١٨

{فَإِنْ أَعْرَضُواْ } : التفات خرج من ضمير الخطاب في قوله :{ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ } إلى ضمير الغيبة إعراضاً عن خطابهم ، إذ كانوا قد ذكروا بما يقتضي إقبالهم وإيمانهم من الحجج الدالة على الوحدانية والقدرة الباهرة ، { فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ } : أي أعلمتكم ، { صَاعِقَةُ } أي حلول صاعقة . قال قتادة : عذاباً مثل عذاب عاد وثمود .

وقال الزمخشري : عذاباً شديد الوقع ، كأنه صاعقة .

وقرأ الجمهور :{ صَاعِقَةً مّثْلَ صَاعِقَةِ } ، وابن الزبير ، والسلمي ، والنخعي ، وابن محيصن : بغير ألف فيهما وسكون العين ، وتقدم تفسيرها في أوائل البقرة . والصعقة : المرة ، يقال : صعقته الصاعقة فصعق ، وهو من باب فعلت بفتح العين ، ففعل بكسرها نحو : خدعته فخدع ، وإذ معمولة لصاعقة لأن معناها العذاب .

{مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ } ، قال ابن عباس : أي قبلهم وبعدهم ، أي قبل هود وصالح وبعدهما .

وقيل : من أرسل إلى آبائهم ومن أرسل إليهم ؛ فيكون { مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ } معناه : من قبلهم ، { وَمِنْ خَلْفِهِمْ } معناه : الرسل الذين بحضرتهم . فالضمير في من خلقهم عائد على الرسل ، قاله الضحاك ، وتبعه الفراء ، وسيأتي عن الطبري نحو من هذا القول   

و

قال ابن عطية :{ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ } : أي تقدموا في الزمن واتصلت نذارتهم إلى عمار عاد وثمود ، وبهذا الاتصال قامت الحجة .{ وَمِنْ خَلْفِهِمْ } : أي جاءهم رسول بعد تقدم وجودهم في الزمن ، وجاء من مجموع العبارة إقامة الحجة عليهم في أن الرسالة والنذارة عمتهم خبر ومباشرة . انتهى ، وهو شرح كلام ابن عباس .

وقال الزمخشري :{ مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ } : أي آتوهم من كل جانب ، واجتهدوا بهم وأعملوا فيهم كل حيلة ، فلم يروا منهم إلا العتو والإعراض . كما حكى اللّه عن الشيطان :{ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ } : أي لآتينهم من كل جهة ، ولأعملن فيهم كل حيلة . وعن الحسن : أنذروهم من وقائع اللّه فيمن قبلهم من الأمم وعذاب الآخرة ، لأنهم إذا حذروهم ذلك فقد جاؤوهم بالوعظ من جهة الزمن الماضي وما جرى فيه على الكفار ، ومن جهة المستقبل وما سيجري عليهم . انتهى . وقال الطبري : الضمير في قوله :{ وَمِنْ } عائد على الرسل ، وفي :{ وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ } عائد على الأمم ، وفيه خروج عن الظاهر في تفريق الضمائر وتعمية المعنى ، إذ يصير التقدير : جاءتهم الرسل من بين أيديهم وجاءتهم من خلف الرسل ، أي من خلف أنفسهم ، وهذا معنى لا يتعقل إلا إن كان الضمير يعود في

خلفهم على الرسل لفظاً ، وهو يعود على رسل أخرى معنى ، فكأنه قال : جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلف رسل آخرين ، فيكون كقولهم : عندي درهم ونصفه ، أي ونصف درهم آخر ، وهذا فيه بعد . وخص بالذكر من الأمم المهلكة عاد وثمود لعلم قريش بحالهما ، ولوقوعهم على بلادهم في اليمن وفي الحجر ، وقال الأفوه الأودي : أضحوا كقيل بن عنز في عشيرته

إذ أهلكت بالذي سدى لها عاد

أو بعده كقدار حين تابعه

على الغواية أقوام فقد بادوا

{أَن لاَّ تَعْبُدُواْ } : يصح أن تكون أن تفسيرية ، لأن مجيء الرسل إليهم يتضمن معنى القول ، أي جاءتهم مخاطبة ؛ وأن تكون مخففة من الثقيلة ، أي بأنه لا تعبدوا ، والناصبة للمضارع ، ووصلت بالنهي كما توصل بإلا ، وفي نحو :{ أَن طَهّرَا } ، وكتبت إليه بأن قم ، ولا في هذه إلا وجه للنهي . ويجوز على بعد أن تكون لا نافية ، وأن ناصبة للفعل ، وقاله الحوفي ولم يذكر غيره . ومفعول شاء محذوف ، وقدره الزمخشري : لو شاء ربنا إرسال الرسل لأنزل ملائكة . انتهى . وتتبعت ما جاء في القرآن وكلام العرب من هذا التركيب فوجدته لا يكون محذوفاً إلا من جنس الجواب ، نحو قوله تعالى :{ وَلَوْ شَاء اللّه لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى } : أي لو شاء جمعهم على الهدى لجمعهم عليه ، وكذلك :{ لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً } ، لو نشاء جعلناه أجاج } ،، { وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ } ،{ وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ } ،{ لَوْ شَآء اللّه مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَىْء} قال الشاعر : فلو شاء ربي كنت قيس بن خالد

ولو شاء ربي كنت عمر بن مرثد

وقال الراجز : واللذ لو شاء لكنت صخرا

أو جبلاً أشم مشمخرا

فعلى هذا الذي تقرر ، لا يكون تقدير المحذوف ما قاله الزمخشري ، وإنما التقدير : لو شاء ربنا إنزال ملائكة بالرسالة منه إلى الإنس لأنزلهم بها إليهم ، وهذا أبلغ في الامتناع من إرسال البشر ، إذ علقوا ذلك بأقوال الملائكة ، وهو لم يشأ ذلك ، فكيف يشاء ذلك في البشر ؟{ فَإِنَّمَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ } : خطاب لهود وصالح ومن دعا من الأنبياء إلى الإيمان ، وغلب الخطاب على الغيبة ، نحو قولك : أنت وزيد تقومان . وما مصدرية ، أي بإرسالكم ، وبه توكيد لذلك . ويجوز أن يكون ما بمعنى الذي ، والضمير في به عائد عليه ، وإذا كفروا بما تضمنه الإرسال ، كان كفراً بالإرسال . وليس قوله :{ بِمَا أُرْسِلْتُمْ } إقراراً بالإرسال ، بل هو على سبيل التهكم ، أي بما أرسلتم على زعمكم ، كما قال فرعون :{ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ}

ولما بين تعالى كفر عاد وثمود على الإجمال ، فصل بعد ذلك ، فذكر خاصية كل واحدة من الطائفتين . فقال :{ فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُواْ } : أي تعاظموا عن امتثال أمر اللّه وعن ما جاءتهم به الرسل ، { بِغَيْرِ الْحَقّ } : أي بغير ما يستحقون . ولما ذكر لهم هذا الذنب العظيم ، وهو الاستكبار ، وكان فعلاً قلبياً ، ذكر ما ظهر عليهم من الفعل اللساني المعبر عن ما في القلب ، { وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً } : أي لا أحد أشد منا ، وذلك لما أعطاهم اللّه من عظم الخلق وشدة البطش . فرد اللّه تعالى عليهم بأن الذي أعطاهم ذلك هو أشد منهم قوة ، ومع علمهم بآيات اللّه ، كانوا يجحدونها ولا يعترفون بها ، كما يجحد المودع الوديعة من طالبها مع معرفته بها . ولفظه كان في كثير من الاستعمال تشعر بالمداومة ، وعبر بالقوة عن القدرة ، فكما يقال : اللّه أقدر منهم ، يقال : اللّه أقوى منهم . فالقدرتان بينهما قدر مشترك ، وإن تباينت القدرتان بما لكل منهما من الخاصة .

كما يوصف اللّه تعالى بالعلم ، ويوصف الإنسان بالعلم .

ثم ذكر تعالى ما أصاب به عاداً فقال : { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً } في الحديث : { أنه تعالى أمر خزنة الريح ففتحوا عليهم قدر حلقة الخاتم ، ولو فتحوا قدر منخر الثور لهلكت الدنيا} . وروي أنها كانت تحمل العير بأوقادها ، فترميهم في البحر . والصرصر ، قال مجاهد : شديدة السموم .

وقال ابن عباس ، والضحاك ، وقتادة ، والسدي : من الصر ، أي باردة . وقال السدي أيضاً ، وأبو عبيدة ، وابن قتيبة ، والطبري ، وجماعة : من صرصر إذا صوت . وقال ابن الكسيت : صرصر ، يجوز أن يكون من الصرة ، وهي الصيحة ، ومنه :{ فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِى صَرَّةٍ} وصرصر : نهر بالعراق .

وقرأ الحرميان ، وأبو عمرو ، والنخعي ، وعيسى ، والأعرج نحسات ، بسكون الحاء ، فاحتمل أن يكون مصدراً وصف به وتارة يضاف إليه ، واحتمل أن يكون مخففاً من فعل . وقال الطبري : نحس ونحس : مقت .

وقال الزمخشري : مخفف نحس ، أو صفة على فعل ، أو وصف بمصدر . انتهى . وتتبعت ما ذكره التصريفيون مما جاء صفة من فعل اللازم فلم يذكروا فيه فعلاً بسكون العين ، قالوا : يأتي على فعل كفرح وهو فرح ، وعلى أفعل حور فهو أحور ، وعلى فعلان شبع فهو شبعان ، وقد يجيء على فاعل سلم فهو سالم ، وبلى فهو بال .

وقرأ قتادة ، وأبو رجاء ، والجحدري ، وشيبة ، وأبو جعفر ، والأعمش ، وباقي السبعة : بكسر الحاء وهو القياس ، وفعله نحس على فعل بكسر العين ، ونحسات صفة لأيام جمع بألف وتاء ، لأنه جمع صفة لما لا يعقل . قال مجاهد ، وقتادة ، والسدّي : مشائيم من النحس المعروف . وقال الضحاك : شديدة البرد ، وحتى كان البرد عذاباً لهم . وأنشد الأصمعي في النحس بمعنى البرد : كأن سلافة عرضت بنحس

يخيل شقيقها الماء الزلالا

وقيل : سميت بذلك لأنها ذات غبار ، ومنه قول الراجز : قد اغتدي قبل طلوع الشمس

للصيد في يوم قليل النحس

يريد : قليل الغبار .

وقال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة : متتابعات كانت آخر شوال من أربعاء إلى أربعاء . وقال السدّي : أولها غداة يوم الأحد . وقال الربيع بن أنس : يوم الجمعة . وقال يحيى بن سلام : يوم الأحد .{ لّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْىِ فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا } : وهو الهلاك . وقرىء : لتذيقهم بالتاء .

وقال الزمخشري : على الإذاقة للريح ، أو للأيام النحسات . وأضاف العذاب إلى الخزي إضافة الموصوف إلى صفته لم يأت بلفظة أخرى التي تقتضي المشاركة والتفصيل خبراً عن قوله :{ وَلَعَذَابُ الاْخِرَةِ } ، وهو إسناد مجازي ، أو وصف العذاب بالخزي أبلغ من وصفهم به . ألا ترى تفاوت ما بين قولك : هو شاعر ، وقوله : له شعر شاعر ؟ وقابل استكبارهم بعذاب الخزي ، وهو الذل والهوان . وبدأ بقصة عاد ، لأنها أقدم زماناً ، ثم ذكر ثمود فقال :{وَأَمَّا ثَمُودُ}

وقرأ الجمهور : بالرفع ممنوع من الصرف ؛ وابن وثاب ، والأعمش ، وبكر بن حبيب : مصروفاً ، وهي قراءة ابن وثاب ، والأعمش في ثمود بالتنوين في جميع القرآن إلا قوله :{ وَمَا مَنَعَنَا أَن } ، لأنه في المصحف بغير ألف . وقرىء : ثمود بالنصب ممنوعاً من الصرف ، والحسن ، وابن أبي إسحاق ، والأعمش : ثموداً منونة منصوبة . وروى المفضل عن عاصم الوجهين . انتهى .{ فَهَدَيْنَاهُمْ } ، قال ابن عباس ، وقتادة ، والسدي ، وابن زيد : بينا لهم .

قال ابن عطية : وليس الهدى هنا بمعنى الإرشاد . وقال الفراء ، وتبعه الزمخشري : فهديناهم : فذللناهم على طريق الضلالة والرشد ، كقوله تعالى :{ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَينِ}

{فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى } : فاختاروا الدخول في الضلالة على الدخول في الرشد .

فإن قلت : أليس معنى هديته : حصلت فيه الهدى ، الدليل عليه قولك : هديته فاهتدى بمعنى تحصيل البغية وحصولها ؟ كما تقول : ردعته فارتدع ، فكيف ساغ استعماله في الدلالة المجردة ؟

قلت : للدلالة على أنه منكنهم وأزاح عللّهم ولم يبق لهم عذر ولا علة ، فكأنه حصل البغية فيهم بتحصيل ما يوجبها ويقتضيها . انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال . وقال سفيان : دعوناهم . وقال ابن زيد : أعلمناهم الهدى من الضلال . و

قال ابن عطية : فاستحبوا عبارة عن تكسبهم في العمى ، وإلا فهو بالاختراع اللّه ، ويدلك على أنها إشارة إلى تكسبهم قوله :{ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} انتهى . والهون : الهوان ، وصف العذاب بالمصدر أو أبدل منه . .

وقرأ ابن مقسم : عذاب الهوان ، بفتح الهاء وألف بعد الواو .

وقال الزمخشري : ولو لم يكن في القرآن حجة على القدرية الذين هم مجوس هذه الأمة بشهادة نبيها صلى اللّه عليه وسلم وكفى به شاهداً إلا هذه ، لكفى بها حجة . انتهى ، على عادته في سب أهل السنة . ثم ذكر قريشاً بنجاة من آمن واتقى . قيل : وكان من نجا من المؤمنين ممن استجاب هود وصالح مائة وعشرة أنفس .

﴿ ١٨