكون الفاعل ذكرى ، أي بأن خلصت لهم ذكرى الدار ، والدار في كل وجه من موضع نصب بذكرى ، وذكرى مصدر ، والدار دار الآخرة . قال قتادة : المعنى بأن خلص لهم التذكير بالدار الآخرة ، ودعا الناس إليها وحضهم عليها . وقال مجاهد : خلص لهم ذكرهم الدار الآخرة ، وخوفهم لها . والعمل بحسب ذلك . وقال ابن زيد : وهبنا لهم أفضل ما في الدار الآخرة ، وأخلصناهم به ، وأعطيناهم إياه . و قال ابن عطية : ويحتمل أن يريد بالدار دار الدنيا ، على معنى ذكر الثناء والتعظيم من الناس ، والحمد الباقي الذي هو الخلد المجازي ، فتجيء الآية في معنى قوله :{ لِسَانَ صِدْقٍ } ، وقوله :{ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الاْخِرِينَ} انتهى . وحكى الزمخشري هذا الاحتمال قولاً فقال : وقيل { ذِكْرَى الدَّارِ } : الثناء الجميل في الدنيا ولسان الصدق . انتهى . والباء في بخالصة باء السبب ، أي بسبب هذه الخصلة وبأنهم من أهلها ، ويعضده قراءة بخالصهم { وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ } ،أي المختارين من بين أبناء جنسهم ، { الاْخْيَارِ } : جمع خير ، وخير كميت وميت وأموات . وتقدم الكلام في اليسع في سورة الأنعام ، وذا الكفل في سورة الأنبياء . وعندنا ظرف معمول لمحذوف دل عليه المصطفين ، أي وأنهم مصطفون عندنا ، أو معمول للمصطفين ، وإن كان بأل ، لأنهم يتسمحون في الظرف والمجرور ما لا يتسمحون في غيرهما ، أو على التبيين ، أي أعني عندنا ، ولا يجوز أن يكون عندنا في موضع الخبر ، ويعني بالعندية : المكانة ، ولمن المصطفين : في موضع خبر ثان لوجود اللام ، لا يجوز أن زيداً قائم لمنطلق ، { وَكُلٌّ } : أي وكلهم ، من الأخيار . ٤٩انظر تسفير الآية:٥٤ ٥٠انظر تسفير الآية:٥٤ ٥١انظر تسفير الآية:٥٤ ٥٢انظر تسفير الآية:٥٤ ٥٣انظر تسفير الآية:٥٤ ٥٤لما أمره تعالى بالصبر على سفاهة قومه ، وذكر جملة من الأنبياء وأحوالهم ، ذكر ما يؤول إليه حال المؤمنين والكافرين من الجزاء ، ومقر كل واحد من الفريقين . ولما كان ما يذكره نوعاً من أنواع التنزيل ، قال : { هَاذَا ذِكْرُ } ، كأنه فصل بين ما قبله وما بعده . ألا ترى أنه لما ذكر أهل الجنة ، وأعقبه بذكر أهل النار قال :{ هَاذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ } ؟ وقال ابن عباس : هذا ذكر من مضى من الأنبياء . وقيل :{ هَاذَا ذِكْرُ } : أي شرف تذكرون به أبداً . وقرأ الجمهور :{ جَنَّاتُ } بالنصب ، وهو بدل ، فإن كان عدن علماً ، فبدل معرفة من نكرة ؛ وإن كان نكرة ، فبدل نكرة من نكر . وقال الزمخشري :{ جَنَّاتِ عَدْنٍ } معرفة لقوله :{ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِى وَعَدَ الرَّحْمَنُ } ، وانتصابها على أنها عطف بيان بحسن مآب ، ومفتحة حال ، والعامل فيها ما في المتقين من معنى الفعل . وفي مفتحة ضمير الجنات ، والأبواب بدل من الضمير تقديره : مفتحة هي الأبواب لقولهم : ضرب زيد اليد والرجل ، وهو من بدل الاشتمال . انتهى . ولا يتعين أن يكون جنات عدن معرفة بالدليل الذي استدل به وهو قوله :{ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِى } ، لأنه اعتقد أن التي صفة لجنات عدن ، ولا يتعين ما ذكره ، إذ يجوز أن تكون التي بدلاً من جنات عدن . ألا ترى أن الذي والتي وجموعهما تستعمل استعمال الأسماء ، فتلي العوامل ، ولا يلزم أن تكون صفة ؟ وأما انتصابها على أنها عطف بيان فلا يجوز ، لأن النحويين في ذلك على مذهبين أحدهما : أن ذلك لا يكون إلا في المعارف ، فلا يكون عطف البيان إلا تابعاً لمعرفة ، وهو مذهب البصريين . والثاني : أنه يجوز أن يكون في النكرات ، فيكون عطف البيان تابعاً لنكرة ، كما تكون المعرفة فيه تابعة لمعرفة ، وهذا مذهب الكوفيين ، وتبعهم الفارسي . وأما تخالفهما في التنكير والتعريف فلم يذهب إليه أحد سوى هذا المصنف . وقد أجاز ذلك في قوله :{ مَّقَامِ إِبْراهِيمَ } ، فأعربه عطف بيان تابعاً لنكرة ، وهو { بَيّنَاتٍ فَاسْأَلْ } ، و { مَّقَامِ إِبْراهِيمَ } معرفة ، وقد رددنا عليه ذلك في موضعه في آل عمران . وأما قوله : وفي مفتحة ضمير الجنات ، فجمهور النحويين أعربوا الأبواب مفعولاً لم يسم فاعله . وجاء أبو علي فقال : إذا كان كذلك ، لم يكن في ذلك ضمير يعود على جنات عدن . من الحالية أن أعرب مفتحة حالاً ، أو من النعت أن أعرب نعتاً لجنات عدن ، فقال : في مفتحة ضمير يعود على الجنات حتى ترتبط الحال بصاحبها ، أو النعت بمنعوته ، والأبواب بدل . وقال : من أعرب الأبواب مفعولاً ، لم يسم فاعله العائد على الجنات محذوف تقديره : الأبواب منها . وألزم أبو علي البدل في مثل هذا لا بد فيه من الضمير ، إما ملفوظاً به ، أو مقدراً . وإذا كان الكلام محتاجاً إلى تقديره واحد ، كان أولى مما يحتاج إلى تقديرين . وأما الكوفيون ، فالرابط عندهم هو أل لمقامه مقام الضمير ، فكأنه قال : مفتحة لهم أبوابها . وأما قوله : وهو من بدل الاشتمال ، فإن عنى بقوله : وهو قوله اليد والرجل ، فهو وهم ، وإنما هو بدل بعض من كل . وإن عنى الأبواب ، فقد يصح ، لأن أبواب الجنات ليست بعضاً من الجنات . وأما تشبيهه ما قدره من قوله : مفتحة هي الأبواب ، بقولهم : ضرب زيد اليد والرجل ، فوجهه أن الأبواب بدل من ذلك الضمير المستكن ، كما أن اليد والرجل بدل من الظاهر الذي هو زيد . وقال أبو إسحاق : وتبعه ابن عطية : مفتحة نعت لجنات عدن . وقال الحوفي : مفتحة حال ، والعامل فيها محذوف يدل عليه المعنى ، تقديره : يدخلونها . وقرأ زيد بن علي ، وعبد اللّه بن رفيع ، وأبو حيوة : جنات عدن مفتحة ، برفع التاءين : مبتدأ وخبر ، أوكل منهما خبر مبتدأ محذوف ، أي هو جنات عدن هي مفتحة . والاتكاء : من هيئات أهل السعادة يدعون فيها ، يدل على أن عندهم من يستخدمونه فيما يستدعون ، كقوله :{ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُّخَلَّدُونَ} ولما كانت الفاكهة يتنوع وصفها بالكثرة ، وكثرتها باختلاف أنواعها ، وكثرة كل نوع منها ؛ ولما كان الشراب نوعاً واحداً وهو الخمر ، أفرد :{ وَعِندَهُمْ قَاصِراتُ الطَّرْفِ} قال قتادة : معناه على أزواجهن ، { أَتْرَابٌ } : أي أمثال على سنّ واحدة ، وأصله في بني آدم لكونهم مس أجسادهم التراب في وقت واحد ، والأفران أثبت في التحاب . والظاهر أن هذا الوصف هو بينهن ، وقيل : بين أزواجهن ، أسنانهن كأسنانهم . وقال ابن عباس : يريد الآدميات . وقال صاحب الغنيان : حور . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : وهذا ما يوعدون ، بياء الغيبة ، إذ قبله وعندهم ؛ وباقي السبعة : بتاء الخطاب على الالتفات ، والمعنى : هذا ما وقع به الوعد ليوم الجزاء . { إِنَّ هَذَا } : أي ما ذكر للمتقين مما تقدم ، { لَرِزْقُنَا } دائماً : أي لا نفاد له . ٥٥انظر تسفير الآية:٥٨ ٥٦انظر تسفير الآية:٥٨ ٥٧انظر تسفير الآية:٥٨ ٥٨{هَاذَا وَإِنْ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَئَابٍ } ، قال الزجاج : أي الأمر هذا ، وقال أبو علي : هذا للمؤمنين ، وقال أبو البقاء : مبتدأ محذوف الخبر ، أو خبر محذوف المبتدأ ، والطاغون هنا : الكفار ؛ وقال الجبائي : أصحاب الكبائر كفاراً كانوا أو لم يكونوا . وقال ابن عباس ، المعنى : الذين طغوا عليّ وكذبوا رسلي لهم شر مآب : أي مرجع ومصير .{ فَبِئْسَ الْمِهَادُ } : أي هي { هَاذَا } في موضع رفع مبتدأ خبره { جَهَنَّمَ } ،{ وَغَسَّاقٌ } ،أو خبر مبتدأ محذوف ، أي العذاب هذا ، وحميم خبر مبتدأ ، أو في موضع نصب على الاشتغال ، أي ليذوقوا .{ هَاذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ } : أي هو حميم ، أو مبتدأ محذوف الخبر ، أي منه حميم ومنه غساق ، كما قال الشاعر : حتى إذا ما أضاء الصبح في غلس وغودر البقل ملوى ومحصود أي : منه ملوى ومنه محصود ، وهذه الأعاريب مقولة منقولة . وقيل : هذا مبتدأ ، وفليذوقوه الخبر ، وهذا على مذهب الأخفش في إجازته : زيد فاضربه ، مستدلاً بقول الشاعر : وقائلة خولان فانكح فتاتهم والغساق ، عن ابن عباس : الزمهرير ؛ وعنه أيضاً ، وعن عطاء ، وقتادة ، وابن زيد : ما يجري من صديد أهل النار ؛ وعن كعب : عين في جهنم تسيل إليها حمة كل ذي حمة من حية أو عقرب أو غيرهما ، يغمس فيها فيتساقط الجلد واللحم عن العظم ؛ وعن السدي : ما يسيل من دموعهم ؛ وعن ابن عمر : القيح يسيل منهم فيسقونه . وقرأ ابن أبي إسحاق ، وقتادة ، وابن وثاب ، وطلحة ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص ، والفضل ، وابن سعدان ، وهارون عن أبي عمرو : بتشديد السين . فإن كان صفة ، فيكون مما حذف موصوفها ، وإن كان اسماً ، ففعال قليل في الأسماء ، جاء منه : الكلاء ، والجبان ، والفناد ، والعقار ، والخطار . وقرأ باقي السبعة : بتخفيف السين . وقرأ الجمهور :{ وَأَخَّرَ } على الإفراد ، فقيل : مبتدأ خبره محذوف تقديره : ولهم عذاب آخر . وقيل : خبره في الجملة ، لأن قوله :{ أَزْواجٌ } مبتدأ ، و { مِن شَكْلِهِ } خبره ، والجملة خبر . وآخر ، وقيل : خبره أزواج ، ومن شكله في موضع الصفة ، وجاز أن يخبر بالجمع عن الواحد من حيث هو درجات ، ورتب من العذاب ، أو سمى كل جزء من ذلك الآخر باسم الكل . وقال الزمخشري : وآخر ، أي وعذاب آخر ، أو مذوق آخر ؛ وأزواج صفة آخر ، لأنه يجوز أن يكون ضروباً أو صفة للثلاثة ، وهي : حميم وغساق وآخر من شكله . انتهى . وهو إعراب أخذه من الفراء . وقرأ الحسن ، ومجاهد ، والجحدري ، وابن جبير ، وعيسى ، وأبو عمرو : وأخر على الجمع ، وهو مبتدأ ، ومن شكله في موضع الصفة ؛ وأزواج خبره ، أي ومذوقاً آخر من شكل هذا المذوق من مثله في الشدة والفظاعة ؛{ أَزْواجٌ } : أجناس . وقرأ مجاهد : من شكله ، بكسر الشين ؛ والجمهور : بفتحها ، وهما لغتان بمعنى المثل والضرب . وأما إذا كان بمعنى الفتح ، فبكسر الشين لا غير . وعن ابن مسعود :{ وَءاخَرُ مِن شَكْلِهِ } : هو الزمهرير . والظاهر أن قوله : هذا فوج مقتحم معكم } ، من قول رؤسائهم بعضهم لبعض ، والفوج : الجمع الكثير ، ، من قول رؤسائهم بعضهم لبعض ، والفوج : الجمع الكثير ، { مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ } : أي النار ، وهم الأتباع ، ثم دعوا عليهم بقولهم :{ لاْمْرِ حَبّاً بِهِمُ } ، لأن الرئيس إذا رأى الخسيس قد قرن معه في العذاب ، ساءه ذلك حيث وقع التساوي في العذاب ، ولم يكن هو السالم من العذاب وأتباعه في العذاب . ومر حباً معناه : ائت رحباً وسعة لا ضيقاً ، وهو منصوب بفعل يجب إضماره ، ولأن علوهم بيان للمدعو عليهم . ٥٩انظر تسفير الآية:٦٦ ٦٠انظر تسفير الآية:٦٦ ٦١انظر تسفير الآية:٦٦ ٦٢انظر تسفير الآية:٦٦ ٦٣انظر تسفير الآية:٦٦ ٦٤انظر تسفير الآية:٦٦ ٦٥انظر تسفير الآية:٦٦ ٦٦وقيل :{ هَاذَا فَوْجٌ } ، من كلام الملائكة خزنة النار ؛ وأن الدعاء على الفوج والتعليل بقوله :{ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ } ، من كلامهم . وقيل :{ هَاذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ } ، من كلام الملائكة ، والدعاء على الفوج والإخبار بأنهم صالوا النار من كلام الرؤساء المتبوعين . { قَالُواْ } أي الفوج :{ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ } ، رد على الرؤساء ما دعوا به عليهم . ثم ذكروا أن ما وقعوا فيه من العذاب وصلى النار ، إنما هو بما ألقيتم إلينا وزينتموه من الكفر ، فكأنكم قدمتم لنا العذاب أو الصلى . وإذا كان { لاَ مَرْحَباً بِهِمْ } من كلام الخزنة ، فلم يجيء التركيب : قالوا : بل هؤلاء لا مرحباً بهم ، بل جاء بخطاب الأتباع للرؤساء ، لتكون المواجهة لمن كانوا لا يقدرون على مواجهتهم في الدنيا بقبيح أشفى لصدورهم ، حيث تسببوا في كفرهم ، وأنكى للرؤساء .{ فَبِئْسَ الْقَرَارُ } : أي النار ؛ وهذه المرادة والدعاء كقوله :{ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا} ولم يكتف الأتباع برد الدعاء على رؤسائهم ، ولا بمواجهتهم بقوله :{ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا } ، حتى سألوا من اللّه أن يزيد رؤساءهم ضعفاً من النار ، والمعنى : من جملنا على عمل السوء حتى صار جزاءنا النار ، { فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً } ، كما جاء في قول الأتباع :{ رَبَّنَا ءاتِهِمْ } ،أي بمعاداتهم ، { ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ } ،{ رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّواْ قَالَ ادْخُلُواْ فِى أُمَمٍ قَدْ} ولما كان الرؤساء ضلالاً في أنفسهم وأضلوا اتباعهم ، ناسب أن يدعو عليهم بأن يزيدهم ضعفاً ، كما جاء : فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ، فعلى هذا الضمير في قوله :{ قَالُواْ } للاتباع ، ومن قدم : هم الرؤساء . وقال ابن السائب :{ قَالُواْ ربَّنَا } إلى آخره ، قول جميع أهل النار . وقال الضحاك :{ مَن قَدَّمَ } ، هو إبليس وقابيل . وقال ابن مسعود : الضعف حيات وعقارب .{ وَقَالُواْ } : أي أشراف الكفار ، { مَا لَنَا لاَ نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مّنَ الاْشْرَارِ } : أي الأرذال الذين لا خير فيهم ، وليسوا على ديننا ، كما قال :{ وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا} وروي أن القائلين من كفار عصر الرسول / صلى اللّه عليه وسلم ، هم : أبو جهل ، وأمية بن خلف ، وأصحاب القليب ، والذين لم يروهم : عمار ، وصهيب ، وسلمان ، ومن جرى مجراهم ، قاله مجاهد وغيره . قيل : يسألون أين عمار ؟ أين صهيب ؟ أين فلان ؟ يعدون ضعفاء المسلمين فيقال لهم : أولئك في الفردوس . وقرأ النحويان ، وحمزة : أين صهيب ؟ أين فلان ؟ يعدون ضعفاء المسلمين فيقال لهم : أولئك في الفردوس . وقرأ النحويان ، وحمزة : اتخذناهم وصلاً ، فقال أبو حاتم ، والزمخشري ، وابن عطية : صفة لرجال . قال الزمخشري : مثل قوله :{ كُنَّا نَعُدُّهُمْ مّنَ الاْشْرَارِ} وقال ابن الأنباري : حال ، أي وقد اتخذناهم . وقرأ أبو جعفر ، والأعرج ، والحسن ، وقتادة ، وباقي السبعة : بهمزة الاستفهام ، لتقرير أنفسهم على هذا ، على جهة التوبيخ لها . والأسف ، أي اتخذناهم سخرياً ، ولم يكونوا كذلك . وقرأ عبد اللّه ، وأصحابه ، ومجاهد ، والضحاك ، وأبو جعفر ، وشيبة ، والأعرج ، ونافع ، وحمزة ، والكسائي : سخرياً ، بضم السين ، ومعناها : من السخرة والاستخدام . وقرأ الحسن ، وأبو رجاء ، وعيسى ، وابن محيصن ، وباقي السبعة : بكسر السين ، ومعناها : المشهور من السخر ، وهو الهزء . قال الشاعر : إني أتاني لسان لا أسر بها من علو لا كذب فيها ولا سخر وقيل : بكسر السين من التسخير . وأم إن كان اتخذناهم استفهاماً إما مصرحاً بهمزته كقراءة من قرأ كذلك ، أو مؤولاً بالاستفهام ، وحذفت الهمزة للدلالة . فالظاهر أنها متصلة لتقدم الهمزة ، والمعنى : أي الفعلين فعلنا بهم ، الاستسخار منهم أم ازدراؤهم وتحقيرهم ؟ وإن أبصارنا كانت تعلوا عنهم وتقتحم . ويكون استفهاماً على معنى الإنكار على أنفسهم ، للاستسخار والزيغ جميعاً . وقال الحسن : كل ذلك قد فعلوا ، اتخذوهم سخرياً ، وزاغت عنهم أبصارهم محقرة لهم . وأن اتخذناهم ليس استفهاماً ، فأم منقطعة ، ويجوز أن تكون منقطعة أيضاً مع تقدم الاستفهام ، يكون كقولك : أزيد عندك أم عندك عمرو ؟ واستفهمت عن زيد ، ثم أضربت عن ذلك واستفهمت عن عمرو ، فالتقدير : بل أزاغت عنهم الأبصار . ويجوز أن يكون قولهم : { أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الابْصَارُ } له تعلق بقوله :{ مَا لَنَا لاَ نَرَى رِجَالاً } ، لأن الاستفهام أولاً دل على انتفاء رؤيتهم إياهم ، وذلك دليل على أنهم ليسوا معه ، ثم جوزوا أن يكونوا معه ، ولكن أبصارهم لم ترهم .{ إِنَّ ذالِكَ أَيُّ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ وَإِنَّهُ لَحَقُّ } : أي ثابت واقع لا بد أن يجري بينهم . وقرأ الجمهور :{ تَخَاصُمُ } بالرفع مضافاً إلى أهل . قال ابن عطية : بدل من { لَحَقُّ} وقال الزمخشري : بين ما هو فقال : تخاصم منوناً ، أهل رفعاً بالمصدر المنون ، ولا يجيز ذلك الفراء ، ويجيزه سيبويه والبصريون . وقرأ ابن أبي عبلة : تخاصم ، أهل ، بنصب الميم وجر أهل . قال الزمخشري : على أنه صفة لذلك ، لأن أسماء الإشارة توصف بأسماء الأجناس . وفي كتاب اللوامح : ولو نصب تخاصم أهل النار ، لجاز على البدل من ذلك . وقرأ ابن السميفع : تخاصم : فعلاً ماضياً ، أهل : فاعلاً ، وسمى تعالى تلك المفاوضة التي جرت بين رؤساء الكفار وأتباعهم تخاصماً ، لأنّ قولهم :{ لاَ مَرْحَباً بِهِمْ } ، وقول الأتباع :{ بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ } ، هو من باب الخصومة ، فسمى التفاوض كله تخاصماً لاستعماله عليه .{ قُلْ } : يا محمد ، { إِنَّمَا أَنَاْ مُنذِرٌ } : أي { مُنذِرُ الْمُشْرِكِينَ بِالْعَذَابِ } ، وأن اللّه لا إله إلا اللّه ، لا ند له ولا شريك ، وهو الواحد القهار لكل شيء ، وأنه مالك العالم ، علوه وسفله ، العزيز الذي لا يغالب ، الغفار لذنوب من آمن به واتبع لدينه . ٦٧انظر تسفير الآية:٦٩ ٦٨انظر تسفير الآية:٦٩ ٦٩الضمير في قوله :{ قُلْ هُوَ نَبَأٌ } يعود على ما أخبر به صلى اللّه عليه وسلم من كونه رسولاً منذراً داعياً إلى اللّه ، وأنه تعالى هو المنفرد بالألوهية ، المتصف بتلك الأوصاف من الوحدانية والقهر وملك العالم وعزته وغفرانه ، وهو خبر عظيم لا يعرض عن مثله إلا غافل شديد الغفلة . وقال ابن عباس : النبأ العظيم : القرآن . وقال الحسن : يوم القيامة . وقيل : قصص آدم والإنباء به من غير سماع من أحد . وقال صاحب التحرير : سياق الآية وظاهرها أنه يريد بقوله :{ قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ } ، ما قصه اللّه تعالى من مناظرة أهل النار ومقاولة الأتباع مع السادات ، لأنه من أحوال البعث ، وقريش كانت تنكر البعث والحساب والعقاب ، وهم عن ذلك معرضون . وقوله : { مَا كَانَ لِىَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمََلإِ الاْعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ } : احتجاج على قريش بأن ما جاء به من عند اللّه لا من قبل نفسه . فإن من في الأرض ما له علم بمن في السماء إلا بإعلام اللّه تعالى ؛ وعلم المغيبات لا يوصل إليه إلا بإعلام اللّه تعالى ، وعلمه بأحوال أهل النار ، وابتداء خلق آدم لم يكن عنه علم بذلك ؛ فإخباره بذلك هو بإعلام اللّه والاستدلال بقصة آدم ، لأنه أول البشر خلقاً ، وبينه وبين الرسول عليه السلام أزمان متقادمة وقرون سالفة . انتهى ، وفي آخره بعض اختصار . ثم احتج بصحة نبوته ، بأن ما ينبىء به عن الملأ الأعلى واختصامهم أمر لم يكن به به من علم قط . ثم علمه من غير الطريق الذي يسلكه المتعلمون ، بل ذلك مستفاد من الوحي ، وبالملأ متعلق بعلم ، وإذ منصوب به . وقال الزمخشري : بمحذوف ، لأن المعنى : ما كان لي من علم بكلام الملأ الأعلى وقت اختصامهم .{ وَإِذْ قَالَ } بدل من { إِذْ يَخْتَصِمُونَ } على الملأ الأعلى ، وهم الملائكة ، وأبعد من قال إنهم قريش ، واختصام الملائكة في أمر آدم وذريته في جعلهم في الأرض . وقالوا :{ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا} قال ابن عباس : وقال الحسن : إن اللّه خالق خلقاً كنا أكرم منه وأعلم . وقيل : في الكفارات وغفر الذنوب ، فإن العبد إذا عمل حسنة اختلفت الملائكة في قدر ثوابه في ذلك حتى يقضي اللّه بما يشاء . وفي الحديث : { قال له ربه في نومه ، عليه السلام : فيم يختصمون ؟ فقلت : لا أدري ، فقال : في الكفارات وفي إسباغ الوضوء في السرات ونقل الخطأ إلى الجماعات} . وقال الزمخشري : كانت مقاولة اللّه سبحانه بواسطة ملك ، وكان المقاول في الحقيقة هو الملك المتوسط ، فيصح أن التقاول بين الملائكة وآدم وإبليس ، وهم الملأ الأعلى ؛ والمراد بالاختصام : التقاول . وقيل : الملأ الأعلى : الملائكة ، وإذ يختصمون : الضمير فيه للعرب الكافرين ، فبعضهم يقول : هي بنات اللّه ، وبعضهم : آلهة تعبد ، وغير ذلك من أقوالهم . ٧٠انظر تسفير الآية:٧١ ٧١{ءانٍ يُوحِى إِلَىَّ } : أي ما يوحى إليّ ، { أَنَّمَا أَنَاْ نَذِيرٌ } : أي للإنذار ، حذف اللام ووصل الفعل والمفعول الذي لم يسم فاعله يجوز أن يكون ضميراً يدل عليه ، المعنى ، أي أن يوحى إليّ هو ، أي ما يوحى إلا الإنذار ، وأقيم إلى مقامه ، ويجوز أن يكون إنما هو المفعول الذي لم يسم فاعله ، أي ما يوحى إليّ إلا الإنذار . وقرأ أبو جعفر : إلا إنما ، بكسر همزة إنما على الحكاية ، أي ما يوحى إليّ إلا هذه الجملة ، كأن قيل له : أنت نذير مبين ، فحكى هو المعنى ، وهذا كما يقول الإنسان : أنا عالم ، فيقال له : قلت إنك عالم ، فيحكى المعنى . وقال الزمخشري : وقرىء إنما بالكسر على الحكاية ، أي إلا هذا القول ، وهو أن أقول لكم { أَنَّمَا أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } ، فلا أدعي شيئاً آخر . انتهى . في تخريجه تعارض ، لأنه قال : أي إلا هذا القول ، فظاهره الجملة التي هي { أَنَّمَا أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } ، ثم قال : وهو أن أقول لكم إني نذير ، فالمقام مقام الفاعل هو أن أقول لكم ، وأن وما بعده في موضع نصب ، وعلى قوله : إلا هذا القول ، يكون في موضع رفع فيتعارضا . وتقدم أن ، إذ قال بدل من : إذ يختصمون ، هذا إذا كانت الخصومة في شأن من يستخلف في الأرض ، وعلى غيره من الأقوال يكون منصوباً باذكر . ولما كانت قريش ، خالفوا الرسول ، عليه السلام ، بسبب الحسد والكبر . ذكر حال إبليس ، حيث خالف أمر اللّه بسبب الحسد والكبر وما آل إليه من اللعنة والطرد من رحمة اللّه ، ليزدجر عن ذلك من فيه شيء منهما . وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف صح أن يقول لهم :{ إِنّى خَالِقٌ بَشَرًا } ، وما عرفوا ما البشر ولا عهدوا به قبل ؟ قلت : وجهه أن يكون قد قال لهم : إني خالق خلقاً من صفة كيت وكيت ، ولكنه حين حكاه اقتصر على الاسم . انتهى . والبشر هو آدم عليه السلام ، وذكر هنا أنه خلقه من طين ، وفي آل عمران :{ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ } ، وفي الحجر :{ مِن صَلْصَالٍ مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } ، وفي الأنبياء :{ مِنْ عَجَلٍ } ؛ ولا منافاة في تلك المادة البعيدة ، وهي التراب ، ثم ما يليه وهو الطين ، ثم ما يليه وهو الحمأ المسنون ، ثم المادة تلي الحمأ وهو الصلصال ؛ وأما من عجل فمضى تفسير . ٧٢انظر تسفير الآية:٧٤ ٧٣انظر تسفير الآية:٧٤ ٧٤{فَإِذَا سَوَّيْتُهُ فَنَسِىَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَئِكَةِ اسْجُدُواْ لادَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ } : تقدم الكلام على هذا في الحجر ، وهنا { اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ } ، وفي البقرة :{ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ } ، وفي الأعراف :{ لَمْ يَكُن مّنَ السَّاجِدِينَ } ، وفي الحجر :{ أَبَى أَن يَكُونَ مّنَ السَّاجِدِينَ } ، وفي الإسراء :{ قَالَ أَءسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا } ، وفي الكهف :{ كَانَ مِنَ الْجِنّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ} والإستثناء في جميع هذه الآيات يدل على أنه لم يسجد ، فتارة أكد بالنفي المحض ، وتارة ذكر إبايته عن السجود ، وهي الأنفة من ذلك ، وتارة نص على أن ذلك الامتناع كان سببه الاستكبار . والظاهر أن قوله :{ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ } أريد به كفره ذلك الوقت ، وإن لم يكن قبله كافراً ؛ وعطف على استكبر ، فقوى ذلك ، لأن الاستكبار عن السجود إنما حصل له وقت الأمر . ويحتمل أن يكون إخباراً منه بسبق كفره في الأزمنة الماضية في علم اللّه . ٧٥انظر تسفير الآية:٨٤ ٧٦انظر تسفير الآية:٨٤ ٧٧انظر تسفير الآية:٨٤ ٧٨انظر تسفير الآية:٨٤ ٧٩انظر تسفير الآية:٨٤ ٨٠انظر تسفير الآية:٨٤ ٨١انظر تسفير الآية:٨٤ ٨٢انظر تسفير الآية:٨٤ ٨٣انظر تسفير الآية:٨٤ ٨٤{قَالَ يَاءادَمُ إِبْلِيسَ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ } ، وفي الأعراف :{ مَا مَنَعَكَ أَن لاَ تَسْجُدُواْ } ، فدل أن تسجد هنا ، على أن لا في أن لا تسجد زائدة ، والمعنى أيضاً يدل على ذلك ، لأنه لا يستفهم إلا عن المانع من السجود ، وهو استفهام تقرير وتوبيخ . وما في { لِمَا خَلَقْتُ } ، استدل بها من يجيز إطلاق ما على آحاد من يعقل ، وأول بأن ما مصدرية ، والمصدر يراد به المخلوق ، لا حقيقة المصدر . وقرأ الجحدري : لما بفتح اللام وتشديد الميم ، خلقت بيدي ، على الإفراد ؛ والجمهور : على التثنية ؛ وقرىء بيديّ ، كقراءة بمصرخي ؛ وقال تعالى :{ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا } بالجمع ، وكلها عبارة عن القدرة والقوة ، وعبر باليد ، إذ كان عند البشر معتاداً أن البطش والقوة باليد . وذهب القاضي أبو بكر بن الطيب إلى أن اليد صفة ذات . قال ابن عطية : وهو قول مرغوب عنه . وقرأ الجمهور :{ أَسْتَكْبَرْتَ } ، بهمزة الاستفهام ، وأم متصلة عادلت الهمزة . قال ابن عطية : وذهب كثير من النحويين إلى أن أم لا تكون معادلة للألف مع اختلاف الفعلين ، وإنما تكون معادلة إذا دخلنا على فعل واحد ، كقولك : أزيد قام أم عمرو ؟ وقولك : أقام زيد أم عمرو ؟ فإذا اختلف الفعلان كهذه الآية ، فليست معادلة . ومعنى الآية : أحدث لك الاستكبار الآن ، أم كنت قديماً ممن لا يليق أن تكلف مثل هذا لعلو مكانك ؟ وهذا على جهة التوبيخ . انتهى . وهذا الذي ذكره عن كثير من النحويين مذهب غير صحيح . قال سيبويه : وتقول أضربت زيداً أم قتلته فالبدء هنا بالفعل أحسن ، لأنك إنما تسأل عن أحدهما ، لا تدري أيهما كان ، ولا تسأل عن موضع أحدهما ، كأنك قلت : أي ذلك كان ؟ انتهى . فعادل بأم الألف مع اختلاف الفعلين .{ مِنَ الْعَالِينَ } : ممن علوت وفقت . فأجاب بأنه من العالين ، حيث قال { أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ} وقيل : استكبرت الآن ، أو لم تزل مذ كنت من المستكبرين ؟ ومعنى الهمزة : التقرير . انتهى . وقرأت فرقة ، منهم ابن كثير وغيره : استكبرت ، بصلة الألف ، وهي قراءة أهل مكة ، وليست في مشهور ابن كثير ، فاحتمل أن تكون همزة الاستفهام حذفت لدلالة أم عليها ، كقوله : بسبع رمين الجمر أم بثمان واحتمل أن يكون إخباراً خاطبه بذلك على سبيل التقريع ، وأم تكون منقطعة ، والمعنى : بل أنت من العالين عند نفسك استخفافاً به .{ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } : تقدم الكلام على ذلك في الأعراف .{ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا } إلى قوله :{ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ } : تقدم الكلام على مثل ذلك في الحجر ، إلا أن هنا { لَعْنَتِى } وهناك { اللَّعْنَةَ } أعم . ألا ترى إلى قوله :{ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللّه وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ } ؟ وأما بالإضافة ، فالعموم في اللعنة أعم ، واللعنات إنما تحصل من جهة أن عليه لعنة اللّه كانت عليه لعنة كل لاعن ، هذا من جهة المعنى ، وأما باللفظ فيقتضي التخصيص .{ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لاَغْوِيَنَّهُمْ } : أقسم إبليس هنا بعزة اللّه ، وقال في الأعراف :{ فِيمَا أَغْوَيْتَنِى لاقْعُدَنَّ } ، وفي الحجر :{ رَبّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى لازَيّنَنَّ} وتقدم الكلام عليهما في موضعهما ، وأن من المفسرين من قال : إن الباء في : بما أغويتني ، وفي : فبما أغويتني ليست باء القسم . فإن كانت باء القسم ، فيكون ذلك في موطئين : فهنا :{ لاَغْوِيَنَّهُمْ } ، وفي الأعراف :{ لاقْعُدَنَّ } ، وفي الحجر :{ لازَيّنَنَّ} وقرأ الجمهور : فالحق ، بنصبهما . أما الأول فمقسم به ، حذف منه الحرف كقوله :{ أمانة اللّه لأقومن } ، والمقسم ٨٥انظر تسفير الآية:٨٨ ٨٦انظر تسفير الآية:٨٨ ٨٧انظر تسفير الآية:٨٨ ٨٨عليه { لاَمْلاَنَّ}{ وَالْحَقَّ أَقُولُ } : اعتراض بين القسم وجوابه . قال الزمخشري : ومعناه : ولا أقول إلا الحق . انتهى ، لأن عنده تقدم المفعول يفيد الحصر . والحق المقسم به إما اسمه تعالى الذي في قوله :{ أَنَّ اللّه هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ } ،أو الذي هو نقيض الباطل . وقيل : فالحق منصوب على الإغراء ، أي فالزموا الحق ، ولأملأن : جواب قسم محذوف . وقال الفراء : هو على معنى قولك : حقاً لا شك ، ووجود الألف واللام وطرحهما سواء ، أي لأملأن جهنم حقاً . انتهى . وهذا المصدر الجائي توكيداً لمضمون الجملة ، لا يجوز تقديمه عند جمهور النحاة ، وذلك مخصوص بالجملة التي جزآها معرفتان جامدتان جموداً محضاً . وقال صاحب البسيط : وقد يجوز أن يكون الخبر نكرة ، قال : والمبتدأ يكون ضميراً نحو : هو زيد معروف ، وهو الحق بيننا ، وأنا الأمير مفتخراً ؛ ويكون ظاهراً كقولك : زيد أبوك عطوفاً ، وأخوك زيد معروفاً . انتهى . وقالت العرب : زيد قائم غير ذي شك ، فجاءت الحال بعد جملة ، والخبر نكرة ، وهي حال مؤكدة لمضمون الجملة ، وكأن الفراء لم يشترط هذا الذي ذكره أصحابنا من كون المبتدأ والخبر معروفين جامدين ، لأنه لا فرق بين تأكيد مضمون الجملة الابتدائية وبين تأكيد الجملة الفعلية . وقيل : التقدير فالحق الحق ، أي افعله . وقرأ ابن عباس ، ومجاهد ، والأعمش : بالرفع فيهما ، فالأول مبتدأ خبره محذوف ، قيل : تقديره فالحق أنا ، وقيل : فالحق مني ، وقيل : تقديره فالحق قسمي ، وحذف كما حذف في : لعمرك لأقومن ، وفي : يمين اللّه أبرح قاعداً ، أي لعمرك قسمي ويمين اللّه قسمي ، وهذه الجملة هي جملة القسم وجوابه : لأملأن . وأما { وَالْحَقَّ أَقُولُ } فمبتدأ أيضاً ، خبره الجملة ، وحذف العائد ، كقراءة ابن عباس :{ وَكُلاًّ وَعَدَ اللّه الْحُسْنَى} و قال ابن عطية : أما الأول فرفع على الابتداء ، وخبره في قوله :{ لاَمْلاَنَّ } ، لأن المعنى : أن أملأ . انتهى . وهذا ليس بشيء ، لأن لأملأن جواب قسم ، ويجب أن يكون جملة ، فلا يتقدر بمفرد . وأيضاً ليس مصدراً مقدراً بحرف مصدري ، والفعل حتى ينحل إليهما ، ولكنه لما صح له إسناد ما قدر إلى المبتدأ ، حكم أنه خبر عنه . وقرأ الحسن ، وعيسى ، وعبد الرحمن بن أبي حماد عن أبي بكر : بجرهم ، ويخرج على أن الأول مجرور بواو القسم محذوفة تقديره : فوالحق ، والحق معطوف عليه ، كما تقول : واللّه واللّه لأقومن ، وأقوال اعتراض بين القسم وجوابه . وقال الزمخشري :{ وَالْحَقَّ أَقُولُ } : أي ولا أقول إلا الحق على حكاية لفظ المقسم به ، ومعناه التوكيد والتسديد ، وهذا الوجه جائز في المنصوب والمرفوع ، وهو وجه دقيق حسن . انتهى . وملخصه أنه أعمل القول في لفظ المقسم به على سبيل الحكاية نصباً أو رفع أو جراً . وقرأ مجاهد ، والأعمش : بخلاف عنهما ؛ وأبان بن تغلب ، وطلحة في رواية ، وحمزة ، وعاصم عن المفضل ، وخلف ، والعبسي : برفع فالحق ونصب والحق ، وتقدم إعرابهما . والظاهر أن قوله :{ أَجْمَعِينَ } تأكيد للمحدث عنه والمعطوف عليه ، وهو ضمير إبليس ومن عطف عليه ، أي منك ومن تابعيك أجمعين . وأجاز الزمخشري أن يكون أجمعين تأكيداً للضمير الذي في منهم ، مقدر لأملأن جهنم من الشياطين وممن تبعهم من جميع الناس ، لا تفاوت في ذلك بين ناس وناس بعد وجود الأتباع منهم من أولاد الأنبياء وغيرهم . انتهى . والضمير في عليه عائد على القرآن ، قاله ابن عباس . وقيل : عائد على الوحي . وقيل : على الدعاء إلى اللّه .{ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلّفِينَ } : أي المتصنعين المتحلين بما ليسوا من أهله ، فانتحل النبوة والقول على اللّه .{ إِنْ هُوَ } : أي القرآن ، { إِلاَّ ذِكْرٌ } : أي من اللّه، { لّلْعَالَمِينَ } : الثقلين الإنس والجن .{ وَلَتَعْلَمُنَّ } : أي عاقبة خبره لمن آمن به ومن أعرض عنه ، { نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ } ، قال ابن عباس وعكرمة وابن زيد : يعني يوم القيامة . وقال قتادة ، والفراء ، والزجاج : بعد الموت . وكان الحسن يقول : يا ابن آدم ، عند الموت يأتيك الخبر اليقين . وقيل : المعنى ليظهرن لكم حقيقة ما أقول . { بَعْدَ حِينِ } : أي في المستأنف ، إذا أخذتكم سيوف المسلمين ، وذلك يوم بدر ، وأشار إلى ذلك السدّي . |
﴿ ٠ ﴾