٨

لما ذكر جدال الكفار في آيات اللّه وعصيانهم ، ذكر طاعة هؤلاء المصطفين من خلقه ، وهم حمله العرش ،  { وَمَنْ حَوْلَهُ } ، وهم الحافون به من الملائكة . وذكروا من وصف تلك الجملة وعظم خلقهم ، ووصف العرش ، ومن أي شيء خلق ، والحجب السبعينيات التي اختلفت أجناسها ، قالوا : احتجب اللّه عن العرش وعن حامليه ، واللّه أعلم به على أن قدرته تعالى محتملة لكل ما ذكروه مما لا يقتضي تجسيماً ، لكنه يحتاج إلى نقل صحيح .

وقرأ الجمهور :{ الْعَرْشِ } بفتح العين ؛ وابن عباس وفرقة : بضمها ، كأنه جمع عرش ، كسقف وسقف ، أو يكون لغة في العرش .

{يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ } : أي ينزهونه عن جميع النقائص ، { بِحَمْدِ رَبّهِمْ } : بالثناء عليه بأنه المنعم على الإطلاق . والتسبيح : إشارة إلى الإجلال ؛ والتحميد : إشارة إلى الإكرام ، فهو قريب من قوله :{ تَبَارَكَ اسْمُ رَبّكَ ذِى الْجَلَالِ وَالإكْرَامِ } ، ونظيره :{ وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقّ } ؛ وقولهم : ونحن نسبح بحمدك .{ وَيُؤْمِنُونَ } : أي ويصدقون بوجوده تعالى وبما وصف به نفسه من صفاته العلا ، وتسبيحهم إياه يتضمن الإيمان .

قال الزمخشري :

فإن قلت : ما فائدة قوله :{ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ } ، ولا يخفى على أحد أن حملة العرش ومن حوله من الملائكة الذين يسبحون بحمده مؤمنون ؟

قلت : فائدته إظهار شرف الإيمان وفضله والترغيب فيه ، كما وصف الأنبياء في غير موضع من كتابة بالصلاح لذلك ، وكما عقب أعمالهم الخير بقوله :{ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ } ، فأبان بذلك فضل الإيمان . وفائدة أخرى ، وهي التبيه على أن الأمر لو كان كما تقول المجسمة ، لكان حملة العرش ومن حوله مشاهد بن معاينين ، ولما وصفوا بالإيمان لأنه إنما يوصف بالإيمان الغائب . ولما وصفوا به على سبيل الثناء عليهم ، علم أن إيمانهم وإيمان من في الأرض وكل من غاب عن ذلك المقام سواء في أن إيمان الجميع بطريق النظر والاستدلال لا غير ، وأنه لا طريق إلى معرفته إلا هذا ، وأنه منزه عن صفات الإجرام .

وقد روعي التناسب في قوله :{ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ } ، كأنه قيل : ويؤمنون ويستغفرون لمن في مثل حالهم وصفتهم ، وفيه تنبيه على أن الإشتراك في الإيمان يجب أن يكون أدعى شيء إلى النصيحة ، وأبعثه على إمحاض الشفقة ، وإن تفاوتت الأجناس وتباعدت الأماكن ، فإنه لا تجانس بين ملك وانسان ، ولا بين سماء وأرض قط ثم لما جاء جامع الإيمان ، جاء معه التجانس الكلي والتناسب الحقيقي ، حتى استغفر من حول العرش لمن فوق الأرض ،

قال تعالى :{ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِى الاْرْضِ} انتهى ، وهو كلام حسن . إلا أن قوله : إن إيمان الجميع بطريق النظر والاستدلال لا غير فيه نظر ، وقوله :{ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ } تخصيص لعموم قوله :{ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِى الاْرْضِ} وقال مطرف بن الشخير : وجدنا أنصح العباد للعباد الملائكة ، وأغش العباد للعباد الشياطين ، وتلا هذه الآية . انتهى . وينبغي أن يقال : أنصح العباد للعباد الأنبياء والملائكة .{ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَىْء رَّحْمَةً وَعِلْماً } : أي يقولون : ربنا واحتمل هذا المحذوف بياناً ليستغفرون ، فيكون في محل رفع ، وأن يكون حالاً ، فيكون في موضع نصب . وكثيراً ما جاء النداء بلفظ ربنا ورب ، وفيه استعطاف العبد لمولاه الذي رباه وقام بمصالحه من لدن نشأته إلى وقت ندائه ، فهو جدير بأن لا يناديه إلا بلفظ الرب . وانتصب رحمة وعلماً على التمييز ، والأصل : وسعت رحمتك كل شيء ، وعلمك كل شيء ؛ وأسند الوسع إلى صاحبها مبالغة ، كأن ذاته هي الرحمة والعلم ، وقد وسع كل شيء . وقدم الرحمة ، لأنهم بها يستمطرون أحسانه ويتوسلون بها إلى

حصول مطلوبهم من سؤال المغفرة .

ولما حكى تعالى عنهم كيفية ثنائهم عليه ، وأخبر باستغفارهم ، وهو قولهم : { فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَاتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ} وطلب المغفرة نتيجة الرحمة ، وللذين تابوا يتضمن أنك علمت توبتهم ، فهما راجعان إلى قوله :{ رَّحْمَةً وَعِلْماً } ، و { اتَّبَعُواْ سَبِيلِكَ } ، وهي سبيل الحق التي نهجتها لعبادك ، { إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ } : الذي لا تغالب ، { الْحَكِيمُ } : الذي يضع الأشياء مواضعها التي تليق بها . ولما طلب الغفران يتضمن إسقاط العذاب ، أرادفوه بالتضرع بوقايتهم العذاب على سبيل المبالغة والتأكيد ، فقالوا :{ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ } ، وطلب المغفرة ، ووقاية العذاب للتأئب الصالح ، وقد وعد بذلك الوعد الصادق بمنزلة الشفاعة في زيادة الثواب والكرامة .

ولما سألوا إزالة العقاب ، سألوا اتصال الثواب ، وكرر الدعاء بربنا فقالوا :{ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ}

وقرأ الجمهور : جنات جمعاً ؛ وزيد بن علي ، والأعمش : جنة عدن بالإفراد ، وكذا في مصحف عبد اللّه ، وتقدم الكلام في إعراب التي في قوله :{ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِى وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ } في سورة مريم .

وقرأ ابن أبي عبلة : صلح بضم اللام ، يقال : صلح فهو صليح وصلح فهو صالح .

وقرأ عيسى : وذريتهم ، بالإفراد ؛ والجمهور بالجمع . وعن ابن جبير في تفسير ذلك أن الرجل يدخل الجنة قبل قرابته فيقول : أين أبي ؟ أين أمي ؟ أين ابني ؟ أين زوجتي ؟ فيلحقون به لصلاحه ولتنبيهه عليه وطلبه إياهم ، وهذه دعوة الملائكة . انتهى . وإذا كان الإنسان في خير ، ومعه عشيرته وأهله ، كان أبهج عنده وأسر لقلبه . والظاهر عطف ومن على الضمير في وأدخلهم ، إذ هم المحدث عنهم والمسئول لهم . وقال الفراء ، والزجاج : نصبه من مكانين : إن شئت على الضمير في { وَأَدْخِلْهُمْ } ، وإن شئت على الضمير في { وَعَدْتَّهُمْ}

﴿ ٨