٣١{اللّه نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ} عن ابن عباس ، أن قوماً من الصحابة قالوا : يا رسول اللّه ، حدثنا بأحاديث حسان ، وبأخبار الدهر ، فنزل :{ اللّه نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} وعن ابن مسعود ، أن الصحابة ملؤوا مكة ، فقالوا له : حدثنا ، فنزلت . والابتداء باسم اللّه ، وإسناد نزل لضميره مبنياً عليه فيه تفخيم للمنزل ورفع منه ، كما تقول : الملك أكرم فلاناً ، هو أفخم من : أكرم الملك فلاناً . وحكمة ذلك البداءة بالأشراف من تذكر ما تسند إليه ، وهو كثير في القرآن ، كقوله : { اللّه يَصْطَفِى مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً } / و { وكتاباً } بدل من { نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} وقال الزمخشري : ويحتمل أن يكون حالاً . انتهى . وكان بناء على أن { أَحْسَنَ الْحَدِيثِ } معرفة لإضافته إلى معرفة . وأفعل التفضيل ، إذا أضيف إلى معرفة ، فيه خلاف . فقيل : إضافته محضة ، وقيل : غير محضة . و { مُّتَشَابِهاً } : مطلق في مشابهة بعضه بعضاً . فمعانيه متشابهة ، لا تناقض فيها ولا تعارض ، وألفاظه في غاية الفصاحة والبلاغة والتناسب ، بحيث أعجزت العظماء والبلغاء . وقرأ الجمهور :{ مَّثَانِيَ } ، بفتح الياء ؛ وهشام ، وابن عامر ، وأبو بشر : بسكون الياء ، فاحتمل أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، واحتمل أن يكون منصوباً ، وسكن الياء على قول من يسكن الياء في كل الأحوال ، لانكسار ما قبلها استثقالا للحركة عليها . ومثاني يظهر أنه جمع مثنى ، ومعناه : موضع تثنية القصص والأحكام والعقائد والوعد والوعيد . وقيل : يثني في الصلاة بمعنى : التكرير والأعادة . انتهى . ووصف المفرد بالجمع ، لأن فيه تفاصيل ، وتفاصيل الشيء جملته . ألا ترى أنك تقول : القرآن سور وآيات ؟ فكذلك تقول : أحكام ومواعظ مكررات ، وأصله كتاباً متشابهاً فصولاً مثاني ، حذف الموصوف وأقيمت صفته مقامه . وأجاز الزمخشري أن يكون من باب برمة أعشار وثوب أخلاق ، وأن يكون تمييزاً عن متشابهاً ، فيكون منقولاً من الفاعل ، أي متشابهاً مثانية . كما تقول : رأيت رجلاً حسناً شمائل ، وفائدة تثنيته وتكرره رسوخه في النفوس ، إذ هي أنفر شيء عن سماع الوعظ والنصيحة . والظاهر حمل القشعريرة على الحقيقة ، إذ هو موجود عند الخشية ، محسوس يدركه الإنسان من نفسه ، وهو حاصل من التأثر القلبي . وقيل : هو تمثيل تصوير لإفراط خشيتهم ، والمعنى : أنه حين يسمعونه يتلي ما فيه من آيات الوعيد ، عرتهم خشية تنقبض منها جلودهم . ثم إذا ذكروا للّه ورحمته لانت جلودهم ، أي زال عنها ذلك التقبض الناشىء عن خشية القلوب بزوال الخشية عنها ، وضمن تلين معنى تطمئن جلودهم لينة غير منقبضة ، وقلوبهم راجية غير خاشية ، ولذلك عداه بإلى . وكان في ذكر القلوب في هذه الجملة دليل على تأثرها عند السماع ، فاكتفى بقشعريرة الجلود عن ذكر خشية القلوب لقيام المسبب مقام السبب . فلما ذكر اللين ذكرهما ، وفي ذكر اللين دليل على المحذوف الذي هو رحمة اللّه ، كما كان في قوله :{ إِذَا ذُكِرَ اللّه وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } ، دليل بقوله :{ وَجِلَتْ } عن ذكر المحذوف ، أي إذا ذكر وعيد اللّه وبطشه . وقال العباس بن عبد المطلب : قال النبي عليه السلام : { من اقشعر جلده من خشية اللّه تحاتت عنه ذنوبه كما يتحات عن الشجرة اليابسة ورقها} . وقال ابن عمر : وقد رأى ساقطاً من سماع القرآن فقال : إنا لنخشى اللّه ، وما نسقط هؤلاء يدخل الشيطان في جوف أحدهم . وقالت أسماء بنت أبي بكر : كان أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم عند سماع القرآن ، قيل لها : إن قوماً اليوم إذا اسمعوا القرآن خر أحدهم مغشياً عليه ، فقالت : أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم . وقال ابن سيرين : بيننا وبين هؤلاء الذين بصرعون عند قراءة القرآن أن يجعل أحدهم على حائط باسطاً رجليه ، ثم يقرأ عليه القرآن كله ، فإن رمى بنفسه فهو صادق . والإشارة بذلك إلى الكتاب ، أو إلى ذينك الوصفين من الاقشعرار واللين ، أي أثر هدى اللّه .{ أَفَمَن يَتَّقِى } : أي يستقبل ، كما قال الشاعر : سقط النصيف ولم ترد إسقاطه فتناولته واتقتنا باليد أي : استقبلتنا بيدها لتقي بيدها وجهها أن يرى . والظاهر حمل بوجهه على حقيقته . لما كان يلقي في النار مغلولة يداه إلى رجليه مع عنقه ، لم يكن له ما يتقي به النار إلا وجهه . قال مجاهد : يجر على وجهه في النار ، ويجوز أن يعبر بالوجه عن الجملة . وقيل : المعنى وصف كثرة ما ينالهم من العذاب ، يتقيه أولاً بجوارحه ، فيتزيد حتى يتقيه بوجهه الذي هو أشرف جوارحه ، وفيه جواب ، وهو غاية العذاب . قال ابن عطية : وهذا المعنى عندي أبين بلاغة . في هذا المضمار يجري قول الشاعر : يلقي السيوف بوجهه وبنحره ويقيم هامته مقام المغفر لأنه إنما أراد عظم جرأته عليها ، فهو يلقاها بكل مجن ، وبكل شيء عنه ، حتى بوجهه وبنحره . انتهى . و { سُوء الْعَذَابِ } : أشده ، وخبر من محذوف قدره الزمخشري : كمن أمن العذاب ، وابن عطية : كالمنعمين في الجنة .{وَقِيلَ لِلظَّلِمِينَ } : أي قال ذلك خزنة النار ، { ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ } : أي وبال ما كنتم { تَكْسِبُونَ } من الأعمال السيئة .{ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } : تمثيل لقريش بالأمم الماضية ، وما آل إليه أمرهم من الهلاك .{ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } : من الجهة التي لا يشعرون أن العذاب يأتيهم من قبلها ، ولا يخطر ببالهم أن الشر يأتيهم منها . كانوا في أمن وغبطة وسرور ، فإذا هم معذبون مخزيون ذليلون في الدنيا من ممسوخ ومقتول ومأسور ومنفي . ثم أخبر أن ما أعدلهم في الآخرة أعظم . وانتصب { قُرْءاناً عَرَبِيّاً } على الحال ، وهي حال مؤكدة ، والحال في الحقيقة هو عربياً ، وقرآنا توطئة له . وقيل : انتصب على المدح ، ونفى عنه العوج ، لأنه مستقيم يرى من الاختلاف والتناقض . وقال عثمان بن عفان : غير مضطرب . وقال ابن عباس : غير مختلف . وقال مجاهد : غير ذي لبس . وقال السدي : غير مخلوق . وقيل : غير ذي لحن . قال الزمخشري : فإن قلت : فهلا قيل مستقيماً أوغير معوج ؟ قلت : فيه فائدتان : إحدهما : نفى أن يكون فيه عوج قط ، كما قال :{ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا} والثاني : أن لفظ العوج مختص بالمعاني دون الأعيان . وقيل : المراد بالعوج : الشك واللبس ، وأنشد : وقد أتاك يقيناً غير ذي عوج من الإله وقول غير مكذوب انتهى . ولما ذكر تعالى أنه ضرب في القرآن { مِن كُلّ مَثَلٍ } : أي محتاج إليه ، ضرب هنا مثلاً لعابد آلهة كثيرة ، ومن يعبد اللّه وحده ، ومثل برجل مملوك اشترك فيه ملاك سيئو الأخلاق ، فهو لا يقدر أن يوفي كل واحد منهم مقصوده ، إذ لا يتغاضى بعضهم لبعض لمشاحتهم ، وطلب كل منهم أن يقضي حاجته على التمام ، فلا يزال في عناء وتعب ولوم من كل منهم . ورجل آخر مملوك جمعيه لرجل واحد ، فهو معني بشغله لا يشغله عنه شيء ، ومالكه راض عنه إن قد خلص لخدمته وبذل جهده في قضاء حوائجه ، فلا يلقى من سيده إلا إحساناً ، وتقدم الكلام في نصب المثل وما بعده . وقال الكسائي : انتصب رجلاً على إسقاط الخافض ، أي مثلاً لرجل ، أو في رجل فيه ، أي في رقه مشتركاً ، وفيه صلة لشركاء . وقرأ عبد اللّه ، وابن عباس ، وعكرمة ، ومجاهد ، وقتادة ، والزهري ، والحسن : بخلاف عنه ؛ والجحدري ، وابن كثير وأبو عمرو : سالما اسم فاعل من سلم ، أي خالصاً من الشركة . وقرأ الأعرج ، وأبو جعفر ، وشيبة ، وأبو رجاء ، وطلحة ، والحسن : بخلاف عنه ؛ وباقي السبعة : سلما بفتح السين واللام . وقرأ ابن جبير : سلما بكسر السين وسكون اللام ، وهما مصدر ان وصف بهما مبالغة في الخلوص من الشركة . وقرىء : ورجل سالم ، برفعهما . وقال الزمخشري : أي وهناك رجل سالم لرجل . انتهى ، فجعل الخبر هناك . ويجوز أن يكون ورجل مبتدأ ، لأنه موضع تفصيل ، إذ قد تقدم ما يدل عليه ، فيكون كقول امرىء القيس : إذا ما بكى من خلفها انحرفت له بشقّ وشق عندنا لم يحوّل وقال الزمخشري : وإنما جعله رجلاً ليكون أفطن لما شقى به أو سعد ، فإن المرأة والصبي قد يغفلان عن ذلك . وانتصب مثلاً على التمييز المنقول من الفاعل ، إذ التقدير : هل يستوي مثلهما ؟ واقتصر في التمييز على الواحد ، لأنه المقتصر عليه أو لا في قوله : { ضَرَبَ اللّه مَثَلاً } ، ولبيان الجنس . وقرىء : مثلين ، فطابق حال الرجلين . وقال الزمخشري : ويجوز فيمن قرأ مثلين أن يكون الضمير في يستويان للمثلين ، لأن التقدير مثل رجل ، والمعنى : هل يستويان فيما يرجع إلى الوصفية ؟ كما يقول : كفى بهما رجلين . انتهى . والظاهر أنه يعود الضمير في يستويان إلى الرجلين ، فأما إذا جعلته عائداً إلى المثلين اللذين ذكر أن التقدير مثل رجل ورجل ، فإن التمييز إذ ذاك يكون قد فهم من المميز الذي هو الضمير ، إذ يصير التقدير : هل يستوي المثلان مثلين ؟ قل :{ الْحَمْدُ للّه } : أي الثناء والمدح للّه لا لغيره ، وهو الذي ثبتت وحدانيته ، فهو الذي يجب أن يحمد ، { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } ، فيشركون به غيره . ولفظة الحمد للّه تشعر بوقوع الهلاك بهم بقوله :{ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ للّه رَبّ الْعَالَمِينَ} ولما لم يلتفتوا إلى هذه الدلائل الباهرة ، أخبر الجميع بأنهم ميتون وصائرون إليه ، وأن اختصامكم يكون بين يديه يوم القيامة ، وهو الحكم العدل ، فيتميز المحق من المبطل ، وهو عليه السلام وأتباعه المحقون الفائزون بالظفر والغلبة ، والكافرون هم المبطلون . فالضمير في وإنك خطاب للرسول ، وتدخل معه أمته في ذلك . والظاهر عود الضمير في { وَإِنَّهُمْ } على الكفار ، وغلب ضمير الخطاب في { إِنَّكَ } على ضمير الغيبة في إنهم ، ولذلك جاء { تَخْتَصِمُونَ } بالخطاب ، فتحتج أنت عليهم بأنك قد بلغت ، وكذبوا واجتهدت في الدعوة ، ولجوا في العناد . وقال أبو العالية : هم أهل القبلة ، يختصمون بينهم يوم القيامة في مظالمهم . وأبعد من ذهب إلى أن هذا الخصام سببه ما كان في قتل عثمان ، وما جرى بين علي ومعاوية بسبب ذلك ، رضى اللّه عنهم . وقيل : يختصم الجميع ، فالكفار يخاصم بعضهم بعضاً حتى يقال لهم : لا تختصموا لدي . والمؤمنون يتلقون الكافرين بالحجج ، وأهل القبلة يكون بينهم الخصام . وقرأ ابن الزبير ، وابن أبي إسحاق ، وابن محيصن ، وعيسى ، واليماني ، وابن أبي غوث ، وابن أبي عبلة : إنك مائت وإنهم مائتون ، وهي تشعر بحدوث الصفة ؛ والجمهور : ميت وميتون ، وهي تشعر بالثبوت واللزوم كالحي . |
﴿ ٣١ ﴾