سورة الزمر

مكية

بسم اللّه الرحمن الرحيم

١

انظر تسفير الآية:٦

٢

انظر تسفير الآية:٦

٣

انظر تسفير الآية:٦

٤

انظر تسفير الآية:٦

٥

انظر تسفير الآية:٦

٦

تنزيل الكتاب من . . . . .

التكوير : اللف واللي ، يقال : كار العمامة على رأسه وكوّرها . خوله النعمة : أي أعطاه ابتداء من غير مجازاة ، ولا يقال في الجراء خول . قال زهير : هنالك إن يستخولوا المال يخولوا

ويروى يستخيلوا المال يخيلوا

وقال أبو النجم :

أعطى فلم يبخل ولم يبخل

كوم الذرى من خول المخول

هاج الزرع : ثار من منابته ،

وقيل : يبس . الحطام : الفتات بعد يبسه . القشعريرة : تقبض الجلد ، يقال : اقشعر جلده من الخوف : وقف شعره ، وهو مثل في شدة الخوف . الشكاسة : سوء الخلق وعسره .

{تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللّه الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ فَاعْبُدِ اللّه مُخْلِصاً لَّهُ الدّينِ أَلاَ للّه الدّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى اللّه زُلْفَى إِنَّ اللّه يَحْكُمُ}

هذه السورة مكية ،

وعن ابن عباس : إلا { اللّه نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ } ، و { قُلْ ياأَهْلَ عِبَادِى الَّذِينَ أَسْرَفُواْ} وعن مقاتل : إلا { قُلْ ياعِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ } ، وقوله :{ قُلْ ياعِبَادِ الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِى هَاذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} وعن بعض السلف : إلا { قُلْ ياعِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ } ، إلى قوله :{ تَشْعُرُونَ } ، ثلاث آيات . وعن بعضهم : إلا سبع آيات ، من قوله :{ قُلْ ياعِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ} ومناسبتها لآخر ما قلبها أنه ختم السورة المتقدمة بقوله :{ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ } ، وبدأ هنا :{ تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللّه الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} وقال الفراء والزجاج :{ تَنزِيلَ } مبتدأ ، و { مِنَ اللّه } الخبر ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أي هذا تنزيل ، ومن اللّه متعلق بتنزيل ؛ وأقول إنه خبر ، والمبتدأ هو ليعود على قوله :{ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ } ، كأنه قيل : وهذا الذكر ما هو فقيل : هو تنزيل الكتاب .

وقال الزمخشري : أو غير صلة ، يعني من اللّه ، كقولك : هذا الكتاب من فلان إلى فلان ، وهو على هذا خبر بعد خبر ، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره : هذا تنزيل الكتاب . هذا من اللّه ، أو حال من تنزيل عمل فيها معنى الإشارة . انتهى . ولا يجوز أن يكون حالاً عمل فيها معنى الإشارة ، لأن معاني الأفعال لا تعمل إذا كان ما هو فيه محذوفاً ، ولذلك ردوا على أبي العباس قوله في بيت الفرزذق :

وإذ ما مثلهم بشر

أن مثلهم منصوب بالخبر المحذوف وهو مقدر ، أي وأن ما في الوجود في حال مماثلتهم بشر . والكتاب يظهر أنه القرآن ، وكرر في قوله :{ إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ } على جهة التفخيم والتعظيم ، وكونه في جملة غير السابقة ملحوظاً فيه إسناده إلى ضمير العظمة وتشريف من أنزل إليه بالخطاب وتخصيصه بالحق .

وقرأ ابن أبي عبلة وزيد بن علي وعيسى : تنزيل بالنصب ، أي اقرأ والزم . و

قال ابن عطية :

قال المفسرون في تنزيل الكتاب هو القرآن ، ويظهر لي أنه اسم عام لجميع ما تنزل من عند اللّه من الكتب ، وكأنه أخبر إخباراً مجرداً أن الكتاب الهادية الشارعة إنما تنزيلها من اللّه ، وجعل هذا الإخبار تقدمة وتوطئة لقوله :{ إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ } ، والعزيز في قدرته ، الحكيم في ابتداعه . والكتاب الثاني هو القرآن ، لا يحتمل

غير ذلك .

وقال الزمخشري :

فإن قلت : ما المراد بالكتاب ؟

قلت : الظاهر على الوجه الأول أنه القرآن ، وعلى الثاني أنه السورة . انتهى . وبالحق في موضع الحال ، أي ملتبساً بالحق ، وهو الصدق الثابت فيما أودعناه من إثبات التوحيد والنبوة والمعاد والتكاليف ، فهذا كله حق وصدق يجب اعتقاده والعمل ، به أو يكون بالحق : بالدليل على أنه من عند اللّه ، وهو عجز الفصحاء عن معارضته . و

قال ابن عطية : أي متضمناً الحق فيه وفي أحكامه وفي أخباره ، أو بمعنى الاستحقاق وشمول المنفعة للعالم في هدايتهم ودعوتهم إلى اللّه . انتهى ملخصاً .

ولما امتن تعالى على رسوله بإنزال الكتاب عليه بالحق ، وكان الحق إخلاص العبادة للّه ، أمره تعالى بعبادته فقال : { فَاعْبُدِ اللّه } ، وكأن هذا الأمر ناشىء عن إنزال الكتاب ، فالفاء فيه للربط ، كما تقول : أحسن إليك زيد فاشكره .{ مُخْلِصاً } : أي ممحضاً ، { لَّهُ الدّينِ } : من الشرك والرياء وسائر ما يفسده .

وقرأ الجمهور : الدين بالنصب .

وقرأ ابن أبي عبلة : بالرفع فاعلاً بمخلصاً ، والراجع لذي الحال محذوف على رأي البصريين ، أي الدين منك ، أو يكون أل عوضاً من الضمير ، أي دينك .

وقال الزمخشري : وحق من رفعه أن يقرأ مخلصاً بفتح اللام ، كقوله تعالى :{ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للّه } ، حتى يطابق قوله :{ أَلاَ للّه الدّينُ الْخَالِصُ } ، والخالص والمخلص واحد ، إلا أن يصف الدين بصفة صاحبه على الإسناد المجازي ، كقولهم : شعر شاعر .

وأما من جعل مخلصاً حالاً من العابد ، وله الدين مبتدأ وخبر ، فقد جاء بإعراب رجع به الكلام إلى قولك : للّه الدين ، أيللّه الدين الخالص . انتهى . وقد قدمنا تخريجه على أنه فاعل بمخلصاً ، وقدرنا ما يربط الحال بصاحبها ، وممن ذهب إلى أن له الدين مستأنف مبتدأ وخبر الفراء .{ أَلاَ للّه الدّينُ الْخَالِصُ } : أي من كل شائبة وكدر ، فهو الذي يجب أن تخلص له الطاعة ، لاطلاعه على الغيوب والأسرار ، ولخلوص نعمته على عباده من غير استجرار منفعة منهم . قال الحسن : الدين الخالص : الإسلام ؛ وقال قتادة : شهادة أن لا إله إلا اللّه .

{وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ } : مبتدأ ، والظاهر أنهم المشركون ، واحتمل أن يكون الخبر قال المحذوف المحكى به قوله :{ مَا نَعْبُدُهُمْ } ،أي والمشركون المتخذون من دون اللّه أولياء قالوا : ما نعبد تلك الأولياء { إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى اللّه زُلْفَى } ، واحتمل أن يكون الخبر :{ إِنَّ اللّه يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ } ، وذلك القول المحذوف في موضع الحال ، أي اتخذوهم قائلين ما نعبدهم . وأجاز الزمخشري أن يكون الخبر { إِنَّ اللّه يَحْكُمُ } ، وقالوا : المحذوفة بدل من اتخذوا صلة الذين ، فلا يكون له موضع من الإعراب ، وكأنه من بدل الاشتمال . وفي مصحف عبد اللّه : قالوا ما نعبدهم ، وبه قرأ هو وابن عباس ومجاهد وابن جبير ، وأجاز الزمخشري أن يكون { وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ } بمعنى المتخذين ، وهم الملائكة وعيسى واللات والعزى ونحوهم ، والضمير في اتخذوا عائد على الموصول محذوف تقديره : والذين اتخذهم المشركون أولياء ، وأولياء مفعول ثان ، وهذا الذي أجازه خلاف الظاهر ، وهذه المقالة شائعة في العرب ، فقال ذلك ناس منهم في الملائكة وناس في الأصنام والأوثان . قال مجاهد : وقد قال ذلك قوم من اليهود في عزيز ، وقوم من النصارى في المسيح . وقرىء : ما نعبدهم بضم النون ، اتباعاً لحركة الباء .

{إِنَّ اللّه يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ } : اقتصر في الرد على مجرد التهديد ، والظاهر أن الضمير في بينهم عائد على المتخذين ، والمتخذين والحكم بينهم هو بإدخال الملائكة وعيسى عليه السلام الجنة ، ويدخلهم النار مع الحجارة والخشب التي نحتوها وعبدوها من دون اللّه ، يعذبهم بها ، حيث يجعلهم وإياها حصب جهنم . واختلافهم أن من عبدوه كالملائكة وعيسى كانوا متبرئين منهم لاعنين لهم موحدين للّه .

وقيل : الضمير في بينهم عائد على المشركين والمؤمنين ، إذا كانوا يلومونهم على عبادة الأصنام فيقولون :{ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى اللّه زُلْفَى } ، والحكم إذ ذاك هو في يوم القيامة بين الفريقين .

{إِنَّ اللّه لاَ يَهْدِى مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ } : كاذب في دعواه أن للّه شريكاً ، كفار لأنعم اللّه حيث ، جعل مكان الشكر الكفر ، والمعنى : لا يهدي من ختم عليه بالموافاة على الكفر فهو عام ، والمعنى على الخصوص : فكم قد هدى من

سبق منه الكذب والكفر .

قال ابن عطية : لا يهدي الكاذب الكافر في حال كذبه وكفره .

وقال الزمخشري : المراد بمنع الهداية : منع اللطف تسجيلاً عليهم بأن لا لطف لهم ، وأنهم في علم اللّه من الهالكين . انتهى ، وهو على طريق الاعتزال .

وقرأ أنس بن مالك ، والجحدري ، والحسن ، والأعرج ، وابن يعمر : كذاب كفار .

وقرأ زيد بن علي : كذوب وكفور .

ولما كان من كذبهم دعوى بعضهم أن الملائكة بنات اللّه ، وعبدوها عقبه بقوله : { لَّوْ أَرَادَ اللّه أَن يَتَّخِذَ وَلَداً } ، تشريفاً له وتبنياً ، إذ يستحيل أن يكون ذلك في حقه تعالى بالتوالد المعروف ، { لاَّصْطَفَى } : أي اختار من مخلوقاته ما يشاء ولداً على سبيل التبني ، ولكنه تعالى لم يشأ ذلك لقوله :{ وَمَا يَنبَغِى لِلرَّحْمَانِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً } ، وهو عام في اتخاذ النسل واتخاذ الاصطفاء . ويدل على أن الاتخاذ هو التبني ، والاصطفاء قوله :{ مِمَّا يَخْلُقُ } : أي من التي أنشأها واخترعها ؛ ثم نزه تعالى نفسه تنزيهاً مطلقاً فقال :{ سُبْحَانَهُ } ، ثم وصف نفسه بالوحدانية والقهر لجميع العالم .

وقال الزمخشري : يعني لو أراد اتخاذ الولد لامتنع ، ولم يصح لكونه محالاً ، ولم يتأت إلا أن يصطفى من خلقه بعضهم ، ويختصهم ويقربهم كما يختص الرجل ولده ويقربه ، وقد فعل ذلك بالملائكة ، فافتتنتم به وغركم اختصاصه إياهم ، فزعمتم أنهم أولاده جهلاً منكم به وبحقيقة المخالفة لحقائق الأجسام والأعراض ، كأنه قال : لو أراد اتخاذ الولد ، لم يزد على ما فعل من اصطفاء ما شاء من خلقه ، وهم الملائكة ، فليس مفهوماً من قوله :{ لَّوْ أَرَادَ اللّه أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاَّصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاء}

ولما نزه تعالى نفسه ووصف ذاته بالوحدة والقهر ، ذكر ما دل على ذلك من اختراع العالم العلوي والسفلي بالحق ، وتكوير الليل والنهار ، وتسخير النيرين وجريهما على نظام واحد ، واتساق أمرهما على ما أراد إلى أجل مسمى ، وهو يوم القيامة ، حيث تخرب بنية هذا العالم فيزول جريهما ، أو إلى وقت مغيبهما كل يوم وليلة ، أو وقت قوايسها كل شهر . والتكوير : تطويل منهما على الآخر ، فكأنه الآخر صار عليه جزء منه . قال ابن عباس : يحمل الليل على النهار . وقال الضحاك : يدخل الزيادة في أحدهما بالنقصان من الآخر . وقال أبو عبيدة : يدخل هذا على هذا .

وقال الزمخشري : وفيه أوجه : منها أن الليل والنهار خلفة ، يذهب هذا ويغشى مكانه هذا ؛ وإذا غشي مكانه فكأنما ألبسه ولف عليه كما يلف على اللابس اللباس ؛ ومنها أن كل واحد منهما يغيب الآخر إذا طرأ عليه ، فشبه في تغييبه إياه بشيء ظاهر لف عليه ما غيبه من مطامح الأبصار ؛ ومنها أن هذا يكر على هذا كروراً متتابعاً ، فشبه ذلك بتتابع أكوار العمامة بعضها على أثر بعض . انتهى .{ أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ } : العزيز الذي لا يغالب ، الغفار لمن تاب ، أو الحليم الذي لا يعجل ، سمى الحلم غفراناً مجازاً .

ولما ذكر ما دل على واحدانيته وقهره ، ذكر الإنسان ، وهو الذي كلف بأعباء التكاليف ، فذكر أنه أوجدنا من نفس واحدة ، وهي آدم عليه السلام ، وذلك أن حواء على ما روي خلقت من آدم ، فقد صار خلقاً من نفس واحدة لوساطة حواء .

وقيل : أخرج ذرية آدم من ظهره كالذر ، ثم خلق بعد ذلك حواء ، فعلى هذا كان خلقاً من آدم بغير واسطة . وجاءت على هذا القول على وضعها ، ثم للمهلة في الزمان ، وعلى القول الأول يظهر أن خلق حواء كان بعد خلقنا ، وليس كذلك . فثم جاء لترتيب الأخبار كأنه قيل : ثم كان من أمره قبل ذلك أن جعل منها زوجها ، فليس الترتيب في زمان الجعل .

وقيل : ثم معطوف على الصفة التي هي واحدة ، أي من نفس وحدت ، أي انفردت .

{ثُمَّ جَعَلَ } ،

قال الزمخشري :

فإن قلت : ما وجه قوله تعالى :{ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } ، وما تعطيه من معنى التراخي ؟

قلت : هما آيتان من

جملة الآيات التي عددها ، دالاً على وحدانيته وقدرته . تشعب هذا الفائت للحصر من نفس آدم وخلق حواء من قصيراه ، إلا أن إحداهما جعلها اللّه عادة مستمرة ، والأخرى لم تجربها العادة ، ولم تخلق أنثى غير حواء من رجل ، فكانت أدخل في كونها آية ، وأجلب لعجب السامع ، فعطفها بثم على الآية الأولى ، للدلالة على مباينتها فضلاً ومزية ، وتراخيها عنها فيما يرجع إلى زيادة كونها آية ، فهو من التراخي في الحال والمنزلة ، لا من التراخي في الوجود . انتهى .

وأما { ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } ، فقد تقدّم الكلام على هذا الجعل في أول سورة النساء ، ووصف الأنعام بالإنزال مجازاً ما ، لأن قضاياه توصف بالنزول من السماء ، حيث كتب في اللوح : كل كائن يكون

وأما لعيشها بالنبات والنبات ناشىء عن المطر والمطر نازل من السماء فكأنه تعالى أنزلها ، فيكون مثل قول الشاعر :

أسنمة الا بال في ربابه

أي : في سحابه ، وقال آخر :

صار الثريد في رؤوس العيدان

وقيل : خلقها في الجنة ثم أنزلها ، فعلى هذا يكون إنزال أصولها حقيقة . والأنعام : الإبل والبقر والضأن والمعز ، { ثَمَانِيَةَ أَزْواجٍ } ، لأن كلاً منها ذكر وأنثى ، والزوج ما كان معه آخر من جنسه ، فاذا انفرد فهو فرد ووتر .

وقال تعالى :{ فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالاْنثَى}

قال ابن زيد :{ خَلْقاً مّن بَعْدِ خَلْقٍ } : آخر من ظهر آدم وظهور الآباء . وقال عكرمة ومجاهد والسدي : رتبا { خَلْقاً مّن بَعْدِ خَلْقٍ } على المضغة والعلقة وغير ذلك . وأخذه الزمخشري فقال : حيواناً سوياً ، من بعد عظام مكسوة لحماً ، من بعد عظام عارية ، من بعد مضغ ، من بعد علق ، من بعد نطف . انتهى .

وقرأ عيسى وطلحة : يخلقكم ، بإدغام القاف في الكاف ، والظلمات الثلاث : البطن والرحم والمشيمة ،

وقيل : الصلب والرحم والبطن .{ ذالِكُمْ } : إشارة إلى المتصف بتلك الأوصاف السابقة من خلق السموات وما بعد ذلك من الأفعال .{ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ } : أي كيف تعدلون عن عبادته إلى عبادة غيره ؟

٧

{إِن تَكْفُرُواْ } ، قال ابن عباس : خطاب للكفار الذين لم يرد اللّه أن يطهر قلوبهم . وعباده : هم المؤمنون ، ويؤيده قوله قبله :{ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ } ، وهذا للكفار ، فجاء { إِن تَكْفُرُواْ } خطاباً لهم ، { فَإِنَّ اللّه غَنِىٌّ عَنكُمْ } ، وعن عبادتكم ، إذ لا يرجع إليه تعالى منفعة بكم ولا بعبادتكم إذ هو الغني المطلق .

قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون مخاطباً لجميع الناس ، لأنه تعالى غني عن جميعهم ، وهم فقراء إليه . انتهى . ولفظ عباده عام ، فقيل : المراد الخصوص ، وهم الملائكة ومؤمنو الإنس والجن . والرضا بمعنى الإرادة ، فعلى هذا صفة ذات .

وقيل : المراد العموم ، كما دل عليه اللفظ ، والرضا مغاير للإرادة ، عبر به عن الشكر والإثابة ، أي لا يشكره لهم ديناً ولا يثيبهم به خيراً ، فالرضا على هذا صفة فعل بمعنى القبول والأثابة .

قال ابن عطية : وتأمل الإرادة ، فإن حقيقتها إنما هي فيما لم يقع بعد ، والرضا حقيقته إنما هو فيما قد وقع ، واعتبر هذا في آيات القرآن تجده ، وإن كانت العرب قد تستعمل في أشعارهم على جهة التجوز هذا بدل هذا .

وقال الزمخشري : ولقد تمحل بعض الغواة ليثبت للّه ما نفاه عن ذاته من الرضا لعباده الكفر ، فقال : هذا من العام الذى أريد به الخاص ، وما أراد إلا عباده الذين عناهم في قوله :{ إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } ، يريد

المعصومين لقوله : { عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللّه } ، تعالى اللّه عما يقول الظالمون . انتهى . فسمى عبد اللّه بن عباس ترجمان القرآن وأعلام أهل السنة بعض الغواة ، وأطلق عليهم اسم الظالمين ، وذلك من سفهه وجرأته ، كما قلت في قصيدتي التي ذكرت فيها ما ينقد عليه : ويشتم أعلام الأئمة ضلة

ولا سيما إن أو لجوه المضايقا

{وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ } ، قال ابن عباس : يضاعف لكم ، وكأنه يريد ثواب الشكر ؛

وقيل : يقبله منكم . قال صاحب التحرير : قوة الكلام تدل على أن معنى تشكروا : تؤمنوا حتى يصير بإزاء الكفر ، واللّه تعالى قد سمى الأعمال الصالحة والطاعات شكراً في قوله :{ اعْمَلُواْ ءالَ دَاوُودُ شَاكِراً} انتهى . وتقدم الكلام على هذه الآية في سبأ .

وقرأ النحويان ، وابن كثير : يرضه بوصل ضمة الهاء بواو ؛ وابن عامر وحفص : بضمة فقط ؛ وأبو بكر : بسكون الهاء ، قال أبو حاتم : وهو غلط لا يجوز . انتهى . وليس بغلط ، بل ذلك لغة لبني كلاب وبني عقيل . وقوله :{ وَلاَ تَزِرُ } إلى :{ بِذَاتِ الصُّدُورِ } ، تقدم الكلام عليه .

٨

انظر تسفير الآية:١٦

٩

انظر تسفير الآية:١٦

١٠

انظر تسفير الآية:١٦

١١

انظر تسفير الآية:١٦

١٢

انظر تسفير الآية:١٦

١٣

انظر تسفير الآية:١٦

١٤

انظر تسفير الآية:١٦

١٥

انظر تسفير الآية:١٦

١٦

الظاهر أن الإنسان هنا جنس الكافر ،

وقيل : معين ، كعتبة بن ربيعة . ويدخل في الضر جميع المكاره في جسم أو أهل أو مال .{ دَعَا رَبَّهُ } : استجار ربه وناداه ، ولم يؤمل في كشف الضر سواه ، { مُنِيباً إِلَيْهِ } : أي راجعاً إليه وحده في إزالة ذلك .{ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ } : أناله وأعطاه بعد كشف ذلك الضر عنه . وحقيقة خوله أن يكون من قولهم : هو خائله ، قال : إذا كان متعهداً حسن القيام عليه ، أو من خال يخول ، إذا إختال وافتخر ، وتقول العرب :

إن الغني طويل الذيل مياس

{نَسِىَ مَا كَانَ يَدْعُو } : أي ترك ، والظاهر أن ما بمعنى الذي ، أي نسى الضر الذي كان يدعو اللّه إلى كشفه .

وقيل : ما بمعنى من ، أي نسي ربه الذي كان يتضرع إليه ويبتهل في كشف ضره .

وقيل : ما مصدرية ، أي نسي كونه يدعو .

وقيل : تم الكلام عند قوله :{ نَسِىَ } ،أي نسي ما كان فيه من الضر . وما نافية ، نفى أن يكون دعاء هذا الكافر خالصاً للّه مقصوراً من قبل الضرر ، وعلى الأقوال السابقة .{ مِن قَبْلُ } : أي من قبل تخويل النعمة ، وهو زمان الضرر .{ وَجَعَلَ للّه أَندَاداً } : أي أمثالاً يضاد بعضها بعضاً ويعارض . قال قتادة : أي من الرجال يطيعونهم في المعصية . وقال غيره : أوثاناً ، وهذا من سخف عقولهم . حين مسى الضر دعوا اللّه ولم يلتجئوا في كشفه إلا إليه ؛ وحين كشف ذلك وخول النعمة أشركوا به ، فاللام لام العلة ،

وقيل : لام العاقبة .

وقرأ الجمهور :{ لِيُضِلَّ } ، بضم الياء : أي ما اكتفى بضلال نفسه حتى جعل غيره يضل .

وقرأ ابن كثير ، وأبو عمر ، وعيسى : بفتحها ، ثم أتى بصيغة الأمر فقال :{ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً } : أي تلذذوا صنع ما شئت قليلاً ، أي عمراً قليلاً ، والخطاب للكافر جاعل الأنداد للّه .{ إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ } : أي من سكانها المخلدين فيها .

وقال الزمخشري : وقوله { تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ } ،أي من باب الخذلان والتخلية ، كأنه قيل له : إذ قد أبيت قبل ما أمرت به من الإيمان والطاعة ، فمن حقك أن لا تؤمر به بعد ذلك . ويؤمر بتركه مبالغة خذلانه وتخليته وشأنه ، لأنه لا مبالغة في الخذلان أشد من أن يبعث على عكس ما أمروا به ، ونظيره في المعنى :{ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} انتهى .

ولما شرح تعالى شيئاً من أحوال الظالمين الضالين المشركين ، أردفه بشرح أحوال المهتدين الموحدين فقال :{ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ}

وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وحمزة ، والأعمش ، وعيسى ، وشيبة ، والحسن في رواية : أمن ، بتخفيف الميم . والظاهر أن الهمزة لاستفهام التقرير ، ومقابله محذوف لفهم المعنى ، والتقدير : أهذا القانت خير أم الكافر المخاطب بقوله { قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ } ؟ ويدل عليه قوله :{ قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} ومن حذف المقائل قول الشاعر : دعاني إليها القلب إني لأمرها

سميع فما أدري أرشد طلابها

تقديره : أم غيّ . وقال الفراء : الهمزة للنداء ، كأنه قيل : يا من هو قانت ، ويكون قوله قل خطابا له ، وهذا القول أجنبي مما قبله وما بعده . وضعف هذا القول أبو علي الفارسي ، ولا التفات لتضعيف الأخفش وأبي حاتم هذه القراءة .

وقرأ باقي السبعة ، والحسن ، وقتادة ، والأعرج ، وأبو جعفر : أمّن ، بتشديد الميم ، وهي أم أدغمت ميمها في ميم من ، فاحتملت أم أن تكون متصلة ومعادلها محذوف قبلها تقديره : أهذا الكافر خير أم من هو قانت ؟ قال معناه الأخفش ، ويحتاج مثل هذا التقدير إلى سماع من العرب ، وهو أن يحذف المعادل الأول . واحتملت أم أن تكون منقطعة تتقدر ببل ، والهمزة والتقدير : بل أم من هو قانت صفته كذا ، كمن ليس كذلك . وقال النحاس : أم بمعنى بل ، ومن بمعنى الذي ، والتقدير : بل الذي هو قانت أفضل ممن ذكر قبله . انتهى . ولا فضل لمن قبله حتى يجعل هذا أفضل ، بل يقدر الخبر من أصحاب الجنة ، يدل عليه مقابله :{ إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} والقانت : المطيع ، قاله ابن عباس ، وتقدم الكلام في القنوت في البقرة .

وقرأ الجمهور :{ سَاجِداً وَقَائِماً } ، بالنصب على الحال ؛ والضحاك : برفعهما إما على النعت لقانت ،

وإما على أنه خبر بعد خبر ، والواو للجمع بين الصفتين .{ يَحْذَرُ الاْخِرَةَ } : أي عذاب الآخرة ، { مِن رَّحْمَةِ رَبّهِ } : أي حصولها ،

وقيل : نعيم الجنة ، وهذا المتصف بالقنوت إلى سائر الأوصاف ، قال مقاتل : عمار ، وصهيب ، وابن مسعود ، وأبو ذر .

وقال ابن عمر : عثمان .

وقال ابن عباس في رواية الضحاك : أبو بكر وعمر . وقال يحيى بن سلام : رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. والظاهر أنه من اتصف بهذه الأوصاف من غير تعيين . وفي الآية دليل على فضل قيام الليل ، وأنه أرجح من قيام النهار .

ولما ذكر العمل ذكر العلم فقال :{ قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } ، فدل أن كمال الإنسان محصور في هذين المقصودين ، فكما لا يستوي هذان ، كذلك لا يستوي المطيع والعاصي . والمراد بالعلم هنا : ما أدى إلى معرفة اللّه ونجاة العبد من سخطه .

وقرأ : يذكر ، بإدغام تاء يتذكر في الذال .{ قُلْ ياأَهْلَ عِبَادِ الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ } ، وروي أنها نزلت في جعفر بن أبي طالب وأصحابه حين عزموا عن الهجرة إلى أرض الحبشة ، وعدهم تعالى فقال :{ لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِى هاذِهِ الْدُّنْيَا حَسَنَةٌ} والظاهر تعلق في هذه بأحسنوا ، وأن المحسنين في الدنيا لهم في الآخرة حسنة ، أي حسنة عظيمة ، وهي الجنة ، قاله مقاتل ، والصفة محذوفة يدل عليها المعنى ، لأن من أحسن في الدنيا لا يوعد أن يكون له في الآخرة مطلق حسنة . وقال السدي : في

هذه من تمام حسنة ، أي ولو تأخر لكان صفة ، أي الذين يحسنون لهم حسنة كائنة في الدنيا . فلما تقدم انتصب على الحال ، والحسنة التي لهم في الدنيا هي العافية والظهور وولاية اللّه تعالى .

ثم حض على الهجرة فقال : { وَأَرْضُ اللّه وَاسِعَةٌ } ،كقوله :{ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّه واسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا } ،أي لا عذر للمفرطين البتة ، حتى لو اعتلوا بأوطانهم ، وأنهم لا يتمكنون فيها من أعمال الطاعات ، قيل لهم : إن بلاد اللّه كثيرة واسعة ، فتحولوا إلى الأماكن التي تمكنكم فيها الطاعات . وقال عطاء : وأرض اللّه : المدينة للّهجرة ، قيل : فعلى هذا يكون أحسنوا : هاجروا ، وحسنة : راحة من الأعداء . وقال قوم : أرض اللّه هنا : الجنة .

قال ابن عطية : وهذا القول تحكم ، لا دليل عليه . انتهى . وقال أبو مسلم : لا يمتنع ذلك ، لأنه تعالى أمر المؤمنين بالتقوى ؛ ثم بين أنه من اتقى له في الآخرة الحسنة ، وهي الخلود في الجنة ؛ ثم بين أن أرض اللّه واسعة لقوله :{ وَأَوْرَثَنَا الاْرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء } ، وقوله :{ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}

ولما كانت رتبة الإحسان منتهى الرتب ، كما جاء : ما الإحسان ؟ قال : أن تعبد اللّه كأنك تراه . وكان الصبر على ذلك من أشق الأشياء ، وخصوصاً من فارق وطنه وعشيرته وصبر على بلاء الغربة . ذكر أن الصابرين يوفون أجورهم بغير حساب ، أي لا يحاسبون في الآخرة ، كما يحاسب غيرهم ؛ أو يوفون ما لا يحصره حساب من الكثرة .{ قُلْ إِنّى أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللّه مُخْلِصاً لَّهُ الدّينَ } : أمره تعالى أن يصدع الكفار بما أمر به من عبادة اللّه ، يخلصها من الشوائب ، { وَأُمِرْتُ } : أي أمرت بما أمرت ، لأكون أول من أسلم ، أي انقاد للّه تعالى ، ويعني من أهل عصره أو من قومه ، لأنه أول من حالف عباد الأصنام ، أو أول من دعوتهم إلى الإسلام إسلاماً ، أو أول من دعا نفسه إلى ما دعا إليه غيره ، لأكون مقتدى بي قولاً وفعلاً ، لا كالملوك الذين يأمرون بما لا يفعلون ، أو أن أفعل ما أستحق به الأولية من أعمال السابقين دلالة على السبب بالمسبب .

وقال الزمخشري :

فإن قلت : كيف عطف أمرت على أمرت وهما واحد ؟

قلت : ليسا بواحد لاختلاف جهتيهما ، وذلك أن الأمر بالإخلاص وتكليفه شيء ، والأمر به لتحرز به قصب السبق في الدين شيء . وإذا اختلف وجها الشيء وصفتاه ينزل بذلك منزلة شيئين مختلفين ، ولك أن تجعل اللام مزيدة مثلها في أردت ، لأن أفعل لا تزاد إلا مع أن خاصة دون الاسم الصريح ، كأنها زيدت عوضاً من ترك الأصل إلى ما يقوم مقامه ، كما عوض السين في اسطاع عوضاً من ترك الأصل الذي هو أطوع . والدليل على هذا الوجه مجيئه بغير لام في قوله :{ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} انتهى . ويحتمل في أن أكون في ثلاثة المواضع أصله لأن أكون ، فيكون قد حذفت اللام ، والمأمور به محذوف ، وهو المصرح به هنا { إِنّى أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللّه}{ قُلْ إِنّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } : تقدّم الكلام على هذه الجملة مقول القول في سورة يونس .

لما أمره أولاً أن يخبر بأنه أمر بعبادة اللّه ، أمر ثانياً أن يخبر بأنه يعبد اللّه وحده . وتقديم الجلالة دال على الاهتمام بمن يعبد ، وعند الزمخشري يدل على الاختصاص ، قال : ولدلالته على ذلك ، قدم المعبود على فعل العبادة ، وأخره في الأول . فالكلام أولاً واقع في الفعل في نفسه وإيجاده ، وثانياً فيمن يفعل الفعل لأجله ، ولذلك رتب عليه قوله :{ فَاعْبُدُواْ مَا شِئْتُمْ مّن دُونِهِ} والمراد بهذا الأمر الوارد على وجه التخيير المبالغة في الخذلان والتخلية . انتهى . وقال غيره :{ فَاعْبُدُواْ مَا شِئْتُمْ } : صيغة أمر على جهة التهديد لقوله :{ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ}{ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ } : أي حقيقة الخسران ، { الَّذِينَ خَسِرُواْ } : أي هم الذين خسروا أنفسهم ، حيث صاروا من أهل النار ، وأهليهم الذين كانوا معهم في الدنيا ، حيث كانوا معهم في النار ، فلم ينتفعوا منهم بشيء ، وإن كان أهلوهم قد آمنوا ، فخسرانهم إياهم كونهم لا يجتمعون بهم ولا يرجعون إليهم . وقال قتادة : كأن اللّه قد أعد لهم أهلاً في الجنة فخسروهم ، وقال معناه ميمون بن مهران . وقال الحسن : هي الحور العين ، ثم ذكر ذلك الخسران وبالغ فيه في التنبيه عليه أولاً ، والإشارة إليه ، وتأكيده بالفعل ، وتعريفه بأل ، ووصفه بأنه المبين : أي الواضح لمن تأمله أدنى تأمل .

ولما ذكر خسرانهم أنفسهم وأهليهم ، ذكر حالهم في جهنم ، وأنه من فوقهم ظلل ومن تحت أرجلهم ظلل ، فيظهر أن النار تغشاهم من فوقهم ومن تحتهم ، وسمى ما تحتهم ظللاً لمقابلة ما فوقهم ، كما قال :{ يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ } ، وقال لهم :{ مّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ }

وقيل : هي ظلل للذين هم تحتهم ، إذ النار طباق .

وقيل : إنما تحتهم يلتهب ويتصاعد منه شيء حتى يكون ظلة ، فسمي ظلة باعتبار ما آل إليه أخيراً .{ ذالِكَ } : أي ذلك العذاب ، يخوف اللّه به عباده : ليعلموا ما يخلصكم منه ، ثم ناداهم وأمرهم فقال :{ قَلِيلاً وَإِيَّاىَ فَاتَّقُونِ } : أي اتقوا عذابي .

١٧

انظر تسفير الآية:١٨

١٨

قال ابن زيد : نزلت { وَالَّذِينَ اجْتَنَبُواْ الطَّاغُوتَ } في زيد بن عمرو بن نفيل وسلمان وأبي ذر . وقال ابن إسحاق : الإشارة بها إلى عبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وقاص ، وسعيد بن زيد ، والزبير ، وذلك أنه لما أسلم أبو بكر ، سمعوا ذلك فجاؤوه وقالوا : أسلمت ؟ قال : نعم ، وذكرهم باللّه ، فآمنوا بأجمعهم ، فنزلت فيهم ، وهي محكمة في الناس إلى يوم القيامة . والطاغوت : تقدم الكلام عليها في البقرة .

وقرأ الحسن : الطواغيت جمعاً .{ أَن يَعْبُدُوهَا } : أي عبادتها ، وهو بدل اشتمال .{ لَهُمُ الْبُشْرَى } : أي من اللّه تعالى بالثواب .{ فَبَشّرْ عِبَادِ } : هم المجتنبون الطاغوت إلى اللّه . وضع الظاهر موضع المضمر ليدل على أنهم هم ، وليترتب على الظاهر الوصف ، وهو :{ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ } ، وهو عام في جميع الأقوال ، { فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } : ثناء عليهم بنفوذ بصائرهم وتمييزهم الأحسن ، فإذا سمعوا قولاً تبصروه . قيل : وأحسن القول : القرآن وما يرجع إليه .

وقيل : القول : القرآن ، وأحسنه : ما فيه من صفح وعفو واحتمال ونحو ذلك . وقال قتادة : أحسن القول طاعة اللّه .

وعن ابن عباس : هو الرجل يجلس مع القوم ، فيسمع الحديث فيه محاسن مساو ، وفيحدث بأحسن ما سمع ، ويكف عن ما سواه . و { الَّذِينَ } : وصف لعباد .

وقيل : الوقف على عباد ، والذين مبتدأ خبره أولئك وما بعده .

١٩

انظر تسفير الآية:٢١

٢٠

انظر تسفير الآية:٢١

٢١

{أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ } : قيل نزلت في أبي جهل ، أي نفذ عليه الوعيد بالعذاب . والظاهر أنها جملة مستقلة ، ومن موصولة مبتدأ ، والخبر محذوف ، فقيل تقديره : يتأسف عليه ،

وقيل : يتخلص منه . وقدره الزمخشري : فأنت تخلصه ، قال : حذف لدلالة أفأنت تنفذ عليه ؟ وقدر الزمخشري بين الهمزة والفاء جملة حتى تقر الهمزة في مكانها والفاء في مكانها ، فقال : التقدير : أأنت مالك أمرهم ؟ فمن حق عليه كلمة العذاب ، وهو قول انفرد به فيما علمناه . والذي تقوله النحاة أن الفاء للعطف وموضعها التقديم على الهمزة ، لكن الهمزة ، لما كان لها صدر الكلام ، قدمت ، فالأصل عندهم : فأمن حق عليه ، وعلى القول أنها جملة مستقلة يكون قوله :{ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِى النَّارِ } ، استفهام توقيف ، وقدم فيه الضمير إشعاراً بأنك لست تقدر أن تنقذه من النار ، بل لا يقدر على ذلك أحد إلا اللّه . وذهبت فرقة ، منهم الحوفي والزمخشري ، إلى أن من شرطية ، وجواب الشرط أفأنت ، فالفاء فاء الجواب دخلت على جملة الجزاء ، وأعيدت الهمزة لتوكيد معنى الإنكار والاستبعاد ، ووضع من في النار ، وهو ظاهر ، موضع المضمر ، إذ كان الأصل تنقذه ، وإنما أظهر تشهيراً لحالهم وإظهاراً لخسة منازلهم . قال الحوفي :

وجيء بألف الاستفهام لما طال الكلام توكيداً ، ولولا طوله ، لم يجز الإتيان بها ، لأنه لا يصلح في العربية أن يأتي بألف الاستفهام في الاسم ، وألف أخرى في الجزاء . ومعنى الكلام : أفأنت تنقذه ؟ انتهى . وعلى هذا القول ، يكون قد اجتمع استفهام وشرط على قول الجماعة أن الهمزة قدمت من تأخر ، فيجيء الخلاف بين سيبويه ويونس : هل الجملة الأخيرة هي للمستفهم عنها أو هي جواب الشرط ؟ وعلى تقدير الزمخشري : لم تدخل الهمزة على اسم الشرط ، فلم يجتمع استفهام وشرط ، لأن الاستفهام عنده دخل على الجملة المحذوفة عنده ، وهو : أأنت مالك أمرهم ؟ وفمن معطوف على تلك الجملة المحذوفة ، عطفت جملة الشرط على جملة الاستفهام ، ونزل استحقاقهم العذاب ، وهم في الدنيا بمنزلة دخولهم النار ، ونزل اجتهاد الرسول عليه السلام في دعائهم إلى الإيمان منزلة انقاذهم من النار .

ولما ذكر حال الكفار في النار ، وأن الخاسرين لهم ظلل ، ذكر حال المؤمنين ، وناسب الاستدراك هنا ، إذ هو واقع بين الكافرين والمؤمنين ، فقال : { لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ} ففي ذلك حض على التقوى ، لهم علالي مرتفعة فوقها علالي مبنية ، أي بناء المنازل التي سويت على الأرض . والضمير في { مِن تَحْتِهَا } عائد على الجمعين ، أي من تحت الغرف السفلى والغرف العليا ، لا تفاوت بين أعلاها وأسفلها وانتصب { وَعَدَ اللّه } على المصدر المؤكد لمضمون الجملة قبله ، إذ تضمنت معنى الوعد .{ أَلَمْ تَرَ } : خطاب وتوقيف للسامع على ما يعتبر به من أفعال اللّه الدالة على فناء الدنيا واضمحلالها .{ فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ } : أي أدخله مسالك وعيوناً . والظاهر أن ماء العيون هو من ماء المطر ، تحبسه الأرض ويخرج شيئاً فشيئاً .{ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً } ، ذكر منته تعالى علينا بما تقوم به معيشتنا .{ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ } : من أحمر وأبيض وأصفر ، وشمل لفظ الزرع جميع ما يرزع من مقتات وغيره ، أو مختلفاً أصنافه من بر وشعير وسمسم وغير ذلك .{ ثُمَّ يَهِيجُ } : يقارب الثمار ، { فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً } : أي زالت خضرته ونضارته .

وقرأ أبو بشر : ثم يجعله ، بالنصب في اللام . قال صاحب الكامل وهو ضعيف . انتهى .{ إِنَّ فِى ذَلِكَ } : أي فيما ذكر من إنزال المطر وإخراج الزرع به وتنقلاته إلى حالة ، الحطامية ، { لِذِكْرِى } : أي لتذكرة وتنبيهاً على حكمة فاعل ذلك وقدرته .

٢٢

{أَفَمَن شَرَحَ اللّه صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ } : نزلت في حمزة ، وعلى ومن مبتدأ ، وخبره محذوف يدل عليه { فَوَيْلٌ لّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ } تقديره : كالقاسي المعرض عن الإسلام ، وأبو لهب وابنه كاتا من القاسية قلوبهم ، وشرح الصدر استعارة عن قبوله للإيمان والخير والنور والهداية . وفي الحديث : { كيف انشراح الصدور ؟ قال : إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح ، قلنا : وما علامة ذلك ؟ قال : الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والتأهب للموت قبل الموت} .{ فَوَيْلٌ لّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مّن ذِكْرِ اللّه } : أي من أجل ذكره ، أي إذا ذكر اللّه عندهم قست قلوبهم . وقال مالك بن دينار : ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة قلب .{ أُوْلَائِكَ } : أي القاسية قلوبهم ، { فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ } : أي في حيرة واضحة ، لا تخفى على من تأملها .

٢٣

انظر تسفير الآية:٣١

٢٤

انظر تسفير الآية:٣١

٢٥

انظر تسفير الآية:٣١

٢٦

انظر تسفير الآية:٣١

٢٧

انظر تسفير الآية:٣١

٢٨

انظر تسفير الآية:٣١

٢٩

انظر تسفير الآية:٣١

٣٠

انظر تسفير الآية:٣١

٣١

{اللّه نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ}

عن ابن عباس ، أن قوماً من الصحابة قالوا : يا رسول اللّه ، حدثنا بأحاديث حسان ، وبأخبار الدهر ، فنزل :{ اللّه نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} وعن ابن مسعود ، أن الصحابة ملؤوا مكة ، فقالوا له : حدثنا ، فنزلت . والابتداء باسم اللّه ، وإسناد نزل

لضميره مبنياً عليه فيه تفخيم للمنزل ورفع منه ، كما تقول : الملك أكرم فلاناً ، هو أفخم من : أكرم الملك فلاناً . وحكمة ذلك البداءة بالأشراف من تذكر ما تسند إليه ، وهو كثير في القرآن ، كقوله : { اللّه يَصْطَفِى مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً } /

و { وكتاباً } بدل من { نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ}

وقال الزمخشري : ويحتمل أن يكون حالاً . انتهى . وكان بناء على أن { أَحْسَنَ الْحَدِيثِ } معرفة لإضافته إلى معرفة . وأفعل التفضيل ، إذا أضيف إلى معرفة ، فيه خلاف . فقيل : إضافته محضة ،

وقيل : غير محضة . و { مُّتَشَابِهاً } : مطلق في مشابهة بعضه بعضاً . فمعانيه متشابهة ، لا تناقض فيها ولا تعارض ، وألفاظه في غاية الفصاحة والبلاغة والتناسب ، بحيث أعجزت العظماء والبلغاء .

وقرأ الجمهور :{ مَّثَانِيَ } ، بفتح الياء ؛ وهشام ، وابن عامر ، وأبو بشر : بسكون الياء ، فاحتمل أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، واحتمل أن يكون منصوباً ، وسكن الياء على قول من يسكن الياء في كل الأحوال ، لانكسار ما قبلها استثقالا للحركة عليها . ومثاني يظهر أنه جمع مثنى ، ومعناه : موضع تثنية القصص والأحكام والعقائد والوعد والوعيد .

وقيل : يثني في الصلاة بمعنى : التكرير والأعادة . انتهى . ووصف المفرد بالجمع ، لأن فيه تفاصيل ، وتفاصيل الشيء جملته . ألا ترى أنك تقول : القرآن سور وآيات ؟ فكذلك تقول : أحكام ومواعظ مكررات ، وأصله كتاباً متشابهاً فصولاً مثاني ، حذف الموصوف وأقيمت صفته مقامه . وأجاز الزمخشري أن يكون من باب برمة أعشار وثوب أخلاق ، وأن يكون تمييزاً عن متشابهاً ، فيكون منقولاً من الفاعل ، أي متشابهاً مثانية . كما تقول : رأيت رجلاً حسناً شمائل ، وفائدة تثنيته وتكرره رسوخه في النفوس ، إذ هي أنفر شيء عن سماع الوعظ والنصيحة . والظاهر حمل القشعريرة على الحقيقة ، إذ هو موجود عند الخشية ، محسوس يدركه الإنسان من نفسه ، وهو حاصل من التأثر القلبي .

وقيل : هو تمثيل تصوير لإفراط خشيتهم ، والمعنى : أنه حين يسمعونه يتلي ما فيه من آيات الوعيد ، عرتهم خشية تنقبض منها جلودهم .

ثم إذا ذكروا للّه ورحمته لانت جلودهم ، أي زال عنها ذلك التقبض الناشىء عن خشية القلوب بزوال الخشية عنها ، وضمن تلين معنى تطمئن جلودهم لينة غير منقبضة ، وقلوبهم راجية غير خاشية ، ولذلك عداه بإلى . وكان في ذكر القلوب في هذه الجملة دليل على تأثرها عند السماع ، فاكتفى بقشعريرة الجلود عن ذكر خشية القلوب لقيام المسبب مقام السبب . فلما ذكر اللين ذكرهما ، وفي ذكر اللين دليل على المحذوف الذي هو رحمة اللّه ، كما كان في قوله :{ إِذَا ذُكِرَ اللّه وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } ، دليل بقوله :{ وَجِلَتْ } عن ذكر المحذوف ، أي إذا ذكر وعيد اللّه وبطشه . وقال العباس بن عبد المطلب : قال النبي عليه السلام : { من اقشعر جلده من خشية اللّه تحاتت عنه ذنوبه كما يتحات عن الشجرة اليابسة ورقها} .

وقال ابن عمر : وقد رأى ساقطاً من سماع القرآن فقال : إنا لنخشى اللّه ، وما نسقط هؤلاء يدخل الشيطان في جوف أحدهم . وقالت أسماء بنت أبي بكر : كان أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم عند سماع القرآن ، قيل لها : إن قوماً اليوم إذا اسمعوا القرآن خر أحدهم مغشياً عليه ، فقالت : أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم . وقال ابن سيرين : بيننا وبين هؤلاء الذين بصرعون عند قراءة القرآن أن يجعل أحدهم على حائط باسطاً رجليه ، ثم يقرأ عليه القرآن كله ، فإن رمى بنفسه فهو صادق . والإشارة بذلك إلى الكتاب ، أو إلى ذينك الوصفين من الاقشعرار واللين ، أي أثر هدى اللّه .{ أَفَمَن يَتَّقِى } : أي يستقبل ، كما قال الشاعر : سقط النصيف ولم ترد إسقاطه

فتناولته واتقتنا باليد

أي : استقبلتنا بيدها لتقي بيدها وجهها أن يرى . والظاهر حمل بوجهه على حقيقته . لما كان يلقي في النار مغلولة

يداه إلى رجليه مع عنقه ، لم يكن له ما يتقي به النار إلا وجهه . قال مجاهد : يجر على وجهه في النار ، ويجوز أن يعبر بالوجه عن الجملة .

وقيل : المعنى وصف كثرة ما ينالهم من العذاب ، يتقيه أولاً بجوارحه ، فيتزيد حتى يتقيه بوجهه الذي هو أشرف جوارحه ، وفيه جواب ، وهو غاية العذاب .

قال ابن عطية : وهذا المعنى عندي أبين بلاغة . في هذا المضمار يجري قول الشاعر : يلقي السيوف بوجهه وبنحره

ويقيم هامته مقام المغفر

لأنه إنما أراد عظم جرأته عليها ، فهو يلقاها بكل مجن ، وبكل شيء عنه ، حتى بوجهه وبنحره . انتهى . و { سُوء الْعَذَابِ } : أشده ، وخبر من محذوف قدره الزمخشري : كمن أمن العذاب ، وابن عطية : كالمنعمين في الجنة .{وَقِيلَ لِلظَّلِمِينَ } : أي قال ذلك خزنة النار ، { ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ } : أي وبال ما كنتم { تَكْسِبُونَ } من الأعمال السيئة .{ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } : تمثيل لقريش بالأمم الماضية ، وما آل إليه أمرهم من الهلاك .{ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } : من الجهة التي لا يشعرون أن العذاب يأتيهم من قبلها ، ولا يخطر ببالهم أن الشر يأتيهم منها . كانوا في أمن وغبطة وسرور ، فإذا هم معذبون مخزيون ذليلون في الدنيا من ممسوخ ومقتول ومأسور ومنفي . ثم أخبر أن ما أعدلهم في الآخرة أعظم . وانتصب { قُرْءاناً عَرَبِيّاً } على الحال ، وهي حال مؤكدة ، والحال في الحقيقة هو عربياً ، وقرآنا توطئة له .

وقيل : انتصب على المدح ، ونفى عنه العوج ، لأنه مستقيم يرى من الاختلاف والتناقض . وقال عثمان بن عفان : غير مضطرب .

وقال ابن عباس : غير مختلف . وقال مجاهد : غير ذي لبس . وقال السدي : غير مخلوق .

وقيل : غير ذي لحن .

قال الزمخشري :

فإن قلت : فهلا قيل مستقيماً أوغير معوج ؟

قلت : فيه فائدتان :

إحدهما : نفى أن يكون فيه عوج قط ، كما قال :{ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا}

والثاني : أن لفظ العوج مختص بالمعاني دون الأعيان .

وقيل : المراد بالعوج : الشك واللبس ، وأنشد : وقد أتاك يقيناً غير ذي عوج

من الإله وقول غير مكذوب

انتهى . ولما ذكر تعالى أنه ضرب في القرآن { مِن كُلّ مَثَلٍ } : أي محتاج إليه ، ضرب هنا مثلاً لعابد آلهة كثيرة ، ومن يعبد اللّه وحده ، ومثل برجل مملوك اشترك فيه ملاك سيئو الأخلاق ، فهو لا يقدر أن يوفي كل واحد منهم مقصوده ، إذ لا يتغاضى بعضهم لبعض لمشاحتهم ، وطلب كل منهم أن يقضي حاجته على التمام ، فلا يزال في عناء وتعب ولوم من كل منهم . ورجل آخر مملوك جمعيه لرجل واحد ، فهو معني بشغله لا يشغله عنه شيء ، ومالكه راض عنه إن قد خلص لخدمته وبذل جهده في قضاء حوائجه ، فلا يلقى من سيده إلا إحساناً ، وتقدم الكلام في نصب المثل وما بعده . وقال الكسائي : انتصب رجلاً على إسقاط الخافض ، أي مثلاً لرجل ، أو في رجل فيه ، أي في رقه مشتركاً ، وفيه صلة لشركاء .

وقرأ عبد اللّه ، وابن عباس ، وعكرمة ، ومجاهد ، وقتادة ، والزهري ، والحسن : بخلاف عنه ؛ والجحدري ، وابن كثير وأبو عمرو : سالما اسم فاعل من سلم ، أي خالصاً من الشركة .

وقرأ الأعرج ، وأبو جعفر ، وشيبة ، وأبو رجاء ، وطلحة ، والحسن : بخلاف عنه ؛ وباقي السبعة : سلما بفتح السين واللام .

وقرأ ابن جبير : سلما بكسر السين وسكون اللام ، وهما مصدر ان وصف بهما مبالغة في الخلوص من الشركة . وقرىء : ورجل سالم ، برفعهما .

وقال الزمخشري : أي وهناك رجل سالم لرجل . انتهى ، فجعل الخبر هناك . ويجوز أن يكون ورجل مبتدأ ، لأنه موضع تفصيل ، إذ قد تقدم ما يدل عليه ، فيكون كقول امرىء القيس : إذا ما بكى من خلفها انحرفت له

بشقّ وشق عندنا لم يحوّل

وقال الزمخشري : وإنما جعله رجلاً ليكون أفطن لما شقى به أو سعد ، فإن المرأة والصبي قد يغفلان عن ذلك . وانتصب مثلاً على التمييز المنقول من الفاعل ، إذ التقدير : هل يستوي مثلهما ؟ واقتصر في التمييز على الواحد ، لأنه المقتصر عليه أو لا في قوله : { ضَرَبَ اللّه مَثَلاً } ، ولبيان الجنس . وقرىء : مثلين ، فطابق حال الرجلين .

وقال الزمخشري : ويجوز فيمن قرأ مثلين أن يكون الضمير في يستويان للمثلين ، لأن التقدير مثل رجل ، والمعنى : هل يستويان فيما يرجع إلى الوصفية ؟ كما يقول : كفى بهما رجلين . انتهى . والظاهر أنه يعود الضمير في يستويان إلى الرجلين ، فأما إذا جعلته عائداً إلى المثلين اللذين ذكر أن التقدير مثل رجل ورجل ، فإن التمييز إذ ذاك يكون قد فهم من المميز الذي هو الضمير ، إذ يصير التقدير : هل يستوي المثلان مثلين ؟ قل :{ الْحَمْدُ للّه } : أي الثناء والمدح للّه لا لغيره ، وهو الذي ثبتت وحدانيته ، فهو الذي يجب أن يحمد ، { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } ، فيشركون به غيره . ولفظة الحمد للّه تشعر بوقوع الهلاك بهم بقوله :{ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ للّه رَبّ الْعَالَمِينَ}

ولما لم يلتفتوا إلى هذه الدلائل الباهرة ، أخبر الجميع بأنهم ميتون وصائرون إليه ، وأن اختصامكم يكون بين يديه يوم القيامة ، وهو الحكم العدل ، فيتميز المحق من المبطل ، وهو عليه السلام وأتباعه المحقون الفائزون بالظفر والغلبة ، والكافرون هم المبطلون . فالضمير في وإنك خطاب للرسول ، وتدخل معه أمته في ذلك . والظاهر عود الضمير في { وَإِنَّهُمْ } على الكفار ، وغلب ضمير الخطاب في { إِنَّكَ } على ضمير الغيبة في إنهم ، ولذلك جاء { تَخْتَصِمُونَ } بالخطاب ، فتحتج أنت عليهم بأنك قد بلغت ، وكذبوا واجتهدت في الدعوة ، ولجوا في العناد . وقال أبو العالية : هم أهل القبلة ، يختصمون بينهم يوم القيامة في مظالمهم . وأبعد من ذهب إلى أن هذا الخصام سببه ما كان في قتل عثمان ، وما جرى بين علي ومعاوية بسبب ذلك ، رضى اللّه عنهم .

وقيل : يختصم الجميع ، فالكفار يخاصم بعضهم بعضاً حتى يقال لهم : لا تختصموا لدي . والمؤمنون يتلقون الكافرين بالحجج ، وأهل القبلة يكون بينهم الخصام .

وقرأ ابن الزبير ، وابن أبي إسحاق ، وابن محيصن ، وعيسى ، واليماني ، وابن أبي غوث ، وابن أبي عبلة : إنك مائت وإنهم مائتون ، وهي تشعر بحدوث الصفة ؛ والجمهور : ميت وميتون ، وهي تشعر بالثبوت واللزوم كالحي .

٣٢

انظر تسفير الآية:٤٠

٣٣

انظر تسفير الآية:٤٠

٣٤

انظر تسفير الآية:٤٠

٣٥

انظر تسفير الآية:٤٠

٣٦

انظر تسفير الآية:٤٠

٣٧

انظر تسفير الآية:٤٠

٣٨

انظر تسفير الآية:٤٠

٣٩

انظر تسفير الآية:٤٠

٤٠

فمن أظلم ممن . . . . .

اشمأز ، قال أبو زيد : زعر . قال غيره : تقبض كراهة ونفوراً . قال الشاعر : إذا عض الثقات بها اشمأزت

وولته عشوزية زبونا

المقاليد : المفاتيح ، قيل : لا واحد لها من لفظها ، قاله التبريزي .

وقيل : واحدها مقليد ،

وقيل : مقلاد ،

ويقال : إقليد وأقاليد ، والكلمة أصلها فارسية . الزمر : جمع زمرة ، قال أبو عبيد والأخفش : جماعات متفرقة ، بعضها إثر بعض . قال :

حتى احزألت زمر بعد زمر

ويقال : تزمر . والحفوف : الإحداق بالشيء ، قال الشاعر : تحفه جانب ضيق ويتبعه

مثل الزجاجة لم يكحل من الرمد

وهذه اللفظة مأخوذة من الحفاف ، وهو الجانب ، ومنه قول الشاعر :

له لحظات عن حفافي سريره

إذا كرها فيها عقاب ونائل

{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ علَى اللّه } : هذا تفسير وبيان للذين يكون بينهم الخصومة ، وهذا يدل على أن الاختصام السابق يكون بين المؤمنين والكافرين ، والمعنى : لا أجد في المكذبين أظلم ممن افترى على اللّه ، فنسب إليه الولد والصاحبة والشريك ، وحرّم وحلل من غير أمر اللّه ؛{ وَكَذَّبَ بِالصّدْقِ } : وهو ما جاء به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ؛{ إِذْ جَاءهُ } : أي وقت مجيئه ، فاجأه بالتكذيب من غير فكر ولا ارتياء ولا نظر ، بل وقت مجيئه كذب به . ثم توعدهم توعداً فيه احتقارهم على جهة التوقيف ، وللكافرين مما قام فيه الظاهر مقام المضمر ، أي مثوى لهم ، وفيه تنبيه على علة كذبهم وتكذبيهم ، وهو الكفر .{ وَالَّذِى جَاء بِالصّدْقِ اللّه بِهَاذَا فَمَنْ أَظْلَمُ}{ وَصَدَّقَ بِهِ } مقابل لقوله :{ وَكَذَّبَ بِالصّدْقِ} والذي جنس ، كأنه قال : والفريق الذي جاء بالصدق ، ويدل عليه :{ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } ، فجمع . كما أن المراد بقوله :{ فَمَنْ أَظْلَمُ } ، يراد به جمع ، ولذلك قال { مَثْوًى لّلْكَافِرِينَ} وفي قراءة عبد اللّه : والذي جاؤا بالصدق وصدقوا به .

وقيل : أراد والذين ، فحذفت منه النون ، وهذا ليس بصحيح ، إذ لو أريد الذين بلفظ الذي وحذفت منه النون ، لكان الضمير مجموعاً كقوله :

وإن الذي حانت بفلح دماؤهم

ألا ترى أنه إذا حذفت النون في المثنى كان الضمير مثنى ؟ كقوله :

أبني كليب أن عميّ اللذا

قتلا الملوك وفككا الأغلالا

وقيل : الذي جاء بالصدق وصدق به هو رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.

وقيل : الذي جاء بالصدق جبريل ، والذي صدق به هو محمد صلى اللّه عليه وسلم. وقال عليّ ، وأبو العالية ، والكلبي ، وجماعة : الذي جاء بالصدق هو الرسول ، والذي صدق به هو أبو

بكر . وقال أبو الأسود ، ومجاهد ، وجماعة : الذي صدق به وهو عليّ بن أبي طالب .

وقال الزمخشري : والذي جاء بالصدق وصدق به هو رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. جاء بالصدق وآمن به ، وأراد به إياه ومن تبعه ، كما أراد بموسى إياه وقومه في قوله : { وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ } ، ولذلك قال :{ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } ، إلا أن هذا في الصفة ، وذلك في الاسم . ويجوز أن يريد : والفوج والفريق الذي جاء بالصدق وصدق به ، وهو الرسول الذي جاء بالصدق ، وصحابته الذين صدقوا به . انتهى . وقوله : وأراد به إياه ومن تبعه ، كما أراد بموسى إياه وقومه . استعمل الضمير المنفصل في غير موضعه ، وإنما هو متصل ، فإصلاحه وأراده به ومن تبعه ، كما أراده بموسى وقومه : أي لعل قومه يهتدون ، إذ موسى عليه السلام مهتدٍ . فالمترجى هداية قومه ، لا هدايته ، إذ لا يترجى إلا ما كان مفقوداً لا موجوداً . وقوله : ويجوز إلخ ، فيه توزيع الصلة ، والفوج هو الموصول ، فهو كقوله : جاء الفريق الذي شرف وشرّف . والأظهر عدم التوزيع ، بل المعطوف على الصلة ، صلة لمن له الصلة الأولى .

وقرأ الجمهور :{ وَصَدَقَ } مشدداً ؛ وأبو صالح ، وعكرمة بن سليمان ، ومحمد بن جحازة : مخففاً . قال أبو صالح : وعمل به .

وقيل : استحق به اسم الصدق .

قال ابن عطية : فعلى هذا إسناد الأفعال كلها إلى محمد صلى اللّه عليه وسلم ، وكأن أمته في ضمن القول ، وهو الذي يحسن { أُوْلَائِكَ الْمُتَّقُونَ} انتهى .

وقال الزمخشري : أي صدق به الناس ، ولم يكذبهم به ، يعني : أداه إليهم ، كما نزل عليه من غير تحريف .

وقيل : معناه : وصار صادقاً به ، أي بسببه ، لأن القرآن معجزة ، والمعجزة تصديق من الحكيم الذي لا يفعل القبيح لمن يجريها على يديه ، ولا يجوز أن يصدق إلا الصادق ، فيصير لذلك صادقاً بالمعجزة . وقرىء : وصدق به . انتهى ، يعني : مبنياً للمفعول مشدداً . وقال صاحب اللوامح : جاء بالصدق من عند اللّه وصدق بقوله ، أي في قوله ، أو في مجيئه ، فاجتمع له الصفتان من الصدق : من صدقه من عند اللّه ، وصدقه بنفسه ، وذلك مبالغة في المدح . انتهى .

{لَهُم مَّا يَشَاءونَ } : عام في كل ما تشتهيه أنفسهم وتتعلق به إرادتهم . و { لِيُكَفّرَ } : متعلق بالمحسنين ، أي الذين أحسنوا ليكفر ، أو بمحذوف ، أي يسر ذلك لهم ليكفر ، لأن التكفير لا يكون إلا بعد التيسير للخير . و { أَسْوَأَ الَّذِى عَمِلُواْ } : هو كفر أهل الجاهلية ومعاصي أهل الإسلام . والتكفير يدل على سقوط العقاب عنهم على أكمل الوجوه ، والجزاء بالأحسن يدل على حصول الثواب على أكمل الوجوه ، فقيل : ذلك يكون إذا صدقوا الأنبياء فيما أتوابه . وقال مقاتل : يجزيهم بالمحاسن من أعمالهم ، ولا يجزيهم بالمساوي ، وهذا قول المرجئة ، يقولون : لا يضر شيء من المعاصي مع الإيمان . واحتج بهذه الآية ، وقام الظاهر مقام المضمر في المحسنين ، أي ذلك جزاؤهم ، فنبه بالظاهر على العلة المقتضية لحصول الثواب . والظاهر أن أسوأ أفعل تفضيل ، وبه قرأ الجمهور : وإذا كفر أسوأ أعمالهم ، فتكفير ما هو دونه أحرى .

وقيل : أفعل ليس للتفضيل ، وهو كقولك : الأشج أعدل بني مروان ، أي عادل ، فكذلك هذا ، أي سيء الذين عملوا . ويدل على هذا التأويل قراءة ابن مقسم ، وحامد بن يحيى ، عن ابن كثير : أسوأ هنا ؛ وفي حم السجدة بألف بين الواو والهمزة جمع سوء ، ولا تفضيل فيه . والظاهر أن بأحسن أفعل تفضيل فقيل : لينظر إلى أحسن طاعاته فيجزي الباقي في الجزاء على قياسه ، وإن تخلف عنه بالتقصير .

وقيل : بأحسن ثواب أعمالهم .

وقيل : بأحسن من عملهم ، وهو الجنة ، وهذا ينبو عنه { بِأَحْسَنِ الَّذِى}

وقال الزمخشري : أما التفضيل فيؤذن بأن الشيء الذي يفرط منهم من الصغائر والزلات المكفرات هو عندهم الأسوأ لاستعظامهم المعصية ، والحسن الذي يعملون هو عند اللّه الأحسن لحسن إخلاصهم فيه ، فلذلك ذكر سيئهم بالأسوأ ، وحسنهم بالأحسن . انتهى ، وهو على رأى المعتزلة ، ويكون قد استعمل أسوأ في التفضيل على معتقدهم ، وأحسن في التفضيل على ما هو عند اللّه ، وذلك توزيع في أفعل التفضيل ، وهو خلاف الظاهر .

قالت قريش : لئن لم ينته

محمد عن تعييب آلهتنا وتعيينا ، لنسلطها عليه فتصيبه بخبل وتعتريه بسوء ، فأنزل اللّه : { أَلَيْسَ اللّه بِكَافٍ عَبْدَهُ } : أي شر من يريده بشر ، والهمزة الداخلة على النفي للتقرير ، أي هو كاف عبده ، وفي إضافته إليه تشريف عظيم لنبيه .

وقرأ الجمهور : عبده ، وهو رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.

وقرأ أبو جعفر ، ومجاهد ، وابن وثاب ، وطلحة ، والأعمش ، وحمزة ، والكسائي : عباده بالجمع ، أي الأنبياء والمطيعين من المؤمنين ؛{ وَيُخَوّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ } : وهو الأصنام . ولما بعث خالداً إلى كسر العزى ، قال له سادنها : إني أخاف عليك منها ، فلها قوة لا يقوم لها شيء . فأخذ خالد الفأس ، فهشم به وجهها ثم انصرف .

وفي قوله :{ وَيُخَوّفُونَكَ } ، تهكم بهم لأنهم خوفوه بما لا يقدر على نفع ولا ضرر . ونظير هذا التخويف قول قوم هو دله :{ إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ ءالِهَتِنَا بِسُوء} وقرىء :{ عَلَى عَبْدِهِ } على الإضافة ، ويكافي عباده مضارع كفى ، ونصب عباده فاحتمل أن يكون مفاعلة من الكفاية ، كقولك : يجازي في يجزي ، وهو أبلغ من كفى ، لبنائه على لفظظ المبالغة ، وهو الظاهر لكثرة تردّد هذا المعنى في القرآن ، كقوله :{ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّه} ويحتمل أن يكون مهموزاً من المكافأة ، وهي المجازاة ، أي يجزيهم أجرهم .

ولما كان تعالى كافي عبده ، كان التخويف بغيره عبثاً باطلاً . ولما اشتملت الآية على مهتدين وضالين ، أخبر أن ذلك كله هو فاعله ، ثم قال :{ أَلَيْسَ اللّه بِعَزِيزٍ } : أي غالب منيع ، { ذِى انتِقَامٍ } : وفيه وعيد لقريش ، ووعد للمؤمنين . ولما أقروا بالصانع ، وهو اللّه ، أخبرهم أنه تعالى هو المتصرف في نبيه بما أراد . فإن تلك الأصنام التي يدعونها آلهة من دونه لا تكشف ضراً ولا تمسك رحمة ، أي صحة وسعة في الرزق ونحو ذلك . وأرأيتم هنا جارية على وضعها ، تعدت إلى مفعولها الأول ، وهو ما يدعون . وجاء المفعول الثاني جملة استفهامية ، وفيها العائد على ما ، وهو لفظ هن وأنث تحقيراً لها وتعجيزاً وتضعيفاً . وكان فيها من سمى تسمية الإناث ، كالعزى ومناة واللات ، وأضاف إرادة اللّه الضر إلى نفسه والرحمة إليها ، لأنهم خوفوه مضرتها ، فاستسلف منهم الإقرار بأن خالق العالم هو اللّه . ثم استخبرهم عن أصنامهم ، هل تدفع شرّاً وتجلب خيراً ؟

وقرأ الجمهور : كاشفات وممسكات على الإضافة ؛ وشيبة ، والأعرج ، وعمرو بن عبيد ، وعيسى : بخلاف عنه ؛ وأبو عمرو ، وأبو بكر ؛ بتنوينهما ونصب ما بعدهما . ولما تقرر أنه تعالى كافية ، وأن أصنامهم لا تضر ولا تنفع ، أمره تعالى أنه يعلم أنه تعالى هو حسبه ، أي كافية . والجواب في هذا الاستخبار محذوف ، والتقدير : فإنهم سيقولون : لا تقدر على شيء من ذلك . وقال مقاتل : استخبرهم فسكتوا .{ قُلْ ياأَهْلَ قَوْمٌ اعْمَلُواْ } : تقدم الكلام على نظيرها .

٤١

انظر تسفير الآية:٤٣

٤٢

انظر تسفير الآية:٤٣

٤٣

لما كان عليه السلام يعظم عليه عدم إيمانهم ورجوعهم إلى ما أنزل اللّه تعالى عليه ، سلاه تعالى عن ذلك ، وأخبره أنه أنزل عليه الكتاب ، وهو القرآن ، مصحوباً بالحق ، وهو دين الإسلام ، للناس : أي لأجلهم ، إذ فيه تكاليفهم .{ فَمَنُ اهْتَدَى}

فثواب هدايته إنما هو له ،  { وَمَن ضَلَّ } : فعقاب ضلاله إنما هو عليه ، { وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ } : أي فتجبرهم على الإيمان . قال قتادة : بوكيل : بحفيظ .

وقال الزمخشري : للناس : لأجل حاجتهم إليه ، ليبشروا وينذروا . فتقوى دواعيهم إلى اختيار الطاعة على المعصية ، فلا حاجة لي إلى ذلك ، فأنا الغني . فمن اختار الهدى ، فقد نفع نفسه ؛ ومن اختار الضلالة ، فقد ضرها ، وما وكلت عليهم لتجبرهم على الهدى . فإن التكليف مبني على الاختيار دون الإجبار . انتهى ، وهو على مذهب المعتزلة .

ولما ذكر تعالى أنه أنزل الكتاب على رسوله بالحق للناس ، نبه على أنه من آياته الكبرى يدل على الوحدانية ، لا يشركه في ذلك صنم وعلى غيره ، فقال :{ اللّه يَتَوَفَّى الاْنفُسَ حِينَ مِوْتِهَا } ، والأنفس هي الأرواح .

وقيل : النفس غير الروح ، قاله ابن عباس . فالروح لها تدبير عالم الحياة ، والنفس لها تدبيه عالم الإحساس . وفرقت فرقة بين نفس التمييز ونفس التخييل . والذي يدل عليه الحديث واللغة أن النفس والروح مترادفان ، وأن فراق ذلك من الجسد هو الموت . ومعنى يتوفى النفس : يميتها ، والتي : أي والأنفس التي لم تمت في منامها ، أي يتوفاها حين تنام ، تشبيهاً للنوام بالأموات . ومنه :{ وَهُوَ الَّذِى يَتَوَفَّاكُم بِالَّيْلِ} فبين الميت والنائم قدر مشترك ، وهو كونهما لا يميزان ولا يتصرفان . فيمسك من قضى عليها الموت الحقيقي ، ولا يردها في وقتها حية ؛ ويرسل النائمة لجسدها إلى أجل ضربه لموتها .

وقيل :{ يَتَوَفَّى الاْنفُسَ } : يستوفيها ويقبضها ، وهي الأنفس التي يكون معها الحياة والحركة . ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها ، وهي أنفس التمييز ، قالوا : فالتي تتوفى في النوم هي نفس التمييز لا نفس الحياة ، لأن نفس الحياة إذا زالت زال معها النفس . والنائم يتنفس ، وكون النفس تقبض ، والروح في الجسد حالة النوم ، بدليل أنه يتقلب ويتنفس ، هو قول الأكثرين . ودل على التغاير وكونها شيئاً واحداً هو قول ابن جبير وأحد قولي ابن عباس ؛ والخوض في هذا ، وطلب إدراك ذلك على جليته عناء ولا يوصل إلى ذلك .{ إِنَّ فِى ذَلِكَ } : أي في توفي الأنفس مائتة ونائمة ، وإمساكها وإسالها إلى أجل ، { لاَيَاتٍ } : لعلامات دالة على قدرة اللّه وعلمه ، { لِقَوْمٍ } يجيلون فيه أفكارهم ويعتبرون .

وقرأ الجمهور :{ قَضَى } مبنياً للفاعل ، { الْمَوْتُ } : نصباً ؛ وابن وثاب ، والأعمش ، وطلحة ، وعيسى ، وحمزة ، والكسائي : مبنياً للمفعول ؛ الموت : رفعاً . فأم منقطعة تقدر ببل والهمزة ، وهو تقرير وتوبيخ . وكانوا يقولون : هؤلاء شفعاؤنا عندنا ، والشفاعة إنما هي لمن ارتضاه اللّه وبإذنه تعالى ، وهذا مفقود في آلهتهم . وأولو معناه : أيتخذونهم شفعاءهم بهذه المثابة من كونهم لا يعقلون ولا يملكون شيئاً ، وذلك عام النقص ، فكيف يشفع هؤلاء ؟ وتقدم لنا الكلام في أولو في سورة البقرة . و

قال ابن عطية : متى دخلت ألف الاستفهام على واو العطف أو فائه أحدثت معنى التقرير . انتهى . وإذا كانوا لا يملكون شيئاً ، فكيف يملكون الشفاعة ؟

وقال الزمخشري : أي ولو كانوا على هذه الصفة لا يملكون شيئاً قط حتى يملكوا الشفاعة ، ولا عقل لهم . انتهى . فأتى بقوله : قط ، بعد قوله : لا يملكون ، وليس بفعل ماض ، وقط ظرف يستعمل مع الماضي لا مع غيره ، وقد تكرر للزمخشري هذا الاستعمال ، وليس باستعمال عربي .

٤٤

انظر تسفير الآية:٤٦

٤٥

انظر تسفير الآية:٤٦

٤٦

{قُل للّه الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً } : فهو مالكها ، يأذن فيها لمن يشاء ثم أتى بعام وهو :{ لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ } ، فاندرج فيه ملك الشفاعة . ولما كانت الشفاعة من غيره موقوفة على إذنه ، كانت الشفاعة كلها له . ولما أخبر أنه له ملك السموات والأرض ، هددهم بقوله :{ ثُمَّ إِلَيْهِ } ، فيعلمون أنهم لا يشفعون ، ويخيب سعيكم في عبادتهم .

وقال الزمخشري : معناه له ملك السموات والأرض اليوم ، ثم إليه ترجعون يوم القيامة ، فلا يكون الملك في ذلك إلا له ، فله ملك الدنيا والآخرة .

{تُرْجَعُونَ وَإِذَا ذُكِرَ اللّه وَحْدَهُ } : أي مفرداً بالذكر ، ولم يذكر مع آلهتهم .

وقيل : إذا قيل لا إله إلا اللّه، { وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ } ، وهي الأصنام . والاشمئزاز والاستبشار متقابلان غاية ، لأن الاشمئزاز : امتلاء القلب غماً وغيظاً ، فيظهر أثره ، وهو الانقباض في الوجه ، والاستبشار : امتلاؤه سروراً ، فيظهر أثره ، وهو الانبساط ، والتهلل في الوجه .

وقال الزمخشري :

فإن قلت : ما العامل في وإذا ذكر ؟

قلت : العامل في إذا الفجائية تقديره : وقت ذكر الذين من دونه فاجأوا الاستبشار . وقال الحوفي :{ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } ، إذا مضافة إلى الابتلاء والخبر ، وإذا مكررة للتوكيد وحذف ما تضاف إليه ، والتقدير : إذا كان ذلك هم يستبشرون ، فيكون هم يستبشرون

العامل في إذا ، المعنى : إذا كان ذلك استبشروا . انتهى . أما قول الزمخشري : فلا أعلمه من قول من ينتمي للنحو ، وهو أن الظرفين معمولان لعامل واحد ، ثم إذا الأولى ينتصب على الظرف ، والثانية على المفعول به .

وأما قول الحوفي فبعيد جدًّا عن الصواب ، إذ جعل إذا ماضفة إلى الابتداء والخبر ، ثم قال : وإذا مكررة للتوكيد وحذف ما تضاف إليه ، فكيف تكون مضافة إلى الابتداء والخبر الذي هم يستبشرون ؟ وهذا كله يوجبه عدم الإتقان لعلم النحو والتحدث فيه ، وقد تقدم لنا في مواضع إذا التي للمفاجأة جواباً لإذا الشرطية ، وقد قررنا في علم النحو الذي كتبناه أن إذا الشرطية ليست مضافة إلى الجملة التي تليها ، وإن كان مذهب الأكثرين ، وأنها ليست بمعمولة للجواب ، وأقمنا الدليل على ذلك ، بل هي معمولة للفعل الذي يليها ، كسائر أسماء الشرطية الظرفية ، وإذا الفجائية رابطة لجملة الجزاء بجملة الشرط ، كالفاء ؛ وهي معمولة لما بعدها . إن قلنا إنها ظرف ، سواء كان زماناً أو مكاناً . ومن قال إنها حرف ، فلا يعمل فيها شيء ، فإذا الأولى معمولة لذكرهم ، والثانية معمولة ليستبشرون . ولما أخبر عن سخافة عقولهم باشمئزازهم من ذكر اللّه ، واستبشارهم بذكر الأصنام ، أمره أن يدعو بأسماء اللّه العظمى من القدرة والعلم ونسبة الحكم إليه ، إذ غيره لا قدرة له ولا علم تام ولا حكم ، وفي ذلك وصف لحالهم السيىء ووعيد لهم وتسلية للرسول عليه السلام . وتقدم الكلام في { اللّهمَّ } في سورة آل عمران .

٤٧

انظر تسفير الآية:٤٨

٤٨

{وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ } : تقدم الكلام على تشبيهه في العقود .{ وَبَدَا لَهُمْ مّنَ اللّه } : أي كانت ظنونهم في الدنيا متفرقة ، حسب ضلالاتهم وتخيلاتهم فيما يعتقدونه . فإذا عاينوا العذاب يوم القيامة ، ظهر لهم خلاف ما كانوا يظنون ، وما كان في حسابهم . وقال سفيان الثوري : ويل لأهل الرياء من هذه الآية .{ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ } : أي جزاء ما كانوا وما فيما كسبوا ، يحتمل أن تكون بمعنى الذي ، أي سيئات أعمالهم ، وأن تكون مصدرية ، أي سيئات كسبهم . والسيئات : أنواع ، العذاب سميت سيئات ، كما قال :{ وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا}

٤٩

انظر تسفير الآية:٥٢

٥٠

انظر تسفير الآية:٥٢

٥١

انظر تسفير الآية:٥٢

٥٢

{فَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِىَ فِتْنَةٌ وَلَاكِنَّ}

تقدم في غير آية كون الإنسان إذا مسه الضر التجأ إلى اللّه ، مع اعتقادهم الأوثان وعبادتها . فإذا أصابتهم شدة ، نبذوها ودعوا رب السموات والأرض ، وهذا يدل على تناقض آرائهم وشدة اضطرابها . والإنسان جنس وضر مطلق ، والنعمة عامة في جميع ما يسر ، ومن ذلك إزالة الضر .

وقيل : الإنسان معين ، وهو حذيفة بن المغيرة . والظاهر أن ما في إنما كافة مهيئة لدخول إن على الجملة الفعلية ، وذكر الضمير في { أُوتِيتُهُ } ، وإن كان عائداً على النعمة ، لأن معناها مذكر ، وهو الأنعام أو المال ، على قول من شرح النعمة بالمال ، أو المعنى : شيئاً من النعمة ، أو لأنها تشتمل على مذكر ومؤنث ، فغلب المذكر .

وقيل : ما موصولة ، والضمير عائد على ما ، أي قال : إن الذي أوتيته على علم مني ، أي بوجه المكاسب والمتاجر ، قاله قتادة ، وفيه إعجاب بالنفس وتعاظم مفرط . أو على علم من اللّه فيّ واستحقاق جزائه عند اللّه ، وفي هذا احتراز اللّه وعجز ومنّ على اللّه . أو على علم مني بأني سأعطاه لما فيّ من فضل واستحقاق ، بل هي فتنة إضراب عن دعواه أنه إنما أوتي على علم ، بل تلك النعمة فتنة وابتلاء . ذكر أولاً في { أُوتِيتُهُ } على المعنى ، إذ كانت ما مهيئة ، ثم عاد إلى اللفظ فأنث في قوله { بَلْ هِىَ } ،أو تكون هي عادت على الإتيان ، أي بل إتيانه النعمة فتنة . وكان العطف هنا بالفاء في فإذا ، بالواو في أول السورة لأنها وقعت مسببة عن قوله :{ وَإِذَا ذُكِرَ اللّه } ،أي يشمئزون عند ذكر اللّه ، ويستبشرون بذكر آلهتهم . فإذا مس أحدهم

ضر دعا من اشمأز من ذكره دون من استبشر بذكره . ومناسبة السببية أنك تقول : زيد مؤمن ، فإذا مسه الضر التجأ إلى اللّه . فالسبب هنا ظاهر ، وزيد كافر ، فإذا مسه الضر التجأ إليه ، يقيم كفره مقام الإيمان في جعله سبباً للالتجاء ، يحكي عكس ما فيه الكافر . يقصد بذلك الإنكار والتعجب من فعله المتناقض ، حيث كفر باللّه ثم التجأ إليه في الشدائد .

وأما الآية الأولى فلم تقع مسببة ، بل ناسبت ما قبلها ، فعطفت عليه بالواو ، وإذا كانت فإذا متصلة بقوله : { وَإِذَا ذُكِرَ اللّه وَحْدَهُ } ، كما قلنا ، فما بينهما من الآي اعتراض يؤكد به ما بين المتصلين . فدعاء الرسول ربه بأمر منه وقوله :{ أَنتَ تَحْكُمُ } ، وتعقيبه الوعيد ، تأكيد لاشمئزازهم واستبشارهم ورجوعهم إلى اللّه في الشدائد دون آلهتهم . وقوله :{ وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ } يتناول لهم ، أو لكل ظالم ، إن جعل مطلقاً أو إياهم خاصة إن عنوا به . انتهى ، وهو ملتقط أكثره من كلام الزمخشري ، وهو متكلف في ربط هذه الآية بقوله :{ وَإِذَا ذُكِرَ اللّه وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ } مع بعدما بينهما من الفواصل . وإذا كان أبو علي الفارسي لا يجيز الاعتراض بجملتين ، فكيف يجيزه بهذه الجمل الكثيرة ؟ والذي يظهر في الربط أنه لما قال :{ وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ } الآية ، كان ذلك إشعاراً بما ينال الظالمين من شدة العذاب ، وأنه يظهر لهم يوم القيامة من العذاب ما لم يكن في حسابهم ، أتبع ذلك بما يدل على ظلمه وبغيه ، إذ كان إذا مسه دعا ربه ، فإذا أحسن إليه ، لم ينسب ذلك إليه . ثم إنه بعد وصف تلك النعمة أنها ابتلاء وفتنة ، كما بدا له في الآخرة من عمله الذي كان يظنه صالحاً ما لم يكن في حسابه من سوء العذاب المترتب على ذلك العمل ، ترتب الفتنة على تلك النعمة .{ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } : أي إن ذلك استدراج وامتحان { قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } : أي قال مثل مقالتهم { أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} والظاهر أن قائلي ذلك جماعة من الأمم الكافرة الماضية ، كقارون في قوله :{ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِى}

وقيل : الذين من قبلهم هم قارون وقومه ، إذ رضوا بمقالته ، فنسب القول إليهم جميعاً . وقرىء : قد قاله ، أي قال القول أو الكلام .{ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ } : يجوز أن تكون ما نافية ، وهو الظاهر . وأن تكون استفهامية ، فيها معنى النفي .{ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } : أي من الأموال .{ وَالَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ هَؤُلاَء } : إشارة إلى مشركي قريش ، { سَيُصِيبُهُمْ سَيّئَاتُ مَا كَسَبُواْ } : جاء بسين الاستقبال التي هي أقل تنفيساً في الزمان من سوف ، وهو خبر غيب ، أبرزه الوجود في يوم بدر وغيره . قتل رؤساءهم ، وحبس عنه الرزق ، فلم يمطروا سبع سنين ؛ ثم بسط لهم ، فمطروا سبع سنين ، فقيل لهم : ألم تعلموا أنه لا قابض ولا باسط إلا اللّه تعالى ؟ .

٥٣

انظر تسفير الآية:٥٤

٥٤

{قُلْ ياأَهْلَ عِبَادِى الَّذِينَ أَسْرَفُواْ } : نزلت في وحشي قاتل حمزة ، قاله عطاء ؛ أو في قوم آمنوا عياش بن ربيعة والوليد بن الوليد ونفر معهما ، ففتنتهم قريش ، فافتتنوا وظنوا أن لا توبة لهم ، فكتب عمر لهم بهذه الآية ، قاله عمر والسدي وقتادة وابن إسحاق .

وقيل : في قوم كفار من أهل الجاهلية قالوا : وما ينفعنا الإسلام وقد زنينا وقتلنا النف وأتينا كل كبيرة ؟ ومناسبتها لما قبلها : أنه تعالى لما شدد على الكفار وذكر ما أعد لهم من العذاب ، وأنهم لو كان لأحدهم ما في الأرض ومثله معه لافتدى به من عذاب اللّه ، ذكر ما في إحسانه من غفران الذنوب إذا آمن العبد ورجع إلى اللّه . وكثيراً تأتي آيات الرحمة مع آيات النقمة ليرجو العبد ويخاف . وهذه الآية عام في كل كافر يتوب ، ومؤمن عاص يتوب ، تمحو الذنب توبته . وقال عبد اللّه ، وعلي ، وابن عامر : هذه أرجى آية في كتاب اللّه . وتقدم الخلاف في قراءة { لاَ تَقْنَطُواْ } في الحجر .

{إِنَّ اللّه يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً } : عام يراد به ما سوى الشرك ، فهو مقيد أيضاً بالمؤمن العاصي غير التائب بالمشيئة .

وفي قوله :{ فِى عِبَادِى } ، بإضافتهم إليه وندائهم ، إقبال وتشريف . و { أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ } : أي بالمعاصي ، والمعنى : إن ضرر تلك الذنوب إنما هو عائد عليهم ، والنهي عن القنوط يقتضي الأمر بالرجاء ، وإضافة الرحمة إلى اللّه التفات من ضمير المتكلم إلى الاسم الغائب ، لأن في إضافتها إليه سعة للرحمة إذا أضيفت إلى اللّه الذي هو أعظم الأسماء ، لأنه العلم المحتوي على معاني جميع الأسماء . ثم أعاد الاسم الأعظم ، وأكد الجملة بأن مبالغة في

الوعد بالغفران ، ثم وصف نفسه بما سبق في الجملتين من الرحمة والغفران بصفتي المبالغة ، وأكد بلفظ هو المقتضي عند بعضهم الحصر .

وقال الزمخشري : { إِنَّ اللّه يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً } ، شرط التوبة . وقد تكرر ذكر هذا الشرط في القرآن ، فكان ذكره فيما ذكر فيه ذكراً له فيما لم يذكر فيه ، لأن القرآن في حكم كلام واحد ، ولا يجوز فيه التناقض . انتهى ، وهو على طريقة المعتزلة في أن المؤمن العاصي لا يغفر له إلا بشرط التوبة .

ولما كانت هذه الآية فيها فسحة عظيمة للمسرف ، أتبعها بأن الإنابة ، وهي الرجوع ، مطلوبة مأمور بها . ثم توعد من لم يتب بالعذاب ، حتى لا يبقى المرء كالممل من الطاعة والمتكل على العفران دون إنابة .

وقال الزمخشري : وإنما ذكر الإنابة على إثر المغفرة ، لئلا يطمع طامع في حصولها بغير توبة ، وللدلالة على أنها شرط فيها لازم لا تحصل بدونه . انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال .

٥٥

{وَاتَّبِعُواْ أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ } ، مثل قوله :{ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } ، وهو القرآن ، وليس المعنى أن بعضاً أحسن من بعض ، بل كله حسن .{ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً } ،أي فجأة ، { وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ } : أي وأنتم غافلون عن حلوله بكم ، فيكون ذلك أشد في عذابكم .

٥٦

انظر تسفير الآية:٦٢

٥٧

انظر تسفير الآية:٦٢

٥٨

انظر تسفير الآية:٦٢

٥٩

انظر تسفير الآية:٦٢

٦٠

انظر تسفير الآية:٦٢

٦١

انظر تسفير الآية:٦٢

٦٢

روي أنه كان في بني إسرائيل عالم ترك علمه وفسق ، أتاه إبليس فقال له : تمتع من الدنيا ثم تب ، فأطاعه وأنفق ماله في الفجور . فأتاه ملك الموت في ألذ ما كان ، فقال :{ أَن تَقُولَ نَفْسٌ ياحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطَتُ } ، وذهب عمري في طاعة الشيطان ، وأسخطت ربي ، فندم حين لا ينفعه ، فأنزل اللّه خبره .{ أَن تَقُولَ } : مفعول من أجله ، فقدره ابن عطية : أي أنيبوا من أجل أن تقول .

وقال الزمخشري : كراهة أن تقول ، والحوفي : أنذرناكم مخافة أن تقول ، ونكر نفس لأنه أريد بها بعض الأنفس ، وهي نفس الكافر ، أو أريد الكثير ، كما قال الأعشى : ورب نفيع لو هتفت لنحوه

أتاني كريم ينقض الرأسى مغضبا

يريد أفواجاً من الكرام ينصرونه ، لا كريماً واحداً ؛ أو أريد نفس متميزة من الأنفس بالفجاج الشديد في الكفر ، أو بعذاب عظيم . قال هذه المحتملات الزمخشري ، والظاهر الأول .

وقرأ الجمهور : يا حسرتا ، بإبدال ياء المتكلم ألفاً ، وأبو جعفر : يا حسرتا ، بياء الإضافة ، وعنه : يا حسرتي ، بالألف والياء جمعاً بين العوض والمعوض ، والياء مفتوحة أو سانة . وقال أبو الفضل الرازي في تصنيفه { كتاب اللوامح} : ولو ذهب إلى أنه أراد تثنية الحسرة مثل لبيك وسعديك ، لأن معناهما لب بعد لب وسعد بعد سعد ، فكذلك هذه الحسرة بعد حسرة ، لكثرة حسراتهم يومئذ ؛ أو أراد حسرتين فقط من قوت الجنة لدخول النار ، لكان مذهباً ، ولكان ألف التثنية في تقدير الياء على لغة بلحرث بن كعب . انتهى .

وقرأ ابن كثير في الوقف : يا حسرتاه ، بهاء السكت . قال سيبويه : ومعنى نداء الحسرة والويل : هذا وقتك فاحضري . والجنب : الجانب ، ومستحيل على اللّه الجارحة ، فإضافة الجنب إليه مجاز . قال مجاهد ، والسدي : في أمر اللّه . وقال الضحاك : في ذكره ، يعني القرآن والعمل به .

وقيل : في جهة طاعته ، والجنب : الجهة ، وقال الشاعر : أفي جنب تكنى قطعتني ملامة

سليمى لقد كانت ملامتها ثناء

وقال الراجز :

الناس جنب والأمير جنب

ويقال : أنا في جننب فلان وجانبه وناحيته ؛ وفلان لين الجنب والجانب . ثم قالوا : فرط في جنبه ، يريدون حقه . قال سابق البربري : أما تتقين اللّه في جنب عاشق

له كبد حرى عليك تقطع

وهذا من باب الكناية ، لأنك إذا أثبت الأمر في مكان الرجل وحيزه ، فقد أثبته فيه . ألا ترى إلى قوله : إن السماحة والمروءة والندى

في قبة ضربت على ابن الحشرج

ومنه قول الناس : لمكانك فعلت كذا ، يريدون : لأجلك ، وكذلك فعلت هذا من جهتك . وما في ما فرطت مصدرية ، أي على تفريطي في طاعة اللّه . { وَإِن كُنتَ مِن السَّاخِرِينَ } ، قال قتادة : لم يكفه أن ضيع طاعة اللّه حتى سخر من أهلها .

وقال الزمخشري : ومحل وإن كنت النصب على الحال ، كأنه قال : فرطت وأنا ساخر ، أي فرطت في حال سخريتي . انتهى . ويظهر أنه استئناف إخبار عن نفسه بما كان عليه في الدنيا ، لا حال .{أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللّه هَدَانِى } : أي خلق في الهداية بالإلجاء ، وهو خارج عن الحكمة ، أو بالألطاف ، ولم يكن من أهلها فيلطف به ، أو بالوحي ، فقد كان ، ولكنه أعرض ، ولم يتبعه حتى يهتدي . وإنما يقول هذا تحيراً في أمره ، وتعللاً بما يجدي عليه . كما حكى عنهم التعلل بإغواء الرؤساء والشياطين ونحوه : لو هدانا اللّه لهديناكم . انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال . وانتصب { فَأَكُونَ } على جواب التمني الدال عليه لو ، أو على كرة ، إذ هو مصدر ، فيكون مثل قوله : فما لك منها غير ذكرى وحسرة

وتسأل عن ركبانها أين يمموا

وقول الآخر :

للبس عباءة وتقر عيني

أحب إليّ من لبس الشفوف

والفرق بينهما أن الفاء إذا كانت في جواب التمني ، كانت أن واجبة الإضمار ، وكان الكون مترتباً على حصول المتمني ، لا متمني . وإذا كانت للعطف على كرة ، جاز إظهار أن وإضمارها ، وكان الكون متمني .{ بَلَى } : هو حرف جواب لمنفي ، أو

لداخل عليه همزة التقرير . ولما كان قوله : { لَوْ أَنَّ اللّه هَدَانِى } وجوابه متضمناً نفي الهداية ، كأنه قال : ما هداني اللّه ، فقيل له :{ بَلَى قَدْ جَاءتْكَ ءايَاتِى } مرشدة لك ، فكذبت .

وقال الزمخشري : رد من اللّه عليه ومعناه : بلى قد هديت بالوحي . انتهى ، جرياً على قواعد المعتزلة . و

قال ابن عطية : وحق بلى أن تجيء بعد نفي عليه تقرير ، وقوله :{ بَلَى } جواب لنفي مقدر ، كأن النفس قالت : فعمري في الدنيا لم يتسع للنظر ، أو قالت : فإني لم يتبين لي الأمر في الدنيا ونحو هذا . انتهى . وليس حق بلى ما ذكر ، بل حقها أن تكون جواب نفي . ثم حمل التقرير على النفي ، ولذلك لم يحمله عليه بعض العرب ، وأجابه بنعم ، ووقع ذلك أيضاً في كلام سيبويه نفسه أن أجاب التقرير بنعم اتباعاً لبعض العرب .

وقال الزمخشري :

فإن قلت : هلا قرن الجواب بما هو جواب له ، وهو قوله :{ لَوْ أَنَّ اللّه هَدَانِى } ، ولم يفصل بينهما بآية ؟

قلت : لأنه لا يخلو ، إما أن يقدم على أخرى القرائن الثلاث فيفرق بينهن ،

وإما أن تؤخر القرينة الوسطى . فلم يحسن الأول لما فيه من تبتير النظم بالجمع بين القرائن ؛

وأما الثاني ، فلما فيه من نقض الترتيب ، وهو التحسر على التفريط في الطاعة ، ثم التعلل بفقد الهداية . ثم تمنى الرجعة ، فكان الصواب ما جاء عليه ، وهو أنه حكى أقوال النفس على ترتيبها ونظمها ، ثم أجاب من بينها عما اقتضى الجواب . انتهى ، وهو كلام حسن .

وقرأ الجمهور :{ قَدْ جَاءتْكَ } ، بفتح الكاف وفتح تاء ما بعدها ، خطاباً للكافر ذي النفس .

وقرأ ابن يعمر والجحدري ، وأبو حيوة ، والزعفراني ، وابن مقسم ، ومسعود بن صالح ، والشافعي عن ابن كثير ، ومحمد بن عيسى في اختياره وعن نصير ، والعبسي : بكسر الكاف والتاء ، خطاب للنفس ، وهي قراءة أبي بكر الصديق وابنته عائشة ، رضي اللّه عنهما ، وروتهما أم سلمة عن النبي / صلى اللّه عليه وسلم.

وقرأ الحسن ، والأعرج ، والأعمش : جأتك ، بالهمز من غير مد ، بوزن بعتك ، وهو مقلوب من جاءتك ، قدمت لام الكلمة وأخرت العين فسقطت الألف ، كما سقطت في رمت وعرب . ولما ذكر مقالة الكافر ، ذكر ما يعرض له يوم القيامة من الإنذار بسوء منقلبة ، وفي ضمنه وعيد لمعاصريه ، عليه السلام . والرؤية هنا من رؤية البصر ، وكذبهم نسبتهم إليه تعالى البنات والصاحبة والولد ، وشرعهم ما لم يأذن به اللّه . والظاهر أنه عام في المكذبين على اللّه ، وخصه بعضهم بمشركي العرب وبأهل الكتابين . وقال الحسن : هم القدرية يقولون : إن شئنا فعلنا ، وإن شئنا لم نفعل . وقال القاضي : يجب حمل الآية على الكل من المجبرة والمشبهة وكل من وصف شئنا فعلنا ، وإن شئنا لم نفعل . وقال القاضي : يجب حمل الآية على الكل من المجبرة والمشبهة وكل من وصف اللّه بما لا يليق به نفياً وإثباتاً ، فأضاف إليه ما يجب أن لا يضاف إليه ، فالكل كذبوا على اللّه ؛ فتخصيص الآية بالمجبرة والمشبهة واليهود والنصارى لا يجوز .

وقال الزمخشري :{ كَذَبُواْ عَلَى اللّه } : وصفوه بما لا يجوز عليه ، وهو متعال عنه ، فأضافوا إليه الولد والشريك ، وقالوا :{ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّه } ، وقالوا :{ لَوْ شَاء الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ } ، وقالوا :{ وَاللّه أَمَرَنَا بِهَا } ، قوم يسفهونه بفعل القبائح . ويجوز أن يخلق خلقاً لا لغرض ، وقوله : لا لغرض ، ويظلمونه بتكليف ما لا يطاق ، ويجسمونه بكونه مرئياً مدركاً بالحاسة ، ويثبتون له يداً وقدماً وجنباً مستترين بالبلكفة ، ويجعلون له أنداداً بإثباتهم معه قدماً . انتهى ، وكلام من قبله على طريقة المعتزلة . والظاهر أن الرؤية من رؤية البصر ، وأن { وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ } جملة في موضع الحال ، وفيها رد على الزمخشري ، إذ زعم أن حذف الواو من الجملة الاسمية في موضع المفعول الثاني ، وهو بعيد ، لأن تعلق البصر برؤية الأجسام وألوانها أظهر من تعلق القلب . وقرىء : وجوههم مسودّة بنصبهما ، فوجوههم بدل بعض من كل .

وقرأ أبي : أجوههم ، بإبدال الواو همزة ، والظاهر أن الاسوداد حقيقة ، كما مر في قوله :{ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ} و

قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون في العبارة تجوز ، وعبر بالسواد عن ارتداد وجوههم وغالب همهم وظاهر كآبتهم .

ولما ذكر تعالى حال الكاذبين على اللّه ، ذكر حال المتقين ، أي الكذب على اللّه وغيره ، مما يؤول بصاحبه إلى اسوداد وجهه ، وفي ذلك الترغيب في هذا الوصف الجليل الذي هو التقوى . قال السدي

{بِمَفَازَتِهِمْ } : بفلاحهم ، يقال : فاز بكذا إذا أفلح به وظفر بمراده ، وتفسير المفازة قوله :{ لاَ يَمَسُّهُمُ السُّوء وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } ، كأنه قيل : وما مفازتهم ؟ قيل : لا يمسهم السوء ، أي ينجيهم بنفي السوء والحزن عنهم ، أو بسبب منجاتهم من قوله تعالى :{ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مّنَ الْعَذَابِ } ،أي بمنجاة منه ، لأن النجاة من أعظم الفلاح ، وسبب منجاتهم العمل الصالح ، ولهذا فسر ابن عباس رضي اللّه عنه المفازة : بالأعمال الحسنة ؛ ويجوز بسبب فلاحهم ، لأن العمل الصالح سبب الفلاح ، وهو دخول الجنة . ويجوز أن يسمى العمل الصالح بنفسه مفازة ، لأنه سببها .

فإنقلت :{ لاَ يَمَسُّهُمُ } ، ما محله من الإعراب على التفسيرين ؟

قلت : أما على التفسير الأول فلا محل له ، لأنه كلام مستأنف ،

وأما على الثاني فمحله النصب على الحال . انتهى .

وقرأ الجمهور : بمفازتهم على الإفراد ، والسلمي ، والحسن ، والأعرج ، والأعمش ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر : على الجمع ، من حيث النجاة أنواع ، والأسباب مختلفة . قال أبو علي : المصادر تجمع إذا اختلفت أجناسها كقوله :{ وَتَظُنُّونَ بِاللّه الظُّنُونَاْ} وقال الفراء : كلا القراءتين صواب ، تقول : قد تبين أمر الناس وأمور الناس . ولما ذكر تعالى الوعد والوعيد ، عاد إلى دلائل الإلهية والتوحيد ، فذكر أنه خالق كل شيء ، فدل على أعمال العباد لاندراجها في عموم كل شيء ، وأنه على كل الأشياء قائم لحفظها وتدبيرها .

٦٣

{لَّهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ } : قال ابن عباس : مفاتيح ، وهذه استعارة ، كما تقول : بيد فلان مفتاح هذا الأمر . وعن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : { أن المقاليد لا إله إلا اللّه ، واللّه أكبر ، وسبحان اللّه ، والحمد للّه ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم ، هو الأول والآخر ، والظاهر والباطن ، بيده الخير ، يحيي ويميت ، وهو على كل شيء قدير} . وتأويله على هذا : أن للّه هذه الكلمات ، يوحد بها ويمجد ، وهي مفاتيح خير السموات والأرض ، من تكلم بها من المتقين أصاب .{ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِئَايَاتِ اللّه } وكلماته توحيده وتمجيده ، { أُولَائِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}

وقال الزمخشري :

فإن قلت : بم اتصل قوله :{ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ } ؟

قلت : بقوله :{ وَيُنَجّى اللّه الَّذِينَ اتَّقَوْاْ بِمَفَازَتِهِمْ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ هُمُ الْخَاسِرُونَ } واعترض بينهما : بأن خالق الأشياء كلها ، وهو مهيمن عليها ، لا يخفى عليه شيء من أعمال المكلفين منها وما يستحقون عليها من الجزاء ، وأن { لَّهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ} قال أبو عبد اللّه الرازي : وهذا عندي ضعيف من وجهين :

الأول : أن وقوع الفاصل الكثير بين المعطوف والمعطوف عليه بعيد .

والثاني : أن قوله تعالى :{ وَيُنَجّى اللّه الَّذِينَ اتَّقَوْاْ } : جملة فعلية ، وقوله :{ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ } : جملة اسمية ، وعطف الجملة الاسمية على الجملة الفعلية لا يجوز ، والأقرب عندي أن يقال : إنه لما وصف بصفات الإلهية والجلالة ، وهو كونه خالق الأشياء كلها ، وكونه مالكاً لمقاليد السموات والأرض ، وقال : الذين كفروا بهذه الآيات الظاهرة الباهرة هم الخاسرون . انتهى ، وليس بفاصل كثير . وقوله : وعطف الجملة الاسمية على الجملة الفعلية لا يجوز ، كلام من لم يتأمل لسان العرب ، ولا نظر في أبواب الاشتغال .

وأما قوله : والأقرب عندي فهو مأخوذ من قول الزمخشري ، وقد جعل متصلاً بما يليه ، على أن كل شيء في السموات والأرض فاللّه خالقه وفاتح بابه ، والذين كفروا وجحدوا أن يكون الأمر كذلك { أُولَائِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}

٦٤

انظر تسفير الآية:٦٥

٦٥

روي أنه قال للرسول عليه السلام : المشركون استلم بعض آلهتنا ونؤمن بإلهك ، وغير منصوب بأعبد . قال

الأخفش : تأمروني ملغاة ، وعنه أيضاً : أفغير نصب بتأمروني لا بأعبد ، لأن الصلة لا تعمل فيما قبلها ، إذ الموصول منه حذف فرفع ، كما في قوله :

ألا أيها ذا الزاجري احضر الوغى

والصلة مع الموصول في موضع النصب بدلاً منه ، أي أفغير اللّه تأمرونني عبادته ؟ والمعنى : أتأمرونني بعبادة غير اللّه ؟

وقال الزمخشري : أو ينصب بما يدل عليه جملة قوله : { تَأْمُرُونّى أَعْبُدُ } ، لأنه في معنى تعبدون وتقولون لي : اعبده ، وأفغير اللّه تقولون لي اعبد ، فكذلك أفغير اللّه تقولون لي أن اعبده ، وأفغير اللّه تأمروني أن أعبد . والدليل على صحة هذا الوجه قراءات من قرأ أعبد بالنصب ، يعني : بنصب الدال بإضمار أن .

وقرأ الجمهور : تأمروني ، بإدغام النون في نون الوقاية وسكون الياء ؛ وفتحها ابن كثير .

وقرأ ابن عامر : تأمرنني ، بنونين على الأصل ؛ ونافع : تأمرني ، بنون واحدة مكسورة وفتح الياء .

قال ابن عطية : وهذا على حذف النون الواحدة ، وهي الموطئة لياء المتكلم ، ولا يجوز حذف النون الأولى ، وهو لحن ، لأنها علامة رفع الفعل . انتهى . وفي المسألة خلاف ، منهم من يقول : المحذوفة نون الرفع ، ومنهم من يقول : نون الوقاية ، وليس بلحن ، لأن التركيب متفق عليه ، والخلاف جرى في أيهما حذف ، وختار أنها نون الرفع .

ولما كان الأمر بعبادة غير اللّه لا يصدر إلا من غبي جاهل ، نادهم بالوصف المقتضي ذلك فقال :{ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} ولما كان الإشراك مستحيلاً على من عصمه اللّه ، وجب تأويل قوله :{ لَئِنْ أَشْرَكْتَ } أيها السامع ، ومضى الخطاب على هذا التأويل . ويدل على هذا التأويل أنه ليس براجع الخطاب للرسول ، إفراداً لخطاب في { لَئِنْ أَشْرَكْتَ } ، إذ لو كان هو المخاطب ، لكان التركيب : لئن أشركتما ، فيشمل ضمير هو ضمير الذين من قبله ، ويغلب الخطاب .

وقال الزمخشري :

فإن قلت : المومى إليهم جماعة ، فكيف قال :{ لَئِنْ أَشْرَكْتَ } على التوحيد ؟ قلت معناه : لئن أوحى إليك ، { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ مّثْلِهِ } ، وأوحى إليك وإلى كل واحد منهم { لَئِنْ أَشْرَكْتَ } ، كما تقول : كسانا حلة ، أي كل واحد منا .

فإن قلت : كيف يصح هذا الكلام مع علم اللّه تعالى أن رسله لا يشركون ولا يحبط أعمالهم ؟

قلت : هو على سبيل الفرض والمحالات يصح فرضها ثم ذكر كلاماً يوقف عليه في كتابه . ويستدل بهذه الآية على حبوط عمل المرتد من صلاة وغيرها . وأوحى : مبني للمفعول ، ويظهر أن الوحي هو هذه الجمل : من قوله :{ لَئِنْ أَشْرَكْتَ إِلَىَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ } وهذا لا يجوز على مذهب البصريين ، لأن الجمل لا تكون فاعلة ، فلا تقوم مقام الفاعل . وقال مقاتل : أوحى إليك بالتوحيد ، والتوحيد محذوف . ثم قال :{ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } ، والخطاب للنبي عليه السلام خاصة . انتهى . فيكون الذي أقيم مقام الفاعل هو الجار والمجرور ، وهو إليك ، وبالتوحيد فضلة يجوز حذفها لدلالة ما قبلها عليها .

وقرأ الجمهور :{ لَيَحْبَطَنَّ } مبنياً للفاعل ، { عَمَلُكَ } : رفع به . وقرىء : ليحبطن بالياء ، من أحبط عمله بالنصب ، أي ليحبطن اللّه عملك ، أو الإشراك عملك . وقرىء بالنون أي : لنحبطن عملك بالنصب ، والجلالة منصوبة بقوله : فاعبد على حدّ قولهم : زيد فاضرب ، وله تقرير في النحو وكيف دخلت هذه الفاء . وقال الفراء : إن شئت نصبه بفعل مضمر قبله ، كأنه يقدر : اعبد اللّه فاعبده .

٦٦

انظر تسفير الآية:٧٠

٦٧

انظر تسفير الآية:٧٠

٦٨

انظر تسفير الآية:٧٠

٦٩

انظر تسفير الآية:٧٠

٧٠

وقال الزمخشري :{ بَلِ اللّه فَاعْبُدْ } ، لما أمروه به من استلام بعض آلهتهم ، كأنه قال : لا تعبد ما أمروك بعبادته ، بل إن كنت عاقلاً فاعبد اللّه ، فحذف الشرط وجعل تقدم المفعول عوضاً منه . انتهى . ولا يكون تقدم المفعول عوضاً من الشرط لجواز أن يجيء : زيد فعمراً اضرب . فلو كان عوضاً ، لم يجز الجمع بينهما .{ وَكُنْ مّنَ الشَّاكِرِينَ } لأنعمه التي أعظمها الهداية لدين اللّه .

وقرأ عيسى : بل اللّه بالرفع ، والجمهور : بالنصب .{ وَمَا قَدَرُواْ اللّه حَقَّ قَدْرِهِ } : أي ما عرفوه حق معرفته ، وما قدروه في أنفسهم حق تقديره ، إذ أشركوا معه غيره ، وساووا بينه وبين الحجر والخشب في العبادة .

وقرأ الأعمش : حق قدره بفتح الدال ؛

وقرأ الحسن ، وعيسى ، وأبو نوفل ،

وأبو حيوة : وما قدروا بتشديد الدال ، حق قدره : بفتح الدال ، أي ما عظموه حقيقة تعظيمه . والضمير في قدروا ، قال ابن عباس : في كفار قريش ، كانت هذه الآية كلها محاورة لهم وردًّا عليهم .

وقيل : نزلت في قوم من اليهود تكلموا في صفات اللّه وجلاله ، فألحدوا وجسموا وجاءوا بكل تخليط . وهذه الجملة مذكورة في الأنعام وفي الحج وهنا .

ولما أخبر أنهم ما عرفوه حق معرفته ، نبههم على عظمته وجلاله شأنه على طريق التصوير والتخييل فقال : { وَالاْرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ}

وقال الزمخشري : والغرض من هذا الكلام ، إذا أخذته كما هو بجملته ومجموعة تصوير عظمته والتوقيف على كنه جلاله لا غير ، من غير ذهاب بالقبضة ولا باليمين إلى جهة حقيقة أو جهة مجاز . انتهى . ويعني : أو جهة مجاز معين ، والإخبار : التصوير ، والتخييل هو من المجاز . وقال غيره : الأصل في الكلام حمله على حقيقته ، فإن قام دليل منفصل على تعذر حمله عليها ، تعين صرفه إلى المجاز . فلفظ القبضة واليمين حقيقة في الجارحة ، والدليل العقلي قائم على امتناع ثبوت الأعضاء والجوارح للّه تعالى ، فوجب الحمل على المجاز ، وذلك أنه يقال : فلان في قبضة فلان ، إذا كان تحت تدبيره وتسخيره ، ومنه :{أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } ، فالمراد كونه مملوكاً لهم ، وهذه الدار في يد فلان ، وقبض فلان كذا ، وصار في قبضته ، يريدون خلوص ملكه ، وهذا كله مجاز مستفيض مستعمل . و

قال ابن عطية : اليمين هنا والقبضة عبارة عن القدرة ، وما اختلج في الصدر من غير ذلك باطل . وما ذهب إليه القاضي ، يعني ابن الطيب ، من أنها صفات زائدة على صفات الذات ، قول ضعيف ، ويحسب ما يختلج في النفوس التي لم يحصها العلم .

قال عز وجل :{ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } : أي منزه عن جميع الشبه التي لا تليق به . انتهى . وقال القفال : هذا كقول القائل : وما قدرني حق قدري ، وأنا الذي فعلت كذا وكذا ، أي لما عرفت أن حالي وصفتي هذا الذي ذكرت ، وجب أن لا تخطىء عن قدري ومنزلتي ، ونظيره :{ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّه وَكُنتُمْ أَمْواتًا فَأَحْيَاكُمْ } ،أي كيف تكفرون من هذه صفته وحال ملكه ؟ فكذا هنا ، { وَمَا قَدَرُواْ اللّه حَقَّ قَدْرِهِ } : أي زعموا أن له شركاء ، وأنه لا يقدر على إحياء الموتى ، مع أن الأرض والسموات في قبضة قدرته . انتهى .{ والاْرْضِ } : أي والأرضون السبع ، ولذلك أكد بقوله :{ جَمِيعاً } ، وعطف عليه { والسموات } ، وهو جمع ، والموضع موضع تفخيم ، فهو مقتض المبالغة . والقبضة : المرة الواحدة من القبض ، وبالضم : المقدار المقبوض بالكف ، ويقال في المقدار : قبضته بالفتح ، تسمية له بالقدر ، فاحتمل هنا هذا المعنى . واحتمل أن يراد المصدر على حذف مضاف ، أي ذوات قبضة ، أي يقبضهن قبضة واحدة ، فالأرضون مع سعتها وبسطتها لا يبلغن إلا قبضة كف ، وانتصب جميعاً على الحال . قال الحوفي : والعامل في الحال ما دل عليه قبضته انتهى . ولا يجوز أن يعمل فيه قبضته ، سواء كان مصدراً ، أم أريد به المقدار .

وقال الزمخشري : ومع القصد إلى الجمع يعني في الأرض ، وأنه أريد بها الجمع قال : وتأكيده بالجميع ، أتبع الجميع مؤكدة قبل مجيء ذلك الخبر ، ليعلم أول الأمر أن الخبر الذي يرد لا يقع عن أرض واحدة ، ولكن عن الأراضي كلهن . انتهى . ولم يذكر العامل في الحال ، ويوم القيامة معمول لقبضته .

وقرأ الحسن : قبضته بالنصب . قال ابن خالويه : بتقدير في قبضته ، هذا قول الكوفيين .

وأما أهل البصرة فلا يجيزون ذلك ، كما لا يقال : زيد داراً انتهى .

وقال الزمخشري : جعلها ظرفاً مشبهاً للوقت بالمبهم .

وقرأ عيسى ، والجحدري : مطويات بالنصب على الحال ، وعطف والسموات على الأرض ، فهي داخلة في حيز والأرض ، فالجميع قبضته . وقد استدل بهذه القراءة الأخفش على جواز : زيد قائماً في الدار ، إذ أعرب والسموات مبتدأ ، وبيمينه الخبر ، وتقدمت الحال والمجرور ، ولا حجة فيه ، إذ يكون والسموات معطوفاً على والأرض ، كما قلنا ، وبيمينه متعلق بمطويات ، ومطويات : من الطي الذي هو ضد النشر ، كما

قال تعالى :{ تُوعَدُونَ يَوْمَ نَطْوِى السَّمَاء كَطَىّ السّجِلّ } ، للكتاب وعادة طاوي السجل أن يطويه

بيمينه .

وقيل : قبضته ملكه بلا مدافع ولا منازع ، وبيمينه : وبقدرته .

قال الزمخشري :

وقيل : مطويات بيمينه : مفنيات بقسمه ، لأنه أقسم أن يفنيها ؛ ثم أخذ ينحي على من تأول هذا التأويل بما يوقف عليه في كتابه ، وإنما قدر عظمته بما سبق إردافه أيضاً بما يناسب من ذلك ، إذ كان فيما تقدم ذكر حال الأرض والسموات يوم القيامة ، فقال : { وَنُفِخَ فِى الصُّورِ } ، وهل النفخ في الصور ثلاث مرات أو نفختان ؟ قول الجمهور : فنفخة الفزع هي نفخة الصعق ، والصعق هنا الموت ، أي فمات من في السموات ومن في الأرض .

قال ابن عطية : والصور هنا : القرن ، ولا يتصور هنا غير هذا . ومن يقول : الصور جمع صورة ، فإنما يتوجه قوله في نفخة البعث . وروي أن بين النفختين أربعين . انتهى ، ولم يعين . وقراءة قتادة ، وزيد بن عليّ هنا : في الصور ، بفتح الواو جمع صورة ، يعكر على قول ابن عطية ، لأنه لا يتصور هنا إلا أن يكون القرن ، بل يكون هذا النفخ في الصور مجازاً عن مشارفة الموت وخروج الروح . وقرىء : فصعق بضم الصاد ، والظاهر أن الاستثناء معناه :{ إِلاَّ مَن شَاء اللّه } ، فلم يصعق : أي لم يمت ، والمستثنون : جبريل ، وميكائيل ، وإسرافيل ، وملك الموت ، أو رضوان خازن الجنة ، والحور ، ومالك ، والزبانية ؛ أو المستثنى اللّه ، أقوال آخرها للحسن ، وما قبله للضحاك .

وقيل : الاستثناء يرجع إلى من مات قبل الصعقة الأولى ، أي يموت من في السموات والأرض إلا من سبق موته ، لأنهم كانوا قد ماتوا ، وهذا نظير :{ لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الاْولَى } ثم نفخ فيه أخرى ، واحتمل أخرى على أن تكون في موضع نصب ، والقائم مقام الفاعل الجار والمجرور ، كما أقيم في اوول ، وأن يكون في موضع رفع مقاماً مقام الفاعل ، كما صرح به في قوله :{ فَإِذَا نُفِخَ فِى الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ}

{فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ } : أي أحياء قد أعيدت لهم الأبدان والأرواح ، { يُنظَرُونَ } : أي ينتظرون ما يؤمرون ، أو ينتظرون ماذا يفعل بهم ، أو يقلبون أبصارهم في الجهات نظر المبهوت إذا فاجأه خطب عظيم . والظاهر قيامهم الذي هو ضد القعود لأجل استيلاء الذهن عليهم .

وقرأ زيد بن علي : قياماً بالنصب على الحال ، وخبر المبتدأ الظرف الذي هو إذا الفجائية ، وهي حال لا بد منها ، إذ هي محط الفائدة ، إلا أن يقدر الخبر محذوفاً ، أي فإذا هم مبعوثون ، أي موجودون قياماً . وأن نصبت قياماً على الحال ، فالعامل فيها ذلك الخبر المحذوف . إن قلنا الخبر محذوف ، وأن لا عامل ، فالعامل هو العامل في الظرف ، إن كان إذا ظرف مكان على ما يقتضيه كلام سيبويه ، فتقديره : فبالحضرة هم قياماً ؛ وإن كان ظرف زمان ، كما ذهب إليه الرياشي ، فتقديره : ففي ذلك الزمان الذي نفخ فيه ، هم أي وجودهم ، واحتيج إلى تقدير هذا المضاف لأن ظرف الزمان لا يكون خبراً عن الجثة ؛ وإن كانت إذا حرفاً ، كما زعم الكوفيون ، فلا بد من تقدير الخبر ، إلا أن اعتقد أن ينظرون هو الخبر ، ويكون ينظرون عاملاً في الحال .

وقرأ الجمهور :{ وَأَشْرَقَتِ } مبنياً للفاعل ، أي أضاءت ؛ وابن عباس ، وعبيد بن عمير ، وأبو الجوزاء : مبنياً للمفعول من شرقت بالضوء تشرق ، إذا امتلأت به واغتصت وأشرقها اللّه ، كما تقول : ملأ الأرض عدلاً وطبقها عدلاً ، قاله الزمخشري . و

قال ابن عطية : وهذا إنما يترتب على فعل يتعدى ، فهذا على أن يقال : أشرق البيت وأشرقه السراج ، فيكون الفعل مجاوزاً وغير مجاوز ، كرجع ورجعته ووقف ووقفته . والأرض في هذه الآية : الأرض المبدلة من الأرض المعروفة ، ومعنى أشرقت : أضاءت وعظم نورها . انتهى . وقال صاحب اللوامح : وجب أن يكون الإشراق على هذه القراءة منقولاً من شرقت الشمس إذا طلعت ، فيصير متعدياً بالفعل بمعنى : أذهبت ظلمة الأرض ، ولا يجوز أن يكون من أشرقت إذا أضاءت ، فإن ذلك لازم ، وهذا قد تعدى إلى الأرض لما لم يذكر الفاعل ، وأقيمت الأرض مقامه ؛ وهذا على معنى ما ذهب إليه بعض المتأخرين من غير أن يتقدم في ذلك ، لأن من الأفعال ما يكون متعدياً لازماً معاً على مثال واحد . انتهى .

وفي الحديث الصحيح : { يحشر الناس على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي ، ليس بها علم لأحد بنور ربها} .قيل : يخلق اللّه

نوراً يوم القيامة ، فيلبسه وجه الأرض ، فتشرق الأرض به ،

وقال ابن عباس : النور هنا ليس من نور الشمس والقمر ، بل هو نور يخلقه اللّه فيضيء الأرض . وروي أن الأرض يومئذ من فضة ، والمعنى : أشرقت بنور خلقه اللّه تعالى ، أضافه إليه إضافة الملك إلى الملك .

وقال الزمخشري : استعار اللّه النور للحق ، والقرآن والبرهان في مواضع من التنزيل ، وهذا من ذلك . والمعنى : وأشرقت الأرض بما يقيمه فيها من الحق والعدل ، وبسط من القسط في الحسنات ، ووزن الحسنات والسيئات ، وينادي عليه بأنه مستعار إضافته إلى اسمه ، لأنه هو الحق العدل ، وإضافة اسمه إلى الأرض ، لأنه يزينها حين ينشر فيها عدله ، وينصب فيها موازين قسطه ، ويحكم بالحق بين أهلها ، ولا ترى أزين للبقاع من العدل ولا أعمر لها منه ، ويقولون للملك العادل : أشرقت الآفاق بعدلك وأضاءت الدنيا بقسطك ، كما يقولون : أظلمت البلاد بجور فلان . وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { الظلم ظلمات يوم القيامة } ، وكما فتح الآية بإثبات العدل ، ختمها بنفي الظلم .

{وَوُضِعَ الْكِتَابُ } : أي صحائف الأعمال ووحد ، لأنه اسم جنس ، وكل أحد له كتاب على حدة ، وأبعد من قال : الكتاب هنا اللوح المحفوظ . وروي ذلك عن ابن عباس ، ولعله لا يصح ، وقد ضعف بأن الآية سيقت مقام التهديد في سياق الخير .{ وَجِىء بِالنَّبِيّيْنَ } ليشهدوا على أممهم ، { وَالشُّهَدَاء } ،قيل : جمع شاهد ، وهم الذين يشهدون على الناس بأعمالهم .

وقيل : هم الرسل من الأنبياء .

وقيل : أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم ، يشهدون للرسل . وقال عطاء ، ومقاتل ، وابن زيد : الحفظة . وقال ابن زيد أيضاً : النبيون ، والملائكة ، وأمة محمد عليه السلام ، والجوارح . وقال قتادة : الشهداء جمع شهيد ، وليس فيه توعد ، وهو مقصود الآية .{ وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ } : أي بين العالم ، ولذلك قسموا بعد إلى قسمين : أهل النار وأهل الجنة ، { بِالْحَقّ } : أي بالعدل .{ وَوُفّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ } : أي جوزيت مكملاً .{ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ } ، فلا يحتاج إلى كاتب ولا شاهد ، وفي ذلك وعيد وزيادة تهديد .

٧١

انظر تسفير الآية:٧٢

٧٢

{وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءوهَا فُتِحَتْ أَبْوابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مّنكُمْ يَتْلُونَ}

ولما ذكر أشياء من أحوال يوم القيامة على سبيل الإجمال ، بين بعد كيفية أحوال الفريقين وما أفضى إليه كل واحد منهما فقال :{ وَسِيقَ } ، والسوق يقتضي الحث على المسير بعنف ، وهو الغالب فيه . وجواب إذا :{ فُتِحَتْ أَبْوابُهَا } ، ودل ذلك على أنه لا يفتح إلا إذا جاءت ؛ كسائر أبواب السجون ، فإنها لا تزال مغلقة حتى يأتي أصحاب الجرائم الذين يسجنون فيها فيفتح ثم يغلق عليهم . وتقدم ذكر قراءة التخفيف والتشديد في فتحت وأبوابها سبعة ، كما ذكر في سورة الحجر .{ وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا } ، على سبيل التقريع والتوبيخ ، { أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مّنكُمْ } : أي من جنسكم ، تفهمون ما ينبئونكم به ، وسهل عليكم مراجعتهم .

وقرأ ابن هرمز : تأتكم بتاء التأنيث ؛ والجمهور : بالياء .{ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ ءايَاتِ رَبّكُمْ } : أي الكتب المنزلة للتبشير والنذارة ، { وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَاذَا } : وهو يوم القيامة ، وما يلقى فيه المسمى من العذاب ، { قَالُواْ بَلَى } أي قد جاءتنا ، وتلوا وأنذروا ، وهذا اعتراف بقيام الحجة عليهم ، { وَلَاكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ } أيقوله تعالى :{ لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ}{ عَلَى الْكَافِرِينَ } : وضع الظاهر موضع المضمر ، أي علينا ، صرحوا بالوصف الموجب لهم العقاب .

ولما فرغت محاورتهم مع

الملائكة ، أمروا بدخول النار .

٧٣

{وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ إِلَى الّجَنَّةِ زُمَراً } : عبر عن الإسراع بهم إلى الجنة مكرمين بالسوق ، والمسوق دوابهم ، لأنهم لا يذهبون إليها إلا راكبين . ولمقابلة قسيمهم ساغ لفظ السوق ، إذ لو لم يتقدم لفظ وسيق لعبر بأسرع ، وإذا شرطية وجوابها قال الكوفيون : وفتحت ، والواو زائدة ؛ وقال غيره محذوف .

قال الزمخشري : وإنما حذف لأنه في صفة ثواب أهل الجنة ، فدل على أنه شيء لا يحيط به الوصف ، وحق موقعه ما بعد خالدين . انتهى . وقدره المبرد بعد خالدين سعدوا .

وقيل الجواب :{ وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا } ، على زيادة الواو ، قيل :{ حَتَّى إِذَا جَاءوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوابُهَا} ومن جعل الجواب محذوفاً ، أو جعله :{ وَقَالَ لَهُمْ } ، على زيادة الواو ؛ وجعل قوله : وفتحت جملة حالية ، أي وقد فتحت أبوابها لقوله :{ جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الاْبْوَابُ} وناسب كونها حالاً أن أبواب الأفراح تكون مفتحة لانتظار من تجيء إليها ، بخلاف أبواب السجود .{ وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ } : يحتمل أن يكون تحية منهم عند ملاقاتهم ، وأن كون خبراً بمعنى السلامة والأمن .{ طِبْتُمْ } : أي أعمالاً ومعتقداً ومستقراً وجزاء .{ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ } : أي مقدرين الخلود .

٧٤

انظر تسفير الآية:٧٥

٧٥

{وَقَالُواْ } ،أي الداخلون ، الجنة { الْحَمْدُ للّه الَّذِى صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الاْرْضَ } : أي ملكناها نتصرف فيها كما نشاء ، تشبيهاً بحال الوارث وتصرفه فيما يرثه .

وقيل : ورثوها من أهل النار ، وهي أرض الجنة ، ويبعد قول من قال هي أرض الدنيا ، قاله قتادة وابن زيد والسدي .{ نَتَبَوَّأُ } منها ، { حَيْثُ نَشَاء } : أي نتخذ أمكنة ومساكن . والظاهر أن قوله :{ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ } : أي بطاعة اللّه هذا الأجر من كلام الداخلين . وقال مقاتل : هو من كلام اللّه تعالى .{ وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافّينَ } : الخطاب للرسول حافين . قال الأخفش : واحدهم حاف . وقال الفراء : لا يفرد .

وقيل : لأن الواحد لا يكون حافاً ، إذ الحفوف : الإحداق بالشيء من حول العرش . قال الأخفش : من زائدة ، أي حافين حول العرش ؛

وقيل : هي لابتداء الغاية . والظاهر عود الضمير من بينهم على الملائكة ، إذ ثوابهم ، وإن كانوا معصومين ، يكون على حسب تفاضل مراتبهم . فذلك هو القضاء بينهم بالحق ؛

وقيل : ضمير { الْحَمْدُ للّه رَبّ الْعَالَمِينَ} الظاهر أن قائل ذلك هم من ذوات بينهم المخاطبة من الداخلين الجنة ومن خزنتها ، ومن الملائكة الحافين حول العرش ، إذ هم في نعم سرمدي منجاة من عذاب اللّه .

وقال الزمخشري : المقضي بينهم ، إما جميع العباد ،

وإما الملائكة ، كأنه قيل :{ وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقّ} وقالوا :{ الْحَمْدُ للّه رَبّ الْعَالَمِينَ } على إفضاله وقضائه بيننا بالحق ، وأنزل كل منا منزلته التي هي حقه . و

قال ابن عطية :

وقيل :{ الْحَمْدُ للّه رَبّ الْعَالَمِينَ } خاتمة المجالس المجتمعات في العلم .

﴿ ٠